الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الدِّيات والضمان
(6/215)
الدِّيات
تعريفها:
الدِّيات -بتخفيف التحتانية-: جمع دِيَة مِثْل عِدات وعِدَة، وأصلها وَدْية
-بفتح الواو وسكون الدال- تقول: ودى القتيل يدِيِه إِذا أعطى وليه دِيَتَه،
وهي ما جُعِل في مقابلة النفس، وسُمّي دِيَة تسميةً بالمصدر، وفاؤها محذوفة
والهاء عِوَض (1).
قال في "حلية الفقهاء" (ص 196): "وأمّا الدِّيةَ، فهي دِيَةٌ وعَقلٌ،
وسُمّيت عقلاً؛ لأنّها تعقِل الدماء عن أن تُسْفَك.
وقال قوم: كان أصل الدِّية الإِبل؛ فكانت تُجمع وتُعْقل بفِناء وليّ
المقتول، فسميّت الدِّية عقلاً، وإنْ كانت دراهم أو دنانير".
مشروعيتها:
قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا
خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2).
__________
(1) انظر "الفتح" (12/ 187).
(2) النساء: 92.
(6/217)
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-
قال: "كانت قيمةُ الدِّية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب
يومئذ النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمر -رحمه الله- فقام خطيباً فقال: ألا
إِنّ الإِبل قد غَلَت (1).
قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ
ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل
الحُلل مائتي حلة.
قال: وترك دِيَة أهل الذمة لم يرفعها فيما رفَع من الدِّيَة" (2).
حِكمتها:
الأصل في الدِّيَة أنها تجب أن تكون مالاً عظيماً يغلبهم وينقص من مالهم،
ويجدون له ألماً عندهم، ويكون بحيث يؤدّونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر،
وهذا القدْر يختلف باختلاف الأشخاص (3).
__________
(1) قلت: فيه تصرف الوالي في الدية مراعاةً للغلاء والانخفاض، ليحقّق معنى
الدِّية، وليذوق القاتل وبال أمره، وكذا يراعى في الدَّين هذا الأمر ليُنصف
الدائن؛ مع انخفاض العملة الورقية. والله -تعالى- أعلم.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2247).
(3) انظر "الروضة الندية" (2/ 655).
(6/218)
مقدار دِية الرجل المسلم:
ديَة الرجل المسلم مائة مِن الإِبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف
دينار ذهب، اثنا عشرَ ألف درهم أو مائتا حُلّة (1).
لحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... ألا إِنّ ديَة الخطأ- شبه العمد؛ ما كان
بالسوط والعصا مائة من الإِبل؛ منها أربعون في بطونها أولادها" (2).
وفي كتاب عمرو بن حزم "وفي النفس مائة من الإِبل" (3).
وللحديث المتقدّم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كانت قيمةُ
الدِّية على عهد الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب يومئذ النصف من
دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمرُ -رحمه الله- فقام خطيباً فقال: ألا
إِنّ الإِبل قد غَلَت.
قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ
ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى
__________
(1) الحُلَل: جمع حُلّة، قال ابن الملك: "وهي إزار ورداء مِن أيّ نوعٍ من
أنواع الثياب، وقيل: الحُلَل: برود اليمن، ولا يسمّى حُلّة؛ حتى يكون
ثوبين. "المرقاة" (7/ 62).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2126) والنسائي وابن ماجه وغيرهم
وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2197).
(3) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2243).
(6/219)
أهل الحلل مائتي حلة. قال: وترك دِيَة أهل
الذمة لم يرفعها فيما رفَع من الدية" (1).
وفي رواية عنه أيضاً -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقوِّم دِيَة الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار،
أو عدلها من الورق يُقوِّمها على أثمان الإِبل، فإِذا غلت رفع في قيمتها،
وإذا هاجت رخَصاً نقص من قيمتها، وبَلَغت على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة دينار إِلى ثمانمائة دينار،
وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم.
وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل البقر مائتي
بقرة، ومن كان دِيَة عقْله في الشاء؛ فألفي شاة.
قال: وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِن العقل ميراث بين
ورثة القتيل على قرابتهم، فما فضل فللعصبة.
قال: وقضى رسول الله في الأنف إِذا جُدِعَ الدية كاملة، وإِنْ جُدعت
ثَنْدُوته فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو عدلها من الذهب أو الورق، أو
مائة بقرة أو ألف شاة. وفي اليد إِذا قطعت نصف العقل، وفي الرِّجل نصف
العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلثُ أو قيمتها من
الذهب، أو الورق، أو البقر أو الشاة، والجائفةُ مثل ذلك. وفي الأصابع في كل
أصبع عَشْرٌ من الإِبل وفي الأسنان في كل سِنَّ خمس من الإِبل" (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإرواء" (2247) وتقدّم.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818) وتقدّم.
(6/220)
وقد تقدم أن الدينار = 4.25 غراماً.
والدية من الذهب = 800 دينار = 3400 غراماً.
وحين فرضها عمر -رضي الله عنه- ألف دينار = 4250 غراماً.
والدرهم (1) = 2.975 غراماً.
والدية من الفضة = 8000 درهم = 23800 غراماً.
وحين غَلَت: 12 ألفاً = 35700 غراماً.
القتل الذي تجب فيه (2):
تجب الدية في القتل الخطأ، وشِبه العمد، وفي العمد الذي وقَع ممّن فَقد
شرطاً من شروط التكليف؛ مثل الصغير والمجنون. وكذا في العمد الذي تكون فيه
حُرمة المقتول ناقصةً عن حُرمة القاتل؛ مِثل الحُر إِذا قتَل العبد ...
وسيأتي التفصيل بإِذن الله.
تغليظ الدِّية (3):
اختلفت الأحاديث الشريفة في الدِّيات تغليظاً وتخفيفاً لكل قسم، فالدِّية
المغلّظة في الخطأ الذي هو شبه العمد، والدّيَة المخفّفة في الخطأ المحض
والأحاديث مُصرّحةٌ بذلك.
__________
(1) انظر المكاييل والأوزان الإسلامية ترجمة الدكتور كامل العسلي (ص 9)
وفيه أن الدرهم = 2.97 غراماً.
(2) عن "فقه السنة" (3/ 333) -بحذف وتصرف يسير-.
(3) عن "الروضة الندية" (652) -بتصرف-.
(6/221)
وتغلّظ الدية بأن تكون المائة من الإِبل؛
في بطون أربعين منها أولادها.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطَب يوم الفتح فقال: ألا إِنّ ديَة الخطأ -شبه
العمد- ما كان بالسوط والعصا مائة من الإِبل؛ منها أربعون في بطونها
أولادها" (1).
وفي رواية عن عقبة بن أوس عن رجُلٍ مِن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خطَب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة فقال: ألا وإِنّ قتيل الخطأ -شِبه العمد-؛ بالسوط
والعصا والحجر مائة من الإِبل، فيها أربعون ثنية إِلى بازل عامها (2) كلهنّ
خَلِفةٌ (3) " (4).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عَقلُ شِبهِ العمد مُغَلّظ، مثل عقْلِ العمد،
ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في عِمّيَّا في
غير ضغينة ولا حمْل سلاح" (5).
وعنه أيضاً: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى: أنّ
مَن قتَل خطأ؛ فديته مائة من
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3807) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2127)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4458)، وصححه شيخنا - رحمه
الله- في "الإِرواء" (2197) وتقدّم.
(2) بازل عامها: هي البازل من الإبل الذي أتمّ ثماني سنين، ودخل في التاسعة
وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك: بازلُ عامٍ وبازلُ
عامين. "النهاية".
(3) الخَلِفةٌ: الحامل من النوق، وقد خلفته إِذا حَمَلت. "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له، "صحيح سنن النسائي" (4461).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3819) وتقدّم.
(6/222)
الإِبل: ثلاثون بنت مخاض (1)، وثلاثون بنت
لَبون (2)، وثلاثون حِقّة (3)، وعشرة بني لبون ذكر" (4).
وعن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت: في المغلظة: أربعون جَذَعة (5) خَلِفَة،
وثلاثون حِقّة، وثلاثون بنات لبون. وفي الخطأ ثلاثون حِقّة، وثلاثون بنات
لَبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض" (6).
وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم إِلى أن القتل
على ثلاثة أضرب: عمد، خطأ، وشبه عمد.
ففي العمد القِصاص، وفي الخطأ الدية، وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا
يَقْتُل في العادة، كالعصا والسوط والإِبرة مع كونه قاصداً للقتل ديَة
مغلظة، وهي مائة من الإِبل أربعون منها في بطونها أولاد.
__________
(1) مخاض: اسم للنوق الحوامل، واحدتها خَلِفة، وبنت المخاض وابن المخاض: ما
دخَل في السنة الثانية؛ لأنّ أمّه قد لحقت بالمخاض: أي الحوامل وإن لم تكن
حاملاً. "النهاية".
(2) لبون: بنت الّلبون وابن اللبون: هما من الإِبل ما أتي عليه سنتان، ودخل
في الثالثة، وصارت أمّه لَبوناً؛ أي ذاتَ لبن، لأنّها تكون قد حملت حمْلاً
آخر ووضعته. "النهاية".
(3) حقّة: هو منْ الإِبل ما دخل في السّنة الرابعة إِلى آخرها، وسميّ بذلك؛
لأنه استحقّ الركَوب والتحميل. "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3805).
(5) جَذَعَة: أصل الجذع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شاباً فتياً.
فهو من الإِبل ما دخل في السنة الخامسة. "النهاية".
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3808).
(6/223)
وممن ذهب إِلى هذا زيد بن علي والشافعية
والحنفية وأحمد وإِسحاق. وقال مالك والليث: إِن القتل ضربان: عمد وخطأ،
فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب، أو غير مكلف، أو غير قاصد للمقتول ونحوه،
أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة. والعمد ما عداه. والأول لا قَوَد فيه
(1).
والقول إِنّه على ثلاثة أضرب؛ ثبت من خلال نصوصٍ صريحة الدلالة.
1 - فقوله -تعالى-: {ومن قتل مؤمناً خطأً} في قتل الخطأ.
2 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن قتَل عمداً فهو
قَوَد (2) (3) في قتل العمد.
3 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عَقلُ شِبهِ العمد
مُغَلّظ، مثل عقْلِ العمدَ" (4) في قتل شبه العمد (5).
تغليظ الدِّية في الحَرَم والشهر الحرام:
عن أبي نُجيح: "أن امرأةً وُطئت في الطواف، فقضى عثمان -رضي الله عنه- فيها
بستة آلاف، وألفين تغليظاً للحرم" (6).
وفي لفظ: "أن عثمان -رضي الله عنه- قضى في امرأة قُتلت في الحرام بدية
__________
(1) عن "الروضة الندية" (2/ 659).
(2) القود: القِصاص وقتل القاتل بدل القتيل وتقدّم.
(3) تقدّم تخريجه في "أنواع القتل".
(4) تقدّم تخريجه في "أنواع القتل".
(5) وهو كذلك في إِثبات نوع قتل العمد.
(6) صححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2258).
(6/224)
وثلث دِيَة" (1).
وفي لفظ: "أن رجلاً وطئ امرأةً بمكة في ذي القَعدة فقَتَلها، فقضى فيها
عثمان -رضي الله عنه- بدية وثلث" (2).
على مَن تَجب الدِّية؟
الدية الواجبة على القاتل نوعان:
1 - نوعٌ يجِب على الجاني في ماله، وهو القتل العمد إِذا سقط القِصاص، ولا
تحمل العاقلة العمد، ولا الإقرار بالقتل أو الصُلح في عمد.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا تحمل العاقلة عمداً، ولا ما جنى
المملوك (3)، ولا صُلحاً، ولا اعترافاً" (4).
وعن عامر الشعبي -رحمه الله- قال: "العمد والعبد والصُلح والاعتراف لا
تعقله العاقلة" (5).
وجاء في كتاب " الإِجماع" (ص 120) لابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ العاقلة
لا تحمل دية العمد، وأنها تحمل دية الخطأ".
*2 - ونوعٌ يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إِذا كانت له عاقلة
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وانظر المصدر السابق.
(2) أخرجه البيهقي وقال شيخنا -رحمه الله- وإسناده صحيح وانظر المصدر
السابق.
(3) أي: ما جنى من قتل.
(4) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2304).
(5) أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (7/ 337).
(6/225)
بطريق التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل
الخطأ (1)، والقاتل كأحد أفراد العاقلة؛ لأنه هو القاتل، فلا معنى
لإِخراجه.
تعريف العاقلة:
العاقلة مأخوذة من العقل؛ لأنها تَعقل الدماء؛ أي؛ تُمسكها من أن تسفك،
يقال: عقَل البعير عقلاً. أي: شدَّه بالعقال، ومنه العقل؛ لأنه يمنع من
التورط في القبائح.
والعاقلة: هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال: عقلْت القتيل،
أي: أعطيت دِيته، وعقلْت عن القاتل، أدّيت ما لزمه من الدِّية.
والعاقلة هم عَصَبةَ الرجل، أي: قرابته الذكور، البالغون من قِبل الأب
الموسرون، العقلاء ويدخل فيهم الأعمى والزَّمِن (2)، والهرم إِن كانوا
أغنياء، ولا يدخل في العاقلة أنثى، ولا فقير ولا صغير ولا مجنون، ولا مخالف
لدين الجاني؛ لأنّ مبنى هذا الأمر على النصرة، وهؤلاء ليسوا من أهلها* (3).
قال ابن الأثير -رحمه الله- في "النهاية":- "والعَصَبة: الأقارب من جهة
الأب؛ لأنّهم يُعصّبونه ويعتصب بهم يحيطون ويشتدّ بهم".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (34/ 158):
"وأمّا العاقلة التي تحمِل: فَهُم عَصَبته: كالعمّ وبنيه، والإِخوة وبنيهم
باتفاق العلماء وأمّا أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضاً عند الجمهور؛
كأبي حنيفة،
__________
(1) وكذا عمد الصغير والمجنون؛ كما سيأتي؛ إِن شاء الله.
(2) من الزمانة: أي مرض يدوم.
(3) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 336).
(6/226)
ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وفي
الرواية الأخرى، وهو قول الشافعي: أبوه وابنه ليسا من العاقلة".
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (1983): "العصبة: هم بنو
الرجل وقرابته لأبيه، وفي "الفرائض": مَن ليست له فريضة مُسمّاة في الميراث
وإِنّما يأخُذُ ما أبقى ذوو الفرائض".
وقال ابن المنذر -رحمه الله-: "وأجمعوا أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ؛ لا
يعقلان مع العاقلة شيئاً" (1).
ودليل وجوب الدِّيَة على العاقلة؛ ما ورَدَ في حديث أبي هريرة -رضي الله
عنه-: "أن امرأتين من هذيل رمت إِحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها بغُرّةٍ: عبدٍ أو أَمة"
(2).
وفي الحديث: "العقل (3) على العَصَبة، وفي السّقط غُرَّة عبدٍ أو أَمة"
(4).
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على أن دِيَة الخطأ تحمِله
العاقلة" (5).
*ويرى مالك وأحمد -رحمهما الله تعالى- أنه لا يجب على واحدٍ من
__________
(1) انظر "الإِجماع" (120).
(2) أخرجه البخاري (6904)، ومسلم (1681).
(3) أي: الدِّية؛ كما تقدّم.
(4) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وإسناده صحيح كما في "الصحيحة"
(1983).
(5) انظر "الإِجماع" (120).
(6/227)
العَصبَة قدْرٌ مُعيَّنٌ مِن الدِّية،
ويجتهد الحاكم في تحميل كلّ واحدٍ منهم ما يسهُل عليهِ، ويبدأ بالأقرب
فالأقرب.
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وتُؤخذ الدّيَة من الجاني خطأً عند تعذُّر
العاقلة؛ في أصحّ قولي العلماء.
وإذا قتل المسلمون رجلاً في المعركة ظناً أنه كافر؛ ثمّ تبيّن أنه مُسلم؛
فديَته في بيت المال؛ وكذلك مَن مات من الزِّحام (1)، تجب ديته في بيت
المال* (2).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما كان يوم أُحد هُزِم المشركون، فصاح
إِبليسُ: أي عباد الله أخراكم. فرجَعَت أولاهم فاجتَلَدَت هي وأخراهم فنظر
حذيفة فإِذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي أبي.
قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، قال حذيفة: غفرَ الله لكم. قال عروة:
فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحقَ بالله" (3).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "قال ابن بطّال: اختلف عليٌّ وعمرُ هل
تجب دِيَته في بيت المال أو لا؟ وبه قال إِسحاق -أي: بالوجوب- وتوجيهه أنه
مسلم مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين" (4).
__________
(1) انظر حديث عائشة -رضي الله عنها- الآتي في "صحيح البخاري" (كتاب
الدِّيات باب إِذا مات في الزِّحام أو قُتِل).
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 339) -بتصرف-.
(3) أخرجه البخاري (6890).
(4) انظر للمزيد -إن شئت- ما قاله الحافظ -رحمه الله- (12/ 218).
(6/228)
عن بُشير بن عُبيد عن سهل بن أبي حَثْمة:
"أخبرهُ أن نَفَراً مِن قومه انطلقوا إِلى خَيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم
قتيلاً وقالوا: للذي وُجد فيهم: قَتَلْتُم صاحِبنا، قالوا ما قَتلنا ولا
عَلِمنا قاتلاً.
فانطلقوا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا
رسول الله، انطلقنا إِلى خَيبر، فوجدنا أحدنا قتيلاً فقال الكُبْرَ
الكُبْرَ، فقال لهم: تأتونَ بالبَيِنّة على من قَتَله؟ قالوا: ما لنا
بيّنة، قالوا: فيحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيْمانِ اليهود، فكَرِه رسول الله
أن يُبطل دمَهُ فوداه (1) مائة من إِبل الصدقة" (2).
وجاء في "سنن ابن ماجه": "الدية على العاقلة، فإِن لم يكن عاقلة؛ ففي بيت
المال" (3).
ثم ذكر حديث المقدام الشامي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"أنا وارثُ مَن لا وارث له، أعقِل عنه وأرثُه، والخال وارثُ من لا وارث له؛
يَعقِلُ عنه ويَرثُه" (4).
ونخلُص بهذا إِلى أنّ الدِّية إِن تعذّر الحصول عليها؛ فإِنها تُؤْخَذ من
بيت مال المسلمين.
__________
(1) أي: دفع دِيته.
(2) أخرجه البخاري (6898) ومسلم (1669).
(3) انظر الكتاب المذكور (كتاب الديات باب - 7).
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2130) وغيره، وانظر "الإِرواء"
(6/ 138).
(6/229)
فائدة:
قال ابن المنذر -رحمه الله- في كتاب " الإِجماع" (ص 120):- "وأجمعوا على
أنّ الفقير لا يلزمه من ذلك شيء" (1).
مقدار دية الأعضاء والشّجاج:
لقد ورَدَ في دية الأعضاء والشّجاج عددٌ من النصوص؛ ومن ذلك:
1 - عن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "في الأنف الدية إِذا استُوعِب جَذعُه مائة من الإِبل، وفي اليد
خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي الآمة ثلث النفْس، وفي الجائفة ثلث النفس، وفي
المنَقّلة خمس عشرة، وفي الموضِحِة خمسٌ، وفي السِّنِّ خمسٌ، وفي كل إِصبع
مما هنالك عشر" (2).
2 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقوِّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة
دينار، أو عدلها من الورق يُقوِّمها على أثمان الإِبل، فإِذا غلت رفع في
قيمتها، وإذا هاجت رخَصاً نقص من قيمتها.
وبَلَغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين
أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم.
وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على أهل البقر
مائتي بقرة، ومن كان دية عقله الشاء فألفي شاة، قال: وقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن العقل ميراث بين ورثة القتيل
على قرابتهم، فما فضل فللعصبة.
قال: وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأنف إِذا
جُدعَ الدية كاملة وإن جدعت
__________
(1) أي لا يعقل مع العاقلة شيئاً.
(2) أخرجه البزار وغيره وانظر "الصحيحة" (1997).
(6/230)
ثَنْدُوته فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو
عدلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة.
وفي اليد إِذا قطعت نصف العقل، وفي الرِّجل نصف العقل، وفي المأمومة ثلث
العقل ثلاث وثلاثون من الإبل وثُلثُ، أو قيمتها من الذهب، أو الورق، أو
البقر أو الشاء، والجائفةُ مثل ذلك. وفي الأصابع في كل أصبع عَشْرٌ من
الإبل، وفي الأسنان في كل سِنٍّ خمس من الإِبل.
وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن عقل المرأة بين
عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إِلا ما فضل عن ورثتها. وإِن قتلت
فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلهم.
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس للقاتل شيء، وإن
لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إِليه، ولا يرث القاتلُ شيئاً" (1).
وفي لفظٍ من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "كانت
قيمةُ الدِّية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثمانمائةَ دينار، أو ثمانيةَ آلاف درهم، ودِية أهل الكتاب يومئذ النصف من
دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك؛ حتى استخلف عمر -رحمه الله- فقام خطيباً
فقال: ألا إِنّ الإِبل قد غَلَت.
قال: فَفَرَضها عمر على أهل الذهب: ألفَ دينار، وعلى أهل الورق: اثني عشرَ
ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل
الحلل مائتي حلة.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818).
(6/231)
قال: وترك دِيَة أهل الذمة لم يرفعها فيما
رفَع من الدية" (1).
3 - عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الأصابع سواء: عشْرٌ عشْرٌ من الإِبل" (2).
4 - وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دِيَة أصابع اليدَين والرِّجلين سَواء، عشْرُ من
الإِبل لكل إِصبع" (3).
5 - وعنه أيضاً -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "هذه وهذه سواء" يعني الخِنصر والإِبهام (4).
6 - وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "الأصابع سَواء، والأسنان سَواء؛ الثّنِيَّة (5) والضِّرسُ سواء،
وهذه وهذه سواء" (6).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3806) ومن طريقه البيهقي، وانظر
"الإِرواء" (2247) وتقدّم.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3810) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2147) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4503)، وانظر "الإِرواء"
(2272).
(3) أخرجه أحمد والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1123)، وغيرهما، وانظر
"الإِرواء" (2271).
(4) أخرجه البخاري (6895).
(5) الثنيّة: إِحدى الأسنان الأربع التي في مقدّم الفم: ثنتان من فوق
وثنتان من تحت.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3813) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2148) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2277).
(6/232)
وورد في حديث عمرو بن حزم عدد من ديات
الأعضاء والشجاج الأخرى، والراجح فيه الإِرسال وإِسناد المرسل صحيح (1)
ولبعض أفراده شواهدُ ثابتة مرفوعة، ولذلك ضربت صفحاً عن التفصيل فيه وما
يترتّب على ذلك من الأحكام (2).
ونخلُص من النصوص المتقدّمة -والآتية- بما يأتي:
1 - دية الأنف إِذا استوعب جدْعه وقُطع جميعه؛ الدية كاملة، وهي مائة
__________
(1) انظر "الإرواء" (2212)، وورد في عدة مواطن فيه. وانظر كذلك ضعيف
النسائي (339) و"هداية الرواة" (3421).
(2) وهذا لفظه: "عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه -رضي الله
عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إِلى أهل
اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت
على أهل اليمن، هذه نسختها:
من محمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى شرحبيل بن عبد
كُلال، ونعيم بن عبد كُلال، والحارث ابن عبد كُلال، قَيْلِ ذي رُعَيْنٍ،
ومُعَافِرَ وهَمدان.
أمّا بعد، وكان في كتابه:
أن من اعتَبطَ (أ) مؤمناً قتلاً عن بينةٍ فإِنّه قَودٌ، إِلا أن يرضى
أولياء المقتول، وأنّ في النفس الدّيَة مائة من الإبل، وفي الأنف إِذا
أُوعِب جَدعُهُ الدِّية، وفي اللسان الدّيَة، وفي الشَّفتين الدّيَة، وفي
البَيضَتَينِ الدّيَة، وفي الذَّكر الدّيَة، وفي الصُلبِ الدّيَة، وفي
العينين الدّيَة، وفي الرجل الواحدة نِصف الدّيَة، وفي المأمومةِ ثلث
الدية، وفي الجَائفة ثلث الدية، وفي المُنقِّلَة خمس عشرةَ من الإِبل، وفي
كل أُصبع من أصابع اليد والرجل عشرٌ من الإِبل، وفي السنّ خمسٌ مِن الإبل،
وفي الموضحَة خمس مِن الإبل، وأنّ الرّجُل يُقْتَل بالمرأة، وعلى أهل الذهب
ألف دينار".
__________
(أ) أي: قتله بلا جناية. "النهاية".
(6/233)
من الإِبل.
وإِذا جدُعت أرنبة أنفه؛ فله نصف الدية؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جدّه: "أن رسول الله قضى في الأنف إِذا جُدع كلّه بالعقل كاملاً؛ وإِذا
جدُعت أرنبته؛ فنصف العقل" (1).
2 - في اليد نصف الدية؛ خمسون من الإِبل.
3 - في اليد الشلاّء ثلث ديتها، ودية اليد كاملة نصف الديَة، فتكون ديتها
-أي اليد الشلاّء- سدس الدية وهي ستة عشر من الإِبل وثُلُثان.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: في العين القائمة، والسنّ
السوداء واليد الشلاّء ثلث ديتها" (2).
4 - في الرِّجل نصف الدية؛ خمسون من الإِبل.
5 - في أصابع اليدين والرِّجلين سَواء، عشْرٌ من الإبل.
6 - دية الظفر إِذا لم يُعدْ أو عاد أسود، أو اعورّ خُمس دية الإِصبع (3).
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "في الظّفر إِذا اعْوَرّ خُمس دية
__________
(1) أخرجه أحمد في "المسند" وغيره وقال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات
الرضية" (3/ 380): "سنده حسن".
(2) أخرجه البيهقي بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (2294).
وهذا ورد مرفوعاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أخرجه النسائي وغيره، وهو حسن احتمالاً، انظر
"الإرواء" (2293).
(3) يذكّر ويؤنّث، وفيه خمس لغات؛ انظرها في المعاجم -إِنْ شئت-.
(6/234)
الإِصبع" (1).
وتقدم أن دية الإِصبع عَشْرٌ من الإِبل -وهي عُشر الدية- فتكون دية الظفر
خُمس العشر وهي: اثنان من الإِبل.
7 - في العين نصف الدية؛ خمسون من الإِبل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "وفي العين خمسون من الإِبل" (2).
وفي العين إِذا طُمست: ثلث ديتها، ستة عشر من الإبل وثُلُثان (3). وفي عين
الأعور؛ دِيةٌ كاملة.
ثبت ذلك عن عمر وعلي وابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-.
فعن أبي مجلز: "أن رجلاً سأل ابن عمر: وفي رواية عنه: سألت عبد الله ابن
عمر عن الأعور تفقأ عينه، فقال عبد الله بن صفوان: قضى فيها عمر الدية"
(4).
وعن قتادة عن علي -رضي الله عنه-: "في الرجل الأعور إِذا أصيبت عينه
الصحيحة قال: إِن شاء أنَ يفقأ عيناً مكان عينٍ ويأخذ النصف، وإِن شاء أخذ
الدية كاملة" (5).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وسنده صحيح على شرط مسلم كما في "الإرواء" (2274).
(2) حسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2269).
(3) تقدّم تخريجها في اليد الشلاّء، وانظر "هداية الرواة" (3432).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (7/ 315).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح وانظر "الإِرواء" (7/ 316).
(6/235)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إِذا
فُقئت عين الأعور ففيها الدية كاملة" (1).
8 - وفي الأذن خمسون.
فعن ابن شهاب قال: قرأت كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الذي كتَبه لعمرو بن حزم -رضي الله عنه- ... فكتب: "وفي الأذن
خمسون من الإِبل" (2).
فائدة:
عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "أنّ غلاماً لأُناس فقراء؛ قطَع أُذن
غلامٍ لأُناسٍ أغنياء، فأتى أهلُهُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقالوا: إِنّا أُناسٌ فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً" (3).
9 - في كل سنن خمسٌ من الإِبل.
رجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 171): "وسُئِل -قدس الله روحُه- عن رَجُلٍ
ضَرَب رجُلاً فتحوّل حنكُه، ووَقَعت أنيابه، وخيّطوا حنَكَه بالإِبر؛ فما
يجب؟
فأجاب: يجب في الأسنان؛ في كل سنٍّ نصف عشر الدية (4)؛ خمسون
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) أخرجه البيهقي بسند صحيح ويقويه قول عمر وعلي بما فيه، كما في البيهقي
بسندين صحيحين؛ قاله شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 382).
(3) أخرجه أبو داود والنسائي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة"
(3435): إِسنادهُ صحيح على شرط مسلم.
(4) لأن الخَمس من الإِبل = 5/ 100 = 1/ 20 وهو ما ذكره الفقهاء أنه نصف
العُشر.
(6/236)
ديناراً أو خمس من الإِبل أو ستمائة درهم.
ويجب في تحويل حنك الأرش؛ يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد
معيب، ثم ينظر تفاوُت ما بين القيمتين، فيجب بنسبته من الدية.
وإِذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة؛ فللمجني عليه القِصاص، وهو
أن يقلع له مِثْل تلك الأسنانِ من الضارب".
10 - الثَّندُوَة (1) نصف الدية، خمسون من الإِبل (2).
11، 12 - الضلع والتَرقوة.
عن أسلم مولى عمر -رضي الله عنه- "أن عمر قضى في الترقوة وفي الضلع بجمل"
(3).
13 - إِذا ذهب سمعه ولسانه وعقْله وذَكَره، فيه أربع ديات، عن أبي المهلّب
قال: "رُمي رجل بحجر في رأسه، فذهب سمْعه ولسانه وعقْله وذَكَره، فلم يقرب
النساء، فقضى فيه عمر بأربع ديات" (4).
وجاء في كتاب "الإِجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة" (ص 174):
__________
(1) الثَّندُوَة للرجل: كالثدي للمرأة، وانظر "النهاية".
(2) أو عدلها من الذهب أو الورِق، أو مائة بقرة، أو ألف شاة كما ورَد في
الحديث الذي أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3818). وهذا عامّ في
الدية كاملة؛ كانت أو مجزّأة، وسيأتي عما قريب -إِن شاء الله تعالى-
التنبيه على ذلك.
(3) أخرجه مالك، وعنه البيهقي بإسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (2291).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة، وعنه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2279).
(6/237)
وأجمعوا على أن: في اللسان الدية.
وأجمعوا على أن: في الذكر الدية.
وأجمعوا على أن: في ذهاب العقل الدية.
وأجمعوا على أن: في ذهاب السمع الدية.
ومن تأمّل ما ثَبت من نصوصٍ وآثارٍ في الديَة؛ فإِنه يرى أنّ في العضوين
الدِّيَة كاملة، وفي العضو الواحد نصف الدية.
ففي الأُذُن نصف الدية.
وفي الرِّجل نصف الدية.
وفي العين نصف الدية.
وفي اليد نصف الدية.
وفي الثندوة نصف الدية.
وفي الأنف إِذا استوعب الدية كاملة.
وفي أصابع اليدين الدية كاملة.
وفي أصابع الرجلين الدية كاملة.
وفي عين الأعور الدية كاملة.
وعلى هذا يحمل قضاء عمر -رضي الله عنه- فيمن فقد سمْعه ولسانه وعقْله
وذَكَره، أنّ لكل واحدٍ منها الدية كاملة.
وبهذا تجدني أميل إِلى تصحيح معنى حديث عمرو بن حزم -رضي الله
(6/238)
عنه- (1) واعتماد ما تبقّى من الأعضاء التي
لم أرَ لها -فيما أعلم- شواهد من السّنة النبوية.
وقد تقدم في قضاء عمر -رضي الله عنه- وأجمع عليه الأئمّة الأربعة: أبو
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رحم الله الجميع- (2).
ففي اللسان الدّية.
وفي الشفتين الدّية.
وفي البيضتين الدّية.
وفي الذَّكَر الدّية.
وفي الصُّلب الدية.
فكل ما تقدّم في حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- إِما عضوٌ واحد في الجسد
أو عضوان استُئصلا؛ كالشفتين والبيضتين. والله أعلم.
تنبيه: كلّ ما يذكر من الديات في الأعضاء والشجاج من الإِبل؛ يمكن أن يخرجَ
عدله من الذهب أو الورق أو البقر أو الشياه.
وقد تقدّم أن دية الرجل المسلم مائة مِن الإِبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا
شاة، أو
__________
(1) ولا سيّما أن هناك من صحّح هذا الحديث؛ مثل ابن حبّان والحاكم
والبيهقي، ونُقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً، وصحّحه أيضاً من
حيث الشهرة؛ لا مِن حيث الإسناد جماعة من الأئمة؛ منهم الشافعي ... وقال
ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السِّير معروف ما فيه عند أهل العلم؛
يُستغنى بشهرته عن الإِسناد؛ لأنه أشبه بالتواتُر في مجيئه؛ لتلقّي الناس
له بالقَبول والمعرفة. وانظر "النيل" (7/ 163).
(2) انظر "الإِجماع عند أئمة أهل السُّنة الأربعة" للوزير يحيى بن هبيرة (ص
174).
(6/239)
ألف دينار ذهب، أو اثنا عشرَ ألف درهم من
فضة أو مائتا حُلّة.
وبعض الديَة تقسّم بحسبها:
فنصف الدية مثلاً خمسون من الإِبل؛ أو مائة بقرة، أو ألف شاة، أو ألف دينار
ذهب، أو ستة آلاف درهم فضة، مائة حُلّة.
وثلث الدّية هكذا ...
وتقدّم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإِنْ خدعت ثَنْدُوته
فنصف العقل؛ خمسون من الإِبل، أو عدْلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة
أو ألف شاة".
الجراح وأقسامها ودِياتها
جاء في "المحلى" (12/ 211) -في تقسيم الجراح-:
أولها الحارضة (1) ثمّ الدامية، ثمّ الدامعة، ثمّ الباضعة، ثمّ المتلاحمة،
ثمّ السمحاق، ثمّ الموضحة، ثمّ الهاشمة، ثمّ المنقلة، ثمّ المأمومة، -وهي
الآمة أيضاً-.
وفي الجوف وحده: الجائفة، وهي التي نفذت إِلى الجوف.
والحارِضة (1) -التي تشق الجلد شقاً خفيفاً- يقال حرض القصار الثوب إِذا
شقه شقاً لطيفاً.
والدامية: هي التي ظهر فيها شيء من دم ولم يَسِل.
والدامعة: هي التي سال منها شيءٌ من دمٍ كالدمع.
والباضعة: هي التي شقّت الجلد، ووصلت إِلى اللحم.
__________
(1) وهكذا جاءت -بالضّاد- ومن خلال مراجعاتي في كتب الغريب والمعاجم؛
رأيتها (الحارصة) بمهملتين؛ -بالحاء والصاد-.
(6/240)
والمتلاحمة: هي التي شقّت الجلد، وشرعت في
اللحم.
والسمحاق: -هي الملطا- وهي التي قطَعت الجلد واللحم كله، ووصلت إِلى القشرة
الرقيقة التي على العظم.
والموضحة: التي شقّت الجلد واللحم، وتلك القشرة، وأوضحت عن العظم.
والهاشمة: هي التي قطعت الجلد واللحم والقشرة، وأثّرت في العظم فهشمت فيه.
المنقلة: -وهي المنقولة أيضاً- التي فعلت ذلك كلّه، وكسرت العظم؛ فصار يخرج
منها العظام.
والمأمومة: التي نفذت ذلك كله، وشقّت العظم كلّه، فبلغت أمّ الدماغ.
هذا الكلام كله هكذا، حدَّثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا محمد بن
عيسى بن رفاعة قال: نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن الأصمعي وغيره
فذكر كما ذكَرْنا".
دية الشجاج:
ويتلخص مما تقدّم من النّصوص -وما يأتي- ما يلي:
1 - في الآمة أو المأمومة (1) ثلث الدية (2) ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلث.
__________
(1) الآمة أو المأمومة: هما الشجّة التي بلغَت أمْ الرأس، وهي الجلدة التي
تجمع الدّماغ. وانظر "النهاية".
(2) انظر "الإِرواء" (2289).
(6/241)
2 - في الجائفة (1): ثلث الدية (2)، وهي
ثلاث وثلاثون من الإِبل وثُلث، فإِذا خَرَجت من الجانب الآخر، ففيها ثلثا
الدية.
عن سعيد بن المسيب: "أن قوماً يرمون، فرمى رجل منهم بسهم خطأ، فأصاب بطن
رجل، فأنفذه إِلى ظهره، فدووي فبرأ، فرفع إِلى أبي بكر، فقضى فيه بجائفتين"
(3).
3 - في المنقّلة (4) خمس عشرة من الإِبل (5).
4 - في المواضح (6) خمس خمس.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "لما افتتحَ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال في خطبته: وفي المواضح: خمس خمسٌ"
(7).
__________
(1) الجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوف "طلبة الطَلَبة" (328).
(2) انظر "الإِرواء" (2296).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وانظره والشواهد الأخرى في "الإرواء" تحت الأثر
(2298).
(4) المنقلة: هي التي تخرج منها صِغار العظام، وتنتقل عن أماكنها، وقيل:
التي تنقُل العظم: أي تكسره "النهاية".
(5) انظر "الإرواء" (2286، 2287).
(6) جمع موضحة: هي التي تُبدي وَضَحَ العظم: أي بياضه، وانظر "النهاية".
(7) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4512) وأبو داود "صحيح سنن أُبي
داود" (3820) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1122) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2150).
(6/242)
وجاء في "المغني" (9/ 643): "وإنْ أوضَحه
في رأسه موضحتين بينهما حاجز؛ فعليه أرش موضحتين؛ لأنهما موضحتان، فإِنْ
أزال الحاجز الذي بينهما؛ وجب أرش موضحة واحدة؛ لأنّه صار الجميع بفعله
موضحة ... ".
وهذا الذي ثبت فيه الحديث والأثر من الشجاج -فيما أعلم- وقد ورد في حديث
عمرو بن حزم -رضي الله عنه- عددٌ من الشّجاج، والأعضاء ولا يثبت الحديث
مرفوعاً -كما تقدّم-.
وتقدم ذكر دِية الآمة والجائفة والمنقّلة والموضحة؛ مع الأدلة، وبقي من
ذلك: الحارصة، والدامية والدّامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق والهاشمة.
فبحثتُ عن نصوصٍ وآثار ثابتة، فلم أعثر على ذلك، وتأمّلت تقسيم ابن حزم
-رحمه الله- الذي أفاده من الأصمعي وغيره، وتدرّجَه (التصاعدي) في الجراح؛
فرأيت أربعة أنواع من الجراح ذُكرت قبل الموضّحة، ولمّا كان في الموضّحة
خمس من الإبل، ترجّح أن تكون دية ما دون هذه الجراح دون الخمس.
ووجدت ابن قدامة -رحمه الله- يقول في "المغني" (9/ 657): عن الموضّحة: وهي
أول الشجاج المؤقته، وما قبلها من الشجاج الخمس؛ فلا توقيت فيها في الصحيح
من مذهب أحمد، وهو قول أكثر الفقهاء.
يروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي،
وروي عن أحمد رواية أُخرى أن في الدامية بعيراً، وفي الباضعة بعيرين وفي
المتلاحمة ثلاثة، وفي السمحاق أربعة؛ لأن هذا يروى عن زيد بن
(6/243)
ثابت ...
وبقيت الهاشمة وهي تقع بين الموضحة والمأمومة، وتقدّم أنّ في الموضحة
خمساً، وفي المنقلة خمس عشرة، وهذا يلتقي ما ذكَره الفقهاء أن فيها عشراً
من الإِبل.
وقيل: إِنه روي موقوفاً على زيد ين ثابت؛ كما في "سنن الدارقطني" "والسنن
الكبرى" للبيهقي و"مصنف عبد الرزاق" وانظر "الروضة الندية" (2/ 666).
وعلى أيّ حالٍ فإِنّ هذا العدد -وهو العشر من الإِبل- راجحٌ في الهاشمة؛
لأنه -كما ذكرت- يقع بين الموضحة والمأمومة، أي بين إِيجاب الخمس والخمس
عشرة.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد فيها عشْر من الإِبل (1).
وجاء في كتاب "الإجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة": لابن هبيرة -رحمه
الله- (ص 172): "واتفقوا على أنّ: الجروح قصاص في كل ما يتأتى منه القِصاص،
ومن الجراح التي لا يتأتّى فيه القِصاص: الحارصة، هي: التي تشقّ الجلد
قليلاً، وقيل: بل تكشطه ومنه قولهم حرص القصارُ الثوبَ، أي: شقّه، وتسمّى:
(القاشرة) وتسمى: (المليطاء).
ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد.
ثم البازلة: وهي تنزل الدم وتُسمّى الدامية والدامعة.
__________
(1) انظر "الإِجماع عند أئمّة أهل السُّنة الأربعة" (ص 173).
(6/244)
والمتلاحمة وهي: التي تغوص في اللحم.
والسمحاق وهي: التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة.
فهذه الجراح الخمسة ليس فيها تقدير شرعي بإِجماع الأئمّة المذكورة -رضي
الله عنهم- إِلا ما روي عن أحمد أنه ذهب إِلى حُكم زيد في ذلك، وهو أنّ
زيداً -رضي الله عنه- حَكَم في الدامية ببعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي
المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي السمحاق بأربعة أبعرة.
وقال أحمد: فأنا ذاهب إليه، وهذه رواية أبي طالب المسكاني عن أحمد، والظاهر
مِن مذهبه؛ أنه لا مقدر فيها كالجماعة وهي الرواية المنصورة عند أصحابه.
وأجمعوا على أنّ في كل واحدة منها حكومةً بعد الاندمال، والحكومة: أن
يُقوّم المجني عليه قبل الجناية -كأنه كان عبداً- أو يقال: كم كانت قيمته
قبل الجناية، وكم قيمته بعدها، فيكون له بقدر التفاوت من ديته.
والخلاصة أن في الآتي من الشّجاج؛ ما يلي من الدِّيات:
الحارصة فيها دون البعير وقدّرها بعضهم بخمس الدامية (1).
والدامية والدامعة (2) فيها بعير واحد.
والباضعة فيها بعيران.
__________
(1) جاء في "السيل الجرار" (4/ 449): "وقُدّر في حارصة رأس الرِّجل خمسة
مثاقيل [أي خمسة دنانير من ذهب] وفي الدامية اثنا عشَر ونصف" ووافق الإمام
الشوكاني صاحب "الأزهار" في هذا القول.
(2) قال في "المغني" (9/ 657) بعد أن ذكَر الحارصة: قال "ثم البازلة وهي
التي يبزُل منها الدم؛ أي يسيل، وتُسمى الدامية أيضاً والدامعة".
(6/245)
والمتلاحمة فيها 3 من الإِبل.
والسّمحاق فيها 4 من الإِبل.
والموضحة فيها 5 من الإِبل.
والهاشمة فيها 10 من الإِبل.
والمنقّلة فيها 15 من الإِبل.
والمأمومة فيها 1/ 33.3 من الإِبل. والله -تعالى- أعلم.
ويحسب عدل ذلك بالذهب؛ بالنظر إِلى أجزاء الدية؛ كالربع والنصف والعُشر ...
لخ
والدية كاملة من الذهب؛ تعدل ألف دينار؛ كما تقدّم أكثر من مرّة.
ما جاء في أرش الجروح غير المسمّاة والحكومة:
جاء في "الروضة الندية" (2/ 666): "وما عدا هذه الجروح المسمّاة، فيكون
أرشهُ بمقدار نِسبته إِلى أحدهما تقريباً؛ لأنّ الجناية قد لَزِم أرْشها
بلا شك، إِذ لا يُهدَر دم المجني عليه بدون سبب، ومع عدم ورود الشرع بتقدير
الأرش؛ لم يبق إِلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع.
وبيان ذلك: أنّ المُوضحة إِذا كان أرْشها نصف عشر الدية -كما ثبتَ عن
الشارع- نظَرْنا إِلى ما هو دون الموضحة من الجنايات، فإِنْ أخذت الجناية
نصف اللحم، وبقي نصفه إِلى العظم؛ كان أَرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة،
وإِنْ أخذت ثلثه؛ كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا.
وكذلك إِذا كان المأخوذ بعض الأصبع؛ كان أرشه بنسبة ما أُخذ من
(6/246)
الأصبع؛ إِلى جميعها، فأرشها نصف الأصبع؛
عشر الدية، ثم كذلك.
وهكذا الأسنان؛ إِذا ذهب نصف السن؛ كان أرشه نصف أرش السن.
ويُسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف؛ فإذا كان الذاهب
نصفَه؛ ففيه نصف الدية، ... ، ونحو ذلك، فهذا أقرب المسالك إِلى الحق،
ومطابقة العدل، وموافقة الشرع.
أقول ... [الكلام لصاحب الروضة]: اعلمْ أنّ كل جناية فيها أرش مُقدَّر من
الشارع -كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل (1) وفي غيره؛ مما ورد
في -معناه- فالواجب الاقتصار في المقدار، على الوارد في النصّ.
وكل جناية ليس فيها أرش من الشارع، بل ورَد تقرير أرشها عن صحابي أو تابعي،
أو من بعدهما- فليس في ذلك حُجّة على أحد، بل المرجع في ذلك نظر المجتهد،
وعليه أن ينظر في مِقدار نِسبتها؛ من نسبة الجناية التي ورد في أرش مُقدَّر
من الشارع، فإِذا غلب في ظنه مقدار النسبة؛ جعل لها من الأرش مقدارَ
نِسْبتها.
مثلاً الموضِحة ورد في الشرع تقدير أرشها، فإِذا كانت الجناية دون الموضحة
كالسِّمْحَاق والمتلاحمة والباضعة والدامية؛ فعليه أن ينظر -مثلاً- مقدار
ما بقي من اللحم إِلى العظم، فإِن وجده مقدار الخمس، والجناية قد قطعت من
اللحم أربعة أخماس؛ جعل في الجناية أربعاً من الإِبل أو أربعين (2)
مثقالاً؛ لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإِبل، وإِنْ وجد الباقي من اللحم
ثلثاً؛ جعل
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) وذلك لأنها على أهل الذهب ألف دينار؛ كما تقدم في أثر ابن عمر -رضي
الله عنهما-.
(6/247)
أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش
الموضحة، ثم كذلك إِذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر وهكذا في سائر
الجنايات التي لم يَرِدْ تقدير أرْشها، فإِنه ينبغي النسبة بينها وبين ما
وَرَد تقدير أرشه من جنسها ... ".
وجاء في "السيل الجرّار" (4/ 450): "أقول: قد تقرر عصمة الدّماء، وأنه لا
يَحلّ إِراقة شيء منها بغير حقِّه، ولا الجناية على مَعْصوم الدم؛ من غير
فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة وَرَد في الشرع تقديرها أو لم يَرِد.
فمن جنى على غيره جنايةً ظاهرة الأثر، ولم يَرِد في الشرع لها تقدير، كما
في دون الموضحة وسائر ما أشار إِليه المصنّف؛ فلا يكون عدم ورود الشرع
بتقديرها مقتَضياً لإِهدارها، وعدم لزوم أرْشها بلا خلاف، وإِلا لزم إِهدار
ما هو معصوم بعصمة الشرع، واللازم باطل بالإِجماع فالملزوم مثله.
فالجناية التي لم يَرِد الشرع بتقديرها؛ لابدّ من الرجوع في التقدير إِلى
شيء يكون على طريقة العدل لا حَيْف فيها على الجاني، ولا على المجني عليه،
فيُنظر مثلاً في قدر اللحم الذي ذَهَب بالجناية، وقَدْر ما بقي إِلى ما ورد
فيه التّقدير من الشرع، فيلزم فيه بنسبته إِلى ذلك الذي ورد فيه التقدير.
فإِذا كان المأخوذ نِصفَ اللحم والباقي فوق العظم نصفه كان أرشها نصف أرش
الموضِحة.
وإذا كان المأخوذ ثلثاً كان أرشها ثلث أرش الموضِحة، ثمّ كذلك، ويكون
المرجع في هذا التقدير إِلى أهل الاختبار بالجنايات.
فإِذا أخبروا الحاكم بأن المأخوذ كذا؛ قَرّبه الحاكم إِلى أرش ما وَرَد به
الشَّرع بحسب نِسبته إِليه، وهكذا في العضو الزائد، وسِنّ الصبي، وذهاب
الشّعر
(6/248)
والجمال، وما لا نَفْع فيه.
وقد قدَّمنا ما يدل على أنه لم يَثْبت في الشرع، تقدير ما دون الموضِحة،
فما ذكَره المصنف هنا من تَقدير أرش الدامية والباضعة والسِّمحَاق؛ هو مِن
هذا القبيل الذي ذكَرناه، فإِنْ وافق نظَر الحاكم الخبير بما ورد قرّره،
وإِلا فعل ما يَتَرجّح له، فليس في ذلك حَجر، ولا يكون تقْدير المتقدم
حُجّةً على المتأخر؛ إِذا كان الصواب عنده في مخالفته.
وهكذا الكلام في أرش الدامية (1) والمتلاحمة والحارصة (2) والوارمة".
دية المرأة:
دية المرأة إِذا قُتلَت خطأً؛ على النصف من دِيَة الرجل.
عن شريح قال: "أتاني عروة البارقي من عند عمر: أنّ جراحات الرجال والنساء؛
تستوي في السنِّ والموضّحة، وما فوق ذلك؛ فدية المرأة على النّصف من دية
الرجل" (3).
جاء في "المغني" (9/ 531): قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: "أجمع أهل
__________
(1) وكان تقدير المصنف الذي أشار إِليه الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في
الدامية اثنا عشر ونصف من المثقال، وفي الباضعة عشرون، وفي السمحاق أربعون
مثقالاً؛ على اعتبار المثقال هنا هو الدينار من الذهب.
(2) وقدّر صاحب "الأزهار" الحارصة بثلث دية الدامية. انظر "السيل" (4/
449).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح، وانظر "الإِرواء" (2250).
(6/249)
العلم أنّ دية المرأة نصف دية الرجل" (1).
وأمّا حديث عمرو بن حزم: "دِية المرأة على النّصف من دية الرجل" فلم يثبت
مرفوعاً (2).
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: "قلت لسعيد بن المسيب: كم في أصبع
المرأة؟ قال عشرٌ من الإِبل. قلت: فكم في أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي
ثلاث أصابع، قال ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون.
قال: فقلت: لمّا عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقَص عقلها؟! قال سعيد: أعراقي
أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السُّنة يا ابن أخي" (3).
وقول سعيد بن المسيب: "هي السُّنة يا ابن أخي" ليس في حُكم المرفوع؛ لأنه
تابعيّ، فلا يترتّب على ذلك الحكم المنصوص به؛ والله -تعالى- أعلم.
__________
(1) وقال في تتمّة الكلام: "وحكى غيرهما عن ابن عليّة والأصمّ؛ أنهما قالا:
ديتها كدِية الرجل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في
النفس المؤمنة مائة من الإِبل" وهذا قول شاذٌ يخالف إِجماع الصحابة وسُنة
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ".
(2) قال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (7/ 308): "لم أره في شيء من طُرُق
حديث عمرو بن حزم، وتقدّم عن الحافظ ابن حجر جزْمه بنفي وجود الشطر الأوّل
من هذا في حديث ابن حزم ... ".
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" وغيره وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده إِلى
سعيد في "الإِرواء" (2255) وقال: "وقوله "السُّنّة" ليس في حُكم المرفوع؛
كما هو مقرّرٌ في "المصطلح".
(6/250)
دية أهل الكتاب:
ودية أهل الكتاب في قتل الخطأ على النّصف مِن دية المسلمين.
عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"دية المعاهد (1) نصف دية الحر" (2).
وفي لفظ: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بأنّ عقْل
أهل الكتاب نصف عقْل المسلمين" (3).
وفي لفظ: "عقْل الكافر نصف عقْل المؤمن" (4).
وفي لفظ: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قضى أنّ
عقْل أهل الكتابين؛ نصف عقْل المسلمين، وهم اليهود والنصارى" (5).
وهناك من يقول إِنّ دِيَته مثل دية المسلم، واحتجّوا بقوله -تعالى-: {وإِن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدِيةٌ مُسلَّمة إِلى أهله وتحرير رقبة
__________
(1) دية المعاهد: أي الذمّي.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3831) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2139) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4469) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1142)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2251).
(3) انظر "الإِرواء" (2251) والمصادر السابقة.
(4) انظر "صحيح النسائي" (4470).
(5) انظر "صحيح النسائي" (4469) و"صحيح ابن ماجه" (2139).
(6/251)
مؤمنة} (1).
ويجاب بأن هذا إِجمالٌ مُبيَّنٌ في السُنّة النبويّة المطهرة، وأنها على
النصف مِن دية المسلم.
ثمّ إِن لفظ (ديَة) قد جاء نكرة غير معلومة القيمة، وحديث النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرّف قدْرها وقيمتها.
وهناك عددٌ من الآثار؛ ذَكرها جمْعٌ من العلماء (2)؛ بعضها ينصُّ أن دية
أهل الكتاب كدية المسلمين، وبعضها ينصّ على أنّ ديتهم على النصف من دية
المسلمين، وبعضها ينصّ على أن ديتهم على الثلث من دية المسلمين.
والفصل في ذلك حديث النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير
الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وبالله التوفيق.
فائدة:
إِذا قَتَل مسلمٌ كافراً عمْداً؛ أُضعفت ديته لإِزالة القَوَد؛ وقد قضى
بذلك عثمان -رضي الله عنه-.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجُلاً مسلماً قَتلَ رجُلاً مِن أهل
الذّمة عمداً، ورُفع إِلى عثمان -رضي الله عنه- فلم يقتُله، وغلّظ عليه
الديَة مثل دم المسلم" (3).
__________
(1) النساء: 92.
(2) انظر لذلك -إِن شئت- تفسير الإمام الطبري -رحمه الله-.
(3) أخرجه أحمد، والدارقطني، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2262).
(6/252)
وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 146): "وسئل
-رحمه الله تعالى- عن رجل يهودي قَتلَه مسلم: فهل يُقتَل به؟ أو ماذا يجب
عليه؟
فأجاب: الحمد لله، لا قِصاص عليه عند أئمّة المسلمين، ولا يجوز قتْل الذمّي
بغير حقّ؛ فإنه قد ثبَت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يقتَل مسلم بكافر" (1).
ولكن تجب عليه الدية، فقيل: الدِّية الواجبة نصف دِيَة المسلم. وقيل: ثُلُث
دِيتَه، وقيل: يفرّق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم
ويُروى ذلك عن عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- أنّ مسلماً قتَل ذمّياً فغلظ
عليه، وأوجب عليه كمال الدية، وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه جعل دية الذمّي نصف دية
المسلم".
وعلى كل حال تجب كفّارة القتل أيضاً، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإِن لم يَجِدْ
فصيام شهرين متتابعين".
دية الجنين:
"إِذا مات الجنين بسبب الجناية على أمّه عمداً أو خطأ، ولم تمُت أمّه وجَب
فيه غُرَّة (2)، سواء انفصل عن أمه وخرج ميتاً، أم مات في بَطنها، وسواء
أكان ذكراً أم أنثى" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (6903)، وتقدّم.
(2) سيأتي معنى الغُرَّة -إن شاء الله تعالى- في العنوان الآتي بعده.
(3) عن "فقه السنة" (3/ 346).
(6/253)
هُذيل اقتَتَلتا، فرمت إِحداهما الأخرى
بحجر فأصاب بطنَها وهي حامل، فقَتلت ولدها الذي في بَطنها.
فاختصَموا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى أن دية
ما في بطنها غُرَّة عبدٌ أو أمة. فقال وليُّ المرأة التي غَرِمت: كيف
أغرَمُ يا رسول الله من لا شَرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ (1)، فمثل ذلك
يُطلّ (2)؟
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما هذا من إِخوان
الكهان (3) " (4).
ما هي الغُرة؟
قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "قال أهل اللغة: الغُرّة عند العرب أنفس
شيء".
وقال ابن الأثير -رحمه الله- في "النهاية": "الغُرّة: العبد نفْسُه أو
الأمة، وأصل الغُرّة: البياض الذي يكون في وجه الفَرس، وكان أبو عمرو بن
العلاء يقول: الغرّة عبدٌ أبيض أو أمة بيضاء، وسمي غرّةً لِبياضِه، فلا
يُقبَل في الدية عبدٌ أسود ولا جارية سوداء، وليس ذلك شرطاً عند الفقهاء
... ".
قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 176): "واعلم أنّ المراد بهذا كلِّه؛
إِذا انفصل الجنين ميتاً أمّا إذا انفصل حيّاً ثم مات؛ فيجب فيه كمال
الدّية؛
__________
(1) استهلال الصبيّ: تصويته عند ولادته. "النهاية".
(2) أي يُهدَر، يقال: دم فلان هُدر إِذا تُرك الطَّلب بثأره "الفتح".
(3) أي لمشابهة كلامه كلامهم. "الفتح".
(4) أخرجه البخاري (5758)، مسلم (1681).
(6/254)
فإِنْ كان ذكراً وجب مائة بعير، وإِن كان
أُنثى؛ فخمسون، وهذا مُجمع عليه، وسواء في هذا كلّه العمدُ والخطأ".
قال الحافظ في "الفتح" (12/ 250): "وعلى قول الجمهور فأقل ما يجزئ من العبد
والأمة؛ ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع؛ لأن المعيب ليس من
الخيار.
واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعاً به، فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين؛
لأن من لم يبلغها لا يستقل غالباً بنفسه؛ فيحتاج إِلى التعهد بالتربية، فلا
يجبر المستحق على أخذه" انتهى.
وعن بريدة " أن امرأة حذفت امرأة (1) فأسقطت، فجعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ولدها خمسين شاة، ونهى يومئذ عن الخذف (2)
" (3).
لمن تجب وعلى من؟
تجب للورثة؛ وهي على عاقلة الجاني.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قضى في جنين امرأة من بني لحْيان؛ بغُرّة عبد أو أمَة، ثمّ إِن
المرأة التي قضى عليها بالغرة تُوفّيت فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل (4) على
عَصبَتها" (5).
__________
(1) أي: رَمَتها.
(2) الخذف: أي رمي الحصاة.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائى" (4476).
(4) قال الكرماني (24/ 34): "أي دية الجنين على عَصَبَة المقضي عليها".
(5) أخرجه البخاري (6909).
(6/255)
وقد ورد في بعض الروايات أنّ المرأة التي
قَتلت، ضربت ضَرَّتها بعمود فسطاط وفيه:- "فقضى في الجنين بغرّة".
وفي لفظ: "فقضى فيه بغُرّة، وجعلَه على أولياء المرأة" (1).
قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 176): "ومتى وَجبت الغُرّة فهي على
العاقلة؛ لا على الجاني، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين -رضي
الله عنهم- وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني، وقال الشافعي وآخرون:
يلزم الجاني الكفّارة.
وقال بعضهم: لا كفّارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة -رضي الله عنهما-
والله أعلم". انتهى.
ورجّح شيخ الإِسلام -رحمه الله- الكفّارة؛ كما في العنوان الآتي:
مسألة:
إِذا قال الرجل لزوجته أسقطي ما في بطنك والإثم عليّ:
جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 159): "وسئل -رحمه الله- عن رجل قال لزوجته:
أسقطي ما في بطنك والإِثم عليّ، فإِذا فعَلت هذا، وسَمعت منه؛ فما يجب
عليهما من الكفّارة؟
فأجاب: إِنْ فعَلت ذلك فعليهما كفّارة رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين
متتابعين، وعليهما غُرّة عبد أو أَمَة لوارثه الذي لم يقتله؛ لا للأب،
فإِنّ الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئاً".
__________
(1) أخرجه مسلم (1682).
(6/256)
وجاء فيه (ص 161): "وسئل -رحمه الله- عن
امرأة حامل تعمّدت إِسقاط الجنين إِمّا بضربٍ، وإِما بشرب دواء؛ فما يجب
عليها؟
فأجاب: يجب عليها بسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
واتفاق الأئمّة؛ غرّة عبد أو أَمَة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين؛ غير
أمّه، فإنْ كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإنْ أحب أن يسقط عن المرأة فله
ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر ديَة، أو خمسين ديناراً وعليها أيضاً عند أكثر
العلماء عتْق رقبة، فإِن لم تجِدْ؛ صامت شهرين متتابعين، فإِن لم تستطِع؛
أطعمت ستين مسكيناً" (1).
وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 668): "وأمّا إِذا خرج الجنين حيّاً، ثم مات
مِن الجناية؛ ففيه الدِّيَة أو القَوَد".
قلت: وهذا القَوَد إِذا كان عمداً.
وقد اختلف العلماء في وجوب القِصاص في القتل بالمثقل.
قال الحافظ في "الفتح": "عقب الحديث المتقدّم: "واستدل به على عدم وجوب
القِصاص في القتل بالمثقل؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يأمر فيه بالقَوَد وإِنما أمر بالدية.
وأجاب من قال به بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر؛ بحيث يقتل بعضه
غالباً ولا يقتل بعضه غالباً، وطرد المماثلة في القصاص إِنما يشرع فيما
إِذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً.
__________
(1) وبناء على قوله -رحمه الله- (عشر دية) أقول: إِذا كانت الخمسون ديناراً
عشر دية؛ فالدية كاملة خمسمائة دينار من ذهب. وقد سبق أن الدية ألف دينار
من ذهب، وفي حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بلغت على عهد رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة دينار إِلى
ثمانمائة دينار، وذكر بعض الفقهاء أنها نصف عشر الدية والأول أرجح. والله
-تعالى- أعلم.
(6/257)
وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه
إنما لم يوجب فيه القَوَد؛ لأنها لم يقصد مثلها، وشرط القَوَد العمد، وهذا
إنما هو شبه العمد، فلا حُجّة فيه لقتلٍ بالمثقل ولا عكسه" (1).
وجاء في "السيل الجرار" (4/ 414): " ... وأمّا إذا كانت الآلة مثلها يقتل
في العادة، وإن لم يكن من المحدّد؛ فإن القصاص فيها واجب، كما تقدم في رضّ
رأس اليهودي الذي رضّ رأس الجارية، وكما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي
وابن ماجه من حديث حمل بن مالك قال: "كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى
بمسطح فَقَتلتها وجنينها، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في جنينها بغُرّة، وأن تُقتل بها" (2).
وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور -وهو الحقّ- وأدلة الكتاب
والسنة المثبتة للقصاص تشمله، وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير
المحدّد مطلقاً دليل تقوم به الحجة، ولا حجة فيما ورد من طريق الكذّابين
والوضّاعين.
وقد بيّن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطأ الذي
هو شبه العمد بياناً شافياً، فلنقتصر عليه، ونردّ ما عداه إلى ما شرعه الله
لعباده من القصاص في العمد العدوان".
__________
(1) "الفتح" (12/ 250).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2136) من حديث عمر بن الخطاب، أنه
نشد الناس قضاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك -يعني
في الجنين- فقام حمل بن مالك بن النابعة فقال: "كنت بين امرأتين لي، فضربت
إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها". أخرجه
أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3825).
(6/258)
فائدة:
إِذا خَرج الجنين حيّاً ثمّ مات؛ ففيه الكفّارة مع الدّيَة لأنه يتبع الأصل
العام في حُكم الدِّيات، وتقدّم ما قاله الإِمام النووي -رحمه الله- غير
بعيد.
لا ديَة إِلا بعد البُرء:
تقدّم في باب القِصاص أنه لا يجوز أن يقتصّ من الجراحة حتى تندمل جراحة
المجني عليه، مع الدليل على ذلك، وكذلك الحال في الدية، فإِنه لا يُعقل حتى
يبرأ المجروح ويصحّ.
وجود قتيل بين قومٍ متشاجرين:
إِذا عميَ أمرُ قتيل في قوم؛ كان بينهم رمْيٌ بالحجارة أو السياط، أو ضرْبٌ
بالعصيّ، أو نحو ذلك؛ فهو خطأ، وديته دية الخطأ، أمّا مَن قَتَل عمداً؛
فإِنه يقتصّ منه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ قُتِلَ في عمِّيًّا في رمي يكون بينهم بحجارة،
أو بالسياط، أو ضربٍ بعصا؛ فهو خطأ وعقْله عقْل الخطأ، ومن قُتِل عمداً فهو
قَوَد، ومن حال دونه (1)، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف (2) ولا
عدل (3) " (4).
__________
(1) ومن حال دونه: أي دون القاتل بأن منَع الوليَّ عن القِصاص منه، أو مَنْ
حال دون القِصاص: أي منَع المستحقّ عن استيفاء القِصاص. انظر "المرقاة" (7/
38).
(2) الصرف: التوبة، وقيل النافلة "النهاية".
(3) العدل: الفدية وقيل الفريضة. "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3804) وابن ماجه "صحيح سنن =
(6/259)
هل يضمن راكب الدابّة؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "العَجْماء (1) جرحُها جُبار (2)، والمعدِنُ جُبار، وفي
الركاز الخمس" (3).
بيّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العجماء جرحها جُبار،
أي: ما أتلفته بجرح أو غيره هدر، لا يضمنه صاحبها ما لم يفرط، لأنّ الضمان
لا يكون إِلا بمباشرة أو سبب، وهو لم يَجْن ولم يتسبب، وفِعْلها غير منسوب
إِليه، نعم إِنْ كان معها ضمن ما أتلفته ليلاً ونهاراً عند الشافعي" (4).
قال الإِمام النووي -رحمه الله- (11/ 225) -بحذف-: "فأمّا قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: العجماء جرْحها جُبار؛ فمحمول على ما إِذا
أتلفَت شيئاً بالنهار، أو أتلفت بالليل بغير تفريطٍ من مالكها، أو أتلفت
شيئاً وليس معها أحد، فهذا غير مضمون وهو مراد الحديث.
فأمّا إِذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفَت بيدها أو برجلها أو فمها
ونحوه؛ وجَب ضمانه في مال الذي هو معها، سواءٌ كان مالكاً أو مستأجراً أو
__________
= ابن ماجه" (2131) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4456)، وانظر "المشكاة"
(3478) وتقدّم.
(1) العجماء: -بالمدّ- هي كل الحيوان سوى الآدميّ، وسمّيت البهيمة عجماء؛
لأنّها لا تتكلّم.
(2) جُبار: أي هدْر.
(3) أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710).
(4) انظر "فيض القدير" (4/ 376).
(6/260)
مستعيراً أو غاصباً أو مودِعاً أو وكيلاً
أو غيره، إِلا أن تتلف آدمياً فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفّارة في
ماله، والمراد بجرح العجماء إِتلافها سواء كان بجرح أو غيره.
قال القاضي: أجمع العلماء على أنْ جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إِذا
لم يكن معها أحد، فإِن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على
ضمان ما أتلفته ... وجمهورهم على أن الضارية من الدواب كغيرها على ما
ذكَرناه، وقال مالك وأصحابه: يضمن مالكها ما أتلفت، وكذا قال أصحاب
الشافعي: يضمن إِذا كانت معروفةً بالإِفساد، لأن عليه ربطها والحالة هذه
... ".
وقال الإِمام البخاري -رحمه الله- في كتاب "الديات: باب - 29":
"قال ابن سِيرين: كانوا لا يُضمِّنونَ مِن النَّفْحَةِ (1) ويضمّنون مِن
ردِّ العِنان (2).
وقال حمّادٌ: لا تُضمَنُ النَّفْحة إِلا أن يَنْخُسَ إِنسان الدَّابة (3).
وقال شريح: لا يُضمنُ ما عاقَبَت أن يَضْرِبها فَتَضرِبَ بِرِجْلها (4).
__________
(1) أي: الضربة بالرِّجل. يقال: نفحَت الدابة إِذا ضَرَبَت بِرجلها.
"الفتح".
(2) العِنان: هو ما يوضع في فم الدابة ليصرّفها الراكب كما يختار، والمعنى:
إِنّ الدابة إِذا كانت مركوبه فَفَلتَ الراكب عِنانها، فأصابت بِرجلها
شيئاً؛ ضَمنه الراكب، وإذا ضَرَبت برجلها من غير أن يكون له في ذلك تسبُّب
لم يضمن. "الفتح".
(3) وصل بعضه ابن أبي شيبة من طريق شعبة: سألْتُ الحكم عن رجل واقف على
دابته فضَربَت برجلها؟ فقال: يضمن، وقال حمّاد: لا يضمن.
(4) وصله ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور.
(6/261)
وقال الحكم وحمّاد: إِذا ساق المُكَاري
حِماراً عليه امرأة فتَخِرُّّ، لا شيء عليه.
وقال الشعبي: إِذا ساق دابَّة فأتعبَها، فهو ضامِنُ لِمَا أصابَتْ، وإِنْ
كان خلفها مُترسِّلا؛ لم يَضمَن (1) ".
وجاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 149): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل راكب
فرس، مرّ به دباب ومعه دبّ، فجفَل الفرس ورمى راكبه، ثمّ هرب ورمى رجلاً
فمات؟
فأجاب: لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه؛ لكنّ الدباب عليه العقوبة.
والله أعلم".
وممّا تقدّم يظهر لنا أن جرح الدابة هدر ولا ضمان على صاحبها، إلاَّ إِنْ
كان هناك تفريط أو تسبُّبٌ مِن صاحبها، وفيما مضى من التفصيل كفاية. والله
-تعالى- أعلم.
وما تقدّم مِن قول؛ فغالبه يمضي على المراكب المعاصرة؛ كالسيارات ونحوها،
فإِنْ كان السائق أو صاحب السيّارة مُفرِّطاً أو متسبّباً؛ لزِمه الضمان،
كأن يسير في إِطارات مهترئة، أو أن يقف في مكان مُرتفع ويستهتر فيجعلها
عُرضة للسقوط أو الانتقال، لعدم رفعه الكابح اليدوي ...
__________
(1) وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة. وانظر "الفتح" و"مختصر البخاري" (4/
232) للتخريجات السابقة.
(6/262)
ماذا إِذا صدم راكب السيارة أو الدابة
سيارةً أو دابةً واقفة؟
جاء في "المغني" (10/ 360): "وإنْ كان أحدهما (1) يسير والآخر واقِفاً؛
فعلى السائر قيمة دابّة الواقف".
نصّ أحمد على هذا لأنّ السائر هو الصادم المتلف، فكان الضمان عليه، وإِنْ
مات هو أو دابته فهو هدْر، لأنه أتلف نفسَه ودابّته، وإن انحرفَ الواقف
فصادفت الصدمة انحرافه، فهما كالسّائرين لأنّ التلف حصل مِنْ فِعْلهما".
ماذا إِذا كان الواقف متعدّياً؟
وجاء في "المغني" (10/ 360) أيضاً: "وإِنْ كان الواقف متعدياً بوقوفه مثل
أن يقف في طريق ضَيق فالضمان عليه دونَ السائر؛ لأنّ التلف حَصَل بتعدِّيه،
فكان الضمان عليه؛ كما لو وضع حجراً في الطريق، أو جلس في طريقٍ ضيق؛ فعثُر
به إِنسان".
حُكم قتْل الدابَّة والجناية عليها:
وأمّا الدابة إِذا قَتلَها قاتل ففيها قيمتها، وإِذا جنى عليها كان الأرشُ
مقدارَ نقْصِ قيمتها بالجناية.
وهذا وإنْ لم يقم عليه دليل بخصوصه؛ فهو معلوم من الأدلة الكلية، لأنّ
العبد وسائر الدواب مِن جملة ما يملكه الناس، فمَن أتلفه كان الواجب عليه
قيمته، ومَن جنى عليه جناية تنقصه؛ كان الواجب عليه أرش النقص. كما لو جُني
على عينٍ مملوكة من غير الحيوانات؛ وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر
__________
(1) أي أحد الفارِسَين.
(6/263)
الدواب؛ يجب في الجناية عليه نقْص القيمة"
(1).
ما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت من ذلك
نهاراً لم يضمنوه:
يعني إِذا لم تكن يدُ أحدٍ عليها؛ فإِِن كان صاحبها معها أو غيره؛ فعلى
مَنْ يده عليها ضمان ما أتلفته مِن نفس أو مال ... وإِنْ لم تكن يدُ أحدٍ
عليها، فعلى مالكها ضمانُ ما أفسدته من الزرع ليلاً دون النّهار، وهذا قولُ
مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز (2).
ودليل ذلك: "أن ناقةً للبراء بن عازب -رضي الله عنه- دخَلت حائط رجل،
فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ على
أهل الحوائطِ حفظَها في النّهار، وأنّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامنٌ على
أهلها (3) ".
قال في "المغني" (10/ 357): "قال بعض أصحابنا: إِنما يضمَن مالكُها ما
أتلفته ليلاً، إِذا كان التفريط منه بإِرسالها ليلاً، أو إِرسالها نهاراً
ولم يضمّها ليلاً، أو ضَمّها بحيث يمكنها الخروج، أما إِذا ضَمَّها
فأخرَجها غيره بغير إِذنه، أو فتَح عليها بابها؛ فالضمان على مُخرِجها أو
فاتحِ بابها لأنه المتِلف".
__________
(1) انظر "الروضة الندية" (2/ 662).
(2) انظر "الغني" (10/ 356).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3048) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1888)، وانظر "الصحيحة" (238).
(6/264)
ضمان صاحب الكلب العقور ونحوِه:
ومن اقتنى كلباً عقوراً؛ فأطلقه، فعقَر إِنساناً أو دابَّة، ليلاً أو
نهاراً، أو خرق ثوب إِنسان؛ فعلى صاحبه ضمانُ ما أتلفه لأنه مُفرط
باقتنائه؛ إِلا أن يدخل إِنسانٌ داره بغير إِذنه، فلا ضمان فيه؛ لأنه
مُتعدٍ بالدخول متسبِّبٌ بعدوانه إِلى عَقْر الكلب له، وإنْ دخَل بإِذن
المالك فعليه ضمانهُ، لأنه تسبب إِلى إِتلافه.
وإِنْ أتلفَ الكلبُ بغير العقر؛ مِثْل أن ولَغ في إِناء إِنسان أو بال؛ لم
يضمنهُ مقتنيه، لأنّ هذا لا يختص به الكلب العَقور.
قال القاضي: وإِن اقتنى سنوراً يأكل أفراخ الناس ضَمِن ما أتلفه كما يضمن
ما أتلفه الكلب العقور، ولا فرق بين الليل والنهار (1).
ضمان صاحب الطيور:
وإِن اقتنى حماماً أو غيره من الطير؛ فأرسله نهاراً فلقط حباً؛ لم يضمنه؛
لأنه كالبهيمة، والعادة إِرساله (2).
وإِن كان له طيرٌ جارح -كالصقر والبازي- فأفسد طيور الناس وحيواناتهم؛ ضمن
(3).
لا ضمان في قتْل الحيوان الضارّ:
ويشرع قتل الحيوان الذي ورد النَصُّ بقتْله.
__________
(1) انظر "المغني" (10/ 358).
(2) انظر المصدر السابق.
(3) انظر "فقه السنة" (3/ 355).
(6/265)
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خمسٌ من الدواب كلهنّ فاسقٌ؛
يُقتلن في الحرم: الغراب (1) والحِدَأة (2)، والعقرب والفأرة والكلب
العَقور" (3).
وفي لفظ: "خمسٌ فواسقُ يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم: الحية والغراب
الأبقع والفأرة والكلب العَقور والحُدَيّا" (4).
وفي رواية: "العقرب" بدل الحيّة (5).
وقد ورد النهي عن قتل أربع من الدواب، كما في حديث ابن عباس -رضي الله
عنهما-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل أربع
من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد (6) " (7).
__________
(1) وفي رواية عند مسلم (1198) والغراب الأبقع. قال ابن قُدامة -رحمه الله-
"يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل"، وانظر للمزيد من
الفائدة في مسألة الغراب الأبقع. ما جاء في "الفتح" تحت الحديث (1831).
(2) الحِدَأة: طائر من الجوارح؛ ينقضّ على الجُرذان والدواجن والأطعمة
ونحوها.
(3) أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198).
(4) أخرجه مسلم (1198).
(5) أخرجه البخاري (1829) ومسلم (1199).
(6) الصُّرد: طائرٌ ضخْم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض، ونصفه
أسود. "النهاية".
(7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4387) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2609)، وانظر "الإِرواء" (2490).
(6/266)
قال النووي: "فالمنصوص عليه الستّ" أي:
الحية والغراب والفأرة والكلب العَقور والحِدَأة والعقرب.
وعن أم شريك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أمَرَها بقتل
الأوزاغ" (1).
ولا ضمان في قَتْلها، ولا في غيرها من السباع والحشرات الضارّة.
قال النووي -رحمه الله-: "واتفق جماهير العلماء على جواز قتْلهنّ في الحِلّ
والإِحرام، واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتُل ما في معناهنّ، ثمّ
اختلفوا في المعنى فيهنّ وما يكون في معناهنّ، فقال الشافعي -رحمه الله-:
"المعنى جواز قتلهنّ؛ كونهنّ ممّا لا يُؤكل، وكل ما لا يُؤكَل ولا هو متولد
من مأكول وغيره؛ فقتْله جائز للمحرم، ولا فدية عليه".
وقال مالك: "المعنى فيهن: كونهنّ مؤذيات، فكلّ مؤذٍ يجوز للمحرم قتله، وما
لا فلا".
قلت: وقول الإِمام مالك -رحمه الله- أصحّ لاشتراط علّة الإِيذاء. والله
-تعالى- أعلم.
وفي الكلب العقور قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 39): "واختلف
العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه بكونه عقوراً مفهوم أو لا؟ فررى سعيد
بن منصور بإِسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: الكلب العقور
الأسد.
وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأيّ
__________
(1) أخرجه البخاري (3307)، ومسلم (2237).
(6/267)
كلب أعقر من الحية؟ وقال زفر: المراد
بالكلب العقور هنا الذئب خاصة.
وقال مالك في "الموطأ": كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد
والنمر والفهد والذئب هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول
الجمهور.
وقال أبو حنيفة: "المراد بالكلب هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم
سوى الذئب" ......
واحتج بقوله -تعالى-: {وما عَلَّمتم من الجوارح مُكَلِّبين}، فاشتقها من
اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح: عَقور.
واحتج الطحاوي للحنفية، بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي والصقر
-وهما من سباع الطير- فدلّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحِدَأة".
إِذا كانت الجناية من الظالم المعتدي فلا ضمان فيها:
إِذا كانت الجناية مِن ظالمٍ معتدٍ، فجنايته هدْرٌ، وليس له المطالبة
بالقِصاص أو الدية، ومن صُور ذلك:
1 - سقوط أسنان العاضّ:
عن عمران بن حصين "أن رجلاً عضّ يد رجل فنزع يده من فمه، فوقعت ثنيّتاه،
فاختصموا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يَعَضُّ
أحدكم أخاه كما يعَضُّ الفحل، لا ديَة لك" (1).
__________
(1) أخرجه البخاري (6892)، ومسلم (1673) وتقدّم.
(6/268)
وبوّب لذلك الإِمام النووي -رحمه الله- في
"صحيح مسلم" فقال: "الصائل على نفس الإِنسان أو عضوه إِذا دفعه المصول
عليه، فأتلف نفسه أو عضوه؛ لا ضمان عليه" (1).
2 - النظر في بيت غيره من غير إِذنه، فإِذا اطّلع رجُلٌ في بيت إِنسانٍ
مِنْ ثُقب أو شقّ بابٍ أو نحوه؛ فرماه صاحب البيت بحصاة، أو طعَنَه بعود أو
نحوه فقلَع عينه؛ لم يضمنها (2).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أنّ امرءاً اطلع عليك بغير إِذن، فحَذفته
بحصاةٍ، ففقأت عينه؛ لم يكن عليك جُناح" (3).
وفي رواية: "من اطّلع في بيت قوم بغير إِذنهم؛ ففقأُوا عينه، فلا دية له،
ولا قِصاص" (4).
وعن سهل بن سعد أن رجلاً اطّلع في جُحرٍ في باب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مِدرَى (5) يحكُّ به رأسه -فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لو
__________
(1) انظر "صحيح مسلم" "كتاب القسامة" (باب - 14).
(2) انظر -إِن شئت- المزيد ما جاء في "المغني" (10/ 355).
(3) أخرجه البخاري (6902)، ومسلم (2158).
(4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4516) وصحح شيخنا -رحمه الله-
إِسناده في "الإِرواء" (2227).
(5) المِدرى: شيءٌ يُعمل من حديد أو خشب، على شكل سنّ من أسنان المُشط
وأطول منه، يسرّح به الشَّعر المتلبّد، ويستعمله مَن لا مُشط له.
"النهاية".
(6/269)
أعلم أنك تنظرني لطعنْتُ به في عينيك، وقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما جُعل الإِذن من
قِبَل البصر" (1).
فمن مجموع هذه النّصوص؛ يتضح لنا أنه لا جُناح على المرء في طعْن العين
وفقْئها؛ عند الاطلاع غير المشروع، وكذلك لا دِيَة له ولا قِصاص.
*فأمّا إِنْ تَرك الإِطلاع ومضى؛ لم يَجُز رمْيه، لأنّ النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف (2)، ولأنه ترَك
الجناية، فأشبه من عضّ ثمّ ترَك العَضّ، فلم يجز قلْع أسنانه.
وليس لصاحب الدار رمْي الناظر بما يقتله ابتداءً، فإِنْ رماه بحجر فقتَلَه،
أو حديدة ثقيلة؛ ضَمنه بالقِصاص، لأنه إِنما له ما يَقْلع به العين المبصرة
التي حصَل الأذى منها دون ما يتعدّى إِلى غيرها* (3).
3 - القتْل دفاعاً عن النّفس أو المال أو العرض:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاءَ رجُلٌ إِلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيتَ إِنْ جاء رجل يريد
أخذ مالي؟ قال فلا تعطِه مالك قال: أرأيت إِنْ قاتلني؟ قال: قاتِلْه قال:
أرأيتَ إِنْ قتَلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إِنْ قتلتُه؟ قال: هو في
النار" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (6901)، ومسلم (2156).
(2) في رواية: "فانقمع الأعرابي فذَهَب" "صحيح الأدب المفرد" برقم (815)
وفي رواية أُخرى "فسدّده [أي: السهم] نحو عينيه حتى انصرف"، انظر "الصحيحة"
(612).
(3) ما بين نجمتين من كتاب "المغني" (10/ 356).
(4) أخرجه مسلم (140).
(6/270)
ولا يبدأ المرء بالقتل؛ فإِنه لا يجوز،
وعليه أن يبذُل الأسباب في منْعَه وطرْده، فإِنْ أبى ضربه بأسهل ما يُخرجه
به، فإِنْ رجّح أنه يخرج بضَرْب عصا؛ لم يجُز أن يضربه بحديد؛ لأنّ الحديد
آلةٌ للقتل بخلاف العصا، وإِنْ ذَهب مُولِّياً؛ لم يكن له قَتْله ولا
اتباعه، وإِنْ ضربَه ضربةً عطَّلته؛ لم يكن له أن يُثنّي عليه؛ لأنه كُفي
شرّه (1).
ادعاء القتل دفاعاً:
إِذا قتلَ رجلٌ رجلاً، وقال: إِنه قد هجَم منزلي؛ فلم يمكنني دفعه إِلا
بالقتل، لم يُقبَل قوله إِلا ببيّنة، وعليه القَوَد، سواء كان المقتول
يُعرفُ بسرقة أو عيارة، أو لا يعرف بذلك.
فإِنْ شهدت البينة أنهم رأوا هذا مُقبِلاً إِلى هذا بالسلاح المشهور،
فضَرَبه هذا، فقد هُدر دمه، وإِن شهدوا أنهم رأوه داخلاً داره، ولم يذكروا
سِلاحاً، لم يسقط القوَدَ بذلك، لأنه قد يدخل لحاجة، ومجرد الدخول المشهود
به لا يوجب إِهدار دمه (2).
هل يضمن ما أتلفته النار؟
*مَن أوقدَ ناراً في داره كالمعتاد، فهبّت الريح، فأطارت شرارةً؛ أحرقَتْ
نفساً أو مالاً؛ فلا ضمان عليه.
__________
(1) انظر "المغني" (10/ 351).
(2) المصدر السابق (10/ 354) -بحذف وتصرف يسيرين-.
(6/271)
في إِفساد زرْعِ الغير:
ولو سقَى أرضه سقياً زائداً على المعتاد، فأفسَد زَرْع غيره ضَمِن، فإِذا
انصبَّ الماء مِنْ موضعٍ لا عِلْم له به؛ لم يضمن؛ حيث لم يَحدُث منه
تعدٍّ.
في غرق السفينة:
مَنْ كان له سفينةٌ يعبر بها الناس ودوابّهم، فغَرِقت دون سبب مباشر منه؛
فلا ضمان عليه فيما تلف بها، فإِنْ كان غرقُها بسببٍ منه ضمن* (1).
ضمان الطبيب:
إِذا لم تكن درايةٌ بالطب للمرء، وتكلّف ذلك فعالجَ مريضاً، فآذاه أو أتلف
شيئاً من بدنه؛ فإِنه ضامِنٌ مسؤول عما جنت يداه، والدِّيَة في ماله.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تطبّبَ (2) ولا يُعلَمُ منه طبّ فهو ضامن"
(3).
وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: "حدّثني بعض الوفد الذين قدِموا
على أبي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما
طبيب تطبّب على قومٍ لا
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 261، 262) بتصرف يسير.
(2) مَن تطبّب: أي تعاطى عِلم الطبِّ، وعالج مريضاً.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3834) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (3834) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4491)، وانظر "الصحيحة" (635).
(6/272)
يُعرف له تطبُّبٌ قبل ذلك، فأعنَتَ (1)؛
فهو ضامن".
قال عبد العزيز: "أما إِنه ليس بالعَنَت، إِنما هو قطع العروق والبطّ (2)
والكي (3) " (4).
جاء في "سُبُل السلام" (3/ 472): "الحديث دليل على تضمين المتطبّب ما
أتلفَه مِن نفسٍ فما دونها، سواء أصابَ بالسراية أو بالمباشرة، وسواء كان
عمداً أو خطأ، وقد ادُّعي على هذا الإِجماع.
وفي "نهاية المجتهد" إِذا أعنَت -أي المتطبب- كان عليه الضرب والسجن،
والدية في ماله، وقيل على العاقلة.
واعلم أن المتطبب هو من ليس له خِبرةٌ بالعلاج، وليس له شيخٌ معروف،
والطبيب الحاذِق هو مَن له شيخ معروف؛ وَثِقَ مِنْ نفسه بجودة الصنعة
وإحكام
__________
(1) فأعنَتَ: أي أضرَّ بالمريض وأفسده.
(2) أي الشَّقّ.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3835)، وابن أبي شيبة في
"المصنف"، وانظر "الصحيحة " تحت (635)، (2/ 227).
(4) جاء في "عون المعبود": (12/ 215): "ومراد عبد العزيز -والله أعلم
بمراده- أنّ لفْظ الطبيب الواقع في الحديث؛ ليس المقصود منه معناه الوصفي
العامّ الشامل لكل من يُعالج؛ بل المقصود منه قاطع العروق والباطّ والكاوي،
ولكن أنت تعلم أنّ لفْظ الطبيب في اللغة عامّ لكلّ من يعالج الجسم؛ فلا بدّ
للتخصيص ببعض الأنواع من دليل".
قلت: لعلّ قول عبد العزيز -رحمه الله تعالى- تفسير للحديث، فهو على سبيل
المثال لا الحصر، والأخْذ بعموم النصّ هو الأولى، إذا الجاهل بالطبّ يلزمه
الضمان في عموم ما يقع منه من إِضرارٍ أو إِفساد. والله -تعالى- أعلم.
(6/273)
المعرفة (1).
قال ابن القيم في "الهدي النبوي": إِنّ الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في
علاجه عشرين أمراً وسَرَدها هنالك.
قال: والطبيب الجاهل إِذا تعاطى عِلْم الطّبّ أو عَلمَه ولم يتقدم له به
معرفة فقد هجم بجهله على إِتلاف الأنفس، وأقدمَ بالتهور على ما لا يعلمه،
فيكون قد غرّر بالعليل فيلزمه الضمان. وهذا إِجماعٌ من أهل العلم.
قال الخطّابي: لا أعلم خلافاً في أنّ المعالج إِذا تعدّى فتلفَ المريض كان
ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍّ، فإِذا تولّد مِنْ
فِعْله التلف، ضَمِن الديَة وسقط عنه القَوَد؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إِذن
المريض وجناية الطبيب؛ على قول عامّة أهل العِلم على عاقلته. انتهى.
وأمّا إِعنات الطبيب الحاذق؛ فإِنْ كان بالسراية لم يضمن اتفاقاً، لأنها
سراية فِعْل مأذونٍ فيه مِن جهة الشرع، ومِن جهة المعالج، وهكذا سراية كلّ
مأذونٍ فيه؛ لم يتعد الفاعل في سببه، كسراية الحد وسراية القِصاص عند
الجمهور".
الحائط يقع على شخصٍ فيقتله:
إِذا بنى الرجُل في ملْكِه حائطاً مائلاً إِلى الطريق، أو إِلى ملك غيره،
فتلف به شيء، وسقط على شيء فأتلَفَه؛ ضَمِنه؛ لأنه متعدٍّ بذلك، فإِنه ليس
له الانتفاع بالبناء في هواء ملْك غيره، أو هواءٍ مشترك، ولأنه يُعرّضه
للوقوع على غيره في غير ملكه.
قال في "المغني" (9/ 571): "وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله- ولا
__________
(1) والميزان الآن بيِّنٌ مِن خلال الدراسة الجامعية، ونظام معادلة
الشهادات، وشهادة أهل الاختصاص.
(6/274)
أعلم فيه خلافاً".
ثمّ قال (ص 572): "وإِنْ بناه في ملكه مستوياً ... فسقط مِن غير استهدام
ولا ميل؛ فلا ضمانَ على صاحبه فيما تلِف به؛ لأنه لم يتعدَّ ببنائه، ولا
حصَل منه تفريطٌ بإِبقائه".
ضمان حافر البئر:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "العجماء جرحها جُبار، والبئر جُبار، والمعدن جُبار، وفي الرِّكاز
الخمس" (1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 255): "قال أبو عبيد: المراد
بالبئر هنا العادية القديمة، التي لا يُعلم لها مالك، تكون في البادية،
فيقع فيها إِنسان أو دابة، فلا شيء في ذلك على أحد.
وكذلك لو حفَر بئر في ملكه أو في موات، فوقع فيها إِنسان أو غيره فتلف، فلا
ضمان إِذا لم يكن منه تسبب إِلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إِنساناً
ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان.
وأمّا مَن حفر بئراً في طريق المسلمين، وكذا في ملك غيره بغير إِذن، فتلف
بها إِنسان فإِنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفّارة في ماله.
وإِنْ تلف بها غير آدمي؛ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة
على التفصيل المذكور، والمراد بجرحها -وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في
"النهاية" عن الأزهري- ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة، وليست الجراحة
مخصوصة بذلك بل كل الإِتلافات ملحقة بها.
قال عياض وجماعة: إِنما عبر بالجرح؛ لأنه الأغلب، أو هو مثالٌ نبّه به على
__________
(1) أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710) وتقدّم.
(6/275)
ما عداه، والحكم في جميع الإِتلاف بها
سواء، سواءٌ كان على نفسٍ أو مال".
ضمان المعدن:
في الحديث المتقدّم: "والمعدن جُبار" والحُكم فيه ما تقدّم في البئر، فلو
حَفَر معدناً في ملْكِه أو في موات؛ فوقع فيه شخص فمات، فدمه هدْر، وكذا لو
استأجر أجيراً يعمل له، فانهار عليه فمات (1).
من استؤجر على صعود شجرة فسقط منها:
ويُلحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل؛ كمن استُؤجر على صعود
نخلةٍ، فسقط منها فمات (2).
هل في أخْذ الطعام مِن غير إِذن ضمان؟
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَحلُبنَّ أحد ماشية أمرئ بغير إِذنِه، أيحب
أحدُكم أن تُؤتى مَشْرُبَتُه (3) فتُكْسَرَ خِزانته فينتقل طعامه؟ فإِنما
تَخزُن لهم ضُروعُ (4) ماشِيتِهم أطعُماتِهم، فلا يحلُبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ
إِلا إِذنِه" (5).
واختلف العلماء في هذا النهي وذكروا استثناءات مِن ذلك (6):
__________
(1) انظر "شرح النووي" (11/ 226) و"فتح الباري" (12/ 255).
(2) انظر "فتح الباري" (12/ 255).
(3) مشرُبَتُه: قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" "-بضم الراء وقد تفتح-
أي: غُرفته: والمشربة: مكان الشرب بفتح الراء خاصة، والمشربة بالكسر إِناء
الشرب".
(4) الضرع للبهائم؛ كالثدي للمرأة.
(5) أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726).
(6) وأفاض الحافظ -رحمه الله- في تفصيل ذلك في "الفتح" (5/ 89).
(6/276)
منها: حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه-:
أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أتى أحدكم
على ماشية: فإِنْ كان فيها صاحبها فليستأذنْه، فإِن أَذِن له فليحْلِب
وليشرب، فإِن لم يكن فيها فليُصَوِّت ثلاثاً، فإِن أجابه فليستأذنه، وإِلا
فلَيحْتلِب وليشرب ولا يحمل" (1).
وكذلك حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أتَيْت على راعٍ، فناده ثلاث مرارٍ. فإِنْ أجابك،
وإِلا فاشرب في غير أن تُفسد، وإِذا أتَيْت على حائط بُستان، فنادِ صاحب
البُستان ثلاث مراتٍ، فإِنْ أجابك، وإِلا فكل في أن لا تُفسد" (2).
وأيضاً؛ حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مرّ أحدكم بحائط، فليأكل ولا يتخّذ
خُبْنَةً (3) " (4).
والذي يترجّح لديّ:
1 - أنه يُراعَى فيما إِذا كان البستان عليه حائطٌ أو لا، وسمعْت من شيخنا
-رحمه الله- يقولُ به.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2280)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1042)، وانظر "الإرواء" (2521).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1862) وابن حبّان وغيرهما، وانظر
"الإِرواء" (2521).
(3) الخُبْنَة: معطف الإِزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه، يقال:
أخْبنَ الرجل: إِذا خبّأ شيئاً في خُبْنة ثوبه أو سراويله. "النهاية".
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1863) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1034)، وصححه الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 90) تحت الحديث
(2435).
(6/277)
2 - وأنّ الأخْذ مِن غير إِذْنٍ يجوز؛ إِذا
عَلِم أو رجّح طِيب نفسِ صاحب الطعام. ويفيدنا في ذلك قول الإمام البخاري
-رحمه الله- في كتاب "الأدبَ المفرد" (باب دالّة أهل الإِسلام بعضهم على
بعض) ثم ذِكْر لأثر محمد بن زياد قال: "أدركت السَّلف، وإِنَّهم ليكونون في
المنزل الواحد بأهاليهم، فربما نزل على بعضهم الضيف، وقِدْرُ أحدهم على
النَّار، فيأخذها صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القِدرَ صاحَبُها، فيقول: من أخذ
القِدر؟ فيقول صاحب الضيف: فحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القِدر. بارك
الله لكم فيها أو كلمةً نحرها.
قال بقية: قال محمّد: والخبز إِذا خَبَزوا مثل ذلك، وليس بينهم إلاَّ
جُدُرُ القَصبِ" (1).
3 - وأنه يجوز للحاجة والضرورة: ويعود تقدير الحاجة والضرورة للمرء نفسه.
عن عباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- قال: "أصابتني سَنَة (2)، فدخَلْتُ
حائطاً من حيطان المدينة، ففركْتُ سنبلاً، فأكلْتُ وحملتُ في ثوبي، فجاء
صاحبه، فضربني وأخَذ ثوبي.
فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: ما
علّمته إِذْ كان جاهلاً، ولا أطعمته إِذ كان ساغباً (3) أو جائعاً، وأمَره،
فردَّ عليّ ثوبي، وأعطاني وسْقاً (4) أو نصف
__________
(1) انظر "صحيح الأدب المفرد" (576).
(2) السَّنَة: الجدب، في "سنن ابن ماجه": "أصابنا عام مخمصة".
(3) ساغباً: جائعاً، وقيل: لا يكون السَّغَب إِلا مع التعب. "النهاية".
(4) الوَسْق: ستون صاعاً ... والأصل في الوَسْق الحمل، وكل شيء وسَقْته فقد
حَملته. "النهاية".
(6/278)
وسْقٍ من طعام" (1).
فعباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- قال: أصابتني سَنَة -أي: جدب- فدخل حائطاً
من حيطان المدينة ... وقد لام النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- صاحب الحائط، فقال له: " ... ولا أطعمته إِذْ كان ساغباً".
فهذا واجب متعيّن على القادر؛ أن يطعم الجائع، سواء أكان من الزكاة الواجبة
أو الصدقة، أو فيما دخل في قاعدة "في المال حقٌّ سوى الزكاة".
وجاء في تمام النصِّ "وأعطاني وسْقاً أو نصف وسْقٍ من طعام" طرداً لجوعه
وجبراً لخاطره، وتفريجاً لكربه.
وهذا كله شريطة عدم الإفساد والحمل واتخاذ الخبيئة، ففي هذه الحالة وبهذه
الضوابط؛ لا يضمن ما أخَذه من طعام أو شراب.
ومن الأدلّة على عدم الضمان؛ أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يأمر المارّ على الماشية بعد أن يُصوّت؛ بضمان ما شَرِبه؛
لكن نهاه عن الحمل والإِفساد فحسب. والله -تعالى- أعلم.
وقد ورَد الضّمانُ في أَخْذ الطعام كما في النصّ الآتي:
عن عمير مولى آبي اللحم قال: "أقبلتُ مع سادتي نُريد الهجرة، حتى دَنَوْنا
من المدينة، قال: فدخلوا المدينة وخَلَّفوني في ظهرهم، قال: فأصابني مجاعة
شديدة، قال: فمرَّ بي بعض من يخرُجُ من المدينة فقالوا لي: لو دخَلْتَ
المدينة فأصبْتَ من ثمرِ حوائطها، فدخلتُ حائطاً فقطعتُ منه قِنْوينِ (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وأحمد وانظر "الصحيحة"
(453).
(2) القِنو: هو العِذق: وهو الغضن له شعب بما يحمله من الرُّطب.
(6/279)
فأتاني صاحبُ الحائط، فأتى بي إِلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبَره خبري، وعليّ ثوبان،
فقال لي: "أيُّها أفضل؟ فأشَرْتُ له إِلى أحدهما، فقالك خُذْهُ، وأعطى صاحب
الحائط الآخر، وخلّى سبيلي" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "فيه دليلٌ على جواز الأكل من مال الغير بغير إِذنه
عند الضرورة، مع وجوب البَدل. أفاده البيهقي.
قال الشوكاني: (8/ 128): "فيه دليلٌ على تغريم السارق قيمة ما أخذه مما لا
يجب فيه الحدّ، وعلى أنّ الحاجة لا تبيح الإِقدام على مال الغير مع وجود ما
يمكن الانتفاع به، أو بقيمته، ولو كان مما تدعو حاجة الإِنسان إِليه،
فإِنّه هنا أخذ أحدَ ثوبيه ودَفعَه إِلي صاحب النخل". انتهى.
قلت: وقطْع عمير قِنوين -وهما غصنان ذو شُعبٍ من الرُّطب- لا يدخل في
المأذون فيه، مما سبق تَفصيله، فلزم من ذلك التغريم والله -تعالى- أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2580).
(6/280)
|