الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الخُلع
* الحياة الزوجية لا تقوم إِلا على السكن، والمودة والرحمة، وحُسن المعاشرة، وأداء كل من الزوجين ما عليه من حقوق، وقد يحدُث أن يَكرَه
__________
= وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (896)، وتقدّم.
(1) البقرة: 236.
(2) انظر صحيح البخاري: 5255، فإِنها رواية مفسِّرة لها لا بدَّ منها.
(3) ثياب كَتَّان بيض، والرازقيّ: الضعيف من كل شيء "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 5256، 5257.
(5) أخرجه البيهقي وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2281).

(5/332)


الرجل زوجته، أو تكره هي زوجها، والإِسلام في هذه الحال يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية؛ قال الله -تعالى-: {وعاشروهنّ بالعروف فإِنْ كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويَجْعَلَ الله فيه خيراً كثيراً} (1).
وفي الحديث الصحيح: "لا يَفْرَكْ (2) مؤمن مؤمنة؛ إِنْ كره منها خُلُقاً، رضي منها آخر" (3). إِلا أن البغض قد يتضاعف، ويشتد الشقاق، ويصعب العلاج، وينفد الصبر، ويذهب ما أُسِّس عليه البيت؛ من السكن، والمودة، والرحمة، وأداء الحقوق، وتصبح الحياة الزوجية غير قابلة للإِصلاح، وحينئذ يرخّص الإِسلام بالعلاج الوحيد الذي لا بد منه.
فإِنْ كانت الكراهية من جهة الرجل، فبَيدِه الطلاق، وهو حقٌّ من حقوقه، وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله، وإِنْ كانت الكراهية من جهة المرأة، فقد أباح لها الإِسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخُلع، بأن تعطي الزوج ما كانت أخذتْ منه، باسم الزوجية؛ ليُنهي علاقته بها.
وفي ذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جُناح عليهما فيما افتدت به} (4).
__________
(1) النساء: 19.
(2) الفَرك: البُغضُ.
(3) أخرجه مسلم: 1469.
(4) البقرة: 229.

(5/333)


وفي أخْذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف؛ إِذ إِنَّه هو الذي أعطاها المهر، وبذَل تكاليف الزواج، والزفاف، وأنفقَ عليها، وهي التي قابلت هذا كلّه بالجحود، وطلبَت الفراق، فكان من النَّصَفَة أن تَرُدَّ عليه ما أخذَت.
وإنْ كانت الكراهية منهما معاً؛ فإِنْ طلَب الزوج التفريق، فبيده الطلاق، وعليه تَبِعاتُه، وإنْ طلبَت الزوجة الفُرقة، فبيدها الخُلع، وعليها تَبِعاتُهُ كذلك"* (1).

تعريفه:
الخُلع: أصْله من خَلْع الثوب؛ لأنّ المرأة لباسُ الرجل معنىً، وضُمّ مصدره تفرقةً بين الحِسّي والمعنوي وهو طلب المرأة الفراق من زوجها؛ على عِوَضٍ تبذلُه له (2).
وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 584): "الخلع: وهو الافتداء إِذا كرهت المرأة زوجها، فخافت أن لا توفيه حقَّه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقَّها، فلها أنْ تفتدي منه ويطلِّقها، إنْ رضي هو؟ وإلا لم يجبر هو؟ ولا أجبرت هي؟ إِنما يجوز بتراضيهما".
وجاء في "زاد المعاد" (5/ 196): "وفي تسميته -سبحانه- الخُلع فديةً؛ دليلٌ على أنّ فيه معنى المعاوضة ولهذا اعتُبر فيه رضا الزوجين".
وسُئل شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: ما هو الخُلع الذي جاء به الكتاب والسّنة؟
فأجاب: الخُلع الذي جاء به الكتاب والسّنة: أن تكون المرأة كارهة للزوج
__________
(1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنة" (3/ 60).
(2) ملتقط من "النهاية" و"الفتح" (9/ 395).

(5/334)


تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها؛ كما يفتدي الأسير (1).

مشروعيته:
قال الله -تعالى-: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنّ امرأة ثابت بن قيس أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتِبُ عليه في خُلقٍ ولا دين، ولكنّي أكره الكُفر في الإِسلام (3). فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أترُدّين عليه حديقته؟ قالت: نعم؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقبَل الحديقة وطلّقها تطليقة" (4).

اشتراط النشوز (5) فيه وعدم إِقامة حدود الله -تعالى-:
جاء في "السيل الجرار" (2/ 364): "وأمّا اشتراط النشوز منها فلقوله
__________
(1) انظر "الفتاوى" (32/ 282).
(2) البقرة: 229.
(3) قال الحافظ في "الفتح" (9/ 400): يحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير إِذ هو تقصير المرأة في حق الزوج. وقال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإِسلام ما ينافي حكمه من نشوز وفَرك وغيره؛ مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر. ويحتمل أن يكون في كلامها إِضمار، أي: أكره لوازم الكفر من المعاداة والشقاق والخصومة.
(4) أخرجه البخاري: 5273.
(5) النُّشوز: هو الارتفاع والمرأة النَّاشِزة: هي المرتفعة على زوجها، التَّاركة =

(5/335)


-عزّ وجلّ-: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيمتوهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1) فقيَّد -سبحانه- حلّ الافتداء بمخافتهما ألا يقيما حدود الله.
وظاهر الآية أن الخُلع لا يجوز إِلا بحصول المخالفة منهما جميعاً، بأن يخاف الزوج أن لا يمسكها بالمعروف، وتخاف الزوجة أن لا تطيعه كما يجب عليها.
ولكنّه لمّا ثبتَ حديث ابن عباس عند البخاري وغيره (2) ... دلّ ذلك على أنّ المخافة لعدم إِقامة حدود الله من طريقها كافية في جواز الاختلاع".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "ثمّ قد قال طائفة كثيرة من السلف، وأئمة الخلف: إِنه لا يجوز الخُلع إِلا أنْ يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قَبول الفدية، واحتجوا بقوله -تعالى-: {ولا يحِلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يُقيما حُدود الله ... } الآية، قالوا: فلم يشرع الخُلع إِلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إِلا بدليل، والأصل عدمه.
وممن ذهب إِلى هذا ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، وعطاء، والحسن، والجمهور؛ حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئاً وهو مضارّ لها وجب ردّه إِليها، وكان الطلاق رجعياً؛ قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ الناس عليه.
وذهب الشافعي -رحمه الله- إِلى أنه يجوز الخُلع في حالة الشقاق، وعند
__________
= لأمره المعرضة عنه المبغضة له -وسيأتي إِنْ شاء الله تعالى-.
(1) البقرة: 229.
(2) ثمّ ساق الحديث بتمامه.

(5/336)


الاتفاق بطريق الأولى والأحرى (1). انتهى.

لا يجوز التضييق على الزوجة لأجل الافتداء:
قال الله -تعالى-: (أسكنوهنّ مِنْ حيثُ سكنتم مِن وُجدكم (2) ولا تضارُّوهن لتُضيّقوا عليهنّ} (3).
قال مقاتِل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه (4).
وجاء في "تفسير ابن كثير": "وقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}. أي: لا يحل لكم أن تضاجروهنّ وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهنّ من الأصدقة أو ببعضه؛ كما قال -تعالى-: {ولا تعضُلُوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إِلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنَة} (5) فأما إِنْ وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها، فقد قال -تعالى-: {فإِن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً} (6).
__________
(1) قلت: بالشّرط المبيّن سابقاً؛ وهو عدم اصطناع الشقاق؛ ليؤول الأمر إِلى الافتداء.
(2) أي: سعتكم.
(3) الطلاق: 6.
(4) "تفسير ابن كثير".
(5) النساء: 19.
(6) النساء: 4.

(5/337)


وأمّا إِذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل، وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذْلها، ولا عليه في قَبُول ذلك منها؛ ولهذا قال -تعالى-: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الآية.
فأمّا إِذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جرير: [وساق بإِسناده إِلى ثوبان -رضي الله عنه-] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنّة" (1).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المختلعات (2) والمنتزعات هنّ المنافقات" (3).

الخُلع بتراضي الزوجين (4):
والخُلع يكون بتراضي الزوج والزوجة، فإِذا لم يتم التراضي منهما، فللقاضي إِلزام الزوج بالخلع؛ لأن ثابتاً وزوجته رفَعا أمرهما للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وألزمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يقبل الحديقة، ويطلِّق، كما تقدّم في الحديث.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1947)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1672)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2035)، وتقدّم.
(2) يعني: اللاتي يطلُبن الخُلع بغير عُذرٍ.
(3) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (947)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3238) وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (632)، وتقدّم.
(4) عن "فقه السّنة" (3/ 65 - 66).

(5/338)


جواز الخُلع في الطُّهر والحيض:
*يجوز الخلع في الطهر والحيض، ولا يتقيد وقوعه بوقت؛ لأن الله -سبحانه- أطلقه، ولم يقيده بزمن دون زمن؛ قال الله -تعالى-: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1)، ولأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أطلق الحُكم في الخُلع؛ بالنسبة لامرأة ثابت بن قيس من غير بحث، ولا استفصال عن حال الزوجة، وليس الحيض بأمر نادر الوجود، بالنسبة للنساء.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ترْك الاستفصال في قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل؛ هل هي حائض أم لا؟ * (2).
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله بعد أن بيّن أنّ الخلع كافتداء الأسير-: "ولهذا يُباح في الحيض بخلاف الطلاق" (3).

هل يجوز للزّوج أخْذ الزيادة على المهر؟
ذهب بعض العلماء إِلى جواز أخْذ الزيادة لعموم قوله -تعالى-: {فلا جُناح عليهما فيما افتدت به} وقالوا: دلّ على جوازه قلّ أو كَثُر.
وهذا سائغٌ لولا التقييد الذي جاء به الكتاب والسّنة.
جاء في "السيل الجرار" (2/ 365) تعليقاً على عبارة: "ولا يحلّ منها
__________
(1) البقرة: 229.
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (3/ 66).
(3) انظر "الفتاوى" (32/ 91) وستأتي هذه العبارة في آخر مبحث الخلع -إِن شاء الله تعالى-.

(5/339)


أكثر ممّا لزم بالعقد": ظاهر القرآن يدلّ على هذا فإِنه -سبحانه- قال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً} (1) إِلى آخر الآية فإِنها واردة في أخذ الزوج لشىء مما أتاها فإِذا أخذ منها زيادة على ما آتاها فقد خالف ما في الكتاب العزيز.
ثمّ قال: ويدلّ على هذا أيضاً؛ ما أخرجه ابن ماجه ولفظ الحديث: "عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلُق، ولكني أكره الكُفر في الإِسلام، لا أطيقه بغضاً، فقال لها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أترُّدِّينَ عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد" (2).

المختلعة تعتدّ بحيضة واحدة:
عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء؛ أنَّها اختلعت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فأمَرَها النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أُمِرت أنْ تعتدَّ بِحَيضَة (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النّبىّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدتها حيضة" (4).
وعن ثابت بن قيس بن شمّاس: "أنه ضرب امرأته فكَسَر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبي، فأتى أخوها يشتكيه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل
__________
(1) البقرة: 229.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1673)، والبيهقي، وانظر "الإِرواء" (2036).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (945) وغيره.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1950).

(5/340)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى ثابت، فقال له: خُذ الذي لها عليك، وخلّ سبيلها، قال: نعم. فأمَرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتربص حيضة واحدة، فتلحق بأهلها" (1).

هل الخُلع فسْخٌ أم طلاق (2):
جاء في "الفتاوى" (32/ 289). "وسئل -رحمه الله تعالى-: عن الخُلع هل هو طلاق محسوب من الثلاث؟ وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته؟
فأجاب -رحمه الله تعالى-: هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف، فظاهر مذهب الإِمام أحمد وأصحابه؛ أنه فرقة بائنة وفسخٌ للنِّكاح، وليس من الطلاق الثلاث. فلو خلَعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجاً غيره، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من أصحابه ونصروه، وطائفة نصروه ولم يختاروه؛ وهذا قول جمهور فقهاء الحديث: كإِسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة؛ وهو ثابت عن ابن عباس وأصحابه: كطاوس، وعكرمة.
والقول الثاني: أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث، وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الآخر؛ ويقال: إِنه الجديد، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، ويُنقل ذلك عن عمر، وعثمان،
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3272) وأبو داود نحوه "صحيح سنن أبي داود" (1949).
(2) انظر للمزيد -إِن شْئت- ما قاله ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" تحت المسألة (1982).

(5/341)


وعلي، وابن مسعود؛ لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث كابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء؛ ولم يصححوا إِلا قول ابن عباس: إِنه فسْخ وليس بطلاق.
وأمّا الشافعي وغيره فقال: لا نعرف حال من روى هذا عن عثمان: هل هو ثقة أم ليس بثقة؟ فما صححوا ما نقل عن الصحابة؛ بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته، وما علمت أحداً من أهل العلم بالنقل صَحَّحَ ما نُقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث؛ بل أثبت ما في هذا عندهم ما نُقل عن عثمان، وقد نُقل عن عثمان بالإِسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرئ بحيضة، وقال: لا عليك عدة.
وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة؛ وليس بطلاق؛ إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الاعتداد بثلاثة قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين؛ بخلاف الخلع؛ فإِنه قد ثبت بالسّنة وآثار الصحابة أن العدة فيها استبراء بحيضة، وهو مذهب إِسحاق، وابن المنذر، وغيرهما، وإحدى الروايتين عن أحمد.
وقد رد ابن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخُلْع مرة قبل أن تنكح زوجاً غيره، وسأله إِبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاَّه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له: إِنّ عامّة طلاق أهل اليمن هو الفداء؟ فأجابه ابن عباس بأن الفداء ليس بطلاق؛ ولكن الناس غلطوا في اسمه.
واستدل ابن عباس بأن الله -تعالى- قال: {الطلاق مرتان فإِمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإِحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إِلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإِن خفتم ألا يُقيما حدود الله فلا جناح

(5/342)


عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظلمون * فإِنّ طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره} (1).
قال ابن عباس: فقد ذكر الله -تعالى- الفدية بعد الطلاق مرتين، ثمّ قال: {فإِنّ طلّقها فلا تحل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره} وهذا يدخل في الفدية خُصوصاً، وغيرها عموماً، فلو كانت الفدية طلاقاً لكان الطلاق أربعاً. وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدّم اتبعوا ابن عباس".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (32/ 91): " ... ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إِلى أن الخلع فسْخ للنكاح؛ وليس هو من الطلقات الثلاث، كقول ابن عباس، والشافعي وأحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير؛ وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل، ولهذا يباح في الحيض؛ بخلاف الطلاق. وأمّا إِذا عدل هو عن الخلع وطلقها إِحدى الثلاث بعِوَض فالتفريط منه".
وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 196): "وفي أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المختلعة أن تعتدَّ بحيضة واحدة دليل على حُكمين: أحدهما (2): أنه لا يجب عليها ثلاث حيض، بل تكفيها حيضةٌ واحدة.
وهذا كما أنه صريحُ السنة، فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والرُّبَيِّع بِنْت مُعوّذ، وعمها وهو من كبار
__________
(1) البقرة: 229 - 230.
(2) لم أجِد كلمة ثانيهما أو ما في معناها فلعلّ فِعلَه مضمنٌ في السياق.

(5/343)


الصحابة، لا يُعرف لهم مخالف منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أنه سمع الرُّبَيِّعْ بِنْت مُعوّذ بن عفراء وهي تُخبر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمّها إِلى عثمان بت عفان، فقال له: إِن ابنة مُعَوّذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لتنتقل ولا ميراث بينهما، ولا عدة عليها إِلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حَبَلٌ، فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرنا وأعلمنا.
وذهب إِلى هذا المذهب إِسحاق بن راهويه، والإِمام أحمد في رواية عنه، اختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية.
قال من نصر هذا القول: هو مقتضى قواعِدِ الشريعة، فإِن العدة إِنما جُعلت ثلاثَ حيض لِيَطُول زمن الرّجعة، فيتروّى الزوج، ويتمكّن من الرجعة في مدة العِدة، فإِذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل، وذلك يكفي فيه حيضة، كالاستبراء، قالوا: ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثاً، فإِن باب الطلاق جُعِلَ حكمُ العدة فيه واحداً بائنة ورجعية.
قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وهو مذهب ابن عباس، وعثمان، وابن عمر، والرُّبَيِّع، وعمّها، ولا يصحّ عن صحابى أنه طلاق البتة، فروى الإِمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أنه قال: الخُلع تفريق، وليس بطلاق.
وذكر عبد الرزاق، عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، أن إِبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثمّ اختلعت منه:

(5/344)


أينكحِها؟ قال ابن عباس: نعم، ذكَر الله الطلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع بين ذلك.
وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق، دلّ على أنها من غير جنسه، فهذا مقتضى النصّ، والقياس، وأقوال الصحابة، ثمّ مَن نَظر إِلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها؛ يَعُدُّ الخُلع فسخاً بأي لفظ كان حتى بلفظ الطلاق، وهذا أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا، قال: وهذا ظاهر كلام أحمد، وكلام ابن عباس وأصحابه.
قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: ما أجازه المال، فليس بطلاق. قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي كان يذهب إِلى قول ابن عباس، وقال عمرو عن طاوس عن ابن عباس: الخلعُ تفريقٌ وليس بطلاق. وقال ابن جريج عن ابن طاوس: كان أبي لا يرى الفداء طلاقاً ويُخَيّرُهُ.
ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها، واعتبرها في أحكام العُقود، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعيّ في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها، وبالله التوفيق.
ومما يدلُّ على هذا، أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتدّ بحيضة، وهذا صريح في أنه فسْخ، ولو وقع بلفظ الطلاق.
وأيضاً فإِنه -سبحانه- علّق عليه أحكام الفِدية بكونه فدية، ومعلوم أنّ الفدية لا تختص بلفظ، ولم يُعيِّن الله -سبحانه- لها لفظاً معيّناً، وطلاق الفداء

(5/345)


طلاقٌ مقيّد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطْلَق، كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق.
مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 285): "وسئل شيخ الإِسلام- رحمه الله- عن ثيِّب بالغ لم يكن وليها إِلا الحاكم، فزوَّجها الحاكم لعدم الأولياء، ثمّ خالعها الزوج وبرَّأته من الصداق بغير إِذن الحاكم: فهل تصح المخالعة والإِبراء؟
فأجاب: إِذا كانت أهلاً للتبرع جاز خلْعها وإبراؤها بدون إِذْن الحاكم".

علاج نشوز الرجل:
قال الله -تعالى-: {وإِنِ امرأةٌ خافت مِن بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصُّلح خير وأُحضرت الأنفسُ الشحَّ وإِن تُحسنوا وتتّقوا فإِنّ الله كان بما تعملون خبيراً} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يقول -تعالى- مخبراً ومشرعاً عن حال الزوجين: تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.
فالحالة الأولى: ما إِذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يُعِرض عنها، فلها أن تُسقِط حقَّها أو بعضَه، من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جُناح عليها في بذْلها ذلك له، ولا عليه في قَبوله منها، ولهذا قال -تعالى-: {فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً} ثم قال: {والصلح خير} أي: من الفراق. وقوله:
__________
(1) النساء: 128.

(5/346)


{وأُحضرت الأنفس الشح} أي: الصُّلح عند المُشاحَّة خير من الفراق؛ ولهذا لما كَبِرَتْ سودة بنت زمعة عزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراقها، فصالحته على أن يُمسكها، وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك".
ثم ذَكر -رحمه الله- النصوص المتعلقة بذلك (1)، منها: حديث عائشة - رضي الله عنها- أنّ سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة" (2).
وعنها أيضاً: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً} قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حِلٍّ، فنزلت هذه الآية في ذلك" (3).
وفي رواية أخرى عنها -رضي الله عنها-: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً} قالت: هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كِبَراً أو غيرَه فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت. قالت: ولا بأس إِذا تراضيا" (4).
وفي رواية عنها -رضي الله عنها- كذلك: " {وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً ... } قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلّقني، ثمّ تَزَوَّجْ غيري،
__________
(1) وسأذكرها أو ما هو في معناها بإِذن الله -تعالى-.
(2) أخرجه البخاري: 5212، ومسلم: 1463.
(3) أخرجه البخاري: 4601.
(4) أخرجه البخاري: 2694، ومسلم: 3021.

(5/347)


فأنت في حِلٍّ من النفقة عليّ والقسمة لي، فذلك قوله -تعالى-: {فلا جناح عليهما أن يُصْلحا بينهما صلحاً والصُّلح خير} " (1).
ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله {والصُّلح خير}: الظاهر من الآية: أنّ صُلحهما على ترْك بعض حقّها للزوج، وقَبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسَك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة بنت زمعة على أن تركَت يومها لعائشة -رضي الله عنها- ولم يفارقها بل ترَكَها من جملة نسائه، وفِعله ذلك لتتأسى به أمّته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقّه -عليه الصلاة والسلام- ولما كان الوفاق أحبَّ إِلى الله -عزّ وجلّ- من الفراق قال: {والصلح خير} ".
ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {وإِن تُحسنوا وتتّقوا فإِنّ الله كان بما تعملون خبيراً} أي: وإن تتجشَّموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتَقسموا لهن أسوة أمثالهنّ، فإِنَّ الله عالم بذلك، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء".

علاج نشوز المرأة:
قال الله -تعالى-: {واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهن واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإِنْ أطعْنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إِنّ الله كان عليّاً كبيراً} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله - في "تفسيره": "وقوله: {واللاتي تخافون نشوزهنّ} أي: والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهنّ -والنشوز:
__________
(1) أخرجه البخاري: 5206، ومسلم: 3021.
(2) النساء: 34.

(5/348)


هو الارتفاع- فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له؛ [وتقدَّم] فمتى ظَهَر له منها أمارات النشوز؛ فليَعظها وليُخوِّفها عقاب الله في عصيانه، فإِنّ الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحَرَّم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإِفضال.
وقوله: {واهجروهنّ في المضاجع} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الهجران: ألاَّ يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره.
وكذا قال غير واحد، وزاد آخرون منهم، السدي، والضحاك، وعكرمة، وابن عباس -في رواية:-: "ولا يُكَلِّمها مع ذلك ولا يُحدِّثها".
قال علي بن أبي طلحة -أيضاً- عن ابن عباس: يَعِظها، فإِنْ هي قَبِلت وإلا هجَرها في المضجع، ولا يكلّمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.
وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن كعب، ومقسم، وقتادة: الهجر: هو ألا يضاجعها.
ثمّ ساق الحديث: "فإِن خفتم نشوزهنّ فاهجروهنّ في المضاجع، قال حماد: يعني النكاح" (1).
ثم ذكَر حديث معاوية بن حيدة القشيري قال: "قلت: يا رسول الله! ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إِلا في البيت" (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2027) وانظر "الإرواء" (2027)
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1875)، وابن ماجه "سنن ابن ماجه" (1500)، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإرواء" (2033)، وتقدّم.

(5/349)


ثم قال -رحمه الله-: "وقوله: {واضربوهنّ} أي: إِذا لم يرتدِعْن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح كما ثبت في "صحيح مسلم" (1) عن جابر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه قال في حَجّة الوداع: فاتقوا الله في النّساء، فإِنكم أخذتموهُنّ بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشَكُم أحداً تكرهونه، فإِنْ فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف".
وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضرباً غير مبرِّح؛ قال الحسن البصري: يعني: غير مؤثِّر. وقال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً، ولا يؤثر فيها شيئاً.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإِنْ أقبلت وإلا فقد أذِن الله لك أن تضرب ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً، فإِنْ أقبلت وإِلا فقد حل لك منها الفدية.
ثمّ ذكر الحديث: "لا تضربوا إِماء الله، فجاء عمر -رضي الله عنه- إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ذَئِرْن (2) النساء على أزواجهنّ، فرخصّ في ضربهنّ، فأطاف بآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء كثير يشكون أزواجهنّ، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهنّ، ليس أولئك بخياركم" (3).
ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {فإِنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً}
__________
(1) برقم: 1218.
(2) ذَئرْن: أي: اجترأن ونشزن وغلبن. "عون".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1879)، وابن ماجه "صحيح سنن =

(5/350)


أي: فإِذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، ممّا أباحه الله له منها، فلا سبيلَ له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها".
وقوله: {إِنّ الله كان عليَّاً كبيراً} تهديد للرجال إِذا بغوا على النساء من غير سبب؛ فإِن الله العلي الكبير وليُّهنَّ، وهو ينتقم ممن ظلمهنّ وبغى عليهنّ.

هل للزَّوجة النَّاشِز نفقة أو كِسْوَة؟
جاء في "الفتاوى" (32/ 278): "وسئل -رحمه الله-: عن رجل له زوجة، وهي ناشِز تمنعه نفسها: فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها؟
فأجاب: الحمد لله. تسقط نفقتها وكسوتها إِذا لم تُمكِّنه من نفسها، وله أنْ يضربها إِذا أصرَّت على النُّشوز. ولا يحِلُّ لها أن تمنع من ذلك إِذا طالبَها به؛ بل هي عاصِية لله ورسوله".
وفيه (ص 279): "وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله-: عن رجلٍ له امرأة، وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مُدَّة ثمانية شهور، ولم ينتفع بها؟
فأجاب: إِذا نشزت عنه فلا نفقة لها، وله أن يضربها إِذا نشزت؛ أوآذته، أو اعتدت عليه".

ماذا إِذا وقع الشِّقاق بين الزوجين:
قال الله -تعالى-: {وإِنْ خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفِّق الله بينهما إِنَّ الله كان عليماً
__________
= ابن ماجه" (1615)، وانظر "المشكاة" (3261)، و"غاية المرام" (251).

(5/351)


خبيراً} (1). قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" (2): "ذكر -تعالى- الحال الأول، وهو إِذا كان النفور والنشوز من الزوجة؛ ثمّ ذكَر الحال الثاني وهو: إِذا كان النفور من الزوجين فقال -تعالى-: {وإِنْ خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها}.
قال الفقهاء: إِذا وقَع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إِلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإِنْ تفاقم أمرُهما وطالت خصومتهما، بعَث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق.
وتشوّف الشارع إِلى التوفيق؛ ولهذا قال -تعالى-: {إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما} (3).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أمَر الله -عزّ وجلّ- أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مِثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإِن كان الرجل هو المسيء، حجبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، وإنْ كانت المرأة هي المسيئة، قَصَروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإِن اجتمع رأيهما على أن يُفَرِّقا أو يَجمَعا؛ فأمرهما جائز ... ".
ثم ساق بإِسناد عبد الرزاق إِلى ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "بُعِثتُ أنا
__________
(1) النساء: 35.
(2) بتصرّف.
(3) قال البغوي -رحمه الله- في "تفسيره": " {يوفق الله بينهما}: يشتمل على الفراق وغيره؛ لأنَّ التَّوفيق أنْ يخرج كلُّ واحدٍ منهما من الوِزر، وذلك تارة يكون بالفراق، وتارةً بِصلاح حالِهما".

(5/352)


ومعاوية حَكَمَين، قال معمر: بلغني أنَّ عثمان بعَثَهما وقال لهما: إِنْ رأيتما أنْ تجمعا جمعتما، وإِنْ رأيتما أن تُفرِّقا فرقتما".
وساق كذلك بإِسناد عبد الرزاق إِلى عَبِيدَةَ قال: "شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكَماً وهؤلاء حكَماً، فقال علي للحَكَمين: أتدريان ما عليكما؟ إِنَّ عليكما إِن رأيتما أن تجمعا، جمعتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وَعَلَيَّ. وقال الزوج: أمّا الفرقة فلا. فقال علي: كذبْتَ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- لك وعليك".
ثمّ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقال الحسن البصري: الحَكَمان يَحْكُمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق؛ وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله -تعالى-: {إِنْ يريدا إِصلاحاً يوفِّق الله بينهما} ولم يذكر التفريق.
وأمّا إِذا كانا وكيلين من جهة الزوجين، فإِنه ينفَّذ حُكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.
وقد اختلف الأئمة في الحَكَمين: هل هما منصوبان من عند الحاكم، فيحكمان وإِن لم يرض الزوجان، أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين: فالجمهور على الأول، لقوله -تعالى-: {فابعثوا حكَماً من أهله وحكَماً من أهلها} فسمَّاهما حَكَمين، ومن شأن الحَكَم أن يَحْكُم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديد من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

(5/353)


والثاني منهما: قول علي -رضي الله عنه- للزوج حين قال: أمّا الفرقة فلا. قال: كذبت، حتى تُقرَّ بما أقرَّت به. قالوا: فلو كانا حاكمين لا افتقر إِلى إِقرار الزوج، والله أعلم.
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحَكَمين، إِذا اختلف قولهما، فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا: هل ينفذ قولهما في التفرقة؛ ثمّ حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضاً. انتهى
قلت: والذي يترجَّح لديّ أنَّ للحَكَمين أنْ يجمَعا وأنْ يُفرِّقا، وذلك إِذا كان فعْل أحدهما هو الأرضى لله -تعالى-، ويكون الأكثر مصلحة أو الأخفّ مفسَدَة للزوجين، وهذا قد يكون في جمْعهِما، وقد يكون في تفريْقهِما -والله أعلم-.