الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
الجزء السادس
كتابُ الحدود والجنايات والقصاص والديات والضمان والقسامة والتعزير
بقلم
حسين بن عودة العوايشة
المكتبة الإسلامية
دار ابن حزم
(6/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/2)
الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
(6/3)
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1426 هـ - 2005 م
المكتبة الإسلامية
ص ب: (113) الجبهية؛ هاتف 5342887
عمَّان - الأردن
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974
(6/4)
-[مقدّمة المؤلف]-
إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور
أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن
يُضْلل فلا هاديَ لهُ.
وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً
عَبدهُ ورَسولهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3).
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور
مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار،
__________
(1) آل عمران: 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70 - 71.
(6/5)
فهذا هو الجزء السادس من كتابي "الموسوعة
الفقهيّة الميسّرة في ضوء الكتاب والسّنة المطهرة" قد تضمّن كتاب الحدود
والردّة والزندقة والحِرابة والجنايات والقِصاص والدِّيات والضمان والقسامة
والتعزير.
وأنا ماضٍ على منهجي نفسه؛ في الانتفاع مِن كتب الفقه؛ مفيداً من علماء
الأمّة، مع تحرّي الدليل من الكتاب والسّنة وآثار السلف الصالح.
ومازلت أستفيد من ترتيب السيد سابق -رحمه الله تعالى- من عناوينه وأدلّته
-كما سبقَت الإِشارة من قبل- وكما هو الحال في إِفادتي من كتب شيخنا -رحمه
الله- وتحقيقاته وتخريجاته.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يتقبّل منّي عملي، وأن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم، وألا يجعل لأحدٍ فيه شيئاً.
وأسأله -سبحانه- أن ينفع بي وأن يجعلني مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشرّ، وأن
يحشرني مع الذين أنعم الله عليهم؛ من النبيّين والصّدّيقين والشهداء
والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
وكتب:
حسين بن عودة العوايشة
عمّان- 4 جمادى الآخرة 1426 هـ
(6/6)
الحدود
(6/7)
الحدود
تعريفها:
جمع حدّ وأصْله في اللغة ما يُحجَز به بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وسميت
هذه العقوبات حدوداً لكونها تمنع عن المعاودة، ويطلق الحد على التقدير.
وهذه الحدود مقدرة من الشارع، ويُطلقَ الحد على نفس المعاصي، نحو قوله
-تعالى-: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (1).
وعلى فِعْلٍ فيه شيء مُقدّر (2)، نحو قوله: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم
نفسه}. (3).
واصطلاحاً: هي عقوبة مقدّرة؛ وجبَت حقّاً لله -سبحانه- لتمنع من الوقوع في
محارم الله -تعالى- وتزجره بعد الوقوع كذلك.
جرائم الحدود:
"قرّر الكتابُ والسّنّة عقوبات محدّدة لجرائم معينة تسمّى "جرائم الحدود"
وهذه الجرائم هي: الزنا، والقذف والسرقة والسُّكر والمحاربة والردة والبغي،
فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محدّدة قرّرها الشارع" (4).
وسيأتي التفصيل في موضعه -إِن شاء الله تعالى-.
__________
(1) البقرة: 187.
(2) "سبل السلام" (4/ 3).
(3) الطلاق: 1.
(4) عن "فقه السنة" (3/ 123).
(6/9)
وجوب إِقامة الحدود:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "حدٌّ يُعْمل به في الأرض؛ خير لأهل الأرض من أن يُمْطَرُوا
أربعين صباحاً" (1).
*وكلّ عملٍ من شأنه أن يُعطِّل إِقامة الحدود؛ فهو تعطيل لأحكام الله
ومحاربة له؛ لأنّ ذلك من شأنه إِقرار المنكَر وإِشاعة الشر* (2).
وقد نهى الله -تعالى- عباده المؤمنين أن تأخذهم الرأفة في دينه قال -سبحانه
-: {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخُذكم بهما
رأفة في دين الله إِن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة
من المؤمنين} (3).
تحريم الشفاعة في الحدود إِذا بلغت السلطان:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فقد ضادّ
الله في أمره" (4).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنّ قريشاً أهمّتهم (5) المرأة المخزومية التي
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2057)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4554)، وانظر "الصحيحة" (231).
(2) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (3/ 127).
(3) النور: 2.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3066)، وانظر "الصحيحة" (437)،
و"الإِرواء" (2318).
(5) أهمتهم المرأة: أي أجلبت إليهم همّاً أو صيّرتهم ذوي همّ؛ بسبب ما وقع
منها، يقال: أهمّني الأمر أي: أقلقني. "فتح".
(6/10)
سرَقَت فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن يجترئ (1) عليه إِلا أُسامة حبُّ
(2) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فكلّم رسولَ الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟
ثمّ قام فخطب فقال: يا أيها النّاس إِنما ضلَّ من كان قبلكم أنهم كانوا
إِذا سرق الشريف تركوه، وإِذا سرق الضعيف، [وفي رواية (3): الوضيع (4)]
فيهم أقاموا عليه الحدَّ، وأيم (5) الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعَ
محمّد يدها" (6).
وقد وجّهنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى العفو وعدم
رفْع الحدود إِلى الأئمّة.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعافوا (7)
__________
(1) من يجترئ: مِن الجُرأة، وهي الإقدام بإدلال. "الفتح" أيضاً.
(2) الحِبّ: المحبوب.
(3) انظر "صحيح البخاري" (6787).
(4) مِن الوضع، وهو النقص. "فتح".
(5) أيم الله من ألفاظ القسم، كقولك لعمر الله وعهد الله، وفيها لغات
كثيرة، وتُفتَح همزتها وتُكسر، وهمزتها وصْل، وقد تُقْطع، وأهل الكوفة من
النحاة يزعمون أنها جمع يَمين، وغيرهم يقول: هي اسمٌ موضوعٌ للقسم.
"النهاية".
(6) أخرجه البخاري؛ 6788، ومسلم: 1688.
(7) جاء في "عون المعبود" (12/ 26): "تعافوا: أمر من التعافي، والخطاب لغير
الأئمّة. الحدود: أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إليّ فإنيّ متى علمتها
أقمتها". قاله السيوطي. "فما بلغني مِن حدٍّ فقد وجب" أي: فقد وجب عليّ
إقامته. وفيه أن الإِمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رُفِع الأمر
إِليه".
(6/11)
الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد
وجَبَ" (1).
وعن صفوان بن أميّة قال: "كنت نائماً في المسجد عليّ خميصةٌ لي ثمنُ ثلاثين
درهماً، فجاء رجل فاختلسَها مني، فأُخِذَ الرجل، فأُتي به رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأَمَر به ليُقطَع.
قال: فأتيته، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟
قال: فهلاّ كان هذا قبل أن تأتيني به" (2).
درء الحدود بالشُّبهات:
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ادرؤوا الحدود والقتْل عن المسلمين ما
استطعتم" (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما أتى ماعزُ بن مالكٍ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لعلّك قبَّلت أو غمزْتَ أو
نَظَرْت؟
قال: لا يا رسول الله: قال: أنِكْتَها؟ -لا يُكنّي- قال: فعنْد ذلك أمَر
برجْمه" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3680)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4539)، و"المشكاة" (3568).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3693)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2103)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4532)، وصححه شيخنا -رحمه الله
- في "الإِرواء" (2317).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/
26): "حسن الإِسناد".
(4) أخرجه البخاري (6824).
(6/12)
وبوّب الإِمام البخاري -رحمه الله- لهذا
الحديث بقوله: (باب هل يقول الإِمام للمُقرّ: لعلّك لمسْتَ أو غمزْت): جاء
في "الفتح ... "هذه الترجمة معقودةٌ لجواز تلقين الإِمام المقرَّ بالحدّ ما
يدفعه عنه ... " (1).
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاء ماعز بن مالك إِلى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! طهِّرني. فقال: ويحك
ارجع فاستغفر الله وتب إِليه.
قال: فرجع غير بعيد، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويحك ارجْع فاستغفر الله وتب إِليه.
قال: فرجع غير بعيد، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني، فقال النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك حتى إِذا كانت الرابعة قال له
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيمَ أطهرك؟ فقال: من
الزنى.
فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبه جنون؟ فأخْبر
أنه ليس بمجنون. فقال: أشَرِب خمراً، فقام رجل فاسْتَنْكَهَه (2) فلم يجد
منه ريح خمر. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أزنيت؟ فقال نعم، فأمر به فرُجم.
فكان النّاس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطتْ به خطيئته، وقائل
يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعزٍ: أنّه جاء إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده في يده ثمّ قال: اقتلني بالحجارة.
قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة. ثمّ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم جلوس
__________
(1) وتتمة القول: "وخصّه بعضهم بمن يظن به أنه أخطأ أو جهل". ولا دليل على
هذا.
(2) أي شم رائحة فمه "النووي".
(6/13)
فسلَّم ثمّ جلس، فقال: استغفروا لماعز بن
مالك.
قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. قال: فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد تاب توبةً لو قُسمت بين أمّةٍ لوسعتهم.
قال: ثمّ جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهِّرني.
فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه. فقالت: أراك تُريد أن
تُرَدِّدَني كما ردّدْت ماعز بن مالك. قال: وما ذاك؟ قالت: إِنّها حُبلى من
الزنى، فقال: آنتِ؟ قالت: نعم، فقال لها: حتّى تضعي ما في بطنك.
قال: فكَفَلهَا رجل من الأنصار حتّى وضعت، قال: فأتي النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدّية. فقال: إِذاً لا
نرجمها وندَعُ ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال:
إِليّ رَضاعه يا نبي الله قال: فرجَمها" (1).
من يُقيم الحدود؟
لا يُقيم الحدّ إِلا الإِمام أو من يُنيبه، ومن استقرأ الأحاديث وجد ذلك.
قال الشيخ إِبراهيم بن ضويّان -رحمه الله-: "في منار السبيل" (2/ 322):
"ولا يقيمه إِلا الإِمام أو نائبه سواءٌ كان الحدّ لله -تعالى- كحدّ الزنى،
أو لآدمي، كحدّ القذف، لأنه يفتقر إِلى الاجتهاد، ولا يُؤمَن فيه الحيف،
فوجب تفويضه إِليه، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم
الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده.
ونائبه كهو، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .. واغْدُ يا
أنيس إِلى امرأة هذا، فإِن اعترفت
__________
(1) أخرجه مسلم (1695).
(6/14)
فارجمها، فاعترفت فَرجَمها" (1).
"وأمَر برجم ماعز ولم يحضره" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إن سرَقَ فاقطعوا يده، ثمّ إِنْ سرَقَ فاقطعوا رجله"
(3).
التستُّر في الحدود:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبىّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من سترَ مسلماً سترَه الله في الدنيا والآخرة" (4).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ قال: "من ستر عورة أخيه المسلم،
ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم؛ كشف الله عورته؛
حتى يفضحه بها في بيته" (5).
وفي هذا الستر تفصيل لا بُدّ مِن بيانه، فإِنْ كان الذنب يضيّع حقوق
الآخرين؛ كجريمة القتل أو الاغتصاب ونحوهما؛ فإِنه لا يجوز أن يُستر عليه،
__________
(1) أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1697).
(2) تقدم حديث ماعز، وسيأتي موطن الشاهد منه -إِن شاء الله تعالى- وهو قوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا- تركْتُموه؛ لعلّه أن يتوب
فيتوب الله عليه".
(3) أخرجه الدارقطني وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2434).
(4) أخرجه مسلم (2699).
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2063)، وانظر "الصحيحة" (2341).
(6/15)
بل الواجب كشف ذلك؛ إِحقاقاً للحقّ
وإِبطالاً للباطل وإِن كان الأمر لا يضرّ بالآخرين؛ فهنا محلّ الستر، ومثل
ذلك أن يرى أحدهم رجلاً وامرأة على حالٍ شنيع ثمّ يلمس النّدم منهما،
وأنهما يعزمان على التوبة، والإِقبال على الله -تعالى- وانظر ما جاء من
فوائد في "الصحيحة" تحت الحديث (3460).
ستر المسلم على نفسه:
عن أبي هريرة يقول سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: "كل أمتي مُعافى إِلا المجاهرين، وإِنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجلُ
بالليل عملاً ثمّ يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا
وكذا، وقد باتَ يسترُه ربه ويصبح يكشف سترَ الله عنه" (1).
الحدود كفّارة للآثام:
عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنّا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أتُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا
تزنوا ولا تسرقوا؟ وقرأ آية النساء فمن وفى منكم (2) فأجره على الله، ومن
أصاب من ذلك شيئاً فعوقب [في الدنيا] فهو كفّارة له، ومن أصاب منها شيئاً
من ذلك فستره الله فهو إِلى الله؛ إِن شاء عذّبه وإِن شاء غفر له" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).
(2) أي: ثبتَ على العهد.
(3) أخرجه البخاري (4894)، ومسلم (1709) والزيادة عند البخاري (18).
(6/16)
النهي عن إِقامة الحدود في المساجد:
عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أنّه قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُسْتَقاد (1) في المسجد، وأن تنْشد فيه الأشعار،
وأن تقام فيه الحدود" (2).
اتقاء ضرْب الوجه في الحدود:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "إِذا ضرب أحدكم أخاه فليجْتَنِب الوجه" (3).
الخمر:
أجمع المسلمون على تحريم الخمر والنصوص في ذلك معلومة (4).
ما هي الخمر؟
سُمّيت خمراً؛ لأنها تُركت فاختَمَرت، واختمارها تغيُّر ريحها، وقيل:
__________
(1) يستقاد: أي يطلب القَوَد أي القِصاص. "عون المعبود".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3769)، وانظر "الإِرواء" (2327).
(3) أخرجه البخاري (2559)، ومسلم (2612) بلفظ " إِذا قاتل ... ".
(4) ومن الأحاديث الشريفة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"الخمر أمّ الفواحش وأكبر الكبائر، مَنْ شَربها وقع على أمّه وخالته
وعمّته". أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" وحسّنه شيخنا -رحمه الله-
بمجموع الطّرق في "الصحيحة" (1835) وفي رواية: "الخمر أم الخبائث، ومَن
شربها لم يقبل الله منه صلاةً أربعين يوماً، فإِن مات وهي في بطنه؛ مات
ميتةً جاهلية". أخرجه الطبراني في "الأوسط" وغيره، وحسّنه شيخنا -رحمه
الله- في "الصحيحة" (1854).
(6/17)
سُميّت بذلك لمخامرتها العقل أي: مخالطتها
وتغطيته (1).
ويتضمّن الخمر كلّ ما كان مسكراً (2).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرْقُ، فملء الكف منه
حرام" (4).
وتؤخذ الخمر مما ذُكر في النصوص الآتية:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قام عمر على المنبر فقال: أمّا بعد: نزل
تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر
ما خامر العقل" (5).
وعن جابر "أنّ رجلاً قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يُقال له
المِزْر؟ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوَ مُسكِرٌ
هو؟ قال: نعم.
__________
(1) جاء في "طلبة الطلبة" (ص 317): عشرة أقاويل في معناها فانظرها -إِن
شئت-.
(2) انظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- تعليق شيخنا -رحمه الله- على
"الضعيفة" على الحديث (1220).
(3) أخرجه مسلم (2003).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3134)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1521)، وانظر "الإرواء" (2376).
(5) أخرجه البخاري (5581) ومسلم (3032).
(6/18)
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: كُلّ مسكر حرامٌ، إِنّ على الله -عزّ وجلّ- عهداً لِمن يشرب
المُسكر أن يَسِقيَه من طينة الخَبال، قالوا: يا رسول الله! وما طينة
الخبال؟ قال: عرقُ أهل النّار، أو عصارة أهل النّار" (1).
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ من العنب خمراً وإِنّ من التمر خمراً، وإن من
العسل خمراً، وأنّ من البُرِّ خمراً، وإِنّ من الشعير خمراً" (2).
عن علي -رضي الله عنه- قال: "نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الدُبّاء والخنتم، والنقير، والجَعَةِ (3) " (4).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن البِتع -وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه- فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل شراب أسكَر فهو حرام"
(5).
__________
(1) أخرجه مسلم (2002).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3123)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1526)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2724)، وانظر "الصحيحة"
(1593).
(3) جاء في "النهاية": "في تفسير "الجَعَة": هي النبيذ المتّخذ من الشعير"،
وهي التي تسمّى الآن "البيرة" نعوذ بالله مِن الخذلان.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3144)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (2251)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4770).
(5) أخرجه البخاري (5586)، ومسلم (2001).
(6/19)
ما أسكر كثيره
فقليله حرام:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (1).
شرب العصير والنبيذ قبل التخمير:
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأَدَم فاشربوا في كل وعاء
غير أن لا تشربوا مُسْكِراً" (2).
وعن أبي بُردة عن أبيه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ومعاذاً إِلى اليمن، فقال: ادعوا النّاس وبشِّرا ولا
تُنَفِّرا، ويسِّرا ولا تُعَسِّرا، قال: فقلت: يا رسول الله! أفتنا في
شرابَين كُنّا نصنعهما باليمن: البِتْعُ، وهو من العسل يُنبَذ حتى يشتدَّ
والمِزْرُ، وهو من الذرة والشّعير يُنبذ حتّى يشتدَّ.
قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أُعطِيَ
جوامعَ الكَلِم بخواتمه فقال: "أنهى عن كلِّ مُسكر أسكر عن الصّلاة" (3).
فالعلّة هي النّبذ حتى يشتدّ، فإِذا نُبذ من غير اشتداد، بحيث لا يسكر
قليله، فلا حرج.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُنْتَبذُ له أوّل الليل،
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3128)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1520)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2737)، والنسائي "صحيح
سنن النسائي" (5180)، وانظر "الإِرواء" (5375).
(2) أخرجه مسلم (977).
(3) أخرجه البخاري (5586)، ومسلم (1733)، واللفظ له.
(6/20)
فيشربُه إِذا أصبح، يومه ذلك، والليلة التي
تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إِلى العصر فإِن بقي شيء، سقاه الخادم
أو أمَر به فصُبَّ" (1).
وفي رواية: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُنْتَبذُ له في سِقاء قال شعبة: من ليلة الاثنين فيشربه يوم الاثنين
والثلاثاء إِلى العصر فإِن فَضَل منه شيء؛ سقاه الخادم أو صبّه" (1).
قال النووي -رحمه الله-: "معناه تارة يسقيه الخادم، وتارة يصبه، وذلك
الاختلاف لاختلاف حال النبيذ، فإِنْ كان لم يظهر فيه تغيُّر ونحوه من مبادئ
الإِسكار؛ سقاه الخادم ولا يريقه؛ لأنه مالٌ تحرم إِضاعته ويترك شربه
تنزهاً.
وإِن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإِسكار والتغير أراقه، لأنه إِذا أسكر
صار حراماً ونجساً (2)، فيراق ولا يسقيه الخادم، لأن المسكر لا يجوز سقيه
الخادم، كما لا يجوز شربه، وأمّا شربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قبل الثلاث فكان حيث لا تغير ولا مبادئ تغير ولا شك أصلاً. والله أعلم".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "علمْتُ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذٍ صنعته في دباء، ثمّ
أتيته به فإِذا هو يَنِشُّ (3)، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإِنّ هذا شرابُ
مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر" (4).
__________
(1) أخرجه مسلم (2004).
(2) وقد تقدّم الكلام حول عدم نجاسة الخمر في الجزء الأوّل.
(3) أي: يغلي.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3160)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن
ماجه" (2752) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (5183)، وانظر "الإرواء" (2389).
(6/21)
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كَتَب
إِلينا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أمّا بعد: فاطبخوا شرابكم، حتى يذهب
منه نصيب الشيطان، فإِنّ له اثنين ولكم واحد" (1).
والحاصل أن الشراب الذي لم يتخمّر بالمُكث أو الطبخ أو أي وسيلة أخرى جاز،
وإِلا فلا.
الخمر إِذا تخلّلت:
عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن أيتامٍ ورثوا خمراً، قال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها خلاً؟
قال: "لا" (2).
وهذا دليلٌ على عدم جواز تخليل الخمر؛ لأنه لا يجوز حمْلها أصلاً، ولا يجوز
التعاوُن فيها في أيِّ صورة من الصور.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها
ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إِليه" (3).
أمّا إِذا تخلّلت من ذاتها فلا بأس.
وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (8/ 281): "وإذا بطلت
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (5275)، وانظر "الإِرواء" (2387).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3122)، وغيره، وهو في مسلم (1983)
مختصراً.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3121)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2725)، وانظر "الإِرواء" (5/ 365) تحت الحديث: (1529).
(6/22)
هذه الصِّفة [أي: الإِسكار] من الشراب بعد
أن كانت فيه موجودة؛ فصار لا يَسْكَرُ أحدٌ من الناس من الإكثار منه فهو
حلال؛ خلٌّ لا خمر".
وقال في "المغني" (10/ 343): "والخمرة إِذا أفسدت فصيرت خلاًّ، لم تَزُل عن
تحريمها، وإِنْ قلَب الله عينها فصارت خلاًّ فهي حلال".
المخدرات:
وما تقدّم من نصوصٍ في الخمر؛ يمضي في المخدارت وكل ما يزيل العقل ويُسكر.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وأمّا "الحشيشة" الملعونة المسكرة: فهي
بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء؛ بل كل ما
يزيل العقل فإِنه يُحرم أكلْه ولو لم يكن مسكراً كالبنج، فإِن المسكر يجب
فيه الحدّ، وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأمّا قليل "الحشيشة المسكرة" فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من
المسكرات، وقول النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلّ مسكر
خمر، وكلّ خمر حرام" (1) يتناول ما يُسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر
مأكولاً، أو مشروباً؛ أو جامداً، أو مائعاً. فلو اصطبغ كالخمر كان حراماً،
ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً.
ونبيّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِث بجوامع الكَلِم،
فإِذا قال كلمة جامعة كانت عامّة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء
كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه، أو لم تكن، فلمّا قال: "كل مسكر
حرام" تناوَل ذلك ما كان بالمدينة من خمر
__________
(1) أخرجه مسلم (2003) وتقدّم.
(6/23)
التمر وغيرها، وكان يتناول ما كان بأرض
اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك، ودخل في ذلك ما حدث بعده من
خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم.
فلم يُفرّق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل والمسكر من الحنطة
والشعير، وإِن كان أحدهما موجوداً في زمنه كان يعرفه، والآخر لم يكن يعرفه،
إِذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمراً من لبن الخيل.
وهذه "الحشيشة" فإِنّ أول ما بلَغَنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر
المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر؛ وكان ظهورها مع ظهور
سيف "جنكسخان"، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلّط
الله عليهم العدو.
وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شرٌّ من الشراب المسكر
من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإِنها مع أنها تُسكر آكلها؛
حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير
كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنوناً بسبب
أكْلِها.
ومن الناس من يقول إِنها تغيّر العقل فلا تسكر كالبنج؛ وليس كذلك بل تورث
نشوةً ولذةً وطرباً كالخمر، وهذا هو الداعي إِلى تناولها، وقليلها يدعو
إِلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من
الخمر؛ فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء: أنه يجب
فيها الحد، كما يجب في الخمر" (1).
__________
(1) انظر "الفتاوى" (34/ 204) ونقله السيد سابق -رحمه الله- ملخصاً في "فقه
السنة" (3/ 158).
(6/24)
*وإِذ قد تبيّن أن النصوص من الكتاب والسنة
تتناول الحشيشة، فهي تتناول أيضاً الأفيون الذي يبين العلماء أنه أكثر
ضرراً ... ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على الحشيش* (1).
الاتجار بالخمر والمواد المخدّرة:
قال الله -تعالى-: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم
والعدوان} (2).
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول وهو بمكة عام الفتح: "إِنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر
والميتة والخنزير والأصنام" (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله إذا حرم على قوم أكْل شيء؛ حَرّم عليهم ثمنه"
(4).
حدّ شارب الخمر:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أُتِي برجل قد شرب الخمر فجُلد بجرِيدتين (5) نحو أربعين، قال:
وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السّنة" (3/ 159).
(2) المائدة: 2.
(3) أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2978).
(5) جريد النخل الذي يجرد ويُزال عنه الخوص [أي: الورق] ولا يُسمى جريداً
ما دام عليه الخوص، وإنما يسمّى سعَفاً. وانظر "مختار الصحاح". وفي
"اللسان": "الجريدة للنخلة؛ كالقضيب للشجرة".
(6/25)
الناس فقال عبد الرحمن: أخفَّ الحدود
ثمانين فأَمَر به عمر" (1).
وفي رواية: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضرب
في الخمر بالنّعال والجريد أربعين" (2).
وعن عقبة بن الحارث أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى
بنعيمان -أو بابن نعيمان- وهو سكران، فشق عليه، وأمَر مَن في البيت أن
يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال وكُنت فيمن ضربه" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قد شرب قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنّا
الضارب بيده والضارب بنعله، والضارب بثوبه" (4).
ولم يُذكر العدد في هذين الحديثين، فيحمل على الأربعين، كما هو مبيَّنٌ في
بعض النّصوص الأُخرى.
وعن حُضين بن المنذر قال: "شهدتُ عثمان بن عفان وأُتي بالوليد قد صلى الصبح
ركعتين ثمّ قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حُمران؛ أنه شرب الخمر،
وشهد آخر؛ أنّه رآه يتقيّأ، فقال عثمان: إِنه لم يتقيّأ حتّى شربها. فقال:
يا عليّ! قُم فاجلده، فقال عليّ: قم، يا حسن! فاجلده، فقال
__________
(1) أخرجه مسلم (1706).
(2) أخرجه مسلم (1706).
(3) أخرجه البخاري (6775).
(4) أخرجه البخاري (6777).
(6/26)
الحسن: ولِّ حارَّها من تولّى قارَّها (1).
فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر! قم فاجلده، فجلده وعليّ
يَعُدُّ حتّى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثمّ قال: جلد النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين،
وكلٌّ سُنّة وهذا أحبُّ إِليّ" (2).
قال الحافظ في "التلخيص": " ... فلو كان هُو المشير بالثمانين؛ ما أضافها
إِلى عمر ولم يعمل بها؛ لكن يمكن أن يُقال: إِنه قال لعمر باجتهاده، ثمّ
تغيّر اجتهاده"، وذكره شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/ 47).
والذي بدا من خلال أقوال العلماء أن الزيادة من جملة أنواع التعزير، وورد
تعليل الزّيادة على الأربعين بالعُتوّ والطغيان والفساد.
فعن السائب بن يزيد قال: "كُنّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإِمرة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر؛ فنقوم
إِليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا؛ حتّى كان آخر إِمرة عمر؛ فجلد أربعين،
حتّى إِذا عتَوا وفسقوا؛ جلد ثمانين" (3).
__________
(1) قال الإمام النووي -رحمه الله- (12/ 219): "ولّ حارّها مَنْ تولى
قارّها: الحار الشديد المكروه والقارّ البارد الهنيء الطيب، وهذا مَثلٌ مِن
أمثال العرب. قال الأصمعي وغيره: معناه ولّ شدتها وأوساخها من تولى هنيئها
ولذّاتها والضمير عائد إِلى الخلافة والولاية أي: كما أن عثمان وأقاربه
يتولون هنيء الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها، ومعناها ليتولّ
هذا الجَلْد عثمان بنفسه أو بعض خاصة أقاربه الأدنين. والله أعلم".
(2) أخرجه مسلم (1707).
(3) أخرجه البخاري (6779).
(6/27)
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "حتّى
إِذا عَتوا: من العتوّ وهو التجبُّر، والمراد هنا: انهماكهم في الطغيان
والمبالغة في الفساد في شُرب الخمر؛ لأنه ينشأ عن الفساد.
وفسقوا: أي خرجوا عن الطاعة، ووقع في روايةٍ للنسائي: "فلم ينكلوا" أي:
يَدَعوا [و] وقَع في مُرسل عُبيد بن عمير -أحد كبار التابعين- فيما أخرجه
عبد الرزاق بسند صحيح عنه ... "أنّ عمر جعله أربعين سوطاً، فلمّا رآهم لا
يتناهَون، جعله ستين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهون؛ جَعَله ثمانين سوطاً
وقال: هذا أدنى الحدود".
وفيه: " ... وتمسّك من قال بجواز الزيادة على الثمانين تعزيراً ... أنّ عمر
حدَّ الشارب في رمضان، ثمّ نفاه إِلى الشام، وبما أخرجه ابن أبي شيبة أنّ
علياً جلد النجاشي الشاعر ثمانين، ثم أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشرب في
رمضان". انتهى.
وعن عبد الرحمن بن أزهر قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غداة الفتح وأنا غلام شاب يتخلّل الناس يسأل عن منزل خالد بن
الوليد، فأُُتي بشارب، فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط،
ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعله، وحثى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التراب.
فلمّا كان أبو بكر أُتي بشارب فسألهم عن ضرب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ضربه، فحزروه أربعين، فضرب أبو بكر أربعين.
فلمّا كان عمر كَتَب إِليه خالد بن الوليد: إِنّ النّاس قد انهمكوا في
الشرب وتحاقروا الحد والعقوبة، قال: هم عندك فسلهم، وعنده المهاجرون
الأولون،
(6/28)
فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين.
قال: وقال عليّ: إِنّ الرجل إِذا شرب افترى فأرى أن يجعله كحد الفرية" (1).
أقول:
خلاصة الأمر أنّ فِعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو
الحُجّة وإِليه المرجع، وما جرى مِن زيادة، فإِنّها ليست زيادة في حدّ
الخمر، ولكنها تعزير بالطغيانِ المصاحبِ لحدِّ الخمر؛ كالشُّرب في رمضان
والجرأة في الرجوع إِليه.
وربما جرّ هذا التكرار إِلى قتْله.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا سَكِرَ فاجلدوه، فإِنْ عاد فاجلدوه، فإِنْ عاد
فاجلدوه، ثمّ قال في الرابعة: فإِنْ عاد فاضربوا عُنُقه" (2).
فإِذا أفضت أسباب معيّنة إِلى القتل بالنص، فلقائلٍ مِن أهل العلم أن
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3768).
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3764)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (2085) واللفظ له وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1360) وقال شيخنا
-رحمه الله- معلّقاً: "وقد قيل إِنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو
محكم غير منسوخ كما حققه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/ 49
- 92)، واستقصى هناك الكلام على طرقه بما لا مزيد عليه، ولكنا نرى أنه من
باب التعزيز، إِذا رأى الإِمام قتل، وإن لم يره لم يقتل بخلاف الجلد، فإنه
لا بد منه في كل مرّة، وهو الذي اختاره الإِمام ابن القيم -رحمه الله
تعالى-".
(6/29)
يقول: بين الأربعين جلدة والقتل قدْرٌ
معيّنٌ من التعزير؛ حسبما يقتضيه الحال والله أعلم.
بمَ يثبُت حدّ الشرب؟
ويثبُت على شارب الخمر بالإِقرار والاعتراف، أو شهادة شاهدين عدلين، لما
تقدّم مِن حديث حُضين بن المنذر قال: شهدْتُ عثمان بن عفان وأُتي بالوليد
قد صلّى الصبح ركعتين، ثمّ قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حُمران
أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيّأ فقال عثمان: إِنه لم يتقيّأ حتى
شربها فقال: يا عليّ قم فاجلده ... " (1).
شروط إِقامة الحدّ (2):
1 - العقل؛ فلا يُحدّ المجنون إِذا سَكِر.
2 - البلوغ وقد رُفع التكليف عن الصبي حتّى يحتلم ويبلغ؛ كما تقدّم.
3 - الاختيار: إِذ مَن وقع منه الكُفر بالإِكراه لا يكفر، فكيف بما دونه،
وقد قال -تعالى-: {إِلا مَن أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان} (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا
عليه" (4).
__________
(1) أخرجه مسلم (1707)، وتقدّم.
(2) "فقه السّنّة" (3/ 167) بتصرف وزيادة.
(3) النحل: 106.
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1664)، وانظر "الإرواء" (82)،
و"المشكاة" (6284)، وتقدّم.
(6/30)
ويدخُل في ذلك الاضطرار، فمن لم يجدِ ماءً
وعطش عطشاً شديداً، يخشى عليه منه الموت، ووجدَ خمراً؛ فله أن يشرب القدر
الذي يُنجيه من الهلاك، والضرورة تقدّر بقدرها؛ فلا يتوسع في ذلك.
4 - العِلم بأن ما يتناوله مسكر، وإذا لفَتَ نظَره أحد من النّاس، فتمادى
في شُربه؛ فإِنه يستوجب إِقامة الحد.
عدم اشتراط الحرّية والإِسلام في إِقامة الحدّ:
ولا يُشترط الإِسلام والحرية في إِقامة الحد.
أمّا عدم اشتراط الإِسلام؛ فلأمور عديدة منها؛ أنّ إِقامة أهل الكتاب في
ديار المسلمين؛ لا تكون إِلا بشروط، ولا يُؤذن لهم بالمجاهرة والمعاصي،
أفرأيت لو قتَل أحدهم؛ فهل يُرفع عنه الحدّ؟!
وفي الإِذن لهؤلاء في شرب المسكرات، والمجاهرة بالذنوب والمعاصى؛ خطرٌ كبير
على أبناء الإِسلام -كما لا يخفى-.
وإِذا شرب المملوك فإِنه يقام عليه الحدّ؛ لأنّ تحريم الخمر عامٌّ ليس فيه
استثناء؛ وقد ورد استثناءُ تكليفه من صلاة الجمعة مثلاً، كما تقدّم في
"كتاب الجُمعة".
تحريم التداوي بالخمر:
عن طارق بن سُوَيْد الجُعْفِيّ "أنه سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يَصْنَعها، فقال: إِنّما أصنعها
للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء" (1).
__________
(1) أخرجه مسلم (1984).
(6/31)
عن ديلم الحميري قال: "سألت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، إِنا بأرض باردة
نعالج فيها عملاً شديداً، وإِنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على
أعمالنا، وعلى برد بلادنا؟ قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه قال:
قلت: فإِن النّاس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتِلوهم" (1).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إِنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم
عليكم" (2).
إِذا أقام الإِمام الحدّ على السكران فمات أعطاه الدِّية:
عن علي -رضي الله عنه- قال: "ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي
إِلا صاحبَ الخمر فإِنه لو مات وَدَيْته (3) وذلك أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسُنَّه" (4).
وفي رواية: "من شرب الخمر فجلدناه، فمات وديناه؛ لأنه شيء صنعناه" (5).
حدّ الزنى
الزنى الموجب للحدّ:
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3131).
(2) تقدّم تخريجه في "كتاب الطهارة" (1/ 52).
(3) أي: أعطيتُ دِيته لمستحقّها.
(4) أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707).
(5) أخرجه الطحاوي وابن ماجه، وصحح إِسناده شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (8/ 49).
(6/32)
يتحقّق الزنى المترتب عليه الحدّ؛ بتغييب
الحشفة -وهي رأس الذكر- أو المدوّرة في فرجٍ محرّم، ولو لم يكن معه إِنزال،
أمّا إِذا استمتع فيما دون الفرج؛ فلا حدَّ عليه، وإِن استوجب التعزير.
فعن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء رجلٌ إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّي عالجتُ امرأةً (1) في أقصى
المدينة، وإِنّي أصبت منها ما دون أن أمَسَّها (2) فَأنَا هذا. فاقض فيَّ
ما شئت، فقال له عمر: لقد سترَكَ الله، لو ستْرتَ نفسك، قال: فلم يَرُدَّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً.
فقام الرّجل فانطلق، فأتبعه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رجُلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {أقمِ الصلاة طرفَي النهار وزُلَفاً من
الليل إِنَّ الحسنات يُذهِبن السيئات ذلكَ ذكرى للذاكرين} (3) فقال رجلٌ من
القوم: يا نبيّ الله! هذا له خاصّة؟ قال: بل للنّاس كافّة" (4).
وجاء في "سبل السلام" (1/ 151): "قال الشافعي: إِنَّ كلام العرب يقتضي أنّ
الجنابة تُطلق بالحقيقة على الجماع، وإِن لم يكن فيه إِنزال؛ فإِنّ كلَّ من
خوطب بأنّ فلاناً أجنب عن فلانة؛ عقل أنّه أصابها، وإِن لم يُنْزِل.
ولم يُخْتَلَف أنّ الزِّنى الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه
إِنزال".
__________
(1) معنى عالَجَها: أي تناوَلها، واستمتع بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من
جميع أنواع الاستمتاع إِلا الجماع، وانظر "شرح النووي".
(2) أي: دون الزنا في الفرج.
(3) هود: 114.
(4) أخرجه مسلم (2763).
(6/33)
حدّ الزاني البكر (1):
حدّ الزاني البكر مائة جلدة؛ لقول الله -تعالى-: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا
كلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دين الله إِن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "هذه الآيةُ الكريمة فيها حُكْم
الزاني في الحدّ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع؛ فإِنّ الزاني لا يخلو:
إِمّا أن يكون بِكْراً: وهو الذي لم يتزوج.
أو مُحصَناً: وهو الذي قد وطئ في نكاحٍ صحيح، وهو حُرٌّ بالغ عاقل.
فأمّا إِذا كان بِكْراً لم يتزوج؛ فإِنّ جَلْده مائة جَلدة كما في الآية،
ويزاد على ذلكَ أن يُغرَّب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء؛ خلافاً لأبي
حنيفة -رحمه الله- فإِن عنده التغريب إِلى رأي الإِمام، إِنْ شاء لم
يُغّرب".
وإِليك -رحمني الله وإِياك- التفصيل في العنوان الآتي:
ما وَرد في التغريب:
التغريب: النفي عن البلد الذي وقعَت فيه الجناية، يُقال: أغربتَه وغرَّبتَه
إِذا نحّيْتَهُ وأبعدتَه. والغَرْبُ: البُعد (3).
عن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- قالا: "كنّا عند النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام رجلٌ فقال: أنشدك الله إِلا قضيت
بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان
__________
(1) تُطلق كلمة البكر على الرجل والمرأة، والبكر من الرجال الذي لم يقرب
المرأة.
(2) النور: 2.
(3) "النهاية".
(6/34)
أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن
لي.
قال: قل، قال: إِنّ ابني هذا كان عسيفاً (1) على هذا، فزنى بامرأته،
فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثمّ سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أنّ
على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم.
فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والذي نفسي بيده
لأقضينَّ بينكما بكتاب الله -جلّ ذِكْرُه- المائة شاة والخادم رد، وعلى
ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإِن اعترفَت
فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها" (2).
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهُنّ سبيلاً،
البكر بالبكر جلْد مِائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرّجم" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قضى فيمن زنى ولم يُحصَنْ بنفي عامٍ وبإِقامة الحدِّ عليه"
(4).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ضَرَب وغرَّب، وأنّ أبا بكر ضَرَب وغرّب، وأنّ عمر ضَرَب
وغرّب" (5).
__________
(1) أي: أجيراً.
(2) أخرجه البخاري (6827)، (6828)، ومسلم (1697)، (1698).
(3) أخرجه مسلم (1690).
(4) أخرجه البخاري (6833).
(5) أخرجه الترمذي والنسائي، وصححه ابن خزيمة والحاكم، قاله الحافظ في
"الفتح" تحت الحديث (6833).
(6/35)
جاء في "الفتح" تحت الحديث (6833): "وقال
ابن المنذر: أقسم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة
العسيف أنه يقضي فيه بكتاب الله ثمّ قال: إِن عليه جلد مائة وتغريب عام،
وهو المبين لكتاب الله، وخطب عمر بذلك على رؤوس الناس، وعمل به الخلفاء
الراشدون فلم ينكره أحد فكان إِجماعاً.
واختلف في المسافة التي يُنفى إِليها: فقيل: هو إِلى رأي الإِمام، وقيل:
يشترط مسافة القصر، وقيل: إِلى ثلاثة أيام، وقيل: يومين، وقيل: يوم وليلة،
وقيل: من عمل إِلى عمل، وقيل: إِلى ميل، وقيل: إِلى ما ينطلق عليه اسم
نفي".
والذي يترجّح لديّ رجوعُ ذلك إِلى رأي الإِمام فيما يراه يُحقّق المقصود،
وقد يكون لبعض النّاس أحوالٌ خاصّة، فيعمل الإِمام بما يحقّق المقصود
الشرعي من التغريب؛ مراعياً هذه الأحوال، والمصلحة العامّة. والله -تعالى-
أعلم.
حدّ الزاني المحصن:
ويُحدّ الزاني المحصَن بالرجم حتى الموت، رجُلاً كان أم امرأة.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ من النّاس وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله!
إِني زنيتُ -يريدُ نفسه- فأعرض عنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فتنحى لشقِّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه؟
فقال: يا رسول الله! إِني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقِّ وجه النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي أعرض عنه.
فلمّا شهد على نفسه أربع شهاداتٍ؛ دعاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: أبكَ جنون؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنتَ؟ قال:
نعم يا رسول الله، قال: اذهبوا
(6/36)
فارجموه" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال عمر لقد خشيتُ أن يطول بالنّاس
زمان حتّى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها
الله، ألا وإِن الرجم حقٌّ على من زنى وقد أحصن إِذا قامت البيّنة أو كان
الحمل أو الاعتراف.
قال سفيان: كذا حفظت، ألا وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده" (2).
ويشترط في إِقامة هذا الحد بالإِضافة إِلى ما تقدّم مِن كونه عاقلاً بالغاً
الحريّة، إِذ لا رجم على العبد أو الأمة؛ لقوله الله -تبارك وتعالى-: {فإِن
أتيْن بفاحشة فعليهنّ نصفُ ما على المحصناتِ من العذاب} (3) والرجم لا
يتجزّأ.
عن أبي عبد الرحمن قال: "خطب عليٌّ فقال: يا أيها النّاس! أقيموا على
أرقائكم الحدّ؛ من أحصن منهم ومن لم يُحْصِن، فإِنّ أمَةً لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت فأمرني أنْ أجْلدها فإِذا هي حديث
عهدٍ بنفاس، فخشيت إِنْ أنا جلدتها أنْ أقتلها، فذكرت ذلك للنّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أحسنت" (4).
وفي رواية: "اتركها حتّى تَماثَل (5) " (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (6825)، ومسلم (1691).
(2) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691).
(3) النساء: 25.
(4) أخرجه مسلم (1705).
(5) تماثل: أي: تُقارب البُرء.
(6) أخرجه مسلم (1705).
(6/37)
قال الإِمام النووي -رحمه الله- في "شرحه"
(11/ 213): " ... [وفي الحديث] بيان أن الأَمَة المحصنة بالتزويج وغير
المحصنة تجلد، وهو معنى ما قاله عليّ -رضي الله تعالى عنه- وخطَب الناس به.
فإِنْ قيل: فما الحكمة في التقييد في قوله -تعالى-: {فإِذا أُحصنّ} مع أن
عليها نصف جلد الحرة؛ سواء كانت الأمة محصنة أم لا.
فالجواب أن الآية نبهت على أن الأَمَة وإِنْ كانت مزوجة لا يجب عليها إِلا
نصف جلد الحرّة؛ لأنه الذي ينتصف، وأمّا الرجم فلا ينتصف فليس مراداً في
الآية بلا شك، فليس للأمَة المزوجة الموطوءة في النكاح حُكم الحُرّة
الموطوءة في النكاح، فبيّنت الآية هذا لئلا يتوهم أنّ الأمَة المزوجة
تُرجَم، وقد أجمعوا على أنها لا ترجم، وأمّا غير المزوجة فقد علمنا أن
عليها نصف جلد المزوجة بالأحاديث الصحيحة ... ".
ويشترط برجم المحصَن كذلك أن يكون قد سبق له أن تزوج زواجاً صحيحاً، ووطئ
فيه ولو مرّة واحدة أنزَل أم لم يُنزل.
وكذا المرأة إِذا تزوّجت ووُطئت ولو مرّة واحدة، ثمّ طُلقت فزنت فإِنها
تُرجم.
وجوب الحد على الكافر والذّمي:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إِنّ اليهود جاءوا إِلى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له أن رجلاً منهم
وامرأةً زنَيا، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا: نفضحهم ويُجلدون، قال عبد
الله بن سلام: كذبتم، إِن فيها الرّجم.
فأَتَوا بالتّوراة فنَشروها، فوضَع أحدهم يده على آية الرّجم فقرأ ما قبلها
وما
(6/38)
بعدها.
قال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإِذا فيها آية الرّجم،
قالوا: صدق يا محمّد، فيها آية الرّجم، فأمَر بهما رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرُجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها
الحجارة" (1).
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: (بابُ أحكام أهل الذّمة (2) وإحصانهم
إِذا زَنَوا (3) ورُفعوا إِلى الإِمام) وذكر هذا الحديث.
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "وفي هذا الحديث من الفوائد؛ وجوب
الحدّ على الكافر الذمّي إِذا زنى؛ وهو قول الجمهور ... ".
وعن جابر بن عبد الله قال: "رَجَم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجلاً مِنْ أسلم، ورجلاً من اليهود، وامرأته" (4).
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "مُرَّ على النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيهوديٍّ مُحَمَّماً (5) مجلوداً فدعاهم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هكذا تجدون حدّ الزّاني في
كتابكم؟ قالوا: نعم.
فدعا رجُلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى!
أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنّك نشدتني بهذا لم
__________
(1) أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699).
(2) أي اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية.
(3) يعني: خلافاً لمن قال: "إِنّ من شروط الإِحصان الإسلام".
(4) أخرجه مسلم (1701).
(5) أي مُسوَدّ الوجه، من الحُممة: الفحمة "النهاية".
(6/39)
أخبرك، نجده الرَّجم، ولكنّه كثر في
أشرافنا، فكنَّا إِذا أخذنا الشّريف تركناه، وإِذا أخذنا الضّعيف أقمنا
عليه الحدّ.
قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع، فجعلنا التّحميم
والجلد مكان الرّجم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: اللهمّ إِني أوّل من أحيا أمرك إِذ أماتوه، فأَمَر به فرُجم فأنزل الله
-عزّ وجلّ-: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إِلى قوله:
{إِن أُوتيتم هذا فخذوه} (1).
يقول: ائتوا محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنْ أمرَكم
بالتحميم والجلد فخذوه، وإِنْ أفتاكم بالرّجم فاحذروا، فأنزل الله -تعالى-:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (2)، {ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (3)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون} (4) في الكفّار كُلّها" (5).
بمَ يثبت حدّ الزنى؟
يثبت الحدّ بما يأتي:
1 - بالاعتراف:
فعن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
__________
(1) المائدة: 41.
(2) المائدة: 44.
(3) المائدة: 45.
(4) المائدة: 47.
(5) أخرجه مسلم (1700).
(6/40)
"واغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا؛ فإِن
اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرَجمها" (1).
2 - بأربعة شهود:
قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء} (2).
ويشترط في الشهود: البلوغ والعقل والإِسلام، كما تقدّم في مثله، وكذا
العدالة لقول الله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} (3)، وقوله
-سبحانه-: {يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا
قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (4).
وكذا المعاينة أي: أن يكون قد عاين فرجَها في فرجه؛ كما سيأتي -إِن شاء
الله- في (باب حدّ من رمى المحصنة ولم يأت بأربعة شهود) قول عمر -رضي الله
عنه- لزياد هل رأيت المرود دخَل المكحلة؟ (5).
3 - بالحبَل، إِذا لم يُعلم لها زوج أو سيد:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال عمر: لقد خشيت أن يطول
__________
(1) أخرجه البخاري (6827)، ومسلم (1697)، وتقدّم بطوله في حدّ الزاني
البكر.
(2) النور: 4.
(3) الطلاق: 2.
(4) الحجرات: 6.
(5) انظر "الإِرواء" (8/ 29).
(6/41)
بالنّاس زمانٌ؛ حتّى يقول قائل لا نجدُ
الرجم في كتاب الله؛ فيضلّوا بترك فريضة أنَزَلها الله، ألا وإِنّ الرجم
حقٌّ على مَن زنى، وقد أحصَن إِذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف"
(1).
ماذا يفعل الإِمام إِذا جاءه من أقرّ على نفسه بالزنى؟
إِذا جاءَ منْ يُقرّ على نفْسه بالزِّنى عند الإِمام؛ فعلى هذا الإمام أن
يعمل بمقتضى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَعَافَوُا
الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب" (2).
قال ابن الأثير في "النهاية": "تَعَافَوُا الحدود فيما بينكم" أي: تجاوزوا
عنها ولا ترفعوها إِليَّ؛ فإِنِّي متى علمتها أقمتها.
وعن نُعيم بن هَزّال قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حِجْر أبي، فأصاب
جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإِنما يريد بذلك رجاء أن
يكون له مخرجاً.
فأتاه فقال: يا رسول الله إِني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله! فأعرض عنه، فعاد
فقال: يا رسول الله، إِني زنيت فأقم عليّ كتاب الله! حتى قالها أربع مرار.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّك قد قُلتها أربع مرّات،
فبمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم؟ قال: هل باشرتها؟ قال: نعم
قال: هل جامعتها؟ قال:
__________
(1) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) وتقدّم.
(2) أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- "صحيح سنن أبي
داود" (3680) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2951) والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4538).
(6/42)
نعم؛ قال: فأَمَر به أن يُرجَم، فأُخرج به
إِلى الحرّة.
فلمّا رُجِم فوجد مَسَّ الحجارة جزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس،
وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير (1)، فرماه به فقتله، ثمّ أتى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه" (2).
وعن محمّد بن إِسحاق قال: "ذكرت لعاصم بن عمرو بن قتادة قصة ماعز بن مالك،
فقال لي: حدَّثني حسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: حدَّثني ذلك مِن
قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلاّ تركتموه" من
شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولم أعرف الحديث، قال: فجئت جابر بن
عبد الله فقلت: إِنّ رجالاً مِن أسلم يحدثون: أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة
حين أصابته: "ألا تركتموه" وما أعرف الحديث. قال: يا ابن أخي، أنا أعلم
الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجَم الرجل، إِنّا لما خرجنا به فرجمناه، فوجد
مسّ الحجارة صرخ بنا:
يا قوم ردّوني إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فإِنّ قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا
رجعنا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرناه قال:
فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - منه، فأما لترك حد فلا! " (3).
__________
(1) وظيف البعير: خفّه، وهو له كالحافر للفرس. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3716)، وانظر "الإِرواء" (2322).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3717)، وانظر "الإِرواء" (7/
354).
(6/43)
وعن ابن عباس قال: "جاء ماعز بن مالك إِلى
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا مرتين فطرده،
ثمّ جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت علي نفسك أربع مرّات، اذهبوا به
فارجموه" (1).
فتأمّل حديث نعيم بن هزال وقوله: "فأعرَض عنه" أي أعرض عنه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال: إِني زنيت وأيضاً: "حتّى
قالها أربع مرار، ثمّ قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "إِنّك قد قلتها أربع مرّات فبمن؟ ".
فماذا لو قالها مرةً، وحين رأى إِعراض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، مضى ولم يعُد؟!
وتأمّل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل ضاجَعَتها؟ ... هل
باشرتها؟ ... هل جامعتها؟
وفي بعض الروايات: "لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت" حتى قال: "أنِكتَها، لا
يُكنّي" (2).
وتأمّل بعد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: "هلا
تركتموه" حينما بلغه جزعُه وفرارُه من الرجم.
فهذا فيه ما فيه من الدعوة إِلى ستْر النفس والإِقلاع عن المعصية والندم
وإِحسان التوبة إِلى الله -عزّ وجلّ- وهذا مطلبٌ سامٍ ومقصد عظيم، -والله
أعلم-.
وأما ما جاء في رواية محمد بن إِسحاق ... في قول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا تركتموه وجئتموني به، ليستثبت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، فأمّا لترْكِ حد فلا"
فهذه ليست من قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإِنما هي
تفسير مِن الراوي، والسؤال ماذا بعد
__________
(1) أخرجه مسلم (1693) وأبو داود واللفظ له "صحيح سنن أبي داود" (3723).
(2) أخرجه البخاري (6824).
(6/44)
أن يستثبت منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيعيده للرجم أم ماذا؟!
فإِن قالوا: يعيده للرجم فلا فائدة من الاستثبات، لأن الاستثبات ليس بثبوت
زناه، وإِنّما لأن قومه غرّوه من نفسه أنه لن يُقتل! وأي فائدة في ذلك؟!
فالحكمة واضحة بيّنة، وقد جاء هذا صريحاً من حديث بريدة بن الحصيب قال:
"ثمّ جاءت امرأه من غامد الأَزْد فقالت: يا رسول الله! طهّرني فقال: ويحك؛
ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه" (1).
ولكن لما كان الإِصرار والإِلحاح والمتابعة من ماعز والغامديّة؛ والنّاس
ينظرون؛ فإِنه لا بدّ من إِقامة الحد؛ لأن هناك مفسدةً في عدم إِقامته،
والحاصل أنه إِذا بلغَ الإِمام أمْرٌ كهذا أعرَض وذكّر بالاستغفار والتوبة،
فإِنْ أصرّ مُقارِفُ الفاحشة على إِقامة الحد؛ أقيم عليه. والله أعلم.
ويؤيِّد هذا ما ثبت عن الأجلح عن الشعبي قال: "جيء بشُرَاحة الهمدانية إِلى
علي -رضي الله عنه- فقال لها: ويلك لعل رجلاً وقع عليكِ وأنت نائمة، قالت:
لا، قال لعلك استكرهت، قالت: لا، قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك؛ فأنت
تكرهين أن تدلي عليه، يُلقِّنها لعلَّها تقول: نعم.
قال: فأمَر بها فحُبست، فلمَّا وضعت ما في بطنها، أخرجها يوم الخميس فضربها
مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة، وأحاط الناس بها، وأخذوا الحجارة،
فقال: ليس هكذا الرجم، إِذاً يُصيب بعضكم بعضاً، صفّوا كصفّ الصلاة صفاً
خلف صفّ.
__________
(1) أخرجه مسلم (1695).
(6/45)
ثمّ قال: أيها الناس أيَّما امرأة جيء بها
وبها حبل يعني أو اعترفت، فالإِمام أوَّل من يرجم ثم الناس، وأيَّما امرأة
أو رجُل زان فشهد عليه أربعة بالزنا فالشُّهود أوَّل من يرجُم، ثمَّ
الإِمام، ثمّ الناس، ثمَّ رجمَها، ثمَّ أمَرهم فرَجَم صفّ ثمّ صفّ، ثم قال:
افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم" (1).
فتأمَّل قول عليٍّ -رضي الله عنه- لعلَّ رجُلاً وقَع عليك وأنتِ نائمة، ...
لعلَّكِ استُكْرِهتِ، ... لعلَّ زوجك من عدوّنا هذا؛ أتاك فأنت تكرهين أن
تدلِّي عليه. وتأمَّل كلمة: "يلقِّنها لعلَّها تقول: نعم".
ولذلك إِذا أنْكرت المرأة أنَّه زُنِيَ بها؛ لم يُقَم عليها الحدّ ولو
أقرَّ الرجُل الزَّاني، وأُقيم عليه الحدّ. وانْظر العنوان الآتي:
من أقرّ بزنى امرأة فأنكرت:
عن سهل بن سعد عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أنّ
رجلاً أتاه، فأقرّ عنده أنه زنى بامرأة سمّاها، فبعَث رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكَرت أن تكون
زنَت، فجلده الحدّ وترَكَها" (2).
سقوط الحدّ بظهور ما يقطع بالبراءة:
*إِذا ظهَر بالمرأة أو بالرجل ما يقطع أنه لم يقع مِن أحدٍ منهما زنى؛ كأن
تكون المرأة عذراء لم تفضّ بكارتها، أو رتقاء مسدودة الفرج، أو يكون الرجل
__________
(1) جاء في "الإِرواء" (8/ 7): أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 84/1) مختصراً،
والبيهقي والسياق له، قال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيد رجاله ثقات رجال
الصحيح غير الأجلح وهو ابن عبد الله الكوفي وهو صدوق"، وانظر "الإِرواء"
(8/ 7).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3749).
(6/46)
مجبوباً أو عنّيناً، سقط الحد* (1)
عن أنس -رضي الله عنه- حين أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عليّاً إِلى رجل كان يُتّهم بإِحدى النساء، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعليّ: اذهب فاضرب عنقه، فأتاه عليٌّ
فإِذا هو في رَكِيٍّ (2) يتبردُ فيها، فقال له عليٌّ: اخرج، فناوله يده
فأخرجه فإِذا هو مجبوب ليس له ذكَر، فكفَّ عليٌّ عنه، ثمّ أتى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّه لمجبوب ما
له ذكَر" (3).
سقوط الحدّ إِذا أبدى المتهم العذر واقتنع الإِمام:
وكذلك يسقط للحد إِذا أُبدى المتهم العذر واقتنع به الإِمام.
عن أبي موسى قال: "أُتي عمر بن الخطاب بامرأة من أهل اليمن، قالوا: بغت!
قالت: إِني كنت نائمة، فلم أستيقظ إِلا برجل رمى فيّ مثل الشهاب، فقال عمر
-رضي الله عنه-: يمانية نؤومة شابّة، فخلى عنها ومتعها" (4).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وله طريق أخرى يرويه النزال بن سبرة قال: "إِنا
لبمكة إِذ نحن بامرأة اجتمع عليها النّاس؛ حتى كاد أن يقتلوها وهم يقولون:
زنَت زنَت، فأتي بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهي حبلى، وجاء معها
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السّنَة" (3/ 193).
(2) رَكِيٍّ: هو البئر "نووي".
(3) أخرجه مسلم (2771)، وللحديث مناسبة في روايات أُخرى كما في "الصحيحة"
تحت الحديث (1904).
(4) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله-
في "الإِرواء" (2362).
(6/47)
قومها، فأثنوا عليها بخير، فقال عمر:
أخبريني عن أمرك.
قالت: يا أمير المؤمنين كنت امرأة أصيب من هذا الليل، فصليت ذات ليلة، ثمّ
نمت وقمت ورجُلٌ بين رجِليّ، فقذَف فيّ مثل الشهاب، ثم ذهب، فقال عمر -رضي
الله عنه-: لو قتل هذه من بين الجبلين أو قال: الأخشبين -شك أبو خالد-
لعذبهم الله، فخلى سبيلها، وكتب إِلى الآفاق أن لا تقتلوا أحداً إِلا
بإِذني" (1).
سقوط الحدّ بالتوبة الصحيحة:
يسقط الحد عمن تاب توبة صحيحة.
عن وائل الكندي -رضي الله عنه- قال: "خرجت امرأة إِلى الصلاة، فلقيها رجل
فتجلّلها بثيابه، فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إِليها رجل، فقالت له: إِن
الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إِليها قوم من الأنصار،
فوقفوا عليها، فقالت لهم إِن رجلاً فعل بي كذا وكذا، فذهبوا في طلبه،
فجاؤوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها، فذهبوا به إِلى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: هو هذا.
فلمّا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمه قال الذي وقع
عليها: يا رسول الله أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال
للرجل قولاً حسناً.
فقيل: يا نبي الله ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقال شيخنا -رحمهُ الله -: "وهذا إِسناد
صحيح على شرط البخاري"، وانظر "الإرواء" (8/ 30).
(6/48)
لقُبل منهم" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث فائدة هامة، وهي: أنّ الحد يسقط
عمّن تاب توبة صحيحة، وإِليه ذهب ابن القيم في بحت له في "الإِعلام"
فراجِعْه (3/ 17 - 20) مطبعة السعادة".
عفو الحاكم عن الحدود لأسباب مخصوصة:
للحديث السابق.
الوطء بالإِكراه:
لا حدّ على المرأة التي تُكره على الزنى، وإِذا أُكره المرء على الكُفر
وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان فلا يكفر، فكيف بما هو دونه!
وفي الحديث: "رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (2).
وتقدم حديث وائل الكندي قبل الباب السابق.
وعن طارق بن شهاب: "أنّ امرأة زنت، فقال عمر: أراها كانت تصلي من الليل
فخشعت فركعت، فسجدت، فأتاها عادٍ من العواد فتجثمها، فأرسل عمر إِليها،
فقالت كما قال عمر، فخلّى سبيلها" (3).
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3681) والترمذي وغيرهم
وانظر "الصحيحة" (900).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1664)، وصححه شيخنا -رحمه الله-
"الإِرواء" (82) وتقدّم.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2312).
(6/49)
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "أُتي عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه- بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستقت، فأبى
أن يسقيها إِلا أن تُمكنّه من نفسها، ففعَلت، فشاور النّاس في رجمها، فقال
عليّ -رضي الله عنه-: هذه مضطرة، أرى أن تخلّيَ سبيلها، ففعل" (1).
الخطأ في الوطء (2):
إِذا زُفّت إِلى رجلٍ امرأةٌ غير زوجته، وقيل له: هذه زوجتك، فوطئها
يعتقدها زوجته، فلا حدّ عليه، باتفَاق.
وكذلك الحُكم، إِذا لم يُقَل له: هذه زوجتك، أو وَجَد على فراشه امرأة ظنها
امرأته فوطئَها، أو دعا زوجته فجاء غيرها، فظنها المدعوة فوطئها، لا حدّ في
كل ذلك.
وهكذا الحُكم في كل خطأ في وطء مباح.
أمّا الخطأ في الوطء المحرم، فإِنه يوجب الحدّ، فمن دعا امرأة محرمة عليه،
فأجابته غيرها، فوطئها يظنها المدعُوة فعليه الحدّ، فإِنْ دعا امرأة
مُحرّمة عليه، فأجابته زوجته فوطِئَها، يظنها الأجنبية التي دعاها؛ فلا حدّ
عليه، وإِنْ أثم باعتبار ظنه [والله -تعالى- أعلم].
قلت: وللحاكم أن يُعزّره إِذا علم ذلك.
__________
(1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2313).
(2) عن "فقه السنّة" (3/ 210 - 211).
(6/50)
الوطء في نكاحٍ باطل (1):
كلّ زواجٍ مُجمَع على بطلانه، كنكاح خامسة زيادة على الأربع، أو متزوجة، أو
معتدة الغير، أو نكاح المطلقة ثلاثاً قبل أن تتزوج زوجاً آخر إِذا وطئ فيه،
فهو زنى موجب للحدّ، ولا عبرة بوجود العقد، ولا أَثَر له.
لا تُرجم الحُبلى حتّى تضع وتُرضع ولدها، ولا المريضة حتى تبرأ:
تقدّم في حديث بريدة -رضي الله عنه- في قِصّة الغامديّة: "قال: ثمّ جاءته
امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهِّرني، فقال: ويحك! ارجعي
فاستغفري الله وتوبي إِليه.
فقالت: أراك تُريد أن تُرَدِّدني كما ردّدت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟
قالت: إِنها حبلى من الزنى، فقال: آنْتِ؟ قالت: نعم. فقال لها: حتّى تضعي
ما في بطنك.
قال: فكَفَلَها رجل من الأنصار حتّى وضعت. قال: فأتى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إِذاً لا
نرجمها وندَعُ ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال:
إِليّ رَضاعه يا نبي الله، فرجمها" (2).
وفي رواية: "قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إِنّي قد زنيت
فطهِّرني، وإِنّه ردّها فلمّا كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردُّني؟
لعلك أن
__________
(1) عن "فقه السنّة" (3/ 210 - 211).
(2) أخرجه مسلم (1695).
(6/51)
تردّني كما رددت ماعزاً، فوالله إِنّي
لحُبلى قال: إِمّا لا (1) فاذهبي حتّى تلدي، فلمّا ولدت أتته بالصّبيّ في
خِرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه ْحتّى تفطميه، فلمّا فطمته
أتته بالصبيّ في يده كِسرةُ خُبز، فقالت: هذا يا نبيَ الله قد فطمْتُه، وقد
أكل الطّعام.
فدفع الصبيَّ إِلى رجل من المسلمين، ثمّ أمَر بها فحُفر لها إِلى صدرها
وأمَر النّاس فرجموها" (2).
قال الإِمام النووي -رحمه الله-: " [فيه] أن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر
جلدهما إِلى البُرء. والله أعلم".
وعن أبي عبد الرحمن قال: "خطب عليٌّ فقال: يا أيها النّاس أقيموا على
أرقّائكم الحدّ، فإِنّ أمةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - زنت، فأمَرني أنْ أجلدها، فإِذا هي حديث عهدٍ بنفاس، فخشيت
إِنْ أنا جلدتها أنْ أقتلها، فذكَرْت ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أحسنت، اتركها حتى تماثل (3) " (4).
شهود طائفة من المؤمنين الحدّ:
قال الله -تعالى-: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كُلَّ واحد منهما مائة جلدةٍ
__________
(1) الأصل: إن ما فأُدغمت النون في الميم، وحُذف فِعل الشرط، فصار إمّا لا،
ومعناه: إذا أبيت أن تستري على نفسك وتتوبي وترجعي عن قولك؛ فاذهبي حتى
تلدي، فترجمين بعد ذلك.
(2) أخرجه مسلم (1695 - 23).
(3) يقال: تماثَل: إذا قارب البُرء.
(4) أخرجه مسلم (1705) وتقدّم.
(6/52)
ولا تأخُذْكُم بهما رأفةٌ في دين الله إِن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله -تعالى-: {وليشهد عذابهما
طائفة من المؤمنين}: هذا فيه تنكيل للزانيَيْن إِذا جُلدا بحضرة الناس،
فإِنّ ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردْعهما، فإِن في ذلك تقريعاً
وتوبيخاً وفضيحة إِذا كان الناس حضوراً.
قال الحسن البصري في قوله -تعالى-: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}
يعني: علانية، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين،
أي: نفر من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً".
الشهود أول من يرجُم ثم الإِمام ثمّ الناس:
عن أبي حصين عن الشعبي قال: "أتي علي -رضي الله عنه- بشراحة الهمدانية قد
فجرت، فردّها حتى ولَدت، فلمّا ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء منها،
فأعطاها ولدها ثم جلَدَها ورجمَها.
ثم قال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسُّنّة، ثمّ قال: أيما امرأة نعى
عليها ولدها، أو كان اعتراف؛ فالإِمام أوّل من يرجم ثم الناس، فإِنْ نعاها
الشهود؛ فالشهود أول من يرجُم، ثم الإِمام ثمّ الناس" (2).
__________
(1) النور: 2.
(2) أخرجه الدارقطني والبيهقي (8/ 220) وقال شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (8/ 7): "إِسناده صحيح على شرط مسلم".
(6/53)
ما جاء في جلد
المريض:
يُراعى المريض والسقيم في حدّ الجلد؛ ولا يُعامل كما يعامل الصحيح المعافى.
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أُضني (1)، فعاد
جلدة على عظم، فدخَلَت عليه جارية لبعضهم، فهشّ لها، فوقع عليها فلمّا دخَل
عليه رجال قومِه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنّي قد وقعْت على جاريةٍ دخلت عليّ.
فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: ما
رأينا بأحد من الناس من الضُّرِّّ مثل الذي هو به، لو حملناه إِليك
لتفسَّخت عظامه، ما هو إِلا جلد على عظم، فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يأخذوا له مائة شمراخ (2) فيضربوه بها ضربة
واحدة" (3).
اللواط:
اللواط: إِتيان الرجل الرجل، وهو من أبشع الأفعال وأقذرها، قال الله
-تعالى-: {ولوطاً إِذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من
العالمين * إِنّكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون
*وما كان
__________
(1) أي: حتى اشتدّ مرضه، حتى نَحَل جسمه.
(2) كل غصن من أغصان العِذق -وهو العود الأصفر- شمراخ، وهو الذي عليه
البُسر.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3754)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2087)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (5002) وغيرهم، وانظر "الصحيحة"
(2986).
(6/54)
جواب قومه إِلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم
إِنّهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إِلا امرأته كانت من الغابرين *
وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} (1).
وفاعله ملعون كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ملعون من عَمِل عَمَل قوم لوط، ملعون
مَن عمِل عَمَل قوم لوط، ملعون مَن عمِل عمَل قوم لوط" (2).
ما هو حدّ اللواط:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول به" (3).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (11/ 543): "وفي السنن عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن وجدتموه يعمل عمل قوم
لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به".
ولهذا اتفق الصحابة على قَتْلهما جميعاً؛ لكن تنوعوا في صفة القتل: فبعضهم
قال: يُرجَم، وبعضهم قال: يرمى من أعلى جدارٍ في القرية ويتبع
__________
(1) الأعراف: 80 - 84.
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله-
في "صحيح الترغيب والترهيب" (2420).
(3) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3745)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1177)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2075) وغيرهم، وانظر
"الإِرواء" (3450).
(6/55)
بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنّار (1).
ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بِكْرين كانا أو ثيّبين،
حُرّين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً للآخر، وقد اتفق المسلمون
على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد". انتهى.
قلت: أمّا الحرق بالنّار فإِنه لا يشرع، وإِن وقَع شيء؛ فهو محمولٌ قبل
بلوغ النهي، ولا سيّما أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
كان قد أمَر بالحرق، ثمّ يلبَث أن نهى عن ذلك، والله أعلم.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بَعثَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعثٍ فقال: إِن وجَدتم فلاناً وفلاناً فأحرِقوهما
بالنَّار.
ثمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أردْنا
الخروجَ: إِني أمرتُكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإِنَّ النارَ لا يُعذِّب
بها إِلا الله، فإِنْ وجَدْتموهما فاقتُلوهما" (2).
__________
(1) عن محمد بن المنكدر: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق -رضي
الله عنهما- أنه وجد رجلاً في بعض ضواحي العرب يُنكَح كما تُنكحَ المرأة،
فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وفيهم عليُّ بن أبي طالب فقال عليّ: إِن هذا ذنب لم تعمل به أمة إِلا أمة
واحدة، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه النار، فاجتمع رأي أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُحرَق بالنار، فأمر
به أبو بكر أن يحرق بالنار.
قال: وقد حرقه ابن الزبير وهشام بن عبد الملك. أخرجه ابن أبي الدنيا ومن
طريقه البيهقي في "شعب الإِيمان" بإِسناد جيد، وأخرجه أيضاً في "سننه" من
غير طريق ابن أبي الدنيا، وأعله بالإِرسال. وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"
(2/ 624). انتهى، ويُعلم ضَعْفه من إِعلاله بالإِرسال.
(2) أخرجه البخاري (3016).
(6/56)
وعن عكرمة أنَّ عليّاً -رضي الله عنه-
"حَرَّقَ قوماً فبَلَغَ ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم؛ لأنَّ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعذِّبوا بعذاب الله،
ولَقتَلْتُهم كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من
بدَّل دِينَهُ فاقتلوه" (1).
وقال -رحمه الله- (34/ 182): "أمّا الفاعل والمفعول به فيجب قتْلهما رجماً
بالحجارة، سواءٌ كانا مُحصَنَين أو غير محصنين؛ لما في السنن عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم
لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، ولأن أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفقوا على قتلهما".
وقال في "الفتاوى" أيضاً (28/ 334): "وأمّا اللواط، فمن العلماء من يقول:
حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك.
والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء
كانا مُحصَنَين أو غير محصَنَين؛ فإِنّ أهل السنن رووا عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من
وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به".
وروى أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في البكر يوجد على اللوطية.
قال: يُرجَم (2). ويروى عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- نحو ذلك.
ولم تختلف الصحابة في قْتله؛ ولكن تنوعوا فيه. فرُوي عن الصديق
__________
(1) أخرجه البخاري (3017).
(2) "صحيح سنن أبي داود" (3746) وهو صحيح الإِسناد موقوف.
(6/57)
-رضي الله عنه- أنه أمر بتحريقه (1) وعن
غيره قتْله، وعن بعضهم: أنه يلقى
عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يُحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن
بعضهم: أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه، ويُتبع بالحجارة كما
فعل الله بقوم لوط.
وهذه رواية عن ابن عباس والرواية الأخرى قال: "يرجم". وعلى هذا أكثر السلف.
قالوا لأن الله رجم قوم لوط، وشرَع رَجم الزاني تشبيهاً برجْم قوم لوط،
فيرجم الاثنان سواء كانا حُرّين أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً والآخر
حُرّاً، إِذا كانا بالغين، فإِن كان أحدهما غير بالغ؛ عوقب بما دون القتل،
ولا يُرجَم إِلا البالغ".
السّحاق:
إِن السّحاق -وهو إِتيان المرأة المرأة- من أقبح الأفعال وأخبثها وأشنعها،
وهذا الفعل يمضي فيه قوله -تعالى-: {فأولئك هم العادون} وهذا الخطاب للذكر
والأنثى، والأمر بحفظ الفرج يعمّهما كذلك.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا ينظر الرجل إِلى عورة الرجل، ولا المرأة
إِلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إِلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة
إِلى المرأة في الثوب الواحد" (2).
__________
(1) تقدم الكلام حول هذا الأمر.
(2) أخرجه مسلم (338).
(6/58)
جاء في "إِكمال إِكمال المعلم": " (ولا
يفضي الرجل إِلى الرجل .. ): لأنّ تجرّدهما مظنّة مسّ أحدهما عورة الآخر،
ومسّ العورة حرام؛ كالنظر -وإِنْ كانا مستورَيْن- فليتنزّها عن ذلك، لعموم
النهي، وعلى أنّ جسد المرأة على المرأة عورة يحرم ذلك".
وإِذا كان اقتراف الحرام بالنظر والتجرّد؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك.
*والسّحاق مباشرة دون إِيلاج، ففيه التعزير دون الحدّ؛ كما لو باشر الرجلُ
المرأة؛ دون إِيلاجٍ في الفرج* (1).
الاستمناء:
قال الله -تعالى-: {والذين هم لفروجهم حافظون * إِلا على أزواجهم أو ما
ملكَتْ أيمانُهم فإِنهم غيرُ ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون} (2).
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله: {والذين هم لفروجهم
حافظون * إِلا على أزواجهم أو ما ملكَت أيمانُهم فإِنّهم غيرُ ملومين * فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} أي: والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام،
فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم
التي أحلَّها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله
الله له فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: {فإِنّهم غير ملومين * فمن ابتغى
وراء ذلك} أي: غير الأزواج والإِماء، {فأولئك هم العادون} أي:
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (3/ 207).
(2) المؤمنون: 5 - 7.
(6/59)
المعتدون".
وقال -رحمه الله-: "وقد استدل الإِمام الشافعي -رحمه الله- ومن وافَقَه على
تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة {والذين هم لفروجهم حافظون *
إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانُهم}.
قال: فهذا الصنيع خارجٌ عن هذين القِسْمين، وقد قال -تعالى-: {فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون} ".
وقال الإِمام القرطبي -رحمه الله-: " ... وقال بعض العلماء، إِنه كالفاعل
بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة،
وياليتها لم تُقَل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها
لدناءتها.
فإِنْ قيل: إِنها خير من نكاح الأمَة؛ قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على
مذهب بعض العلماء خير من هذا -وإِنْ كان قد قال به قائل أيضاً- ولكن
الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير" انتهى.
وقال بعضهم: "إِنه حرام؛ إِلا إِذا استمنى خوفاً على نفسه من الزنا، أو
خوفاً على صحّته ولم تكن له زوجة أو أمَة ولم يقدر على الزواج؛ فإِنه لا
حرج عليه!!! ".
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة": "ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع
في الزنى؛ إِلا إِذا استعمل الطبّ النبوي وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج: "فمن لم
يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وجاء".
(6/60)
ولذلك فإِننا ننكر أشدّ الإِنكار، على
الذين يُفتون الشباب بجوازه، خشية الزنا؛ دون أن يأمرهم بهذا الطبّ النبوي
الكريم". انتهى.
وإِني لأخشى أن تُستغَل فتوى الترخّص في الاستمناء خوفاً من الزنى -مع ما
تقدّم من التحفّظ- استغلالاً بشِعاً، وأن تُفهم على غير وجهها.
فلا بدّ من التأكيد على تحريم الفِعل، وما يتضمّنه من الدناءة وسوء الأدب،
ومنافاته مكارم الأخلاق.
وقد تقدّم القول في "كتاب الصيام" (3/ 316).
إِتيان البهيمة:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوها معه.
قال: قلت له: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه إِلا قال ذلك أنه كره أن يؤكل
لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ" (2).
جاء في "عون المعبود" (12/ 102): "وأكثر الفقهاء -كما حكاه الخطابي-
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3747)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1176)، وابن ماجه الجزء الأول منه "صحيح سنن ابن ماجه" (2078)،
وانظر "الإِرواء" (2348).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3748)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" تحت رقم (1176)، وانظر "الإِرواء" (8/ 13).
(6/61)
على عدم العمل بهذا الحديث، فلا يقتل
البهيمة، ومَن وقَع عليها، وإنّما عليه التعزير ترجيحاً لما رواه الترمذي
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من أتى بهيمة فلا حدّ عليه" قال
الترمذي: هذا أصح من الحديث الأول، والعمل على هذا عند أهل العلم".
قلت: إِذا ثبت الحديث وجبَ العمل به، مع رجائنا الأجر الواحد لمن لم يعمل
به من العلماء اجتهاداً لرؤيةٍ شرعيّة.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 182): "وسئل -رحمه الله- عن قوله في
"التهذيب" من أتى بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها، فهل يجب ذلك
أم لا؟
فأجاب: الحمد لله هذا فيه حديث رواه أبو داود في "السنن" وهو قوله: "من أتى
بهيمة فاقتلوه، واقتلوها" وهو أحد قولي العلماء؛ كأحد القولين في مذهب
أحمد، ومذهب الشافعي".
حدّ القذف
حرمته:
القذف: هو الرمي بالزنا، وهو محرَّم بإِجماع الأمّة، والأصل في تحريمه
الكتاب والسُّنّة.
قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء
(6/62)
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة
أبداً وأولئك هم الفاسقون} (1).
وقال -سبحانه-: {إِنّ الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في
الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هنّ؟
قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إِلا بالحق، وأكل
الربا، وأكل مال اليتيم، والتّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات
الغافلات" (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما نزل عُذري، قام النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فذكر ذاك وتلا -يعني القرآن- فلما
نزل من المنبر أَمَر بالرجلين والمرأة، فضُربوا حدهم" (4).
هل يُقام حدّ القذف على من عرَّض (5)؟
ويُقام الحدّ على القاذف إِذا صرّح بالزنى أو عرّض، قولاً أو كتابة.
__________
(1) النور: 4.
(2) النور: 23.
(3) أخرجه البخاري (6857)، ومسلم (89).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3756)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (2542)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2081).
(5) استفدت من عنوان (ما يجب توافره في المقذوف) من "فقه السّنّة" (3/ 216)
بتصرّف.
(6/63)
ومثال التصريح أن يقول موجّهاً الخطاب إِلى
غيره: يا زاني أو يقول عبارة؛ تجري مجرى هذا التصريح؛ كنفي نسَبِه عنه،
ومثال التعريض؛ أن يقول في مقام التنازُع: لستُ بزانٍ، ولا أمّي بزانية.
عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أنّ رجلين استبّا في زمان عمر بن الخطاب، فقال
أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان، ولا أمّي بزانية، فاستشار في ذلك عمر ابن
الخطاب.
فقال قائل: مدَح أباه وأمّه، وقال آخَرون: قد كان لأبيه وأمّه مدْحٌ غير
هذا، نرى أن تجلده الحدّ، فجلَده عمر الحدّ ثمانين" (1).
وذَهب بعض العلماء إِلى أنه لا حدّ في التعريض، لأنّ التعريض يتضمّن
الاحتمال، والاحتمال شُبهة؛ فلا حدّ عليه.
وجاء في "الروضة الندية" (2/ 608) بعد ذكر أقوال العلماء: "أقول: التحقيق
أنّ المراد مِنْ رمي المحصنات المذكور في كتاب الله -عزّ وجلّ-: هو أن يأتي
القاذف بلفظٍ يدل -لغة، أو شرعاً، أو عرفاً- على الرمي بالزنا، ويظهر من
قرائن الأحوال أن المتكلم لم يُرِدْ إِلا ذلك، ولم يأت بتأويلٍ مقبول يصح
حمْل الكلام عليه، فهذا يوجب حدَّ القذف بلا شك ولا شُبهة.
وكذلك لو جاء بلفظٍ لا يحتمل الزنا، أو يحتمله احتمالاً مرجوحاً، وأقرّ أنه
أراد الرمي بالزنا، فإِنه يجب عليه الحد.
وأمّا إِذا عرّض بلفظٍ مُحتَمل، ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد
الرمي بالزنا؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسوغ إِيلامه بمجرد الاحتمال".
__________
(1) أخرجه مالك، والدارقطني، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء"
(2371).
(6/64)
بمَ يثبت حدّ القذف؟ (1):
يثبت حدّ القذف بأمرين:
1 - إِقرار القاذف، ويثبت ذلك بإِقراره مرّة؛ لكون إِقرار المرء لازماً له.
2 - شهادة عدلين؛ كسائر ما تمضي فيه الشهادة؛ كما أطلقه الكتاب العزيز.
عقوبة القاذف الدنيوية:
*أوجب الشرع على القاذف؛ إِذا لم يُقم بيّنة على صحّة ما قاله؛ ثلاثة
أحكام:
أحدها: أن يُجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أنه تُردّ شهادته دائماً.
الثالث: أن يكون فاسقاً؛ ليس بعدل؛ لا عند الله ولا عند النّاس* (2).
قال الله -تعالى-: {والذين يرمون المحصنات ثمِّ لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون *
إِلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإِنّ الله غفور رحيم} (3).
هل تُقبل شهادة القاذف إِذا تاب:
قال ابن كثير -رحمه الله- بعد بيان ما أوجب الشرع على القاذف: "ثمّ
__________
(1) عن "الروضة الندية" (2/ 608) بتصرف.
(2) انظر "تفسير ابن كثير" -رحمه الله-.
(3) النور: 4 - 5.
(6/65)
قال -تعالى-: {إِلا الذين تابوا من بعد ذلك
وأصلحوا فإِنّ الله غفور رحيم}.
اختلف العلماء في هذا الاستثناء: هل يعود إِلى الجملة الأخيرة فقط؛ فترفع
التوبة الفسقَ فقط، ويبقى مردودَ الشهادة دائماً وإِنْ تاب، أو يعود إِلى
الجملتين الثانية والثالثة؟
أمّا الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصرّ، ولا حكم له بعد ذلك بلا
خلاف، فذهب الإِمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إِلى أنه إِذا تاب قُبِلت
شهادته، وارتفع عنه حُكْم الفسق، ونص عليه سعيد بن المسيب -سيد التابعين-
وجماعة من السلف أيضاً.
وقال الإِمام أبو حنيفة: إِنما يعود الاستثناء إِلى الجملة الأخيرة فقط،
فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبداً.
وممن ذهب إِليه من السلف: القاضي شريح، وإِبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير،
ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال الشعبي والضحاك: لا تُقبل شهادته وإِنْ تاب، إِلا أن يعترف على نفسه
بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، والله أعلم".
قال في "الروضة الندية" (2/ 609): "وإِذا لم يتُب لم تُقبل شهادته؛ لقوله
-تعالى-: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} ثمّ ذَكر بعد ذلك التوبة.
والذي يترجّح لديّ قبول شهادته إِذا تاب توبة نصوحاً وأكذب نفسه، ويقرّ أنه
قال البُهتان، وذلك لما يأتي:
(6/66)
1 - للنصوص العامّة في قَبول التوبة
بشروطها، ومن ذلك توبة القاتل (1) وهو أعظم جرماً من القاذف -بل تُقبل توبة
المشرك إِذا تاب.
وحين سألت شيخنا -رحمه الله- هل تقبل توبة الكاذب على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اختلف فيها العلماء -وكنتُ مستحضراً في
نفسي أَن الله تعالى يقبل التوبة من الشرك- فقال: إِذا كانت تُقبل توبة
المشرك مِن شركه، فكيف بالكاذب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -!.
2 - لترجيحي قول العلماء الذين يرون رجوع الاستثناء إِلى الجملتين لا إِلى
الجملة الأخيرة فقط.
وقد فصَّل القولَ في ذلك الأُستاذ عبد القادر عبد الرحمن السعدي في كتابه
النافع "أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن
التشريعية" (ص 211 - 215) مُبّيناً أقوال النحاة والراجح في ذلك. فارجع
إِليه -إِن شئت- فإِنه مهمّ.
وأمّا أن يكذب نفسه، ويقرّ أنه قال البهتان، فهذا من شروط التوبة المتعلّقة
بحقوق العباد، ورد الظالم، وتبرئتهم مما يجب فيه ذلك.
__________
(1) وفي المسألة تفصيل، والراجح قَبول توبة القاتل، ومن الأدلة على ذلك؛
أثر ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنه أتاه رجل فقال: إِنّي خطبتُ امرأة فأبت
أن تنْكحني وخطبَها غيري فأحبّت أن تنكحه، فغِرت عليها فقتلتُها، فهل لي من
توبة؟ قال: أمّك حيّة؟ قال: لا، قال: تبْ إِلى الله -عز وجل- وتقرَّبْ
إِليه ما استطعت، قال عطاء بن يسار: فذهبتُ فسألت ابن عباس -رضي الله
عنهما- لم سألته عن حياة أمّه؟ فقال: إِني لا أعلم عملاً أقرب إِلى الله
-عز وجل- من بر الوالدة" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب
المفرد" برقم (4).
(6/67)
قال الله -سبحانه-: {إِنّ الذين يكْتُمُون
ما أنزلْنَا من البيّناتِ والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك
يلعَنُهُمُ الله ويلعَنُهُم اللاعنُون * إِلا الذين تَابُوا وأصلَحُوا
وبيّنوا فأولئك أتُوبُ عليهم وأنَا التّواب الرّحيم} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفى هذا دلالة على أنّ الداعية إِلى كُفر أو
بدعة إِذا تاب إِلى الله؛ تاب الله عليه".
من رمى المحصنة ولم يأتِ بأربعة شهداء:
عن أبي عثمان النهدي قال: "جاء رجل إِلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فشهد
على المغيرة بن شعبة فتغيّر لون عمر، ثمّ جاء آخر فشهد؛ فتغيّر لون عمر،
ثمّ جاء آخر فشهد؛ فتغيّر لون عمر، حتى عرفنا ذلك، وأنكر لذلك، وجاء آخر
يحرك بيديه، فقال: ما عندك يا سلخ العقاب، وصاح أبو عثمان صيحة تشبهها صيحة
عمر، حتى كربت (2) أن يغشى عليّ، قال: رأيت أمراً قبيحاً.
قال: الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فأمر بأولئك النفر فجلدوا" (3).
__________
(1) البقرة: 159 - 160.
(2) كربت: بمعنى دنوت وقربت، انظر "النهاية".
(3) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2361): "وإسناده
صحيح". ورجاله ثقات غير ابن رشيد وهو صدوق وقد توبع، فقال ابن أبي شيبة
(11/ 85/1): نا ابن علية عن التيمي عن أبي عثمان قال: "لما شهد أبو بكرة
وصاحباه على المغيرة جاء زياد، فقال له عمر: رجلٌ لن يشهد إِن شاء الله
إلاَّ بحقّ، قال: رأيت =
(6/68)
وله طريق أُخرى عن قسامة بن زهير قال: لمّا
كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان -وذكر الحديث- قال: فدعا الشهود،
فشهد أبو بكرة، وشبل بن معبد، وأبو عبد الله نافع، فقال عمر حين شهد هؤلاء
الثلاثة: شق على عمر شأنه، فلما قدم زياد قال: إِن تشهد إِن شاء الله إِلا
بحق، قال زياد: أما الزنا فلا أشهد به، ولكن قد رأيت أمراً قبيحاً، قال
عمر: الله أكبر، حدوهم، فجلدوهم، قال: فقال أبو بكرة بعدما ضربه: أشهد أنه
زان، فهمّ عمر -رضي الله عنه- أن يعيد عليه الجلد، فنهاه عليّ -رضي الله
عنه- وقال: إِن جلدته فارجم صاحبك، فتركه ولم يجلده" (1).
إِذا كرّر القذف للشخص نفسه:
إِذا قذف المرء شخصاً وحُدّ، ثمّ قذفه مرّه أُخرى؛ حُدّ مرّة أخرى، وهكذا
لو عاد؛ فإِنّه يُحدّ لكل قذف.
ومن الأدلّة على ذلك؛ ما تقدّم في أثر قسامة بن زهير، وفيه قول عمر -رضي
الله عنه-: "الله أكبر؛ حدُّوهم، فجلَدوهم، فقال أبو بكرة بعد ما ضَربه:
أشهد أنه زان، فهمّ عمرُ -رضي الله عنه- أن يعيد عليه الجلد؛ فنهاه عليّ
-رضي الله عنه- وقال: إِنْ جلدْتَه؛ فارجم صاحبك، فتركه ولم يجلده" (2).
__________
= انبهاراً، ومجلساً سيئاً، فقال عمر: هل رأيت المرود دخل المكحلة؟ قال لا،
قال: فأَمَر بهم فجُلدوا" قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (8/ 29):
"وهذا إِسناد صحيح على شرط الشيخين".
(1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء"
(2361) وتقدّم.
(2) المصدر السابق.
(6/69)
والشاهد فيه أن عُمَر همّ بإِعادة الحدّ
مرّةً أُخرى، ومنعَه ذلك وضْع خاصّ، وهو أنّه إِذا حدّه، فكأنها أصبحت أربع
شهادات، فيجب رجْم المقذوف فلم يفعل -والله تعالى أعلم-.
سُقوط حد القذف (1):
ويسقط حد القذف بمجيء القاذف بأربعة شهداء؛ لأن الشهداء ينفون عنه صفة
القذف الموجبة للحد، ويثبتون صدور الزنى بشهادتهم، فيقام حد الزنى على
المقذوف؛ لأنه زان، وكذلك إِذا أقرّ المقذوف بالزنى، واعترف بما رماه به
القاذف.
وإِذا قذفَت المرأة زوجها، فإِنه يقام عليها الحدّ إِذا توفرت شروطه، بخلاف
ما إِذا قذَفَها هو، ولم يُقِم عليها البيّنة؛ فإِنه لا يقام عليه الحدّ،
وإِنما يتلاعنان (2).
إِقامة الحد يوم القيامة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من قذَف مملوكه وهو بريء مما قال؛ جُلِد يوم
القيامة، إِلا أن يكون كما قال" (3).
__________
(1) عن "فقه السنّة" (3/ 222).
(2) وانظر (باب اللعان) في المجلد الرابع.
(3) أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1660).
(6/70)
حدّ السّرقة
تعريف السّرقة:
السرقة لغةً: أخْذ الشيء المحرَز من الغير؛ من مالكه أو نائبه على وجه
الاختفاء (1).
أجمع العلماء على قطع اليد في السرقة لقوله -تعالى-: {والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديَهما ... } (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "تقطع اليد في رُبع دينار فصاعداً" (3).
أنواع السرقة (4)
والسرقة أنواع:
1 - ما يوجب التعزير: وهي السرقة التي لم تتوفر فيها شروط إِقامة الحد، وقد
قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمضاعفة الغُرم
والعقوبة على مَن سَرَق ما لا قطْع فيه؛ كما في سارق الثمار المعلّقة، وكذا
سارق الشّاة من المرتع.
__________
(1) "منار السبيل" (2/ 340) -بتصرّف وزيادة يسيرين-.
(2) المائدة: 38.
(3) أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684).
(4) عن "فقة السُّنة" (3/ 259) -بتصرف-.
(6/71)
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله
عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه سُئل عن
الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه (1) من ذي حاجة غير مُتّخذٍ خُبْنَةً
(2)، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مِثلَيْه والعقوبة، ومن
سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجَرين (3) فبلغ ثمن المجنّ (4) فعليه القطع"
(5).
وفي رواية من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة
أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله!
كيف ترى في حريسة (6) الجبل، فقال: "هي وَمثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في
شَيْء مِنَ الماشيَة قَطعٌ، إِلا فيما آوَاه المُراحُ (7). فَبَلغَ ثمن
المِجَنّ، فَفيِه قَطْع اليد، وما لم يَبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيِه
__________
(1) فيه دليل على أنّه إِذا أخَذَ المحتاج بُغيته لسدّ فاقته؛ فإِنه مباح
"عون المعبود" (5/ 91).
(2) الخُبنة: مِعطف الإِزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه.
(3) الجَرين: موضع تجفيف التمر، وهو له كالبيدر للحِنطة "النهاية".
(4) المجنّ: هو التُرس؛ لأنه يواري حامله: أي يستره والميم زائدة "النهاية"
أيضاً.
(5) أخرجه أبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (1504)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4593) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2104) وانظر "الإِرواء"
(2413).
(6) الحريسة: فعيلة بمعنى مفعولة: أي أنّ لها مِن يحرسها ويحفظها ومنهم من
يجعل الحريسة السرقة نفسها ... "النهاية" والمراد: ليس فيما يُسرق من الجبل
قطع، لأنه ليس بحرز.
(7) المُراح: الموضع الذي يريح الراعي إليه الماشية إِذا أمسى وانظر "غريب
الحديث" للهروي.
(6/72)
غرامةُ مِثْليِه، وجَلَدَات نَكَال" (1).
قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟
قال: "هو ومِثلُه معهُ والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا
فيما آواه الجَرينُ، فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففيِه
القَطعُ، وما لم يَبْلغ ثَمَنَ المِجَن فَفِيه غَرَامةُ مِثليْه وجَلداتُ
نَكَال" (2).
وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر (3) ". (4)
2 - ما يوجب الحدّ وهي التي يجب فيها قطع اليد.
ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع:
عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "ليس على خائن (5) ولا مُنْتهب (6)
__________
(1) النكال: العقوبة التي تنكُلُ الناسَ عن فِعْل ما جُعلت له جزاءً
"النهاية".
(2) أخرجه النسائي، "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإرواء" (2413).
(3) الكَثَر: -بفتحتين- جُمّار النخل، وهو شحمه الذي وسَط النخلة
"النهاية".
(4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والدرامي وغيرهم وصححه شيخنا
-رحمه الله- في "الإِرواء" (2414).
(5) الخائن: أي في نحو وديعة.
(6) المنتهب: هو الذي يعتمد القوّة والغَلَبة ويأخذ عياناً.
(6/73)
ولا مختلس (1) قطع (2) ". (3)
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأمّا قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترْك
قطْع المختلس، والمنتهب، والغاصب، فمِن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإِنّ
السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإِنه ينقُب الدور، ويهتك الحِرز، ويكسر
القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطْعه،
لسَرَق الناس بعضهم بعضاً، وعظُم الضرر، واشتدت المحنة بالسُّراق، بخلاف
المنتهب والمختلس؛ فإِن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس،
فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويُخلّصوا حقّ المظلوم أو يشهدوا له عند
الحاكم.
__________
(1) المختلس: هو من يأخذ معاينةً ويهرب، لأنّ من شرط القطع الإِخراج من
الحرز.
(2) قال في "فيض القدير" (5/ 369): " ... وليس عليهم قطع لأنهم غير سُرّاق
والله -سبحانه- أناط القطع بالسرقة، قال ابن العربي: أمّا المنتهب فلأنه قد
جاهر، والسرقة معناها الخفاء والتستر عن الأبصار والأسماع.
وأمّا المختلس فإِنه وإنْ كان سارقاً لغةً؛ فليس بسارق عرفاً، فإِنه مجاهر
لا يقصد الخلوات ولا يترصد الغفلات إِلا عن صاحب المال فقط، وإنما يراعى
فعل السرقة على العموم.
وأمّا الخائن فلأنه ائتمن على المال ومكن منه فلم يكن محترزاً عنه كالمودع
والمأذون في دخول الدار".
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1172)، وأبو داود "صحيح سنن أبي
داود" (3690)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2099)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4606).
(6/74)
وأمّا المختلس فإِنّه إِنّما يأخذ المال
على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يُمكّن به المختلس من
اختلاسه، وإِلا فمع كمال التحفُّظ والتيقُّظ، لا يمكنه الاختلاس، فليس
كالسارق، بل هو بالخائن أشبه، وأيضاً فالمختلس إِنما يأخذ المال من غير
حِرز مثله غالباً، فإِنه الذي يغافلك، ويختلس متاعك في حال تخلّيك عنه،
وغفلتك عن حِفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب.
وأمّا الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ
كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنَّكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال".
(1)
هل في جحد العارية حدّ؟
*اختلف العلماء في حُكم جاحد العارية، فقال الجمهور لا تُقطع يده؛ لأن
القرآن والسنّة أوجبا القطع على من سرق، والجاحد للعارية ليس بسارق! * (2).
وذهب الإِمام أحمد (3) وإِسحاق وجمْع من العلماء إِلى قطع يده لحديث عائشة
-رضي الله عنها- "أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي
__________
(1) قاله ابن القيم في "إِعلام الموقعين" (2/ 61) وذكره السيد سابق -رحمه
الله- في "فقه السنة" (3/ 262).
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 262) -بتصرف-.
(3) في "منار السبيل" (2/ 340) قال الإمام أحمد: "لا أعرف شيئاً يدفعه،
وعنه: لا قطع عليه".
(6/75)
سرقت فقالوا: من يكلّمُ فيها رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن يجترئ عليه إِلا أسامة حِبّ (1)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فكلم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله؟
ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إِنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إِذا
سرق الشريف تركوه، وإِذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم (2) الله
لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقَت لقطع محمد يدها" (3).
وفي رواية عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير
المتاع وتجحده، فأمرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
تُقطَع يدها ... " (4).
قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- بعد تفصيل ومناقشة للآراء المخالفة في
"المحلى" (3/ 414): "فتُقطع يد المستعير الجاحد؛ كما تقطع من السارق -سواءٌ
بسواء- .... ".
ولا شك أن الحديث هو الفيصل فقد نزّل الجحد منزلة السرقة، وقد كان القطع
لأجل الجحد، ورواية "سرقت" تفسير للفظ "تستعير المتاع وتجحده".
قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (7/ 308):
__________
(1) أي محبوبه.
(2) أيم اللهِ: من ألفاظ القَسم، وفيها لغاتٌ كثيرة، وتُفتَح همزتها
وتُكسَر، وهمزتها وصْلٌ، وقد تُقطع. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري (6788) ومسلم (1688).
(4) أخرجه مسلم (1688).
(6/76)
" .. فالحق قطع جاحد الوديعة؛ ويكون ذلك
مُخصِّصاً للأدلة الدالة على اعتبار الحرز، ووجهه أن الحاجة ماسّة بين
الناس إِلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إِذا جحَد؛ لا شيء عليه؛
لجَرّ ذلك إِلى سد باب العارية وهو خلاف المشروع".
الصفات التي يجب اعتبارها في السارق (1):
*1 - أن يكون السارق بالغاً عاقلاً؛ فلا حدّ على مجنون ولا صغير إِذا سرق؛
لأنهما غير مُكَلَّفين ولكن يُؤدّب الصغير إِذا سرَق.
ولا يُشترط في السارق الإسلام؛ فإِذا سَرق الذّمي أو المرتدّ فإِنه يُقطع،
كما أنّ المسلم يُقطَع إِذا سرَق من الذمّي.
[أقول: هذا لعموم النصوص الواردة في عقوبة السارق والسارقة من غير استثناء؛
فتُؤخذ على عمومها].
2 - الاختيار؛ بأن يكون السارق مختاراً في سرقته، فلو أُكره على السرقة؛
فلا يُعدّ سارقاً؛ لأن الإِكراه يسلبه الاختيار، وسلْب الاختيار يُسقِط
التكليف.
3 - ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة، فإِن كانت له فيه شُبهة؛ فإِنه
لا يقطَع، ولهذا لا يقطع الأب ولا الأمّ بسرقة مالِ ابنيهما.* (2).
فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- "أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إِنّ لي
__________
(1) لا يجب القطع إِلا بسبعة شروط ذكرها صاحب "المغني" -رحمه الله- في
كتابه تحت (باب القطع في السرقة) فانظرها -إِن شئت- المزيد من الفائدة.
(2) ما بين نجمتين من "فقه السُّنة" (3/ 264).
(6/77)
مالاً وولداً. وإِنّ أبي يريد أن يجتاحَ
مالي. فقال: أنت ومَالُك لأبيكَ" (1).
وجاء في "السيل الجرّار": (4/ 367) قوله: "ولا يقطع والد لولده وإنْ سفُل".
أقول: لا شك أنّ حديث: "أنت وَمالُكَ لأَبيكَ" يكون شبهة أقلّ أحْوَاله،
وهو حديث تقوم به الحجّة، وقد عضده حديث: "كُلُوا مِنْ كَسبِ أولادكم"
وأمّا الولد إِذا سرق مال والده فلا شبهة له، وهو مشمول بالأدلة الموجبة
للحد على السارق.
قلت: ويرى شيخنا -رحمه الله- أنه لا بدّ من تقييد هذا بالحاجة، والله أعلم
بالصواب.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِنّ أولادكم هِبَةُ الله لكم {يَهَبُ لمن يشاء إناثاً
ويَهَبُ لمن يشاء الذّكور} فهم وأموالهم لكم إِذا احتجتُم إِليها" (2).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وفي الحديث فائدة فقهية هامة قد لا تجدها في غيره،
وهي أنه يبين أنّ الحديث المشهور: "أنت ومالك لأبيك" (3) ليس على إِطلاقه،
بحيث أنّ الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا وإِنما يأخذ ما هو بحاجة
إِليه". انتهى.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1855) وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (838).
(2) أخرجه الحاكم وعنه البيهقي وانظر "الصحيحة" (2564).
(3) انظر"الإرواء" (838).
(6/78)
قلت: لذلك كان يرى ابن حزم -رحمه الله- قطع
الأب والأم لغير حاجة فقد قال في "المحلى" (13/ 385): " ... فصحّ أن القطع
واجب على الأب والأمّ، إِذا سرقا من مال ابنهما؛ ما لا حاجة بهما إِليه".
والذي يترجح لديّ عدم إِقامة الحدّ على الأب للشبهة المعلومة، فإِن الوالد
لا يُقتل بولده، -كما سيأتي إِن شاء الله تعالى في حدّ القتل (1) -.
وسيأتي الآن بعد سطرٍ -بإِذن الله سبحانه- عدم قطع الخادم؛ فالأب من باب
أولى. والله -تعالى- أعلم.
ولا يقطع الخادم الذي يخدم سيده.
فعن السائب بن يزيد؛ أنّ عبد الله بن عمرو الحَضرمي جاء بغلام له إِلى عمر
بن الخطاب فقال له: "اقطع يد غلامي هذا فإِنه سرق، فقال له عمر: ماذا سرق؟
فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهماً. فقال له عمر: أرسِله فليس عليه
قطع، خادمكم سرق متاعكم" (2).
وعن عمرو بن شرحبيل قال: "جاء معقل المزنيّ إِلى عبد الله فقال: غلامي سرق
قبائي، فاقطعه، قال عبد الله: لا؛ مالك بعضُه في بعض".
__________
(1) وفي ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يُقتَل والدٌ
بولده" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله - في
"الإرواء" (2214).
(2) أخرجه مالك والشافعي والبيهقي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2419).
(6/79)
وفي لفظ "مالك سرق بعضه بعضاً؛ لا قطع
عليه" (1).
الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق:
*1 - أن يكون ممّا يُتَموَّل ويُملَك ويَحل بيعه، وأخذ العِوض عنه، فلا قطع
على من سَرق الخمر والخنزير؛ حتى لو كان المالك لهما ذمّيّا؛ لأن الله
-تعالى- حرّم ملكيتهما والانتفاع بهما؛ بالنسبة للمسلم والذّمي على السواء.
وكذلك لا قطع على سارق أدوات اللهو؛ مثل العود والكمنج والمزمار (2)؛ لأنها
آلات لا يجوز استعمالها، وأمّا الذين يُبيحون استعمالها؛ فهم يتفقون مع مَن
يُحرّمها في عدم قطع يد سارقها، لوجود شبهة، والشبهات مُسقِطةٌ للحدود*
(3).
2 - أن يكون في حرز (4)، فشَرْط القطع؛ الإِخراج من الحرز -كما تقدم- قال
النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (11/ 185): "والحرز مشروطٌ؛ فلا قطع إِلا
فيما سرق من حرزٍ، والمعتبر فيه العُرف؛ ممّا عدّه أهل العُرف حرزاً لذلك
الشيء؛ فهو حِرزٌ له، ومالا؛ فلا .. " (5).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإِسناده
صحيح"، وقال البيهقي: "وهو قول ابن عباس" وانظر "الإِرواء" (2421).
(2) انظر للمزيد -إن شئت- ما جاء في "المغني" (10/ 282).
(3) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 267).
(4) الحرز في اللغة: الموضع الحصين.
(5) انظر للمزيد -إِن شئت- ما جاء في "الروضة الندية" (2/ 595).
(6/80)
قلت: وهذا مأخوذٌ باستقراء الأحاديث
والآثار؛ كما هو بيّن.
3 - أَلاّ يقل الشيء المسروق عن ربع دينار من ذهب أو ما يعادلها كما في
الحديث "تُقطع اليد في ربع دينار" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم تُقطع يَد السارق في عهد رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أقلّ مِن ثمن المجنّ (2) جَحَفة
(3) أو ترس، وكلاهما ذو ثمن" (4).
وفي رواية عنها أيضاً؛ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا تُقطَع يد السارق فيما دون المِجَنّ، قيل لعائشة: ما ثمن
المجنّ؟ قالت: ربع دينار" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "قطع سارقاً في مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم" (6).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لعَن الله السارق
__________
(1) أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684) وتقدّم في حدّ السرقة.
(2) المِجَنّ: بكسر الميم وفتح الجيم: وهو اسم لكل ما يُستجنّ به -أي
يُستَتَر-.
(3) الحَجَفة: هي الدَّرقة واحدة الحجف: وهي التروس من جلود بلا خشب ولا
عَقَب ولا رباط من عصب.
(4) أخرجه البخاري (6794)، ومسلم (1685).
(5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4583).
(6) أخرجه البخاري (6997)، ومسلم (1686).
(6/81)
يسرق البيضة (1) فتُقَطَع يده، ويَسرِق
الحبل فتُقطع يده".
قال الأعمش: كانوا يرَون أَنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرَون أنه منها ما
يساوي دراهم (2).
وجاء في "الفتح": " ... وحاصلُه أَنّ المراد بالخبر؛ أنّ السارق يسرق
الجليل فتُقطع يده، ويسرق الحقير فتُقطع يده، فكأنّه تعجيزٌ له وتضعيفٌ
لاختياره؛ لكونه باع يده بقليل الثمن وكثيره".
وقد ثبت في السُّنة المطهرة عدم القطع في الثمر والكثر (3).
عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا قطع في ثَمر ولا كَثَر" (4).
وذكر بعض الفقهاء أن فيه شبهة الشركة العامّة، لقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الكلأ،
والماء، والنار" (5).
__________
(1) فسّرها بعضهم بالخُوذة، وآخرون ببيضة الدجاجة، والراجح الأول وما في
معناه؛ كيلا يكون القطع في أقل من ربع دينار. والله أعلم.
(2) أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687).
(3) الكَثَر: تقدّم أنه شحم النخل الذي يكون وسط النخلة.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3688) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1173)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن ماجه" (2101)، والنسائي، "صحيح
سنن النسائي" (4595) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1414) وتقدّم.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2968)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2004) وانظر الإِرواء (1552).
(6/82)
ما يُعتبر في الموضع المسروق منه (1):
وأمّا الموضع المسروق منه، فإِنه يُعتبر فيه الحرز.
والحِرز؛ هو الموضع المعدّ لحفظ الشيء؛ مثل الدار، والدّكان، والاصطبل،
والمراح، والجرين (2)، ونحو ذلك.
واعتبار الشرع للحرز؛ لأنه دليل على عناية صاحب المال به، وصيانته له،
والمحافظة عليه من التعرض للضياع.
ودليل ذلك حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رجلاً من مُزَيْنة
أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا رسول الله!
كيف ترى حريسة الجبل، فقال: هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في شَيْء
مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ. فَبَلغ ثمن المِجَنّ،
فَفيِه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيِه غرامةُ مِثلْيِه،
وجَلَدَات نَكَال.
قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلّق؟ قال: هو ومِثلُه معهُ
والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا فيما آواه الجَرينُ،
فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففِيه القَطعُ، وما لم يَبْلغ
ثَمَنَ المِجَن فَفِيه غَرَامة
__________
(1) عن "فقه السنة" (3/ 274) -بحذف-.
(2) الجَرين: موضع تجفيف التمّر.
(6/83)
مِثليْه وجَلَداتُ نَكَال" (1).
قال ابن القيّم -رحمه الله-: "فإِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقه من الجرين.
وعند أبي حنيفة -رحمه الله- أنّ هذا لنقصان ماليته؛ لإسراع الفساد إِليه
وجعَل هذا أصلاً في كل ما نقصت ماليته بإِسراع الفساد إِليه.
وقول الجمهور أصح؛ فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل هذا له
ثلاثة أحوال: حالة لا شيء فيها، وهي ما إِذا أكل منه بفيه، وحالة يُغرم
مثليه ويُضرب من غير قطْع، وهي ما إِذا أخرجه من شَجَره وأخذه، وحالة يقطع
فيها وهو ما إِذا سرقه من بيدره؛ سواء أكان قد انتهى جفافه، أم لم ينته.
فالعبرة بالمكان والحرز، لا بيبسه ورطوبته، ويدل عليه أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط القطع عن سارق شاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها
من عَطَنها، (2) فإِنه حرز". انتهى.
الإِنسان حِرْز نفسه:
والإِنسان حِرْزٌ لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه، سواء كان في المسجد أم
في خارجه، فمن جلس الطريق ومعه متاعه فإِنه يكون مُحرَزاً به.
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2413) وتقدّم.
(2) العطن: مبرك الإِبل.
(6/84)
عن صفوان بن أميّة -رضي الله عنه- قال:
"كنت نائماً في المسجد عليّ خميصةٌ لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجل
فاختلسها مني، فأُخِذَ الرجل، فأُتي به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به ليقطع.
قال: فأتيته، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟
قال "فَهَلاَّ كان هذا قبل أن تأتيني به" (1).
المطالبة بالمسروق شرطٌ في القطع:
للحديث السابق وفيه شكوى صفوان -رضي الله عنه- على الرجل، وحين طلب العفو
عن السارق قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"فَهَلاَّ كان هذا قبل أن تأتيني به".
ففيه جواز العفو وعدم رفْعه إِلى وليّ الأمر.
المسجد حرزٌ:
قد تقدم حديث صفوان بن أميّة -رضي الله عنه- قال: "كنت نائماً في المسجد
عليّ خميصةٌ لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخِذَ الرجل،
فأُتي به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به ليقطع،
قال: فأتيته ... ".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قطع يد رجل سرق تُرْساً من صُفَّةِ النساء؛ ثمنه ثلاثة دراهم"
(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3693)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4532) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2317).
(2) أخرجه أبو داود"صحيح سنن أبي داود" (3687)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4559)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2411).
(6/85)
جاء في عون المعبود (12/ 35): "صُفّة
النساء بضم الصاد وتشديد الفاء: أي الموضع المختصّ بهن في المسجد وصُفّة
المسجد: موضع مُظلّل منه. قاله الشوكاني".
السرقة من الدار:
وعلى ما مضى من التفصيل فإِنّ الدار لا تكون حرزاً إلاَّ إِذا كان بابُها
مغلقاً والله أعلم-.
بمَ يثبثُ حدّ السرقة؟
يثبتُ حدّ السرقة بشهادة عدلين أو بالإِقرار.
إِذا تراجع الشاهدان في الشهادة بعد إِقامة الحدّ:
عن مطرِّفٍ عن الشعبي في رجلين شهدا على رجلٍ أنه سرق، فقطعه عليّ، ثمّ
جاءا بآخر، وقالا: أخطَأنا، فأبطل شهادتهما، وأخذَ بديَة الأول وقال: لو
علمتُ أنكما تعمّدتما لقطعتكما" (1).
وفي لفظ: "وأغرمهما دية الأول" (2).
إِذا عُلم كذب الشاهِدَين أقيم عليهما الحدّ:
أفاد الأثر السابق أنه إِذا عُلم كذب الشاهدين؛ أقيم عليهما الحد، وفيه قول
علي -رضي الله عنه-: "لو علمتُ أنّكما تعمّدتما لقطعتكما".
__________
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب - 21) ووصله الشافعي
عن سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف بن الشعبي .. كذا قال الحافظ -رحمه
الله- في الفتح تحت الباب السابق.
(2) انظر ما جاء في "الفتح" أيضاً تحت الباب السابق.
(6/86)
هل يتوقف الحدّ على طلب المسروق منه؟
نعم؛ يتوقّف الحد على مطالبة المسروق منه، وقد تقدم قول صفوان -رضي الله
عنه- حين سُرقت منه الخميصة- أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً، أنا أبيعه
وأنسئه ثمنها؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"فَهَلاَّ كان هذا قبل أنْ تأتيني به".
ومما يدّل على أن الحد يتوقف على طلب المسروق منه؛ ما ثبت عن عبد الله ابن
عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "تعافوا (1) الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد
وجب" (2).
هل يُلقّن القاضي السارق ما يُسقط الحدّ؟
للقاضي أن يُلقّن السارق ما يُسقط الحدّ، فليس المراد الحدّ في نفسه، ولكن
المراد التوبة والإِقلاع عن التعدّي على النّاس، فمن لم يعِ هذه المعاني
فإِن الحدود تزجره وتكفّه عن اقتراف هذه العاصي.
عن القاسم بن عبد الرحمن أن عليّاً -رضي الله عنه- أتاه رجل فقال: "إِني
سرقت، فطرَده ثمّ عاد مرة أخرى فقال: إِني سرقت فأمَرَ به أن يُقطَع".
وفي لفظ: "لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين" حكاه أحمد في رواية
مهنا (3).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- " أنه أُتي بجارية سوداء سرقت، فقال
__________
(1) أي: تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إِليّ، فإني متى علمتها أقمتها.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3680) والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4538) وانظر المشكاة (3568).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد صحيح
على شرط الشيخين" وانظر "الإِرواء" (2425).
(6/87)
لها: سرقتِ؟ قولي لا، فقالت: لا، فخلّى
سبيلها" (1).
وعن عطاء قال: "كان من مضى يؤتى بالسارق، فيقول: أسرقت؟ ولا أعلمه إِلا
سمّى أبا بكر وعمر" (2).
وفي سؤال أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: أسرقْت؟ مجال لقول: لا، فهذا ضرْب
من ضروب التلقين. والله -تعالى- أعلم.
عقوبة السرقة:
إِذا ثبتت السرقة وجَب إِقامة الحد على السارق؛ لقوله -تعالى-: {والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديَهما ... } (3).
فتقطع يده اليمنى من مفصِل الكفّ.
قال الإِمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآية السابقة: "فإِذا قطعت اليد
أو الرجل؛ "فإِلى أين تقطع؟ فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المفصِل
... ".
وذكر الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" تحت المسألة (2288) (13/
404) صِفة القطع وأنها من المفصِل وذكر بعض الآثار عن عمر -رضي الله عنه-
وغيره من السلف.
وقال -رحمه الله-: "وهكذا وجدنا الله -تعالى- إِذا أمَرَنا في التيمم بما
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" تحت
رقم (2427).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في الإِرواء (8/
79) تحت (2427).
(3) المائدة: 38.
(6/88)
أمَرَ، إِذ يقول -تعالى-: {فلم تجدوا ماءً
فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (1).
ففسّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراد الله -تعالى-
بذكر الأيدي هاهنا، وأنه الكفان فقط، على ما قد أوردناه".
ثم قال (ص 405): "وإِنْ سرق الحُر؛ قُطعت يده من الكوع وهو المفصل" (2).
وجاء في رسالة "منزلة السُّنة في الإِسلام وبيان أنه لا يُستغنى عنها
بالقرآن" (ص 7) لشيخنا -رحمه الله-: "وقوله تعالى: {والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديَهما ... }. مثالٌ صالح لذلك (3) فإِنّ السارق فيه مطلق كاليد،
فبيَّنت السُّنّة القولية الأول منهما، وقيَّدتْه بالسارق الذي يَسرق ربع
دينار بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قطع إِلا في ربع
دينار فصاعداً". أخرجه الشيخان.
كما بيّنت الآخر بفِعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فِعْل
أصحابه وإِقراره، فإِنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل -كما هو
معروف في كتب الحديث- بينما بيّنَت السنة القولية اليد المذكوره في آية
التيمم: {فَامسَحُوا بوجوهكمْ وأيْدِيكمْ} (4) بأنها الكف أيضاً بقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التيمم ضربة للوجه والكفين" أخرجه
أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمّار بن ياسر -رضي الله عنهما-".
__________
(1) المائدة: 6.
(2) وانظر للمزيد -إِن شئت- "المغني" (10/ 264) و"السيل الجرار" (4/ 362).
(3) أي: ضرورة السُّنة لفهم القرآن.
(4) المائدة: 6.
(6/89)
حسْم (1) يد السارق إِذا قُطعت:
إِذا قُطعت يد السارق وجَب حسْمها، لأنّ حدّه قطع اليد، وعدم الحسم قد
يُفضي إِلى الموت والهلاك.
وفي (باب الحرابة) تحت عنوان: (عدم حسم المحاربين من أهل الردّة) سيأتي -إن
شاء الله تعالى- حديث أنس -رضي الله عنه- وفيه: "فقَطَع أيديهم وأرجلهم
وسَمل أعينهم ثم لم يحسِمهم".
فدلّ هذا على أن الأصل في قطع اليد هو الحسم، لكن هؤلاء المحاربين لم
يُحسموا لشناعة جريمتهم.
فائدة: *والمرأة كالرجل في الحدود كُلّها، كما في النصوص والآثار؛ وأمّا
حديث النهي عن قتل النساء؛ فذلك إِنّما هو في حال الحرب؛ لأجل ضعفهنّ وعدم
مشاركتهنّ في القتال* (2).
فعن رباح بن ربيع قال: "كنّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في غزوة، فرأى النّاس مجتمعين على شيء، فبعَث رجلاً فقال: انظر
عَلامَ اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: ما كانت هذه
لتُقاتل.
قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: قلْ لخالد لا
يَقْتُلَنّ امرأةً، ولا عَسيفاً (3) " (4).
__________
(1) الحسم: أن توضع اليد بعد القطع في زيت حارّ، وذلك لمنْع استمرار نزْف
الدّم، ويتحقّق بأي صورة طيّية؛ يمكن أن تمنع نزْف الدم، وتقدّم.
(2) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (3/ 230) بتصرّف يسير.
(3) العسيف: الأجير انظر "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2324) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2294) وانظر "الصحيحة" (701).
(6/90)
|