الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الحرابة

(6/113)


الحرابة (1)

تعريفها:
الحرابة -وتسمَّى أيضاً قطع الطَّريق-: هي خروج طائفة مسلَّحة في دار الإِسلام؛ لإِحداث الفوضى، وسفْك الدِّماء، وسلْب الأموال، وهتْك الأعراض، وإِتلاف الممتلكات.
وكما تتحقَّق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات؛ فإِنَّها تتحقَّق كذلك بخروج فردٍ من الأفراد، فلو كان لفردٍ من الأفراد فضلُ جبروت وبطْش، ومزيدُ قوَّة وقدرة، يغلب بها الجماعة على النفس والمال والعرض؛ فهو محاربٌ وقاطعُ طريق.
ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الأطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت والمصارف، وعصابة خطف البنات والعذارَى للفجور بهنّ، وعصابة اغْتيال الحُكَّام؛ ابتغاء الفتنة، واضطراب الأمن، وعصابة إِتلاف الزروع، وقتل المواشي والدواب.
وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب؛ لأن هذه الطائفة الخارجة على النظام، تعَدّ مُحاربةً للجماعة مِن جانب، ومحاربة للتعاليم الإِسلاميَّة التي جاءت لتُحقِّق أمْن الجماعة، وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر.
فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يُعدُّ محاربة، ومِنْ ذلك أُخذت كلمة الحرابة، وكما يسمَّى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإِنَّه يُسمَّى
__________
(1) عن "فقه السنة" (3/ 238) -بتصرّف-.

(6/115)


أيضاً قطع طريق؛ لأنَّ الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرُّون فيه؛ خشية أن تُسفَك دماؤهم، أو تُسلَب أموالهم، أو تُهتك أعراضهم، أو يتعرَّضون لما لا قدرة لهم على مواجهته.

الحرابَة جريمةٌ كُبرى:
والحرابة -أو قطع الطَّريق- تُعدّ من كُبْريات الجرائم، ومن ثمَّ أطلق القرآن الكريم على المتورِّطين في ارتكابها أقصى عبارة، فَجَعَلَهم محاربين لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وساعين في الأرض بالفساد، وغلَّظ عقوبتهم تغليظاً لم يجعله لجريمةٍ أخرى.
قال الله -سبحانه-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1).
وعن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَمَلَ علينا السِّلاح فليس منَّا" (2).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: فليس منَّا: أي: ليس على طريقتنا.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خرج من الطَّاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتةً جاهليَّة" (3).
__________
(1) المائدة: 33.
(2) أخرجه البخاري (6874) ومسلم (98).
(3) أخرجه مسلم (1848).

(6/116)


شروط الحرابة:
ولا بُدَّ من توافُرِ شروط معينة في المحاربين، حتى يستحقُّوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة.

شرط التَّكليف:
يُشترط في المحاربين العقل والبلوغ؛ لأنَّهما شرطا التَّكليف الذي هو شرطٌ في إِقامة الحدود، فالصَّبي والمجنون لا يُعدّ الواحد منهما محارباً، مهما اشترك في أعمال المحاربة؛ لعدم تكليف واحد منهما شرعاً، ولم يختلف في ذلك الفقهاء.
ولا تُشترط الذكورة ولا الحرية، لأنه ليس للأنوثة ولا للرّق تأثيرٌ على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة والعبد من القوة؛ مثل ما لغيرهما -أو أكثر- من التديبر، وحمْل السلاح، والمشاركة في التمرد والعصيان؛ فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة.

هل يُشترط حمل السِّلاح؟
ويُشترط في المحاربين عند بعض الفقهاء أن يكون معهم سلاح؛ لأنَّ قوَّتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة إِنَّما هي قوَّة السِّلاح، فإِن لم يكن معهم سلاح، فليسوا بمحاربين؛ لأنَّهم لا يمنعون من يقصدهم!
ويترجَّح لديَّ عدم اشتراط حمل السِّلاح إِذا تحقَّق معنى الحرابة وقطع الطَّريق. إِذ قد يكون القتل والإِيذاء بالسّموم والحرق ونحوهما، ومن المعلوم أنَّ الحرق يعمل عمله أكثر من عددٍ من أنواع الأسلحة؛ التي يستخدمها قُطَّاع

(6/117)


الطُّرق والمفسدون والعصابات.
ثمَّ قرأْتُ قول ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (13/ 320) تحت المسألة (2256) بعد أن ساق بإِسناده من طريق الإِمام مسلم -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ومَنْ خَرَجَ منْ أُمَّتي على أُمَّتي يضْرب بَرّها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس منِّي".
فقد عَمَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تسمع "الضَّرب" ولم يقل بسلاح، ولا غيره فصحَّ أنَّ كل حرابة بسلاح، أو بلا سلاح فسواء؟
قال: فوجب بما ذكَرنا أنَّ المحارب: هو المكابر المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح، أو بلا سلاح أصلاً سواء ليلاً، أو نهاراً، في مصر أو في فلاة، أو في قصر الخليفة، أو الجامع سواء قدموا على أنْفسهم إِماماً، أو لم يقدِّموا سوى الخليفة نفسه، فَعَل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصَّحراء، أو أهل قرية سكاناً في دورهم، أو أهل حصن كذلك، أو أهل مدينة عظيمة، أو غير عظيمة -واحداً كان أو أكثر-.
كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتْل نفس، أو أخْذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك فرج؛ فهو محارب، عليه وعليهم -كثروا أو قلُّوا- حُكم المحاربين المنصوص في الآية، لأنَّ الله -تعالى- لم يخصّ شيئاً من هذه الوجوه، إِذ عهد إِلينا بحُكم المحاربين {ومَا كانَ رَبُّكَ نَسِيّا} (1) ".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 316):
__________
(1) مريم: 64.

(6/118)


"ولو حاربوا بالعصِيِّ والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها: فهم محاربون أيضاً. وقد حُكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إِلا بالمحدد. وحكى بعضُهم الإِجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقَّل.
وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن، فالصَّواب الذي عليه جماهير المسلمين؛ أنَّ من قاتل على أخْذ المال بأيّ نوع كان من أنواع القتال؛ فهو محارب قاطع، كما أنَّ من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي، ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف، أو رمح، أو سهم، أو حجارة، أو عصى، فهو مجاهد في سبيل الله.
وأمَّا إِذا كان يقتل النفوس سرّاً، لأخذ المال؛ مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإِذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم. أو يدعو إِلى منزله من يستأجره لخياطة، أو طبّ أو نحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله، وهذا يسمَّى القتل غيلة ... ".

هل تُشترط الصَّحراء والبعد عن العمران؟
واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصَّحراء، فإِنْ فعلوا ذلك في البُنيان، لم يكونوا محاربين، ولأنَّ الواجب يسمَّى حدّ قُطَّاع الطَّريق، وقطْع الطَّريق إِنَّما هو في الصحراء، ولأن في المصر يلحق الغوث غالباً، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حدَّ عليه.
وذهب فريقٌ آخر إِلى أنَّ حُكْمهم في المصر والصَّحراء واحد؛ لأنَّ الآية بعمومها تتناول كل محارب، ولأنَّه في المصر أعظمُ ضرراً، فكان أولى.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 315): "بل

(6/119)


هم في البنيان أحقّ بالعقوبة منهم في الصَّحراء؛ لأنَّ البنيان محلّ الأمن والطمأنينة، ولأنَّه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإِقْدامهم عليه يقتضي شدَّة المحاربة والمغالبة؛ ولأنَّهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إِلا بعض ماله، وهذا هو الصَّواب".
والذي يترجَّح لديَّ عدم التَّفريق بين الصحراء والبنيان؛ لعموم الآية المتناولة كل محارب في أيّ مكان، فقطع الطَّريق وسفْك الدِّماء وسلْب الأموال وهتْك الأعراض واقعٌ في الصَّحراء والبُنْيان، والأودية والجبال.

هل تشترط المجاهرة؟
ومِن شروط الحرابة عند بعض الفقهاء المجاهرة، بأن يأخذوا المال جهراً، فإِنْ أخذوه مختفين، فهم سُرَّاق، وإِنْ اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون لا قطْع عليهم، وكذلك إنْ خَرَجَ الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئاً؛ لأنَّهم لا يرجعون إِلى منعة وقوَّة، وإِنْ خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قُطّاع طريق. وهذا مذهب الأحناف، والشافعيَّة، والحنابلة. وخالف في ذلك المالكيَّة، والظَّاهريَّة.
قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره، أنَّ الحرابة عامّة في المصر والقفر، وإِن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خَرج بعصاً في المصر يُقْتَلُ بالسَّيف، ويُؤخَذُ فيه بأشدّ من ذلك، لا بأيسره؛ فإِنَّه سلبَ غيلةً، وفِعْل الغيلة أقبح من فِعل المجاهرة.
ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة، فكان قِصاصاً، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أنَّ قطع السبيل موجب للقتل.

(6/120)


وقال: لقد كنتُ، أيام تولية القضاء، قد رُفِعَ إِليَّ أمرُ قومٍ خَرَجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبةً على نفسها من زوجها، ومِن جملة المسلمين معه فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأُخِذوا وجيء بهم.
فسألتُ من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لأنَّ الحرابة إِنَّما تكون في الأموال، لا في الفروج. فقلتُ لهم: إِنَّا لله وإِنَّا إِليه راجعون! ألم تعلموا أنَّ الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وأنَّ الناس ليرضون أن تذهب أموالهم، وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة، لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاءٍ صحبة الجُهَّال، وخصوصاً في الفتيا والقضاء.
وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتلِ إِنسان على أخذ ماله، وإِن لم يُشهِر السِّلاح، ولكن دخل عليه بيته، أو صَحِبَه في سفر، فأطعمه سُمًّا فقتله، فيقتل حدًّا، لا قوَداً.
وقريب من هذا القول، رأي ابن حزم، حيث يقول: إِنَّ المحارب هو المكابر، المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبل الأرض؛ سواء بسلاح، أم بلا سلاح أصلاً، سواء ليلاً، أم نهاراً، في مصر أم فلاة، في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجندٍ، أم بغير جند، منقطعين في الصحراء، أم أهل قرية؛ سكاناً في دورهم، أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة، أم غير عظيمة، كذلك واحد، أم أكثر، كل من حارب المارة، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخْذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم،

(6/121)


كثُروا أو قلُّوا (1).
ومن ثمّ يتبيَّن أنَّ مذهب ابن حزم أوسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله في ذلك المالكيَّة؛ لأنَّ كل من أخاف السبيل على أي نحوٍ من الأنحاء، وبأيّ صورة من الصور، يُعدُّ محارباً، مستحقاً لعقوبة الحرابة.

عقوبة الحرابة:
أنزل الله -سبحانه- في جريمة الحرابة قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
فهذه الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد؛ لقوله -سبحانه-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدرُوا عَلَيْهِم}.
وقد أجمع العلماء على أنَّ أهل الشرك إِذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا، فإِنَّ الإِسلام يعصم دماءهم وأموالهم، وإِنْ كانوا قد ارتكبوا من المعاصي، قبل الإِسلام، ما يستوجب العقوبة: {قُلْ للذينَ كَفَروا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3).
__________
(1) وتقدم غير بعيد.
(2) المائدة: 33 - 34.
(3) الأنفال: 38.

(6/122)


قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- لنبيّه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ للذينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} أي: عمَّا هُم فيه من الكُفر والمشاقَّة والعِناد، ويدخلوا في الإِسلام والطَّاعة والإِنابة، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: من كُفرهم، وذنوبهم وخطاياهم؛ كما جاء في "الصحيح" من حديث أبي وائل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن أحسَن في الإِسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهليَّة، ومَن أساء في الإِسلام، أُخِذَ بالأوَّل والآخر" (1).
وفي "الصحيح" -أيضاً- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أما علمْتَ أنَّ الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله" (2).

سببُ نزول هذه الآية:
عن أبي قلابة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنَّ رَهطاً من عُكل -أو قال من عُرَينة، ولا أعلمه إِلا قال من عُكل- قدموا المدينة، فأمَرَ لهُم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلقاح، وأمَرَ أنْ يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فشرِبوا، حتَّى إِذا بَرِئوا قَتَلوا الرَّاعي واسْتاقوا النَّعم.
فبلغ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُدْوةً، فَبَعَثَ الطَّلبَ في إِثْرهم، فما ارتَفَعَ النَّهارُ حتَّى جيء بهم، فأمَرَ بهم فَقَطَعَ أيديهم وأرجُلَهُم وسَمَرَ أعيُنَهم، فأُلْقوا بالحرَّة يُستسقَون فلا يُسقَون" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (6921)، ومسلم (120).
(2) أخرجه مسلم (121).
(3) أخرجه البخاري (6805)، ومسلم (1671) وتقدّم في باب الطهارة.

(6/123)


قال أبو قِلابة: "هؤلاء قومٌ سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إِيمانهم وحاربوا الله ورسوله" (1).
وفي رواية: "فأنزل الله -تبارك وتعالى- في ذلك: {إنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} " (2).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ونزلت فيهم آية المحاربة" (3).
وفي رواية: " ... فلمَّا صحّوا كفروا بعد إِسلامهم، وقتَلوا راعيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمناً، واستاقوا ذود (4) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانطلقوا محاربين" (5).

العقوبات التي قررتها الآية الكريمة:
والعقوبة التي قررتها هذه الآية للذين يحاربون الله ورسوله، ويَسعَونَ في الأرضِ فساداً، هي إِحدى عقوبات أربع:
__________
(1) أخرجه البخاري (6805).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3670).
(3) أخرجه النسائي (3772) وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح سنن النسائي": حسن صحيح.
(4) الذَّود من الإِبل: ما بين الثنتين إِلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إِلى العشر "النهاية".
(5) "صحيح سنن النسائي" (3762) وأَصل أكثر هذه الألفاظ في "الصحيحين" كما تقدّم.

(6/124)


1 - القتل.
2 - أو الصَّلْب.
3 - أو تقطيع الأيدي والأرجُل من خِلاف.
4 - أو النَّفْي من الأرض.
وهذه العقوبات جاءت في الآية معطوفة بحرف "أو" وقد اختلف العلماء في "أو" في هذه الآية الكريمة، أهي للتَّخيير أم للتَّفصيل؟ (1).
__________
(1) جاء في كتاب "أثر الدلالة النحويَّة واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية" للأستاذ السعدي (ص 138) -بحذف-: ... ذهب فريق [من الفقهاء] إِلى أنَّ السلطة مخيَّرة بين العقوبات المذكورة، وأيُّها رآها السلطان أنفع للمصلحة أنْزلها بهم، ومن هؤلاء سعيد بن المسيب، ومجاهد، والحسن البصري، وعطاء، ومالك (أ).
ويرى أكثرهم أن هذه العقوبات تنزل بهم على حسب جنايتهم، فَمَن قَتَلَ قُتِلَ، ومَن قَتَلَ وأخَذَ المال قُتلَ وصُلِبَ، ومَن أَخَذَ المال بلا قَتْل قُطِعَت يده ورجلُه من خلاف، ومن أخاف أهل السبيل فقط فلم يَقْتُل ولم يأخُذ مالاً: نُفِيَ.
ومن القائلين بهذا ابن عبَّاس، والأوزاعي، وأبو يوسف ومحمد من الأحناف والشافعي (ب).
__________
(أ) انظر "بداية المجتهد" (2/ 445)، و"البحر المحيط" (3/ 470).
(ب) انظر "بدائع الصنائع" (7/ 93 - 94)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 145)، و"تفسير آيات الأحكام" (2/ 184).
وقد ضعَّف شيخنا -رحمه الله- هذا الأثر كما في "الإرواء" برقم (2441 و2444). الدليل النحوي للفريق الأوَّل:
إِنَّ "أو" في الآية للتخيير، فالسلطانُ مُخيَّر في إنزال أى عقوبة يراها مما ذُكر؛ مِن غير =

(6/125)


والذي يترجَّح لديّ أنَّ التَّخيير ليس بإِطلاق؛ ولا هو بالانتقائي، وإِنَّما هو نابعٌ مِنْ مرآة الفقه والعِلم وتحقيق العدل والإِنصاف، وعدم التسوية في
__________
= ملاحظة تناسبهم مع جناياتهم؛ لأنَّ ذلك مقتضٍ التَّخيير.
وحجَّة الفريق الثاني:
أن "أو" للتَّفصيل، والعرب تستعملها كثيراً بهذا المعنى، فيقولون: "اجتمع القوم فقالوا حارِبوا أو صالحوا، أي قال: بعضهم كذا وبعضهم كذا".
ويقوِّيه قول الله -تعالى-: {وقَالُوا كُونُوا هُوداً أو نَصَارَى تَهْتَدُوا} وليس المقصود التخيير، لأنَّه ليس هناك فرقة تخير بين اليهودية، والنَّصرانيَّة، بل كلٌّ يدعو إلى دينه، فكان المعنى: أنَّ بعضهم -وهم اليهود- قالوا كونوا هوداً، وبعضهم -وهم النَّصارى- قالوا كونوا نصارى.
وكثيراً ما تعتمد العرب على لفّ الكلامَين المختَلِفَين وتسمح بتفسيرها جملة، ثقةً منها بأنَّ السَّامع يردّ كلَّ مخبر عنه بما يليق به، كقول امرئ القيس:
كأنَّ قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكْرِها العناب والحشف البالي
فالعناب هو الرَّطب، والحشف هو اليابس، وقد لفهما بعبارة واحدة. ... فلمَّا كانت "أو" للتفصيل، فإِنَّها قد فصَّلت أحكام قطاع الطريق وجَعَلت لكل منهم حُكمه؛ لأنَّ جناياتهم لا بد من أن تكون مختلفة، وحينئذ يجب تقدير شرط محذوف ينسجم مع معنى التفصيل.
فيكون التقدير: أن يقَتَّلوا إِنْ قَتَلُوا، أو يُصَلَّبُوا إن قَتَلُوا وأخذوا المال، أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم إِن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا، أو يُنْفَوا من الأرض إن أخَافُوا السائرين في السبيل فقط.
ولدى موازنة الرَّأيين يتَّضِح لنا رُجْحان رأي الفريق الثاني لما يأتي:
1 - جعل "أو" في هذه الآية للتفصيل أولى من جَعْلها للتَّخيير، لأنَّنا إِذا تتبَّعنا كلام =

(6/126)


اقتراف الجريمة والإِفساد، كما في قوله -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلها} (1).
__________
= النُّحاة نجدهم يجعلون "أو" للتَّخيير بعد الطلب غالباً، وذلك واضح مِن أمثلتهم. وقد صرَّح ابن هشام بذلك فقال: "وهي الواقعة بعد الطلب" (1).
وحيث لم تقع بعد طلب في هذه الآية، فإِنَّ حَمْلها على التَّفصيل أولى من الناحية النَّحويَّة، وكذلك من الناحية الشَّرعيَّة؛ لأن القاعدة العامَّة في التَّشريع الإسلامي أنَّ العقوبة تكون بمقدار الجناية، لقوله -تعالى- في جزاء جناية صيد المحرم في الحج: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النًعَمِ} (ب).
2 - لو سلَّمنا أنَّها للتخيير على رأي الفريق الأوَّل، فإنَّه لدى التَّحقيق يتبيَّن لنا أنَّ مِثل هذا التَّخيير يتَّفق مع معنى التَّفصيل من حيثُ المعنى، وذلك لأنَّ الحكم المخير فيه إِذا كان سببه مختلفاً فإِنَّه يكون لبيان كل واحد من المخير بنفسه.
يوضح ذلك قوله -تعالى-: {إِمَّا أنْ تُعَذِّبَ وإِمّا أن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} (ج). فإنَّه ليس المراد هنا التَّخيير بين التَّعذيب أو الإِحسان مُطلقاً من غير ملاحظة عَمَل من يعذبهم أو يحسن إليهم، وإنما المراد بيان حُكمِ كلِّ صنف، أي إِمّا أن تعذب من ظلم أو تَتَّخذ الحسن فيمن آمن ولم يظلم.
فكذلك التخيير في إنزال العقوبة بقطاع الطريق إِنَّما يكون لبيان كل صنف منهم على حِدَة؛ لأنَّ سبب تلك العقوبة مُختلف. وبهذا يتَّضِح لنا أنَّ إِنزال العقوبة بهم يكون على وفق جنايتهم ... ".
__________
(أ) "مغني اللبيب" (1/ 59).
(ب) المائدة: 95.
(ج) الكهف: 86.
(1) الشورى: 40.

(6/127)


وهكذا فلا بدَّ مِن حَمل التَّخيير على التَّفصيل، فلا إِشكال، وقد أشار الأستاذ السَّعدي إِلى هذا جزاه الله خيراً.
وجاء في "الروضة النديَّة" (2/ 618) -بحذف-: "يفعل الإِمامُ مِنْها ما رأى فيه صلاحاً؛ لكلِّ منْ قَطَعَ طَريقاً وَلَو في المِصْر إِذا كان قد يسَعَى في الأرض فَساداً".
هذا ظاهر ما دلَّ عليه الكتاب العزيز مِنْ غير نظرٍ إِلى ما حدث من المذاهب، فإِنَّ الله -سبحانه- قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} (1)، فضمَّ إلى محاربة الله ورسوله ... السَّعي في الأرض فساداً، فكان ذلك دليلاً على أنَّ مَن عصى الله ورسوله بالسَّعي في الأرض فساداً؛ كان حدُّه ما ذكره الله في الآية.
ولمّا كانت الآية الكريمة نازلة في قُطَّاع الطريق وهم العرنيُّون، كان دخولُ مَن قَطَعَ طريقاً تحت عموم الآية دخولاً أوَّليّاً ثم حصر الجزاء في قوله: {أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أيْدِيهمْ وأرْجُلُهُم منْ خِلاف أو يُنْفَوا مِنَ الأرضِ} فخيَّر بين هذه الأنواع فكان للإِمام أن يختار ما رأى فيه صلاحاً منها.
فإِنْ لم يكن إِمامٌ فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات، فهذا ما يقتضيه نَظْم القرآن الكريم، ولم يأت من الأدلَّة النبويَّة ما يصرف ما يدلّ عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب.
__________
(1) المائدة: 33.

(6/128)


أمَّا ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في "مسنده" أنَّه قال في قُطَّاع الطَّريق: "إِذا قَتَلوا وأخذوا الأموال صُلِّبوا، وإِذا قتلُوا ولم يأخذوا المالَ قُتِلُوا ولم يُصَلَّبُوا، وإِذا أخذوا المال ولم يقتُلُوا قُطِعَت أيْديهم وأرْجلهم من خِلاف، وإِذا أخافُوا السَّبيل ولم يأخذوا مالاً نُفُوا من الأرض".
فليس هذا الاجتهاد ممَّا تقوم به الحُجَّة على أحد، ولو فرضنا أنَّه في حكم التَّفسير للآية. وإِنْ كان مخالفاً لها غاية المخالفة، ففي إِسناده إِبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف جدّاً لا تقوم بمثله الحُجَّة (1).
وقد ذهب إِلى مِثل ما ذهبنا إِليه جماعة من السَّلف كالحسن البصري وابن المسيِّب ومجاهد.
وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله. وقد ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العرنيين أنَّه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية -وهو القَطْع كما في الصحيحين، وغيرهما من حديث أنس- والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع، أو نحوها حتَّى يموت إِذا رأى الإِمام ذلك، أو يصلبه صلباً لا يموت فيه. فإِنَّ اسم الصَّلب يصدُق على الصَّلب المفضي إِلى الموت، والصَّلب الذي لا يُفضي إِلى الموت.
ولو فرضنا أنَّه يختصّ بالصَّلب المفضي إِلى الموت. لم يكن في ذلك تكرار بعد ذِكر القتل، لأنَّ الصَّلب هو قتْلٌ خاص. وأمَّا النَّفي من الأرض فهو طرْده من الأرض التي أفسد فيها ... " انتهى.
قلت: وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: " ... فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) انظر "الإِرواء" (2443).

(6/129)


فبعث في آثارهم، فلمَّا ارتفع النَّهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِّرت أعينهم (1) ... " (2).
وفي رواية: "ثمَّ أمر بمسامير فأُحميت فَكَحَلهم بها ... " (3).
فإِنَّ السَّمر لم يَرِد في الآية الكريمة، وهو من فِعل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا يبيِّن أنَّ الأمر يرجع إِلى الحاكم بما تقدَّم من قيود.
فالحاصل أن الأمر راجع إِلى السُّلطان (4) فهو مخيَّر في إِيقاع العقوبة اللازمة وفي تقدير العقوبة على التفصيل؛ بما يتناسب مع إِفساده وجريمته؛ وبما يكون الأقرب في العمل بمقتضى الآية الكريمة والحديث الشريف والآثار. والله -تعالى - أعلم.
وقد جاء في بعض الروايات:- قال أنس -رضي الله عنه-: "إِنَّما سمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعين أولئك، لأنَّهم سملوا أعين الرعاء" (5).

عدم حسْم المحاربين من أهل الرِّدَّة حتى يهلكوا وكذا عدم سقايتهم الماء ونبذهم في الشمس:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قدمَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفر من عُكل
__________
(1) سُمِّرت أعينهم: أي فُقئت.
(2) أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671).
(3) أخرجه البخاري (3018).
(4) انظر -إِن شئت- ما جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 310).
(5) أخرجه مسلم (1671).

(6/130)


فأسلموا، فاجْتووا (1) المدينة، فأَمَرهم أن يأتوا إِبلَ الصَّدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحُّوا، فارتدُّوا، فقتلوا رعاتها واسْتاقُوا الإِبلَ.
فبعث في آثارهم فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمل أعينهم، ثم لم يحسمهم (2) حتى ماتوا" (3).
وفي رواية: "فرأيت الرجُل منهم يَكْدُِمُ (4) الأرض بلسانه حتى يموت" (5).
أمَّا نبذهم في الشمس حتى يموتوا، فهو في بعض ألفاظ حديث أنس -رضي الله عنه- وفيه: "وسمَّر أعينهم ثم نبَذهم في الشمس حتى ماتوا" (6).

فائدة "1":
سُئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن ثلاثةٍ من اللصوص، أخذ اثنان منهم جَمَّالا، والثالث قتل الجمَّال: هل تُقتَل الثلاثة؟
__________
(1) فاجتووا: قال النووي: " ... أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم، قالوا: وهو مثشقٌّ من الجوى؛ وهو داء في الجوف".
(2) لم يحسمهم: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار وذلك لمنع استمرار نزف الدم، ويتحقَّق بأيِّ صورة طبيَّة يمكن أن تمنع نزْف الدم، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري (6802)، ومسلم (1671).
(4) يكدُِمُ: أي يقبض عليها ويعضّ. "النهاية"
(5) أخرجه البخاري (5685).
(6) أخرجه البخاري (6899)، ومسلم (1671).

(6/131)


فأجاب: إِذا كان الثلاثة حرامية؛ اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة؛ قُتِل الثلاثة؛ وإِنْ كان الذي باشر القتل واحد منهم. والله أعلم.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 310) -بحذف-: "وإِذا كان المحاربون الحراميَّة جماعة، فالواحد منهم باشَر القتل بنفسه، والباقون له أعوان وردْء له. فقد قيل؛ إِنَّه يقتل المباشر فقط.
والجمهور على أنَّ الجميع يقتلون، ولو كانوا مائة، وأنَّ الردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ فإِنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل ربيئة المحاربين -والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال، ينظر منه لهم من يجيء- ولأنَّ المباشر إِنَّما تمكَّن مِن قتْله بقوَّة الردء ومعونته.
والطائفة إِذا انتصر بعضها ببعض؛ حتى صاروا ممتنعين؛ فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين ...
وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه؛ مثل المقتتلين على عصبيَّة، ودعوى جاهليَّة؛ كقيس ويمن ونحوهما؛ هما ظالمتان. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إِنّه كان حريصاً على قتل صاحبه". أخرجاه في الصحيحين. (1).
وتضمن كلّ طائفة ما أتْلفتْه للأخرى من نفس ومال. وإِن لم يعرف عين
__________
(1) أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888).

(6/132)


القاتل؛ لأنَّ الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاص في القَتْلَى} (1).

فائدة "2":
جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 243): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن تاجر نصَب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغاً، فحَمَلَهم لوليّ الأمر؛ وعاقبهم حتى أقرُّوا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئاً، وهُم مصرُّون على أنَّهم لا يعطونه شيئاً؟
فأجاب: الحمد لله هؤلاء مَن كان المال بيده وامتنع من إِعطائه؛ فإِنَّه يُضرَب حتى يؤديَ المال الذي بيده لغيره. ومَن كان قد غيَّب المال وجحد موضعه فإِنَّه يضرب حتَّى يدلّ على موضعه. ومَن كان مُتَّهما لا يُعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإِنَّه يجوز ضربه معاقبةً له على ما فعَل من الكذب والظلم. ويُقر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إِحضاره. والله أعلم".

ردُّ اعتراض، ودفْعُ إِشكالٍ (2):
قال في "المنار": رَوى عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، أنَّ الفساد هنا الزنى، والسرقة، وقتْل النساء، وإِهلاك الحرث والنَّسل، وكلّ هذه الأعمال من الفساد في الأرض.
واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد، بأنَّ هذه الذنوب والمفاسد لها
__________
(1) البقرة: 178.
(2) عن "فقه السنة" (3/ 252).

(6/133)


عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزِّنى، والسرقة، والقتْل حدود، وإِهلاك الحرث والنَّسل يقدَّر بقدْره، ويضمنه الفاعل، ويعزّره الحاكم بما يؤدِّيه إِليه اجتهاده.
وفات هؤلاء المعترضين، أنَّ العقاب المنصوص في الآية خاصٌّ بالمحاربين مِن المفسدين الذين يكاثرون أولي الأمر، ولا يُذْعنون لحُكْم الشَّرع.
وتلك الحدود إِنَّما هي للسارقين والزُّناة أفراداً، الخاضعين لحُكْم الشرْع فِعْلاً، وقد ذُكِرَ حُكمهم في الكتاب العزيز، بصيغة اسم الفاعل المفرد، كقوله -سبحانه-: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) وقال: {الزَّانِيَة والزَّانِي فَاجْلِدُوا كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَة جَلْدَةٍ} (2).
وهم يستَخْفُون بأفعالهم، ولا يَجهرون بالفساد، حتى ينْتشر بصوء القدوة بهم، ولا يُؤلِّفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوَّة.
فلهذا لا يصدُق عليهم أنَّهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفَين معاً، وإِذا أطْلق الفقهاء لفظ المحاربين، فإِنَّما يعنون به المحاربين المفسدين؛ لأنَّ الوصفين متلازمان".

واجب الحاكم والأمَّة حِيال الحرابة (3):
والحاكم والأمَّة معاً مسؤولون عن حماية النظام، وإقرار الأمن، وصيانة
__________
(1) المائدة: 28.
(2) النور: 2.
(3) عن "فقه السُّنة" (3/ 252).

(6/134)


حقوق الأفراد في المحافظة على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم؛ فإِذا شذَّت طائفة، فأخافوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرَّضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب، وجب على الحاكم قتال هؤلاء.
كما فعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع العُرنيين (1)، وكما فَعَلَ خُلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أنْ يتعاونوا مع الحاكم ... على استئصال شأفتهم، وقطْعِ دابرهم، حتى ينعم الناس بالأمن والطمأنينة، ويُحِسُّوا بلذَّة السلام والاستقرار، وينصرف كلٌّ إِلى عمله.

إِذا طَلب السلطان المحاربين فامتنعوا:
إِذا طَلب السلطان المحاربين لإقامة الحد فامتنعوا؛ فإِنه يجب على المسلمين قتالهم، من باب ما لا يتمّ الواجب إِلا به فهو واجب.
جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 317): " ... فأمّا إِذا طلبهم السلطان أو نوّابه لإقامة الحدّ بلا عدوان فامتنعوا عليه؛ فإِنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلِّهم؛ ومتى لم ينقادوا إِلا بقتال يفضي إِلى قتْلهم كلهم قوتلوا، وإن أَفضى إِلى ذلك؛ سواءٌ كانوا قد قَتلوا أو لم يقتلوا.
ويقتلون في القتال كيفما أمكن؛ في العنق وغيره، ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويُعينهم، فهذا قتال وذاك إِقامة حدّ، وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإِسلام".
__________
(1) تقدَّم غير بعيد.

(6/135)


توبةُ المحاربين قبْل القُدرة عليهم:
*إِذا تاب المحاربون المفسدون في الأرض، قبل القدرة عليهم، وتمكَّن الحاكم من القبض عليهم، فإنَّ الله يغفر لهم ما سلَفَ، ويرفع عنهم العقوبة الخاصّة بالحرابة؛ لقوله -تعالى-: {ذلكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدّنْيا وَلَهُم في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدروا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفورٌ رَحِيم} (1).
وإِنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّ التوبة قبل القدرة عليهم والتَّمكُّن منهم دليل على يَقَظَة القلوب، والعزم على استئناف حياةٍ نظيفة، بعيدة عن الإِفساد، والمحاربة لله ورسوله، ولهذا شملهم عفو الله، وأسقط عنهم كلَّ حقّ من حقوقه، إِن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة.
أمَّا حقوق العباد، فإِنَّها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإِنما تكون من باب القِصاص.
[أقول: وفي ذلك أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقْدر عليه؛ لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الذي أصابه"] (2).
والأمر في ذلك يرجع إِلى المجني عليهم، لا إِلى الحاكم، فإِنْ كانوا قد قَتَلوا، سقط عنهم تحتم القتل، ولوليِّ الدَّم العفو أو القِصاص وإنْ كانوا قد قَتَلوا
__________
(1) المائدة: 33 - 34.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3675)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3776)، وانظر "الإرواء" (8/ 93).

(6/136)


وأخَذوا المال، سقط الصَّلب، وتحتم القتل، وبقي القِصاص، وضمان المال.
وإِنْ كانوا قد أخذوا المال، سقط القطع، وأُخذِت الأموال منهم إِن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأنَّ ذلك غَصْبٌ، فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إِلى أربابه، أو يجعله الحاكم عنده، حتى يعلم صاحبه؛ لأنَّ توبتهم لا تصح إِلا إِذا أعادوا الأموال المسلوبة إِلى أربابها.
فإِذا رأى أولو الأمر إِسقاط حقٍّ ماليٍّ عن المفسدين؛ مِن أجل المصلحة العامَّة، وجب أن يضمنوه من بيت المال* (1).
جاء في "المغني" (10/ 314): "فإِنْ تابوا من قبل أن يُقدَر عليهم؛ سقطت عنهم حدود الله -تعالى- وأخذوا بحقوق الآدميِّين من الأنفس والجراح والأموال؛ إِلا أن يُعفى لهم عنها.
لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرَّأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله -تعالى-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القِصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدِّيَة لما لا قِصاص فيه.
فأمّا إِنْ تاب بعد القدرة عليه؛ لم يسقط عنه شيء من الحدود؛ لقول الله تعالى: {إِلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فأوجب عليهم الحدّ ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضِيّة العموم، ولأنّه إِذا
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 253) -بتصرف-.

(6/137)


تاب قبل القدرة؛ فالظاهر أنها توبة إِخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إِقامة الحدّ عليه، ولأنّ في قبول قوبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة؛ ترغيباً في توبته والرجوع عن محاربته وإِفساده فناسَب ذلك الإِسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إِلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة".
وجاء في "تفسير ابن كثير": "وأمَّا المحاربون المسلمون فإِذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإِنَّه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرِجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء: ظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عَمَل الصحابة ... ".
وجاء في "الروضة الندية" (2/ 620): "أقول: الآية ليس فيها إِلا الإِشارة إِلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة. وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب!! ولو سُلِّم القطع فذلك في الذنوب التي أمْرها إِلى الله فيسقط بالتَّوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله.
وأمَّا الحقوق التي للآدميِّين من دم أو مال أو عرض؛ فليس في الآية ما يدل على سقوطها. ومن زعم أنَّ ثم دليلاً يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزَّعم؟! ". انتهى.
أقول: إذا كان الشهيد يُغفر له كل شيء إِلا الدَّين، فكيف يُغفرَ للمحارب ما سَلَبَ من أموال وانْتهك مِن حُرُمات، فحقوق الآدميِّين معتبرة، وليس في الآية ما يدلّ على سقوطها.
ولكن توبة المحارب؛ تعني أنَّه اختار الدار الآخرة، ورضي أن يمضي فيه حُكْم الله -تعالى- ورأى أنَّ هذا خيرٌ له من المُضِيّ في الإفساد وعدم التوبة،

(6/138)


متحمِّلاً الصِّعاب راغباً في المغفرة والثواب، وربما يحظى بعفو أصحاب الحقوق. والله -تعالى- أعلم.

سُقوطُ الحدود بالتَّوبة قبْل رَفْعِ الجناة إِلى الحاكم:
*تقدَّم أنَّ حدَّ الحرابة يَسْقُط عن المحاربين إِذا تابوا، قبل القدرة عليهم؛ لقول الله -سبحانه-: {إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
وليس هذا الحُكم مقصوراً على حدّ الحرابة، بل هو حُكْمٌ عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحدّ، ثمَّ تاب منها، قبل أنْ يُرفع إِلى الإِمام، سَقَط عنه الحد؛ لأنَّه إِذا سقط الحدّ عن هؤلاء، فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهُم أخفُّ جرماً منهم.
وقد رجَّح ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: ومن تاب من الزِّنى، والسرقة، وشُرب الخمر، قبل أن يُرفع إِلى الإمام، فالصحيح، أنَّ الحدَّ يسقط عنه، كما يسقط عن المحاربين، إِجماعاً، إِذا تابوا قبل القُدرة عليهم.
وقال القرطبي: فأمَّا الشُّراب، والزُّناة، والسُّرّاق، إِذا تابوا وأصلحوا، وعُرِف ذلك منهم، ثُمَّ رُفعوا إِلى الإِمام، فلا ينبغي أنْ يُحَدُّوا، وإن رُفِعوا إِليه، فقالوا: تُبْنا. لم يُتركوا، وهم في هذا الحال كالمحاربين إذا غُلبوا* (2).
قلت: ويؤيِّد ما قاله القرطبي -رحمه الله تعالى- ما تقدَّم من إِعراض النبي
__________
(1) المائدة: 34.
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 255).

(6/139)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ماعز بن مالك حينما جاءه يخبره أنَّه قد أصاب جارية، فأعرض عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إِنَّ ماعزاً قد قالها أربع مرَّات ...
وكذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للغامديَّة: "وَيْحَكِ؛ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه".
وفيه أيضاً ما رواه الأجلح عن الشعبي حين قال عليٌّ -رضي الله عنه- لشُراحة الهمدانيَّة: ويلك لعلَّ رجُلاً وقع عليك وأنْتِ نائمة ... لعلَّك استُكْرِهتِ ... يُلقِّنها (1).

دفاع الإِنسان عن نفسه (2):
*إِذا اعتدى على الإِنسان معتدٍ يريد قتْله، أو أخْذ ماله، أو هتْك عرْض حريمه؛ فمِن حقَّه أنْ يُقاتل هذا المعتدي دفاعاً عن نفسه، وماله، وعرضْه، ويدفع بالأسهل فالأسهل، فيبدأ بالكلام، أو الصِّياح، أو الاستعانة بالناس، إِن أمْكن دفع الظَّالم بذلك، فإِن لم يندفع إِلا بالضَّرب، فليَضْربه، فإنْ لم يَنْدفع إِلا بقتْله، فليَقْتله، ولا قِصاص على القاتل، ولا كفَّارة عليه، ولا دية للمقتول؛ لأنَّه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدَّم لا يجب ضمانه.
فإنْ قُتِل المُعتدى عليه، وهو في حالة دفاعه عن نفْسه، وماله، وعرضه، فهو شهيد. قال الله -تعالى-: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيْلٍ} (3) *.
__________
(1) تقدَّم تحت "باب: ماذا يفعل الإِمام إِذا جاءه من أقرَّ على نفسه بالزِّنى".
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 257).
(3) الشورى: 41.

(6/140)


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجُلٌ إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إِنْ جاء رجُلٌ يُريدُ أخذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِه مالك (1). قال: أرأيتَ إِن قاتَلني؟ قال: قاتِلْه. قال: أرأيتَ إِنْ قَتَلَني؟ قال: فَأنْتَ شهيدٌ. قال: أرأيتَ إِنْ قَتَلْتُه؟ قال: هو في النَّار" (2).
وفي لفظٍ لأحمد: "أنَّه قال له أوَّلاً: انشده الله. قال: فإِن أبى؟ قال: قاتِلْه" (3).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ قُتِل دونَ ماله فهو شهيد" (4).
وعن قابوس بن مخارق عن أبيه قال: "جاء رجل إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجُل يأتيني فيريد مالي؟ قال: ذكِّره بالله، قال: فإِنْ لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين.
قال: فإِنْ لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإِن نأى السلطان عني؟ قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء
__________
(1) قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (34/ 242): "لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم. وأمًا الدفع عن النَّفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد".
(2) أخرجه مسلم (140).
(3) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2446).
(4) أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141).

(6/141)


الآخرة، أو تمنع مالك" (1).

دفاع الإِنسان عن غيره:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسَنَ النَّاس، وأشْجَع النَّاس. ولقد فزِع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصَّوتِ فاسْتَقبلهم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد استبْرأ الخبَرَ وهو على فرسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ وفي عُنُقه السَّيفُ وهو يقول: لم تُراعوا، لم تُراعوا. ثمَّ قال: وجَدْناه بحْراً. أو قال: إِنَّه لبحْر" (2).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انْصرْ أخاك ظالاً أو مظلوماً" (3).
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "اقتتل غُلامان. غُلامٌ من المُهاجرين وغُلامٌ من الأنصاِر. فَنَادَى المُهاجِرُ أو المُهاجرون يَا لَلمُهاجِرين! ونادى الأنصاريُّ يا لَلأنصار!
فَخَرَجَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما هذا دَعْوى أهلِ الجاهليَّة؟ قالوا: لا يا رسول الله! إِلا أنَّ غُلامينِ اقْتتلا فَكَسَعَ (4) أحدهما الآخر قال: فلا بأس. ولْينصُر الرجُلُ أخاهُ ظالماً أوْ مظلوماً. إِنْ كانَ ظالماً فَلْيَنْهَهُ فإِنَّه لهُ نصرٌ، وإِنْ كانَ مَظلوماً
__________
(1) أخرجه النسائي بسند حسن وانظر "الإرواء" (8/ 96).
(2) أخرجه البخاري (2908)، ومسلم (2307).
(3) أخرجه البخاري (2443).
(4) كسع: أي ضرَب دُبُره وعجيزته؛ بيدٍ أو رِجلٍ أو سيفٍ وغيره، "نووي".

(6/142)


فَلْيَنْصُرْهُ" (1).
ولا يجوز للمسلم أن يخذل أخاه أو يُسلمه.
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلِمه" (2).
وفي رواية: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، التقوى هاهنا التقوى هاهنا، يقول: أي: في القلب" (3).
__________
(1) أخرجه مسلم (2584).
(2) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
(3) أخرجه أحمد بإِسناد حسن وانظر "الإِرواء" (8/ 100).

(6/143)