الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الحضانة

(5/411)


الحِضانة

تعريفها:
الحِضانة: -بكسْر الحاء المهملة- مصدر من حضن الصبي حضناً وحضانة: جَعَلَه في حضنه، أو ربّاه فاحتضنه، والحِضْن -بكسر الحاء- هو ما دون الإِبط إِلى الكشح (1) والصدر: أو العضدان وما بينهما، وجانب الشيء أو ناحيته؛ كما في "القاموس".
وفي الشرع: حِفظ من لا يستقل بأمره وتربيته ووقايته عمَّا يهلكه أو يضره (2).

الحِضانة حقٌّ مشترك (3):
الحِضانة حقٌّ للصغير، لاحتياجه إِلى مَن يرعاه، ويحفظه، ويقوم على شؤونه، ويتولى تربيته، ولأمِّه الحقّ في احتضانه كذلك، لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنت أحقُّ به" (4).
وإذا كانت الحِضانة حقَّاً للصغير، فإِن الأمّ تُجبر عليها إذا تعيَّنَت، بأن يحتاج الطفل إِليها، ولم يوجد غيرها، كيلا يضيع حقّه في التربية والتأديب، فإِن لم تتعين الحضانة، بأن كان للطفل جدّة، ورضيت بإِمساكه، وامتنعت الأمّ، فإِنَّ حقّها في الحضانة يسقط بإِسقاطها إِياه، لأن الحضانة حقٌّ لها.
__________
(1) وهو ما بين الخاصرة والضُّلوع.
(2) انظر "سبل السلام" (3/ 429).
(3) عن "فقه السنّة" (3/ 106).
(4) جزء من الحديث الآتي تخريجه إِن شاء الله -تعالى-.

(5/413)


الأولى بحضانة الطفل أُمّه ما لم تنكح:
الأولى بالطفل أمُّه ما لم تنكح؛ فعن عبد الله بن عمرو "أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إِنّ ابني هذا كان بطني له وعاءً وثديي له سقاءً، وحِجري (1) له حواءً (2)، وإنّ أباه طلَّقني، وأراد أن ينتزعه منّي. فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي" (3).
وجاء في "الرّوضة" (2/ 183): "وقد وقع الإِجماع على أنّ الأمّ أولى بالطّفل من الأب.
وحكى ابن المنذر الإِجماع: "على أن حقّها يبطل بالنّكاح، وقد رُوي عن عثمان أنّه لا يبطل بالنّكاح؛ وإليه ذَهَب الحسن البصري، وابن حزم، واحتجّوا ببقاء ابن أمّ سلمة في كفالتها بعد أن تزوّجت بالنّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويجاب عن ذلك؛ بأنّ مجرَّد البقاء مع عدم المنازع لا يُحتجُّ به؛ لاحتمال أنّه لم يبق له قريب غيرها ... ".
وانظر للمزيد من الفائدة -إن شئت- ما جاء في "الصّحيحة" تحت الحديث (368).

حضانة الأب:
وفي الحديث المتقدّم: " ... وإنّ أباه طلّقني، وأراد أن ينتزعه منّي، فقال
__________
(1) أي حضني.
(2) أي يضمّه ويجمعه.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1991) وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2187).

(5/414)


لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت أحقُّ به ما لم تنكحي" دليل على حضانة الأب بعد الأم.

إِذا بلغ الصّبي سنَّ التمييز خُيِّر بين أبويه:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ امرأة جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: فداك أبي وأمّي، إِنّ زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نَفَعَني وسقاني من بئر أبي عِنبة (1) فجاء زوجها وقال: من يخاصمني في ابني؟ فقال: يا غلام! هذا أبوك، وهذه أمّك، فخذ بيد أيّهما شِئتَ. فأخَذ بيد أمّه، فانطلقَت به" (2). قال الخطّابي في "المعالم": هذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة، وإذا كان كذلك؛ خُيِّرَ بين والديه (3).
وقال شيخنا -رحمه الله- في التعليق على "الرّوضة" (2/ 338) في التخيير: "وينبغي أن لا يكون هذا على إِطلاقه، بل يقيّد بما إِذا حصلت به مصلحة الولد؛ وإلا فلا يلتفت إِلى اختيار الصّبي، لأنه ضعيف العقل، وتفصيل هذا في الزاد" انتهى.
وإِليك -يرحمني الله وإيّاك- كلام ابن القيّم الذي أشار إِليه شيخنا
__________
(1) أي: أظهرت حاجتها إلى الولد، ولعلَّ محمل الحديث بعد مدّة الحضانة مع ظهور حاجة الأمِّ إلى الولد، واستغناء الأب عنه، مع عدم إِرادته إِصلاح الولد، قاله السندي كما في "عون المعبود" (6/ 266).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1992)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1094)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1903)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3271)، واللفظ له. وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (992).
(3) انظر "عون المعبود" (6/ 266).

(5/415)


-رحمهما الله تعالى- في "زاد المعاد/ (4/ 475): "فمن قدّمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه، فإِنما نقدِّمه إِذا حصَلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأمُّ أصون من الأب وأغير منه قُدّمت عليه، ولا التفات إِلى قُرعة ولا اختيار الصّبي في هذه الحالة، فإِنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإِذا اختار من يساعده على ذلك، لم يُلتَفت إِلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له وأخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" (1) والله -تعالى- يقول: {يا أيُّها الذين آمنوا قُوا أَنْفسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ} (2).
وقال الحسن: علِّموهم وأدِّبوهم وفقِّهوهم، فإِذا كانت الأمُّ تتركه في المكتب، وتُعلِّمه القرآن، والصّبيّ يُؤْثِر اللعب ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فإِنها أحقّ به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكس، ومتى أخلّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصّبيّ وعطّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحقّ وأولى به.
وسمعت شيخنا -رحمه الله- يقول: تنازع أبوان صبيّاً عند بعض الحكّام، فخيّره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمّه: سله لأي شيء يختار أباه، فسألَه، فقال: أمّي تبعثني كلّ يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للّعب مع الصبيان، فقضى به للأمّ. قال: أنت أحقُّ به.
قال شيخنا: "وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي، وأمْره الذي أوجبه الله
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (466)، وغيرهم وانظر "الإِرواء" (247).
(2) التحريم: 6.

(5/416)


عليه، فهو عاصٍ ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إِمّا أن تُرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإمَّا أن يُضمّ إِليه من يقوم معه بالواجب، إِذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإِمكان".

الاقتراع على الولد:
عن هلال بن أسامة: أنَّ أبا ميمونة سليم (1) مولى مِن أهل المدينة -رجلُ صِدْقٍ- قال: بينما أنا جالس مع أبي هريرة، جاءته امرأة فارسية، معها ابن لها، فادعياه، وقد طلَّقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة -رضي الله عنه- ورطنت له بالفارسية - زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: استهِما (2) عليه -ورطن لها بذلك- فجاء زوجها فقال: من يُحاقّني (3) في ولدي؟ فقال أبو هريرة: اللهمّ! إِني لا أقول هذا، إِلا أنّي سمعتُ امرأةً جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إِنّ زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنبة، وقد نفَعَني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استهِما عليه" فقال زوجها: من يحاقّني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا أبوك، وهذه أمّك، فخذ بيد أيّهما شئت فأخذ بيد أمّه، فانطلَقَت به" (4).
قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 468) -ناقلاً أقوال العلماء-:
__________
(1) أي: اقترعا عليه.
(2) أي: ينازعني.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1992)، والنسائي، والدارمي، وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2192)، وتقدم مختصراً غير بعيد.
(4) قال في "تهذيب التهذيب": "قيل اسمه: سليم؛ وقيل: سلمان؛ وقيل: أسامه".

(5/417)


"قد ثبَت التخيير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغلام من حديث أبي هريرة، وثبت عن الخلفاء الراشدين، وأبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ألبتة، ولا أنكَره مُنكِر. قالوا: وهذا غاية في العدل الممكن، فإِنّ الأمّ إِنما قُدِّمت في حال الصغر لحاجة الولد إِلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لغير النساء، وإِلا فالأمّ أحد الأبوين، فكيف تُقدّم عليه؟ فاذا بلغ الغلام حدّاً يُعرِب فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء، تساوى الأبوان، وزال السبب الموجب لتقديم الأمّ، الأبوان متساويان فيه، فلا يُقدَّم أحدهما إِلا بمرجِّح، والمرجِّح إِمّا من خارج، وهو القرعة، وإمّا من جهة الولد، وهو اختياره.
وقد جاءت السُّنة بهذا وهذا، وقد جمَعَهما حديث أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعاً، ولم ندفع أحدهما بالآخر، وقدَّمنا ما قدَّمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخَّرنا ما أخَّره، فقدّم التخيير، لأنَّ القرعة إِنما يصار إِليها إِذا تساوت الحقوق من كل وجه، ولم يبق مُرجِّح سواها، وهكذا فَعَلْنا ها هنا؛ قدَّمنا أحدهما بالاختيار، فإِن لم يختر، أو اختارهما جميعاً، عَدَلْنا إِلى القرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة، لكان مِن أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين.
وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي: أنه إِذا لم يختر واحداً منهما كان عند الأمِّ بلا قرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما ننقله عنها باختياره، فإِذا لم يختر، بقي عندها على ما كان. انتهى.
وعن رافع بن سنان: "أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ابنتي وهي فطيم -أو شبهه- وقال رافع: ابنتي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقعدْ ناحية، وقال لها: اقعدي ناحية، قال: وأقعَد الصبيَّة بينهما، ثم قال:

(5/418)


ادعُواها، فمالت الصبية إِلى أمِّها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم اهدها، فمالت الصبيَّة إِلى أبيها فأخَذَها" (1).
وعن عبد الرحمن بن غَنْم قال: "شهدت عمر خيّر صبيَّا بين أبيه وأمِّه" (2).

ضابط باب الحضانة:
وفي ضابط باب الحضانة أقوال عديدة (3)، وفيه بَسْط وتفصيل، وجاء في "زاد المعاد" (5/ 450): "وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا -شيخ الإِسلام ابن تيمية- بضابط آخر فقال: أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال: لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة؛ كان أحقّ الناس بها أقومَهم بهذه الصفات، وهم أقاربه يقدّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة، فإِنِ اجتمع منهم اثنان فصاعداً، فإِن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذكر. فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والخالة على الخال، والعمَّة على العم، والأُخت على الأخ، فإِن كانا ذكَرين أو أُنثيين؛ قُدِّم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما. وإِنِ اختلفت درجتهما من الطِّفل فإِنْ كانوا مِن جِهةٍ واحدة، قُدِّم الأقرب إِليه، فتُقدَّم الأخت على ابنتها، والخالة على خالة الأبوين، وخالة الأبوين على خالة الجد والجدة، والجد أبو الأم على الأخ للأمّ.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1963)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1904)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3270).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2194).
(3) راجع -إِن شئت المزيد- "زاد المعاد" (5/ 432).

(5/419)


هذا هو الصحيح؛ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها. وقيل: يقدم الأخ للأم؛ لأنه أقوم من أب الأم في الميراث. والوجهان في مذهب أحمد".
وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 438): "والحاصل أنّ الحقّ في الحضانة للأمّ ثم للخالة، فإِنْ عُدما فالأب أولى بولده يضعه حيث يشاء من قرائبه أو غيرهن. وإذا وقع النزاع بينه وبين الأمّ أو الخالة؛ كان الحَكَم ما تقدم في الأحاديث كما بيَّنَّا.
وإذا كان الأب لا يُحسِن حضانة ولده، أَو ليس ممن يقوم برعاية مصالحه؛ كان للحاكم أَن يُعيِّن من يحضنه من قرائبه أَو غيرهن. وهكذا إِذا كان الأب غير موجود" انتهى.
والحاصل أنَّ الأمر يدور حول مصلحة الولد وإحسان حضانته وتنشئته، وللحاكم أن يقدّر ذلك، وله فصْل النزاع بما يراه، فهو يختار من هو مَظِنَّةُ الحُنوِّ والرِّعاية، وهو الذي يُرجّح الأفضل في ضوء الكلام المتقدّم. والله -تعالى- أعلم (1).
تمَّ بحمد الله -تعالى- وتوفيقه.
انتهيتُ مِن مقابلته وتصحيحه والنَّظر فيه يوم الأحد
في /10/ربيع ثانٍ/ 1425 هـ
__________
(1) انظر للمزيد من الفائدة في هذا المبحث -إِن شئت- "المحلى" (11/ 742 - 762)، و"المغني" (9/ 297 - 313)، و"الفتاوى" (34/ 107 - 135)، و"السيل الجرّار" (2/ 436 - 444)، و"سبل السلام" (3/ 429).

(5/420)