الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الطَّلاق

(5/239)


الطلاق
معناه:
الطلاق في اللغة. حلّ الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك، [ويقال]: فلان طلْق اليد بالخير أي؛ كثير البذل وأطلقْتُ الرجل من حبسه.
وفي الشرع: حلُّ عقدة التزويج وإزالة ملك النكاح، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي (1).

مشروعيته (2):
والأصل في مشروعيته الكتاب والسُّنة والإِجماع.
أمّا الكتاب. فلقول الله -تعالى-: {الطلاق مرّتان فإِمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإِحسان} (3).
ولقوله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النساء فطّلقوهنّ لعدّتهنّ} (4).
وأمّا السّنّة: فلحديث سالم: "أنّ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخبره
__________
(1) "الفتح" (9/ 346) بزيادة من "حلية الفقهاء" (172) و"التعريفات" (101).
(2) "المغني" (8/ 233) بتصرّف يسير.
(3) البقرة: 229.
(4) الطلاق: 1.

(5/241)


أنه طلّق امرأته وهي حائض، فَذَكَرَ ذلك عمر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتغيّظ فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ قال: لِيراجعها، ثمّ يمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض فتطهر، فإِنْ بدا له أن يُطلّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدّة كما أمَره الله" (1).
وأجمع المسلمون على جواز الطلاق والعِبرة دالّةٌ على جوازه، فإِنه ربّما فسدت الحال بين الزوجين؛ فيصير بقاء النّكاح مفسدة محضة وضرراً مجرّداً؛ بإِلزام الزَّوج النفقة والسُّكنى وحبس المرأة؛ مع سوء العِشرة والخصومة الدائمة مِن غير فائدة؛ فاقتضى ذلك شرْع ما يزيل النكاح؛ لتزول المفسدة الحاصلة منه.

حُكمه:
الطّلاق على أضرُب (2):
واجب: وهو طلاق المولي (3) بعد التربُّص إِذا أبى الفيئة، وطلاق الحَكَمين في الشقاق إِذا رأيا ذلك.
وكذلك إِذا كانت المرأة سيئة الخُلُق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجلٌ كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها، ورجلٌ كان له على رجل مال فلم يُشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله وقد قال الله -عزّ وجلّ-: {ولا تُؤتُوا السُّفهاء أموالكم} (4) (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 4908، ومسلم: 1471.
(2) استفدته من "المغني" (8/ 234) بتصرّف.
(3) سيأتي الكلام -إِن شاء الله تعالى- عن الإِيلاء.
(4) النساء: 5.
(5) أخرجه الحاكم وغيره، وانظر "الصحيحة" (1805).

(5/242)


قال الإِمام أحمد -رحمه الله-: "لا ينبغي له إِمساكها، وذلك لأن فيه نقصاً لدينه، ولا يأمن إِفسادها لفراشه وإِلحاقها به ولداً ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه. قال الله -تعالى-: {ولا تَعْضُلُوهُنَّ لتذهبوا بِبَعض ما آتيتموهنّ إِلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (1) ".
ومكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إِليه، وقال بعضهم: إِنه محرّم لأنّه ضررٌ بنفسه وزوجته، وإعدام المصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إِليه؛ فكان حراماً كإِتلاف المال، ولقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضِرار" (2).
ومحظور: وهو أن يكون الطلاق في الحيض أو في طُهرٍ جامَعها فيه، ويُسمّى طلاق البدعة؛ لأنّ المطلِّق خالف السُّنّة وترَك أمْر الله -تعالى- ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأنه إِذا طلَّق في الحيض طَوَّل العدة عليها، فإِن الحيضة التي طلَّق فيها لا تحسب من عدتها، ولا الطهر الذي بعدها عند من يجعل الأقراء الحيض، وإِذا طلّق في طهرٍ أصابها فيه؛ لم يأمن أن تكون حاملاً؛ فيندم وتكون مرتابة لا تدري أتعتد بالحمل أو الأقراء (3). وهناك أضرُبٌ أُخرى؛ تَرَكْتُها لاختلاف القول فيها.

الطلاق من حق الرجل وحده:
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: يا رسول الله! إِن سَيّدي زوَّجني أَمَتهُ، وهو يريد أن يفرِّق بيني وبينها، قال:
__________
(1) النساء: 19.
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896).
(3) انظر "المغني" (8/ 235).

(5/243)


فصعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: يا أيها النّاس! ما بال أحدكم يزوّج عبده أَمَتهُ؛ ثمّ يريد أن يفرّق بينهما؟ إِنّما الطلاق لِمن أخذ بالساق" (1).
جاء في "فيض القدير" (4/ 293) في تفسير "لمن أخذ بالساق": "يعني الزَّوج وإِنْ كان عبداً فإِذا أذِن السيد لعبده في النّكاح؛ كان الطلاق بيد العبد الآخذ بالساق؛ لا بِيَدِ سيده، فليس له إِجباره على الطلاق؛ لأنّ الإِذن في النّكاح إِذن في جميع أحكامه وتعلّقاته".

تحريم سؤال الزَّوجة الطَّلاق من غير سبب موجبٍ له:
عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنّة" (2).

من يقع منه الطلاق:
يقع الطلاق من الزوج العاقل البالغ المختار، ولا يقع من المجنون أو الصبيّ أو المُكرَه.
عن علي -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (3).
وجاء في سنن النسائي "باب متى يقع طلاق الصّبي" تمَّ ذكر تحته حديث كثير بن السائب قال: حدَّثني أبناء قُريظة: أنَّهم عُرِضُوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1692) وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2041).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672)، وانظر "المشكاة" (3279).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، والترمذي "صحيح سنن =

(5/244)


يوم قريظة، فمن كان محتلماً، أو نبتت عانته: قتل، ومن لم يكن محتلماً أو لم تنبت عانته: ترك (1). ثمَّ ذكر حديث عطيَّة القُرظي قال: كنت يوم حُكْمِ سعد في بني قُريظة، غلاماً، فشكُّوا فيَّ، فلم يجدوني أنبتُّ، فاستُبقيت، فها أنا ذا بين أظهركم (2). ثمّ ذكر كذلك حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرضه يوم أُحُد، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه، وعرَضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، فأجازه (3).
قال نافع: فقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة؛ فحدَّثته هذا الحديث فقال: إِنَّ هذا لحدٌّ بين الصَّغير والكبير، وكَتَب إلى عمَّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة (4).
قال ابن القيّم -رحمه الله- في "تحفة المودود" (ص 477): "وليس لوقت الاحتلام سنّ معتاد، بل من الصِّبيان من يحتلم لثنتي عشرة سنة، ومنهم من يأتي عليه خمس عشرة وستَّة عشرة سنة وأكثر من ذلك ولا يحتلم".
قلت: الاحتلام أمْر يُعْرَف بِحُصوله، وقد ثبتَ اختلاف السِنِّ فيه، وتقدَّم القول في "كتاب الحيض" أنَّه ليس في السُّنَّة تحديدٌ لِسِنِّ البنت التي تحيض، وهذا يمضي في الاحتلام. والله -تعالى- أعلم.
__________
= الترمذي" (1150)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661)، وتقدّم.
(1) انظر "صحيح سنن النسائي" (3207).
(2) انظر "صحيح سنن النسائي" (3208).
(3) انظر "صحيح سنن النسائي" (3209).
(4) وهو في "صحيح البخاري": 2664، و"صحيح مسلم": 1868.

(5/245)


طلاق المكره والمجنون والسكران والغضبان والمدهوش ونحو ذلك:
هذه الأمور صاحبها مجرّد من الإِرادة والاختيار والنيّة، والنصوص في ذلك كثيرة:
فعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن الله تجاوز عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (1).
بل إِنّ مَن أُكره على الكُفر -إِنْ كان قلبه مطمئناً بالإِيمان- لا يكفر لقوله -سبحانه-: {إِلا من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان} (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طلاق ولا عتاق في إِغلاق" (3).
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "الطلاق (4) في الإِغلاق والكُرْه، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره:
لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأعمال بالنّية، ولكل امرئٍ ما نوى"، وتلا الشعبيُّ: {لا تؤاخِذْنا إِن نَسِينا أو أخطأنا} (5) وما لا يجوز من إِقرار المُوَسْوِسِ، وقال
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1662)، وانظر "الإِرواء" (82).
(2) النحل: 106.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1919)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (944)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1665)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2047).
(4) انظر ما ذكره الحافظ في "الفتح" (9/ 389)، وانظر كذلك لوصْل المعلَّقات والمزيد من الفوائد الحديثية فيه أيضاً (9/ 389) و"مختصر البخاري" (3/ 389 - 400).
(5) البقرة: 286.

(5/246)


النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أقرّ على نفسه: أَبِك جُنون؟ وقال علي: بقرَ حمزة خواصر شارفَيَّ (1)، فطفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلوم حمزة، فإِذا حمزة ثَمِلٌ محمرّة عيناه، ثمّ قال حمزة: وهل أنتم إِلا عبيد لأبي؟ فعرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قد ثَمِلَ، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق. وقال ابن عباس: طلاقُ السكران والمستَكرَه ليس بجائز، وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس، وقال عطاء: إِذا بدا بالطلاق فله شرطه، وقال نافع: طلق رجلٌ امرأته البتة إِن خرجت، فقال ابن عمر: إِن خرجت فقد بُتَّت منه، وإِن لم تخرج فليس بشيء، وقال الزُّهري فيمن قال: إِن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثاً: يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإِن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حَلَف؛ جُعلَ ذلك في دينه وأمانته، وقال إِبراهيم: إِن قال لا حاجة لي فيك نيته ...
وقال الحسن: إِذا قال: الحَقي بأهلك نيته. وقال ابن عباس: الطلاق عن وطَر (2)، والعتاق ما أُريد به وجه الله. وقال الزهري: إِن قال: ما أنت بامرأتي نيته، وإن نوى طلاقاً فهو ما نوى. وقال عليٌّ: ألم تعلم أن القلم رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ، وقال عليّ: وكلُّ الطلاق جائز إِلا طلاق المعتوه".
ثمّ ذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- حديث جابر -رضي الله عنه- "أنّ رجلاً مِن أسلم أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه،
__________
(1) الشارف: الناقة المسنّة. "نووي".
(2) "أي: أنه لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته إِلا عند الحاجة كالنّشوز بخلاف العتق؛ فإِنه مطلوب دائماً". "الفتح".

(5/247)


فتنحَّى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جُنون؟ هل أُحصنت؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم بالمصلّى، فلمّا أذْلَقَتْهُ الحجارة؛ جمز (1) حتى أُدرك بالحرّة فقتل" (2).
قلت: مراد الإِمام البخاري -رحمه الله- من إِيراد هذا الحديث تحت هذا الباب؛ أن من به جنون وشهد على نفسه بالزنى فلا يقام عليه الحدّ، فمن باب أولى ألا يقع منه الطلاق، والله أعلم.
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 389): "اشتملت هذه الترجمة [أي: ترجمة الباب] على أحكام يجمعها أن الحكم إِنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يُكره على الشيء".
وفيه (ص390): "واحتج عطاء بآية النحل: {إِلا من أُكره وقلبُه مُطمئن بالإِيمان} قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإِكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر؛ فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إِذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة".
وفي طلاق السكران خلاف بين العلماء، والسُّكر -عياذاً بالله- متفاوِتٌ في تأثيره.
__________
(1) أي: أسرع هارباً من القتل. "النّهاية".
(2) أخرجه البخاري: 5270، ومسلم: 1691.

(5/248)


قال الحافظ (9/ 390): "وقد يأتي السكران في كلامه وفِعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله -تعالى-: {حتى تعلموا ما تقولون} (1) فإِن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكراناً".
وهذا كلام قويّ يجعلنا نحكم على وقوع طلاق السكران الذي يعلم ما قال، وعدم وقوع طلاق السكران الذي لا يعلم ما قال.
وربما أقَرَّ هذا السكران بعد يقظته أنه طلّق وأنه متيقّظ لما قال، وربّما أنكر ذلك، فإِنكاره قد يدلُّ على ذَهاب عقْله. والله -تعالى- أعلم.

طلاق الهازل:
يقع طلاق الهازل؛ كالجادّ.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جِدّ: النكاح والطلاق والرجعة" (2).
جاء في "الروضة الندية" (2/ 99 - 100) في معنى الهازل والجاد: "وهو الذي يتكلّم من غير قصد لموجبه وحقيقته؛ بل على وجه اللعب، ونقيضه الجاد من الجِد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل".
قال ابن القيّم -رحمه الله- في "إِعلام الموقعين" (3/ 136): "فأمَّا طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص، وهذا
__________
(1) النساء: 43.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1920)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (944)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1658)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1826).

(5/249)


هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص أيضاً عن أحمد، وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن الشافعي نصَّ على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه، وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم، بخلاف البيع".

الطلاق قبل الزواج:
لا يقع الطلاق قبل النكاح؛ كان يقول الرجل: إِنْ تزوجت فلانة فهي طالق.
عن عبد الله بن عمرو أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا طلاق إِلا فيما تملك" (1).
وقال الإِمام البخاري (2) -رحمه الله-: "باب لا طلاق قبل نكاح، وقول الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدُّونها فمتعوهنّ وسرّحوهنّ سراحاً جميلاً} (3).
وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ويروى في ذلك عن عليّ وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان وعليّ بن حسين وشريح وسعيد بن جبير
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1916)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (942)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1666)، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1751).
(2) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الطلاق) "باب - 9".
(3) الأحزاب: 49.

(5/250)


والقاسم وسالم وطاوُس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبيّ أنها لا تطلق (1) ".
وعنه -رضي الله عنهما- قال: "لا طلاق إلاَّ بعد نكاح، ولا عتق إِلا بعد ملك" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلَّة من عالم، في الرجل يقول؛ إِن تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله -عزّ وجلّ-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ}، ولم يقل: إِذا طلقتم المؤمنات ثمّ نكحتموهنّ" (3).
جاء في "المحلّى" (11/ 529): "ومن قال: إِنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو قال: فهي طالقٌ ثلاثاً فكلُّ ذلك باطل، وله أن يتزوّجها ولا تكون طالقاً؛ وكذلك لو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق -وسواءٌ عيَّن مدّة قريبة أو بعيدة أو قبيلة أو بلدة- كل ذلك باطل لا يلزم، وقد اختلف الناس في هذا ... ".
__________
(1) وقال الحافظ -رحمه الله- في أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذا التعليق طرف من أثرٍ أخرجه أحمد فيما رواه عنه حرب في "مسائله" من طريق قتادة عن عكرمة عنه؛ وقال: سنده جيّد".
(2) أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة والبيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 151).
(3) أخرجه الطحاوي في "المُشكل" وعنه البيهقي والحاكم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 161).

(5/251)


ثمّ قال -رحمه الله- (ص 530). "ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج قال: سمعتُ عطاءً يقول: قال ابن عباس: لا طلاق إِلا من بعد نكاح، قال عطاء: فإِن حلف بطلاق ما لم ينكح فلا شيء قال ابن جريج. بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إِن طلق ما لم ينكح فهو جائز؟ فقال ابن عباس: أخطأ في هذا؛ إِن الله -عزّ وجلّ- يقول: {إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ}، ولم يقل: إِذا طلقتم المؤمنات ثمّ نكحتموهنّ".
ثمّ ذكر بعض الآثار المتعلِّقة بذلك.

بماذا يقع الطلاق:
يقع الطلاق بكل ما يدل على إِنهاء العلاقة الزوجية، سواءٌ أكان ذلك باللفظ، أم بالكتابة إِلى الزوجة، أم بالإِشارة من الأخرس، أو بإِرسال رسول.
وجاء في تبويب سنن النسائي (1): (باب الطَّلاق بالإِشارة المفهومة)؛ ثمَّ ذكر حديت أنس -رضي الله عنه- قال: "كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جار فارسيّ؛ طيِّب المرقة، فأتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يومٍ وعنده عائشة، فأومأ إِليه بيده: أن تعال، وأومأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى عائشة؛ أي: وهذه؟ فأومأ إِليه الآخر هكذا بيده: أن لا؛ مرَّتين أو ثلاثاً ... " (2).
__________
(1) انظر "صحيح سنن النسائي" (2/ 724).
(2) أخرجه مسلم: 2037، واللفظ للنسائي، وانظر إلى فقه الإِمام النِّسائي -رحمه الله تعالى- كيف بوَّب له بهذا الباب؛ مع عدم وجود ما يمتُّ بِصِلةٍ نصّاً بالطَّلاق! فجزاه الله -وسائر المحدِّثين والفقهاء- خير الجزاء عن أهل الإسلام.

(5/252)


الطلاق باللفظ:
واللفظ قد يكون صريحاً، وقد يكون كناية، فالصريح هو الذي يُفهم من معنى الكلام عند التلفظ به، مثل: أنت طالق، ومطلقة، وكل ما اشتق من لفظ الطلاق.
ولو قال من طلَّق بلفظٍ صريح: لم أُرِد الطلاق ولم أقصده؛ وإِنما أردت معنى آخر؛ لا يُصدّق قضاءً، ويقع طلاقه (1).

الطلاق بالكناية:
يقع الطلاق بالكناية مع النية.
عن عائشة -رضي الله عنها- "أنّ أبنة الجَوْنِ لما أُدخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عُذتِ بعظيم، الحقي بأهلك" (2).
وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة تخلُّفه قال: " .. إِذا رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني فقال: إِن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها ... فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك" (3).
فكلمة "الحقي بأهلك" أفادت في الحديث الأول الطلاق مع القصد، ولم
__________
(1) انظر "فقه السُّنّة" (3/ 19).
(2) أخرجه البخاري: 5254.
(3) أخرجه البخاري: 4418، ومسلم: 2769.

(5/253)


تُفِد الطلاق في الحديث الثاني لعدم القصد.
*والحاصل أن "ما يحتمل الطلاق وغيره، مثل: أنتِ بائن، فهو يحتمل البينونة عن الزواج، كما يحتمل البينونة عن الشر، ومثل: أمرك بيدك، فإِنها تحتمل تمليكها عصمتها ... كما تحتمل تمليكها حرية التصرّف.
عن أبي الحلال أنّه وفد إِلى عثمان فقال قلت: "رجلٌ جعَل أمْرَ امرأته بيدها؟ قال: فأمْرها بيدها" (1).
وقال الزهري: إِن قال: ما أنتِ بامرأتي نيّته، وإن نوى طلاقاً فهو ما نوى (2).
ومثل: أنتِ عليّ حرام، فهي تحتمل حرمة المتعة بها، وتحتمل حرمة إِيذائها ... والصريح: يقع به الطلاق من غير احتياج إِلى نية تبين المراد منه، لظهور دلالته ووضوح معناه.
ولو قال الناطق بالكناية: لم أنوِ الطلاق بل نويت معنى آخر؛ يُصدّق قضاءً، ولا يقع طلاقه لاحتمال اللفظ معنى الطلاق وغيره. والذي يُعيِّن المراد هو النيّة والقصد* (3).
والحديثان المتقدمان دليل ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في "التاريخ" وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- فى "الإِرواء" (2049).
(2) رواه البخاري معلَّقاً مجزوماً به وذكر الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 393) وصْله عند ابن أبي شيبة.
(3) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (3/ 19) بتصرُّفٍ وزيادة، وانظر "المحلى" (11/ 493) تحت المسألة (1960).

(5/254)


حُكم الطلاق بلفظ التحريم:
لا يقع الطّلاق بالتحريم إِذا لم يُرِد الطّلاق.
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أنه كان يقول في الحرام: يمينٌ يكفّرها.
وقال ابن عباسٍ: " {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة} (1) " (2).
وفي لفظ: "إِذا حرَّم الرَّجل عليه امرأته؛ فهي يمينٌ يكفِّرها" (3).
وجاء في تبويب "صحيح مسلم" (باب وجوب الكفّارة على من حرّم امرأته ولم ينوِ الطلاق)، ثمَّ ذكر أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-.
جاء في "الروضة" (2/ 120): "وفي هذه المسألة مذاهب قد ذكر الحافظ ابن القيّم منها ثلاثة عشر مذهباً، وقال: إِنها تزيد على عشرين مذهباً، والذي أرجِّحُه منها: هو أن التحريم ليس من صرائح الطلاق، ولا من كناياته، بل هو يمين من الإِيمان كما سمَّاه الله -عزّ وجلّ- في كتابه، فقال: {يا أيها النّبيّ لِمَ تُحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تَحِلّة أيمانكم} (4) فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين، والسبب وإن كان
__________
(1) الأحزاب: 21.
(2) إِشارة إِلى سبب نزول أول سورة التحريم: {يا أيها النّبيّ لمَ تحرّم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]. وسيأتي الحديث -إِن شاء الله- المتعلق بشُربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العسل عند زينب -رضي الله عنها- وانظر ما قاله الحافظ -رحمه الله- تحت الحديثين: (4912 و5267).
(3) أخرجه مسلم: 1473.
(4) التحريم: 1 - 2.

(5/255)


خاصّاً وهو العسل (1)، الذي حرَّمه على نفسه، أو الأَمَة التي كان يطؤها؛ فلا اعتبار بخصوص السبب، فإِنَّ لفظ: {ما أحل الله لك} عامّ، وعلى فرض عدم العموم فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال".
وفيه (ص 121): "وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه، وبالجملة: الحق ما ذكَرناه، وقد ذهب إِليه جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهذا إِذا أراد تحريم العين، وأمَّا إِذا أراد الطلاق بلفظ التحريم؛ غير قاصد لمعنى اللفظ؛ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات".

الطلاق بالكتابة:
الكتابة من الوسائل التي تُعبّر عمّا في القلب كما يعبّر اللسان، وكثير من الخير والشرّ انتشر عن طريق الكتابة، وتشهد البشريَّة الآن كيف ينتشر الخير
__________
(1) يشير -رحمه الله - إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة: أنّ أيّتنا ما دخل عليها النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ: إِني أجد منك ريح مغافير، أكلتَ مغافير؟ [جمع مغفور وهو صمغ حلو ... وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العُرفُط .. يكون بالحجاز. "النووي".] فدخل على إِحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزل: {لمَ تُحرّم ما أحل الله لك} إلى قوله: {إن تتوبا} (لعائشة وحفصة)، {وإذ أسرَّ النّبيَّ} - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِلى بعض أزواجه حديثاً} (لقوله: بل شربتُ عسلاً) ". أخرجه مسلم: 1474.
وفي رواية: "لا ولكنّي كنتُ أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش؛ فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً". أخرجه البخاري: 4912.

(5/256)


والشر؛ عقيدةً ومنهجاً وسلوكاً من خلال الكتابة المجرّدة عن النطق؛ بالإِفادة من التقنيات الحديثة وتطوّر الأجهزة وتقدّم العلوم.
والطّلاق فرْع من ذلك وجزء منه، فمن كتَب إِلى زوجه: أنتِ طالق مثلاً؛ مضى هذا الطلاق.
وهذا كما لو كتَب شخص عبارةً أخبرَ فيها أنه يبغض الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا يُحكم عليه بالخروج عن الإِسلام، ولا يُقال: لا يُحكَم عليه بالكفر إِلا أن ينطِق بذلك!!
جاء في "المحلَّى" (11/ 514): "وقد اختلف الناس في هذا: فروينا عن النخعي والشعبي والزهري إِذا كتب الطلاق بيده فهو طلاق لازم، وبه يقول الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحمد بن حنبل.
وروينا عن سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس، ومنصور عن الحسن، في رجل كتب بطلاق امرأته ثمّ محاه؟ فقال: ليس بشيء إِلا أن يمضيه، أو يتكلم به.
وروينا عن الشعبي مثله. وصح أيضاً عن قتادة.
وقال أبو حنيفة: إنْ كتب طلاق امرأته في الأرض لم يلزمه طلاق وإن كتبه في كتاب ثمّ قال: لم أنوِ طلاقاً؛ صُدِّقَ في الفتيا، ولم يُصَدَّق في القضاء.
وقال مالك: إِنْ كَتَبَ طلاقَ امرأته؛ فإِن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق، وهو قول الليث، والشافعي.
قال أبو محمد: قال الله -تعالى-: {الطلاق مرتان} (1)، وقال -تعالى-:
__________
(1) البقرة: 229.

(5/257)


{فطلقوهنّ لعدتهنّ} (1)، ولا يقع في اللغة التي خاطبنا الله -تعالى- بها ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- اسم تطليق على أن يكتب إِنما يقع ذلك اللفظ به فصح أن الكتاب ليس طلاقاً حتى يلفظ به إِذ لم يوجب ذلك نص. وبالله -تعالى- التوفيق". انتهى.
قلت: ومن خلال الآثار التي ذكَرها ابن حزم -رحمه الله- هناك من قال بوقوع الطلاق كما هو في الأثرين الأوليين لأنه لو لم يمْحُه لمضى، كما صرّح بقوله: "ليس بشيء إِلا أن يُمضيه" يعني: يتراجع عن المحو ويعيده حالته الأولى.
وكذا الأثر الثالث لقوله: وروّينا عن الشعبي مثله، وصحّ أيضاً عن قتادة، وأمّا قوله: "قال أبو حنيفة: إِن كتَب طلاق امرأته في الأرض لم يلزمه طلاق وإنْ كتبه في كتاب ثمّ قال: لم أنوِ طلاقاً، صدق في الفتيا ولم يصدق في القضاء.
فالكلام الآن متعلّق بالنيّة لا بالكتابة، فماذا إِذا كتب وقال: نويت الطّلاق؟ فهذا يُفضي في رأي الإِمام أبي حنيفة -رحمه الله- إِلى أنه صدِّق في الفتيا والقضاء.
وأمّا قوله: "قال الإِمام مالك: إِن كتَبَ طلاق امرأته؛ فإِن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق؛ وهو قول الليث، والشافعي".
فهو كالمسألة التي قبلها بمعنى أن الكتابة معتبرة.
وأمّا استدلاله بقوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} فالكلام عن العدد لا عن
__________
(1) الطلاق: 1.

(5/258)


الكيف فقد تكونان بالكتابة، أو اللفظ، وقد تكون إِحداهما بالكتابة والأُخرى باللفظ.
وكذا استدلاله بقوله -تعالى-: {فطلّقوهنّ لعدَّتهن} فالكلام عن العدّة والمدّة، والحال التي يصلّقها عليه؛ لا عن كيفية الطلاق لفظاً أو كتابة.
وأمّا قوله: ولا يقع في اللغة التي خاطبنا الله -تعالى- بها ورسوله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- اسم تطليق على أن يكتب إِنما يقع ذلك اللفظ به فصح أن الكتاب ليس طلاقاً حتى يلفظ به إِذ لم يوجب ذلك نص.
فأقول: اللغة لفظ وكتابة، فماذا يقول في مِثل قوله -تعالى-: {إِنّي أُلقي إِليّ كتاب كريم إِنه من سليمان وإِنه بسم الله الرحمن الرحيم} (1) -وهذا كلّه كان كتابةً- فهل يقول: إِنه ليس من اللغة.
وهناك كلام حول وجوب شاهدين عدلين لإِثبات الكتاب بالطلاق ... فارجع إِليه -إِن شئت التفصيل- في كتاب "المغني" (8/ 415).

طلاق الأبكم ومن لا يُحسن العربية:
"يطلّق من لا يُحسن العربية بلغته؛ باللفظ الذي يترجم عنه في العربية بالطلاق، ويطلق الأبكم والمريض بما يقدر عليه من الصوت أو الإِشارة؛ التي يوقن بها من سمعهما قطعاً أنهما أرادا الطلاق.
وبرهان ذلك: قول الله -عزّ وجلّ-: {لا يكلّف الله نفساً إِلا وسعها} (2)، وقول رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: "إِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
__________
(1) النمل: 29 - 30.
(2) البقرة: 286.

(5/259)


استطعتم".
فصحّ أن ما ليس في وسع المرء ولا يستطيعه فقد سقط عنه، وأنه يؤدي مما أمر به ما استطاع فقط. وبالله -تعالى- التوفيق" انتهى (1).

طلاق كلّ قوم بلسانهم:
قال الإمام البخاري -رحمه الله- ... قال إِبراهيم [هو: النخعي]: " ... وطلاق كلّ قوم بلسانهم" (2).

إذا طلّق في نفسه فلا يقع الطلاق:
عن أبي هريرهّ -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلَّم" (3).
وقال قتادة: "إذا طلَّق في نفسه فليس بشيء".
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (9/ 394): "وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا: من طلق سرَّاً في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء، وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن سيرين وابن شهاب فقالا: تطلق، وهي رواية
__________
(1) قاله الإمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 514) تحت المسألة (1964).
(2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله ابن أبي شيبة قال: حدثنا إِدريس قال: حدثنا ابن أبي إِدريس وجرير فالأوّل عن مطرف والثاني عن المغيرة كلاهما عن إِبراهيم قال: طلاق العجمي بلسانه جائز. ومن طريق سعيد بن جبير قال: "إِذا طلّق الرّجل بالفارسيّة يلزمه"، انظر "الفتح" (9/ 392) للفوائد الحديثية و"مختصر البخاري" (3/ 400) وفيه: " ... وصله ابن أبي شيبة عنه، وهو صحيح".
(3) أخرجه البخاري: 5269، ومسلم: 127.

(5/260)


عن مالك (1).
قلت: وقول الجمهور هو الأرجح؛ لأنّ النّكاح كما لا يكون في النّفس فالطّلاق كذلك والحديث المتقدِّم: "إِن الله تجاوز عن أمَّتي .. " بيِّن الدّلالة. وإيراد الإِمام البخاري -رحمه الله- تحت باب الطَّلاق في الإِغلاق والكره ... يدلُّ على عدم وقوعه لأنَّه داخلٌ في الباب نفسه، والله أعلم.

الوكالة في الطلاق:
وما مضى عن الوكالة في النكاح يمضي في الطلاق ولا فرق. والله -تعالى- أعلم.

التعليق والتنجيز (2): (3)
صيغة الطلاق، إِمّا أن تكون مُنَجَّزة، وإمّا أن تكون مُعلّقة، وإمّا أن تكون مضافة إِلى مستقبل.
فالمنجزة، هي الصيغة التي ليست معلّقة على شرط، ولا مضافة إِلى زمن مستقبل، بل قَصد بها من أصدرها وقوع الطلاق فى الحال، كأن يقول الزوج لزوجته: أنتِ طالق.
وحُكم هذا الطلاق، أنه يقع في الحال متى صدر من أهله، وصادف محلاً له.
وأمّا المعلَّق، وهو ما جعل الزوج فيه حُصولَ الطلاقِ معلّقاً على شرط، مِثل
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله-: "وصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (3/ 400).
(2) التنجيز: التعجيل والإِسراع.
(3) عن "فقه السنَّة" (3/ 26) بتصرُّف وزيادة.

(5/261)


أن يقول الزوج لزوجته: إِنْ ذهبتِ إِلى مكان كذا، فأنتِ طالق. ويُشترط في صحة التعليق، ووقوع الطلاق به ثلاثة شروط: الأول: أن يكون على أمر معدوم، ويمكن أن يوجد بعد، فإِنْ كان على أمر موجود فعلاً، حين صدور الصيغة، مثل أن يقول: إِنْ طلع النهار، فأنت طالق. والواقع أن النهار قد طلع فعلاً، كان ذلك تنجيزاً، وإنْ جاء في صورة التعليق.
فإِنْ كان تعليقاً على أمْرٍ مستحيل، كان لغواً مثل: إِنْ دخَل الجمل في سمّ الخياط، فأنتِ طالق.
الثاني: أن تكون المرأة -حين صدور العقد- محلاً للطلاق، بأن تكون في عصمته.
الثالث: أن تكون كذلك، حين حصول المعلّق عليه.

والتعليق قسمان:
القسم الأول: يُقصد به ما يقصد من القَسم، للحَمل على الفعل أو الترك، أو تأكيد الخبر، ويسمّى التعليق القَسَمِيَّ، مِثل أن يقول لزوجته: إِنْ خرجت، فأنت طالق. مريداً بذلك منْعها من الخروج إِذا خَرَجَت، لا إِيقاع الطلاق (1).
القسم الثاني: ويكون القصد منه إِيقاع الطلاق عند حصول الشرط، ويُسمّى التعليق الشرطي، مِثل أن يقول لزوجته: إِن أبرأتني من مؤخر
__________
(1) ويجدُر القول هنا أنّ منَ قصَد الطلاق وادعى أنه عنى اليمين؛ فإِنّه يعيش عمُرَه وحياته بالحرام مع الزوجة، فلا نريد أن نفتح الباب بالقول: "أنا أقصد اليمين؛ لا الطَّلاق" وقد قال الله -تعالى-: {بل الإِنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} [القيامة: 14 - 15].

(5/262)


صداقك، فأنت طالق.
وهذا التعليق -بنوعيه- واقع عند جمهور العلماء، ويرى ابن حزم أنه غير واقع.
وفصَّل ابن تيمية، وابن القيّم، فقالا: إِنّ الطلاق المعلق الذي فيه معنى اليمين، غير واقع، وتجب فيه كفّارة اليمين إِذا حصل المحلوف عليه؛ وهي إِطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإِنْ لم يجد، فصيام ثلاثة أيام.
وقالا في الطلاق الشرطي: إِنه واقع عند حصول المعلَّق عليه.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: والألفاظ، التي يتكلم بها الناس في الطلاق، ثلاثة أنواع:
الأول: صيغة التنجيز والإِرسال، كقوله: أنتِ طالق. فهذا يقع به الطلاق، وليس بحلف، ولا كفّارة فيه، اتفاقاً.
الثاني: صيغة تعليق، كقوله: الطلاق يلزمني، لأفعلنّ هذا. فهذا يمين، باتفاق أهل اللغة، واتفاق طوائف العلماء، واتفاق العامّة.
الثالث: صيغة تعليق، كقوله: إِن فعلتُ فامرأتي طالق. فهذا إِن قصد بِهِ اليمين، وهو يكره وقوع الطلاق، كما يكره الانتقال عن دينه، فهو يمين، حُكمه حُكم الأوَّل، الذي هو صيغة القسم؛ باتفاق الفقهاء.
وإنْ كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط، لم يكن حالفاً، كقوله: إِنْ أعطيتني ألفاً، فأنتِ طالق وإذا زنيتِ فأنتِ طالق. وقصد إِيقاع الطلاق عند وقوع الفاحشة، لا مجرد الحلف عليها، فهذا ليس بيمين، ولا كفّارة في هذا عند

(5/263)


أحد من الفقهاء -فيما عَلِمناه- بل يقع به الطلاق إِذا وُجدَ الشرط.
*وسألت شيخنا الألباني -رحمه الله-: ماذا إِذا قال: إِذا فعلتِ كذا فأنتِ طالق؟
فأجاب -رحمه الله- "إِذا وقع الشَّرط وكان قصده تأديبها فلا يقع الطَّلاق، وإِذا وقع الشرط وكان يقصد الطَّلاق؛ فلا بُدَّ من إِشهادٍ إنْ أراد الطَّلاق؛ وإلا فلا يقع هذا الطَّلاق".
وقال -رحمه الله- في بعض مجالسه في موضعٍ آخر: "إِذا علَّق الطَّلاق من باب التَّخويف ولا يقصد التَّطليق؛ مثلاً عنده زوجة كثيرة الزِّيارات ووعظها، فمن باب التَّخويف قال لها: "إِن زرت؛ فأنتِ طالق" يريد تربيتها فهنا لا يقع الطَّلاق. أمّا إِنْ رأى امرأته مع جاره، فقال: إِن رأيتك مع الجار طلَّقتكِ، فإِنَّه يقع الطَّلاق؛ لأنَّه يقصد الطَّلاق"* (1) انتهى.
وأمّا ما يقصد به الحضّ، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب بالتزامه -عند المخالفة- ما يكره وقوعه؛ سواء كان بصيغة القسم، أو الجزاء، فهو يمين عند جميع الخلق، من العرب وغيرهم.
وإنْ كان يميناً، فليس لليمين إِلا حُكمان: إِمّا أن تكون منعقدة، فتكفّر، وإمّا ألا تكون منعقدة، كالحلف بالمخلوقات، فلا تُكفّر. وأمّا أن تكون يميناً منعقدة محترمة، غير مكفّرة، فهذا حُكم ليس في كتاب الله، ولا سنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يقوم عليه دليل.
__________
(1) ما بين نجمتين من سؤالي شيخنا -رحمه الله- قد أدخلته هنا؛ لصلته الوثيقة بالموضوع.

(5/264)


وأمّا الصيغة المضافة إِلى مستقبل؛ فهي ما اقترنت بزمن، يقصد وقوع الطلاق فيه متى جاء، مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق غداً أو إِلى رأس السنة فإِنّ الطلاق يقع في الغد، أو عند رأس السنة، إِذا كانت المرأة في ملكه عند حلول الوقت، الذي أضاف الطلاق إِليه.
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-. "قال عطاء: إِذا بدا بالطلاق فله شرطه. وقال نافع: طلق وجلٌ امرأتَهُ البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بُتَّت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وقال الزهريّ فيما قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثاً: يُسأل عمّا قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإِن سمّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف؛ جعل ذلك في دينه وأمانته.
وقال قتادة: إِذا قال: إِذا حملت فأنت طالق ثلاثاً يغشاها عند كل طهرٍ مرة، فإِن استبان حملها فقد بانت منه" (1).
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن رجل فَعَل الفاحشة -عياذاً بالله- وقال لزوجه: إِذا أخبرْتِ أحداً؛ فأنت طالق؛ ثم أخبرَت، فهل تُطلَّق؟
فأجاب -رحمه الله-: أيّ طلاق لا يقع إِلا بشاهدَين. انتهى (2).
__________
(1) قاله الإِمام البخاري -رحمه الله- تعليقاً في (كتاب الطلاق) "ب-11" وانظر للفوائد الحديثية والوصل؛ ما جاء في "فتح الباري" (9/ 389) و"مختصر البخاري" (3/ 398).
(2) وسيأتي الكلام عن الإِشهاد على الطلاق -إِن شاء الله تعالى- وانظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة في هذا المبحث (أي: التعليق والإنجاز) كتاب "الاختيارات" =

(5/265)


الطلاق السُّني والبدعي
يقسم الطلاق إلى قِسمين:
1 - الطلاق السُّنّي: وهو أن يطلّقها في طُهرها الذي لم يجامِعها فيه، أو أن تكون حاملاً قد استبان حمْلها ويطلقها طلقة واحدة؛ أو كانت يائسةً من المحيض، أو لمَّا تَحِضْ؛ ولو جامعها؛ لعدم وقوع الحمل.
وأمّا اشتراط ألا تكون حائضاً فلقوله -سبحانه-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلّقوهن لعدّتهنّ} (1).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: " {فطلّقوهن لعدّتهنّ} قال: طاهراً في غير جماع" (2).
وعن عبد الله -رضي الله عنه- أيضاً أنَّه قال: "طلاق السنَّة تطليقها وهي طاهر؛ في غير جماع، فإِذا حاضت وطهرت؛ طلَّقها أخرى؛ فإِذا حاضت وطهرت طلَّقها أخرى؛ ثمَّ تعتدَّ بعد ذلك بحيضة (3) ".
__________
= (262)، و"الفتاوى" (33/ 44 - 47، 55 - 57، 58 - 61، 64 - 66، 70، 140 - 142، 205 - 207، 223 - 225، 129، 238 - 247، 161 - 170). (35/ 269 - 270،
293 - 294، 246 - 250، 309).
(1) الطلاق: 1.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير في "تفسيره"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2051).
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3178).

(5/266)


وجاء في "المغني": (8/ 236) بعد أن ذكر الأثر السَّابق: "ولنا ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: لا يطلِّق أحد للسنَّة فيندم.
رواه الأثرم وهذا إِنَّما يحصل في حقّ من لم يطلِّق ثلاثاً".
ولقوله- عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-:
" ... ثمّ ليمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض ثمّ تطهر، ثمّ إِن شاء أمسك بعد، وإِن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء" (1).
وأمّا اشتراط أن تكون في طُهر لم يجامِعها فيه فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ" يعني في ذلك الطُّهر.
ودليل كونها حاملاً: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مُرْهُ فليراجعها ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً" (2).
وأمّا اشتراط ألا يطلّقها في ذلك الطُّهر أكثر من طلقة فلقوله -تعالى-: {الطلاق مرّتان} قال ابن القيّم -رحمه الله- في "الزاد" (5/ 244): "ولم يشرع الله -سبحانه- إِيقاع الثلاث جُملة واحدة ألبتة؟ قال -تعالى-: {الطلاق مرّتان}، ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إِلا متعاقبتين، كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سبّح الله في دُبُرِ كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471.
(2) أخرجه مسلم: 1471.

(5/267)


ثلاثاً وثلاثين، وكبّر الله ثلاثاً وثلاثين" (1)، ونظائره فإِنه لا يُعقل من ذلك إِلا تسبيح وتكبير وتحميد متوالٍ يتلو بعضه بعضاً، فلو قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكان ثلاث مرات فقط.
وأصرح من هذا قوله -سبحانه-: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} (2) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إِني لمن الصادقين، كانت مرّة، وكذلك قوله: {ويدرأُ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لمن الكاذبين} (3) فلو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إِنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرح من ذلك قوله -تعالى-: {سنعذّبهم مرتين} (4) فهذا مرة بعد مرة.
ومما يدل على أنّ الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه -تبارك وتعالى- قال: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} إِلى أن قال: {وبعولتهنّ أحقُّ بردّهنّ في ذلك إِنْ أرادوا إِصلاحاً} (5)، فهذا يدلُّ على أن كلّ طلاق بعد الدخول، فالمطلّق أحقُّ فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدتهنّ} إِلى
__________
(1) أخرجه مسلم: 597.
(2) النور: 6.
(3) النور: 8.
(4) التوبة: 101.
(5) البقرة: 228.

(5/268)


قوله: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} (1) فهذا هو الطلاق المشروع.
وقد ذكَر الله -سبحانه وتعالى- أقسام الطلاق كُلها في القرآن، وذكر أحكامها، فذكَر الطلاق قبل الدخول، وأنه لا عدّة فيه، وذكَر الطلقة الثالثة، وأنها تُحرِّم الزوجة على المطلِّق حتى تنكح زوجاً غيره، وذكَر طلاق الفداء الذي هو الخلع، وسمَّاه فدية، ولم يحسبه من الثلاث ... وذكر الطلاق الرجعيّ الذي المُطلِّق أحقُّ فيه بالرجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.

2 - الطّلاق البدعي: وهو أن يطلّقها في حيضٍ أو نفاس أو في طُهرٍ جامعَها فيه ولا يدري أحملت أم لا، أو أن يطلّقها ثلاثاً فيقول: أنت طالق ثلاثاً أو يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.
طلاق الآيسة والصغيرة ومنقطعة الحيض:
وطلاق هؤلاء إِنَّما يكون للسُّنّة؛ إِذا كان طلاقاً واحداً؛ ولا يشترط له شرطٌ آخر غير ذلك (2).
وجاء في "المحلّى" (11/ 452): "وأمّا التي لم تحض -أو قد انقطع حيضها- فإِن الله -عزّ وجلّ- أجمل لنا إِباحة الطلاق، وبين لنا طلاق الحامل، وطلاق التي تحيض، ولم يَحُدَّ لنا -تعالى- في التي لم تحض، ولا في التي انقطع حيضها حداً، فوجب أنه -تعالى- أباح طلاقها متى شاء الزوج، إِذ لو كان له -عزّ وجلّ-
__________
(1) الطلاق: 1 - 2.
(2) "فقه السنّة" (3/ 33). وسيأتي المزيد من التفصيل- إِن شاء الله تعالى- في العدّة.

(5/269)


في وقت طلاقها شرع لبيَّنه علينا".

هل يقع طلاق الحائض؟
جاء في "الروضة الندية" (2/ 105): "هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إِلا الأبطال، ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إِلا أفراد الرجال، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب. فمن رام الوقوف على سرِّها؛ فعليه بمؤلَّفات ابن حزم كـ "المحلّى" ومؤلَّفات ابن القيِّم كـ "الهدي". وقد جمع السيد العلامة محمد بن إِبراهيم الوزير في ذلك مصنَّفاً حافلاً، وجمع الإِمام الشوكاني رسالة ذكَر فيها حاصل ما يحتاج إِليه من ذيول المسألة، وقرر ما ألهم الله إِليه، وذكر في "شرح المنتقى" أطرافاً من ذلك.
وخلاصة ما عوَّل عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي؛ هو اندراجه تحت الآيات العامَّة، وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة. وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم بمنع اندراجه تحت العمومات لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به؛ بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه قال: {فطلِّقوهنّ لعدتهنّ}. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مره فليراجعها". وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك، وهو لا يغضب مما أحلَّه الله ... " (1).
وقد خاض غمار هذه المعركة شيخنا -رحمه الله- فانظر ما فصّله في "الإِرواء" تحت الحديث (2059) في قرابة أربع عشرة صفحة أفاض فيها بالطُّرق والروايات والألفاظ؛ أحاديث وآثاراً ثمّ بدأ -رحمه الله- بالترجيح
__________
(1) انظر -إِن شئت- ردّ شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" تحت الحديث (2059) و"التعليقات الرضية" (2/ 247).

(5/270)


بطريقة عجيبة تروي الغليل؛ مفيداً من علم مصطلح الحديث والفقه وأصوله، فارجع إِلى المصدر المشار إِليه للمزيد من الفائدة.
والحاصل أنه رأى إيقاع طلاق الحائض، وانظر ما قاله (8/ 133) في إِجابته على ابن القيّم -رحمهما الله تعالى- في عدم وقوعها.
والنصّ المشار إِليه من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُره فلْيراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثمّ تحيض ثمّ تطهر، ثمّ إِن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء" (1).
جاء في "المغني" (8/ 237): "فإِنْ طلَّق للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً، أو في طهر أصابها فيه؛ أثِم ووقع طلاقه في قول عامَّة أهل العلم.
قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إِلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية وهشام بن الحكم والشيعة قالوا: لا يقع طلاقه لأنّ الله -تعالى- أمر به في قبل العدة فإِذا طلّق في غيره لم يقع كالوكيل إِذا أوقعه في زمن أمره موكله بإِيقاعه في غيره ولنا حديث ابن عمر أنّه طلق امرأته وهي حائض فأمره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها ... ".

عدد الطلقات:
إِذا بنى الرَّجل بأهله ملَك عليها ثلاث طلقات، وأُمِر أن يكون ذلك على
__________
(1) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471.

(5/271)


مرات، قال -سبحانه-: {الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (1).
قال ابن كَثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإِسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإنْ طلّقها مائة مرّة ما دامت في العدّة، فلمّا كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصَرهم الله -عزّ وجلّ- إِلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرّة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: {الطَّلاق مَرَّتان فإِمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإِحسان} قال أبو داود -رحمه الله- في "سننه": "باب في نسْخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث".
ثمّ ساق بإِسناده إِلى ابن عباس -رضي الله- قال: {والمطلقات يتربَصنّ بأنفسهنَّ ثلاثة قروء ولا يحلُّ أن يكتُمن ما خَلَق الله في أوحامهنّ} (2)." الآية، وذلك أنّ الرجل كان إِذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإنْ طلقها ثلاثاً، فَنُسِخ ذلك وقال: {الطلاق مرّتان} (3) " (4).
قال العلاّمة أبو بكر الجصَّاص -رحمه الله-: "تضمّنت [الآَية] الأمر بإيقاع
__________
(1) البقرة: 229.
(2) البقرة: 228.
(3) البقرة: 229.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1921) والبيهقي والنسائي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2080).

(5/272)


الاثنتين في مرتين، فمن أوقع الاثنتين في مرّة؛ فهو مخالف لحُكمها" (1)،

هل يقع طلاق الثلاث جملةً أم يُحسب طلقة؟
قال الله -تعالى-: {الطلاق مرّتان}.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" (2).
وجاء في "الفتاوى" (33/ 7): "وإن طلَّقها ثلاَثاً في طُهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات؛ مِثل أن يقول. أنتِ طالق فلاناً، أو أنتِ طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق، ثم طالق. أو يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، أو يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو عشر طلقات أو مائة طلقة، أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات: فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وكما السلف من فرّق ببن المدخول بها وغير المدخول بها، وفيه قول رابع محدث مبتدع.
أحدها: أنه طلاقٌ مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه: اختارها الخرقي.
__________
(1) انظر "أحكام القرآن" وذكَره العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في "نظام الطلاق في الإِسلام" (ص 12).
(2) أخرجه مسلم: 1472.

(5/273)


الثاني: أنه طلاقٌ مُحرَّم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين، والذي قبله منقول عن بعضهم.
الثالث: أنه مُحرَّم، ولا يلزم منه إِلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثل الزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم: مِثل طاوس وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إِسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه؛ ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إِلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل.
وأمّا القول الرابع الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو أنه لا يلزمه شيء.
والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة؛ فإِنَّ كلَّ طلاق شرَعَه الله في القرآن في المدخول بها إِنما هو الطلاق الرجعي؛ لم يشرع الله لأحد أن يُطلِّق الثلاث جميعاً، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقاً بائناً، ولكن إِذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإِذا انقضت عدتها بانت منه".
وفيه (33/ 92): "وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإِجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته مُحرَّمة على الغير بيقين، وفي إِلزامه بالثلاث إِباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إِلى نكاح

(5/274)


التحليل الذي حرَّمه الله ورسوله.
و"نكاح التحليل" لم يكن ظاهراً على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه. ولم يُنقل قط أنّ امرأة أُعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إِلى زوجها بنكاح تحليل؛ بل "لعَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلل والمحلل له" (1).
وفيه (32/ 310): " ... وكما قال طائفة من السلف فيمن طلّق ثلاثاً بكلمة: هو جاهلٌ بالسُّنة؛ فيُردّ إِلى السُّنة".
وفيه (32/ 312): "وذِكر كلام الناس على "الإِلزام بالثلاث": هل فعَله مَن فَعَلَه من الصحابة لأنه شرع لازم من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته؟ وإِذا قيل: هو عقوبة: فهل موجبها دائم لا يرتفع؟ أو يختلف باختلاف الأحوال؟ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعاً لازماً، ولا عقوبة اجتهادية لازمة؛ بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة شرعية، والعقوبة إِنما تكون لمن أقدم عليها عالماً بالتحريم. فأمّا من لم يعلم بالتحريم، ولمَّا علمَه تاب منه؛ فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إِلزام هذا بالثلاث المجموعة؛ بل إِنما يلزم واحدة، وهذا إِذا كان الطلاق بغير عِوَض فأمّا إذا كان بعوض فهو فدية".
وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "إِعلام الموقعين" (3/ 47): "والمقصود أنّ هذا القول (2) قد دلّ عليه الكتاب والسّنة والقياس والإِجماع القديم، ولم يأت
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1570)، والترمذي وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (1897)، وتقدّم.
(2) يعني أنّ الثلاث تقع واحدة.

(5/275)


بعده إِجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثُر منهم إِيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإِمضائه عليهم؛ ليعلموا أنّ أحَدَهم إِذا أوقعه جملةً؛ بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة؛ يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإِنه كان من أشد الناس فيه، فإِذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد الصِّدِّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتَّقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبةَ لهم؛ فإِنّ الله -تعالى- إِنّما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يُعاقب، ويُلْزَمَ بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصهّ الله وسعَتِه، وقد صعَّبها على نفسه، ولم يتق الله ولم يُطلِّق كما أمَره الله وشرع له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحساناً، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة -رضي الله عنهم- حُسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك ... " (1).
وأما فتاوى بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- التي نصّت على إِيقاع من طلّق ثلاثاً في مجلسٍ واحد ووقوعه ثلاثاً؛ ففيها آثار ثابتة.
__________
(1) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- كذلك في "زاد المعاد" (5/ 241).

(5/276)


فعن مجاهد قال: "جلست عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إِنه طلق امرأته ثلاثاً فسكت حتى ظننت أنه رادّها إليه ثمّ قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس، وإنَّ الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (1) وإِنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً؛ عصيت ربك فبانت منك امرأتك".
وفي زيادة: "وإِنّ الله قال: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ} في قبل عدتهن" (2).
وعن مجاهد أيضاً: "أنّ ابن عباس سُئِلَ عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وفارقْتَ امرأتك".
وفي زيادة: "لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً" (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- " أنّ رجلاً طلَّق امرأته ألفاً قال: يكفيك من ذلك ثلاث".
وفي زيادة: "وتدَع تسعمائة وسبعاً وتسعين" (4).
__________
(1) الطلاق: 2.
(2) أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2055).
(3) أخرجه الدارقطني والطحاوي والبيهقى والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2056).
(4) أخرجه الدارقطني والبيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2057).

(5/277)


وعن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل إِلى ابن عباس فقال: إِني طلقت امرأتي ألفاً؟ قال: أمّا ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر. اتَّخذْتَ آيات الله هزواً" (1). انتهى.
قلت: وهذه الآثار في إِيقاع بعض الصحابة -رضي الله عنهم- الطَّلاق جملة واحدة؛ إِنما كانت اجتهاداً في إِمضاء العقوبة، كيلا تفشو وتشيع في النّاس، فإِيقاعها على عدد قليل تأديباً وتربية يعيد واقع الناس إِلى ما كان عليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وأوَّل خلافة: عمر -رضي الله عنهما-.
وحديث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المقدَّم. فلا تقع هذه الألفاظ، ومع ذلك فقد ثبتَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الرجل إِذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً بفم واحد فهي واحدة".
جاء في "الإِرواء" (7/ 121): "قال أبو داود: وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إِذا قال: أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهي واحدة".
ورواه إِسماعيل بن إِبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة".
ثمّ قال أبو داود:
"وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولاً بها وغير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، هذا مثل خبر الصرف قال فيه،
__________
(1) أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن أبي شيبة، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (7/ 123).

(5/278)


ثمّ إِنه رجع عنه. يعني ابن عباس".
ثمّ ساق أبو داود بإِسناده الصحيح عن طاوس:
"أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وثلاثاً من إِمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" والنسائي وأحمد وغيرهم.
قال شيخنا -رحمه الله-: "وخلاصة كلام أبي داود أنّ ابن عباس -رضي الله عنه- كان له في هذه المسألة وهي الطلاق بلفظ ثلاث قولان:
أحدهما: وقوع الطلاق بلفظ ثلاث، وعليه أكثر الروايات عنه.
والآخر: عدم وقوعه كما في رواية عكرمة عنه، وهي صحيحة.
وهي وإنْ كان أكثر الطرق عنه بخلافها، فإِنَّ حديث طاوس عنه المرفوع يشهد لها. فالأخذ بها هو الواجب عندنا، لهذا الحديث الصحيح الثابت عنه من غير طريق، وإنْ خالفه الجماهير، فقد انتصر له شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم وغيرهما، فمن شاء تفصيل القول في ذلك، فليرجع إِلى كتبهما، ففيها الشفاء والكفاية -إِن شاء الله تعالى-". انتهى.
قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- عقب حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بحذف وتصرّف يسير-: "وهذا الحديث أصل جليل من أصول التشريع في الطلاق والبحث فيه من مزالق الأقدام، فإِنه يصادم كثيراً مما يذهب إِليه جمهور العلماء وعامة الدّهماء في الطلاق. وقديماً كان موضع نزاع وخلاف واضطراب، ولشيخ الإِسلام ابن تيمية ثمّ تلميذه الإِمام ابن القيّم الباعُ

(5/279)


الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور.
وأول ما نبحث فيه أن نحدد موضع الخلاف بين القائلين بوقوع الطلقات الثلاث مجموعة وبين القائلين وقوعها طلقة واحدة.
فالذي يظنه كل الناس، والذي يفهم من أقوال جمهور من تعرضوا لهذا البحث من العلماء: أنهم يريدون بالطلاق الثلاث لفظ (طالق ثلاثاً) وما في معناه، أي: لفظ الطلاق موصوفاً بعدد لفظاً أو إِشارة أو نحو ذلك. ويعتبرون أنَّ الخلاف بين المتقدمين في وقوع الطلاق الثلاث أو عدم وقوعه؛ إِنما هو في هذه الكلمة وما في معناها، بل ويحملون كل ما ورد في الأحاديث والأخبار من التعبير عن إِيقاع طلقات ثلاث على أنه قول المطلِّق: (طالق ثلاثاً).
وكل هذا خطأ صرف، وانتقال نظر غريب، وقلبٌ للأوضاع العربية في الكلام، وعدول عن استعمالٍ صحيحٍ مفهومٍ إِلى استعمال باطل غير مفهوم.
ثمّ تغالوا في ذلك حتى قال قائلهم: إِذا خاطب أمرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق، كقوله: أنت طالق أو بائن أو بَتّةٌ أو ما أشبهها ونوى طلقتين أو ثلاثاً وقع، فجعلوا النية تقوم مقام العدد اللفظي.
ووجه الخطأ في ذلك: أن العقود كالبيع والنكاح، والفسوخ كالإِقالة والطلاق: حقائق معنوية، لا وجود لها في الخارج إِلا بإِيجادها بالدلالة عليها بالألفاظ التي وُضِعت لها، في العرف اللغوي في الجاهلية، ثمّ العرف الشرعي

(5/280)


في الإِسلام، كقوله: بعت ونكحت وأقَلْت وطلّقْت.
فهذه الحقائق توجد عند النطق بالألفاظ الموضوعة لها بشروطها، فقول القائل. أنت طالق يوجد به حين القول حقيقة معنوية (واقعيَّة: هي الطَّلاق، أو هي فسخٌ وإنْهاءٌ لعقد الزَّواج الذي بينهما) بصفة خاصة لها أحكام معينة، ووصفُهُ بعد ذلك هذا الفعل بالعدد (مرتين) أو (ثلاثاً) وصْفٌ باطل غير صحيح، وهو لغو من القول، إِذ إنَّ قوله: (ثلاثاً) -مثلاً- صفة لمفعول مطلق محذوف، هو مصدر الفعل، وهو (طلاقاً) وهذا المصدر هو الذي تحققت به الحقيقة المعنوية عند النطق بقوله: (أنت طالق)، وتحقُّقُها بهذا المصدر إِنما يكون مرة واحدة ضرورة، ولا تتحقق مرة أخرى إِلا بِنُطق آخر مثل سابقه، أي يقصد به الإِنشاء والإِيجاد (1).
وأمَّا وصف المصدر بأنه مرتان أو ثلاث لا تتحقق به حقيقة جديدة، لأن الإِنشاء إِنما يكون في الحال -أعني حال النُّطق- ولا يكون ماضياً ولا مستقبلاً، والتكرار يستدعي زمناً آخر للثاني ثمّ الثالث، فلا يكون زمنها كلها حالاً، إِذ أنه محال عقلاً.
وهكدا الشأن في نظائره، فلا يسوغ لك أن تقول: (بعت ثلاثاً) على معنى القصد إِلى إِيجاد عقد البيع وإنشائه، وكذلك في الجمل الإِنشائية الصرفة، لا يسوغ أن تقول: (سبحان الله ثلاثاً) -أعني هذه الجملة كما هي
__________
(1) وقال -رحمه الله- في التعليق: ولذلك قالوا: لو قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإِن نوى إِنشاء الطلاق بكل واحدة كان ثلاث طلقات -عندهم- وإن نوى التأكيد بالجملتين الأخريين وقع واحدة فقط.

(5/281)


لأنك تقصد بها إِلى تسبيح الله -تعالى- فاللفظ بها تنزيه وتسبيح مرة واحدة، فصار قولك: (ثلاثاً) لغواً لا يتسق مع صواب القول في الوجه العربي.
وأمّا قول القائل: (اضرب ثلاثاً) فإِنه نوع آخر، وذلك أنه إِنشاء للأمر -بالضرب- مرة واحدة أيضاً، وهو المعنى الوضعي لفعل الأمر، وكلمة (ثلاثاً) وصف أيضاً للمصدر المضمر في الفعل، أعني (ضرباً)، وهو الذي قد يحصل في المستقبل طاعة لمدلول صيغة الإِنشاء، وقد لا يحصل عند العصيان، وليس هو -أي المصدر- مدلول الصيغة؛ لأنه قد لا يحصل إِذا خالف المأمور الأمر فلم يفعل ما أمَره به، مع أن مدلول الصيغة قد تم وتحقق، وهو حصول الأمر من الأمر بخلاف أنواع الإِنشاء -اللفظي أو المعنوي- التي يكون مدلولها حقيقة لا تتحقق ولا توجد إِلا بنفس النطق بها وحده، فلا يمكن تكرار المدلول إِلا بتكرار اللفظ الدال عليه.
ونظائر ذلك في الشريعة كثير. فإِنّ الملاعِن أُمِر بأن يقول أربع مرات: (أشهد بالله إِني لمن الصادقين) فلا بد لطاعة الأمر من أن يقول هذه الجملة مراراً أربعة مكررة في اللفظ.
أمّا إِذا قال: (أشهد بالله أربع مرات إِني لمن الصادقين) لكان قوله معدوداً مرة واحدة، وبقي عليه ثلاث. لا أقول: إِن هذا إِجماع -وهو إِجماع فعلاً-؛ ولكن أقول: إِنه بالبداهة التي لا يقبل في العقل غيرها، ولا يتصور أحد سواها.
قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في "إِعلام الموقعين" (3/ 27) -بعد أنْ ذكَر أن الله -تعالى- جعل الطلاق مرة بعد مرة-: وما كان مرة بعد مرّة لم يملك

(5/282)


المكلف إِيقاع مرَّاته جملة واحدة، كاللعان [وذكر الكلام السابق] ولو حَلَف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتِلُه؛ كان ذلك يميناً واحدة. ولو قال المقِرُّ بالزنى: أنا أقر أربع مرات أني زنيت؛ كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إِلا إِقراراً واحداً (1).
وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه وإن كانت مِثل زبد البحر (2) ". فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة ... وكذلك قوله: "من قال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير في يوم مائة مرة ... وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي (3) ". لا يحصل هذا إِلا مرة بعد مرة. وهكذا قوله: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم ثلاث مرات} (4) وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذان ثلاث مرّات فإِن أُذن لك وإلا فارجع" لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا؛ كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة (5).
... [إِنَّ] قول القائل: "أنت طالق ثلاثاً" ونحوه -أعني إِيقاع الطلاق
__________
(1) وتقدّم هذا في الطلاق السنّي والبدعي.
(2) أخرجه البخاري: 6405، ومسلم: 2691.
(3) أخرجه البخاري: 3293، ومسلم: 2691.
(4) النور: 58.
(5) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "الزاد" (5/ 244) وذكرته في "الطلاق السني والبدعي".

(5/283)


وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلاَّ طلقة واحدة، وأن قوله: (ثلاثاً) في الإِنشاء والإِيقاع، قول محال عقلاً، باطل لغة، فصار لغواً من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإنْ دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إِذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلُّق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغواً باطلاً.
[وكذلك] الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في الطلاق الثلاث ونحوه، إِنما هو في تكرار الطلاق. أعني: أن يطلق الرجل امرأته مرّة ثمّ يطلقها مرة أخرى ثمّ ثالثة؛ وأعني أيضاً: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق؟ أي: إِذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثمّ طلقها طلقةً ثانية في العدة؛ هل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين؛ فإِذا ألحق بهما الثالثة وهي معتدة من الأولى؛ هل تكون طلقة واقعة أيضاً ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبتّ طلاقها؟ أو أنّ المعتدة لا يلحقها الطلاق؟ فإِذا طلَّقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدته، لا يملك عليها إلاَّ ما أَذِنه به الله: {فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (1) إِن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإِنْ أصرّ على الطلاق فليدعْها حتى تنقضي عدتها، ثمّ يسرِّحها بإِحسان من غير مُضارّة، ثمّ هو بالنسبة إليها بعد ذلك إِنْ رغب في عودتها كغيره من الرجال: خاطِبٌ من الخٌطَّاب؟
هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأمّا كلمة (أنت طالق ثلاثاً)
__________
(1) البقرة: 229.

(5/284)


ونحوها فإِنما هي مُحال، وإِنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعُب بالعقول والأفهام!! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة من التابعين فمن بعدهم.
وقال -رحمه الله- (ص 37) في التعليق: "وأما الأحاديث التي تجد فيها أن فلاناً أو رجلاً طلّق زوجته ثلاثاً: فإنما هي إخبار، أي أن الراوى يحكي عن المطلق ويخبر عنه أنه طلق ثلاثاً، فهذا إِخبار صادق، لأنه يحكي عن غيره أو عن نفسه أنه أوقع ثلاث تطليقات إِنشاءً لكل واحدة منها، كما تحكي عن نفسك أو عن غيرك، فتقول: صلى أربع ركعات، وسبح مائة تسبيحة، وهكذا ... (1) انتهى.
وبعد: فإِذ قد تحققنا أن التطليق بلفظ: (أنت طالق ثلاثاً) ونحوه إِنما هو تطليق واحد قطعاً، وأنه ليس مما اختلف في وقوعه ثلاثاً أو واحدة: فلنرجع إِلى الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث، أو بتعبير أدق: هل يقع طلاق آخر على المعتدة؟
ثمّ ذكَر حديث ابن عباس -رضي الله عنه- في تطليق ركانة بن عبد يزيد -أخي بني مطلب- امرأته ثلاثاً في مجلس واحد. وقد اختلف فى إِسناده ولفظه، وللعلماء فيه أقوال (2).
__________
(1) يريد العلامة أحمد شاكر -رحمه الله - أنه طلّق زوجته ثلاثاً بالشروط المعروفة؛ لا أنه طلّق الثلاث مجموعة مرّة واحدة.
(2) انظر "الفتاوى" (32/ 311) وتفصيل العلاَّمة أحمد شاكر -رحمه الله - في كتابه المشار إِليه (ص 27 - 38) وتخريج شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2063).

(5/285)


[وبعد إِفاضة وتفصيل من شيخنا -رحمه الله- ونقولات كثيرة للعلماء في "الإِرواء" تحت الحديث (2063) ذكَر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال: " ... هذا الإِسناد صححه الإِمام أحمد والحاكم والذهبي وحسنه الترمذي في متن آخر تقدّم برقم (1921)، وذكرنا هناك اختلاف العلماء في داود بن الحصين وأنه حجة في غير عكرمة، ولولا ذلك لكان إسناد الحديث لذاته قوياً، ولكن ذلك لا يمنع من الاعتبار بحديثه والاستشهاد بمتابعته لبعض بني رافع، فلا أقل من أن يكون الحديث حسناً بمجموع الطريقين عن عكرمة، ومالَ ابن القيّم إِلى تصحيحه وذكر أن الحاكم رواه في "مستدركه" وقال: إِسناده صحيح، ولم أره في "المستدرك" لا في "الطلاق" منه، ولا في "الفضائل" والله أعلم، وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (3/ 18): "وهذا إِسناد جيد". وكلام الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 316) يشعر بإِنه يرجح صحته أيضاً ... "].
وفي "صحيح سنن أبي داود" (1922): عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "طلّق عبد يزيد -أبو ركانة وإِخوته- أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما يُغني عني، إِلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرّق بيني وبينه، فأخذت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ، فدعا بِركانة وإِخوته، ثمّ قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا -من عبد يزيد-، وفلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم! قال النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد يزيد: طلقها ففعل، ثمّ قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، قال: إِني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها وتلا: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدتهنّ} ".

(5/286)


قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إِليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به: إِنّ ركانة إِنما طلق امرأته البتة فجعلها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة". انتهى.
واستأنف العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- كلامه قائلاً: "وقال ابن عباس أيضاً: كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِنّ النّاس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم" (1).
وفي رواية في "صحيح مسلم" (1472) عن طاوس: "أنّ أبا الصّهباء قال لابن عباس: هات من هَناتِك (2)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتايع (3) النّاس في الطلاق فأجازه عليهم".
وفي رواية "لمسلم" (1472) أيضاً عن طاوس: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعل واحدة على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وثلاثاً من إِمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".
__________
(1) أخرجه مسلم: 1472. وتقدَّم.
(2) هَناتِك أي: أخبارك وأمورك المستغربة. "نووي".
(3) بالياء المثناة التحتية قبل العين، كما نص عليه النووي في "شرح مسلم"، وهو بمعنى "تتابع" بالباء الموحدة، ولكنه بالمثناة إنما يستعمل في الشر فقط، قال النووي: (وهو بالمثناة أجود).

(5/287)


وفي رواية في "المستدرك" للحاكم (2/ 196) عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن ثلاثاً كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد. وفي إِسناده عبد الله بن المؤمل، تَكلَّم فيه بعضهم، والحق أنه ثقة.
وفي رواية عند الطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 32) بإِسناد صحيح من طريق طاوس، قال ابن عباس: "فلما كان زمان عمر -رضي الله عنه- قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وإنه من تعجّل أناة الله في الطلاق ألزمناه إِياه".
فهذه الأحاديث تدل على أن إِيقاع طلقات ثلاث في مجلس واحد أو مجالس متعددة كان يُرَدُّ في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى طلقة واحدة ... وهي موافقة لنظم القرآن ورسْمه في الطلاق. لأن الله -سبحانه وتعالى- شرع في طلاق غير المدخول بها أنها تبين بنفس الطلاق وليس للمطلق عليها عدة تعتدها، فبمجرد أن نطق بالطلاق وأنشأه بانت منه، فلا يمكنه أن يكرر طلاقها مرة أخرى إِلا أن يتزوجها بعقد جديد.
وشرع في طلاق المدخول بها أنها تطلق مرتين، وفي كل مرة إما إِمساك بمعروف وإِمّا تسريح بإِحسان، ثمّ تبين منه في الثالثة، وعليها العدة، ولا يجوز له أن يراجعها فيتزوجها إِلا بعد زوج آخر.
وقد قال حُجّة الإِسلام الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 380): "إِن الله -تعالى- لم يُبحِ الطلاق ابتداءً لمن تجب عليها العدة إِلا مقروناً بِذكر الرجعة. منها قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف} (1) وقوله -تعالى-:
__________
(1) البقرة: 229.

(5/288)


{والمُطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} (1)، وقال -تعالى-: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف} (2) أي: فارقوهن بمعروف.
فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إِلا مقروناً بذكر الرجعة.
وليس المقصود من الطلاق اللعب واللهو، حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأنه إِن شاء أبان المرأة بتة، وإنْ شاء جعلها معتدة يملك عليها الرجعة.
كلا ثمّ كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لدنْ حكيم عليم شرَعَه الله لعباده ترفيهاً لهم ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضِرار، ورسَم قواعده وحدَّ حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامّة ونهى عن تجاوُزِها، وتَوعّد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذِكر حدود الله، والنهي عن تعدِّيها وعن المضارة:
{تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} (3) {وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون} (4) {ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله
__________
(1) البقرة: 228.
(2) البقرة: 231.
(3) البقرة: 229.
(4) البقرة: 230.

(5/289)


هُزُواً} (1) {واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} (2) ... ". انتهى (3).
وسألت شيخنا -رحمه الله- عمَّن طلَّق أكثر من طلقة في عدَّة واحدة فأجاب: إِذا جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة فإِنَّها تحسب طلقة واحدة، ثمَّ قال -رحمه الله-: لا يجوز جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة.
وقال شيخنا -رحمه الله- في "السلسلة الضعيفة" (3/ 272 - 273) تحت الحديث (1134) بعد أن ساق حديث مسلم: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر ابن الخطاب: إِنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
وهو نص لا يقبل الجدل على أن هذا الطلاق حُكْم مُحكَمٌ ثابت غير منسوخ لجريان العمل عليه بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ولأن عمر -رضي الله عنه- لم يخالفه بنص آخر عنده بل باجتهاد منه ولذلك تردَّد قليلاً أوّل الأمر في مخالفته كما يشعر بذلك قوله: "إِن الناس قد استعجلوا ... فلو أمضيناه عليهم .. "، فهل يجوز للحاكم مثل هذا التساؤل
__________
(1) البقرة: 231.
(2) البقرة: 235.
(3) وانظر للمزيد -إِن شئت- "الروضة الندية" (أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد) ففيه كلام قويّ وكتاب "الاستئناس" (ص 39) للعلامة القاسمي -رحمه الله- بعنوان (من ذهب إِلى أنّ جمْع الثلاث جملةً يحسب طلقة).

(5/290)


والتردد لو كان عنده نص بذلك؟!
وأيضاً، فإِن قوله: "قد استعجلوا" يدل على أن الاستعجال حدث بعد أن لم يكن، فرأى الخليفة الراشد أن يمضيه عليهم ثلاثاً من باب التعزير لهم والتأديب، فهل يجوز مع هذا كله أن يترك الحكم المحكم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر، من أجل رأيٍ بدا لعمر واجتهد فيه، فيؤخذ باجتهاده، ويترك حكمه الذي حكم هو به أول خلافته تبعاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر؟!
اللهم إِن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإِسلامي، فرجوعاً إِلى السنة المحكمة أيها العلماء، لا سيما وقد كثرت حوادث الطلاق في هذا الزمن كثرة مدهشة تنذر بِشرٍّ مستطير تصاب به مئات العائلات.
وأنَا حين أكتب هذا أعلم أن بعض البلاد الإِسلامية كمصر وسوريا قد أدخَلت هذا الحكم في محاكمها الشرعية، ولكن من المؤسف أن أقول: إِن الذين أدخلوا ذلك من الفقهاء القانونيين لم يكن ذلك منهم بدافع إِحياء السنة، وإِنما تقليداً منهم لرأي ابن تيميَّة -رحمه الله- الموافق لهذا الحديث، أي إِنهم أخذوا برأيه لا لأنه مدعم بالحديث، بل لأن المصلحة اقتضت الأخذ به زعموا، ولذلك فإِنَّ جلّ هؤلاء الفقهاء لا يُدَعِّمون أقوالهم واختياراتهم التي يختارونها اليوم بالسنة، لأنهم لا عِلم لهم بها، بل قد استغنوا عن ذلك بالاعتماد على آرائهم، التي بها يحكمون، وإليها يرجعون في تقدير المصلحة التي بها يستجيزون لأنفسهم أن يغيروا الحكم الذي كانوا بالأمس القريب به يدينون الله -تعالى- كمسألة الطلاق هذه.

(5/291)


فالذي أودُّه أنهم إِن غيَّروا حُكماً أو تركوا مذهباً إِلى مذهب آخر، أن يكون ذلك اتباعاً منهم للسنة، وأن لا يكون ذلك قاصراً على الأحكام القانونية والأحوال الشخصية، بل يجب أن يتعدوا ذلك إِلى عباداتهم ومعاملاتهم الخاصة بهم، فلعلهم يفعلون" انتهى.
والخلاصة أنّ الثلاث تقع واحدة إِذْ خَيرُ الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عَمَلٌ بمقتضى قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} والنية لا تقوم مقام العدد اللفظي.
وكما أنه لا يجزئ قول المرء: "سبحان الله وبحمده مائة مرة" -هكذا- للحصول على ثواب من يقول: "سبحان الله وبحمده" مرّة بعد مرّة؛ مِن حطِّ الخطايا ولو كانت مثل زبد البحر؛ فإِنه لا يجزئ قول المرء: طالق ثلاثاً جملة واحدة، ولا يكون إِلا مرّة بعد مرَّة، على النحو الذي بيّن الله -تعالى- في كتابه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سُنّته، وأنّ إِيقاع الثلاث وإمضاءَه؛ إِنّما هو تسوية بين المدخول بها وغير المدخول، وتجاوز للأحكام التي وضعها الحكيم العليم الرحمن الرحيم.
وما ورَد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- إِنما هو اجتهادٌ؛ كيلا تفشو هذه الألفاظ في النّاس وتشيع فيهم، والله -تعالى- أعلم.

الإِشهاد على الطَّلاق:
قال الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العِدَّة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إِلا أن يأتين بفاحشة مُبيِّنة وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً * فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروفٍ

(5/292)


أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتَّق الله يجعل له مخرجاً} (1).
وقد اختلف العلماء في معنى الإِشهاد في قوله -سبحانه-: {وأشهدوا ذَوَي عدْلٍ منكم} أهو على الطلاق أم الرجعة أم عليهما معاً، وهذا له أثره الخلافي في المسألة.
جاء في "صحيح البخاري" (2) باب قول الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العدة} أحصيناه: حفظناه وعددناه، وطلاق السّنّة أن يُطلقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدين.
قال الحافظ -رحمه الله-: "قوله: ويُشهد شاهدين: مأخوذ من قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: "كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت".
جاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق" (3): " ... [أخرج] ابن جرير الطبري في "تفسيره" (28/ 88) من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس (4) قال: إِن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين
__________
(1) الطلاق: 1 - 2.
(2) انظر "كتاب الطلاق" (باب - 1).
(3) لعمرو عبد المنعم سليم -حفظه الله تعالى- (ص 152).
(4) قلت: وقد تُكُلِّم كثيراً في رواية (علي بن أبي طلحهّ) عن (ابن عباس)، وأنه =

(5/293)


كما قال الله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} عند الطلاق وعند المراجعة.
__________
= لم يسمع منه، بيْد أن في الأمر تفصيلاً، فقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتاب "العجاب في بيان الأسباب" (1/ 203):
"والذين اشتهر عنهم القول في ذلك [أي: تفسير القرآن العظيم] من التابعين: أصحاب ابن عبّاس -رضي الله عنهما- ثقات وضعفاء فمن الثقات:
1 - مجاهد بن جبر.
2 - ومنهم عكرمة.
3 - ومن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وعليّ صدوق لم يلْقَ ابن عبّاس، لكنّه حَمَل عن ثقاتِ أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النُّسخة.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: قال أبو جعفر النحاس في كتاب "معاني القرآن" له بعد أن ساق رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تأويل الآية -: هذا من أحسن ما قيل في تأويل الآية وأعلاه وأجلّه، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إِلى مصر قاصداً ما كان كثيراً. انتهى. وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في "صحيحه" هذا كثيراً على ما بيناه في أماكنه. وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. انتهى".
والحاصل أنّ هذه وجادةٌ اعتمدها الإِمام البخاري وأمثاله من الفحول المذكورين في رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- على نسخة معاوية بن صالح. وهنالك من يفرّق بين ما رواه في الحديث وما رواه في التفسير [انظر ما قاله محقق كتاب "العُجَاب" (1/ 206)].
ويزيدنا اطمئناناً أن تكون رواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- =

(5/294)


وجاء في "تفسير ابن كثير" -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} أي: على الرجعة إِذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود، وابن ماجه عن عمران بن حصين، أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثمّ يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلقت لغير سُنَّة وراجعت لغير سُنَّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُد (1).
وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلاَّ شاهدا عدل، كما قال الله -عزّ وجلّ- إِلا أن يكون من عذر".
وجاء في "تفسير القرطبي" -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: {وأشهِدوا} أمرٌ بالإِشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة.
والظاهر رجوعه إِلى الرجعة لا إِلى الطلاق، فإِن راجع من غير إِشهاد؛ ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء، وقيل: المعنى: وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً. وهذا الإِشهاد مندوب إِليه عند أبي حنيفة؛ كقوله -تعالى-: {وأشهدوا إِذا تبايعتم}. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إِليه في الفرقة".
__________
= من اختيار ابن جرير أو ابن كثير وأمثالهما -رحم الله الجميع-.
وانظر -إِن شئت المزيد- ما قاله الحافظ -رحمه الله- في كتاب "العُجاب في بيان الأسباب" وما أفاده محقّقه: الأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس -حفظه الله تعالى- وقد مضى في بداية القول توثيق الحافظ ابن حجر -رحمه الله- لذلك. والله -تعالى- أعلم.
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1915)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1645)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2078).

(5/295)


وجاء في "تفسير الإِمام البغوي" -رحمه الله تعالى-: " {وأشهدوا} على الرجعة أو الفراق، أمر بالإِشهاد على الرجعة وعلى الطلاق ... ".
وقال العلامة السعدي -رحمه الله في "تفسيره": " {وأشهدوا} على طلاقها ورجعتها {ذوي عدل منكم} أي: رجلين مسلمين عدلين لأن في الإِشهاد المذكور سداً لباب المخاصمة وكتمان كل منهما ما يلزم بيانه".
قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في كتاب "نظام الطلاق في الإِسلام" (ص 80) -بحذف-: "والظاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهدوا} راجع إِلى الطلاق وإلى الرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إِلى غير الوجوب -كالندب- إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمْله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل -وهو أحد طرفي العقد- وحده. سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَلَ المرأة، وحقوق للمرأة قِبَلَ الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإِنكار من أحدهما، فإِشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قِبَلَ الآخر.
فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره.
وهذا الذي اخترنا هو قول ابن عباس. فقد روى عنه الطبري في التفسير (28 - 88) قال: إِنْ أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} عند الطلاق وعند المراجعة.

(5/296)


وهو قول عطاء أيضاً.
فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: "النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود" نقله السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (3/ 456) وكذلك هو قول السدي. فقد روى عنه الطبري قال في قوله: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم}. على الطلاق والرجعة.
وأمّا ابن حزم فإِنَّ ظاهر قوله في "المحلى" (1) (10/ 251) يفهم منه أنه يرى اشتراط الإِشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وإن لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق؛ بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط، قال: "فإنْ راجع ولم يُشهِد فليس مراجعاً، لقول الله -تعالى-: {فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فاوقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} لم يفرق -عزّ وجلّ- (2) بين المراجعة والطلاق والإِشهاد، فلا يجوز إِفراد ذلك عن بعض، وكل من طلّق ولم يشهد ذوَي عدل، أو رجع ولم يشهد ذوي عدل: متعدياً لحدود الله -تعالى- وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (3).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (33/ 33): "وقد ظن بعض
__________
(1) وفي نسختي: (11/ 613) دار الاتحاد العربي.
(2) جاء في التعليق: في النسخة المطبوعة من "المحلّى" "فرق -عز وجلّ- " وهو خطأ مطبعي واضح من سياق الكلام. والصواب (فقرن) كما في النسخة المخطوطة من "المحلّى" بدار الكتب المصرية.
(3) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718، واللفظ له.

(5/297)


الناس: أن الإِشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإِجماع (1)، وخلاف الكتاب والسّنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإِن الطلاق أذن فيه أولاً، ولم يأمر فيه بالإِشهاد، وإِنما أمر بالإِشهاد حين قال: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إِذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح. والإِشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإِشهاد إِنما هو على الرجعة، ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقاً محرماً ولا يدري أحد، فتكون معه حراماً، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة".
وإِذا عَرف المرء رأي شيخ الإِسلام -رحمه الله- في الإِشهاد في النكاح؛ وأنه يرى حصولَه مع الإِعلان ولو لم يَشْهَد شاهدان، إِذا كان كذلك؛ انقدح في ذهنه أنّ هذا له أثره في فتواه -رحمه الله- في مسألة عدم إِيجاب الإِشهاد في الطلاق، علماً أنّ الإِشهاد في النكاح أقوى نصّاً وفقهاً من الإِشهاد في الطلاق كما هو ظاهر النُّصوص.
جاء في "الفتاوى" (32/ 127): "واشتراط الإِشهاد وحده ضعيف؛ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإِنه لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه حديث (2).
__________
(1) قال الموزعي في "تيسير البيان": وقد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز. قاله في "سبل السلام" (3/ 348). وفي "السيل الجرار" (2/ 410): "وقد وقع الإِجماع على عدم وجوب الإِشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب".
(2) وقد خالفه من العلماء مَن خالفه في هذا؛ فهذا رأيه، رحم الله الجميع.

(5/298)


ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائماً له شروط لم يُبِنْها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مما تعمُّ به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إِلى معرفة هذا. وإذا كان هذا شرطاً كان ذِكره أولى من ذِكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذِكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فتبين] أنه ليس مما أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم.
قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمَّة الحديث: لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإِشهاد على النكاح شيء، ولو أوجبه لكان الإِيجاب إِنما يعرف من جهة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان هذا من الأحكام التي يجب إِظهارها وإعلانها، فاشتراط المهر أولى؛ فإِن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسّنة والإِجماع، ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة: ولم يضيعوا حِفْظ ما لا بُدّ للمسلمين عامة من معرفته، فإِنَّ الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يأمر بحفظ ذلك. وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلاً؛ فكيف النكاح بلا إِشهاد إِذا كان الله ورسوله قد حرَّمه وأبطله؛ كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!
بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد لكان مردوداً عند من يرى مثل ذلك، فإِن هذا من أعظم ما تعمّ به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام، فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إِلا بإِشهاد، وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إِلا رب السماوات؛ فعُلم أنَّ اشتراط الإِشهاد دون غيره باطل قطعاً.
ولهذا كان المشترطون للإِشهاد مضطربين اضطراباً يدل على فساد الأصل،

(5/299)


فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، إِذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإِشهاد ذوي العدل، فكيف بالإِشهاد الواجب؟! ".
وقال -رحمه الله- (ص 129): "وأمَّا النكاح فلم يرد الشرع فيه بإِشهاد واجب ولا مستحب، وذلك أن النكاح أُمِر فيه بالإِعلان، فأغنى إِعلانه مع دوامه عن الإِشهاد، فإِن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته، فكان هذا الإِظهار الدائم مُغنياً عن الإِشهاد كالنسب؛ فإِن النسب لا يحتاج إِلى أن يُشهِد فيه أحداً على ولادة امرأته؛ بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغنى هذا عن الإِشهاد؛ بخلاف البيع؛ فإِنّه قد يجحد ويتعذر إِقامة البينة عليه.
ولهذا إِذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إِعلانه بالإِشهاد، فالإِشهاد قد يجب في النكاح؛ لأنَّه بِهِ يُعلَن ويُظهَر؛ لا لأنَّ كل نكاح لا ينعقد إِلا بشاهدين؛ بل إِذا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثمّ خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها؛ كان هذا كافياً، وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلَّفون إِحضار شاهدين، ولا كتابة صَداق".
وقال -رحمه الله- (ص 130): "فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإِعلان يصح، وإِن لم يشهد شاهدان. وأمّا مع الكتمان والإِشهاد فهذا مما ينظر فيه. وإذا اجتمع الإِشهاد والإِعلان، فهذا الذي لا نزاع في صحته.
وإِن خلا عن الإِشهاد والإِعلان: فهو باطل عند العامَّة فإِن قُدِّرَ فيه خلاف فهو قليل. وقد يظن أن في ذلك خلافاً في مذهب أحمد، ثم يقال: ما يميز

(5/300)


هذا عن المتخذات أخداناً؟
وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإِثبات الفراش؛ لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيماً للنكاح. وهذا يعود إِلى مقصود الإِعلان، وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينة، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل: فهذا قد يقال: يجب الإِشهاد هنا".
وجاء في "تبين المسالك بتدريب السالك" (3/ 159). " قال الموَّاق: من المدونة: من طلق زوجته فليشهد على طلاقه وعلى رجعته، وقال مالك فيمن منعت نفسها وقد ارتجع حتى يشهد: قد أصابت. ابن عرفة: وهذا دليل على وجوب الإِشهاد. وعلى ندبه درج خليل قال: وندب الإِشهاد وأصابت من منعت له.
والأصل في مشروعية الإِشهاد قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم}.
وذكر كلام القرطبي -رحمه الله- المتقدّم، ثمّ ذكر كذلك أثر عمران بن الحصين -رضي الله عنه- ثمَّ قال: ومذهب الثلاثة: عدم وجوب الإِشهاد.
وجاء في "الاستئناس لتصحيح أنكحة النّاس" (ص 51) للعلامة القاسمي -رحمه الله- (1): "ممّن ذهب إِلى وجوب الإِشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين -رضي الله
__________
(1) وقد نقلْتُ أقوال أهل السّنة، وحذفتُ أقوال الآخرين؛ فهي مبثوثة في كُتبهم.

(5/301)


عنهما- ومن التابعين الإِمام محمد الباقر (1)، والإِمام جعفر الصادق (1)، وبنوهما أئمة آل البيت -رضوان الله عليهم- وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين -رحمهم الله-.
وروى أبو داود في "سننه" عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه سئل عن الرجل يُطلّق امرأته ثمّ يقع بها ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنّة وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها
__________
(1) قال الإِمام الذهبي في "سِير أعلام النبلاء" (4/ 401) في ترجمة محمد الباقر -رحمهما الله تعالى-: "وشُهِر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي: شقّه فعرف أصله وخفيّه، ولقد كان أبو جعفر إِماماً مجتهداً تالياً لكتاب الله، كبير الشّأن، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السّنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نُحابيه، ولا نحيف عليه، ونُحبّه في الله لما تجمّع فيه من صفات الكمال.
قال ابن فُضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولّهما وابرأ من عدوّهما، فإِنهما كانا إِمامي هُدَى".
وقال كذلك (6/ 255) في ترجمة جعفر الصادق -رحمهما الله تعالى-: " ... الإِمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي ... وكان يغضب من الرافضة ويمقتهم إِذا علم أنهم يتعرضون لجدّه أبي بكر ظاهراً وباطناً -هذا لا ريب فيه-.
ولكن الرافضة قوم جَهَلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية فبُعداً لهم" انتهى.
قلت: ومع القول بإِمامتهما، فإِننا لا نخصُّهما وأشخاصاً محدّدين بذلك -كما تفعل الشيعة- كما لا نعني بذلك مدلولهم في هذه الإِمامة وهذا كقولهم: "الإِمام علي" -رضي الله عنه- فمدلول إِمامة علي -رضي الله عنه- عند أهل السّنة غير مدلول الشيعة، نسأل الله -تعالى- الوفاة على الكتاب والسّنة على منهج سلف الأمّة.

(5/302)


ولا تعد (1).
وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي: من السّنة كذا في حُكم المرفوع إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصحيح، لأن مُطلق ذلك إِنما ينصرف بظاهره إِلى من يجب اتباع سنته وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بُسط في موضعه.
... [وفي] "الدر المنثور" آية: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} الآية. عن عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد وراجع ولم يُشهد قال: بئسما صنع، طلّق لبدعة وراجع لغير سنّة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته وليستغفر الله.
فإِنكار ذلك من عمران -رضي الله عنه- والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إِياه معصية ما هو إِلا لوجوب الإِشهاد عنده -رضي الله عنه- كما هو ظاهر.
... [وفي] "الدر المنثور" عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود.
ثمّ ذَكر قول ابن كثير -رحمه الله- المتقدّم عن عطاء (2) ثمَّ قال العلامة القاسمي -رحمه الله-: فقوله: لا يجوز، صريح في وجوب الإِشهاد على الطلاق عنده -رضي الله عنه- لمساواته له بالنكاح، ومعلوم ما اشتُرط فيه من
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) انظر (ص 293).

(5/303)


البينة.
إِذا تبين لك أن وجوب الإِشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين، تعلم أن دعوى الإِجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد لها الإِجماع المذهبي لا الإِجماع الأصولي الذي حدُّه -كما في "المستصفى"- اتفاق أمَّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصَّة على أمرٍ من الأمور الدينية، لانتقاضه بخلاف كما ذكر كما الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين".
وجاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق" (ص 156): "وأما من قال بوجوب الإشهاد على الطلاق والرجعة من السلف فجماعة منهم:
عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى- فقال: الفرقة والرجعة بالشّهود (1).
وصح عنه أنه لم يجز طلاق من أشهد شهيدين متفرقين. فعند عبد الرزاق (6/ 374) عن ابن جريج، قال: سئل عطاء عن رجل طلّق عند رجل واحدة، وعند رجل واحدة، قال. ليستا بشىء، إِنما شهد رجل على واحدة.
وسنده صحيح أيضاً.
وأورده ابن كثير في "التفسير" (4/ 379) عن ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم}.
قال: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا رجاع إلاَّ شاهدان كما قال الله -عزّ وجلّ- إِلا أن يكون من عذر [وتقدّم].
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 60) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء به، وسنده صحيح.

(5/304)


وأخرج عبد الرزاق (6/ 327): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: رجل طلّق امرأته تطليقة ولم يشهد، ولم يُعلمها، لم نرد على هذا. وسنده صحيح.
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج رحمه الله تعالى- قال: لا يجوز نكاح، ولا طلاق، ولا ارتجاع إِلا بشاهدَيْن، فإن ارتجع وجهل أن يشهد وهو يدخل ويصيبها، فإِذا علم فليعد إِلى السنة إِلى أن يشهد شاهدين عدل (1) ". انتهى.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 193) برقم (19184) عن الشعبي -رحمه الله- "أنّه سُئل عن رجل طلّق امرأته عند رجلين وامرأة فشهد أحد الرجلين والمرأة وغاب الآخر قال: تعزل عنه حتى يجيء الغائب".
ورأي شيخنا -رحمه الله- أن الطّلاق لا يقع إِلا بشاهدين، فقد قال لي مجيباً عن بعض أسئلتي: "أيّ طلاق لا يقع إِلا بشاهدَين".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن شخصٍ طلّق بلا إشهاد، ثمّ أخبرَ إخوانه، أنَّه قد طلّق؟
فأجاب -رحمه الله-: إِذا رأى أنه طلّق؛ فقد وقع الطلاق وإِذا أفتاه بعض العلماء بوقوع الطلاق؛ فإِنَّه يقع أيضاً.
والحاصل أن شيخنا -رحمه الله- يرى أن من استفتى في الطَّلاق، فقول من أفتاه من العلماء في الطَّلاق ماضٍ، وكذلك إِذا طلّق بلا إِشهاد؛ معتمداً على فتاوى أهل العِلم.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (6/ 135) عن ابن جريج به، وسنده صحيح.

(5/305)


وسألته -رحمه الله-: ماذا إِذا طلّق ولم يُشهد؟
فأجاب: يكون معلّقاً؛ فإِن شاء أمضاه، وإلا ترك".
قلت: وأمّا قول عمران بن حصين -رضي الله عنه-: طلّقت لغير سُنّة، وراجعْت لغير سُنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجْعتها ولا تعُد.
فقد أفاد أنّ من السّنّة النبوية الإِشهاد على الطلاق فقول الصحابي: من السّنّة له حُكم الرفع كما تقدّم، وهذا يبيّن أن الإِشهاد في الآية الكريمة: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} يتضمّن الطلاق والرجعة والله -تعالى- أعلم.
وانقدح في نفسي أنه لو لم يقع طلاق ذاك الرجل بلا إِشهاد؛ لما قال له عمران -رضي الله عنه-: أشهد على طلاقها، ولا سيّما أنه راجع امرأته بل ينبغي أن يقول له: طلاقُك لم يقع لأنه بلا إِشهاد، ثمّ بدا لي أن قول عمران -رضي الله عنه- من باب التعليم وبيان القاعدة.
وهذه الصورة تختلف عن صورة عدم الإِشهاد على النكاح. فلو أنّ رجلاً حصل نكاحُه بلا شهود ثمّ طلّقها، فهذا يُقال له: ما بُني على فاسد فهو فاسد؛ وأصل النكاح لم يقع أصْلاً؛ لأن شروطه المطلوبة لم تتحقّق أو تكتمل.
وهل صورة الطلاق بلا إِشهاد؛ كرجل أعطى رجُلاً ديناً ولم يُشهد عليه، فهو عاصٍ دعاؤه لا يستجاب كما ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1)، لكن لا يعني عدم الإِشهاد إِسقاط حقّه من مالٍ على الآخرين؟؟
__________
(1) إِشارة إِلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب لهم ... ورجلٌ كان له على رجلٍ مالٌ فلم يُشهد عليه". أخرجه الحاكم والطحاوى في "مُشكل الآثار" وغيرهما وهو في "الصّحيحة" (1805).

(5/306)


أم أنّ الطلاق لا يتمّ إِلا بالإِشهاد؛ كما هو في حدّ القذف الذي لا يثبت إِلا بأربعة شهود؛ فإِن شهد شاهدان أو ثلاثة، فإِنّه يمضي فيهم قوله -تعالى-: {فإِذْ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (1) فأولئك عند الله هم الكاذبون ولو كانوا في أنفسهم صادقين فيما رأوا.
وجاء في كتاب "الجامع لأحكام الطلاق" (ص 161): "وعلى تقدير أن الأمر في الآية يقتضي الوجوب، فمخالفته لا تبطل أثر الطلاق ولا المراجعة، والدليل على ذلك: أن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا في الطلاق باستقبال النساء في عدتهن في طهر لم يجامعها فيها زوجها، فلمّا خالف ابن عمر -رضي الله عنهما- هذا الأمر، وطلّق امرأته وهي حائض، أجازه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه، فهو قد خالف الأمر الوارد في آية الطلاق، ولم يمنع هذا من أن تُحسب عليه طلقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لمن خالف الأمر في الإِشهاد، والله أعلم.
قلت: ويؤيد هذا ما تقدّم من قول الإِمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الطلاق: (باب قول الله -تعالى-: {يا أيّها النّبي إِذا طلَّقتم النّساء ... } ... وطلاق السّنّة أن يطلِّقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدَين).
ثمّ ذَكَر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في قصة تطليقه امرأته وهي حائض.
فإِيقاع طلاق الحائض على بدعيته، إِيقاع للطلاق بلا إِشهاد على مخالفته للسّنّة، وإيرادهما تحت بابٍ واحد يُفهم هذا، لكن سيأتي عمّا قريب -إن شاء
__________
(1) النور: 13.

(5/307)


الله تعالى- الإِجابة عن هذه المسألة.
وبعد أنْ أخذَت المسألة من تفكيري مأخَذَها، وبعد انهماك شديد في غالب وقتي، رأيتُ ما يأتي:
1 - أنَّ استحلال الفُروج وتحريمها لا بدّ أنْ يخضع إِلى نُصوصٍ ثابتة، وكيفيَّةٍ شرعيَّة، وبِذا؛ فإِنّنا نُطالب بالدَّليل على إِيقاع الطَّلاق لِمَنْ لم يُشهِد.
وتحرير هذا؛ أنَّ أساس الخلاف هو: هل للإِنسان أنْ يُطلِّق كيفما اتَّفق أمْ أنَّ للطَّلاق أُصولاً وقواعد؟ وهل الأصل إِيقاع الطَّلاق بلا إِشهاد والمراد من الإِشهاد التوثيق ودفع التهمة والالتباس فحسب؟ أم الأصل إِيقاع الطَّلاق بالإِشهاد ولا يتمّ إِلا بذلك؟ وما الدَّليل على هذا وذاك؟ وما هو الأقرب للصواب؟
والذي بدا لي؛ أنَّ إِيقاع الطَّلاق يحتاج إِلى نصٍّ؛ فلا يكون إِلا بالإِشهاد، فالأصل عدم إِيقاع الطلاق إِلا على وجهٍ شرعيٍّ منصوصٍ عليه، وهذا إِنَّما يكون بنصٍّ من كتابٍ أو سنّة وما كان إِلى هذا أقرب؛ فهو أمثل.
2 - وأنَّ أقرب شيءٍ إِلى الدّليل والنَّصّ الذي سَبق ذِكْرُه بما يتَّصِل بمسألتنا السَّابقة هو:
أوَّلاً: قوله -تعالى-: {فإِذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكوهُنَّ بِمعروف أو فارِقوهُنَّ بِمعروفٍ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلِ منكُم}، وقد سبق قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في تأويلها: "عند الطَّلاق وعند والمراجعة" وكذا قول عطاء في تأويلها: "لا يجوز في نكاحٍ ولا طلاق ولا إِرجاعٍ إِلا شاهدا عدلٍ، كما قال الله -عز وجل-؛ إلاَّ أنْ يكون من عُذرٍ". وقوله: "النِّكاح بالشُّهود، والطَّلاق بالشُّهود، والمراجعة بالشُّهود". وغير ذلك من الآثار المتقدِّمة.

(5/308)


وتقدّم قول العلاَّمة أحمد شاكر -رحمه الله-: "والظَّاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهِدوا} راجِعٌ إِلى الطلاق وإلى الرّجعة معاً، والأمر للوجوب".
ثانياً: وأقرب شيء إِلى الدَّليل والنّص كذلك حديث عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: "طلَّقتَ لغير سنّة، وراجعتَ لغير سنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد" فقوله. طلَّقتَ لغير سنّة؛ دل على أنّ السنّة هو الإِشهاد، والبدعة عدم الإِشهاد، وقولُه: من السنّة في حُكْم المرفوع كما تقدّم، ولنا أنْ نقول بقول النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ" (1)، بمعنى: رُدَّ هذا الطلاق (2).
لكنّ إِمضاء طلاق ورجعة هذا الذي سُئل عنه عمران بن الحصين -رضي الله عنه- فهو من باب قول المفتي: "قُضِيَ الأمر" فحين يأتي شخصٌ يستفتي في الطَّلقة الثّالثة مثلاً، فيُفتي له عالمٌ بإِيقاعها وبينونة زوجته بينونْةً كُبرى، ثُمّ بعد مُدَّة تزوّجت من آخر، فليس للزَّوج المُطلِّق أن يطلُب إِلغاء النِّكاح الآخر؛ لتعود إِليه زوجته، لسببٍ يتعلَّق في الفتوى السَّابقة؛ ولِقَناعةٍ شرعيّةٍ ما تستند على نُصوص أخَذ بها عُلماء؛ لأنّ هذا يُفضي إِلى التّلاعب في النِّكاح والطلاق، بل في كثيرٍ من مسائل الدّين.
وهذا ما كان يقوله شيخنا -رحمه الله- كما تقدّم.
ومن هذا الباب ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (4/ 196) برقم (19208): "وساق إِسناده إِلى الشعبي -رحمه الله- أنه سئل عن رجلٍ شهد
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- ما يتعلَّق بإِيقاع طلاق الحائض مع بِدْعيَّته.

(5/309)


عليه رجلان بطلاق امرأته، ففرّق القاضي بينهما فرجع أحد الشاهدين وتزوجها الآخر قال: فقال الشعبي: مضى القضاء ولا يلتفت إِلى رجوع الذي رجع".
وبذا فمن رأى أنّه قد طلَّق، أو أُفْتيَ بالطلاق فقد وقع طلاقه لأنّ له قولاً من أهل العلم.
فأصل القاعدة التي يُستفاد منها من حديث عمران بن الحصين أنّ السنّة هو الإِشهاد وهذا من باب التّأصيل وبيان القاعدة؛ ولا بُدّ لنا أن نتأمّل قول عمران ابن الحصين -رضي الله عنه- فإِنه لم يقل: "طلقتَ لغير سُنّة وراجعت لغير سُنّة" وسكت، ولكنه قال: "أشهِد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد". فدلّ على عدم الجواز -والله أعلم-.
3 - لقد عَهِدنا في الأبحاث الفقهية ذكر المشروعيّة مع الدليل على ذلك، فيقولون مثلاً: مشروعيّة الوضوء، مشروعيَّة الأذان، مشروعيّة الصيام ... إِلخ.
فهل لقائلٍ أن يقول: مشروعيّة عدم الإِشهاد على الطلاق؟! علماً بأن المشروعيّة تمضي على الرّكن والواجب والمستحبّ.
4 - أنّ الطلاق لا يقع إِلا بنيَّة وعَزْمٍ، وقد قال الله -تعالى-: {فإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} فما من شخصٍ طلب الإِشهاد على الطّلاق، إِلا ظهر إِنْ كان له عزمٌ في ذلك أم لا، إِذ هو بلا إِشهادٍ يُمضيه فيندم، ويقول: لا، والله ما أردته! ولا أدري كيف كان ذلك! أمَّا حين ينتظر وصول شاهدي عدلٍ، فتسكن نفسُه ويهدأُ فؤاده، وتذهب عنه الوساوس، وقد يُسهم الشَّاهدان في الإِصلاح، فلا يُطلِّق إِلا من أراد الطَّلاق حقَّاً وقل: لا يُطلِّق إِلا من عزم ذلك.

(5/310)


والعزم هو القوَّة والصَّبر على الأمر، والجدّ والقطعُ فيه؛ وقال القرطبي -رحمه الله- في قوله تعالى: {ولم نجد له عزماً} (1): قال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبراً عن أكل الشّجرة، ومواظبة على التزام الأمر، قال النّحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال: لفلان عزمٌ أي: صبرٌ وثباتٌ على التّحفُّظ من المعاصي ... وقال ابن كيسان: {ولم نجد له عزماً}: إِصراراً. وقال -رحمه الله- في قوله تعالى-: {وإِنْ عزموا الطَّلاق} (2) العزيمة: تتميم العقد على شيء ... وعزمتُ عليكَ لتفعلنَّ: أي أقسمت عليك. قال شَمِر: العزيمة والعزم: ما عقدت عليه نفسك من أمرٍ أنّك فاعله. والطَّلاق: حلُّ عُقدة النِّكاح.
فتأمَّل -رحمني الله وإياك- معنى العزم وهل يتحقَّقُ في كثيرٍ ممن يُطلِقون كلمة "الطَّلاق" ولعلَّ هذا الإِشكالَ يزول بِشاهِدَيْ عدل.
5 - وأمّا من قاس إِيقاع طلاق من لم يُشهد على إِيقاع طلاق الحائض -مع الخلاف المعروف فيه- فالجواب عليه؛ أنّ قياس الإِشهاد على الطلاق على إِشهاد النِّكاح أولى؛ لأنَّ موضوع الإِشهاد في النِّكاح والطلاق ألصق بالموضوع من بدعيَّة عدم الإِشهاد وطلاق الحائض، وجامع الإِشهاد في الموضوعَين أولى من جامع البدعيَّة فيهما، فتأمّل.
والأقرب إِلى الصَّواب في هذا الحال أن يُقال: كما أنّ النِّكاح لا يقع إِلا بشاهدي عدل، فالطَّلاق لا يقع إِلا كذلك، ولا سيَّما مع ورود نصوص في الإِشهاد -مع اختلاف الفهم فيها-.
__________
(1) طه: 105.
(2) البقرة: 227.

(5/311)


ومهما كان من خلاف في مسألة الإِشهاد على الطلاق، وسواءٌ قيل بِإِيقاعه أو عدمه، فإِنّ أقلَّ ما يُقال فيه الإِيجاب، وتأثيم من لم يُشهد؛ لقول عمران بن حُصَيْن -رضي الله عنه-: "طلَّقتَ لغير سُنَّة ... أَشهد على طلاقها ... " وكذلك أقوال السَّلف المتقدِّمة في تأويل الآية: {وأَشهِدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم}.
وعليه: فلا يجوز لمن أراد الطلاق أنْ يُسارع به، اِلا بعد إِحضار شاهِدَي عدل (1)؛ وإلا فإِنّه يَحمِلُ يوم القيامة وِزْراً.
وختاماً: فمع ترجيحي عدم وقوع الطلاق إِلا بشاهدي عدل؛ فإِنّني أُحيلُ كُلَّ حالةٍ من هذه الحالات إِلى حكم القاضي العادل الذي لا تأخُذه في الله لومة لائم؛ ليحكم بما يلهمه الله في هذا الأمر.
وهذا ما بدا لي في هذه المسألة، فإِن أصبتُ فمن الله -تعالى-، وإن أخطأتُ فمنِّي ومن الشّيطان، والله -تعالى- أعلم بالصّواب.
__________
(1) بِالإضافة إِلى الشُّروط المتقدمة في الطَّلاق السُّنِّي.

(5/312)


الطلاق الرجعي وأحكامه
الطلاق الرجعي: هو الذي يكون فيه الزوج مخيّراً ما دامت زوجته في العدّة بين تركها لا يراجعها حتى تنقضي عدتها، فتملك أمرها، فلا يراجعها إِلا بولي ورضاها، وصَداق، وبين أن يُشهد على ارتجاعها فقط؛ فتكون زوجته -أحبّت أم كرهت- بلا ولي ولا صَداق، لكن بإِشهاد فقط؛ ولو مات أحدهما قبل تمام العدة وقبل الراجعة ورثه الباقي منهما- وهذا لا خلاف فيه من أحد من الأئمة (1).
وجاء في "سبل السلام" (3/ 347): "وقد أجمع العلماء على أنّ الزوج يملك رجعة زوجته في الطلاق الرجعي؛ ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها ورضا وليّها إِذا كان الطلاق بعد المسيس".
[والرجعة] ثابتة بالكتاب والسّنة والإِجماع، أمّا الكتاب فقول الله -سبحانه-: {والمطلقات يتربصنَ بأنفسهنّ ثلاثة قروء} إِلى قوله: {وبعولَتُهُنَّ أحقُّ بردِّهنّ في ذلك إِن أرادوا إِصلاحاً} (2) والمراد به الرجعة عند جماعة العلماء وأهل التفسير، وقال -تعالى-: {وإِذا طلَّقتم النساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهن بمعروف} (3). أي بالرَّجعة ومعناه إِذا قاربن بلوغ أجلهن أي: انقضاء عدتهنّ" (4).
__________
(1) انظر "المحلَّى" (11/ 550)، و"الفتاوى" (33/ 9).
(2) البقرة: 228.
(3) البقرة: 231.
(4) انظر "المغني" (8/ 470).

(5/313)


وقال -تعالى-: {الطلاق مرَّتان فإِمساكٌ بمعروف أو تسريح بإِحسان} (1).
*أي: أنَّ الطلاق الذي شرَعَه الله يكون مرة بعد مرة، وأنه يجوز للزوج أن يمسك زوجته، بعد الطلقة الأولى بالمعروف، كما يجوز له ذلك بعد الطلقة الثانية، والإِمساك بالمعروف معناه مراجعتها وردّها إِلى النكاح، ومعاشرتها بالحسنى، ولا يكون له هذا الحق، إِلا إِذا كان الطلاق رجعياً* (2).
وأمّا السّنة فما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرْه فليراجعها" متفق عليه (3).
وروى أبو داود عن عمر: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلَّق حفصة ثمّ راجعَها" (4).
وعن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يُشهِد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال: "طلّقت لغير سنة، وراجعت لغير سُنة، أشهد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُد" (5).
__________
(1) البقرة: 229.
(2) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 93).
(3) أخرجه البخاري: 5251، ومسلم: 1471، وتقدّم.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1998)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3332)، وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2077).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1915)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1645) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2078) وتقدّم.

(5/314)


وتستثنى بعض الحالات من الطلاق الرجعي:
كأن يكون الطلاق مكمّلاً للثلاث؛ فهو *يُبينُ المرأة، ويُحرِّمها على الزوج، ولا يحل له مراجعتها، حتى تنكح زوجاً آخر، نكاحاً لا يقصد به التحليل؛ قال الله -تعالى-: {فإِنْ طلَّقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (1) أي: فإِن طلقها الطلقة الثالثة، بعد طلقتين، فلا تحل له من بعد الطلاق المكمل للثلاث، حتى تتزوج غيره زواجاً صحيحاً.
والطلاق قبل الدخول يُبِينُهَا كذلك؛ لأن المطلقة في هذه الحالة لا عدة عليها، والمراجعة إِنما تكون في العدة، وحيث انتفت العدة، انتفت المراجعة؛ قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدونها فمتعوهنّ وسرّحوهنّ سراحاً جميلاً} (2) * (3).
والطلاق الرجعي لا يمنع الاستمتاع بالزوجة (4) لأنه لا يرفع عقد الزواج، ولا يزيل الملك، ولا يؤثر في الحل، فهو وإن انعقد سبباً للفرقة، إِلا أنه لا يترتب عليه أثره، ما دامت المطلقة في العدة، وإنما يظهر أثره بعد انقضاء العدة دون مراجعة، فإِذا انقضت العدة ولم يراجعها، بانت منه، وإذا كان ذلك كذلك،
__________
(1) البقرة: 230.
(2) الأحزاب: 49.
(3) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 39).
(4) مع التَّنبيه إِلى أنَّ بعض العلماء يرى أنَّ جِماع الزوجة إِعادة لها، وانظر -إِن شئت- بعد صفحتين.

(5/315)


فإِنَّ الطلاق الرجعي لا يمنع من الاستمتاع بالزوجة، وإِذا مات أحدهما ورثه الآخر، ما دامت العدة لم تَنْقَضِ، ونفقتها واجبة عليه (1).
ومن قال لامرأته: أنت طالق طلقة لا رجعة لي فيها عليك، بل تملكين بها نفسك، فإِن الناس اختلفوا في ذلك.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (11/ 550): "قال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، وابن وهب -صاحب مالك-: هي طلقة يملك فيها زوجها رجعتها، وقوله بخلاف ذلك لغو. وقالت طائفة: هي ثلاث، وهو قول ابن الماجشون -صاحب مالك-. وقالت طائفة: هي كما قال، وهو قول ابن القاسم صاحب مالك.
والذي نقول به: أنه كلام فاسد لا يقع به طلاق أصلاً، لأنه لم يطلق كما أمَره الله -عزّ وجلّ- ولا طلاق إِلا كما أمَر الله -تعالى-.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (2).
ولا بُدّ من الإِشهاد على الرجعة لقوله -تعالى-: {أشهدوا ذَوَي عدْلٍ منكم} (3).
ولحديث عمران بن الحصين -رضي الله عنه- المتقدّم. "أشهد على طلاقها وعلى رجعتها".
وقال العلامة الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (7/ 42) -بحذف-:
__________
(1) انظر "فقه السنَّة" (3/ 40).
(2) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718 واللفظ له، وتقدّم.
(3) الطلاق: 2.

(5/316)


"واختلف السلف فيما يكون به الرجل مراجعاً فقال الأوزاعي: إِذا جامعَها فقد راجعَها، ومثله أيضاً روى عن بعض التابعين. وبه قال مالك وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة. وقال الكوفيون كالأوزاعى وزادوا: ولو لمسها شهوة أو نظر إِلى فرجها لشهوة، وقال الشافعي: لا تكون الرجعة إِلا بالكلام.
وحُجَّة الشافعي أن الطلاق يزيل النكاح.
وإِلى ذلك ذهب الإِمام يحيى والظاهر ما ذهب إِليه الأولون؛ لأن العدة مدة خيار والاختيار يصح بالقول والفعل.
وأيضاً ظاهر قوله -تعالى-: {وبعولتهن أحق بردهنّ} (1)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "مره فليراجعها": أنها تجوز المراجعة بالفعل؛ لأنه لم يخصَّ قولاً مِنْ فِعْلٍ، ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل، وقد حكى في "البحر" عن العترة ومالك أن الرجعة بالوطء ومقدماته محظورة وإن صحت، ثم قال: قلت: إِن لم يَنوِ بِهِ الرجعة فنعم لعزمه على قبيح وإلا فلا لما مرَّ، وقال أحمد بن حنبل: بل مباح لقوله -تعالى-: {إلاَّ على أزواجهم} (2) والرجعية زوجة بدليل صحة الإِيلاء". انتهى.
وجاء في "الفتاوى" (20/ 381): " ... ومسألة الرجعة بالفِعْل، كما إِذا طلّقها: فهل يكون الوطء رجعة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يكون رجعة كقول أبي حنيفة. والثاني: لا يكون كقول الشافعي. والثالث. يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك، وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد".
__________
(1) البقرة: 228.
(2) المؤمنون: 6.

(5/317)


وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه: "إِذا جامعها؛ فهذا يعني إِرجاعها".

الطلاق البائن وأحكامه
هو الطلاق المكمّل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال وهو ما يسمّى بالخلع كما سيأتي -إِن شاء الله تعالى-، ويبقى به الزوج خاطباً من الخُطّاب لا تباحُ له إِلا بعقد جديد، إِلا إِذا طلَّقها ثلاثاً؛ فلا تحلّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره.

أقسامه:
ينقسم الطلاق البائن إِلى قسمين:
بائن بينونة صُغرى، وهو ما كان دون الثلاث، وبائن بينونة كُبرى، وهو المكمّل للثلاث.

حُكم البائن بينونة صُغرى:
*الطلاق البائن بينونةً صغرى يزيل قيد الزوجية، بمجرد صُدوره، وإذا كان مزيلاً للرابطة الزوجية، فإِنّ المطلقة تصير أجنبية عن زوجها، فلا يحل له الاستمتاع بها، ويحل بالطلاق البائن موعد مؤخر الصداق -المؤجل- إِلى أبعد الأجلين؛ الموت أو الطلاق.
وللزوج أن يعيد المطلقة طلاقاً بائناً بينونة صغرى إِلى عصمته [برضاها]، بعقد ومهر جديدين، [ولا يشترط] أن تتزوج زوجاً آخر، وإذا أعادها عادت

(5/318)


إِليه بما بقي له من الطلقات، فإِذا كان طلقها واحدة من قبل، فإِنه يملك عليها طلقتين بعد العودة إِلى عصمته، وإِذا كان طلقها طلقتين، لا يملك عليها إِلا طلقة واحدة* (1).

حُكم الطَّلاق البائن بينونة كُبرى:
*الطلاق البائن بينونة كبرى يزيل قيد الزوجية، مثل البائن بينونة صغرى، ويأخذ جميع أحكامه، إِلا أنه لا يحل للرجل أن يعيد من أبانها بينونة كبرى إِلى عصمته، إِلا بعد أن تنكح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً، ويدخل بها دون إِرادة التحليل؛ يقول الله -تعالى-: {فإِنْ طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (2) أي: فإِن طلقها الطلقة الثالثة، فلا تحل لزوجها الأول، إِلا بعد أن تتزوج آخر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لامرأة رفاعة: "لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" (3) * (4).
جاء في "المحلّى" (11/ 551): "والبائن هو الذي لا رجعة له عليها إِلا أن تشاء هي في غير الثلاث بولي وصداق، ورضاها، ونفقتها عليه في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة، ويلحقها طلاقه".
وجاء في "الفتاوى" (32/ 313): "وجماع الأمر أن البينونة نوعان: البينونة الكبرى وهي إِيقاع البينونة الحاصلة بإِيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 43) بتصرف.
(2) البقرة: 230.
(3) أخرجه البخاري: 5260، ومسلم: 1433 وتقدّم.
(4) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 43).

(5/319)


المرأة حتى تنكح زوجاً غيره. والبينونة الصغرى وهي: التي تبين بها المرأة ... ".

مسألة الهدم:
إِذا طلّق الرجل زوجته وبانت منه بينونة كُبرى وانقضت عدّتها، ونَكَحت زوجاً غيره، ودخَل بها، ثمّ طلّقها أو مات، ثمّ انقضت عدّتها، ثمّ نكَحها الأول؛ فإِنه يملك عليها ثلاث تطليقات.
قال ابن المنذر في كتاب "الإِجماع" (ص 81): "وأجمعوا على أنّ الحُرَّ إِذا طلّق الحُرَّةَ ثلاثاً، ثمّ انقضت عدّتها، ونَكَحت زوجاً غيره، ودخَل بها، ثمّ فارقها وانقضت عدتها، ثمّ نكَحها الأول، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات" انتهى.
أمّا التي تبين من زوجها بينونة صغرى، فإِنها إِذا انقضت عدّتها، ونكَحت زوجاً غيره، ثمّ طلّقها أو مات، ثمّ انقضت عدّتها، فالراجح أنها تعود على ما بقي من الثلاث.
جاء في "السيل الجرَّار" (2/ 374): "قوله: ولا ينهدم الا ثلاثة. أقول: وجه تخصيص الانهدام بالثلاث لا بما دونها؛ أنها مورد النص فإِنَّ الله -سبحانه- قال: {فإِنْ طلَّقها من بعد فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره} (1) أي: فإِن طَلَّقَ مرةً ثانيةً مَنْ طلقها مرتين؛ فلا تحل له بعد هذا التثليث؛ حتى تنكح زوجاً غيره، فإِنْ نكحت زوجاً غيره حَلَّتْ له. والظاهر أنها تحل له حِلاً مُطلَقاً فيملك عليها من الطلاق ما يملكه لو نكحها ابتداءً.
وإذا عرفت أن التثليث هو مورد النص؛ فاعلم أنه لم يرد في شيء من
__________
(1) البقرة: 230.

(5/320)


الكتاب والسّنة ما يدل على أنها إِذا نكحت زوجاً غيره بعد طلقة أو تطليقتين أن الطلقة أو الطلقتين يكون لها حُكم الثلاث في الانهدام.
لكن ها هنا قياس قويٌّ هو القياس الذي يسمُّونه قياس الأولى -وتارة يسمونه فحوى الخطاب- فإِنه يدل على أن انهدام ما دون الثلاث مأخوذ من الآية بطريق الأولى، ويعضد هذا أن الاحتساب بما وقع من طلاق الزوج عليها بعد أن نكحت زوجاً غيره؛ خلاف ما يوجبه الحل المفهوم من قوله: {فلا تحل له} فإن ظاهره أنها تحل له الحلّ الذي يكون للزوج على زوجته لو تزوجها ابتداءً".
جاء في "المغني" (8/ 441): "وإذا طلّق زوجته أقلّ من ثلاث فقضت العدة؛ ثمّ تزوجت غيره ثمّ أصابها، ثمّ طلقها أو مات عنها وقضت العدة، ثمّ تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث.
وجملة ذلك أن المطلق إِذا بانت زوجته منه ثمّ تزوجها لم يخلُ من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن تنكح غيره ويصيبها ثمّ يتزوجها الأوَّل فهذه ترجع إِليه على طلاق ثلاث بإِجماع أهل العلم. قاله ابن المنذر.
الثاني: أن يطلقها دون الثلاث، ثمّ تعود إِليه برجعة أو نكاح جديد؛ قبل زوج ثانٍ، فهذه ترجع إِليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف نعلمه.
والثالث: طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثمّ نكحت غيره ثمّ تزوجها الأول فعن أحمد فيها روايتان: إِحداهما: ترجع إِليه على ما بقي من طلاقها وهذا قول الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر وعلي وأُبي ومعاذ وعمران ابن حصين وأبي هريرة وروي ذلك عن زيد وعبد الله بن عمرو بن العاص وبه

(5/321)


قال سعيد بن المسيب وعبيدة والحسن ومالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وإِسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر.
والرواية الثانية: عن أحمد أنها ترجع إِليه على طلاق ثلاث، وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي وشريح وأبي حنيفة وأبي يوسف لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتّسعُ لثلاث تطليقات؛ كما بعد الثلاث لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها.
ولنا أنَّ وطء الثاني لا يُحتاج إِليه في الإِحلال للزوج الأول فلا يغير حكم الطلاق ... ".
وجملة القول: أن ما جاء في "المغني" هو الأرجح والأقوى. وقول العلامة الشوكاني -رحمه الله- "وجه تخصيص الانهدام بالثلاث؛ لا بما دونها أنها مورد النّص ... " يرجّح هذا، فترجع على ما بقي، ولا سيّما أنه قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله -رضي الله عنهم-.
فقد جاء في "الفتاوى" (20/ 380): " ... وكذلك مسألة إِصابة الزوج الثاني: هل تهدم ما دون الثلاث؟ وهو الذي يطلِّق امرأته طلقة أو طلقتين ثمّ تتزوج من يصيبها، ثمّ تعود إِلى الأول؛ فإِنها تعود على ما بقي عند مالك، وهو قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله، وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وإِنما قال: لا تعود على ما بقي ابن عمر وابن عباس، وهو قول أبي حنيفة".

هل يقع طلاق المريض مرض الموت؟
جاء في "المحلّى" (11/ 553) تحت المسألة (1980): "وطلاق المريض

(5/322)


كطلاق الصحيح ولا فرق -مات في ذلك المرض أو لم يَمُت منه- فإِنْ كان طلاق المريض ثلاثاً أو آخر ثلاث، أو قبل أن يطأها فمات، أو ماتت -قبل تمام العدة أو بعدها- أو كان طلاقاً رجعياً فلم يرتجعها حتى مات أو ماتت بعد تمام العدة؛ فلا ترثه في شيء من ذلك كلّه، ولا يرثها أصلاً.
وكذلك طلاق الصحيح للمريضة، وطلاق المريض للمريضة، ولا فرق، وكذلك طلاق الموقوف للقتل والحامل الثقلة، وهذا مكان اختلف الناس فيه .. ".
ثمّ أفاض في ذِكر الآثار وناقش المسألة فارجع إِليه للمزيد -إِن شئت-.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: "أنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته البتة وهو مريض، فورّتها عثمان -رضي الله عنه- بعد انقضاء عدتها" (1).
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 160): "قال الشافعي (1394): أخبرنا ابن أبي رواد ومسلم بن خالد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبتِّها ثمّ يموت وهي في عدتها، فقال عبد الله بن الزبير: طلَّق عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ الكلبية، فبتَّها، ثمّ مات، وهي في عدتها، فورّثها عثمان -رضي الله عنه- قال ابن الزبير: وأمّا أنا فلا أرى أن تَرِثَ مبتوتة" (2).
وارتباط المسألة في الميراث اختلفت الآراء في ذلك؛ والذي يترجَّح -والله أعلم- وقوع الطلاق لتطليق عبد الرحمن بن عوف امرأته في مرض موته وكان
__________
(1) أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/ 159).
(2) وقال شيخنا -رحمه الله-: وهذا إِسناد صحيح.

(5/323)


قد بتّها كما تقدّم.
أمّا الاختلاف في أمر الميراث، فهذه مسألة أخرى سأذكرها -إن شاء الله تعالى- في حينها.
ويشترط في إيقاع الطلاق ألا يكون عقله قد زال.
وجاء في "الفتاوى" (31/ 368): "وسئل الشيخ -رحمه الله- عن امرأة مزوجة، ولزوجها ثلاث شهور وهو في مرض مزمن، فطلب منها شراباً فأبطأت عليه، فنفر منها، وقال لها: أنت طالق ثلاثة، وهي مقيمة عنده تخدمه، وبعد عشرين يوماً توفي الزوج: فهل يقع الطلاق؛ وهل إِذا حلف على حُكم هذه الصورة يحنث؟ وهل للوارث أن يمنعها الإِرث؟
فأجاب: أمّا الطلاق فإِنه يقع إِن كان عاقلاً مختاراً؛ لكن ترثه عند جمهور أئمة الإِسلام، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي في القول القديم، كما قضى به عثمان بن عفان في امرأة عبد الرحمن بن عوف، فإِنه طلقها في مرض موته، فورَّثها منه عثمان، وعليها أن تعتد أبعد الأجلين: من عدة الطلاق، أو عدة الوفاة، وأمّا إِن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه".
وفيه (ص 369): "وسُئل -رحمه الله- عن رجل زوَّج ابنته، وكتَب الصداق عليه، ثمّ إِن الزوج مرض بعد ذلك، فحين قَوِيَ عليه المرض فقبْل موته بثلاتة أيام طلق الزوجة؛ ليمنعها من الميراث: فهل يقع هذا الطلاق؟ وما الذي يجب لها في تركته؟
فأجاب: هذه المطلقة إِنْ كانت مطلقة طلاقاً رجعياً، ومات زوجها، وهي في العدة وَرِثتْهُ باتفاق المسلمين، وإن كان الطلاق بائناً كالمطلقة ثلاثاً؛ ورثته

(5/324)


أيضاً عند جماهير أئمة الإِسلام، وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية طلقها ثلاثاً في مرض موته، فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترِث منه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف.
وإِنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير، فإِنه قال: لو كنت أنا لم أورثها، وابن الزبير قد انعقد الإِجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، وإِلى ذلك ذهب أئمة التابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أهل العراق: كالثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، ومذهب أهل المدينة، كمالك، وأصحابه، ومذهب فقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل، وأمثاله، وهو القول القديم للشافعي.
وفي الجديد وافق ابن الزبير؛ لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق، فكذلك لا ترثه هي، ولأنها حرمت عليه بالطلاق، فلا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها، فتكون أجنبية، فلا ترث ... ".
وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 198): "ونكاح المريض في مرض الموت صحيح، وترث زوجته منه في قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إِلا مَهر المِثل، لا الزيادة عليه بالاتفاق". انتهى.
وكما يقع النكاح في مِثل هذا الحال يقع الطلاق، كلاهما بشرطه، والله -تعالى- أعلم.

متى يطلّق القاضي؟
1 - عدم الإِنفاق:
جاء في "المحلّى" (11/ 326) تحت المسألة (1931): "وَمن منع النفقة

(5/325)


والكسوة وهو قادر عليها؛ فسواء كان غائباً أو حاضراً: هو دَيْن في ذمته يؤخذ منه أبداً، ويُقضى لها به في حياته وبعد موته ... ".
وفيه: (ص 327) تحت المسألة (1932): "فمن قدر على بعض النفقة والكسوة، فسواء قلَّ ما يقدر عليه أو كثُر: الواجب أن يقضي عليه بما قدر، ويسقط عنه ما لا يقدر، فإِن لم يقدر على شيء من ذلك سقط عنه، ولم يجب أن يقضى عليه بشيء، فإِن أيسر بعد ذلك قضى عليه من حين يوسر، ولا يقضى عليه بشيء مما أنفقته على نفسها من نفقة أو كسوة مدة عسره، لقول الله -عزّ وجلّ-: {لا يكلف الله نفساً إِلا وُسْعَها} (1)، وقوله -تعالى-: {لا يكلّف الله نفساً إِلا ما آتاها} (2). فصحَّ يقيناً أن ما ليس في وسعه، ولا آتاه الله -تعالى- إِياه، فلم يكلِّفه الله -عزّ وجلّ- إِياه، وما لم يكلفه الله -تعالى- فهو غير واجب عليه، وما لم يجب عليه؛ فلا يجوز أن يقضى عليه به أبداً أيسر أو لم يوسر.
وهذا بخلاف ما وجب لها من نفقة أو كسوة؛ فمنعها إِياها وهو قادر عليها، فهذا يؤخذ به أبداً أعسر بعد ذلك أو لم يُعسر، لأنه قد كلَّفه الله -تعالى- إِياه، فهو واجب عليه، فلا يسقطه عنه إِعساره، لكن يوجب الإِعسار أن ينظر به إِلى الميسرة فقط، لقوله -عزّ وجلّ-: {وإِن كان ذو عسرة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرة} (3) ".
__________
(1) البقرة: 286.
(2) الطلاق: 7.
(3) البقرة: 280.

(5/326)


وجاء في "السيل الجرار" (2/ 452) -بحذف-: "قد ذهب الجمهور كما حكاه ابن حجر في "فتح الباري" إِلى ثبوت الفسخ إِذا لم يجد الرَّجل ما ينفق على امرأته، وهو الحق لقوله -عزّ وجلّ-: {ولا تُمسكوهنّ ضراراً} (1) والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول. وأي ضرار أعظمِ من أن يبقيها في حَبْسِهِ وتحت نكاحه بغير نفقة؟! فإِنَّ هذا ممسك لها ضراراَ بلا شك ولا شبهة، بل ممسك لها مع أشد أنواع الضرار، فإِنَّ قوام الأنفس لا يكون إِلا بالطعام والشراب. ولقول الله -عزّ وجلّ-: {فإِمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان} (2) فخيّر الأزواج بين الأمرين، فليس لهم فسحة في المعاملة للزوجات بأحدهما.
فمن لم يُمسك بمعروف كان عليه التسريح بإِحسان، فإِنْ لم يفعل كان على حُكَّام الشريعة أن يوصلوا المُمْسَكَةَ ضراراً بحكم الله -عزّ وجلّ- فيفسخوا نكاحها.
وأين الإِمساك بمعروف من رجل ترك زوجته في مضايق الجوع، ومتالف المخمصة، وعرَّضها للهلاك، وحبَسها عن طلب رزق الله -عزّ وجلّ- وأراد أن تكون له فراشاً، وهي بهذه الحالة المنكرة والصفة المستشنعة، وكل من يعرف الشريعة يعلم أن هذا منكر من منكراتها ومُحرَّم من مُحرَّماتها ولقوله -عزّ وجلّ-: {ولا تضاروهنّ} (3) وهذا من أعظم أنواع الضرار وأشدها كما سلف.
__________
(1) البقرة: 231.
(2) البقرة: 229.
(3) الطلاق: 6.

(5/327)


وأيضاً قد شرع الله -سبحانه- بعْث الحَكَمين بين الزَّوجين عند مجرَّد الشِّقاق وفوَّض إِليهما ما فوَّضه إِلى الأزواج، فإِذا كان لهما التفرقة بمجرد وجود الشقاق؛ فكيف لا يكون لحاكم الشريعة الفسخ بعد وصول المرأة إليه؛ تشكو إِليه ما مسَّها من الجوع، ونزَل بها من الفاقة الشديدة.
والحاصل أن بعض ما ذكَرناه يصلح مستنداً لفسخ النكاح في هذه الحالة ...
وأمّا استدلال المانعين من الفسخ بقوله -سبحانه-: {لينفق ذو سَعَةٍ مِن سَعَته ومن قُدِرَ عليه رزقُهُ فلينفق مما آتاه الله} (1) فيجاب عنه بأنا لا نكلفه بأن ينفق زيادة على ما آتاه، بل دفعنا الضرار عن المرأة وخلَّصناها من حباله لتذهب تطلب لنفسها رزق الله -عزّ وجلّ- بالتكسب، أو تتزوّج آخر يقوم بمطعمها ومشربها".
جاء في "الروضة الندية" (2/ 112): "وأمّا التفريق بين المعسِر وبين امرأته، فأقول: إِذا كانت المرأة جائعة، أو عارية في الحالة الراهنة فهي في ضرار، والله -تعالى- يقول: {ولا تضاروهنّ} (2) وهي أيضاً غير معاشَرة بالمعروف، والله يقول: {وعاشروهنّ بالمعروف} (3) وهي أيضاً غير ممسَكة بمعروف، والله يقول: {فإِمساك بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان} (4) بل هي ممسَكة
__________
(1) الطلاق: 7.
(2) الطلاق: 6.
(3) النساء: 19.
(4) البقرة: 229.

(5/328)


ضراراً، والله يقول: {ولا تمسكوهنّ ضراراً} (1) والنّبيّ صلّى الله -تعالى- عليه وآله وسلّم- يقول: "لا ضرر ولا ضرار" (2).
ثمّ من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعدم النفقة؛ أن الله -سبحانه- قد شرع الحَكَمين بين الزوجين عند الشقاق، وجعل إِليهما الحُكْم بينهما، ومن أعظم الشقاق أن يكون الخصام بينهما في النفقة. وإذا لم يمكنهما دفْع الضرر عنها إِلا بالتفريق، كان ذلك إِليهما. وإذا جاز ذلك منهما، فجوازه من القاضي أولى". انتهى.
و"كتب عمر إِلى أُمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن يُنفقوا أو يُطلّقوا، فإِنْ طلَّقوا بعَثوا بنفقة ما مضى، قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن عمر" (3).

2 - غَيبة الزوج:
*مِن حق الزوجة أن تطلب التفريق إِذا غاب عنها زوجها، ولو كان له مالٌ تنفق منه؛ إِذا كان غياب الزوج لغير عُذر مقبول، مع حصول التضرّر بغيابه* (4).
__________
(1) البقرة: 231.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وأحمد وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896) وتقدّم.
(3) أخرجه الشافعي وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (2159)، وتقدّم. والصَّواب أنَّه برقم (2158) كما في التخريج الثاني وذلك لسقوط رقم (2157) سهواً.
(4) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 58) -بحذف وتصرّف-.

(5/329)


وثبت أنه فُقد رجل في عهد عمر -رضي الله عنه- فجاءت امرأته إِلى عمر فَذكَرت ذلك له فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، فَفَعَلت، ثمّ أتته فقال: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشراً فَفَعَلت، ثمّ أتته فقال: أين وليُّ هذا الرجل؟ فجاء وليُّه فقال: طلِّقها ففعَل. فقال عمر: انطلقي فتزوجي من شئت.
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "قضى عمر -رضي الله عنه- في المفقود تَرَبَّصُ امرأته أربع سنين، ثمّ يطلقها وليّ زوجها، ثمّ تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا، ثمّ تزوج" (1).
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "أنّ رجلاً من قومه من الأنصار خرج يصلّي مع قومه العشاء، فسَبَتْهُ الجنّ، فَفُقد، فانطلقت امرأته إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقصَّت عليه القصَّة، فسأل عنه عمر قومه، فقالوا: نعم؛ خرج يصلّي العشاء فَفُقد، فأمرها أن تربص أربع سنين، فلما مضت الأربع سنين؛ أتته فأخبرته، فسأل قومها؟ فقالوا: نعم؛ فأمرها أن تتزوج، فتزوجت.
فجاء زوجها يخاصم في ذلك إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يغيب أحدكم الزمان الطويل، لا يعلم أهله حياته، فقال له: إِنّ لي عذراً يا أمير المؤمنين، فقال: وما عذرك؟ قال: خرجتُ أصلِّي العشاء، فسَبَتْنِي الجنّ، فلبثتُ فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جنٌّ مؤمنون -أو قال: مسلمون، شك سعيد- فقاتلوهم، فظهَروا عليهم، فسبَوا منه سبايا، فسَبَوني فيما سبَوا منهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً ولا يحلُّ لنا سبيُك، فخيروني بين المُقَامِ وبين القُفُول إِلى أهلي، فاخترت القفول إِلى أهلي،
__________
(1) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1708).

(5/330)


فأقبلوا معي، أمَّا بالليل فليس يحدثوني، وأمَّا بالنّهار فعصاً أتبعها.
فقال له عمر -رضي الله عنه-: فما كان طعامك فيهم؟ قال: الغول، وما لم يذكر اسم الله عليه، فال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجدف، قال قتادة: والجدف ما لا يخمر من الشراب قال: فخيَّره عمر بين الصَّداق وبين امرأته" (1).
والخلاصة: أنّ عمر -رضي الله عنه- أمَرها أن تنتظر أربع سنين، وبعد ذلك تربص أربعة أشهر وعشراً ثمّ الزَّواج.

3 - التطليق للضَّرر:
*ذهب بعض العلماء أن للزوجة أن تطلب من القاضي التفريق، إِذا ادّعت إِضرار الزوج بها إِضراراً؛ لا يُستطاع معه دوام العِشرة بين أمثالهما، مثل ضَرْبها، أو سبِّها، أو إِيذائها بأي نوع من أنواع الإِيذاء الذي لا يُطاق، أو إكراهها على مُنكَر؛ من القول أو الفعل، فإِذا ثبتت دعواها لدى القاضي، ببيِّنة أو اعتراف الزوج، وكان الإِيذاء مما لا يُطاق معه دوام العِشرة بين أمثالهما، وعجز القاضي عن الإِصلاح بينهما* (2) تولى القاضي تطليقها بعد التثبت من ذلك.
وقد قال -سبحانه-: {فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان}.
فوجبَ على من لم يُمسِك بالمعروف أن يُسرّح بإِحسان، فإِذا لم يفعل؛ شكت المرأة أمرها إِلى القاضي وحَكم بذلك.
وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (3).
__________
(1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (1709).
(2) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 56).
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1895) وأحمد وغيرهما، =

(5/331)