الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة القِصاص
(6/167)
القِصاص
القصاص من قولِكَ: قَصَصْتُ الأثَرَ، وأقْصَصتُه: إِذا اتَّبعْتَه، قال
الله -تعالى-: {وقَاَلَتْ لأختِه قُصِّيهِ} (1) أي: اتْبَعِي أثَره.
وقال في قصة موسى -عليه السلام- وفتاهُ: {فَارتدا عَلَى آثارِهما قَصَصاً}
(2) كذلك القِصاص إِنِّما هو سُلوكُ مِثْل الطَّريقةِ التي فَعَلها
الجارِحُ، لأنه يُؤتَى إِليه مثلَ ما أتَاَه هو (3).
وجاء في كتاب "التعريفات": "هو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فَعَل".
وفي "طِلبة الطَّلَبَة": "القتل بإِزَاءِ القتلِ، وإِتْلاف الطَّرف
بإِزَاءِ إِتْلاف الطَّرف.
وقد اقتصَّ وليُّ المقتولِ من القاتلِ: أي: اسْتَوفَى قِصاصَهُ. وأقصَّه
السّلطانُ منَ القَاتِل؛ أي: أوفَاه قصاصهُ، وهو من قولِكَ قصَّ الأَثرَ،
واقْتَصَّه: أي: اتَّبَعَهُ، وقصَّ الحديث واقتصَّه؛ أي: رَوَاه على جهتِه،
وهو كذلكَ أيضاً، أي: من الاتَّباع ... ".
شروط القِصاص (4):
1 - أن يكون الجاني مُكلَّفاً، فأمّا الصبيّ والمجنون فلا قِصاص عليهما، لا
__________
(1) القصص: 11.
(2) الكهف: 64.
(3) انظر "حلية الفقهاء".
(4) ملتقط من "الشرح الكبير" (9/ 350) و"فقه السنة" (3/ 301) بزيادة وتصرف.
(6/169)
خلاف بين أهل العِلم؛ في أنه لا قِصاص على
الصبيّ والمجنون، وكذلك كلُّ زائل العقل بسببٍ يُعذر فيه كالنائم؛ لقول -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى
يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (1).
ولأنّ القِصاص عقوبة مغلّظة؛ فلم تجب على الصبيّ وزائل العقل كالحدود
ولأنهم ليس لهم قصدٌ صحيح، فهم كالقاتل خطأً.
وإِذا كان المجنون يزول عنه جنونه أحياناً، فقَتل اقتصّ منه، وإِذا شرب
رجلٌ شيئاً ظنّه غير مسكر، فزال عقله فقَتل في هذه الحال، فلا قِصاص عليه.
2 - أن يكون المقتول معصوماً؛ فلا يجب القِصاص بقتلِ حربيّ؛ ولا يجب بقتله؛
ديَة ولا كفارة، وكذا الزاني المحصَن أو المرتد.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد
أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله إِلا بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس،
والثيِّب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ أعمى كانت له أمّ ولد، تشتم النبيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقَع فيه، فينهاها فلا تنتهي،
ويزجرها فلا تنزجر.
قال: فلمّا كانت ذات ليلة جَعَلت تقع في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1661) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (297). وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري (6878)، مسلم (1676) وتقدّم.
(6/170)
المِغْوَل (1) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها
فقتَلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم.
فلمّا أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فجمَع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فَعل ما فَعل لي عليه حقّ، إِلا قام.
فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قَعد بين يدي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك
وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل
اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة جَعَلت تشتمك وتقع فيك،
فأخذتُ المِغْوَل فوضعْتُه في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلْتُها، فقال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا اشهدوا أنّ دمها هدر"
(2).
3 - أن يكون المجنيَّ عليه مسلماً، فلا يُقتل مؤمن بكافر.
عن أبي جُحَيفةَ قال: "سألت علياً -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء ما ليس في
القرآن -وقال مُرة: ما ليس عند الناس- فقال: والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرأ
النَّسمةَ (3)، ما عندَنا إِلا ما في القرآن -إِلا فَهْماً يُعطَى رجلٌ في
كتابه- وما في الصحيفة.
قلتُ: وما في الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ
__________
(1) المِغْوَل: شبه سيف قصير، يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل هو
حديدة دقيقة لها حَدٌّ ماضٍ، وقيل هو سوط في جوفه سيف دقيق يشده الفاتك على
وسطه ليغتال به الناس. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3665)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (3794)، وتقدّم.
(3) النسمة: أي خَلَقَ ذات الرُّوح. "النهاية".
(6/171)
بكافر" (1).
وعن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "ألا لا يُقتل مؤمن بكافر" (2).
وقد اختلف العلماء هل يُقتل الحُرّ بالعبد؛ والراجح أنه يُقتل لقوله
-تعالى-: {وكَتَبْنا عليهم فيها أنّ النفسَ بالنفس} (3).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسلمون تتكافأ (4)
دماؤُهم ويسعى بذمّتهم أدناهم" (5).
قال الإِمام الطبري -رحمه الله- فإِن قال قائل: فإِنه -تعالى-: ذكْره قال:
{كُتِبَ عليكم القِصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبَدِ والأنثى
بالأنثى} فما لنا أن نقتصّ للحرّ إِلا من الحرّ، ولا للأنثى إِلا من
الأنثى؟
قيل: بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذَّكر، بقول الله
-تعالى- ذكْره: {وَمَن قُتلَ مَظْلُوماً فَقَد جَعَلنا لوليّه سُلطَاناً}
(6).
وبالنقل المستفيَض عن رسول اللهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنّه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤُهم".
__________
(1) أخرجه البخاري (6903).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3797)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2153) والنسائي، "صحيح سنن النسائي" (4412)، وصححه شيخنا - رحمه
الله - في "الإرواء" (2208).
(3) المائدة: 5.
(4) تتكافأ: تتساوى في القصاص والدِّيات. "النهاية".
(5) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء"
(2208).
(6) الإِسراء: 33.
(6/172)
وقال: فإِنْ قال ذلك، فما وجه تأويل هذه
الآية؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: نَزَلت هذه الآية في قوم كانوا
إِذا قَتَل الرجُل منهم عبدَ قومٍ آخرين؛ لم يرضوا مِنْ قتيلهم بدم قاتله؛
من أجل أنه عبد حتى يَقتُلوا به سيده.
وإذا قَتَلَت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبها بالمرأة
القاتلة، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل الله هذه الآية،
فأعلمهم أن الذي فَرَض لهم من القِصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون
غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبد القاتلَ
دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدُّوا القاتلَ إِلى غيره في القِصاص".
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عدداً من الآثار في ذلك، وذكَر وجوهاً أُخرى
ومناسبات عديدة ساقها بإسناده ثم قال -رحمه الله-: " .. وقد تظاهرت الأخبار
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنقل العام؛ أنّ نفس
الرجل قَوَدٌ قِصاصاً بنفس المرأة الحرة".
ثم قال -رحمه الله-: "وإِذا كان كذلك؛ كان بيِّناً بذلك؛ أنه لم يُرَدْ
بقوله -تعالى-: ذِكْره: {الحرّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى}
أن لا يقادَ العبد بالحرّ، وأن لا تُقتَل الأنثى بالذكر، ولا الذكر بالأنثى
... " انتهى.
قلت: أمّا حديث: "لا يُقاد مملوك من مالكه" فإِنه لا يثبُت، وانظر تفصيل
ذلك في "الإِرواء" (7/ 270).
وكذا أثرُ علي -رضي الله عنه-: "من السُّنة أن لا يُقتل حُرٌّ بعبد" فهو
ضعيف جداً، وانظر "الإِرواء" أيضاً (2211).
(6/173)
وفي "صحيح سنن أبي داود" (3788) عن الحسن
قال: "لا يُقاد الحر بالعبد" وهو صحيح مقطوع، ولا حُجّة فيه، كما لا يخفى
على أهل العلم. والله -تعالى- أعلم.
أقول: أمّا أن يقاد الرجل بالمرأة والعكس؛ ففيه عدد من الأدلة؛ إِضافة إِلى
النصوص العامة المتقدمة.
قال البخاري -رحمه الله- "باب القصاص بَيْن الرِّجالِ والنِّساءِ في
الجرَاحَاتِ" وقال أهل العلمِ: يُقْتَل الرجل بالمرأة.
ثم قال: ويذكَر عن عمر: "تُقادُ المرأة مِنَ الرَّجُلِ في كل عمدٍ يَبْلُغُ
نفسه فما دونها مِنَ الجراحِ" (1).
وبهِ قال عُمر بن عبدِ العَزيز وإِبْرَاهيمُ وأبو الزِّنادِ عَن أصحَابه
(2).
وَجَرَحتْ أخْتُ الرُّبيع إِنساناً فقالَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "القِصاصُ" (3).
__________
(1) وصله سعيد بن منصور من طريق النخعي، قال: كان فيما جاء به عروة البارقي
إِلى شريح من عند عمر قال: جرح الرجال والنساء والأثر به سواء. وسنده صحيح،
وانظر "مختصر البخاري" (4/ 224).
(2) أما أثر عمر؛ فوصَله ابن أبي شيبه بسند صحيح عنه نحوه، وأما أثر
إِبراهيم؛ وهو النخعي؛ فتقدم في أثر عمر الذي قبله، وأما أثر أبي الزناد؛
فوصله البيهقي بسند جيد عنه، "المصدر نفسه".
(3) وصله مسلم في "صحيحه" قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (4/
224) والراجح: "أن هذه القصة هي غير قصة الربيع نفسها المتقدمة في "الصلح"
(ج2/برقم 1213) [أي في "صحيح البخاري"] لتغايرهما من وجوه" انتهى.
ولعلها القصة نفسها انظر "صحيح النسائي" برقم (4428) من حديث أنس أن أُخت
الرّبيع أم حارثة جرحت إِنساناً؛ فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وساق الحديث نفسه.
(6/174)
4 - أن لا يكون أباً للمقتول ولا أُمّاً؛
فلا يُقتَل الوالد بولده ولا الأمّ بولدها.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يقاد الوالد بالولد" (1).
وعن عمرو بن شعيب أنّ أبا قتادة، رجل من بني مُدْلِج، قَتَل ابنه، فأخذ منه
عمر مائة من الإبل، ثلاثين حِقّة (2)، وثلاثين جَذَعَة (3)، وأربعين
خَلِفَةً (4).
فقال: أين أخو المقتول؟ سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "ليس لقاتلٍ ميراث" (5).
وأما الأمّ فلأنها أولى بالبِرّ كما قال بعض العلماء؛ فلا قِصاص عليها في
قَتْل ولدها.
وفي هذه الحالة يدفع الأب الدية للورثة، ويُستثنى هو منها، وكذا الأمّ تدفع
الديَة إِنْ قتلت، وتُستثنى منها؛ فلا تأخُذ شيئاً.
__________
(1) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1129)، وابن
ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2157) وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإرواء" (2214).
(2) حِقّة: هو من الإِبل ما دخل في السّنة الرابعة إلى آخرها، وسُميَ بذلك؛
لأنه استحق الركوب والتحميل. "النهاية".
(3) جَذَعَة: أصل الجذع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شاباً فتيّاً.
وهو في الإبل ما دخل السنة الخامسة. "النهاية".
(4) خَلِفَةً: الحامل من النُّوق، وقد خَلِفت: إذا حَملت. "النهاية".
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2141)، وانظر "الإِرواء" (1670،
1671).
(6/175)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "نُحِلت
لرجل من بني مدلج جارية، فأصاب منها ابناً، فكان يستخدمها، فلما شبّ الغلام
دعاها يوماً، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال: لا تأتيك، حتى متى تستأمي أمي
(1)؟!
قال: فغضب، فحذفَه بسيفه، فأصاب رجله، فنزف الغلام فمات.
فانطلق في رهطٍ من قومه إِلى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا عدو نفسه أنت
الذي قتلت ابنك؟! لولا أنيّ سمْعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "لا يقاد الأب من ابنه" لقتلتك، هلم دِيَته.
قال فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فخيّر منها مائة، فدفَعهَا
إِلى ورثته، وتَرَك أباه" (2).
5 - أن يكون القاتل مختاراً فإِنّ الإِكراه يسلبه الإِرادة، ولا مسؤولية
على من فقَد إِرادته.
وقد تقدَّم هذا في أكثر من مسألة، وإِذا أَمَر مكلّفٌ غيرَ مكلفٍ بأن يقتل
غيره، مثل الصغير والمجنون، فالقِصاص على الآخر، لأن المباشِر للقتل آلة في
يده، فلا يجب القِصاص عليه، وإِنّما يجب على المتسبب.
__________
(1) تستأمي أمي: أي: تسترقّها.
(2) أخرجه ابن الجارود والبيهقي بهذا التمام، والدارقطني من طُرُق، وقال
شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، وفي عمرو بن أبي
قيس كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن. وقد ذكر الحافظ الزيلعي عن
البيهقي أنّه قال: "وهذا إِسنادٌ صحيح" ولعلّ هذا في كتابه "المعرفة"
فإِنّي لم أره في "السنن".
وقال الحافظ في "التلخيص": وصحح البيهقي سنده؛ لأنّ رواته ثقات. وانظر
"الإِرواء" (7/ 269).
(6/176)
الجماعة تُقتَل بالواحد:
عن سعيد بن المسيب: "أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتَل نفراً: خمسة أو
سبعة؛ برجلٍ واحدٍ قتلوه قتل غيلة (1)، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء (2)
لَقَتْلتهم جميعاً" (3).
جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 190): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن جماعة
اشتركوا في قَتْل رجل، وله وَرَثة صغار وكبار؛ فهل لأولاده الكبار أن
يقتلوهم؛ أم لا؟ وإِذا وافَق وليّ الصغار -الحاكم أو غيره- على القتل مع
الكبار: فهل يُقتَلون، أم لا؟
فأجاب: إِذا اشتركوا في قتْله؛ وجب القَوَد على جميعهم باتفاق الأئمة
الأربعة، وللوَرَثة أن يقتلوا، ولهم أن يعفوا.
فإِذا اتفق الكبار من الورَثة على قتْلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء: كأبي
حنيفة، ومالك، وأحمد في إِحدى الروايتين.
وكذا إِذا وافق وليّ الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار؛ فيُقتلون.
ثبوت القِصاص:
ويثبت القِصاص بالآتي:
1 - الإِقرار: عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "إِني لقاعِدٌ مع النبي
__________
(1) غيلة: أي في خُفيةٍ واغتيال، وهو أن يُخدع ويُقتل في موضع لا يراه فيه
أحد. "النهاية".
(2) تمالأ عليه أهل صنعاء: أي تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا. "النهاية"،
وتقدّم.
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" والشافعي والبيهقي وغيرهم، وصححه شيخنا - رحمه
الله- في "الإِرواء" (2201)، وتقدّم.
(6/177)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِذا جاء رَجُلٌ يَقُودُ آخرَ بِنِسْعَةٍ (1). فقال: يا رسول الله هذا
قَتَل أخي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أقَتَلْتَهُ؟ فقال: إِنَّه لَوْ لَمْ يعترِف أقمْتُ عَلَيْه البَيّنةَ قال:
نعم قَتَلْتُهُ.
قال: كيف قَتَلْتَهُ؟ قال: كنت أنا وهو نَختَبط (2) من شجَرَةٍ. فسَبَّني
فأغَضَبني. فضرَبتُهُ بالفأس على قرْنِهِ (3) فقتلته.
فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لك مِنْ شَيءٍ
تُؤدِّيه عَنْ نفسِك؟ قال: ما لي مَالٌ إلاَّ كِسائي وفأسي.
قال: فَتَرى قومَك يشْتَرُونَكَ؟ قال: أنا أهْونُ على قومي من ذاك. فرمى
إِليه بِنِسعَته. وقال: دُونَكَ صَاحبَكَ.
فانطلَقَ به الرَّجل، فلما ولّى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إِنْ قَتَلَهُ فَهو مِثْلُهُ، فَرَجَع فقال: يا رسول الله
إِنَّه بَلَغني أنّكَ قُلتَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُو مِثْلُهُ، وأَخَذتُه
بِأمرِكَ.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَا تُريد أن
يَبُوء بإِثمِك وإِثمِ صَاحبِك؟ قال: يا نبي الله! بَلَى، قال: فإِنَّ ذَاك
كَذاكَ قالَ: فَرَمى بِنِسْعَتهِ وخَلّى سَبيله" (4).
ولعله لم يُرد قتْله، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتِل رجل
__________
(1) النِّسعة: حبل من جلود مضفورة.
(2) نختبط: أي نجمع الخبط -وهو ورق الثمر- بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط
ورقه فيجمعه علفاً "شرح النووي".
(3) قرنه: جانب رأسه.
(4) أخرجه مسلم (1680).
(6/178)
على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فدفعَه إِلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردْتُ
قتْله.
قال: فقال رسول الله للولي: أمَا إِنه، إِنْ كان صادقاً ثمَّ قَتَلْتَهُ
دَخَلْتَ النَّار قال: فخلَّى سبيله" (1).
ويُسأَل القاتل حتى يُقرّ:
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "باب سؤال القاتل حتى يُقرّ، والإِقرار
في الحدود".
ثم ذكر حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن يهودياً رَضّ رأس جارية بين
حَجَرين، فقيلَ لها مَن فعَل بك هذا؟ أفلان أو فلان؟ حتى سُمِّيَ اليهودي،
فأَتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَزَل به حتى
أقرّ، فرُضّ رأسه بالحجارة" (2).
وإِذا أقرّ بالقتل مرّة واحدة قتل به (3).
للحديث السابق (4) وفيه: "فجيء باليهودي فاعترف".
فإِنّه لم يذكُر فيه عدداً والأصل عدمه (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178) والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4403) وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري (6876)، ومسلم (1672) وتقدّم.
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" "كتاب الديات" (باب - 12).
(4) وقد ذكر الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- هذا الحديث تحت الباب
السابق.
(5) انظر "الفتح" (12/ 213).
(6/179)
2 - يثبت (1) بشهادة رجلين عدلين.
عن رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر، فانطلق أولياؤه
إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك له، فقال:
لَكمْ شاهِدان يَشهدَان على قَتْل صاحبكم؟
قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثَمّ أحدٌ من المسلمين، وإِنما هم يهود، وقد
يجترئون على أعظم من هذا.
قال: فَاخْتارُوا مِنْهم خَمسِين فاستحلفوهم فأبوا، فوداه (2) النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده" (3).
استيفاء القِصاص (4):
ويُشترط لاستيفاء القِصاص ثلاثة شروط:
1 - أن يكون من يستحقّه مُكَلّفاً، فإِنْ كان صبيّاً أو مجنوناً لم يَجُز
استيفاؤه، ويُحبَس القاتل حتى يبلغ الصبيّ، ويعقل المجنون -إِذا أمكن ذلك-.
2 - أن يتفق أولياء الدم جميعاً على استيفائه، وليس لبعضهم الاستيفاء دون
بعض، وإِنْ عفا بعضهم سقط القِصاص؛ كما تقدَّم.
__________
(1) أي القِصاص.
(2) وداه: أي أعطى ديِتَه. "النهاية".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3793) وأصْل القصّة في
"الصحيحين".
(4) "الشرح الكبير" (9/ 383) -بتصرف وزيادة-.
(6/180)
3 - أن يُؤمَن في استيفاء القِصاص
التَّعدّي إِلى غير القاتل، فلو وجب القِصاص على حامل، أو حَمَلت بعد
وجوبه، لم تُقتَل حتى تضع الولد وتسقِيه اللبأ -وهو أوّل اللّبن عند
الولادة (1).
وقد قال الله -تعالى-: {فلا يُسرف في القتل} (2) وقتل ما في بطن الحامل منَ
الإِسراف في القتل.
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا
رسول الله! طهرني. فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه. فقالت:
أراك تُريد أن تُرَدِّدَني كما ردّدْت ماعز بن مالك.
قال: وما ذاك؟ قالت: إِنها حُبلى من الزنى، فقال: آنتِ؟ قالت: نعم، فقال
لها: حتّى تضعي ما في بطنك.
قال: فكَفَلهَا رجل من الأنصار حتّى وضعت، قال: فأتى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قد وضعت الغامدّية. فقال: إِذاً لا
نرجمها وندَع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه.
فقام رجل من الأنصار فقال: إِليّ رَضاعه يا نبي الله قال: فرجَمها" (3).
بمَ يكون القِصاص (4)؟
الأصل في القصاص، أن يُقتَل القاتل بالطريقة التي قتَل بها؛ لأنّ ذلك
__________
(1) انظر "لسان العرب".
(2) الإسراء: 33.
(3) أخرجه مسلم (1695) وتقدّم.
(4) عن "فقه السنة" (3/ 313) -بتصرف وزيادة-.
(6/181)
مُقْتَضى المماثلة والمساواة. إِلا أن يطول
تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح، ولأنّ الله -تعالى- يقول: {فمن اعتدى
عَلَيْكم فاعْتَدوا عَلَيه بمِثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (1).
ويقول -تعالى-: {وإِنْ عاقبتُم فعاقِبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتُم لهو
خيرٌ للصابرين} (2) وقد رجّح الجمهور أن القاتل يُقتَل بما قتَل به،
وتمسّكوا بالآيتين السابقتين (3).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يأمر -تعالى- بالعدل والاقتصاد
والمماثلة في استيفاء الحق .. ".
وقال -تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (4) وقد رضّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهودي بحجر لمّا رضّ هو رأس المرأة بحجر.
فعن أنس من مالك -رضي الله عنه- أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين، فقيل
لها: مَن فعل بكِ هذا؛ أفلان أفلان حتى سُمي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء
باليهودي فاعترف، فأمَر النبي به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَرُضّ رأسُه بالحجارة" (5).
ولا تجوز المثلة في القِصاص؛ لأنه من الإِسراف في القتل.
__________
(1) سورة البقرة: 194.
(2) النحل: 126.
(3) انظر "الفتح" (12/ 200).
(4) الشورى: 40.
(5) أخرجه البخاري (6884)، ومسلم (1672) وتقدّم.
(6/182)
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله:
{فلا يُسرف في القتل} "قالوا: معناه، فلا يسرف الوليّ في قتْل القاتل، بأن
يمثّل به أو يقتَصّ من غير القاتل".
وعن عمران بن حصين قال: "كان رسول الله ينهانا عن المُثْلة" (1).
بل يجب الإحسان في القِصاص.
فعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "إِذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة" (2).
استحباب العفو في القِصاص:
عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "إِني لقاعِد مع النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا جاء رَجُلٌ يَقُودُ آخرَ بِنِسعَةً (3).
فقال: يا رسول الله هذا قَتَل أخي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقَتَلْتَهُ؟ فقال: إِنَّه لَوْ لَمْ يعترِف أقمْتُ
عَلَيْه البَيّنةَ قال: نعم قَتَلْتُهُ.
قال: كيف قَتَلْتَهُ؟ قال: كنت أنا وهو نَختَبط (4) من شجَرَةٍ. فسَبَّني
__________
(1) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وأبر داود "صحيح سنن أبي داود" (2322)، وانظر
"الإِرواء" (2230).
(2) أخرجه مسلم (1955).
(3) النِّسعة: حبل من جلود مضفورة.
(4) نختبط: أي نجمع الخبط -وهو ورق الثمر- بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط
ورقه فيجمعه علفاً "شرح النووي".
(6/183)
فأغَضبني. فضرَبتُهُ بالفأس على قرْنِهِ
(1) فقتلته، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك
مِنْ شَيءٍ تُؤدِّيه عَنْ نفسِك؟ قال: ما لي مَالٌ إِلا كِسائي وفأسي.
قال: فَتَرى قومَك يشْتَرُونَكَ؟ قال: أنا أهْونُ على قومي من ذاك. فرمى
إِليه بِنسعَته. وقال: دُونَكَ صَاحبَكَ فانطلَقَ به الرَجُلُ فلمّا ولّى،
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِن قَتَلَهُ فَهُو
مِثله.
فَرَجَع، فقال: يا رسول الله إِنَّه بَلَغني أنّكَ قُلتَ: إِن قَتَلَهُ
فَهُو مِثْلُهُ وأَخَذتُهُ بِأمرِكَ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَا تُريد أن يَبُوء بإِثمِك وإِثمِ صَاحبِك؟
قال: يا نبي الله! (لعَلَّه قال) بَلَى قال: فإِنَّ ذَاك كَذاكَ قالَ:
فَرَمى بنِسْعِته وخَلّى سَبيلهُ" (2).
ولعله لم يُرد قتْله -كما تقدّم- لما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
قال: "قُتِل رجل على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فرُفع ذلك إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفعَه إِلى
وليّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردْتُ قتْله قال: فقال
رسول الله للولي: أمَا إِنه، إِنْ كان صادقاً ثُمَّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ
النَّار قال: فخلَّى سبيله" (3).
وعن عطاء بن أبي ميمون قال: لا أعلمه إلاَّ عن أنس بن مالك قال: "ما رُفع
__________
(1) قرنه: جانب رأسه.
(2) أخرجه مسلم (1680)، وتقدّم.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178)، والنسائي "صحيح
سنن النسائي" (4403) وتقدّم.
(6/184)
إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شيء فيه قِصاص؛ إلاَّ أمَر فيه بالعفو" (1).
وفي لفظ: قال: أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما أُتي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء فيه قِصاص؛ إلاَّ أمَر فيه بالعفو"
(2).
إِذا اعتدى على الجاني بعد العفو:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "كان في بنى إِسرائيلَ القِصاصُ، ولم
تكن فيهمُ الديَة، فقال الله تعالى لهذه الأمّة {كُتِبَ عليكم القصاص في
القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى فمن عُفي لَه من
أخيه شيء} فالعَفوُ أن يقبل الدِّية في العمدِ {فاتِّباعٌ بالمعروف وأداءٌ
إِليه بإِحسان} يتبعُ بالمعروف ويؤدِّي بإحسان {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة}
مما كُتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} أي: قَتَلَ
بعد قَبول الدِّيَة" (3).
سقوط القِصاص (4):
ويسقُط القِصاص بعد وجوبه بأحد الأسباب الآتية:
1 - عفو جميع الأولياء أو أحدهم، لكن يشترط أن يكون العافي عاقلاً مميزاً؛
لأنه من التصرفات المحضة، التي لا يمكلها الصبي ولا المجنون.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2180).
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4452).
(3) أخرجه البخاري (4498).
(4) عن "فقه السنة" (3/ 314) -بتصرّف وحذْف-.
(6/185)
2 - موت الجاني أو فوات الطرف الذي جنى به،
فإِذا مات مَنْ عليه القِصاص، أو فقَد العضو الذي جنى به، سقط الِقصاص؛
لتعذر استيفائه.
3 - إِذا تمّ الصلح بين الجاني والمجني عليه، أو أوليائه وانظر العنوان
الآتي:
التراضي على الدِّية بالزيادة فِراراً من القِصاص:
عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بعث أبا جهم بن حذيفة مصدّقاً، فلاَجّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم،
فشجّه، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: القَوَد
يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لكم كذا
وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لكم كذا وكذا فرضوا.
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِني خاطبٌ العَشيَّة
على النَّاس ومُخبرهُم بِرِضاكم فقالوا: نعم، فخطَب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنّ هؤلاء الليْثيِّين أتوني يريدون
القَوَد، فعرضتُ عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا!
فَهَمَّ المهاجرون بهم، فأمَرَهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أن يكفّوا عنهم، فكفّوا، ثمّ دعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟
قالوا نعم!
قال: إِنِّي خاطبٌ النَّاس ومُخبرهُم بِرِضاكم فقالوا: نعم، فخطب النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم" (1).
استيفاء القِصاص بحضرة السلطان (2):
ينبغي أن يكون استيفاء القصاص بحضرة السُّلطان؛ إذ واجب الحاكم
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3801)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2133) وصححه شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الحسان" (4470).
(2) "المغني" (9/ 393) -بزيادة وتصرُّفٍ يسير-.
(6/186)
تمَكِين أولياء المقتول مِن استيفاء حقّهم
من القاتل؛ ويفعل فيه الحاكم ما يختاره الوالي من القتل أو العفو أو
الدِّيَة.
ثم إِنّ للسلطان أثراً في التذكير بالعفو -من غير إِلزام- وقد تقدّم أكثر
مِن مرّة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قُتِل رجل على عهد النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرُفع ذلك إِلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدفعَه إِلى وليّ المقتول، فقال القاتل: يا
رسول الله والله ما أردْتُ قتْله قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للولي: أمَا إِنّه إِنْ كان صادقاً ثمَّ قَتَلْتَهُ
دَخلت النَّار، قال: فخلَّى سبيله" (1).
ولأَنّه أمْرٌ يفتقر إِلى الاجتهاد، ويحرُمُ الحيف فيه، فلا يُؤمَن الحيف
مع قصد التشفّي، فإِنِ استوفاه من غير حضرة السلطان؛ فإِنه يُعزّر بفعل ما
مُنع.
وعلى السلطان تفقُّد الآلة؛ فإِن كانت كالّة - منعه الاستيفاء بها لئلا
يُعذَّب المقتول (2).
عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله كَتب الإِحسان على كل شيء، فإِذا قتلتم
فأحسنوُا القِتْلَة وإذا ذَبَحتُم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكُم
شَفْرتَه فلْيُرح ذبيحَتَه" (3).
وإنْ كان الوليّ لا يُحسن استيفاء حقّه؛ أمَرَه السلطان بالتوكيل فيه لأنه
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3775)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1135)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2178)، والنسائي "صحيح
سنن النسائي" (4403) وتقدّم.
(2) "المغني" (9/ 394).
(3) أخرجه مسلم (1955)، وتقدم مختصراً في (باب بمَ يكون القِصاص).
(6/187)
حقُّه، فكان له التوكيل في استيفائه كسائر
حقوقه، فإِن لم يجد من يوكّله إِلا بعِوض، أُخِذ العِوَض من بيت المال.
أقول: ولا يخفى أن القِصاص من غير إِشراف الحاكم قد يؤدِّي إِلى الإِسراف
في القتل والذي أشير إِليه آنفاً - ومِن أبشع صُوره اتساع دائرة القتل إِلى
أبناء عشيرتين أو قبيلتين؛ انتقاماً وأخذاً بالثأر!
وجاء في "فتح الباري" (12/ 216): "قال ابن بطال: اتفق أئمّة الفتوى على أنه
لا يجوز لأحد إِن يَقتَصّ مِن حقّه دون السلطان، قال: وإنما اختلفوا فيمن
أقام الحد على عبده ... ".
وهناك نُصوص تدلّ على أخذ الحق أو القِصاص في أشياء محدّدة دون السلطان.
قال الإِمام البخاري -رحمه الله- (باب مَن أخَذَ حقّه أو اقتصّ دون
السلطان) ثمّ ذكر تتمّة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو اطلع في بيتك أحَدٌ ولم تأذن له،
حذفته بحصاة ففقأت عينه (1)؛ ما كان عليك من جُناح (2) " (3).
وعن حميد أنّ رجلاً اطّلع في بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فسدّد (4) إِليه
__________
(1) ففقأت عينه: أي أطفأت ضوءَها.
(2) جُناح: أي إِثم أو مؤاخذة.
(3) أخرجه البخاري (6888)، ومسلم (2158).
(4) فسدّد: أي صوّب، وزْنُه ومعناه. والتصويب: توجيه السهم إلى مرماه
"الفتح".
(6/188)
مِشقصاً (1) " (2).
وذكر النسائي -رحمه الله- تحت (باب مَن اقتصّ وأَخذ حقّه دون السلطان) أثر
(3) أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "رأيت أبا سعيد الخدري في يوم
جمعة يصلّي إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ شابٌّ من بني أبي مُعَيط
أن يجتازَ بينَ يدَيِه، فدفَعَ أبو سعيد في صدرهِ، فنظرَ الشابُّ فلم يَجِد
مَساغاً إِلا بين يدَيه، فعادَ ليَجْتازَ؛ فدفعه أبو سعيد أشدَّ منَ
الأولى، فنالَ مِن أبي سعيدٍ.
ثمَّ دخلَ على مَروَانَ فشكا إِليهِ ما لَقيَ من أبي سعيدٍ، ودخل أبو سعيد
خَلفهُ على مَروانَ، فقال: ما لَكَ ولابنِ أخيكَ يا أبا سعيد؟
قال: سَمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا صلى
أحدُكم إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ أحدٌ أن يجتازَ بينَ يدَيه
فليَدْفعْه. فإِنْ أبى فليُقاتلْهُ فإِنمَّا هو شيطانٌ" (4).
القِصاص في الأطراف والجروح:
ويثبت القِصاص في الأطراف ونحوها والجروح مع الإمكان؛ لقوله -تعالى-:
{وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعينَ بالعينِ والأنف بالأنف
__________
(1) المشقص: قال جمعٌ من الشُّراح: "هو سَهْم ذو نصلٍ عريض" والنّصل: حديدة
السهم.
(2) أخرجه البخاري (6889)، ومسلم (2157) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(3) انظر "صحيح سنن النسائي" (4518).
(4) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505).
(6/189)
والسنّ بالسنّ والجروح قِصاص فمنْ تصدّق به
فهو كفّارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقد استدل كثير ممن ذهب من
الأصوليين والفقهاء إِلى أنّ شرعَ مَنْ قبلنا شرع لنا؛ إِذا حُكِى مُقرّراً
ولم يُنسَخ؛ كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إِسحاق
الإِسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا
على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة".
وقال -رحمه الله- أيضاً في "تفسيره": "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس،
قال: تقتل النفس بالنفس، وتُفقَأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف،
وتُنزَع السنّ بالسنّ وتُقتَصّ الجراح بالجراح".
وفي حديث أنس -رضي الله عنه- أنّ الرّبيِّع -وهي ابنةُ النّضر- كسرَت
ثَنيَّة جاريةٍ، فطلبوا الأرشَ (2) وطلبوا العفو، فأبَوا. فأبَوا النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمَرهم بالقِصاص.
فقال أنس بن النّضر: أتُكسر ثَنيَّة (3) الرّبيِّع يا رسول الله؟ لا والذي
بعَثَكَ بالحقّ لا تُكسر ثنيّتها. فقال: يا أنس كتابُ الله القِصاص. فرضي
القوم وعَفوا.
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن مِن عباد الله مَن
لو أقسم على الله لأَبرّه". زاد الفزاري
__________
(1) المائدة: 45.
(2) الأرش: الدِّية.
(3) الثنية: إحدى الأسنان الأربع التي في مُقدّم الفم: ثنتان من فوق وثنتان
من تحت.
(6/190)
عن حميد عن أنس "فرضيَ القوم وقَبِلوا
الأرش" (1).
وعن أنس بن مالك قال: إِنما سَمَل (2) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء (3).
وهو معنى قوله: {والجُرُوحَ قِصاص} وقد روي عن محمد بن سيرين قال: "إِنما
فَعل بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا قبل أن تُنزل
الحدود" (4).
ويُقيّد القِصاص في الأطراف والجروح بالإِمكان.
جاء في "المغني" (9/ 409): "وإِذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف؛
اقتُصّ منه.
وجملة ذلك أنّ القِصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا أمكنَ؛ للنصّ
والإِجماع".
ثمّ استدل -رحمه الله- بقوله -تعالى-: {والجُرُوحَ قِصاص} ثمّ بحديث
الرُّبَيِّع -رضي الله عنها-.
ثم قال -رحمه الله-: "وأجمع المسلمون على جريان القِصاص فيما دون النفس
إِذا أمكن، ولأنّ ما دون النفس كالنفس في الحاجة إِلى حفظه بالقِصاص؛ فكان
كالنفس في وجوبه" ثم قال -رحمه الله- "ويشترط لوجوب
__________
(1) أخرجه البخاري (2703)، ومسلم (1675).
(2) سَمَل: فقَأها وأذهب ما فيها.
(3) أخرجه مسلم (1671)، وتقدّم.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (63).
(6/191)
القِصاص في الجروح ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون عمداً محضاً، فأمّا الخطأ فلا قِصاص فيه إِجماعاً، ولأن
الخطأ لا يوجب القِصاص في النفس -وهي الأصل- ففيما دونها أولى.
ولا يجب بعمد الخطأ، وهو أن يقصد ضَرْبه بما لا يفضي إِلى ذلك غالباً، مثل
أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القِصاص؛ لأنه شبه العمد،
ولا يجب القِصاص إِلا بالعمد المحض، وقال أبو بكر: يجب به القِصاص ولا
يراعى فيه ذلك لعموم الآية.
الثاني: التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني
عليه لو قتَلَه ... فأما من لا يُقتَل بقتله فلا يُقتَص منه فيما دون النفس
له كالمسلم مع الكافر ... والأب مع ابنه؛ لأنه لا تُؤخَذُ نفسه بنفسه فلا
يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه.
الثالث: إِمكات الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة؛ لأن الله -تعالى- قال:
{وإِنْ عاقبتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال: {فمن اعتدى عَلَيْكم
فاعْتَدوا عَلَيه بمثْل مَا اعْتَدى عَلَيْكُم} ولأنّ دم الجاني معصوم إِلا
في قدر جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية؛
كتحريمه قبلها ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع مع القِصاص؛ لأنها مِن
لوازمه، فلا يمكن المنع منها إِلا بالمنع منه، وهذا لا خلاف فيه نعلمه.
وممن منَع القِصاص فيما دون الموضحة (1)؛ الحسن والشافعي وأبو عبيد وأصحابُ
الرأي.
__________
(1) وهي التي تُبدي وَضح العظم، أي بياضَه. "النهاية".
(6/192)
ومنَعه في العظام عمر بن عبد العزيز وعطاء
والنخعي والزهري والحكم وابن شبرمة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وإِذا ثبت هذا؛ فإِن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة؛ هو كل جرح
ينتهي إِلى عظم؛ كالموضحة في الرأس والوجه.
ولا نعلم في جواز القِصاص في الموضحة -وهي كل جرح ينتهي إِلى العظم في
الرأس والوجه- وذلك لأن الله -تعالى- نصَّ على القصاص في الجروح فلو لم يجب
هاهنا لسقط حُكم الآية.
وفي معنى الموضحة؛ كل جرح ينتهي إِلى عظم فيما سوى الرأس والوجه؛ كالساعد
والعضد والساق والفخذ في قول أكثر أهل العلم، وهو منصوص الشافعي. وقال بعض
أصحابه: لا قِصاص فيها .... ".
قلت: يجب العمل بمقتضى عموم الآية {والجُرُوحَ قِصاص} في أي مكان من الجسم،
إِذا أَمكن عدم الحيف أو الزيادة.
وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 647): "وأمّا تقييد ذلك بالإِمكان، فلكون بعض
الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها؛ كعدم إمكان الاقتصار على مِثل ما في
المجنيّ عليه.
وخطاب الشرع محمول على الإِمكان، مِن دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجنيّ
عليه، فإِذا كان لا يمكن إِلا بمجاوزةٍ للمقدار، أو بمخاطرة وإضرار؛
فالأدلة الدّالة على تحريم دم المسلم، وتحريم الإِضرار به -بما هو خارج عن
القِصاص- مُخصِّصة لدليل الاقتصاص.
قلت: [-أي: صاحب "الروضة النديّة"-] إن كلّ طَرَف له مَفْصِل
(6/193)
معلوم، فَقَطَعه ظالم من مَفْصِله من
إِنسان اقتُص منه؛ كالإِصبع يقطعها من أصلها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو
من المرفق، أو الرِّجل يقطعها من المفصل؛ يُقتصّ منه.
وكذلك لو قلَع سِنّه، أو قطَع أنفه، أو أذنه، أو فَقأ عينه، أوجَبّ ذكَرَه،
أو قطع أُنثيَيه؛ يُقتَصّ منه، وكذلك لو شَجَّه موضِحةً في رأسه أو وجهه؛
يُقتصّ منه.
ولو جرح رأسه دون المُوضِحة، أو جرح موضعاً آخر من بدنه، أو هشم العظم؛ فلا
قَوَد فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه.
وكذلك لو قَطَع يَده من نِصف الساعد؛ فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع،
وله أنْ يقتصّ من الكوع، ويأخذ حكومةً (1) لنصف الساعد، وعلى هذا أكثر أهل
العِلم في الجملة، وفي التفاصيل لهم اختلاف".
وجاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر (ص 172): "وأجمعوا على أن الموضحة
فيها القِصاص إِذا كانت عمداً".
وعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قَودَ في المأمومةِ ولا الجائِفة ولا
المنقّلة" (2).
المأمومة: الشَّجَّة التي بلغت أمّ الرأس؛ وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.
__________
(1) ما يحكُم فيه الحاكم من الجراحات التي ليس فيها دِيَةٌ مقدّرة، وسيأتي
التفصيل إن شاء الله -تعالى-.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2132) وأبو يعلى، وانظر "الصحيحة"
(5/ 222).
(6/194)
الجائفة: الطعنة التي تَصل إِلى الجوف،
والمراد بالجوف هنا كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ.
المنقِّلة: هي التي تخرُج منها صغار العظام وتنتقل عن أماكنها. وقيل: التي
تُنقِّل العظم، أي: تَكْسِره. كذا في "النهاية".
قال أبو الحسن السندي: "وإنما انتفى القِصاص لعسر ضبطه" (1).
أقول: في قوله -تعالى-: {فمن تصدَّق به فهو كفّارة له} بيان أجر من يتنازل
عن القِصاص.
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من رجلٍ يُجرح في جسده جراحة، فيتصدق بها؛
إِلا كَفّر الله عنه مِثل ما تصدّق به" (2).
قال في "فيض القدير": "يعني إِذا جنى إِنسان على آخر فقلع سِنّه أو قطع يده
مثلاً، فعفا المستحقّ عن الجاني لوجه الله؛ نال هذا الثواب".
القِصاص في اللطمة والضربة واللكز والسبِّ:
مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أنّ القِصاص ثابت في
ذلك كلّه؛ وشرطُ ذلك أن يكون اللطمُ والضرب أو السبّ المراد إِيقاعه
بالجاني؛ مساوياً لِلَطْم وضرب وسبِّ المقتصّ، أو قريباً من ذلك، دون
تعمُّد الزيادة.
__________
(1) انظر "شرح سنن ابن ماجه" (2/ 141) للسندي -رحمه الله تعالى- و"الصحيحة"
(5/ 223) لمعرفة غريب الحديث -إِن شئت-.
(2) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح، وانظر "الصحيحة" (2273).
(6/195)
وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 162): "وسئل
-رحمه الله- عن الرجل يلطِم الرجل أو يكلمه، أو يسبّه؛ هل يجوز أن يُفعَل
به كما فعَل؟
فأجاب: وأمّا القِصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك؛ فمذهب الخلفاء الراشدين
وغيرهم من الصحابة والتابعين؛ أنّ القِصاص ثابت في ذلك كلّه، وهو المنصوص
عن أحمد في رواية إِسماعيل بن سعيد الشالنجي، وذهب كثير من الفقهاء؛ إِلى
أنه لا يشرع في ذلك قِصاص؛ لأنّ المساواة فيه متعذرة في الغالب.
وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ والأول أصحّ؛ فإِن
سُنّة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضَت بالقِصاص في ذلك
وكذلك سُنّة الخلفاء الراشدين، وقد قال -تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئة
مِثلها} (1).
وقال -تعالى-: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيه بمثْل ما اعْتَدى
عَلَيْكُم} (2) ونحو ذلك.
وأمّا قول القائل: إِنّ المماثلة في هذه الجناية متعذرة. فيقال: لا بدّ
لهذه الجناية من عقوبة: إِمّا قِصاص، وإِمّا تعزير، فإِذا جوّز أن يُعزر
تعزيراً غير مضبوط الجنس والقدر؛ فلأن يعاقب إِلى ما هو أقرب إِلى الضبط من
ذلك أولى وأحرى. والعدل في القِصاص مُعتَبر بحسب الإِمكان.
ومن المعلوم أن الضارب إِذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريباً منها كان هذا
أقرب إِلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط؛ فالذي يمنَع القِصاص في ذلك
__________
(1) الشورى: 40.
(2) البقرة: 194.
(6/196)
خوفاً من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلماً مما
فرّ منه. فعُلم أنما جاءت به السُّنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبّه كما يسبّه: مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبّحك
الله. فيقول: قبّحك الله. أو أخزاك الله فيقول: أخزاك الله. أو يقول: يا
كلب! يا خنزير! فيقول: يا كلب! يا خنزير!
فأمّا إِذا كان مُحرّم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه، لم يكن له أن
يُكفّره ولا يكذب عليه. وإِذا لعَن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأنّ أباه
لم يظلمه". انتهى.
قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد
ابن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر من ضربةٍ بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة
أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش" (1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 227): قوله -أي الإِمام البخاري
"وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد بن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر
من ضربة بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش".
أمّا أثر أبي بكر -وهو الصِّدّيق-: فوصَله ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن
الحصين سمعت طارق بن شهاب يقول "لطم أبو بكر يوماً رجلاً لطمة، فقيل
__________
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب 21 - إذا أصاب قومٌ
من رجل ... ). وانظر -إن شئت- "مختصر البخاري" (4/ 226) لوصل التعليق،
والحكم على إسناده.
(6/197)
ما رأينا كاليوم قط هنعة (1) ولطمة، فقال
أبو بكر: إِن هذا أتاني ليستحملَني فحملتهُ فإِذا هو يتبعهم، فحلفت أن لا
أحمله ثلاث مرات، ثمّ قال له: اقتصّ، فعفا الرجل".
وأمّا أثر ابن الزبير فوَصلَه ابن أبي شيبة ومسدد جميعاً عن سفيان بن عيينة
عن عمرو بن دينار "أن ابن الزبير أقاد من لطمة".
وأمّا أثر علي الأول؛ فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه
"أن علياً أتى في رجلٍ لطَم رجلاً، فقال للملطوم: اقتصّ".
وأما أثر سويد بن مُقرِّن فوصَلَه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه.
وأمّا أثر عمر فأخرجه في "الموطأ" عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعاً
(2)، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:
"كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة، فناداه رجل فضربه بالدِّرَّة فقال:
"عجلت عليّ، فأعطاه المِخْفقة (3) وقال: اقتصّ، فأبى، فقال: لتفعلن، قال:
فإِني أغفرها".
وأمّا أثر علي الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن
عمرو عن عبد الله بن مَعْقِل -بكسر القاف- قال: "كنت عند عليّ
__________
(1) جاء في "تاج العروس": الهنَع انحناء في القامَة، وفي "الصحاح" تطامُنٌ
في عُنق البعير؛ فلعلّها تعني الذّل. والله أعلم.
(2) وقال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (4/ 226): وصله مالك وعبد
الرزاق بسند ضعيف عنه.
(3) ما يضرَبُ به من سوطٍ ونحوه.
(6/198)
فجاءه رجل فسارَّه فقال: يا قنبر اخرج
فاجلد هذا، فجاء المجلود فقال: إنه زاد عليّ ثلاثة أسواط، فقال: صدَق.
قال: خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال: يا قنبر إِذا جلدت فلا تتعد
الحدود".
وأمّا أثر شُريح فوصَله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إِبراهيم النخعي
قال: "جاء رجل إِلى شريح فقال: اقدني من جلْوازك (1)، فسأله فقال: ازدحموا
عليك فضربته سوطاً. فأقاده منه".
ومن طريق ابن سيرين قال: اختصم إِليه -يعني: شريحاً- عبدٌ جَرَح حرّاً
فقال: إِنْ شاء اقتص منه.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة، ومن وجه آخر
عن أبي إِسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخُموش (2).
وقال الليث وابن القاسِم: "يقاد من الضرب بالسوط وغيره؛ إِلا اللطمة في
العين؛ ففيها العقوبة خشيةً على العين". انتهى.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "المُسْتَبّان ما قالا؛ فعلى البادئ، ما لم يعتَدِ
المظلوم" (3).
(المُسْتَبان ما قالا): جاء في "العون" (13/ 238): "المُسْتَبان تثنية
__________
(1) أي: شرطيِّك.
(2) الخُموش -بضم المعجمة- الخدوش وزنه ومعناه، والخماشة: ما ليس له أَرْش
معلوم من الجراحة. "الفتح".
(3) أخرجه مسلم (2587).
(6/199)
مستبّ وهما المتشاتمان اللذان يشتم كلّ
منهما الآخر.
(ما قالا) أي: إِثم قولهما من السبّ والشتم.
(فعلى البادئ): أي: على الذي بدأ في السبّ، لأنه السبب لتلك المخاصمة.
قال في "اللمعات": أما إِثم ما قاله البادئ فظاهر، وأمّا إِثم الآخر فلكونه
الذي حمَله على السبّ وظلمه".
(ما لم يعتدِ المظلوم): أي: يتجاوز الحدّ؛ بأن سبّه أكثر وأفحش منه، أمّا
إِذا اعتدى كان إِثم ما اعتدى عليه، والباقي على البادي؛ كذا في "اللمعات".
والحاصل إِذا سبَّ كلّ واحد الآخر؛ فإِثم ما قالا على الذي بدأ السبّ، وهذا
إِذا لم يتعدّ ويتجاوز الحدّ، والله أعلم.
قال النووي (16/ 141) -بحذف وتصرف يسيرين-: "معناه أنّ إِثم السباب الواقع
من اثنين مختصٌ بالبادئ منهما كلّه، إلاَّ أن يتجاوز الثاني قدْر الانتصار
فيقول للبادئ أكثر مِمّا قال له، وفي هذا جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه.
وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله -تعالى-: {ولَمَنِ انتَصَر
بعْدَ ظُلْمه فَأولئكَ مَا عليْهم مِن سَبيلٍ} (1) وقال -تعالى-: {والَّذين
إذا أصَابهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصرون} (2).
__________
(1) الشورى: 41.
(2) الشورى: 39.
(6/200)
ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله
تعالى {ولمَن صَبَرَ وغَفَر إِنّ ذلك لمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} (1) ولقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما زاد الله عبداً بعفو إِلا عزّاً"
(2).
واعلم أن سِباب المسلم بغير حقّ حرام كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سِباب المسلم فسوق".
ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلاَّ بمِثل ما سبّه، ما لم يكن كَذباً أو قذفاً
أو سباً لأسلافه، فمِن صور المباح أن ينتصر بيا (3) ظالم، أو جافي، أو
نحوه، ذلك لأنّه لا يكاد أحد ينفكّ من هذه الأوصاف.
قالوا: وإِذا انتصَر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقّه، وبقي عليه
إِثم الابتداء أو الإِثم المستحقّ لله تعالى ... ".
جاء في "إِكمال الإِكمال" (8/ 544): "ما لم يتعدّ: أي يتجاوز، فلأنّه
إِنّما أُبيح له أن يَرُدّ مِثل ما قيل له؛ لقوله تعالى: {وإِنْ عاقبتُم
فعاقبِوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتُم لهو خيرٌ للصابرين} (4) وقوله
تعالى: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (5).
والعداء في الردّ بالتكرار مِثل أن يقول البادئ: يا كلب فيردّ عليه مرّتين،
__________
(1) الشورى: 43.
(2) أخرجه مسلم (2588).
(3) أي أن يقول: يا ظالم ...
(4) النحل: 126.
(5) الشورى: 40.
(6/201)
وبأن يردّ بأفحش كما لو قيل له: يا كلب
فقال له: أنت خنزيز.
وكما لو سبّه البادئ فسبّ الراد آباء البادئ وكان ذلك عداء؛ لأنّه سبّ من
لم يجْن عليه، وكانت هذه المذكورات عداءً؛ لأنَّ الانتصار إِنّما هو من باب
القِصاص، والقِصاص إِنما يكون بالمِثل للآيتين السابقتين".
والخلاصة: إِنّ إِثم السبّ والشتم الصادر من المسْتبّين المشاتمين على من
بَدأَ لأنّه السبب في ذلك، ما لم يعْتد المظلوم ويتجاوز الحدّ؛ بأن يسبّه
أكثر وأفحش ففيه جواز السب والشتم بالشرط المذكور، والعفو أفضل.
ويُحمَل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المستبّان شيطانان
يتهاتران ويتكاذبان" (1) على الاعتداء في القِصاص.
وتجاوز الحدّ، ومقابلة المعصية بمثلها أو أكثر؛ فقد تقدم أن المعصية لا
تقابَل بالمعصية، وهنا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"يتهاتران" أي: يتقاولان ويتقابحان في القول من الهِتر -وهو الباطل
والسَّقط من الكلام، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضاً:
"يتكاذبان" وتقدّم القول بتحريمه. والله -تعالى- أعلم.
وفي الحديث: "لَيُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته (2) " (3).
__________
(1) انظر "صحيح الأدب المفرد" (330).
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3086)، وابن ماجه، "صحيح
سنن ابن ماجه" (1970)، وغيرهما. وانظر "الإرواء" (1434) ورواه البخاري
معلّقاً "كتاب الاستقراض" (باب لصاحب الحقّ مقال).
(3) قال ابن المبارك: "يُحِلّ عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له".
ليّ الواجد: أي مطلق الغنى، والليّ بالفتح المطل، وأصله لوى فأُدغمت الواو
في الياء. =
(6/202)
اشتراك الجماعة في القِصاص:
عن مطرّفٌ عن الشعبي في رجلين شهدا على رجلٍ أنّه سرق فقطعه علي -رضي الله
عنه- ثم جاءا بآخر وقالا: أخطأنا، فأبطل شهادتهما، وأُخذا بدية الأول.
وقال: "لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لَدَدْنَا (2) رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه، وجعلَ يشيرُ إِلينا لا تَلُدُّوني.
قال: فقلنا كراهية المريض بالدواء فلمّا أفاق قال: ألم أنهكنّ أن
تَلُدُّوني، قال: قُلنا كراهيةً للدواء؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يبقى منكم أحدٌ إِلا لُدَّ وأنا
__________
= والواجد الغني من الوُجد بالضم بمعنى السعة والقدرة، ويقال وجَد في المال
وجدا أي: استغنى.
(يحل): بضم الياء من الإِحلال.
(عرضه): بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه مما ليس بقذف ولا
فحش.
(وعقوبته): بأن يُعزّره القاضي على الأداء؛ بنحو ضربٍ أو حبس حتى يؤدي.
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب - إِذا أصاب قومٌ من
رجل ... ) ووصله الشافعي عن سفيان بن عيينة وانظر "الفتح" (12/ 336)
وتقدّم.
(2) اللَّدود: بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يُصبُّ في أحد جانبي
فم المريض. واللُّدود -بالضم- الفعل ولدَدْت المريض: فَعَلْت ذلك به.
"الفتح".
(6/203)
أنظر؛ إلاَّ العباسَ فإِنه لم يَشهدكم"
(1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (8/ 147): "قوله: لا يبقى أحدٌ في البيت
إِلا لُدَّ وأنا أنظر إلاَّ العباسَ فإِنه لم يَشهدكم" قيل: فيه مشروعية
القِصاص في جميع ما يُصاب به الإِنسان عمداً، وفيه نظَر، لأنّ الجميع لم
يتعاطَوا ذلك، وإنما فَعَل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عن ذلك.
أمّا مَن باشره فظاهر، وأمّا من لم يباشِره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم
هو عنه.
ويستفاد منه أن التأويل البعيد لا يُعْذَرُ به صاحبه، وفيه نظَر أيضاً لأن
الذي وقع في معارضة النهي.
قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة، وعليهم حقّه فيقعوا في
خَطبٍ عظيم، وتُعقِّب بأنه كان يمكن العفو؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه.
والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان تأديباً لا قِصاصاً
ولا انتقاماً.
قيل: وإِنما كَره اللَّد مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه،
ومَن حقق ذلك كُره له التداوي. قلت: وفيه نظَر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل
التخيير والتحقق، وإِنما أنكَر التداوي؛ لأنه كان غيرَ ملائم لدائه؛ لأنهم
ظنوا أنّ به ذات الجنب فداووه بما يلائمها؛ ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر في
سياق الخبر كما ترى، والله أعلم".
__________
(1) أخرجه البخاري (6897) مسلم (2213).
(6/204)
قلت: والمترجّح لديّ أنّه مِن باب القِصاص،
وقد رواه الإِمام البخاري -رحمه الله- في مواطن عديدة؛ منها باب الدِّيات،
فدلّ هذا على أنه يراه من باب القِصاص ولا يمتنع عليه هذا الفعل؛ لأنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما وصَفَه الله -سبحانه-: {وما ينطق
عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاّ وحْيٌ يوحى}.
وتركُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العفو في هذا الموطن -وهو
قادرٌ عليه بلا ريب- يؤيّد الأصل العامّ -ألا وهو القِصاص- وهذا كما لا
يخفى من باب التشريع للأمّة.
وأما قول مَن قال إِنه تأديب وليس قِصاصاً، فلعل الأَوْلى أن يقول القائل:
تأديبٌ بالقِصاص. والله -تعالى- أعلم.
هل يشرع القِصاص في إِتلاف الأموال؟
إِذا أتلف المرء مال غيره؛ كأن يخرق ثوبه أو يهدم داره، أو يقطع ثمره، فهل
له أن يقتصّ منه؛ بمثِل ما أصابه فيه قولان للعلماء:
أحدهما: أن ذلك غيرُ مشروع لإِنه إِفساد، ولأنّ العقار والثيابَ غيرُ
مماثلة.
والثاني: أن ذلك مشروع؛ كما سيأتي البيان والتعليل بإِذن الله.
جاء في "مجموع الفتاوى" (30/ 332): "وسئل -رحمه الله- هل يجوز له أن يَخرق
ثَوبه كما يخرِق ثوبه؟
فأجاب: وأمّا القِصاص في إِتلاف الأموال؛ مِثل أن يخرق ثوبه فيخرق ثوبه
المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره ونحو ذلك؛ فهذا فيه قولان للعلماء هما
روايتان عن أحمد:
(6/205)
أحدهما: أن ذلك غيرُ مشروع لإِنه إِفساد،
ولأنّ العقار والثيابَ غيرُ مماثلة.
والثاني: أن ذلك مشروع؛ لأنّ الأنفس والأطراف أعظمُ قدْراً من الأموال،
وإِذا جاز إِتلافها على سبيلْ القِصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم، فالأموال
أولى.
ولهذا يجوز لنا أن نُفسد أموال أهل الحرب إِذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر
المثمِر.
وإِن قيل بالمنعِ من ذلك لغير حاجة، فهذا فيه نزاع؛ فإِنه إِذا أتلف لى
ثياباً أو حيواناً أو عقاراً ونحو ذلك، فهل يضمنه بالقيمة؟ أو يضمنه بجنسه
مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء. وهما قولان في مذهب الشافعي، وأحمد
فإِن الشافعي قد نَصّ على أنه إِذا هَدَم داره بناها كما كانت، فضَمِنَه
بالمثل. وقد رُوي عنه في الحيوان نحو ذلك ...
وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب، فإِنّ داود -عليه السلام- قد ضَمِن أهل
الحرث الذي نفشت (1) فيه غَنَم القوم بالقيمة، وأعطاهم الماشية مكان
القيمة. وسليمان -عليه السلام- أمَرَهم أن يعمروا الحرث حتى يعود كما كان،
وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث.
وبهذا أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز لما كان قد اعتدى بعض بني أميّة على
بستان له فقلعوه، وسألوه ما يجب في ذلك؟ فقال: يغرسه كما كان. فقيل له: إِن
ربيعة وأبا الزناد قالا: تجب القيمة، فتكلَّم الزهري فيهما بكلام مضمونه:
أنهما خالفا السنة.
__________
(1) النَّفش: الرعي، قال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلاَّ بالليل.
قاله ابن كثير -رحمه الله-.
(6/206)
ولا ريب أنّ ضمان المال بجنسه مع اعتبار
القيمة أقرب إِلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير مع
اعتبار القيمة؛ فإِنّ القيمة مُعتبرةٌ في الموضعين، والجنس مختصٌّ بأحدهما،
ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، وإِلا فمن له غرضٌ في كتابٍ أو فرس أو
بستان؛ ما يصنع بالدراهم؟
فإِنْ قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوّته ماله هو أحقّ بأن
يَضْمَن له مِثل ما فوّته إِياه؛ أو نظير ما أفسدَه من ماله.
وقال ابن القيم -رحمه الله- (1) - في معرض الكلام عن القِصاص في إِتلاف
الأموال-: "إِتلاف المال؛ فإِنْ كان مما له حُرمة، كالحيوان والعبيد، فليس
له أن يُتلِف ماله، كما أتلف مالَه، وإِنْ لم تكن له حرمة، كالثوب يشقّه،
والإِناء يكسره، فالمشهور، أنه ليس له أن يُتلِف عليه نظيرَ ما أتلفه، بل
له القيمة أو المِثل.
والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه؛ كما فعله الجاني به،
فيشقُّ ثوبه، كما شقَّ ثوبه، ويكسر عصاه كما كَسَر عصاه، إِذا كانا
متساويين، وهذا من العدل، وليس مع منْ منَعَه نصّ، ولا قياس، ولا إِجماع،
فإِنّ هذا ليس بحرام لحقّ الله، وليست حُرمة المال أعظم من حرمة النفوس
والأطراف.
وإِذا مكّنه الشارع أن يُتلف طرَفَه بطرَفِه؛ فتمكينه من إِتلاف ماله في
مقابلة ماله هو أولى وأحرى، وإنّ حكمة القِصاص من التشفي، ودرك الغيظ، لا
تحصل إِلا بذلك، ولأنه قد يكون له غرض في أذاه، وإتلاف ثيابه، ويعطيه
قيمتها، ولا يشق ذلك
__________
(1) ذكره في "إعلام الموقعين" (1/ 327) ونقله السيد سابق -رحمه الله- في
"فقه السنة" (3/ 324).
(6/207)
عليه؛ لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك،
ويبقى المجني عليه بغبْنِه وغيظه، فكيف يقع إِعطاؤه القيمة من شفاء غيظه،
ودرك ثأره، وبرد قلبه، وإِذاقة الجاني من الأذى ما ذاقه هو؟!
فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسُها معاً؛ يأبى ذلك، وقوله
-تعالى-: {فاعْتَدُوا عَلَيه بمثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (1) وقوله
-تعالى-: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (2)، وقوله -تعالى-: {وإِنْ عاقبتُم
فعاقبِوا بمثل ما عوقبتم به} (3) يقتضي جواز ذلك.
وقد صرَّح الفقهاء بجواز إِحراق زروع الكفار، وقطْع أشجارهم، إِذا كانوا
يفعلون ذلك بنا، وهذا عين المسألة.
وقد أقرّ الله -سبحانه- الصحابة على قطع نخل اليهود؛ لما فيه من خزيهم،
وهذا يدل على أنه -سبحانه- يحب خزي الجاني الظالم ويشرعه".
قلت: يُشير -رحمه الله- إِلى قوله -سبحانه-: {ما قَطعتُم من لينةٍ (4) أو
__________
(1) سورة البقرة: 194.
(2) الشورى: 40.
(3) النحل: 126.
(4) قال الحافظ في "الفتح" (8/ 629): "قال أبو عبيدة في قوله -تعالى-: {ما
قَطعتُم من لينةٍ}: أي: من نخلة، وهي من الألوان ما لم تكن عجوة أو برنية
إلاَّ أن الواو ذهبت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس: "اللينة
النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال: اللينة ما
دون العجوة، وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النوى".
(6/208)
تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله
وليُخزِيَ الفاسقين} (1).
عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "حرَّق نخْل بني النّضير وقطَع، وهي البويرة (2)، فأنزَل الله
-تعالى-: {ما قَطعتُم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله
وليُخزِيَ الفاسقين} " (3).
قال أبو عيسى: وقد ذهب قوم من أهل العلم، إِلى هذا، ولم يروا بأساً بقطع
الأشجار وتخريب الحصون.
وكَرِه بعضُهم ذلك، وهو قول الأوزاعي. قال الأوزاعي: ونهى أبو بكر الصديق،
أن يقطع شجراً مُثمراً، أو يُخرّب عامراً، وعَمِل بذلك المسلمون بعده.
وقال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو، وقطع الأشجار والثمار. وقال
أحمد: وقد تكون في مواضع لا يجدون منه بُدّاً، فأمّا بالعَبَث فلا تُحرَق،
وقال إِسحاق: التحريقُ سُنّة إِذا كان أنكى فيهم.
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 9) قوله (4): (باب قطْع الشجر
والنخل) أي: للحاجة والمصلحة إِذا تعيّنت طريقاً في نكاية العدو ونحو ذلك.
وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطع الشجر المثمر أصلاً
__________
(1) الحشر: 5.
(2) البُوَيْرة: موضع نخل بني النضير "شرح النووي".
(3) أخرجه البخاري (4884) وفي مواضع عديدة، ومسلم (1746).
(4) أي: الإمام البخاري -رحمه الله-.
(6/209)
وحمَلوا ما ورَد من ذلك إِمّا على غير
المثمر وإِمّا على أن الشجر الذي قُطع في قصة بني النضير كان في الموضع
الذي يقع فيه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور.
وقال أيضاً (6/ 155): "وقد ذهب الجمهور إِلى جواز التحريق والتخريب في بلاد
العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن
لا يفعلوا شيئاً من ذلك.
وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك؛ بخلاف ما إِذا أصابوا ذلك في
خلال القتال؛ كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في
النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل
بالتغريق.
وقال غيره: إِنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستُفتح
فأراد إِبقاءها على المسلمين. والله أعلم". انتهى.
والذي يترجّح لديَّ أن الحرق والقطع ونحوهما جائز بنصّ الكتاب والسُّنة،
والأمر يرجع إِلى الحاكم في الفِعل أو الترك، فإِنْ رأى مصلحةً في مرحلةٍ
ما في حرق الزروع والثمار - ومثل ذلك هدم مؤسسات ومبانٍ فعل ذلك، وإِنْ
رجّح الاستفادة منها لنصرٍ يرجوه، ولم يرَ فائدة منْ قطْعها وحرْقها لم
يفعل.
أمّا أبو بكر -رضي الله عنه- فإِنه لم يفُته دليل الكتاب والسُّنة، ولكن لا
يخفى أنّ الدليل يدل على المشروعية، والمشروعية قد تكون ركناً أو واجباً،
أو مندوباً أو مستحباً.
وقد كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- لمصلحةٍ رآها جمْعاً بين النصوص؛
(6/210)
لا تأصيلاً لإِلغاء مقتضى الكتاب والسُّنة.
والله -تعالى- أعلم.
ثم قال ابن القيّم -رحمه الله- (1): "وإِذا جاز تحريق متاع الغالِّ، لكونه
تعدى على المسلمين في خيانتهم في شيء من الغنيمة، فلأَنْ يحرق ماله، إِذا
حَرَق مال المسلم المعصوم أولى وأحرى.
وإِذا شرعت العقوبة المالية في حق الله الذي مسامحته به أكثر من استيفائه،
فلأَنْ تُشرع في حقّ العبد الشحيح أولى وأحرى، ولأن الله -سبحانه- شرع
القِصاص؛ زجراً للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكاً
لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل، وأصلح للعباد، وأشفى لغيظ
المجني عليه، وأحفظ للنفوس والأطراف، وإِلا فمن كان في نفسه من الآخر؛ من
قتله أو قطع طرفه، قتَله أو قطعَ طرفه، وأعطى ديته، والحكمة، والرحمة،
والمصحلة تأبى ذلك، وهذا بعينه موجود في العدوان على المال.
فإِن قيل: فهذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه. قيل: إِذا رضي المجني
عليه بذلك، فهو كما لو رضي بدية طرفه، فهذا هو محض القياس، وبه قال
الأحمدان؛ أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية.
قال في رواية موسى بن سعيد: وصاحب الشيء يخيّر؛ إِن شاء شقّ الثوب، وإِنْ
شاء أَخَذ مثله".
ضمان المِثل:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عند بعض نسائِه، فأرسَلتْ إِحدى أُمّهاتِ المؤْمنين بصَحْفَةٍ
فيها طعام، فضرَبتِ التي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) انظر "إِعلام الموقعين" (1/ 328).
(6/211)
في بيتها يدَ الخام، فسقَطَتِ الصحْفَةْ
فانْفلقت، فجمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِلَقَ
الصَّحْفَة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارَت
أمّكم.
ثم حبس الخادمَ حتى أُتي بصَحْفَةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفَع الصحفةَ
الصحيحة إِلى التي كُسِرتْ صحفَتها، وأمسكَ المكسورة في بيت التي كُسِرت
فيه" (1).
وفي رواية: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عند بعض
نسائِه، فأرسَلتْ إِحدى أُمهاتِ المؤْمنين مع خادم بقَصْعةٍ فيها طعامٌ،
فضربَتْ بيدِها فكسَرَت القَصعة (2)، فضمَّها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا.
وحَبسَ الرسولَ والقصعةَ حتى فرَغوا، فدفع القصعةَ الصحيحةَ وحَبسَ
المكسورة" (3).
لا يُستقاد من الجُرح حتى يبرأ صاحبُه:
لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنيّ عليه، فإِن اقتصّ منه
قبل الاندمال ثمّ زاد جرحه؛ فلا شيء له.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً طعنَ رجلاً بقرن في ركبته فجاء
إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أقِدْني. قال: حتى
تبرأ ثم جاء إِليه فقال:
__________
(1) أخرجه البخاري (5225).
(2) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "بقَصعة: إِناء من الخشب وفي رواية
ابن عليّة في النكاح عند المصنّف "بصحفة وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير
الخشب" قلت: يشير -رحمه الله- إلى الرواية السابقة برقم (5225).
(3) أخرجه البخاري (2481).
(6/212)
أقدني فأقاده. ثم جاء إِليه فقال: يا رسول
الله عرجت فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك (1). ثم نهى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقتص مِن جرح؛ حتى يَبْرأ
صاحبُه" (2).
وفي رواية: "لا يُستقاد من الجُرح حتى يبرأ" (3).
موت المقتصّ منه (4):
إِذا مات المقتصّ منه بسبب الجرح الذي أصابه من أجل القِصاص، فقد اختلفت
فيه أنظار العلماء؛ فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا شيء على المقتص؛ لعدم
التعدي، ولأن السارق إِذا مات من قطع يده، فإِنه لا شيء على الذي قطع يده
بالإِجماع. وهذا مِثل ذلك.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: إِذا مات، وجب على عائلة المقتص
الدية؛ لأنه قتل خطأ.
قلت: والأول أصح وأقوى لما علّله الجمهور، ولأن المتعدّي هو الذي جرّ إِلى
نفسه ذلك؛ والله أعلم.
__________
(1) بَطَل عَرَجُك: أي: ذهَب ضياعاً وخُسراً وهدراً.
(2) أخرجه أحمد والدارقطني والبيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء"
(2237).
(3) أخرجه الطحاوي وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (7/ 299).
(4) عن "فقه السنة" (3/ 330).
(6/213)
|