الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

آداب الزِّفاف (1)

1 - ملاطفة الزوجة عند البناء بها:
يُستحبّ له إِذا دخَل على زوجته أن يلاطفها، كأنْ يقدّم إليها شيئاً من الشراب ونحوه؛ لحديث أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: "إِنّي قَيَّنت (2) عائشة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ جئته، فدعوته لجلوتها (3)، فجاء فجلَس إِلى جنبها، فأُتي بعُسّ (4) لبن، فشرب، ثمّ ناوَلها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخفضَت رأسها واستحيت.
قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأخذَت، فشربَتْ شيئاً، ثمّ قال لها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطي تِرْبَكِ (5) " (6).

2 - وضْعُ اليدِ على رأس الزوجة والدعاءُ لها:
وينبغي أن يضع يده على مقدّمة رأسها عند البناء بها -أو قبل ذلك-، وأن يسميَ الله -تبارك وتعالى-، ويدعو بالبركة، ويقول ما جاء في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً، [فليأخُذ بناصيتها] (7)، [وليُسَمِّ الله -عزّ
__________
(1) عن "آداب الزفاف" -بتصرُّف- لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(2) أي: زيّنْتُها لزفافها.
(3) أي: حتى يراها -عليه الصلاة والسلام- مجلوّة؛ أي: مكشوفة.
(4) العُسّ: القَدح الكبير.
(5) التِّرب: المماثل في السنّ، وأكثر ما يُستعمَل في المؤنث. "الوسيط".
(6) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "آداب الزفاف" (ص 92).
(7) أي: مقدّم رأسها.

(5/190)


وجلّ-]، [وليدْعُ بالبركة]، وليقل: اللهم إِني أسألك من خيرها وخير ما جَبَلتها (1) عليه، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جَبلْتَها عليه" (2).

3 - صلاة الزوجين معاً:
ويُستحبّ لهما أن يُصلّيا ركعتين معاً، لأنّه منقولٌ عن السلف، وفيه أثران:
الأول: عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: "تزوجتُ وأنا مملوك، فدعوتُ نفراً من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيهم ابن مسعود وأبو ذرّ وحذيفة-، قال: وأقيمت الصلاة، قال: فذهب أبو ذرّ ليتقدّم، فقالوا: إِليك! قال: أوَكَذَلك؟! قالوا: نعم (3)، قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك، وعلَّموني فقالوا: إِذا دخَل عليك أهلك؛ فصلّ ركعتين، ثمّ سل الله من خير ما دخل عليك، وتعوَّذ به من شرِّه، ثمّ شأنَك وشأنَ أهلك" (4).
الثاني: عن شقيق قال: "جاء رجل يقال له: أبو حريز، فقال: إِني تزوجتُ جارية شابّة [بكراً]، وإني أخاف أن تَفْرَكَنِي (5)! فقال عبد الله (يعني: ابن
__________
(1) أي: خَلْقتها وطبَعْتها عليه من الأخلاق. "عون المعبود" (6/ 139).
(2) أخرجه البخاري في "أفعال العباد"، وأبو داود، وابن ماجه وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 93).
(3) قال شيخنا -رحمه الله-: "يُشيرون بذلك إِلى أنّ الزائر لا يؤمّ المزور في بيته إِلا أن يأذَن له، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يُؤَمُّ الرجل في بيته ولا في سلطانه". أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما"، وهو في "صحيح أبي داود" (594) ".
(4) أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وعبد الرزاق، وانظر "آداب الزفاف" (ص 94).
(5) أي: تبغضني.

(5/191)


مسعود): إِنّ الإِلْفَ من الله، والفِرْكَ من الشيطان، يريد أن يكرّه إِليكم ما أحل الله لكم؛ فإِذا أتتك فَأْمُرها أن تصلي وراءك ركعتين -زاد في رواية أخرى عن ابن مسعود-، وقل: اللهم بارِك لي في أهلي، وبارِك لهم فيَّ، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير؛ وفرِّق بيننا إِذا فرَّقتَ إلى خير" (1).

4 - ما يقول حين يجامعها:
وينبغي أن يقول حين يأتي أهله: "بسم الله، اللهمّ جنّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنَا".
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أنّ أحدكم إِذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهمّ جنّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنَا، فقُضي بينهما ولد لم يَضُرَّه" (2).

5 - كيف يأتيها؟
ويجوز له أن يأتيها في قُبُلها من أيِّ جهةٍ شاء، مِن خَلْفها أو من أمامها، لقول الله -تبارك وتعالى-: {نِسَاؤُكم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، أي: كيف شئتم؛ مُقبلة ومدبرة.
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كانت اليهود تقول: إِذا أتى الرجل امرأته من دُبُرها في قُبُلها؛ كان الولد أحول! فنزلت {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، [فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مقبلة ومدبرة؛ إِذا كان ذلك في
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "المصنف"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 96).
(2) أخرجه البخاري: 141، ومسلم: 1434.

(5/192)


الفرج] " (1).
جاء في "سبل السلام" (3/ 265): "فأباح موضع الحرث، والمطلوب من الحرث نبات الزرع، فكذلك النساء؛ الغرض من إِتيانهن هو طلب النسل؛ لا قضاء الشهوة [فحسب]، وهو لا يكون إِلا في القبل، فيحرم ما عدا موضع الحرث، ولا يقاس عليه غيره؛ لعدم المشابهة في كونه محلاً للزرع، وأمّا حل الاستمتاع فيما عدا الفرج؛ فمأخوذ من دليل آخر، وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج ... ".

6 - تحريم الدُّبُر:
ويحرم عليه أن يأتيها في دُبُرها؛ لمفهوم الآية السابقة: {نسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم}، ولما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء عمر بن الخطاب إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! هلَكتُ! قال: وما الذي أهلكَك؟ قال: حولتُ رحْلي الليلة (2)، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فأُوحِي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لكم فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئتُم}، يقول: أقْبِلْ وأدْبر، واتق الدُّبُر والحيضة" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 4528، ومسلم: 1435، واللفظ له، والزيادة لابن أبي حاتم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 99).
(2) جاء في "النهاية: "كنّى برَحله عن زوجته، أراد به غِشْيانها في قُبُلها من جهة ظهرها ... ".
(3) أخرجه النسائي في "العِشْرة"، والترمذي -وحسّنه- وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 103).

(5/193)


لا كراهة في الكلام حال الجماع:
جاء في "الروضة الندية" (2/ 83): "وأمّا الكلام حال الجماع؛ فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع، بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة، فإِنْ كان ذلك بجامع الاستخباث؛ فباطل؛ فإِنّ حالة الجماع حالة مُستلذَّة، لا حالة مُستخبثة، وفي المكالمة -حَالَتَهُ- نوع من إِحسان العشرة؛ بل فيه لذة ظاهرة؛ كما قال بعض الشعراء:
وَيُعْجِبُنِي مِنْكِ حَالَ الجِمَاعِ ... لِينُ الكَلامِ وَضَعْفُ النَّظَرْ
وإِنْ كان الجامع شيئاً آخر؛ فما هو؛ فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شرع الملاعبة والمداعبة، ووقتُ الجماع أولى بذلك من غيره".

7 - الوضوء بين الجماعين:
وإِذا أرادَ أن يعود إِليها توضّأ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتى أحدُكم أهلَه، ثمّ أراد أن يعود، فليتوضأ" (1).
وفي رواية: "فإِنه أنشط في العَوْدِ" (2).

8 - الغُسل أفضل:
لكن الغسل أفضل من الوضوء؛ لحديث أبي رافع -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف ذاتَ يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله! ألا تجعله غُسلاً واحداً؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر" (3).
__________
(1) أخرجه مسلم: 308.
(2) انظر "آداب الزفاف" (ص 107).
(3) أخرجه أبو داود، والنسائي في "عشرة النساء" وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 108).

(5/194)


9 - اغتسال الزوجين معاً:
ويجوز لهما أن يغتسلا معاً في مكان واحد، ولو رأى منها ورأت منه.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دَعْ لي، دَعْ لي، قالت: وهما جُنُبان" (1).
وعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: "قلتُ: يا رسول الله! عوراتنا؛ ما نأتي منها وما نذَر؟
قال: احفظ عورتك؛ إِلا من زوجتك أو ما ملكَت يمينك" (2).
وجاء في "السلسلة الضعيفة" (3) -بعد حديث موضوع يمنع النظر إِلى فرج الزوجة-: "والنظر الصحيح يدل على بطلان هذا الحديث، فإِن تحريم النظر بالنسبة للجماع: من باب تحريم الوسائل، فإِذا أباح الله -تعالى- للزوج أن يجامع زوجه، فهل يُعقل أن يمنعه من النظر إِلى فرجها؟! اللهم لا. ويؤيد هذا من النقل حديث عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إِناءٍ بيني وبينه واحد، فيُبادرني؛ حتى أقول: دَع لي، دَع لي". أخرجه الشيخان وغيرهما.
فإِن الظاهر من هذا الحديث جواز النظر، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق
__________
(1) أخرجه البخاري: 250، ومسلم: 321 واللفظ له.
(2) أخرجه أصحاب السنن إِلا النسائي، وانظر "آداب الزفاف" (ص 112).
(3) برقم (195) بلفظ: "إِذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته؛ فلا ينظر إِلى فرجها، فإنّ ذلك يورث العمى".

(5/195)


سليمان بن موسى: أنه سُئِل عن الرجل ينظر إِلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عطاءً؟ فقال: سألت عائشة؟ ... فذكرت هذا الحديث بمعناه.
وهو نص في جواز نظر الرجل إِلى عورة امرأته -وعَكْسِهِ- وإذا تبيّن هذا؛ فلا فرق حينئذ بين النظر عند الاغتسال أو الجماع، فثبت بطلان الحديث".

10 - توضُّؤ الجُنُب قبل النوم:
ولا ينامان جُنُبين إِلا إِذا توضآ؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن ينام وهو جُنُب؛ غَسَل فرجه، وتوضأ [وضوءه] للصلاة" (1).

11 - حُكم هذا الوضوء:
وليس ذلك على الوجوب، وإنما للاستحباب المؤكّد، لحديث عمر: "أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أينام أحدنا وهو جُنُب؟ فقال: نعم، ويتوضأ إِنْ شاء" (2).
ويؤيده حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جُنُب من غير أن يمس ماءً؛ [حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل] " (3).

12 - تيمُّم الجُنُب بدل الوضوء:
ويجوز لهما التيمم بدل الوضوء أحياناً؛ لحديث عائشة قالت: "كان رسول
__________
(1) أخرجه البخاري: 288، ومسلم: 305 والزيادة له.
(2) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" عن شيخه ابن خزيمة -رحمهما الله تعالى-، وانظر "آداب الزفاف" (ص 115).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة، وأَصحاب "السنن" إلاَّ النسائي، وانظر "آداب الزفاف" (116).

(5/196)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أجنب فأراد أن ينام، توضأ أو تيمّم" (1).

13 - اغتساله قبل النوم أفضل:
واغتسالهما أفضل؛ لحديث عبد الله بن قيس قال: "سألتُ عائشة قلت: كيف كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام، أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعة" (2).

14 - تحريم إِتيان الحائض:
ويحرُم عليه أن يأتيها في حيضها؛ لقوله -تبارك وتعالى-. {ويسألونك عن المحيض قُل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإِذا تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله إِنّ الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين} (3).
ومن الأحاديث الدالّة على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دُبُرها، أو كاهناً؛ فصدَّقه بما يقول، فقد كفَر بما أُنزل على محمد" (4).

15 - ما يحِلّ له من الحائض:
ويجوز له أن يتمتّع بما دون الفرج من الحائض، ومن الأدلة على ذلك:
__________
(1) أخرجه البيهقي، وحسنه الحافظ في "الفتح"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 118).
(2) أخرجه مسلم: 307.
(3) البقرة: 222.
(4) أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 121).

(5/197)


قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... اصنعوا كلّ شيء إِلا النكاح (1) " (2).
وعن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "إِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد من الحائض شيئاً؛ ألقى على فرجها ثوباً؛ [ثمّ صنع ما أراد] " (3).

16 - ولا يأتيها بعد الطُّهر إِلا أن تغتسل:
قال الله -تعالى-: {فإِذا تطهّرن فأتوهنّ من حيثُ أمَركم الله} (4).
وقد فصّلتُ القول في هذه المسألة من كتابي هذا: "الموسوعة" (1/ 276).

17 - جواز العزل:
ويجوز له أن يعزل عنها ماءَه.
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كنّا نعزل والقرآن ينزل" (5).
وفي رواية: "كنّا نعزِل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبلَغ ذلك نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَنْهَنا" (6).

18 - الأوْلى ترْك العزل:
ولكن ترْكه أولى لأمور:
__________
(1) أي: الجماع.
(2) أخرجه مسلم: 302.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (242)، وانظر "آداب الزفاف" (125).
(4) البقرة: 222.
(5) أخرجه البخاري: 5209، ومسلم: 1440.
(6) أخرجه مسلم: 1440.

(5/198)


الأول: أنّ فيه إِدخالَ ضررٍ على المرأة لما فيه من تفويت لذتها (1).
فإِنْ وافقَت عليه (2)؛ ففيه ما يأتي، وهو:
الثاني: أنه يُفوِّت بعض مقاصد النكاح، وهو تكثير نَسْل أمّة نبيِّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تزوَّجوا الودود الولود، فإِني مُكاثِرٌ بكم الأم (3) " (4).
ولذلك وصَفَه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوأد الخفي حين سألوه عن العزل.
عن جُذَامة بنت وهب قالت: "حضرتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أناس سألوه عن العزل؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذلك الوأد الخفي" (5).
ولهذا أشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى أن الأوْلى تركه في حديث أبي سعيد الخدري أيضاً، قال: "ذُكر العزل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟! -ولَمْ يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم-؛ فإِنه ليست نفس مخلوقة إِلا الله خالقها".
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله-: "ذكَره الحافظ في "الفتح" ... ".
(2) وقد رأيت هذا موافقاً لكلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 108): "وأمّا العزل فقد حرمه طائفة من العلماء؛ لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإِذن المرأة، والله أعلم".
(3) مُكاثِر بكم الأم؛ أي: مُفاخِر بسببكم سائر الأمم؛ لكثرة أتباعي. "عون المعبود" (6/ 34).
(4) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 132).
(5) أخرجه مسلم: 1442.

(5/199)


وفي رواية: "فقال لنا: وإِنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون؟ ما مِن نسمة كائنةٍ إِلى يوم القيامة، إِلا وهي كائنة" (1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-. وانظر للمزيد -إِن شئت- ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 14).
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (4/ 385): "كراهة تحديد النسل أو تنظيمه والنهي عن الرهبانية"؛ ثم ذكر الحديث (1872): "تزوّجوا فإِني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى".
جاء في "الروضة الندية" (2/ 85): "قال في "المُسَوَّى": اختلف أهل العلم في العزل، فرخّص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شكّ أنّ تركه أولى".

19 - ما ينويان بالنكاح:
وينبغي لهما أن ينويا بنكاحهما إعفاف نفسَيْهما، وإحصانهما من الوقوع فيما حرّم الله عليهما، فإِنه تكتب مباضعتهما صدقة لهما، لحديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "أنّ ناساً من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور (2) بالأُجور، يصلّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفُضول أموالهم! قال: أوَلَيْسَ قد جعل الله لكم ما تصّدّقون؟ إِنّ بكلّ تسبيحةٍ صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكُلّ تحميدةٍ صدقة،
__________
(1) أخرجه البخاري: 5210، ومسلم: 1438 واللفظ له.
(2) جمع دَثْر، وهو المال الكثير. "النهاية".

(5/200)


وكلّ تهليلةٍ صدقة، وأمْرٌ بالمعروف صدقة، ونهْيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضع أحدكم (1) صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه فيها وِزر؟ فكذلك إِذا وضَعَها في الحلال؛ كان له أجراً" (2).

20 - ما يفعل صبيحةَ بنائه:
ويُستحب له صبيحةَ بنائه بأهله؛ أن يأتي أقاربه الذي أتوه في داره، ويُسلّم عليهم، ويدعو لهم، وأن يُقابِلوه بالمِثل؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أَوْلَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ بنى بزينب، فأشبع المسلمين خُبزاً ولحماً، ثمّ خرَج إِلى أُمّهات المؤمنين فسلّم عليهنّ، ودعا لهنّ، وسلّمن عليه ودعَون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه" (3).

21 - تحريم نشْر أسرار الاستمتاع:
ويحرُم على كلٍّ منهما أن ينشر الأسرار المتعلقة بالوقاع، فعن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-: "أنها كانت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرجال والنساء قعود، فقال: لعلّ رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعلّ امرأة تُخبِر بما فعَلَت مع زوجها؟! فأرَمّ القوم (4)، فقلت: إِي والله يا رسول الله! إِنهن ليفعلن، وإنهم
__________
(1) بُضع أَحدكم: البُضع: يُطلق على الجماع، ويُطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصحّ إِرادته هنا. قاله النّووي -رحمه الله-.
(2) أخرجه مسلم: 1006.
(3) أخرجه ابن سعد، والنسائي في "الوليمة"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 139).
(4) أرمّ القوم، أي: سكتوا ولم يجيبوا. "النهاية".

(5/201)


ليفعلون، قال: فلا تفعلوا، فإِنّما ذلك مَثَلُ الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغَشِيَها والناس ينظرون" (1).
قلت: أمّا إِذا كانت هناك حاجة أو ضرورة للتحدُّث بشيء من ذلك؛ فلا حرج.
عن عكرمة: "أنّ رِفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القُرَظي، قالت عائشة: وعليها خمارٌ أخضر، فشكت إِليها، وأرتها خُضرةً بجِلدها، فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والنساء ينصر بعضهنّ بعضاً- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لَجِلْدُها أشدُّ خُضْرَةً من ثوبها! قال: وسمع أنها قد أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إِليه من ذنب، إِلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه -وأخذت هُدبة (2) من ثوبها-! فقال: كذبت والله يا رسول الله! إِني لأنفضُها نفض الأديم (3)، ولكنها ناشزٌ تريد رِفاعة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإِن كان ذلك؛ لم تحلّي له -أو لم تصلحي له- حتى يذوق عُسَيلتك! قال: وأبصر معه ابنَين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب" (4).
__________
(1) أخرجه أحمد، وهو حسن أو صحيح بشواهده؛ وانظر "آداب الزفاف" (ص 144).
(2) أرادت متاعَه، وأنّه رِخْو مثلُ طَرَف الثوب؛ لا يُغني عنها شيئاً. "النهاية".
(3) أي: الجلد، قال الحافظ في "الفتح": "كناية بليغة من ذلك؛ لأنها أوقع في النفس من التّصريح، لأنّ الذي ينفض الأديم يحتاج إِلى قوة ساعد وملازمة طويلة".
(4) أخرجه البخاري: 5825، ومسلم: 1433 نحوه.

(5/202)


22 - وجوب الوليمة:
ولا بد له مِن وليمةٍ بعد الدخول؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبدَ الرحمن بن عوف بها كما تقدّم، ولحديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب، قال: "لمّا خطَب عليٌّ فاطمة -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لا بد للعُرْس (وفي رواية: للعروس) من وليمة" (1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-.
قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 21) تحت المسألة (1823): "وفَرْضٌ على كلّ من تزوّج أن يولم بما قلّ أو كثُر ... " ثمّ ذكر الأدلّة على ذلك.

23 - السُّنة في الوليمة:
وينبغي أن يلاحظ فيها أموراً:
الأول: أن تكون ثلاثة أيام عَقِب الدخول، لأنه هو المنقول عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "بنى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة، فأرسَلَني، فدعوت رجالاً على الطعام" (2).
وعنه قال: "تزوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفية، وجعل عتْقها صداقها، وجعَل الوليمة ثلاثة أيام" (3).
الثاني: أن يدعو الصالحين إِليها، فقراءَ كانوا أو أغنياءَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (144).
(2) أخرجه البخاري: 5170.
(3) أخرجه أبو يعلى بسند حسن، كما قال الحافظ في "الفتح" (9/ 243)، وانظر "آداب الزفاف" (ص 146). وستأتي رواية البخاري -رحمه الله-، تحت (جواز الوليمة بغير لحم).

(5/203)


تُصاحِبْ إِلا مؤمناً، ولا يأكل طعامَك إِلا تقيّ" (1).
الثالث: أن يولم بشاة أو أكثر -إِن وجد سَعة-.
عن أنس أيضاً قال: "ما رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولَم على امرأةٍ من نسائه ما أولَم على زينب؛ فإِنه ذبَح شاة، [قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه] " (2).

24 - جواز الوليمة بغير لحم:
ويجوز أن تُؤدّى الوليمة بأي طعامٍ تيسّر، ولو لم يكن فيه لحم، لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين خيبر والمدينة ثلاثَ ليالٍ؛ يُبنى عليه بصفيّة، فدعوت المسلمين إِلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إِلا أنْ أمَر بلالاً بالأنطاع (3) فبُسطت (وفي رواية: فُحِصَت الأرض أفاحِيصَ (4)، وجيء بالأنطاع فوُضعت فيها)، فأُلقي عليها التمر والأقط والسمن [فشبع الناس] " (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4045)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1952) وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري: 5168، ومسلم: 1428 واللفظ له مع الزيادة.
(3) الأنطاع: جمع نِطع؛ وهو بساط من الجلد المدبوغ.
(4) فُحِصَت الأرض أفاحيص؛ أي: كُشف التراب من أعلاها، وحُفرت شيئاً يسيراً ليُجعل الأنطاع في المحفور، ويُصبّ فيها السمن، فيثبتَ ولا يخرج من جوانبها". "النووي" (9/ 224).
(5) أخرجه البخاري: 4213 وهذا لفظه، ومسلم: 1365 والرواية الأخرى والزيادة له.

(5/204)


25 - مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة:
يُستحبّ أن يشارك ذوو الفضل والسَّعة في إعدادها؛ لحديث أنس في قصة زواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصفية قال: "حتى إِذا كان بالطريق؛ جهَّزَتْها له أُمّ سليم، فأهدَتْها له من الليل، فأصبح النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عروساً (1)، فقال: من كان عنده شيء فَلْيَجِئْ به (وفي رواية: من كان عنده فضل زاد فليأتنا به)، قال: وبسط نِطعاً، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حَيْساً، فكانت وليمةَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).

26 - تحريم تخصيص الأغنياء بالدعوة:
ولا يجوز أن يخصّ بالدعوة الأغنياء دون الفقراء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شرّ الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء، ويُمْنَعُهَا المساكين، ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (3).

27 - وجوب إِجابة الدعوة:
ويجب على من دُعي إِليها أن يحضرها.
عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا دعي أحدكم إِلى الوليمة؛ فليأتها" (4).
__________
(1) جاء في "النهاية": "وفيه: فأصبح عروساً؛ يُقال للرجل؛ عَروس؛ كما يقال للمرأة، وهو اسم لهما عند دخول أحدهما بالآخر".
(2) أخرجه البخاري: 371، ومسلم: 1365 والرواية له.
(3) أخرجه البخاري: 5177، ومسلم: 1432.
(4) أخرجه البخاري: 5173، ومسلم: 1429.

(5/205)


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "من ترك الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله" (1).

28 - ترْك حضور الدعوة التي فيها معصية:
ولا يجوز حضور الدعوة إِذا اشتملت على معصية، إِلا أن يقصد إِنكارها ومحاولة إِزالتها، فإِن أُزيلت؛ وإلا وجب الرجوع.
عن علي قال: "صنعتُ طعاماً، فدعوتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع، [قال: فقلت: يا رسول الله! ما أرجعَك بأبي أنت وأمّي؟! قال: إِنّ في البيت ستراً فيه تصاوير، وإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير] " (2).
وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يقعُدنّ على مائدة يُدار عليها الخمر" (3).
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو: "أنّ رجلاً صنَع له طعاماً، فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسَر الصورة، ثمّ دخَل" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 5177، ومسلم: 1432.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2708)، وأبو يعلى في "مسنده" والزيادة له، وانظر "آداب الزفاف" (ص 161).
(3) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2246)، وانظر "الإِرواء" (1949).
(4) أخرجه البيهقي، وسنده صحيح، وانظر "آداب الزفاف" (ص 165).

(5/206)


قال الإِمام الأوزاعي: "لا ندخل وليمة فيها طبل ولا مِعْزَافٌ" (1). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-.
قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 21) تحت المسألة (1824): " ... فإِن كان هنالك حرير مبسوط، أو كانت الدار مغصوبة، أو كان الطعام مغصوباً،. أو كان هنالك خمر ظاهر: فليرجع ولا يجلس .. "، ثمّ ذكر الأدلّة على ذلك.

29 - الدعاء للعروسين بالخير والبركة:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "هلك أبي، وترك سبع بنات -أو تسع بنات-، فتزوّجت امرأة ثيّباً، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تزوجتَ يا جابر؟! فقلت: نعم، فقال: بكراً أم ثيّباً، قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جاريةً تُلاعبها وتلاعبُك، وتُضاحكها وتُضاحكك؟! قال فقلت له: إِنّ عبد الله هلك وترك بنات، وإِني كرهتُ أن أجِيئهنّ بمِثلهن، فتزوجتُ امرأة تقوم عليهنّ وتُصلحهن، فقال: بارَك الله لك -أو خيراً-" (2).
وفي حديث بريدة -رضي الله عنه-: " ... يا علي! إِنه لا بدّ للعروس من وليمة. فقال سعد؛ عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار أَصْوُعاً من ذُرَةٍ، فلمّا كانت ليلةُ البناءِ، قال: لا تُحْدِثْ شيئاً حتى تلقاني، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه أبو الحسن الحربي في "الفوائد المنتقاة" بسند صحيح، وانظر "آداب الزفاف" (ص 166).
(2) أخرجه البخاري: 5367، ومسلم: 715، وتقدّم.

(5/207)


بماء فتوضأ فيه، ثمّ أفرغَه على عليّ، فقال: اللهم بارِك فيهما، وبارِك لهما في بنائهما" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تزوّجني النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتتني أُمّي، فأدخَلتني الدار، فإِذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر" (2).
وعن أبي هريرة: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا رفّأ (3) الإنسان إِذا تزوج، قال: بارك الله لك، وبارك الله عليك، وجمَع بينكما في (وفي رواية: على) خير" (4).

30 - بالرِّفاء (5) والبنين تهنئة الجاهلية:
ولا يقول: "بالرِّفاء والبنين"، فإِنه مِنْ عمل الجاهلية، فعن عَقِيلِ بن أبي طالب: "أنه تزوج امرأة من بني جُشَمٍ، فقالوا: بالرِّفاء والبنين، فقال: لا تقولوا
__________
(1) أخرجه ابن سعد والطبراني في "الكبير" بسند حسن، وانظر "آداب الزفاف" (ص 174).
(2) أخرجه البخاري: 5156، ومسلم: 1422.
(3) رفّأ: بتشديد الفاء وهمزة، وقد لا يُهمز؛ أي: هنّاه ودعا له. "عون المعبود" (6/ 117).
(4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1866)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (871) وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 175).
(5) جاء في "سبل السلام" (3/ 216): "الرفاء؛ الموافقة وحسن المعاشرة، وهو من رفأ الثوب. وقيل: من رفوت الرجل: إِذا سكَّنت ما به من روع. فالمراد: إِذا دعا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتزوج بالموافقة بينه وبين أهله وحسن العشرة بينهما، قال ذلك".

(5/208)


هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم بارِك لهم وبارِك عليهم" (1).

31 - الغناء والضرب بالدُّفِّ:
ويجوز له أن يسمح للنساء (2) في العرس يإِعلان النكاح بالضرب على الدفّ فقط، وبالغناء المباح الذي ليس فيه وصْف الجمال وذِكْر الفجور؛ فعن الرُّبيّع بنت مُعوِّذ قالت: "جاء النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل حين بُني عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك منّيّ (3)، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتل من آبائي يوم بدر، إِذ قالت إِحداهنّ: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين" (4).
وعن عائشة: "أنها زَفَّتِ امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عائشة! ما كان معكم لهو؟! فإنّ الأنصار يُعجبهم اللهو؟ " (5).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1547)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3156)، وانظر "آداب الزفاف" (ص 175).
(2) قلت: قيده شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" و"تحريم آلات الطرب" بأن يكون ذلك للبنات الصَّغِيرات دون البلوغ -وهن الجواري- لا البالغات من النساء.
(3) الخطاب للراوي عنها، وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 203): "والذي وضح لنا بالأدلة القوية: أنّ منْ خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إِليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أمّ حرام بنت مِلْحان في دخوله عديها، ونومه عندها، وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية "
(4) أخرجه البخاري: 5147.
(5) أخرجه البخاري: 5162.

(5/209)


وفي رواية بلفظ: "فقال: فهل بعَثتم معها جارية تضرب بالدفّ وتُغنّي؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول:
أتيناكم أتيناكمْ ... فحيّونا نحيّيكمْ
ولولا الذهب الأحمـ ... ـر ما حلّت بواديكمْ
ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سَمِنَتْ عذاريكمْ" (1).
وعن أبي بَلْجٍ يحيى بن سُلَيْمٍ قال: "قلت لمحمد بن حاطب: تزوجتُ امرأتين، ما كان في واحدة منهما صوت -يعني دفّاً-؟ فقال محمّد -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فصْل ما بين الحلال والحرام: الصوت بالدف" (2).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعلنوا النكاح" (3).

32 - الامتناع من مخالفة الشرع:
ويجب عليه أن يمتنع من كل ما فيه مخالفة للشرع، وخاصة ما اعتاده الناس في مِثل هذه المناسبة، حتى ظنّ كثير منهم -بسبب سكوت العلماء- أنْ لا بأس فيها.
قال شيخنا -رحمه الله-: وأنا أنبّه هنا على أمور هامّة منها:
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وحسّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1995).
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (869)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1538)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3114) وغيرهم، وانظر "آداب الزفاف" (ص 183).
(3) أخرجه ابن حبّان والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (ص 184).

(5/210)


1 - تعليق الصُّوَر:
تعليق الصُّوَرِ على الجدران، سواء أكانت مُجسّمة، أو غير مجسّمة، لها ظِلّ، أو لا ظلّ لها، يدويّة أو فوتوغرافية، فإِن ذلك كله لا يجوز، ويجب على المستطيع نَزْعُها إِن لم يستطع تمزيقها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقد سترتُ سهوةً (1) لي بِقرامٍ (2) فيه تماثيل (وفي رواية: فيه الخيل ذوات الأجنحة)، فلمّا رآه هتَكَه، وتلوّن وجهه، وقال: يا عائشة! أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: الذين يضاهون بخلق الله (وفي رواية: إِنّ أصحاب هذه الصور يُعذّبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقْتُم، ثمّ قال: إِنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)! قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين" (3).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "حشوت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسادة فيها تماثيل، كأنها نُمْرُقة (4)، فجاء فقام بين البابَيْنِ، وجعل يتغيَّرُ وجهه، فقالت: ما لنا يا رسول الله؟! قال: ما بالُ هذه؟ قلت: وسادة جعلتُها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمتِ أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة؟ وأنّ من صنع الصورة
__________
(1) السهوة: قال النووي -رحمه الله-: "قال الأصمعي: هي شبيهة بالرّف أو بالطاق يوضع عليه الشيء. قال أبو عبيد: وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون: السهوة عندنا بيت صغير مُتحدّر في الأرض، وسُمْكه مرتفع من الأرض، يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع".
(2) جاء في "النهاية": "القِرام: السِّتر الرقيق. وقيل: الصفيق ذي ألوان. وقيل: الستر الرقيق وراء الستر الغليظ". وانظر -للمزيد إن شئت- ما قاله الحافظ -رحمه الله- في "الفتح".
(3) أخرجه البخاري: 5954، ومسلم: 2107 واللفظ له مع الروايتين.
(4) النمرقة: الوسادة. "النهاية".

(5/211)


يُعذّب يوم القيامة، فيقول: أحيوا ما خلقتم" (1).
وعن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- إِذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس! إِني إِنسان إِنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التّصاوير، فقال ابن عباس: لا أُحدِّثك إِلا ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعته يقول: من صوّر صورة؛ فإِنّ الله معذِّبه حتّى ينفخ فيها الرُّوح، وليس بنافخ فيها أبداً. فرَبا الرجل ربوة شديدة، واصفَرَّ وجهه، فقال: ويحك! إِن أبيْت إلاَّ أن تصنع؛ فعليك بهذا الشجر؛ كلِّ شيء ليس فيه روح" (2).

2 - نتف الحواجب وغيرها!
ما تفعله بعض النسوة من نتفهن حواجبهن حتى تكون كالقوس أو الهلال، يفعلق ذلك تجمُّلاً بزعمهن! وهذا مما حرّمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولعَن فاعله بقوله: "لعَن الله الواشمات (3)، والمستوشمات (4)، والنامصات (5)، والمتنمصات (6)،
__________
(1) أخرجه البخاري: 3224، ومسلم: 2107.
(2) أخرجه البخاري: 2225، ومسلم: 2110.
(3) الواشمة: هي التي تَشِم. والوشم: أن يُغرَز الجلد بإِبرة؛ ثمّ يحشى بكُحل أو نيل، فيزرقّ أثره أو يخضرّ. "النهاية".
(4) المستوشمة: هي التي تطلب الوشم.
(5) النامصة: هي التي تفعل النماص، والنماص: إِزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش منماصاً لذلك. "فتح".
قلت: ولا يختص النماص بالوجه؛ بل هو عام في جميع شعر الجسد، كما ذكره شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (202 - 204)، و" غاية المرام" (ص 97).
(6) المتنمّصات: جمع متنمصة؛ وهي التي تطلب النّماص.

(5/212)


والمتفلجات (1) للحسن المغيرات خلق الله" (2).

3 - تدميم الأظفار وإِطالتها:
وهذه العادة القبيحة الأخرى التي تسرّبت من فاجرات أوروبا إِلى كثيرٍ من المسلمات، وهي تدميمهن لأظفارهن بالصمغ الأحمر المعروف اليوم بـ (مينيكور)، وإِطالتهن لبعضها -وقد يفعلها بعض الشباب أيضاً-! فإِن هذا مع ما فيه من تغييرٍ لخلق الله، المستلزم لعْن فاعله، ومن التشبُّه بالكافرات المنهيّ عنه في أحاديث كثيرة التي منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومن تشبه بقوم فهو منهم" (3)؛ فإِنه أيضاً مخالف للفطرة {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفطرة (4) خمس: الختان، والاستحداد (5)، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط" (6).
وقال أنس -رضي الله عنه-: "وُقِّت لنا (وفي رواية: وقَّت لنا رسول الله) في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإِبط، وحلق العانة: أن لا نَتْرُك أكثر من
__________
(1) هن النساء اللاتي يجعلن فُرَجاً بين بعض أسنانهنّ رغبة في التحسين.
(2) أخرجه البخاري: 4886، ومسلم: 2125، واللفظ له.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر "آداب الزفاف" (ص 205).
(4) أي: السُّنّة؛ يعني: سنن الأنبياء -عليهم السلام- التي أُمِرْنَا أن نقتدي بهم. "النهاية".
(5) الاستحداد: حلْق العانة؛ سمّي استحداداً؛ لاستعمال الحديدة، وهي الموسى. "شرح النووي".
(6) أخرجه البخاري: 5891، ومسلم: 257.

(5/213)


أربعين ليلة" (1).

4 - حلْق اللحى:
ومثلها في القُبح -إِن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفطر السليمة- ما ابتلي به أكثر الرجال من التزيُّن بحلق اللحية، بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل الرجل على عروسه وهو غير حليق! وفي ذلك عدّة مخالفات:
1 - تغيير خَلْق الله -تعالى-؛ وقد قال -تعالى- حكاية عن الشيطان: {ولآمُرنّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذان الأنعام ولآمُرنّهم فليغيّرُنَّ خَلْق الله} (2).
فهذا نصّ صريح في أنّ تغيير خلْق الله دون إِذْن منه -تعالى- إِطاعة لأمر الشيطان، وعِصيان للرحمن -جلّ جلاله- ... وإنما قلتُ (3): دون إِذْنٍ من الله -تعالى-؛ لكي لا يتوهم أنه يدخُل في التغيير المذكور مِثل حلْق العانة ونحوها ممّا أذِن فيه الشارع، بل استحبّه؛ بل أوجبَه.
2 - مخالفة أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قوله: "أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى" (4).
3 - التشبّه بالكُفار؛ وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جزّوا الشوارب وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس" (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 258.
(2) النساء: 119.
(3) الكلام لشيخنا -رحمه الله-.
(4) أخرجه البخاري: 5893، ومسلم: 259.
(5) أخرجه مسلم: 260.

(5/214)


4 - التشبه بالنساء؛ وقد: "لعَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (1).
وانظر التفصيل القويّ في "آداب الزفاف" -إِن شئت المزيد-.

5 - خاتم الخطبة:
لُبْسُ بعض الرجال خاتم الذهب الذي يُسمّون بـ "خاتم الخِطبة"، فهذا فيه من تقليد الكُفار ما فيه؛ لأن هذه العادة سرَتْ إِليهم من النصارى.
ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم، عندما كان العروس يضع الخاتم على رأس إِبهام العروس اليسرى، ويقول: باسم الآب. ثمّ ينقله واضعاً له على رأس السبّابة، ويقول: وباسم الابن. ثمّ يضعه على رأس الوسطى، ويقول: وباسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين، يضعه أخيراً في البنْصِر حيث يستقر.
وهذا جاء جواباً من قِبَل محرّرة قسم أسئلة مجلة "المرأة" الصادرة في لندن عدد 19 آذار 1960 (ص 8).
وانظر "آداب الزفاف" للمزيد من التفصيل والأدلّة في الوضوع.

إِذا رأى المرء من امرأةٍ ما يعجبه؛ فليأت أهله:
عن جابر -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى امرأةً، فأتى امرأته زينب، وهي تمعسُ (2) منيئةً (3) لها، فقضى حاجته، ثمّ خرج إِلى أصحابه،
__________
(1) أخرجه البخاري: 5885.
(2) قال النووي: "قال أهل اللغة: المعس -بالعين المهملة-: الدلك".
(3) قال النووي: "قال أهل اللغة: هي الجلد أول ما يوضع في الدباغ".

(5/215)


فقال: إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدْبر في صورة شيطان، فإِذا أبصر أحدكم امرأة فلْيأت أهله، فإِنّ ذلك يردّ ما في نفسه" (1).

وصايا الإِمام الألباني -رحمه الله- إِلى العروسين (2):
أولاً: أن يتطاوعا ويتناصحا بطاعة الله -تبارك وتعالى- واتّباع أحكامه الثابتة في الكتاب والسّنّة، ولا يُقدِّما عليها تقليداً أو عادة غلبَت على النّاس، أو مَذْهباً، فقد قال -عزّ وجلّ-: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} (3).
ثانياً: أن يلتزم كل واحد منهما القيام بما فرض الله عليه من الواجبات والحقوق تجاه الآخر، فلا تطلب الزوجة -مثلاً- أن تساوي الرجل في جميع حقوقه، ولا يستغلّ الرجل ما فضّله الله -تعالى- به عليها من السيادة والرياسة؛ فيظلمها، ويضربها بدون حقّ، فقد قال الله -عزّ وجلّ-: {وَلَهُنَّ مثْل الذي عَلَيْهِنَّ بِالمعْرُوف ولِلرّجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة واللهُ عَزِيزٌ حَكِيم} (4). وقال: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ على النِّساء بِمَا فَضَّل اللهُ بعضهم على بعض وبمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِم فَالصَّالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ للغيبِ بِما حَفِظَ الله واللاتي
__________
(1) أخرجه مسلم: 1403.
(2) عن "آداب الزفاف" (278) بتصرّف.
(3) الأحزاب: 36.
(4) البقرة: 228.

(5/216)


تخافون نُشوزهنّ (1) فَعِظُوهُنَّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإِنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إِنّ الله كان عليّاً كبيراً} (2).
وقد قال معاوية بن حيدة -رضي الله عنه-: يا رسول الله! ما حقّ زوجةِ أحدِنا عليه؟ قال: "أن تُطعمها إِذا طَعِمْت، وتكسوها إِذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه (3)، ولا تضرب، [ولا تهجر إِلا في البيت، كيف وقد أفضى بعضكم إِلى بعض (4)؛ إِلا بما حلّ عليهنّ (5) " (6).
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن -عزّ وجلّ- وكلتا يديه يمين-؛ الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا" (7).
فإِذا هما عَرفا ذلك وعمِلا به، أحياهما الله -تبارك وتعالى- حياةً طيّبة، وعاشا -ما عاشا معاً- في هناء وسعادة، فقد قال -عزّ وجلّ-: {مَن عَمِل
__________
(1) أي: خروجهنّ عن الطاعة، قال ابن كثير: "والنشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز: هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه".
(2) النساء: 34.
(3) أي: لا تقُلْ: قبَّح الله وجهك.
(4) يعني: الجماع.
(5) يعني: من الضرب والهجر بسبب نشوزهنّ.
(6) أخرجه أحمد والزيادة له، وأبو داود، والحاكم وقال: "صحيح"، ووافقه الذهبي، وانظر "آداب الزفاف" (ص 280)، وتقدّم.
(7) أخرجه مسلم: 1827.

(5/217)


صالحاً مِن ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيينّه حياةً طيبة ولَنَجْزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (1).
ثالثاً: وعلى المرأة بصورة خاصّة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به، في حدود استطاعتها، فإِنّ هذا مما فضّل الله به الرجال على النساء؛ كما في الآيتين السابقتين: {الرجال قوّامون على النساء}، {وللرجال عليهنّ درجة}، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة مؤكِّدة لهذا المعنى، ومُبيِّنة بوضوح ما للمرأة، وما عليها إِذا هي أطاعت زوجها أو عصَتْه، فلا بد من إِيراد بعضها، لعلّ فيها تذكيراً لنساء زماننا، فقد قال -تعالى-: {وذكّر فإِنّ الذكرى تنفع المؤمنين}.
الحديث الأول: "لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد (2) إِلا بإِذنه [غير رمضان]، ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه" (3).
الثاني: "إذا دعا الرجل امرأته إِلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعَنَتها الملائكة حتى تصبح (وفي رواية: أو حتى ترجع. وفي أخرى: حتى يرضى عنها) " (4).
الثالث: "والذي نفس محمد بيده، لا تؤدّي المرأة حقَّ ربّها حتى تؤدّي حقّ
__________
(1) النحل: 97.
(2) شاهد؛ أي: حاضر.
(3) أخرجه البخاري: 5195، ومسلم: 1026، وانظر للزيادة "آداب الزفاف" (ص 282).
(4) أخرجه البخاري: 3237، ومسلم: 1436.

(5/218)


زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب (1)؛ لم تمنعه نفسها" (2).
الرابع: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا؛ إِلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإِنما هو عندك دخيل (3)، يوشك أن يفارقك إِلينا" (4).
الخامس: عن حصين بن مُحصن قال: حدثتني عمّتي قالت: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض الحاجة، فقال: أَيْ هذه! أَذاتُ بَعْلٍ؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه (5)؛ إِلا ما عَجَزت عنه، قال: [فانظري] أين أنت منه؟ فإِنما هو جنّتك ونارك" (6).
السادس: "إِذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها؟ قيل لها: ادخلي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شئت" (7).
__________
(1) قال في "النهاية": "القَتَب للجمل: كالإِكاف لغيره [والإِكاف: ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركب عليه، كالسرج للفرس]. ومعناه: الحثّ لهنّ على مطاوعة أزواجهنّ، وأنه لا يسعهنّ الامتناع في هذا الحال، فكيف في غيرها؟! ".
(2) أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "آداب الزفاف" (ص 284).
(3) الدَّخيل: الضيف والنزيل. "النهاية".
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (937)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1637) وغيرهما، وانظر "آداب الزفاف" (ص 284).
(5) أي: لا أقصّر ولا أُبْطِئُ عن طاعته وخدمته.
(6) أخرجه أحمد، والنسائي بإِسنادين جيدين وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1933)، و"آداب الزفاف" (ص 285).
(7) أخرجه أحمد والطبراني، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1932).

(5/219)


جاء في "الفتاوى" (32/ 261): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة تزوّجت، وخرجت عن حكم والديها؛ فأيهما أفضل: بِرُّها لوالديها، أو مطاوعة زوجها؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. المرأة إِذا تزوّجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال الله -تعالى-: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} ... ". ثمّ ذكَر -رحمه الله- عدداً من الأحاديث في وجوب طاعة المرأة زوجها.
ثمّ قال -رحمه الله-: "والأحاديث في ذلك كثيرة عن النَبيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال زيد ابن ثابت: الزوج سيِّد في كتاب الله، وقرأ قوله -تعالى-: {وألفيا سيدها لدى الباب}. وقال عمر بن الخطاب: النكاح رقّ فلينظر أحدكم عند من يُرِقُّ كريمته (1). وفي "الترمذي" وغيره عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "استوصوا بالنساء خيراً، فإِنّما هنّ عندكم عوانٍ" (2). فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إِلا بإِذنه؛ سواءٌ أمَرها أبوها أو أمها، أو غير أبويها باتفاق الأئمة.
وإِذا أراد الرجل أن ينتقل بها إِلى مكان آخر -مع قيامه بما يجب عليه وحِفْظِ حدود الله فيها- ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك؛ فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإِن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لهما أنْ يَنْهَيَاهَا عن طاعة مثل هذا
__________
(1) قال العلامة العراقي -رحمه الله- في تخريج "الإحياء" (2/ 47): "رواه أبو عمر التوقاني في "معاشرة الأهلين" موقوفاً على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر -رضي الله عنهم- قال البيهقي: ورُوي ذلك مرفوعاً؛ والموقوف أصحّ".
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929) وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2030).
ومعنى (عوانٍ)؛ أي: أسيرات، جمع (عَانِيَة).

(5/220)


الزّوج، وليس لها أن تطيع أمّها فيما تأمرها به من الاختلاع منه، أو مضاجرته حتى يطلقها؛ مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصَّداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه إِذا كان متقياً لله. ففي "السنن الأربعة" و"صحيح أبي حاتم" عن ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنّة" (1). وفي حديث آخر: "المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات" (2). وأمّا إِذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه طاعة الله: مثل المحافظة على الصلوات؛ وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهوها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه: فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إِذا كان من أبويها؟!
وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه، لم يكن لها أن تطيعه في ذلك، فإِن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (3). بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله؛ لم يجز له أن يطيعه في معصية، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟! فإن الخير كلّه في طاعة الله ورسوله، والشر كلّه في معصية الله ورسوله".
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672) واللفظ له، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2035).
(2) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3238)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (947) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (632).
(3) أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (180).

(5/221)


وجوب خدمة المرأة لزوجها (1):
قلت: وبعض الأحاديث المذكورة آنفاً (2) ظاهرة الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وخِدمتها إِياه في حدود استطاعتها، ومما لا شكّ فيه أنّ من أول ما يدخل في ذلك: الخدمةَ في منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى" (2/ 234 - 235): "وتنازع العلماء، هل عليها أن تخدمه في مِثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخَبْزِ والطَّحْنِ والطعام لمماليكه وبهائمه؛ مِثل علف دابته ونحو ذلك؟
فمنهم من قال: لا تحب الخِدمة.
وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء! فإِنّ هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإِنسان، وصاحبه في المسكن؛ إِن لم يعاونه على مصملحته؛ لم يكن قد عاشره بالمعروف.
وقيل -وهو الصواب-: وجوب الخدمة، فإِنّ الزوج سيّدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى العاني والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف.
ثمّ مِنْ هؤلاء مَنْ قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخِدمة
__________
(1) عن كتاب "آداب الزفاف" (ص 286) -بتصرّف يسير-.
(2) كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فانظُري أين أنت منه؟ فإِنّما هو جنّتك ونارك"، وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّت المرأة خمسها، وحصّنت فرجها، وأطاعت بعلها؛ دخلَت من أيّ أبواب الجنّة شاءت".

(5/222)


بالمعروف. وهذا هو الصواب، فعليها أن تَخْدُمَهُ الخدمة المعروفة من مثلها لِمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخِدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة".
قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا هو الحقّ -إِن شاء الله تعالى- أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ، كما في "الفتح" (9/ 418)، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكذا الجُوزَجَانِيِّ من الحنابلة، كما في "الاختيارات" (ص 145)، وطائفة من السلف والخلف، كما في "الزاد" (4/ 46)، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلاً صالحاً.
وقول بعضهم: "إِنّ عقد النكاح إِنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام"! مردود بأنّ الاستمتاع حاصل للمرأة أيضاً بزوجها، فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أنّ الله -تبارك وتعالى- قد أوجب على الزوج شيئاً آخر لزوجته، ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضاً لزوجها، وما هو إِلا خِدمتها إِيّاه، ولا سيما أنه القوّام عليها بنص القرآن الكريم، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيُضْطَرُّ هو إِلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوّامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثَبتَ أنه لا بدّ لها من خِدمته، وهذا هو المراد!
وأيضاً؛ فإِنّ قيام الرجل بالخدمة يؤدّي إِلى أمرين متباينين تمام التباين؛ أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح، وتبقى المرأة في بيتها عُطَلاً عن أي عمل يجب عليها القيام به! ولا يخفى فساد هذا في الشريعة التي سوَّت بين الزوجين في الحقوق، بل وفضّلت الرجل عليها

(5/223)


درجة، ولهذا لم يُزِل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكوى ابنته فاطمة [رضي الله عنها] حينما: "أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إِليه ما تلقى في يدها من الرَّحَى، وبَلَغَها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكَرت ذلك لعائشة، فلما جاء، أخبرته عائشة، قال علي -رضي الله عنه-: فجاءنا وقد أخذْنا مضاجعنا، فذهبْنا نقوم، فقال: على مكانكما! فجاء، فقعد بيني وبينها، حتى وجدت بَرْدَ قدميه على بطني، فقال: ألا أدلكما على خير ممّا سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما -أو أويتما إِلى فراشكما- فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم. قال علي: فما تركْتها منذ سمعته من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قيل له: ولا ليلة صِفّين؟ قال: ولا ليلة صفّين" (1).
فأنت ترى أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل لعليّ: لا خِدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحابي في الحُكم أحداً كما قال ابن القيّم -رضي الله عنه-. ومن شاء زيادة البحث في هذه المسألة فليرجع إِلى كتابه القيم "زاد المعاد" (4/ 45 - 46).
هذا وليس فيما سَبق من وجوب خِدمة المرأة لزوجها ما ينافي استحباب مشاركة الرجل لها في ذلك، إِذا وجد الفراغ والوقت، بل هذا من حُسْنِ المعاشرة بين الزوجين، ولذلك قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون في مهنة أهله -تعني خِدمة أهله-، فإِذا حضرت الصلاة خرج إِلى الصلاة" (2). انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-.
وذكر بعض العلماء في وجوب خدمة المرأة زوجها لقوله -سبحانه-:
__________
(1) أخرجه البخاري: 5361، ومسلم: 2727 واللفظ له.
(2) أخرجه البخاري: 676.

(5/224)


{ولهنّ مِثلُ الذي عليهنّ بالمعروف} (1)؛ أي: ولهنّ على الرجال من الحقّ مِثل ما للرجال عليهنّ، فليؤدّ كل واحدٍ منهما إِلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. قاله ابن كثير -رحمه الله-.
فإِن لم تكن الخدمة من ذلك؛ فماذا يكون عليها؟!
وذكروا كذلك حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "تزوّجني الزُّبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء؛ غير ناضح (2)، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرِز (3)، غَرَبهُ (4)، وأعجن، ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار -وكُنَّ نِسْوةَ صِدْقٍ- وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير -التي أقطعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- على رأسي، وهي مِنّي على ثُلُثَيْ فرسخٍ (5) " (6).
وفي بعض مجالس شيخنا -رحمه الله- سُئل: هل للمرأة أن تَخْدُمَ إِخوان الزوج؟ فأجاب -رحمه الله-: الزوج هو الذي يُخْدَمُ فقط لا غيره؛ إِلا إِذا كان قد اشترط بخدمة أخ أو والد أو والدة؛ فيجب.
__________
(1) البقرة: 228.
(2) الناضح: هو الجمل الذي يُسقى عليه الماء.
(3) أي: تخيط الجلد وتجعل منه دلواً.
(4) هو الدلو.
(5) الفرسخ: ثلاث أميال، وهي حوالي 6 كم، انظر كتاب: "المكاييل والأوزان الإِسلامية وما يعادلها في النظام المتري" (ص 94) لفالترهنتس وترجمه عن الألمانية د. كامل العسلي.
(6) أخرجه البخاري: 5224، ومسلم: 2182.

(5/225)


حقّ الزوجة على زوجها (1)
1 - حُسن المعاشرة:
قال الله -تعالى-: {وعاشروهنّ بالمعروف فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- بتصرُّف: "أي: طيّبوا أقوالكم لهنّ، وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبّ ذلك منها، فافعل أنت بها مِثله، كما قال -تعالى-: {ولهنّ مِثل الذي عليهنّ بالمعروف} (3) وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (4).
وكان من أخلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جميل العشرة دائم البِشر، يُداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إِنه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين يتودّد إِليها بذلك: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فسابقْتُه فسبَقْته على رِجْلَيَّ، فلمّا حَملتُ اللحم؛ سابقْتُه فسبقَني، فقال: هذه بتلك السّبْقة" (5).
__________
(1) وقد تكرّر عدد من أحاديث هذا الباب في (وصايا الإِمام الألباني -رحمه الله-).
(2) النساء: 19.
(3) البقرة: 228.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3057)، والدارمي، وابن حبان، وانظر "الصحيحة" (285).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2248)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1610)، وانظر "الإِرواء" (1502)، و"الصحيحة" (131)، و"المشكاة" (3251).

(5/226)


وقوله -تعالى-: {فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويَجْعَلَ الله فيه خيراً كثيراً}، أي: فعسى أن يكون صبركم -مع إِمساككم لهنّ وكراهتهن- فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: هو أن يعطف عليها، فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير. وفي الحديث الصحيح: "لا يَفْرَك (1) مؤمن مؤمنة، إِن كره منها خلقاً رضي منها آخر" (2). انتهى.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أشرب وأنا حائض، ثمّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعرّقُ العَرْق (3) وأنا حائض، ثمّ أناوله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيّ" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استوصوا بالنساء، فإِنّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلَع أعلاه، فإِنْ ذهبتَ تقيمه كسرته، وإنْ تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء" (6).
__________
(1) يَفْرَك: لا يُبغِض.
(2) أخرجه مسلم: 1469.
(3) العَرق: واحد العراق، وهي العظام التي يُؤخذ منها هبر اللحم، وتقدّم مفصّلاً في كتابي هذا "الموسوعة" (1/ 37).
(4) أخرجه مسلم: 300.
(6) أخرجه البخاري: 3331، ومسلم: 1468.

(5/227)


وعن عمرو بن الأحوص: "أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحمد الله وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثمّ قال: استوصوا بالنّساء خيراً، فإِنّهنّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك، إِلا أنْ يأتين بفاحشة مبينة، فإِنْ فعلن فاهجروهنّ في المضاجع، وإضربوهنّ ضرباً غير مُبرّح، فإِد أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً، إِنّ لكم من نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً. فأمّا حقُّكم على نسائكم: فلا يوطئن فُرشكم من تكرهون، ولا يَأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهُنَّ عليكم: أن تُحسنوا إِليهن في كسوتهنّ وطعامهنّ" (1).
فينبغي في ضوء ما تقدّم ألا يتعامل الرجل مع زوجه على أنها كاملة معصومة، بل خطّاءة خُلقت من ضِلَع أعوج، فإِذا جاء التصرّف الأعوج تذكّر أصْل خلقتها، فصبَر عليها، وتذكّر ما لها من محاسن السلوك والأخلاق، والأقوال والأفعال، فازداد صبراً، ولم يبْدُ منه ما يعكّر صفو حياته الزوجيّة.

2 - صيانتها (2):
ويجب على الزوج أن يصون زوجتَه، ويحفظها من كل ما يخدش شرفَها، ويثلم عرضها، ويمتهن كرامتها، ويُعرّض سمعتها لقالة السوء، وهذا من الغيرة التي يحبها الله؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله يغار، وإِنّ المؤمن يغار، وغيرةُ الله أن يأتي المؤمن ما حَرّم عليه" (3).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929) وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2030).
(2) من "فقه السُّنّة" (2/ 509) بتصرّف.
(3) أخرجه البخاري: 5223، ومسلم: 2761.

(5/228)


وعن المغيرة قال: "قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيف غيرَ مُصْفَح (1). فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: تعجبون من غيرة سعد، واللهِ لأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ منّي، ومِن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبُّ إِليه العُذْرُ من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذِرين، ولا أحدَ أحبُّ إِليه المِدحةُ من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا ينظر الله -عزّ وجلّ- إِليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجّلة (3)، والديّوث (4) " (5).
وعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنّة أبداً: الديّوث، والرَّجُلة من النساء، ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله! أما مُدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديُّوث؟ قال: الذي لا يبالي مَن دخل على أهله. قلنا: فما الرَّجُلَة من النساء؟ قال: التي تَشَبَّهُ بالرجال" (6).
وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته، فإِنه يُطلَبُ منه أن يعتدل في
__________
(1) قال في "النهاية": "يقال: أصْفَحه بالسيف: إِذا ضربه بعُرْضه دون حدّه، فهو مُصْفِح، والسيف مُصفَح".
(2) أخرجه البخاري: 7416، ومسلم: 2760.
(3) التي تتشبّه بالرّجال في زيّهم وهيأتهم، وانظر "النهاية".
(4) الدَّيوث: هو الذى لا يغار على أهله. "النهاية".
(5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2402)، وأحمد وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (674).
(6) أخرجه الطبراني، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- كما في "صحيح الترغيب =

(5/229)


هذه الغَيرة، فلا يبالغ في إِساءة الظن بها، ولا يسرف في تَقَصِّي كل حركاتها وسكناتها، ولا يحصي جميع عيوبها؛ فإِن ذلك يفسد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصَل.
عن جابر بن عَتِيكِ أن نبيَّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "من الغَيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يُبْغِض الله؛ فأمَّا التي يُحبّها الله فالغيرة في الريبة، وأمّا التي يبغضها الله فالغَيرة في غير ريبة. وإنّ من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحبُّ الله، وأمّا الخُيلاء التي يحبُّ الله؛ فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأمّا التي يبغض الله؛ فاختياله في البغي والفخر" (1).

3 - إِتيانها ووطْؤُها:
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 236): "وفرْض على الرجل أن يُجامع امرأته التي هي زوجته، وأدنى ذلك مرة في كلّ طُهر -إِنْ قَدَرَ على ذلك-؛ وإِلا فهو عاص لله -تعالى-. بُرهان ذلك: قول الله -عزّ وجلّ-: {فإذا تطهرن فَأْتُوهُنّ من حَيْثُ أَمَرَكُم الله} ".
ثمّ روى بإِسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "إِنّا لنسير مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالرف من جُمْدان؛ إِذ عرضت له امرأة -من خزاعة- شَابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! إِني امرأة أحبّ ما تحب النساء من الولد وغيره، ولي زوج شيخ، ووالله ما برِحْنا حتى نظرنا إِليه يهوي -شيخ كبير-، فقال
__________
= والترهيب ((2071).
(1) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2316)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2398) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (1999).

(5/230)


لعمر: يا أمير المؤمنين! إِني لمحسن إِليها وما آلوها؟ فقال له عمر: أتقيم لها طُهرها؟ فقال: نعم، فقال لها عمر: انطلقي مع زوجك، والله إِنّ فيه لما يجزي -أو قال: يغني- المرأة المسلمة".
قال أبو محمد -رحمه الله-: "ويُجبَر على ذلك من أبى بالأدب، لأنه أتى منكراً من العمل".
ثمّ ذكَر قول سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما-: " ... ولأهلك عليك حقّاً"، ولفظه كما في حديث أبي جُحَيْفَة -رضي الله عنه- قال: "آخى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة (1)، فقال لها: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً فقال له: كُل، قال: فإِني صائم، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل. فلمّا كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثمّ ذهب يقوم، فقال: نم، فلمّا كان من آخر الليل؛ قال سلمان: قُم الآن، فصلَّيا. فقال له سلمان: إِنّ لربّك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كلّ ذي حقٍّ حَقَّهُ، فأتى النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَر ذلك له؟ فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدَق سلمان" (2).
وفي رواية: " ... وائت أهلك" (3).
__________
(1) "متبذلة؛ أي: لابسة ثياب البِذْلة -بكسر الموحدة وسكون الذال-، وهي المهنة؛ وزناً ومعنى، والمراد: أنها تاركة للبس ثياب الزينة". "فتح".
(2) أخرجه البخاري: 1968.
(3) أخرجه الدارقطني، وذكره الحافظ -رحمه الله- في "الفتح"، وانظر "آداب الزفاف" (ص 160).

(5/231)


قال الحافظ -رحمه الله-: "وقد يُؤخذ منه ثبوت حقّها في الوطءِ لقوله: "ولأهلك عليك حقّاً" ثمّ قال: "وائت أهلك"؛ وقرّرهُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك". انتهى.
قلت: وقول ابن حزم -رحمه الله-: " {فإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنّ من حَيْثُ أَمَرَكُم الله} "؛ جاء بعد حظر، فمن العلماء من يقول: إِنه للإِباحة *والتحقيق أن يقال: صيغة: (افْعَلْ) بعد الحَظر لرفع ذلك الحظر، وإعادة حال الفعل إِلى ما كان قبل الحَظر؛ فإِنْ كان مباحاً كان مباحاً، وإنْ كان واجباً أو مستحباً كان كذلك، وعلى هذا يخرج قوله: {فإِذا انْسَلَخَ الأشهر الحُرُم فاقْتلوا المشركين} (1)؛ فإِنّ الصيغة رفَعت الحظر، وأعادته إِلى ما كان أوّلاً، وقد كان واجباً* (2).
وبذا عُدْنا إِلى الحوار في أصْل الحُكم.
والذي يبدو أنّ هذا يَتْبَعُ حال الرجل والمرأة، فإِذا احتاجا إِليه؛ وجب؛ لتحقيق الإِحصان وغضّ البصر والإِعفاف، فقد جاء الحثّ على الزّواج من أجل ذلك، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج، فإِنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وجاء" (3).
والأثر الذي ذكَره الإِمام ابن حزم -رحمه الله- فيه أنّ المرأة اشتكَت، وكذا في توجيه سلمان أبا الدرداء -رضي الله عنهما-، فقد أجابت أمّ الدرداء سلمان -رضي الله عنهما- حين سألها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له
__________
(1) التوبة: 5.
(2) ما بين نجمتين من كتاب "المسوّدة" (ص 18).
(3) أخرجه البخاري: 5066، ومسلم: 1400، وتقدّم.

(5/232)


حاجةٌ في الدنيا.
فالوجوب الذي أشار إِليه ابن حزم -رحمه الله- كان مبعثُهُ الحاجةَ أو الشكوى، فماذا إِذا لم تكن ثمّة حاجة أو شكوى؟!
ثمّ رأيت ابن كثير -رحمه الله- يقول في تفسير قوله -تعالى-: {فإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيثُ أَمَرَكُمُ الله}: "فيه ندْب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وذهب ابن حزم إِلى وجوب الجماع بعد كل حيض، لقوله: {إذا تَطَهَّرْنَ فَاْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}! وليس له في ذلك مستند؛ لأنّ هذا أمر بعد الحظر، وفيه أقوال لعلماء الأصول، منهم من يقول: إِنه للوجوب كالمطلق، وهؤلاء يحتاجون إِلى جواب ابن حزم. ومنهم من يقول: إِنه للإِباحة، ويجعلون تقدّم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب، وفيه نظر! والذي ينهض عليه الدليل أنه يُردّ الحكم إِلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإِن كان واجباً فواجب؛ كقوله -تعالى-: {فإِذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} (1)، أو مباحاً فمباح؛ كقوله -تعالى-: {وإِذا حللتم فاصطادوا} (2)، {فإِذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (3). وعلى هذا القول تجتمع الأدلّة ... ".
وجاء في "الفتاوى" (32/ 271): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن الرجل إِذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها؛ فهل عليه إِثم أم لا؟ وهل يطالب الزوج بذلك؟
__________
(1) التوبة: 5.
(2) المائدة: 2.
(3) الجمعة: 10.

(5/233)


فأجاب: يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف؛ وهو من أوكد حقها عليه: أعظم من إِطعامها.
والوطء الواجب قيل: إِنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل: بقدر حاجتها وقدرته؛ كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين. والله أعلم".

حقّ الزوج على زوجته:
من حقّ الرجل على زوجته أن تطيعه في غير معصية الله -سبحانه-، فللرجل القوامة، وعليها الاستجابة والطاعة.
قال الله -تعالى-: {الرِّجال قوّامون على النساء بما فضّل اللهُ بعضَهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (1) فالصَّالحات قانتاتٌ (2) حافظات للغيب (3) بما حفظ الله} (4).
وعن قيس بن سعد أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهنّ؛ لِما جعل الله لهم عليهنّ من الحقّ" (5).
__________
(1) قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الشعبي في هذه الآية: الصَّداق الذي أعطاها. ألا ترى أنه لو قذَفها لاعَنَها، ولو قذفتْهُ جُلِدَت".
(2) أي: مطيعات لأزواجهنّ.
(3) قال السدي وغيره: "أي: تحفظ زوجها في غيبته؛ في نفسها وماله".
(4) النساء: 34.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1873)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (926)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1503)، وانظر "الإِرواء" (1998).

(5/234)


وتقدّم أنّ خير النساء: التي تسر زوجها إِذا نظرَ إِليها، وتطيعه إِذا أمرها، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي النساء خير؟ قال: التي تسرّه إِذا نظر، وتطيعه إِذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" (1).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "أتى رجل بابنته إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إِنّ ابنتي هذه أبت أن تتزوّج؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أطيعي أباك.
فقالت: والذي بعثك بالحق؛ لا أتزوّج حتى تخبرني ما حقّ الزوج على زوجته؟ قال: حق الزوج على زوجته؛ لو كانت به قُرْحة، فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً، ثمّ ابتلعته؛ ما أدّت حقّه. قالت: والذي بعثك بالحق لا أتزوّج أبداً! فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تنْكِحُوهنَّ إِلا بِإِذْنِهِنَّ" (2).
وجاء في "الفتاوى" (32/ 271 - 277) -بحذف-: "وسئل -رحمه الله تعالى- عمن له زوجة لا تصلّي: هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل: هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا؟
فأجاب: نعم، عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك؛ بل يجب عليه
__________
(1) أخرجه أحمد، والحاكم، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3030)، وانظر "الصحيحة" (1838)، وتقدّم.
(2) أخرجه البزار بإِسناد جيد، رواته ثقات مشهورون، وابن حبان في "صحيحه"، وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1934): "حسن صحيح".

(5/235)


أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إِذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال -تعالى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1)، وقال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفُسَكم وأهلِيكُم ناراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} (2).
وينبغي مع ذلك الأمر أن يَحُضَّها على ذلك بالرغبة، كما يَحُضُّها على ما يحتاج إِليها، فإِن أصرّت على ترْك الصلاة؛ فعليه أن يطلّقها، وذلك واجب في الصحيح. وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلّي -باتفاق المسلمين-؛ بل إِذا لم يصلِّ قُتِل، وهل يُقْتَل كافراً مرتداً؟ على قولين مشهورين. والله أعلم".
ويجب عليها أن تلبّي دعوته إِلى الفراش حين يطلبها.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا دعا الرجل امرأته إِلى فراشه، فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة حتى تصبح" (3).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دعا الرجل زوجته لحاجته؛ فلتأته وإن كانت على التنّور" (4).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفس محمد بيده؛ لا تؤدّي المرأة حقّ ربّها حتى تؤدّي حقّ زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه" (5).
__________
(1) طه: 132.
(2) التحريم: 6.
(3) أخرجه البخاري: 5193، ومسلم: 1436.
(4) أخرجه الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(5) أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وانظر "آداب الزفاف" (ص 283).

(5/236)


جاء في "الفتاوى" (32/ 203 - 204): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوّج امرأة، وكتب كتابها، ودفع لها المال بكماله؛ وبقي المقسّط من ذلك، ولم تستحق عليه شيئاً؛ وطلبها للدخول فامتنعت؛ ولها خالة تمنعها: فهل تجبر على الدخول؟ ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إِليه؟
فأجاب: ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها -والحالُ هذه- باتفاق الأئمة، ولا لخالتها ولا غير خالتها أن يمنعها؛ بل تعزَّر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليها، وتُجْبر المرأة على تسليم نفسها للزّوج".
ومن حقّه ألا تصوم بحضوره إِلا بإِذنه.
"لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إِلا بإِذنه [غير رمضان]، ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه" (1).
ولا تأذن في بيته إِلا بإِذنه؛ للحديث السابق، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إِنّ لكم على نسائكم حقّاً، ولنسائكم عليكم حقّاً. فأمّا حقّكم على نسائكم؛ فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهُنّ عليكم أن تُحسنوا إِليهنَّ في كسوتهنّ وطعامهنّ" (2).
__________
(1) أخرجه البخاري: 5195، ومسلم: 1026، وانظر "آداب الزفاف" (ص 282) لأجل الزيادة.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (929)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1501)، وانظر "الإرواء" (2030).

(5/237)