الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

التعزير

(6/293)


التعزير

تعريفه:
التعزير لغةً: مصدر عزر من العَزْر -بفتح العين وسكون الزاي المعجمة- هو الردّ والمنع.
وهو في الشرع: تأديبٌ على ذنبٍ لا حدّ فيه ولا كفّارة (1).
*أي: أنه عقوبة تأديبية يَفْرِضها الحاكم على جنايةٍ أو معصية، لم يُعيِّن الشرع لها عقوبة، أو حدّد لها عقوبة ولكن لم تتوفر فيها شروط التنفيذ، مثل المباشرة في غير الفرج، وسرقة ما لا قطْع فيه، وجنايةٍ لا قِصاص فيها، وإِتيان المرأة المرأة، والقذف بغير الزنى.
ذلك أنّ المعاصي ثلاثة أقسام:
1 - نوع فيه حدّ، ولا كفّارة فيه، وهي الحدود التي تقدم ذِكْرها.
2 - ونوع فيه كفّارة، ولا حدَّ فيه، مِثْل الجماع في نهار رمضان، والجماع في الإِحرام.
3 - ونوع لا كفّارة فيه، ولا حدَّ فيه، كالمعاصي التي تقدم ذِكْرها فيجب فيها التعزير* (2).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 107): "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يتمُّ إِلا بالعقوبات الشرعية؛ فإِن الله يزَعُ
__________
(1) "سبل السلام" (4/ 66) بزيادة كلمة "كفّارة".
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 369).

(6/295)


بالسلطان مال لا يزَعُ بالقرآن، وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصُل بالعقوبة على ترْك الواجبات وفِعْل المحرمات.
فمنها عقوبات مُقدّرة؛ مثل جلْد المفتري ثمانين، وقطعْ السارق ومنها عقوبات غير مُقدَّرة قد تُسمى "التعزير"، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كِبَر الذنوب وصِغَرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلّته وكثرته.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 343): "وأمّا المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مقدَّر ولا كفّارة؛ كالذي يُقبِّل الصبيّ والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جِماع أو يأكل ما لا يحلّ، كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حِرز، -ولو شيئاً يسيراً- أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقوف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إِذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إِذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشّون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقِّن شهادة زور، أو يرتشي في حُكْمه، أو يحكُم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزّى بعزاء الجاهلية، أو يلبّي داعي الجاهلية، إِلى غير ذلك من أنواع المحرمات.
فهؤلاء يعاقبون تعزيراً وتنكيلاً وتأديباً، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلّته، فإِذا كان كثيراً زاد في العقوبة؛ بخلاف ما إِذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المذنب؛ فإِذا كان مِن المدمنين على الفجور؛ زِيدَ في عقوبته؛ بخلاف المقلّ من ذلك، وعلى حسْب كِبَر الذنب وصِغَره؛ فيُعاقبُ من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب من لم يتعرض إِلا

(6/296)


لمرأة واحدة، أو صبيٍّ واحد.
وليس لأقل التعزير حدّ؛ بل هو بكل ما فيه إِيلام الإِنسان من قول وفِعل، وترْك قول، وترك فِعل.
فقد يُعزَّر الرجل بوعْظِه وتوبيخه والإِغلاظ له، وقد يُعزّر بهَجْره وترْك السلام عليه حتى يتوب؛ إِذا كان ذلك هو المصلحة، كما هجَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابَه "الثلاثة الذين خُلّفوا".
وقد يُعزّر بترك استخدامه في جُند المسلمين؛ كالجندي المقاتل إِذا فر من الزحف؛ فإِنّ الفرار من الزحف من الكبائر، وقطْع أجرِه نوعُ تعزيرٍ له، وكذلك الأمير إِذا فعل ما يُستعظَم؛ فعزْله عن إِمارته تعزير له، وكذلك قد يُعزّر بالحبس وقد يُعزر بالضرب ... ".

مشروعيّته:
عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَس رجلاً في تُهمة" (1).
وعن أبي بُردة -رضي الله عنه- قال: كان النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يُجلَد فوق عشر جلدات؛ إِلا في حدٍّ من حدود الله" (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3087)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1145) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4530)، وانظر "الإرواء" (2397).
(2) أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (1708).

(6/297)


ففي هذا الحديث مشروعية الجلد في غير الحدود -أي: التعزير-.

هل يشرع الجلد في التعزير فوق عشر جلدات؟
في الحديث المتقدّم بيان الاقتصار على عشر جلدات في غير الحدود.
قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "اختلف العلماء في التعزير؛ هل يقتصر فيه على عشرة أسواط فما دونها، ولا تجوز الزيادة؛ أَم تجوز الزيادة؟ فقال أحمد بن حنبل، وأشهب المالكي، وبعض أصحابنا: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط.
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إِلى جواز الزيادة ... " (1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (12/ 178): "وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخَذ بظاهره الليث وأحمد -في المشهور- عنه وإسحاق وبعض الشافعية.
وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحدّ الحر أو العبد؟ قولان، وفي قولٍ أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حدّه، ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي: "لا يبلغ به الحدّ" ولم يفصل.
وقال الباقون: هو إِلى رأي الإِمام بالغاً ما بلغ، وهو اختيار أبي ثور.
وعن عمر أنه كتب إِلى أبي موسى: "لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين"
__________
(1) انظر "شرح النووي" (11/ 221).

(6/298)


وعن عثمان ثلاثين، وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة، وكذا عن ابن مسعود وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إِلا من تكرر منه ومَن وقع منه مرة واحدة معصية لا حدّ فيها فلا يُعزَّر، وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لا يزاد على خمس وتسعين جلدة.
وفي رواية عن مالك وأبي يوسف لا يبلغ ثمانين، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم، ومنها قصره على الجلد وأمّا الضرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الأصطخري من الشافعية وكأنه لم يقِف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، ومنها أنه منسوخ دلّ على نسخه إِجماع الصحابة.
ورُدّ بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه وهو الإِجماع على أن التعزير يخالف الحدود وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها؛ فيصير مثل الحد، وبالإِجماع على أن التعزير موكول إِلى رأي الإِمام فيما يرجع إِلى التشديد والتخفيف، لا من حيث العدد، لأن التعزير شرع للردع ففي الناس من يردعه الكلام ومنهم من لا يردعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كلّ أحد بحسبه.
وتُعُقِّب بأنّ الحدّ لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مُسلّم، لكن مع مراعاة العدد المذكور، وبأن الردع لا يراعى في الأفراد بدليل أن من الناس من لا يردعه الحدّ ... ".
وجاء في "فيض القدير" (6/ 446): "يعني لا يُزاد على عشْرة أسواط بل

(6/299)


بالأيدي والنعال أو الأولى ذلك، فتجوز الزيادة إِلى ما دون الحد بقدْر الجرم عند الشافعي وأبي حنيفة.
أخذ أحمد بظاهر الخبر؛ فمنع بلوغ التعزير فوقها، واختاره كثير من الشافعية، وقالوا: لو بلغ الشافعي لقال به، لكن يردّه نقْل إِمامهم الرافعي إِنه منسوخ محتجّاً بما منه عمل الصحابة، بخلافه مع إِقرار الباقين.
ونُوزع بما لا يُجدي، ونقَل المؤلف عن المالكية؛ أنّ الحديث مختص بزمن المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر.
قال القرطبي في "شرح مسلم": ومشهور مذهب مالك أنّ ذلك موكول إِلى رأي الإِمام بحسب ما يراه أليق بالجاني؛ وإن زاد على أقصى الحدود، قال: والحديث خرج على أغلب ما يحتاج إِليه في ذلك الزمان" انتهى.
وقد وردَ بعض الآثار عن السلف في الزيادة على عشرة أسواط:
فعن داود عن سعيد بن المسيب: "في جارية كانت بين رجُلين؛ فوقَع عليها أحدهما (1)؟
قال: يضرب تسعةً وتسعين سوطاً" (2).
وعن عمير بن نمير قال: "سُئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن جاريةٍ؛
__________
(1) أي سُئل ما حكمه؟
(2) أخرجه ابن أبي شيبة وصحح إسناده شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2398).

(6/300)


كانت بين رجلين؛ فوقَع عليها أحدهما؟
قال: ليس عليه حدّ هو خائن، يُقوّم عليه قيمة، ويأخذها" (1).
وعن عطاء بن مروان عن أبيه قال: "أُتيَ عليٌّ -رضي الله عنه- بالنّجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثمّ أمَر به إِلى السّجن، ثمّ أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثمّ قال: إِنّما جَلْدتك هذه العشرين؛ لإِفطارك في رمضان، وجَرأتك على الله" (2).
والمترجّح لديّ هو التمسُّك بالنصّ، ولكن قد ثبَت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التعزير بالقتل؛ لمن شرب الخمر في المرّة الرابعة (3).
وورَد عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- الزيادة على عشرة جلدات، فهذا يقوّي أن الإِمام موكولٌ بحسب ما يراه أليق بالجاني.
ولا نحمل ما فعَلَه بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في الزيادة؛ إلاَّ أَنهم استفادوه من صحبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والجمع بين أَحاديثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لدرء المفاسد، وردع الجاني، وتحقيق المصالح. والله -تعالى- أعلم.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (8/ 57) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عمير بن نمير، أورده ابن حبان في "الثقات" (1/ 172) وقال: " ... أبو وَبَرة الهمداني، مِن أهل الكوفة، يروي عن ابن عمر، روى عنه إِسماعيل بن خالد وموسى الصغير".
(2) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2399): "وإسناده حسن أو قريب من ذلك ... ".
(3) وسيأتي - إن شاء الله تعالى- (باب التعزير في حالات مخصوصة).

(6/301)


الفرق بينه وبين الحدود:
التعزير مخالف للحدود مِن ثلاثة أوجُه:
الأول: أنه يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخفّ، ويستوون في الحدود مع الناس.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقيلوا (1) ذوي الهيئات (2) عثراتهم (3) إِلا الحدود (4) " (5).
الثاني: أنها تجوز فيه الشفاعة دون الحدود؛ كما تقدّم في الحديث السابق: "إِلا الحدود".
الثالث: التالف به مضمون؛ خلافاً لأبي حنيفة ومالك.
وقد فَرَّق قومٌ بين التعزير والتأديب، ولا يتمّ لهم الفَرق، ويُسمّى تعزيراً؛
__________
(1) أقيلوا: من الإِقالة، وهي الترك.
(2) ذوي الهيئات: جمع هيئة، والمراد هنا: أهل المروءة والخصال الحميدة التي تأبى عليهم الطِّباع، وتجمع بهم الإِنسانية والألفة؛ أن يرضَوا لأنفسهم بنسبة الفساد والشرّ إِليهم. "فيض القدير".
(3) عثراتهم: زلاتهم: أى ذنوبهم.
(4) إِلا الحدود: أي إِلا فيما ما يوجب الحدود؛ إِذا بلغت الإِمام، وإلا الحقوق البشرية؛ فإِن كُلاًّ منهما يُقام، فالمأمور بالعفو عنه هفوة أو زلّة لا حدّ فيها، وهي مِن حقوق الحقّ؛ فلا يعزّر عليها وإِنْ رُفعت إِليه. "فيض القدير" أيضاً.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3679)، وأحمد والطحاوي في "مشكل الآثار" وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (638).

(6/302)


لدفعه وردّه عن فِعْل القبائح، ويكون بالقول والفعل على حسب ما يقتضيه الحال (1).

صفة التعزير (2):
التعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب فإِنْ كان لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة أو ترك أداء الحقوق الواجبة: مثْل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه؛ أو على ترْك ردّ المغصوب؛ أو أداء الأمانة إِلى أهلها: فإِنه يُضرَب مرّة بعد مرّة حتى يؤدي الواجب، ويُفرّق الضرب عليه يوماً بعد يوم، وإِنْ كان الضرب على ذنب ماضٍ؛ جزاءً بما كسب ونكالاً من الله له ولغيره؛ فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط، وليس لأقله حدّ.
وإليكَ التفصيل في هذه الأصناف وغيرها:

التعزير بالتوبيخ والزجر والكلام:
قال في "الروضة الندية" (2/ 616): " ... ومن ذلك قول يوسف -عليه السلام- لإِخوته: {أَنْتُم شرٌّ مَكاَناً} (3) لمّا نسبوه إِلى السرقة.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: "إِنك امرؤ فيك جاهلية" (4). لمّا سمعه يُعيّر رجلاً
__________
(1) انظر "سبل السلام" (4/ 66).
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (27/ 107).
(3) يوسف: 77.
(4) أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).

(6/303)


بأُمّه.
وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-: "أن رجلاً أكل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشماله فقال: كُلْ بيمنك، فقال: لا أستطيع، فقال: لا استطعتَ؛ ما منَعَه إِلا الكِبْرُ، قال: فما رفَعَها إِلى فيه" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن سَمِعَ رجلاً يَنْشُدُ ضالّةً في المسجدِ، فليقل: لا رَدَّها الله عليك؛ فإِنّ المساجد لم تُبْن لهذا" (2).
وعن بريدة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "لا وجَدْتَ" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتَكَ" (4).
وعن عديّ بن حاتم -رضي الله عنه-: "أن رجلاً خطَب عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مَن يطِع الله ورسولَه فقد رشَد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس الخطيب أنت، قُل: ومن يعصِ الله ورسولَه" (5).
__________
(1) أخرجه مسلم (2021).
(2) أخرجه مسلم (568).
(3) أخرجه مسلم (569).
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في "صحيحه" وغيرهم وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1295).
(5) أخرجه مسلم (870).

(6/304)


التعزير بالمقاطعة والامتناع عن الكلام:
ومن ذلك ما كان من شأن الثلاثة الذين خُلِّفوا:
عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- يحدّث حين تخلّف عن غزوة تبوك: قال: "لم أتخلَّف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوةً غزاها، إلاَّ في غزوة تبوك ...
كان من خبري أنِّي لم أكنْ قطُّ أقوى ولا أيسر؛ حين تخلَّفْتُ عنه في تلك الغَزاة، والله ما اجتَمَعَتْ عندي قبله راحلتان قطُّ؛ حتى جمعتُها في تلك الغزوة.
ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد غزوة، إِلا ورَّى بغيرها (1)، حتى كانت تلك الغزوة؛ غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً (2) وعدوّاً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهبة (3) غزوِهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثير (4)، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد: الديوان).
قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيَّب؛ إلاَّ ظنَّ أنْ سيخفى له؛ ما لم يَنْزِلْ فيه وحْي الله.
__________
(1) قال في "الفتح": "أي: أوهم غيرها، والتورية: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد".
(2) المفاز والمفازة: البريَّة القفْر.
(3) تأهَّب: استعدَّ، والأهبة: الحرب عدَّتها وجمعها. "المختار".
(4) في رواية لمسلم (2769): "وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناس كثير، يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم ديوان حافظ".

(6/305)


وغزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال، وتجهَّز رسول الله والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي؛ حتى اشتدَّ بالنَّاس الجِدُّ، فأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون معه، ولم أقْضِ مِن جَهازي شيئاً، فقلتُ: أتجهَز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقُهُم، فغدوْتُ بعد أن فَضَلوا لأتجهَّزَ، فرجعْتُ ولم أقْضِ شيئاً، ثم غَدَوْتُ، ثم رجَعْتُ ولم أقْضِ شيئاً.
فلم يَزَلْ بي حتى أسرعوا، وتفارطَ الغزو (1)، وهَمَمْتُ أنْ أرتَحِل فأدرِكهم -وليتني فعَلْت فلم يُقدَّر لي ذلك- فكنتُ إِذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطُفْتُ فيهم؛ أحزَنَني أنِّي لا أرى إِلا رجلاً مغموصاً (2) عليه النِّفاق، أو رجلاً ممَّن عذَرَ الله من الضُّعفاء.
قال كعب بن مالك: "فلمَّا بَلَغَني أنَّه توجَّه قافلاً (3)؛ حَضَرني همِّي، وطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكذب، وأقول: بماذا أخرُجُ من سَخَطه غداً؟ واستَعَنْتُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ من أهلي، فلمَّا قيل: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أظلَّ قادماً؛ زاح عنِّي الباطل، وعرفْتُ أنِّي لن أخرجَ منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجْمَعْتُ صِدقَه.
__________
(1) أي: فات وسبق.
(2) أي: مطعوناً عليه في دينه، متَّهماً بالنَِّفاق، وقيل: معناه: مُستحقراً، تقول: غَمَصْتُ فلاناً: إِذا استحقرْته. "النهاية".
(3) القفول: الرُّجوع من السَّفر.

(6/306)


وأصبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادماً، وكان إِذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ؛ بدأ بالمسجد، فيركعُ فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فلمَّا فعَل ذلك؛ جاءهُ المُخَلَّفون، فطفقوا يعتَذرون إِليه، ويحلفون له -وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً- فقَبِلَ منهُم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانِيَتَهُم، وبايعَهُم، واستغفرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إِلى الله.
فجئتهُ، فلمَّا سلَّمتُ عليه؛ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغْضَب، ثمّ قال: تعالَ. فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديِه، فقال لي: ما خَلَّفَكَ؟ ألمْ تكن قد ابتَعْتَ ظهركَ (1)؟ ".
فقلتُ: بلى؛ إِنِّي والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدُّنيا؛ لرأيتُ أن سأخرُجُ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطيتُ جَدلاً، ولكنِّي والله، لقد عَلمْت؛ لئن حدَّثْتُك اليوم حديث كَذِبٍ ترضى به عنِّي؛ ليوشِكنَّ الله أن يُسْخِطكَ عليَّ، ولئن حدَّثْتُك حديث صدقٍ تجِد عليَّ فيه (2)؛ إِنِّي لأرجو فيه عفو الله (3)، لا والله؛ ما كان لي مِن عُذرٍ؛ واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسر منِّي؛ حين تخلَّفْتُ عنك.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَّا هذا؛ فقد صَدَقَ، فقُمْ حتى يقضي الله فيك، فقُمت ...
ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن كلامنا -أيُّها الثلاثة- من بين مَن تخلَّف عنه، فاجتَنبَنا النَّاس، وتغيَّروا لنا، حتى تَنكَّرتْ في نفسي الأرض، فما هي
__________
(1) اشتريت راحلتك.
(2) أي: تغضب.
(3) في "صحيح مسلم": "عقبى".

(6/307)


التي أعرف، فلبِثنا على ذلك خمسينَ ليلة.
فأمَّا صاحباي؛ فاسْتَكانا وقعدا في بيوتِهما يبكيان، وأمّا أنا؛ فكنتُ أشبَّ القوم وأجلَدَهُم، فكنتُ أخرجَ فأشهد الصَّلاة مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق، ولا يكلِّمني أحدٌ، وآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعدَ الصَّلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيهِ بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثمَّ أصلِّي قريباً منه، فأسارقهُ النَّظر، فإِذا أقبَلْتُ على صلاتي؛ أقبَل إِليَّ، وإذا التَفَتُّ نحوَه؛ أعرَضَ عنِّي.
حتى إِذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس (1) مشيتُ حتى تسوَّرتُ (2) جِدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأحبُّ النَّاس إِلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فوالله؛ ما ردَّ عليَّ السَّلام.
فقلتُ: يا أبا قَتادة! أنشُدك بالله هل تعلمني أحبُّ الله ورسولَه؟ فسَكَت، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فسكَتَ، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضتْ عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار ...
حتى إِذا مضتْ أربعون ليلة من الخمسين؛ إِذا رسولُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني، فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُرُك أنْ تعتَزِل امرأتَكَ.
فقلتُ: أطلِّقُها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا؛ بل اعتَزلها ولا تقرَبْها، وأرسل إِلى صاحبيَّ مثلَ ذلك.
فقلتُ لامرأتي: الحَقي بأهلِك، فتكوني عندهم حتى يقضيَ الله في هذا
__________
(1) أي: إِعراضهم.
(2) أي: علوْت سور الدَّار.

(6/308)


الأمر.
قال كعبٌ: فجاءت امرأة هلال بن أميَّة رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إِنّ هلال بن أميَّة شيخٌ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمَه؟
قال: لا؛ ولكن لا يَقربْكِ، قالت: إِنّه والله ما به حَرَكة إِلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إِلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذَنْتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأتِكَ كما أذِنَ لامرأة هلال بن أميَّة أن تخْدمَه.
فقلتُ: والله لا أستأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يدريني ما يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا استأذنْتُهُ فيها، وأنا رجل شابّ؟!
فلَبِثْتُ بعد ذلك عشر ليالٍ، حتى كَمَلَتْ لنا خمسونَ ليلةً من حين نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كلامِنا، فلمَّا صلَّيت صلاة الفجر صُبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيتٍ مِن بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذَكَر الله، قد ضاقتْ عليَّ نفسي، وضاقتْ عليَّ الأرض بما رَحُبت؛ سمِعتُ صوت صارخٍ أوفى على جبل سَلْع (1) بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبْشِرْ.
قال: فخَرَرتُ ساجداً، وعرفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ، وآذَنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر، فذهب النَّاسُ يبشِّروننا" (2).

التعزير بالنفي:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بمُخنّث، قد خضب
__________
(1) أي: صعده وارتفع عليه، وسَلْع: جبل بالمدينة معروف.
(2) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

(6/309)


يديه ورجليه بالحنّاء! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما بال هذا؟ قيل: يا رسول الله، يتشبّه بالنساء، فأمر فنُفي إِلى البقيع، فقالوا: يارسول الله ألا نقتله؟ فقال: إِنّي نهيت عن قتْل المصلّين" (1).

التعزير بالحبس:
عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-: "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَس رجلاً في تُهمة" (2).
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "أنه رُفع إِليه نفر من الكلاعيين، أن حاكةً سرقوا متاعاً؛ فحبَسهم أياماً، ثم خلّى سبيلَهم فأتوه فقالوا: خلّيتَ سبيل هؤلاء بلا امتحان ولا ضرْب، فقال النعمان: ما شئتم، إِنْ شئْتم أضربهم، فإِنْ أخرَج الله متاعكم فذاك، وإِلا أخذْتُ مِن ظهوركم مثلَه؟
قالوا: هذا حُكمك، قال: هذا حُكْم الله عز وجل ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).

التعزير بالضرب:
عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبْعِ سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4119)، وانظر "المشكاة" (4481).
(2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وانظر "الإِرواء" (2397) وتقدّم.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4529) وتقدّم.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (247).

(6/310)


وعن المسيب بن دارم قال: "رأيت عمر بن الخطّاب ضرب جمّالاً، وقال: لِمَ تَحْمِلُ على بعيرك ما لا يُطيق؟ " (1).
وعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: "أن رجلاً حدَّ شفرةً، وأخذ شاةً ليذْبحَها، فضربهُ عمر بالدِّرّةِ، وقال: أتُعذِّبُ الرُّوح! ألا فعَلْتَ هذا قبل أن تأخذها؟! " (2).
عن محمد بن سيرين: "أنّ عمر -رضي الله عنه- رأى رجلاً يجرُّ شاةً ليذْبحَها، فضربهُ بالدِّرَّةِ، وقال: سُقْها -لا أُمَّ لك- إِلى الموتِ سَوْقاً جميلاً" (3).

التعزير بالإِتلاف والتحريق والتكسير:
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 113): فيما يجوز إِتلافه: " ... مثل الأصنام المعبودة من دون الله؛ لما كانت صورها منكرة جاز إِتلاف مادتها؛ فإِذا كانت حجراً أو خشباً ونحو ذلك؛ جاز تكسيرها وتحريقها.
وكذلك آلات الملاهي مثل: الطنبور يجوز إِتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن أحمد".
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" قال شيخنا -رحمه الله-: "وسنده صحيح إِلى المسيب بن [دارم] "، وانظر "الصحيحة" (30).
(2) أخرجه البيهقي (9/ 280 - 281)، وانظر "الصحيحة" (30).
(3) أخرجه البيهقي أيضاً، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (30).

(6/311)


قلت: ويُحمل التكسير والتحريق والإِتلاف؛ على الأشياء التي لا يستفاد من إِبقائها.

التعزير بأخْذ المال:
ومن صور ذلك أن يمتنع المرء عن أداء الزكاة غيرَ مُنكرٍ وجوبَها، فإِنّ للحاكم -وهذه الحال- أن يأخذ الزكاة منه قهراً، وشطْر ماله عقوبةً.
فعن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده (1) -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يفرق إِبل عن حسابها (2) من أعطاها مؤتجِراً (3) فله أجرها، ومن أبى فإِنّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمةً (4) من عَزَمات ربّنا، لا يحلّ لآل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شيء" (5).
ومن ذلك إِباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلب الذي يصطاد في حرم المدينة -لمن وجده-
__________
(1) هو معاوية بن حيدة؛ من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(2) معناه: أن المالك لا يفرّق مُلكَه عن ملك غيره؛ حيث كانا خليطين، أو المعنى: يحاسب الكلّ في الأربعين، ولا يُترك هزال ولا سمين، ولا صغير ولا كبير، نَعَم العامل لا يأخذ إِلا الوسط "عون" (4/ 317).
(3) قاصداً للأجر بإِعطائها.
(4) العَزْمة في اللغة: الجدّ والحق في الأمر، يعني: أُخذ ذلك بجدّ لأنّه واجب مفروض، قاله بعض العلماء.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (193)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2292) وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (791) وتقدم في كتاب "الزكاة".

(6/312)


فعن عامر بن سعد: "أن سعداً ركب إِلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه؛ فسَلَبَه (1)، فلمّا رجَع سعد جاءه أهل العبد؛ فكلّموه أن يردّ على غلامهم أو عليهم ما أخَذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرُدَّ شيئاً نفَّلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! وأبى أنّ يَرُدّ عليهم" (2).
وفي رواية: من حديث سليمان بن أبي عبد الله قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة -الذي حرّم رسول الله- فسلبَه ثيابه، فجاء مواليه فكلّموه فيه، فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم هذا الحرم وقال: "من وجَد أحداً يصيد فيه؛ فليسلُبْه، فلا أردّ عليكم طُعْمَةً أطعَمنيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن إِن شئتم دفعت إِليكم ثمنَه (3) " (4).
وفي رواية: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى أن يُقطع من شجر المدينة شيء، وقال: من قطع منه شيئاً؛ فلمن أخذه سَلَبُه" (5).
__________
(1) أي: أخذ ما عليه من الثياب وغيره. "المرقاة" (5/ 628).
(2) أخرجه مسلم (1364).
(3) أي: تبرعاً، قاله الطيبي -رحمه الله- أو احتياطاً للاختلاف فيه "المرقاة" (5/ 627).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1791)، وانظر "المشكاة" (2747).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1792)، وانظر "المشكاة" (2748).

(6/313)


التعزير بالتغريم:
لقد تقدم قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمضاعفة الغُرم والعقوبة على مَن سَرَق ما لا قطْع فيه؛ كما في سارق الثمار المعلّقة، وكذا سارق الشّاة من المرتع.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه سُئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه (1) من ذي حاجة غير مُتّخذٍ خُبْنَةً (2)، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مِثلَيْه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجَرين (3)، فبلغ ثمن المجنّ (4)؛ فعليه القطع" (5).
وفي رواية من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف ترى حريسة (6) الجبل،
__________
(1) فيه دليل على أنّه إِذا أخَذَ المحتاج بُغيته لسدّ فاقته؛ فإِنه مباح "عون" (5/ 91).
(2) الخُبنة: مِعطف الإِزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه، وتقدّم.
(3) الجَرين: موضع تجفيف التّمر، وهو له كالبيدر للحِنطة "النهاية".
(4) المجنّ: هو التُرس؛ لأنه يواري حامله: أي يستره والميم زائدة "النهاية" أيضاً.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1504)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (4593) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2104)، وانظر "الإِرواء" (2413) وتقدّم.
(6) الحريسة: فعيلة بمعنى مفعولة: أي أنّ لها مِن يحرسها ويحفظها، ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها ... "النهاية"، والمراد: ليس فيما يُسرق من الجبل قطع لأنه ليس بحرز.

(6/314)


فقال: هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ.
ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ (1). فَبَلغ ثمن المِجَنّ، فَفيه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيه غرامةُ مِثْليه، وجَلَدَات نَكَال (2).
قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلّق؟ قال: هو ومِثلُه معهُ والنّكالُ، وليس في شيء من الثمر المعلق قَطعٌ إِلا فيما آواه الجَرينُ، فما أُخِذ من الجَرين فبَلَغ ثمنَ المِجَنّ، ففيه القَطعُ، وما لم يَبْلغ ثَمَنَ المِجَن فَفيه غَرَامةُ مِثليْه وجَلداتُ نَكَال" (3).

التعزير بتغليظ الدِّية:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجلاً مسلماً قَتلَ رجلاً مِن أهل الذّمة عمداً، ورُفع إِلى عثمان -رضي الله عنه- فلم يقتُله، وغلّظ عليه الدية مثل دَيِة المسلم" (4). وعُلّل ذلك لإِزالة القَوَد.
__________
(1) المُراح: الموضع الذي يريح الراعي إليه الماشية إِذا أمسى، وانظر "غريب الحديث" للهروي.
(2) النكال: العقوبة التي تُنكلُ الناسَ عن فِعْل ما جعلت له جزاءً "النهاية".
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2413) وتقدّم.
(4) أخرجه أحمد والدارقطني وعنه البيهقي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2262) وتقدّم.

(6/315)


التعزير بالقتل في حالات مخصوصة:
وقد يبلغ حدّ التعزير القتل (1) في حالات مخصوصة؛ كمن لم يرتدع من إِقامة حدّ الخمر، فإِنه يُقتَل في الرابعة.
فعن معاوية بن سفيان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثمّ إِنْ شربوا فاجلدوهم، ثمّ إنْ شربوا فاجلدوهم، ثمّ إِن شربوا [الرابعة] فاقتلوهم" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة": "وقد قيل إِنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقّقه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/ 49 - 92) واستقصى هناك الكلام على طرقه بما لا مزيد عليه، ولكنّا نرى أنه من باب التعزير؛ إِذا رأى الإمام القتل، وإِن لم يره لم يقتل بخلاف الجلد، فإِنه لا بد منه في كل مرة، وهو الذي اختاره الإِمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-".

التعزير على قول: يا كافر! يا فاسق! يا خبيث! يا حمار!:
عن علي -رضي الله عنه-: "في الرجل يقول للرجل: يا خبيث! يا فاسق! قال: ليس عليه حدّ معلوم، يُعزِّر الوالي بما رأى" (3).
__________
(1) وهذا لا يعارض الحديث المتقدم: "لا يجلَد فوق عشر جلدات إِلا في حد من حدود الله" لأن هذا قد وردَ فيه نَصّ بيِّن فأزال الإِشكال.
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وأحمد، وانظر "الصحيحة" (1360).
(3) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2393).

(6/316)


وفي لفظة: عن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنّكم سألتموني عن الرجل يقول للرجل يا كافر! يا فاسق! يا حمار! وليس فيه حدّ، وإِنّما فيه عقوبةُ السلطان، فلا تعودوا فتقولوا" (1).

تعزير الخطباء الذين لا يتحرّون ثبوت الأحاديث:
جاء في فتوى الإِمام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في خطيب لا يُبيِّن مُخرّجي الأحاديث، في فتاواه الحديثية (ص 32) ما نصه: "وسئل -رضي الله عنه- في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة؛ ويروي أحاديث كثيرة، ولم يبين مُخَرِّجيها، ولا رواتَها فما الذي يجب عليه؟
فأجاب بقوله: ما ذكَره من الأحاديث في خُطبِهِ من غير أن يُبيّن رواتها، أو مَنْ ذَكَرَهَا، فجائزٌ بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث، أو بنقْلها مِنْ مؤلفه كذلك.
وأمّا الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرَّد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه مِنْ أهل الحديث، أو في خطبٍ ليس مؤلفها كذلك، فلا يَحِلُّ ذلك! ومَن فعله عُزِّرَ عليه التعزير الشديد.
وهذا حال أكثر الخطباء، فإِنهم بمجرد رؤيتهم خطبةً فيها أحاديث؛ حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أنّ لتلك الأحاديث أصلاً أم لا، فيجب على حُكّام كل بلد أن يزجروا خطباءَها عن ذلك، ويجب على حُكام بلد هذا
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله - في المصدر السابق: "وهو عندي جيد الإسناد من الطريق الأولى؛ لأن رجاله ثقات معروفون؛ غير أصحاب عبد الملك بن عمير؛ وهم جمْعٌ تنجبر به جهالتهم".

(6/317)


الخطيب، منعُهُ من ذلك إِن ارتكَبه".
ثم قال: "فعلى هذا الخطيب أن يُبيِّن مستنده في روايته؛ فإِنْ كان مستنداً صحيحاً، فلا اعتراض عليه، وإِلا ساغ الاعتراض عليه، بل وجاز لوليّ الأمر -أيّد الله به الدين، وقمعَ بِعَدْلِه المعاندين- أن يعزله مِن وظيفة الخطابة؛ زجراً له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة السنيّة بغير حقّ" انتهى ملخصاً (1).

التعزير على نفي النسب:
عن الأشعث بن قيس قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وفد كنْدَة ولا يروني إِلا أفضلهم، فقلت: يا رسول الله ألستم منّا؟ فقال: نحن بنو النّضْر بن كنانة، لا نقفوا أمَّنَا، ولا نَنْتفي من أبينا.
قال: فكان الأشعث بن قيس يقول: لا أُوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة؛ إِلا جلَدْتُه الحدّ (2) " (3).

التعزير على الاستمناء:
جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 229): وسُئل -رحمه الله تعالى- "عن
__________
(1) عن "قواعد التحديث" للعلاّمة القاسمي -رحمه الله تعالى-.
(2) والذي يبدو أنّ كلمة الحدّ هنا؛ بالمعنى اللغوي؛ لا الاصطلاحي الفقهي؛ فإِنني لم أَرَ -فيما أعلم- حدّاً مسمّى فيمن نفى النَّسب.
وهذا كقول أنس -رضي الله عنه- "آلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه، وكانت انفكّت رجله ... " أخرجه البخاري (5289)، فكلمة (آلى) هنا مشتقّة من الإِيلاء اللغوي، لا من الإيلاء الفقهي؛ كما قال الكرماني -رحمه الله- والله -تعالى- أعلم.
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2115)، وانظر "الإِرواء" (2368).

(6/318)


الاستمناء، هل هو حرام؟ أَم لا؟
فأجاب: أمّا الاستمناء (1) فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعِلِه التعزير؛ وليس مِثْل الزنا. والله أعلم".

التعزير من حقّ الحاكم:
والتعزير يتولاه الحاكم؛ لأنّ له الولاية العامّة على المسلمين، وليس التعزير لغير الإِمام، إِلا لثلاثة:
1 - الأوّل الأب، فإِن له تعزير وَلَده الصغير؛ للتعليم والزَّجر عن سيئ الأخلاق، والظاهر أنّ الأمّ في مسألة زمن الصِّبا في كفالته لها ذلك، والأمر بالصلاة، والضرب عليها.
2 - والثاني السيد، يعزِّر رقيقه في حقِّ نفسه، وفي حقّ الله -تعالى- على الأصحّ.
3 - والثالث الزوج، له تعزير زوجته في أمر النشوز، كما صرّح به القرآن، وهل له ضرْبها على ترك الصلاة ونحوها؟
الظاهر، أن له ذلك إِن لم يكْفِ فيها الزجر؛ لأنه من باب إِنكار المنكر، والزوج من جملة مَنْ يُكلّف بالإِنكَار باليد، أو اللسان، أو الجنان، والمراد هنا الأولان (2).
__________
(1) ولشيخ الإِسلام -رحمه الله- تفصيل في حُكم الاستمناء، في مواطن أخرى وليس هذا موضعه، وتقدّم القول فيه في كتابي هذا.
(2) "سبل السلام" (4/ 69) -بحذف- ونقله السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (3/ 374).

(6/319)


هل في التعزير ضمان (1)؟
وليس على الزوج ضمانُ الزوجة إذا تلِفت من التأديب المشروع في النّشوز ولا على المعلم إِذا أدب صبيَّه الأدب المشروع وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة يضمن ...
قال الخلال: إِذا ضرب المعلّم ثلاثاً -كما قال التابعون وفقهاء الأمصار- وكان ذلك ثلاثاً، فليس بضامن، وإِنْ ضَربه ضْرباً شديداً مثله لا يكون أدباً للصبي ضمن، لأنه قد تعدّى في الضرب.
قال القاضي: وكذلك يجيء على قياس قول أصحابنا؛ إِذا ضَرب الأب أو الجد الصبي، تأديباً فهلك، أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديباً؛ فلا ضمان عليهم كالمعلّم.
قلت: ضابط الأمر هو أن يؤدب التأديب المشروع، دون إِسراف ولا تعدٍّ، فهذا لا ضمان له، وإِلا ضمن، ولا دليل في اقتصار ضرب المعلم على ثلاث. والله -تعالى- أعلم.

يُعزِّر الوالي بما يرى:
عن علي -رضي الله عنه- في الرجل يقول للرجل: "يا خبيث! يا فاسق! قال: ليس عليه حدّ معلوم، يُعزِّر الوالي بما رأى" (2).
وفي لفظ: عن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنّكم سألتموني عن الرجل
__________
(1) استفدت مادّة هذا العنوان من "المغني" (9/ 349) وانظر الكتاب المذكور للمزيد من الفائدة تحت "فصول فيما لا يُضمن".
(2) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2393) وتقدّم.

(6/320)


يقول للرجل يا كافر! يا فاسق! يا حمار! وليس فيه حدّ، وإنّما فيه عقوبةٌ من السلطان، فلا تعودوا فتقولوا" (1).

الجمع بين نوعين من أنواع التعزير:
عن جعفر بن برقان قال: "بلغَنا أنّ عمر بن عبد العزيز أُتِيَ بجارية كانت بين رجلين فوطئها أحدهما، فاستشار فيها سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير، فقالوا: نرى أن يجلد دون الحد، ويقيمونه قيمة، فيدفع إِلى شريكه نصف القيمة" (2).
وعن عمير بن نمير قال: "سُئل ابن عمر عن جارية كانت بين رجلين فوقَع عليها أحدهما، قال: ليس عليه حد هو خائن، يقوم عليه قيمة ويأخذها" (3).
وعن عطاء بن مروان عن أبيه قال: "أتي علي بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم أمَر به إِلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثم قال: إِنما جلدتك هذه العشرين لإِفطارك في رمضان، وجُرأتك على الله" (4).
__________
(1) انظر "الإِرواء" (8/ 54) تحت الأثر (2393) وتقدّم.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، وانظر "الإِرواء" (8/ 157) وتقدّم.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله-: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عمير بن نمير أورده ابن حبان في "الثقات"، وانظر "الإِرواء" (8/ 157) وتقدّم.
(4) أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده حسن أو قريب من ذلك رجاله كلهم ثقات معروفون غير أبي مروان والد عطاء، وثقه ابن حبان والعجلي، وقال النسائي: "غير معروف: لكن روى عنه جماعة، وقيل له صحبة"، وانظر "الإرواء" (2399) وتقدّم.

(6/321)


وتقدم أكثر من مرَة حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً من مُزَيْنة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في حريسة الجبل، فقال: "هي وَمِثْلُها والنَّكَالُ، ولَيْس في شَيْء مِنَ الماشِيَة قَطعٌ، إِلا فِيما آوَاه المُراحُ. فَبَلغ ثمن المِجَنّ، فَفيه قَطْع اليد، وما لم يبلُغ ثمن المِجَنِّ، ففيه غرامةُ مِثْليه، وجَلَدَات نَكَال" (1).
وكذا الأمر فيما وَرَد في الثمر المعلّق.

ما لا يجوز فيه التعزير:
ولا يجوز التعزير بحلق اللحية، ولا بتخريب الدور، وقلْع البساتين، والزروع، والثمار والشجر، كما لا يجوز بجدع الأنف، ولا بقطع الأذن، أو الشفة، أو الأنامل؛ لأن ذلك لم يُعهَد عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- (2).

مسائل متفرقة في التعزير:
جاء في "مجموع الفتاوى" (34/ 225): "سئل شيخ الإِسلام أبو العباس عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك، وعنده غلمان: فهل له أن يقيم على أحدهم حَدّاً إِذا ارتكبه؟ وهل له أن يأمرهم بواجب إِذا تركوه؛ كالصلوات الخمس ونحوها؟ وما صفة السوط الذي يعاقبهم به؟
فأجاب: الحمد لله، الذي يجب عليه أن يأمرهم كلَّهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر والبغي.
وأقلّ ما يفعل أنه إِذا استأجر أجيراً منهم يشترط عليه ذلك، كما يشترط ما
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (4594) وتقدّم.
(2) انظر "فقه السنة" (3/ 372).

(6/322)


يشترطه من الأعمال، ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرَدَه.
وإذا كان قادراً على عقوبتهم بحيث يُقرُّه السلطان على ذلك في العرف الذي اعتاده الناس وغيره؛ لا يعاقبهم على ذلك؛ لكونهم تحت حمايته، ونحو ذلك، فينبغي له أن يُعزِّرهم على ذلك؛ إِذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات إِلا بالعقوبة، وهو المخاطَب بذلك حينئذ، فإِنه هو القادر عليه، وغيره لا يقدر على ذلك؛ مراعاة له.
فإِن لم يستطع أن يقيم هو الواجب، ولم يَقُم غيرُه بالواجب، صار الجميع مستحقين العقوبة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الناس إِذا رأوا المنكر فلم يغيروه؛ أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" (1).
وقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإِن لم يستطع فبلسانه، فإِنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان" (2).
لا سيّما إِذا كان يضربهم لما يتركونه مِن حقوقه، فمن القبيح أن يعاقبهم على حقوقه، ولا يعاقبهم على حقوق الله.
والتأديب يكون بسوطٍ معتدل، وضرْبٍ معتدل، ولا يَضرب الوجه، ولا المقاتِل".
وفيه (ص 226): وسئل -قدّس الله رُوحه-: "عن رجل يُسفِّه على والديه: فما يجب عليه؟
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (3236) وهذا لفظه وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3644) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1761)، وانظر "الصحيحة" (1564).
(2) أخرجه مسلم (49).

(6/323)


فأجاب: إِذا شتَم الرجل أباه واعتدى عليه؛ فإِنه يجب أن يعاقَب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مِثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في "الصحيحين" أنه قال: "إِن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟
قال: يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه" (1).
فإِذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جَعل من الكبائر؛ أن يسبّ الرجل أبا غيرِه؛ لئلا يسبّ أباه، فكيف إِذا سبّ هو أباه مباشرة! فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين ... ".
وفيه (ص 228): وسُئل -قدّس الله رُوحه-: "عمَّن شتَم رجلاً وسبّه؟
فأجاب: إِذا اعتدى عليه بالشتم والسب؛ فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه؛ فيشتمه إِذا لم يكن ذلك مُحرَّماً لعينه؛ كالكذِب، وأمّا إِنْ كان محرماً لعينه كالقذف بغير الزنا فإِنه يُعزَّر على ذلك تعزيراً بليغاً يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز؛ وهو الذي يشرع إِذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه. والله أعلم".
وجاء في الصفحة نفسها: وسئل -رحمه الله-: "عمن شتم رجلاً فقال له: أنت ملعون، ولد زنا؟
فأجاب: "يجب تعزيزه على هذا الكلام، ويجب عليه حدّ القذف إنْ لم يقصِد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس مِنْ قَصْدهم بهذه الكلمة، أن المشتوم فِعله خبيث كفِعْل وَلد الزنا".
تم بحمد الله وتوفيقه.
__________
(1) أخرجه البخاري (5973) ومسلم (90).

(6/324)