الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
الجزء السابع
كِتابُ الجِهاد وَالهدنَة وعَقد الذمَّة والجِزيَة والغَنائِمِ والفَيء
وعَقْد الأمان وقِتَال البُغَاة
بقلم
حسين بن عودة العوايشة
دار ابن حزم
(7/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار
تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14
هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611)
بريد إلكتروني: ibnhazim@cyberia.net.Ib
(7/2)
الموسوعة الفقهية الميسَّرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
الجزء السابع
كِتابُ الجِهاد وَالهدنَة وعَقد الذمَّة والجِزيَة والغَنائِمِ والفَيء
وعَقْد الأمان وقِتَال البُغَاة
بقلم
حسين بن عودة العوايشة
دار ابن حزم
(7/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار
تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14
هاتف وفاكس: 701974 - 300227 (009611)
بريد إلكتروني: ibnhazim@cyberia.net.Ib
(7/4)
-[المقَدّمَة]-
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُه
وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3).
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدْي هدْي محمّد، وشرّ الأمور
مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار.
فهذا الجزء السابع من كتابي "الموسوعة الفقهيّة" أقدّمه للقرّاء الكِرام،
بعد أن طال الزّمن، لأمورٍ عديدة؛ منها إنجاز بعض الأعمال العلميّة
الأُخرى، أسأل الله -تعالى- أنْ يحفظني بالإيمان والعمل الصالح؛ لاستكمال
ما تبقّى مِن الكتاب
__________
(1) آل عمران: 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70 - 71.
(7/5)
وغير ذلك مما أرجو أن يكون نافعاً مفيداً
للأمة.
وهذا الجزء مُخَصّصٌ في الجهاد في سبيل الله -سبحانه- وما يتصل به من
أبحاث.
سائلاً الله -تعالى- أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأنْ ينفع بي
وبكتابي، ويجعلني مفتاح خير مغلاق شرّ، إنّه سميع مجيب.
وكتب:
حسين بن عودة العوايشة
عمّان- 28 جمادى الآخرة 1429 هـ
(7/6)
الجهاد
(7/7)
الجهاد
الجهاد -بكسر الجيم- أصْلهُ لغةً: المشقّة، يقال: جَهدْتُ جهاداً: بَلغْت
المشقّة. وشرعاً: بَذْل الجهد في قتال الكُفّار، وتقع مجاهدة الكفار باليد
والمال واللسان والقلب (1).
إيحابه:
قال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله-:
"هذا إيجابٌ من الله -تعالى- للجهاد على المسلمين أن يكفّوا شرَّ الأعداء
عن حوزة الإسلام.
وقال الزهري: الجهاد واجب على كل واحد، غزا أو قعَد، فالقاعد عليه إِذا
استُعين أن يُعين، وإذا استُغيث أن يُغيث، وإذا استُنفر أن يَنْفِر، وإنْ
لم يُحتَجْ إليه قعَد.
ولهذا ثَبَت في "الصحيح" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث به
نفسه؛ مات على شُعبة من نفاق" (3).
__________
(1) "الفتح" بتصرف يسير.
(2) البقرة: 216.
(3) أخرجه مسلم: 1910.
(7/8)
وقال- عليه الصلاة والسلام- يوم الفتح: "لا
هجرة، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استُنفرتم فانفروا" (1).
الجهاد فرضُ كفاية إذا قام به قومٌ سقط عن الباقين
جاءفي "المغني" (10/ 364):
"معنى فرضِ الكفاية، الذي إنْ لم يقم به من يَكْفي، أَثِم النّاس كلهم،
وإنْ قام به من يكفي، سقَط عن سائر النّاس.
فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثمّ يختلفان في أن فرض
الكفاية يسقط بفعل بعض النّاس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفِعل غيره،
والجهاد من فروض الكفايات؛ في قول عامّة أهل العِلم.
وحُكي عن سعيد بن المسيب، أنه مِن فروض الأعيان؛ لقول الله -تعالى-:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال: {إلاَّ تنفروا يُعَذِبْكُم
عَذَابًا أَليماً} (3).
وقوله -سبحانه-: {كُتِبَ عَليكمُ القِتَالُ} (4).
ورَوَى أبو هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من مات ولم يغزُ،
__________
(1) أخرجه البخاري: 1834، ومسلم: 1353.
(2) التوبة: 41.
(3) التوبة: 39.
(4) البقرة: 216.
(7/9)
ولم يحدِّثْ نفسه بالغزو، مات على شعبة من
النفاق" (1).
ولنا قول الله -تعالى-: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (2).
وهذا يدلّ على أنّ القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله -تعالى-:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (3).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَ بَعْثاً إلى بني لحِيان من هذيل، فقال: لينبعِثْ
مِن كل رجلين أحدهما، والأجرُ بينهما" (4).
ولأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا،
ويقيم هو وسائر أصحابه.
فأمّا الآية التي احتجّوا بها، فقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:
"نَسَخَها قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً} (5).
ويُحتمل أنه أراد حين استنفَرَهم النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى غزوة تبوك، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبةً عليهم، ولذلك هجر
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كعب بن مالك وأصحابه الذين
خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفَرَه الإمام؛
__________
(1) تقدّم.
(2) النساء: 95.
(3) التوبة: 122.
(4) أخرجه مسلم: 1896.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2187).
(7/10)
لقول النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إذا استُنفرتم فانفروا" (1).
ومعنى الكفاية في الجهاد: أن ينهض للجهاد قوم يَكْفُون في قتالهم؛ إمّا أن
يكونوا جندا لهم دواوين (2) من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له
تبرعاً؛ بحيث إذا قَصَدَهم العدو حصلَت المنَعَة بهم، ويكون في الثغور من
يدفع العدوَّ عنها، ويُبعَث في كل سنة جيش يغيرون على العدوِّ في بلادهم".
متى يتعيّن الجهاد (3)
يتعيّن الجهاد في ثلاثة مواضع:
أحدها، إذا التقى الزحفَان، وتقابَل الصفّان؛ حَرُم على مَن حَضَر
الانصراف، وتعيّن عليه المُقام، لقوله -تعالى-: {يا أيُّهُا
اَلَذِينَءَامَنُوا إذَا لَقِيتُم فِئَةَ فَاثبُتُوا وَاَذكرُوا الله
كثِيراً} (4).
وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (5).
وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (6).
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) الدفتر الذي يُكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. "النّهاية".
(3) انظر "المغني" (13/ 8).
(4) الأنفال: 45.
(5) الأنفال: 46.
(6) الأنفال: 15 - 16.
(7/11)
الثاني: إذا نَزل الكفار ببلدٍ، تعيَّن على
أهله قتالهم ودَفْعُهم.
الثالث: إذا استنفَر الإمام قوماً لزِمهم النفير معه؛ لقوله -تعالى-: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1).
وقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا استُنفرتم
فانفروا" (2).
ماذا يُشترَط لوجوب الجهاد (3):
ويُشتَرط لوجوب الجهاد سبعة شروط:. الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية،
والذكوريّة، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة.
فأمّا الإسلام والبلوغ والعقل، فهي شروطٌ لوجوب سائر الفروع، ولأنَّ الكافر
غير مأمونٍ في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبيُّ ضعيفُ
البِنية.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ النَبِى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَرَضَهُ يَوْمَ أحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
فَلَمْ يُجِزْهُ وَعَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ؛ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ" (4).
وأمّا الحريّة فتُشتَرط؛ لِما رُوي أنَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يبايع الحرَّ على الإسلام
__________
(1) التوبة: 38، 39.
(2) تقدم تخريجه.
(3) "المغني" (13/ 8) بتصرف.
(4) أخرجه البخاري: 4097 واللفظ له، ومسلم: 1868.
(7/12)
والجهاد (1)، ويبايع العبد على الإسلام دون
الجهاد، ولأنَّ الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم تجب على العبد كالحج.
وأمّا الذكورية فتُشتَرط؛ لما رَوَت عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سأله نساؤه عن الجهاد فقال:
"نِعْمَ الجهاد الحجّ" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها أيضاً- أنَّها قالت: "يا رسول الله، نرى الجهاد
أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حجٌّ مبرور" (3).
وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- أَنَّها قالت: "يغزُو الرجال ولا تَغْزُو
النساء وإنَّما لنا نصف الميراث، فأنزَل الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا
تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اَللهُ به بَعضَكُم عَلى بَعضٍ} (4) " (5).
ولا يجب على خُنثى مُشْكِل؛ لأنه لا يُعلَم كونُه ذَكَراً، فلا يجب مع الشك
في شرطِه.
وأمّا السلامة مِن الضرر. فمعناه السلامة مِن العمى والعَرَج والمرَض، وهو
شرط؛ لقول الله -تعالى-: {ليسَ على الأعمى حَرَجٌ وَلَا عَلَى اَلأَعرَجِ
حرجٌ وَلَا عَلَى اَلمَرِيضِ حَرَجٌ} (6).
__________
(1) قلت لعموم النّصوص الواردة في البيعة على الجهاد، وستأتي بإذن الله
-تعالى-.
(2) أخرجه البخاري: 2876.
(3) أخرجه البخاري: 1520.
(4) النساء: 32.
(5) أخرجه الترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (2419).
(6) النور: 61.
(7/13)
ولأنّ هذه الأعذار تمنعه من الجهاد؛ فأمّا
العَمَى فمعروف، وأمّا العَرَج، فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي
الجيِّدَ والرُّكوب؛ كالزَّمَانَة (1) ونحوها.
وأمّا اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي، وإنما يتعذر عليه شدة
العَدْو؛ فلا يَمنَع وجوب الجهاد؛ لأنه يَتَمكن منه، فشابَه الأعور.
عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "أتى عمرو بنُ الجَمُوحِ إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إنْ
قَاتَلْتُ في سبيل الله حتى أُقتل! أَمشي برجلي هذه صحيحةً في الجنة؟ وكانت
رِجْلُه عَرْجاءَ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
نعم، فَقُتلوا يوم أُحُد: هو وابنُ أخيه ومولىً لهم، فَمَرَّ عليه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كأني أنظرُ إليك تمشي
بِرِجْلِك هذه صحيحةً في الجنةِ، فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهما وبمولاهما، فَجُعِلوا في قبر واحدٍ" (2).
وكذلك المرض المانع هو الشديد، فأمَّا اليسير منه الذي لا يمنع إمكان
الجهاد؛ كوجع الضرس والصداع الخفيف، فلا يَمنَع الوجوب؛ لأنه لا يتعذَّرُ
معه الجهاد؛ فهو كالعَوَر.
وأمّا وجود النفقة، فيُشترط؛ لقول الله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (3).
ولأنَّ الجهاد لا يمكن إلاَّ بآلة، فيُعتبر القدرة عليها.
__________
(1) الزّمانة: مرضٌ يدوم.
(2) أخرجه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ، كذا في "أحكام الجنائز" (ص 185).
(3) التوبة: 91.
(7/14)
فإنْ كان الجهاد على مسافة لا تُقصَر فيها
الصلاة؛ اشتُرط أن يكون واجداً للزاد، ونفقة عائلته في مدة غيبته، وسلاح
يقاتل به، ولا تُعتَبر الرّاحلة؛ لأنّه سفر قريب.
وإنْ كانت المسافة تُقصَر فيها الصلاة، اعتُبِر مع ذلك الراحلة؛ لقول الله
- تعالى-: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (1).
متى تُشرع الحرب (2)
تُشرع الحرب في حالة الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن؛ عند
الاعتداء.
يقول الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} (3).
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد" (4).
وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه، فهو
شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن
__________
(1) التوبة: 92.
(2) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 394) بتصرف وزيادة.
(3) البقرة: 190.
(4) أخرجه البخاري: 2480، ومسلم: 141.
(7/15)
قتل دون أهله فهو شهيد" (1).
ويقول الله -سبحانه-: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (2).
وتُشرع الحرب أيضاً؛ حالةَ الدفاع عن الدعوة إلى الله، إذا وقَف أحدٌ في
سبيلها بتعذيبِ مَنْ آمَن بها، أو بصدِّ مَن أراد الدخول فيها، أو بمنع
الداعي مِن تبليغها، لقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ *وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ
مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ *
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (3).
وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي:
1 - الأمر بقتال الذين يبدؤون بالعدوان، ومقاتلة المعتدين، لكفّ عدوانهم.
2 - أمّا الذين لا يبدؤون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم ابتداءً، لأنّ الله
-تعالى- نهى عن الاعتداء، وحرّم البغيَ والظلمَ في قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"أحكام الجنائز" (ص 57).
(2) سورة البقرة: 246.
(3) سورة البقرة: 190 - 193.
(4) البقرة: 190.
(7/16)
3 - وتعليل النهي عن العدوان، بأنّ الله لا
يُحب المعتدين، دليل على أنَّ هذا النهي محُكم غير قابل للنسخ، لأنّ هذا
إخبار بعدم محبة الله للاعتداء، والإخبار لا يدخله النسخ؛ لأنَّ الاعتداء
هو الظلم، والله لا يحبُّ الظلم أبداً.
4 - أنّ لهذه الحرب المشروعة غاية تنتهي إليها، وهي منع فتنةِ المؤمنين
والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حريّاتهم؛ ليمارسوا عبادة الله ويقيموا
دينه، وهم آمِنون على أنفسهم مِن كلّ عدوان.
ويقول الله -سبحانه-: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ
الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (1).
وقد بيَّنَت هذه الآية سببين مِن أسباب القتال:
(أولهما) القتالُ في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا
تكونَ فتنة، ويكون الدين لله.
(وثانيهما) القتال لنُصرة المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا
الهجرة، فعذَّبَتْهم قريش، وفَتَنَتْهم حتى طلبوا من الله الخلاص، فهؤلاء
لا غِنى لهم عن الحماية التي تَدفعُ عنهم أذى الظالمين، وتمُكّنهم مِن
الحرية، فيما يدينون ويعتقدون.
ويقول الله -سبحانه-: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا
__________
(1) النساء: 75.
(7/17)
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلًا} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله-:
"هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى
المصاف، وهم حَصِرَةٌ صدورهم، أي: ضيّقةٌ صدورهم مُبْغضين أن يقاتلوكم، ولا
يَهونُ عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم.
{ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} أي: من لُطفه بكم أن كفَّهم عنكم
{فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم} أي: المُسالمة {فَما
جَعَلَ الله لكم عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: فليس لكم أن تقتلوهم، ما دامت
حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر مِن بني هاشم مع
المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس ونحوه". انتهى
فهؤلاء القوم الذين لم يقاتِلوا قومهم، ولم يقاتِلوا المسلمين واعتزلوا
محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالاً حقيقياً؛ يُريدون به السلام،
فهؤلاء لا سبيلَ للمؤمنين عليهم.
ويقول الله- تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا (2) لِلسَّلْمِ (3) فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} (4).
ففي هذه الآية الأمر بالجنوح إلى السَّلم؛ إذا جنح العدو إليها، حتى ولو
__________
(1) النساء: 90.
(2) جنحوا: أي مالوا. وانظر "تفسير ابن كثير".
(3) السَّلم: أي المسالمة والمصالحة والمهادنة. وانظر "تفسير ابن كثير".
(4) الأنفال: 61 - 62.
(7/18)
كان جنوحه خِداعاً ومكراً [قلتُ: ويرجع هذا
إلى تقدير الإمام مراعاةً لمصلحة المسلمين ولما يقتضيه الحال].
وقد شرع الله -تعالى- قتال المشركين من العرب، وكانوا قد نكثوا الأيمان
ونقضوا العهود وهمّوا بإخراج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، قال الله -تعالى-: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
ولمّا تجمّعوا جميعاً ورَمَوا المسلمين عن قوس واحدة، أمَرَ الله بقتالهم
جميعا؛ كما في قوله -سبحانه-: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
(2).
مراتب الجهاد
*لمَّا كان الجِهاد ذِروةَ سنامِ الإسلام وقُبّتَه، ومنازل أهلِه أعلى
المنازل في الجنة، كما لهم الرِّفعةُ في الدنيا، فهم الأعْلَوْنَ في الدنيا
والآخرةِ، كان رسول الله في الذِّروة العُليا منه، واسْتولى على أنواعه
كلِّها فجاهدَ في الله حقَّ جهاده؛ بالقلبِ، والجنانِ، والدعوةِ، والبيانِ،
والسيفِ، والسِّنانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه،
ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكْراً، وأعظمَهم عند الله قَدْراً.
__________
(1) التوبة: 13 - 15.
(2) التوبة: 36.
(7/19)
وأمَرَه الله -تعالى- بالجهاد مِن حين
بعثَه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا *
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1).
فهذه سورة مكيّة أَمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجَّة، والبيان، وتبليغِ
القرآن، وكذلك جهادُ المنافقين، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فَهُم تحت
قهر أهلِ الإسلام، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2). فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد
الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّه، ووَرَثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ
في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه -وإنْ كانو اهم الأقلِّين
عدداً- فهم الأَعْظمون عند الله قَدْراً.
ولمَّا كان مِن أفضلِ الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعَارِضِ، مِثل انْ
تتكلَّم به عند مَن تُخاف سطوتُه وأذاه، كان للرسلِ -صلوات الله عليهم
وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبيِّنا -صلوات الله وسلامُه
عليه- مِن ذلك أكملُ الجهاد وأَتّمُّه.
ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج؛ فَرْعاً على جهاد العبد نفسه في ذات
اللهِ، وكما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المجاهدُ
مَنْ جَاهدَ نفسَهُ في طاعةِ الله (3)، والمُهاجِر مَنْ هَجَرَ
__________
(1) الفرقان: 51، 52.
(2) التوبة: 73.
(3) أقول: وبهذا فجهاد أعداء الله -تعالى- في الخارج مفتقرٌ إلى جهاد
النفس، ولا يُقبَل الجهاد، ولا تُنالُ الشهادة في سبيل الله -سبحانه- إلاَّ
بمجاهدة النفس، وتجريدها مِن الحظوظ والهوى، فرُبَّ رجلٍ قُتِل في الميدان؛
سُحِب على وجهه في النار يوم القيامة، لأنه قاتَل رياءً وسمعةً، ورُبَّ
رجلٍ مات على فراشه لمرضٍ أو عذرٍ؛ بلَّغه الله منازل الشهداء لإخلاصه
وَصِدْقِه.
(7/20)
ما نهى الله عنه" (1). كان جهادُ النفس
مُقَدَّماً على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له، فإنَّه ما لم يجاهِد
نفسه أوّلاً لتَفْعلَ ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهِيَتْ عنه، ويُحارِبْها
في الله، لم يُمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج. فكيف يمكنُه جهاد عدوِّه
والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم
يُجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوّه؛ حتى يجاهِدَ
نفسه على الخروج.
فهذان عدوَّان قد امْتُحِن العبد بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالث لا يمكنه
جهادُهما إلاَّ بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط العبدَ عن جهادهما،
ويُخذِّلُه ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّلُ له ما في جهادهما من المشاقِّ
وترْك الحظوظ وفَوْتِ اللذاتِ والمشتهيات ولا يُمكنه أن يجاهِدَ ذَيْنكَ
العدوَّيْن إلاَّ بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان.
قال -تعالى-: {إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخِذُوُه عَدُوّاً} (2).
والأمر باتخاذه عدوّاً تنبيهٌ على استفراغ الوُسع في محاربته ومجاهدته،
كأنَّه عدوٌّ لا يَفْتُر ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.
فهذه ثلاثة أعداء أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في
هذه
الدار، وسلَّطتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى الله العبدَ
مَدَداً وعُدَّةً
وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مَدَداً وعُدَّةً وأعواناً
وسلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر وجعل بعضَهم لبعض فتنةَ لِيَبْلُوَ
أخبارهم، ويمتحن من يتولَّاه ويتولَّى رسُلَه، ممن يتولّى الشيطان وحزبه،
كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (549).
(2) فاطر: 6.
(7/21)
لبعضٍ فتنةً أتصبرون وكان ربك بصيراً} (1)،
وقال -تعالى-: {ذَلِكَ وَلَو يشاء الله لَاَنتصَرَ منهُم ولكن ليبلوا بعضكم
ببعضٍ} (2)، وقال -تعالى-: {ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونبلوا
أخباركم} (3). فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعقول والقُوى، وأنزل
عليهم كُتبه، وأرسل إليهم رسُله، وأمدّهم بملائكته، وقال لهم: {أني معكم
فثبتوا الذين آمنوا} (4)، وَأَمَرَهُم مِن أمره بما هو مِن أعظم العون لهم
على حرب عدوِّهم، وأخبَرَهم أنهم إنِ امتثلوا ما أمَرَهم به؛ لم يزالوا
منصورين على عدوِّه وعدوِّهم، وأنه إِنْ سلَّطه عليهم فلِتَرْكِهم بعضَ ما
أُمِروا به؛ ولمِعصيتهم له، ثمّ لم يُؤْيسهُم، ولم يُقَنِّطْهُم، بل
أَمَرَهُم أن يستقْبِلوا أمْرَهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويعودوا إلى مناهضة
عدوِّهم فينصرهم عليهم، ويظفرهم بهم، فأخبَرَهُم أنه مع المتقين منهم، ومع
المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين، وأنَّه يُدافع عن عباده المؤمنين ما
لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه
عنهم؛ لتخطَّفَهم عدوُّهم واجتاحَهم ...
وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قدْرِه، فإنْ قَوِيَ الإيمانُ
قويتِ المدافعة، فمَنْ وجد خيراً، فليحمد الله، ومَن وجد غيرَ ذلك، فلا
يلومنَّ إلاَّ نفسه.
وأمَرَهم أنْ يُجاهدوا فيه حقّ جهاده، كما أمَرَهم أن يتَّقوه حقَّ تقاته.
وكما أن حقّ تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا
يُكفر، فحقُّ جهادِه أن يجاهد العبد نفسه؛ لِيُسلِم قلبَه ولسانَه وجوارحَه
لله، فيكون كلُّه لله، وبالله، لا
__________
(1) الفرقان: 20.
(2) محمد: 4.
(3) محمد: 31.
(4) الأنفال: 12.
(7/22)
لنفسِه ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذيبِ
وعده، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانيِّ، ويمنِّي
الغرور، ويعِدُ الفقرَ، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى والعفةِ
والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كلِّها، فجاهده بتكذيب وعْدِه، ومعصية أمره،
فينشأ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطانٌ، وعُدَّةٌ يجاهد بها أعداء الله في
الخارج؛ بقلبه ولسانه ويده ومالهِ، لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا.
واختلفَت عبارات السلف في حقِّ الجهاد:
فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو استفراغ الطاقة فيه، وألاَّ يخافَ في
الله لومةَ لائم. وقال مُقاتل: اعملوا لله حقَّ عمَلِه، واعبدُوه حقَّ
عبادته. وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدةُ النفس والهوى.
ولم يُصِبْ مَن قال: إنَّ الآيتين منسوختان؛ لظنِّه أنّهما تضمَّنَتا الأمر
بما لا يُطاق، وحقّ تقاته وحقّ جهاده: هو ما يُطيقه كلُّ عبد في نفسه، وذلك
يختلف باختلافِ أحوال المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم والجهل. فحقُّ
التقوى وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيءٌ، وبالنسبة إلى
العاجز الجاهل الضعيف شيءٌ.
وتأمَّل كيف عقَّب الأمرَ بذلك بقوله: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عليكم في
الدين مِنْ حَرَجٍ} (1)، والحَرَج: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسعاً يَسَعُ
كلَّ أحدٍ، كما جَعل رزقه يَسَعُ كلَّ حي، وكلَّف العبد بما يسَعه العبدُ،
ورَزَق العبدَ ما يسَعُ العبد، فهو يسَعُ تكليفَه وَيَسَعُهُ رزقُهُ، وما
جعَل على عبده في الدين مِن حَرَجٍ بوجه ما.
وقد وسَّع الله -سبحانه وتعالى- على عباده غايةَ التَّوسِعة في دينه،
ورِزْقِه،
__________
(1) الحج: 78.
(7/23)
وعفْوِه، ومغفرته، وبسَطَ عليهم التوبة ما
دامت الروحُ في الجسد، وفتَحَ لهم باباً لها لا يُغْلِقُهُ عنهم إلى أنْ
تطلُعَ الشمسُ مِن مغربها، وجعلَ لكلِّ سيئةٍ كفَّارةً تكفِّرها؛ مِن توبة،
أو صدقة، أو حسنة ماحية، أو مصيبة مُكفِّرة، وجعَل بكلِّ ما حرَّم عليهم
عِوضاً مِن الحلال أنفعَ لهم منه، وأطيبَ وألذَّ، فيقومُ مقامَه ليستغني
العبد عن الحرام، ويسعه الحلال، فلا يَضيقُ عنه، وجعَل لكل عُسرٍ يمتحنُهم
به يُسراً قبله، ويُسراً بعده ... ، فإذا كان هذا شأنه -سبحانه- مع عباده،
فكيف يُكلِّفُهم ما لا يَسَعُهُم فضلاً عمَّا لا يُطيقونه ولا يقدرون عليه.
إذا عُرف هذا، فالجهادُ أربعُ مراتبَ: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد
الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً:
إحداها: أنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودينِ الحقِّ الذي لا فلاح لها،
ولا سعادة في معاشها ومعادها إلاَّ به، ومتى فاتها عِلْمُه شقيت في
الدَّارين.
الثانية: أنْ يُجاهدَها على العمل به بعد عِلْمِه، وإلا فمُجرَّدُ العلم
بلا عمل إنْ لم يضرَّها لم ينفعها.
الثالثة: أنْ يُجاهدَها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يَعْلَمهُ،
وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله مِن الهدى والبينات، ولا ينفعهُ
عِلْمه، ولا يُنْجِيه مِن عذاب الله.
الرابعة: أنْ يُجاهدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق،
ويتحمّلَ ذلك كلَّه لله.
فإذا استكمَل هذه المراتب الأربع، صار من الرّبَّانيين، فإنَّ السلف
مُجْمِعُون
(7/24)
على أنَ العَالِم لا يستحقُّ أن يُسمَّى
ربّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويعلِّمَه، فمَن عَلِمَ وعَمِلَ
وعلَّم؛ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوتِ السماوات.
وأمَّا جهاد الشيطان فمرتبتان:
إحداهما: جهادُه على دَفْعِ ما يُلقي إلى العبد؛ مِن الشُّبُهات والشكوك
القادحة في الإيمان.
الثانية: جهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهادُ الأول يكون بعدَه اليقين، والثاني يكون بعدَه الصبر. قال -تعالى-:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1)، فأخبَرَ أنَّ إمامة الدين، إنَّما
تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يَدْفَع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقين
يدفع الشكوك والشبهات.
وأمَّا جهاد الكُفّار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال،
والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.
وأمَّا جهادُ أرباب الظلم والبِدَعِ والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليدِ إذا قَدِرَ، فإنْ عَجَزَ، انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ،
جاهَد بقلبه، فهذه ثلاثةَ عشرَ مرتبةً مِن الجهاد، و"مَن مَاتَ ولَم يغْزُ،
ولم يُحدِّث نفسه بالغزْوِ، مات على شعبةٍ من النفاق" (2).
ولا يتمُّ الجهادُ إلاَّ بالهجرةِ، ولا الِهجرة والجهادُ إلاَّ بالإيمان،
والرّاجُون
__________
(1) السجدة: 24.
(2) أخرجه مسلم: 1910.
(7/25)
رحمةَ الله هم الذين قاموا بِهذِهِ
الثلاثة. قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
وكما أنَّ الإيمان فرض على كلّ أحد، ففرْضٌ عليهِ هجرتان في كل وقت:
هجرةٌ إلى الله -عزَّ وجلَّ- بالتوحيدِ، والإخلاص، والإنابة، والتَّوكُّلِ،
والخوفِ، والرجاءِ، والمحبةِ، والتوبةِ.
وهجرةٌ إلى رسوله بالمتابعة، والانقيادِ لأمره، والتصديق بخبرِه، وتقديم
أمرِه وخبرِه على أمرِ غيرِه وخبرِه: "فمن كانت هجرتُهُ إلى الله ورسوله،
فهجرتُهُ إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُهُ إلى دُنيا يصيبها، أو امرأةِ
يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (2).
وفَرَضَ عليه جهاد نفسِه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كُلُّهُ فرضُ
عينٍ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحدِ.
وأمَّا جهادُ الكُفار والمنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعضِ الأمَّةِ إذا حصلَ
منهم مقصود الجهاد. وأكمل الخلق عند الله، مَن كَمَّلَ مراتبَ الجهاد
كُلَّها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد،
ولهذا كان أكمل الخلقِ وأكرمهم على الله، خاتِم أنبيائه ورسلِهِ، فإنَّه
كمَّل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وشَرع في الجهاد من حين
بُعِثَ إلى أن توفاه الله -عزَّ وجلَّ-* (3).
__________
(1) البقرة: 218.
(2) البخاري: 1، ومسلم: 1907.
(3) ما بين نجمتين من "زاد المعاد" (3/ 5 - 12).
(7/26)
الإخلاص في الجهاد
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكل امرئٍ ما
نوى" (1). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجل يُقاتِل للمَغْنَم، والرجل
يُقاتل للذِّكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانُه، فمَن في سبيل الله، قال: مَن
قَاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رجلا قال: "يا رسول الله رجلٌ يُريد
الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرَضَاً (3) من عرَض الدنيا؟ فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أجر له، فأعظَمَ ذلك الناس
وقالوا للرجل: عُد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعلك
لم تُفَهِّمْهُ، فقال: يا رسول الله، رجل يُريد الجهاد في سبيل الله، وهو
يبتغي عرَضاً من عرَض الدنيا، فقال: لا أجر له، فقالوا للرجل: عُد لرسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له الثالثة، فقال له: لا
أجر له" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
(2) أخرجه البخاري: 2810، ومسلم: 1904.
(3) قال القاري -رحمه الله- في المرقاة (7/ 406): "عَرَضاً -بفتح الراء
وُيسكن- قيل العَرَض -بالتحريك-: ما كان من مالٍ قلَّ أو كَثُر، والعَرْض
-بالتسكين-: المتاع، وكلاهما هنا جائز، وكل شيء فهو عرض، سوى الدراهم
والدنانير، فإنها عين [والمعنى:] يطلب شيئاً".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2196)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2943)، وانظر "الصحيحة" (52).
(7/27)
عذاب من يرائي في
جهاده
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ النّاس يُقْضَى يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ
نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ: قَاتَلْتُ
فِيكَ حَتَى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ
يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى
وَجْهِهِ، حَتَى أُلقِيَ فِي النَارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ
بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا،
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ،
قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ ليقالَ عَالِمٌ،
وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيقالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ
بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المالِ
كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا
عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ
فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ
ليُقالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى
وَجْهِهِ، ثُم أُلقِيَ فِي النارِ" (1).
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن غزا في سبيل الله ولم ينو إلاّ عقالاً، فله
ما نوى" (2).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1905.
(2) أخرجه النسائي وابن حبَّان في "صحيحه"، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله-
في "صحيح الترغيب والترهيب" (1334).
(7/28)
الترهيب من أن يموت
الإنسان ولم يغزُ (1)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مات ولم يَغزُ، ولم يُحدِّث به نفسه، مات على شعبة
من نفاق" (2).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من لم يغزُ أو يُجهِّز غازياً، أو يخلِف غازياً في أهله
بخير، أصابه الله تعالى بقارعةٍ قبل يوم القيامة" (3).
وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ما ترَك قومٌ الجهاد؛ إلّا عمّهُم الله بالعذاب" (4).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تبايعتم بالعينة (5)، وأخذتم أذناب البقر (6)،
ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله
__________
(1) هذا العنوان من كتاب "الترغيب والترهيب" للمنذري -رحمه الله-.
(2) أخرجه مسلم: 1910.
(3) أخرجه أبو داود وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (139).
(4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"
(1392)، و"الصحيحة" (2663).
(5) العِينَة: هو أن يبيع مِن رجُلٍ سلعة بثمنٍ معلوم؛ إلى أجلٍ مسمَّى، ثم
يشترِيها منه بأقلَّ من الثمن الذي باعها به ... وسُمِّيت عِينَة لحصول
النقد لصاحب العينة؛ لأنَّ العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنّما
يشتريها ليبيعها بعينٍ حاضرة؛ تَصِلُ إليه معجّلة. "النّهاية". وتقدّم.
(6) كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. "فيض القدير".
(7/29)
عليكم ذُلاًّ لا ينزِعُهُ حتى ترجعوا إلى
دينكم" (1).
الجهاد في سبيل الله تجارة مُنجية
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2).
الجهاد من أفضل الأعمال عند الله -تعالى- وأَحبِّها إليه
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "سُئل أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثمّ
ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ" (3).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّ العمل أحبّ إلى الله -تعالى-؟ قال: الصلاة على
وقتها، قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: برّ الوالدين، قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: الجهاد في
سبيل الله" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم
(11).
(2) الصف:10 - 13.
(3) أخرجه البخاري: 26، ومسلم: 83.
(4) أخرجه البخاري: 527، ومسلم: 85.
(7/30)
الجنة تحت ظلال
السيوف
عن أبي بكر بنِ أبي موسى الأشعري قال: "سمعت أبي -رضي الله عنه- وهو بحضرة
العدوّ يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ
أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف فقام رجل رثُّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى آنت
سمعْتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول هذا؟ قال:
نعم، قال فرَجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثمّ كسَر جَفْن سيفه
(1) فألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدو، فَضَرب به حتى قُتل" (2).
لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنّم
عن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما اغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسَّهُ
النار" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلِجُ النار رجل بكى من خشية الله -تعالى- حتى
يعود اللبن في الضَّرع، ولا يجتمع على عبد غُبارٌ في سبيل الله ودُخان
جهنّم" (4).
يُنجّي الله -تعالى- بالجهاد من الهمّ والغمّ
عن عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "جاهِدوا في
__________
(1) أي: غمده أو غلافه.
(2) أخرجه مسلم: 1902.
(3) أخرجه البخاري: 2811.
(4) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" برقم (1269).
(7/31)
سبيل الله القريب والبعيد، في الحضر
والسفر، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، إنّه لينجّي الله -تبارك وتعالى-
به من الهمّ والغمّ" (1).
المجاهد أفضل النّاس
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قيل: يا رسول الله أيّ النّاس
أفضل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مؤمنٌ يجاهد
في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثمّ مَن؟ قال: مؤمنٌ في شِعب (2) من
الشعاب، يتقي الله ويَدَعُ النّاس من شرّه" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنّه قال: "مِن خير معاش (4) الناس لهم؛ رجلٌ مُمسكٌ عِنان (5)
فَرَسه في سبيل الله يطيرُ، على متنه، كلمّا سمع هيْعَة (6) أو فزْعَة (7)؛
طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه (8)، أو رجلٌ في
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (770).
(2) ما انفرَج بين جبلين، وليس المراد نفس الشِّعب خصوصاً، بل المراد
الانفراد والاعتزال. "شرح النّووي".
(3) أخرجه البخاري: 2786، مسلم: 1888.
(4) المعاش: هو العيش وهو الحياة، وتقديره -والله أعلم- مِن خير أحوال
عيشهم رجل ممسك. انظر "شرح النّووي".
(5) العِنان: سيرُ اللجام.
(6) الهيعة: الصوت عند حضور العدو.
(7) الفزعة: النهوض إلى العدو.
(8) يبتغي القتل مظانّه: يطلُبه في مواطنه التي يُرجى فيها لشدّة رغبته في
الشهادة. "شرح النّووي".
(7/32)
غُنيمة (1) في رأس شعَفَة (2) من هذه
الشَّعَف، أو بطن وادٍ من هذه الأودية، يُقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبُد
ربّه، حتى يأتيه اليقين، ليس من النّاس إلاّ في خير" (3).
ذِكر التسويةِ بين طالب العلم ومعلِّمهِ وبين المجاهدِ في سبيل الله (4)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "مَن جاء مسجدي هذا، لم يأتِهِ إلاَّ لخير يتعلَّمُه، أو يُعلِّمه؛
فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله، ومَن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل
ينظُر إلى متاع غيرِه" (5).
أي القتل أشرف
عن عبد الله بن حبشي الخثعمي -رضي الله عنه- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: أي القتل أشرف؟ قال: من أُهريق دمه وعُقِر
جواده" (6).
مقام الرجل في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته
سبعين عاماً
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "مرّ رجلٌ مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) الغُنيمة: تصغير الغَنم، أي قطعة منها. "شرح النّووي".
(2) شَعَفَةُ كلّ شيء أعلاه، يريد به رأس جبلٍ من الجبال، "النّهاية".
(3) أخرجه مسلم: 1989.
(4) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان"، انظر "التعليقات الحِسان" (1/ 203).
(5) أخرجه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (87)،
و"التعليقات الحِسان" (87).
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1286)، وابن ماجه بلفظ: أي الجهاد
أفضل، "صحيح سنن ابن ماجه" (2253)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2366)،
وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1318).
(7/33)
بشِعبٍ فيه عُيَيْنَة مِن ماء عذبة،
فأعجَبَتْه لطيبها، فقال: لو اعتزلْتُ الناس فأقمتُ في هذا الشعب، ولن أفعل
حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَر ذلك
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا تفعل، فإنّ
مَقام (1) أحدكم في سبيل الله أفضل مِن صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا
تحبون أن يغفر الله لكم ويُدخلَكم الجنة، اغزو في سبيل الله، من قاتل في
سبيل الله فُواق ناقةٍ (2) وجَبت له الجنّة" (3).
وعن عمرانَ بنِ حصين -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَقام الرجل في الصف في سبيل الله؛ أفضل عند
الله من عبادة الرجل ستين سنة" (4).
للمجاهد في الجنّة مائة درجة
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أبا سعيد، من رضي بالله ربّاً وبالإسلام
ديناً، وبمحمد نبيّاً؛ وجبَت له الجنة، فعَجِب لها أبو سعيد، فقال: أعِدها
عليّ يا رسول الله ففَعل، ثمّ قال: وأخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في
الجنة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول
الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله" (5).
__________
(1) قال العلاّمة القاري -رحمه الله- في "المرقاة" (7/ 393): "بفتح الميم،
أي قيامه، وفي نسخة: بضمّها، وهي الإقامة، بمعنى ثبات أحدكم".
(2) قدْر ما بين الحلبتين وتُضَمّ فاؤُه وتُفتَح. "النّهاية".
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1348) وحسَّن شيخنا -رحمه الله-
إسناده في "المشكاة" (3830).
(4) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وصححه لغيره شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1303).
(5) أخرجه مسلم 1884.
(7/34)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله: "إنّ في الجنّة مائَة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل
الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوهُ
الفردوس، فإنّه أوسط الجنّة، وأعلى الجنّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه
تَفَجَّر أنهار الجنّة" (1).
ما يعدِل الجهاد في سبيل الله -عزّ وجلّ-؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قيل للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله- عز وجل-؟ قال: لا تستطيعونه
(2)، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كلّ ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال
في الثالثة: مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت (3)
بآيات الله، لا يفتر مِن صيامِ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله
-تعالى-" (4).
فضل الشهادة في سبيل الله -سبحانه-
قال الله -تعالى-: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ
أَمْواَتَاً بَل أَحْيَاءٌ عَندَ رَبِهِمْ
__________
(1) أخرجه البخاري: 2790.
(2) وردت بالنون وحذْفها، قال الإمام النّووي -رحمه الله-: " ... هكذا هو
في مُعظم النُّسخ: (لا تستطيعوه) وفي بعضها (لا تستطيعونه) -بالنون-، وهذا
جارٍ على اللغة المشهورة، والأول صحيح أيضاً، وهي لغة فصيحة حذْف النون من
غير ناصب ولا جازم، وقد سبَق بيانها ونظائرها مرات".
(3) القانت: أي المطيع.
(4) أخرجه البخاري: 2785، ومسلم: 1878. واللفظ له.
(7/35)
{يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لا يُكْلَم (2) أحدٌ في سبيل الله
-والله أعلم بمن يُكلَمُ في سبيله- إلاّ جاء يوم القيامة واللون لون الدم،
والريح ريح المسك" (3).
وعن مسروق قال: "سألنا عبد الله- هو ابن مسعود- عن هذه الآية: {وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أمَا إنّا قد سأَلنْا عن
ذلك، فقال: أرواحهم في جَوف طيرٍ خُضْر، لها قناديلُ مُعلَّقة بالعرش،
تَسرَحُ من الجنة حيث شاءت، ثمّ تأوي إلما تلك القناديل، فاطلَع إليهم ربهم
اطِّلاعَة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي، ونحن نسرح من
الجنّة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلمّا رأوا أنهم لن يُترَكوا مِن
أن يسألوا؟ قالوا يا ربّ نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتَل في
سبيلك مرّة أخرى، فلمّا رأى أنْ ليس لهم حاجة تُرِكوا" (4).
وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "للشهيد
__________
(1) آل عمران: 169 - 171.
(2) أي: يُجرح.
(3) أخرجه البخاري: 2803، مسلم: 1876.
(4) أخرجه مسلم: 1887.
(7/36)
عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من
دمه، ويرى مقعده من الجنّة، ويُجار من عذاب القبر، ويَأمن الفَزع الأكبر،
ويُحلّى حِلية الإيمان، ويُزوّج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من
أقاربه" (1).
وعن رجلٍ من أصحاب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّ
رجلاً قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يُفتَنون في قبورهم إلاّ الشهيد؟
قال: كفى ببارقة السيوف (2) على رأسه فتنة" (3).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أنّ النبيّ مرَّ بخِباء (4) أعرابي، وهو في
أصحابه يريدون الغزو، فرفَع الأعرابي ناحيةً مِن الخِباء، فقال: من القوم؟
فقيل: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يُريدون
الغزو، فقال: هل مِن عرَض الدنيا يصيبون؟ قيل له: نعم، يصيبون الغنائم، ثمّ
تُقسَّم بين المسلمين.
فعمد إلى بَكْر (5) له فاعتقله (6)، وسار معهم فجعل يدنو ببَكْره إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجَعل أصحابه يذودون بَكْره
عنه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعوا لي
النجدي، فوالذي نفسي بيده؛ إنه لمن ملوك الجنّة.
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1358) وصححه، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (2257)، وأحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص
50).
(2) أي: لمعانها، يقال: برَق بسيفه، وأبرَق: إذا لمع به. "النّهاية".
(3) أخرجه النسائي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 50).
(4) الخِباء: بيتٌ صغيرٌ من صوفٍ أو شعَر. "لسان العرب".
(5) البكر: الفتيّ من الإبل، بمنزلة الغلام مِن الناس. "النّهاية".
(6) يُقال: اعتَقَل الشاة: هو أن يضَعَ رِجْلَها بين ساقه وفَخِذه، ثم
يحلبَها. وانظر "النّهاية".
(7/37)
قال: فلقوا العدو، فاستشهد، فأُخبر بذلك
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه فقعَد عند رأسه
مستبشراً -أو قال: مسروراً- يضحك، ثمّ أعرض عنه. فقلنا: يا رسول الله!
رأيناك مُستبشِراً تضحك، ثمّ أعرضْتَ عنه؟ فقال: أمّا ما رأيتم مِن
استبشاري -أو قال من سروري-، فلِما رأيتُ مِن كرامة روحِهِ على الله -عزّ
وجلّ-، وأمّا إعراضي عنه؛ فإنّ زوجته من الحور العين الآن عند رأسه" (1).
وعن مجاهد عن يزيد بن شجرة -وكان يزيد بن شجرة ممن يصدق قوله فعله-[قال:]
خطبنا فقال: "يا أيها النّاس، اذكروا نعمة الله عليكم، ما أحسن نعمة الله
عليكم، تُرى مِن بين أخضر وأحمر وأصفر، وفي الرحال (2) ما فيها. وكان يقول:
إذا صفَّ النّاس للصلاة، وصفَّوا للقتال، فُتِحتْ أبوابُ السماء وأبوابُ
الجنةِ، وغُلّقت أبواب النار، وزيِّن الحور العين واطّلعن، فإذا أقبل الرجل
قلن: اللهم انصره، وإذا أدبر احتَجَبْنَ منه، وقُلن: اللهم اغفر له،
فانهكوا وجوه القوم فدىً لكم أبي وأمي، ولا تخزوا الحور العين؛ فإن أول
قطرة تنضح من دمِه؛ يُكفّر عنه كل شيء عَمِلَه، وتنزل إليه زوجتان من الحور
العين، يمسحان التراب عن وجهه، ويقولان: قد أنى (3) لك، ويقول: قد أنى
لكما، ثمّ يُكسى مائة حُلّةٍ، ليس من نسيج بني آدم، ولكن من نَبْتِ الجنةِ،
لو وضعْنَ بين أصبعين لوسعن. وكان يقول: نبئتُ (4) أن السيوف مفاتيح
الجنّة" (5).
__________
(1) أخرجه البيهقي بإسنادٍ حسن، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1382).
(2) أي: الدور والمساكن والمنازل.
(3) أي: قد آن.
(4) قال شيخنا -رحمه الله-: كأنه يعني عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وقد جاء مرفوعاً من طُرُق، أحدها صحيح ... وقد خرّجتها في
"الصحيحة" (2672).
(5) أخرجه الطبراني وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب"
(1377).
(7/38)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سأَل جبرائيل عن هذه الآية
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (1). مَن الذين لم يشأ الله أن
يصعَقَهم؟ قال: هم شهداء الله" (2).
فضل الرباط في سبيل الله -تعالى-
عن سلمان -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يومٍ وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامِه، وإن مات جرى
عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجريَ عليه رزقُهُ (3)، وأمِن الفتّان (4) "
(5).
وعن فَضالة بن عبيد: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "كل ميتٍ يُختم على عمله، إلاَّ المرابط، فإنّه ينمو له عمله إلى يوم
القيامة، ويؤمّنُ من فتّان القبر" (6).
__________
(1) الزمر: 68.
(2) أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وصححه شيخنا -رحمه الله-: في "صحيح
الترغيب والترهيب" (1387).
(3) قال النّووي -رحمه الله تعالى-: "موافقٌ لقول الله -تعالى- في الشهداء
{أَحْيَاءٌ عَندَ رَبِّهِمْ يُرزَقُونَ} والأحاديث السابقة أنّ أرواح
الشهداء تأكل مِن ثمار الجنة".
(4) أي في القبر، والفتّان: جمع فاتن.
(5) أخرجه مسلم: 1913.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2182)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1322)، وصحح شيخنا -رحمه الله- إسناده في "المشكاة" (3823)،
وانظر "أحكام الجنائز" (ص 58).
(7/39)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان في
الرباط ففزعوا إلى الساحل، ثمّ قيل: لا بأس، فانصرف النّاس وأبو هريرة
واقفٌ، فمرّ به إنسان، فقال: ما يُوقفُك يا أبا هريرة! قال: سمعْتُ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: موقفُ ساعة في سبيل
الله؛ خير من قيام ليلة القدر، عند الحجر الأسود" (1).
وعن عثمانَ بنِ عفان -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رباط يوم في سبيل الله؛ خيرٌ من ألف
يوم فيما سواه من المنازل" (2).
فضل الرمي بنيّة الجهاد والتحريض عليه
عن عقبةَ بن عامر -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا
استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ}، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي، ألا
إنّ القوة الرمي" (3).
وعن عقبةَ بن عامر -رضي الله عنه أيضاً- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ستُفتح عليكم أرضون، ويَكفيكم الله،
فلا يَعجَزْ أحدكم أن يلهو بأسهمه" (4).
__________
(1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله-
في "صحيح الترغيب والترهيب" (1223).
(2) أخرجه النسائي وغيره، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1224).
(3) أخرجه مسلم: 1917.
(4) أخر جه مسلم: 1918.
(7/40)
وعن سلمةَ بن الأكوع -رضي الله عنه- قال:
"مرّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نفرٍ مِن أسلَم
ينتضلون (1)، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارموا
بني إسماعيل، فإنّ أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسَك
أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال النبى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارموا فأنا معكم كُلِّكُم" (2).
اللهو بأدوات الحرب (3)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينا الحبشة يلعبون عند النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحرابهم، دخَل عمر فأهوى إلى الحصى فحَصَبَهم
(4) بها، فقال: دعهم يا عمر" (5).
إثم مَن تعلّم الرمي ثمّ تَركه (6)
عن عقبَة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن عَلِمَ الرمي ثمّ تركه؛ فليس منّا، أو قد عصى"
(7).
__________
(1) أي: يرتمون بالسهام، يُقال انتضل القوم وتناضلوا: أي رَمَوا للسبق.
"النّهاية".
(2) أخرجه البخاري: 2889.
(3) هذا العنوان مقتبس من تبويب البخاري (باب اللهو بالحراب ونحوها) انظر
(كتاب الجهاد) (باب - 79).
(4) فحَصَبهم: رماهم بالحصباء، وهي الحصى الصغار.
(5) أخرجه البخاري: 2901، ومسلم: 893.
(6) انظر -إن شئت للمزيد من الفائدة- كتاب "صحيح الترغيب والترهيب" (2/
94). "الترغيب في الرمي في سبيل الله وتعلّمه".
(7) أخرجه مسلم: 1919.
(7/41)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "مَن تعلّم الرمي ثمّ نسيَهُ،
فهي نعمة جحَدها" (1).
فضل احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "مَن احتبسَ فرساً في سبيل الله؛ إيماناً بالله وتصديقاً
بوعده (2)، فإنّ شِبَعَهُ (3) ورِيَّهُ (4) ورَوثَه وبولَه؛ في ميزانه يوم
القيامة" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الخيل معقود (6) في نواصيها (7) الخير إلى يوم
القيامة" (8).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ما مِن فرس عربي؛ إلاَّ يُؤذَن له عند كل سحَر، بكلمات يدعو
بهنّ: اللهم خوّلتَني (9) من بني آدم،
__________
(1) أخرجه البزّار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط" بإسنادٍ حسن وصححه
لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1294).
(2) أي الذي وعَد به من الثواب على ذلك "فتح".
(3) ما يشبع به.
(4) ما يروى به.
(5) أخرجه البخاري: 2853.
(6) ملوي مضفور فيها، "شرح النووي".
(7) الشعر المسترسل على الجبهة، "شرح النّووي".
(8) أخرجه البخاري: 2852، مسلم: 1872.
(9) التخوُّل: التمليك والتّعهُد.
(7/42)
وجعلتني له، فاجعلني أحبّ أهله ومالِه، أو
مِن أحبِّ أهله ومالِه إليه" (1).
فضل النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة
(2)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "من أنفَق زوجين في سبيل الله، دعاه خَزَنَة الجنّة -كُلُّ خَزَنةِ
باب - أي فُل (3)، هلُمَّ" قال أبو بكر: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى (4)
عليه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأرجو أن
تكون منهم" (5).
وفي رواية: "مَن أنفق زوجين في سبيل الله مِن ماله؛ دعتهُ حَجَبَة الجنّة:
أي فُلُ، هَلُمّ! هذا خيرٌ -مراراً-، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الذي
لا تَوَى عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما
إنّي أرجو أن تدعوك الحجَبة كلها" (6).
وعن زيد بن خالد -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: "مَن جهَّز غازياً في
سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا" (7).
__________
(1) أخرجه النسائي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب"
(1251).
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 37).
(3) أي فُل: معناه يا فلان "النهاية". وانظر "الفتح" للمزيد من الفائدة.
(4) لا توى: أي لا ضياع ولا خسارة، وهو من التوى: الهلاك. "النّهاية".
(5) أخرجه البخاري: 2841، ومسلم: 1027، وانظر "صحيح البخاري" الأرقام
الآتية (1897، 3216، 3666).
(6) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحسان" (4622) وأبو عوانة في
"صحيحه" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2260).
(7) أخرجه البخاري: 2843، ومسلم: 1895.
(7/43)
عن خريم بن فاتك -رضي الله عنه- عن النبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنفق نفقة في سبيل الله،
كُتبت له سبعُ مائة ضعف" (1).
وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل بناقة مخطومة (2)،
فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلّها مخطومة" (3).
أجر الشهادة بالنيّة لمن لم يستطع الجهاد
عن سهل بن حُنيف أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"مَن سأَل الله الشهادة بصِدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإنْ مات على
فراشه" (4).
وعن أنس -رضي الله عنه- "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان في غزاة، فقال: إنّ أقواماً بالمدينة خَلفَنا، ما سلَكْنا شِعباً ولا
وادياً إلاّ وهم معنا فيه، حَبَسهُم العُذر" (5).
من صفات القائد
1 - أن يُعرَف بالورع والتقوى، والائتمار بما أمَرَ الله به، والانتهاء
عمّا نهى الله عنه.
__________
(1) أخرجه النّسائي والترمذي وقال: حديث حسن، وابن حبان في "صحيحه"،
والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1236).
(2) مخطومة: أي فيها خِطَام، وهو أن يُؤْخذ حَبْل من ليف أو شَعر أو
كَتَّان، فيُجْعَل في أحَد طَرَفيه حَلْقة، ثمّ يُشَدّ فيها الطَّرف الآخر؛
حتى يَصِير كالحلْقة، ثُم يُقَاد البَعير. وانظر "النّهاية".
(3) أخرجه مسلم: 1892.
(4) أخرجه مسلم: 1909.
(5) أخرجه البخاري: 2839، مسلم: 1911.
(7/44)
2 - أن يكون من أهل الخِبرة في الأمور
العسكرية وميادين القتال.
3 - أن يُشهد له بالجرأة والشجاعة، عن أبي اسحاق قال: قال رجلٌ للبراء بن
عازب -رضي الله عنهما-: "أفررتم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يومَ حُنين، قال: لكنَّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يفرّ، إنَّ هوازن كانوا قوماً رُماةً، وإنَّا لمَّا
لقِيناهم حَمَلْنا عليهم فانهزموا، فأَقْبَل المسلمون على الغنائم،
واستقبلونا بالسِّهام، فأما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فلم يفِرّ، فلقد رأيتُه، وإنّه لعلى بغلته البيضاء، وإنّ أبا سفيانَ (1)
آخِذٌ بلجامها، والنبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أنا
النبيُّ لا كَذِب أنا ابن عبد المطَّلِب" (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- (3): "وهذا في غاية ما يكون مِن الشجاعة
التامَّة، إنّه في مِثْل هذا اليوم في حَوْمة الوغى، وقد انكشَفَ عنه جيشه،
هو مع ذلك على بغلة وليست سريعةَ الجري، ولا تصلُح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا
لهَرَبٍ، وهو مع هذا أيضاً يُركِضها إلى وجوههم، ويُنَوِّه باسمه، ليعرفه
مَن لم يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يومِ الدين- وما هذا
كلُّه إلاَّ ثقةً بالله، وتوكُّلاً عليه، وعِلماً منه بأنه سينصره، ويتمُّ
ما أرسَلَه به، ويُظهِرُ دينَه على سائر الأديان".
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا يُعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا
ْعُرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنمّا يغزو مع مَن له شَفَقة وحيطةٌ على
المسلمين" (4).
__________
(1) هو أبو سفيان بنُ الحارث بن عبد المطلب -رضي الله عنه- كما في البخاري
(2874)، وفي رواية عند مسلم (1776 - 78).
(2) أخرجه البخاري: 2864، ومواضع أخرى، ومسلم: 1776.
(3) انظر تفسير "سورة التوبة" (آية: 25).
(4) "المغني" (13/ 14).
(7/45)
4 - أن يُشهَد له بالصبر والجلد والحكمة.
5 - أن يكون ذا فطنة وبديهة، حتى يُحسِن التصرف عند الشدّة، وهذه الصفات
يتفاوت قدر تحقّقها في النّاس فيُسعى إلى أفضل الموجود؛ وذلك لتحقيق أفضل
الخيرين، ما أمكن ذلك.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 253): "فالقُوَّةُ في
إمارة الحرب تَرْجِع إلى شجاعة القلب، وإلى الخِبرة بالحروب، والمخادَعة
فيها؛ فإنَّ الحرب خَدْعَة، وإلى القدرة على أنواع القتال: مِنْ رميٍ
وَطعْنٍ وضَرْبٍ، ورُكوبٍ، وكَرٍّ، وفرٍّ، ونحوِ ذلك؛ كما قال الله
-تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) ".
من وصايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قُوّاده
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا بَعَث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشِّروا ولا
تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا" (2).
وفي رواية: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثه
ومُعاذاً إلى اليمن فقال: "يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا
وتطاوَعا ولا تختلفا" (3).
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض
__________
(1) الأنفال: 60.
(2) أخرجه مسلم: 1732.
(3) أخر جه البخاري: 4344، 4345، ومسلم: (1733 - 7).
(7/46)
أيامه التي لقي فيها العدو، انتظَر حتى
مالت الشمس، ثمّ قام في النّاس فقال: "لا تمَنَّوا لقاء العدو وسَلُوا الله
العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف، ثمّ
قال: اللهمّ مُنْزِلَ الكتاب، ومجُريَ السحاب، وهازِمَ الأحزاب اهزمهم،
وانصرنا عليهم" (1).
وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "بعثَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سريّةً وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمَرَهم أن يطيعوه
فغَضِب عليهم، وقال: أليس قد أَمَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى.
قال: عَزمْتُ عليكم لَمَا جمعتم حطبا وأوقدتم ناراً ثمّ دخلتم فيها،
فجمَعوا حطباً فأوقدوا، فلما همّوا بالدخول؛ فقام ينظُر بعضهم إلى بعض،
قال: بعضهم إنما تَبِعْنا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فراراً مِن النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك؛ إذ خَمَدت النار، وسكَنَ غضبه،
فُذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو دخلوها ما
خرجوا منها أبداً، إنّما الطاعة في المعروف" (2).
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، إذا أمّرَ أميراً على جيش أو سريَّة (3) أوصاه في خاصَّته
بتقوى الله ومَن معه مِن المُسلمين خير اً. ثمَّ
__________
(1) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742.
(2) أخرجه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.
(3) السريَّة: هي قطعة من الجيش؛ تخرج منه، تَغِير وترجع إليه، قالوا:
سُمّيت سريّة؛ لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابُها. "شرح النّووي".
(7/47)
قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله،
قاتِلوا مَن كَفر بالله. اغْزوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا
تَمْثُلوا (1) ولا تَقْتُلُوا وليداً (2). وإذا لقيتَ عدوّك من المشركين
فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ (أو خِلال).
فأيّتُهُنَّ ما أجابوك؛ فاقبل منهم، وكُفّ عنهم. ثمّ ادعهم إلى الإسلام،
فإنْ أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهُم، ثمّ ادعهم إلى التَحُّول مِن دارِهم
إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنّهم إنْ فعَلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين
وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبَوا أن يتَحوَّلوا منها، فأخبِرهم أنهم
يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا
يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين.
فإنْ هم أبَوا فسَلْهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقَبَل منهم وكُفَّ عنهُم.
فإنْ هم أبَوا فاستَعِن بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرْتَ أهل حِصن، فأرادوك أن
تجعل لهم ذِمّة الله (3) وذِمّة نبيّه، فلا تجعل لهم ذِمّة الله ولا ذِمّة
نبيّه.
ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك فإنكم أنْ تُخفِروا (4) ذممكم وذِمَم
أصحابكم، أهون مِن أنْ تُخفِروا ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، وإذا حاصرتَ
أهل حِصنٍ
__________
(1) تَمْثُلُوا: أي لا تُشَوّهوا القتلى بقَطْع أنوفهم، أو آذانهم، أو
مذاكِيرهم، أو شيئاً مِن أطرافهم. وانظر "النّهاية".
(2) الوليد: الصبي.
(3) قال العلماء: الذمّة هنا العهد.
(4) تُخفِروا -بضم التاء-، يُقال: أخفرت الرجل: إذا نقضْتَ عهده، وخفرته:
أمّنْتَه وحميته ... "شرح النّووي".
(7/48)
فأرادوك أن تُنزِلهم على حُكم الله؛ فلا
تَنزِلْهم على حُكم الله، ولكن أنزلهم على حُكمك، فإنك لا تدري أتصيب حُكم
الله فيهم أم لا" (1).
ما يجب على أمير الجيش أو قائده (2)
1 - يجب على القائد أن يشاور أهل الرأي، لقول الله -تعالى-: {وَشَاوِرهُم
في الأَمر} (3).
ولما ثَبَت عن أنس -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شاور حين بَلَغه إقبالُ أبي سفيان قال: فتكلَّم أبو بكر فأعرَض
عنه، ثمّ تكلَّم عمر فأعرَض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا
رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أَمَرتنا أن نُخيضَها البحر لأخَضناها، ولو
أَمَرْتنا أن نضرِب أكبادها (4) إلى بَرْك (5) الغِماد لفَعَلنا، قال:
فندَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النّاس فانطلقوا
حتى نزلوا بدرا" (6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1731.
(2) انظر للمزيد- إن شئت- "الروضة الندية" (2/ 723).
(3) آل عمران: 159.
(4) قال بعض العلماء في تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لو أمَرْتنا أن نضربَ أكبادها" أي: الخيل والمراد ركوبها والسير عليها
مهما نأى المكان، وخصَّ ضرب الأكباد بالذكر؛ لأن الفارس كان إذا أراد إسراع
مركوبه؛ حرّك رجليه ضارباً على موضع كبده.
(5) انظر للمزيد -إن شئت- في ضبط هذه الكلمة ما جاء في "شرح النووي" (12/
125)، وهو موضع من وراء مكّة بخمس ليال، بناحية الساحل، وقيل غير ذلك وانظر
المصدر السابق.
(6) أخرجه مسلم: 1779.
(7/49)
وعن ابن عباس -رضي الله- عنهما- قال: "قدم
عيينةُ بن حِصن بن حذيفة فنزَل على ابن أخيه الحُرّ بن قيس، وكان من النّفر
الذين يُدنِيهم عمر، وكيان القُرّاء أصحابَ مجالس عمر ومُشاورته كهولاً (1)
كانوا أو شُبّاناً ... " (2).
واستشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكرٍ وعمر
-رضي الله عنهما- في أُسارى بدر.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لمّا أسروا الأسارى قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء
الأسارى؟ " (3).
وقال قتادة: "ما تشاور قومٌ يبتغون وجه الله؛ إلاَّ هدوا لأرشد أمورهم".
2 - الرفق بهم والاجتهاد والنصح لهم.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمّ مَن ولِيَ مِن أمر أُمتي شيئاً فَشَقَّ
عليهم فاشقُق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أُمّتي شيئاً فرَفَق بهم، فارفُق
به" (4).
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يتَخلّف في المسير
__________
(1) الكَهْل من الرجال: مَنْ زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل: هو
مِن ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 4642.
(3) أخرجه مسلم: 1763 من حديث عمر -رضي الله عنه-.، ذكره شيخ الإسلام -رحمه
الله- في "الكَلِم الطيّب" (ص 71).
(4) أخرجه مسلم: 1828.
(7/50)
فيُزْجي (1) الضعيف، ويُرْدِفُ (2) ويدعو
لهم" (3).
وعن مَعْقِل بن يَسار -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما مِنْ عبدِ استرعاه الله رَعيّة، فلم
يَحُطها بنصيحة؛ إلاّ لم يَجِد رائحة الجنَّة" (4).
وفي رواية: "ما من والٍ يلي رعيّةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌّ لهم؛
إلاَّ حرّم اللهُ عليه الجنّة" (5).
وفي لفظ: "ما من أميرٍ يلي أمرَ المسلمين، ثمّ لا يَجْتَهد لهم وينصح؛
إلاَّ لم يدخُل معهم الجنَّة" (6).
3 - عقد الألوية والرايات، وذلك لاسترداد ما اغتُصِب من ديار المسلمين،
وتحقيق الفتوحات؛ لنشر التوحيد والدعوة إلى الله -تعالى- وإخراج النّاس مِن
الظُلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه-.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان لواءُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبيض
__________
(1) يزجي: أي يسوق ويدفع.
(2) الردف: الراكب خلف الراكب، والمراد أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يُرْدفُ خلفه من ليس له راحلة؛ إذا كان يضعف عن المشي.
انظر "نيل الأوطار" (8/ 48).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2298) والحاكم وانظر "الصحيحة"
(2120).
(4) أخرجه البخاري: 7150، ومسلم: 142.
(5) أخرجه البخاري: 7151، ومسلم: 142.
(6) أخرجه مسلم: 142 كتاب الإمارة (5) باب فضيلة الإمام العادل رقم (22)،
(ص 1460).
(7/51)
ورايته سوداء" (1).
وعن عطاء بن أبي رباح قال: كنت مع عبد الله بن عمر فأتاه فتى يسأله عن
إسدال العمامة، [فذكر الحديث إلى أن قال]: " ... ثمّ أمر (2) عبد الرحمن بن
عوف يتجهز لسرية بعثه عليها، وأصبح عبد الرحمن قد اعتمّ بعمامة من كرابيس
سوداء، فأدناه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ نقضه
وعمّمه بعمامة بيضاء، وأرسل من خلفه أربع أصابع، أو نحو ذلك، وقال: هكذا يا
ابن عوف اعتمّ فإنه أعرب وأحسن، ثمّ أمَر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فحمد الله وصلى على النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ قال: خذ ابن عوف؛ فاغزوا جميعاً
في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفَر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا
وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"
(3).
4 - تخيُّر المنازل المُلائمة للقتال والمواقع الصالحة لذلك.
5 - أن يكون على دراية بأحوال الجنود، * فلا يستصحب الأمير معه مُخَذِّلاً،
وهو الذي يُثبِّط النّاس عن الغزو، ويُزهِّدهُم في الخروج إليه والقتال
والجهاد، مِثل أنْ يقول: الحرُّ أو البردُ شديدٌ، والمشقَّة شديدة، ولا
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1374)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2274) وانظر "الصحيحة" (2100).
(2) أي: النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 540) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه. وقال الذهبي في "التلخيص": صحيح. قال شيخنا -رحمه الله- في
"الصحيحة" تحت الحديث (106): بل هو حسن الإسناد؛ فإن ابن غيلان هذا قد ضعفه
بعضهم، ولكن وثقه الجمهور، وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق، فقيه، رمي
بالقدر".
(7/52)
تُؤمَنُ هزيمةُ هذا الجيش.
وأشْباه هذا، ولا مُرجِفاً، وهو الذي: يقول هَلَكَت سريَّةُ المسلمين، وما
لَهم مدَدٌ، ولا طاقة لهم بالكُفَّار، والكفّار لهم قوّةٌ ومَدَدٌ وصبرٌ،
ولا يَثبُتُ لهم أحدٌ، ونحو هذا.
ولا مَن يُعين على المسلمين بالتّجسُُّس للكفَّار، وإطْلاعِهم على عَوْراتِ
المسلمين، ومُكاتَبَتِهم بأخبارهم، ودلالتِهم على عَوْراتِهم، أو إيوَاءِ
جواسيسهم.
ولا مَن يُوقِعُ العداوة بين المسلمين، ويسعى بالفساد، لقول الله -تعالى-:
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (1) وَقِيلَ
اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ
إِلَّا خَبَالًا (2) وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
(3)} (4).
ولأنّ هؤلاء مضرّةٌ على المسلمين، فيلزَمهُ مَنعُهُم"* (5).
__________
(1) فثبَّطهم أي: فثقَّل عليهم الخروج، حتى استخفوا القعود في منازلهم
خلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك. "تفسير الطبري".
(2) خَبالاً: فساداً. وضُرّاً.
(3) أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم؛ بالنميمة والبغضاء والفتنة. وانظر
"تفسير ابن كثير".
(4) التوبة: 46، 47.
(5) ما بين نجمتين من كتاب "المغني" (13/ 15).
(7/53)
ذكر ما يُستحَبّ للإمام أن يستعين بالله
-جلّ وعلا- على قتال الأعداء إذا عزَم على ذلك (1)
عن صهيبٍ -رضي الله عنه- قال: "كان إذا صلّى هَمس ... [وذكر الحديث إلى أن
قال:] فهَمْسِي الذي تَرون أنّي أقول: اللهمّ بك أقاتل وبك أصاول (2) ولا
حولَ ولا قوّةَ إلاّ بك" (3).
الاستنصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم
عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعدٌ -رضي الله عنه- أنّ له فضلاً على مَن دونه
(4)، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تُنصَرون
وتُرزقون إلاّ بضعفائكم" (5).
وفي لفظ: "إنّما يَنْصُر الله هذه الأُمّة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم
وإخلاصهم" (6).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" "التعليقات الحِسان" (7/ 137).
(2) أصاوِل: أسطو وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النهاية".
(3) أخرجه ابن حبان في "التعليقات الحِسان" (4738)، وابن نصر في "الصلاة"
وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (1061)، وسيأتي بتمامه في أسباب النصر والتمكين.
(4) أي في المغنم.
(5) أخرجه البخاري: 2896.
(6) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2978)، وانظر "الصحيحة" (2/ 409).
(7/54)
أُبغوني (1) الضعفاء، فإنما تُرزَقون
وتُنصَرون بضُعفائكم" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "رُبَّ أَشْعَثَ (3) مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ
أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ" (4).
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب من استعَان بالضعفاء والصالحين في
الحرب) (5). ثم قال: وقال ابن عباس: "أخبرني أبو سفيان قال لي قيصر: سألتك
أشرافُ الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤُهم؟ فزعمْتَ ضعفاءَهم، وهم أتباع الرُّسل"
(6).
جواز تخلّفِ الإمام عن السرية لمصلحة (7)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "انتدَب الله لمن خرَج في سبيله، لا يُخْرجه إلاَّ إيمان
بي وتصديق برُسُلي، أن أُرجِعه بما نال من أجرٍ
__________
(1) بوصل الهمزة وقطعها، وانظر -للمزيد من الفائدة إن شئت- "النّهاية"
و"فيض القدير" (1/ 82).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2260)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1392)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2979)، وانظر "الصحيحة"
(779).
(3) الأشعث: المُلبّد الشعر المُغبَرّ غير مدهون ولا مُرجَّل. انظر "شرح
النّووي".
(4) أخرجه مسلم: 2622.
(5) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 76).
(6) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به في المصدر المشار إليه آنفاً، ووصله في
(بدء الوحي) برقم (6)، وأخرجه مسلم: 1773.
(7) في "صحيح ابن حبان" "ذكْرِ الأخبار عن جواز تخلُّف الإمام عن السرية
إذا خَرَجَت في سبيل الله -جلّ وعلا-".
(7/55)
أو غنيمة، أو أُدخِلَه الجنّة، ولولا أن
أشقّ على أمّتي، ما قَعَدْتُ خلف سريّة، ولوددت أنّي أُقتَل في سبيل الله،
ثمّ أُحيا، ثمّ أُقتل، ثمّ أُحيا، ثمّ أُقتل" (1).
إذا طلَب الإمام قَتْلَ رجل
عن عبد الله بن أنيس الجهني -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَن لي بخالد بن نبيح؟ رجل من هذيل -وهو يومئذ
قبل عرفة بعرنة- قال عبد الله بن أُنيس: أنا يا رسول الله، انعَتْه لي،
قال: إذا رأيته هِبته، قال: يا رسول الله والذي بعثَك بالحق ما هِبْت شيئاً
قطّ.
قال: فخَرج عبدُ الله بنُ أُنيس حتى أتى جبال عرفة قبل أن تغيب الشمس، قال
عبد الله: فلقيتُ رجلاً، فرعبْتُ منه حين رأيتُه، فعرفْتُ حين رعبت منه أنه
ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لي: مَن
الرجل؟ فقلت: باغي حاجة، هل من مبيت؟ قال: نعم، فالحْقْ، فَرُحتُ في أثره،
فصليت العصر ركعتين خفيفتين، وأشفقت أن يراني، ثمّ لحقْتُه، فضربتُه
بالسيف، ثمّ خرجْتُ، فأتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فأخبرتُه.
قال محمّد بن كعب: فأعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مخِصرة (2)، فقال: تخصّر بهذه حتى تلقاني، وأقلّ النّاس المتخصّرون، قال
محمّد بن كعب: فلمّا تُوفي عبد الله بن أُنيس أُمِر بها فوُضِعت على بطنه
وكُفّن، ودُفن ودُفِنت معه" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 36، ومسلم: 1876.
(2) المخصرة: ما يَختصره الإنسان بيده، فيُمسِكه من عصا أو عُكَّازةٍ أو
مِقْرَعَةٍ أو قضيب وقد يتكئ عليه. "النّهاية".
(3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" و"أخبار أصبهان" وغيره، وانظر "الصحيحة"
(2981).
(7/56)
وفي رواية: "دعاه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنّه قد بلغني أن سفيان بن نبيح الهذلي
جَمع لي النّاس ليغزوني، وهو بنخلة أو بعُرنة فأتِه فاقتُله، قال: قلت: يا
رسول الله، انعته لي حتى أعرفَه، قال: آيةُ ما بينك وبينه أنك إذا رأيته
وجَدْت له قُشَعْريرةً.
قال: فخرجت متوشِّحاً بسيفي حتى دفعْتُ إليه، وهو في ظعنٍ يرتاد لهنَّ
منزلاً، حتى كان وقت العصر، فلمّا رأيْته وجدْتُ ما وَصَفَ لي رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاقشعريرة.
فأخذْتُ نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت
وأنا أمشي نحوه، وأُومئ برأسي، فلمّا انتهيت إليه، قال: ممّن الرجل؟ قلت:
رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك، قال: فقال: إنَّا في
ذلك.
فمشيتُ معه شيئاً حتى إذا أمكنني حَمَلْتُ عليه بالسيف حتى أقتله، ثمّ
خرجْتُ وتركْت ظعائنه (1) مُنكَبّاتٍ عليه، فلمّا قدمتُ على رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورآني، قال: قد أفلح الوجه، قلت:
قتلْتُه يا رسول الله، قال: صدقْتَ.
قال: ثمّ قام معي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فأدخلني بيته وأعطاني عصاً، فقال: أمسِك هذه العصا عندك يا عبد الله بن
أُنيس، قال: فخرجتُ بها على النّاس فقالوا: ما هذه العصا؟ قلتُ: أعطانيها
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمَرني أن أمسِكها،
قالوا:
__________
(1) الظعائن: النساء، جمع ظعينة، وأصل الظعينة: الراحلة التي يُرحل ويُظعَن
عليها أي يُسار، وقيل للمرأة ظَعينة لأنها تَظْعَن مع الزَّوج حَيثُما
ظَعَن أو لأنَّها تُحمَل على الرَّاحِلَة إذا ظَعَنت ... "النهاية".
(7/57)
أفلا ترجعُ إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتسأله لِمَ ذلك؟
قال: فرجعْت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت:
يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا، قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إنّ
أقلّ النّاس المتخصرون يومئذ، فَقَرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه حتى
إذا مات أُمِر بها، فضُمّت معه في كفنه، ثمّ دُفِنا جميعاً} (1).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللهَ
ورسوله، فقام محمّد بن مَسْلَمة فقال: يا رسول الله أتُحِبّ أنْ أقتله؟
قال: نعم، قال: فأذَنْ ليِ أن أقول شيئاً (2). قال: قُلْ.
فأتاه محمّد بن مَسلَمة فقال: إنّ هذا الرجل قد سألَنا صَدَقةً، وإنه قد
عنّانا (3) وإني قد أتيتك أستَسلِفك (4) قال: وأيضاً (5) والله لتملُّنَّه
(6)، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه
وقد أردنا أن تُسلِفنا وَسْقاً (7) أو
__________
(1) صححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح موارد الظمآن " برقم (490).
(2) قال الحافظ -رحمه الله-: "كأنه استأذنَه أن يفتعل شيئاً يحتال به، ومن
ثمّ بوَّب عليه المصنف "الكذب في الحرب" وقد ظَهر من سياق ابن سعد للقصة
أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويعيبوا رأيه، ولفظه: "فقال له: كان قدوم هذا
الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمَتْنا عن قوس واحدة".
(3) من العناء وهو التعب.
(4) السّلفُ: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض. "النّهاية".
(5) أي: زيادة على ذلك.
(6) من الملال.
(7) الوَسْق: سِتُّون صاعاً وهو ثلاثُماثة وعِشْرون رِطْلا عند أهْل
الحِجاز وأربَعمائة وثمانون رِطْلا عنْد أهْل العِراق على اخْتِلافِهِم في
مِقدار الصَّاع والمُدِّ. والأصل في الوَسْق: الحِمْل، وكُلُّ شيءٍ
وَسَقتَه فقد حَمَلْتَه، والوَسْق أيضا: ضَمُّ الشَّيء إلى الشَّيء.
"النّهاية".
(7/58)
وَسْقَين -وحدثنا عمرو غير مرّة فلم يذكر
وَسْقاً أو وَسْقين- فقلت له: فيه وسْقاً أو وَسْقين فقال: أرى فيه وسْقاً
أو وسْقين، فقال: نعم ارهَنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال ارهَنوني نساءكم،
قالوا كيفَ نَرْهَنُك نساءَنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهَنوني أبناءكم،
قالوا: كيف نَرْهَنُك أبناءَنا فَيُسَبُّ أحدهم فيقال: رُهِن بوسْق أو
وسْقين، هذا عار علينا ولكنّا نرهنك اللأمة، قال سفيان يعني: السلاح.
فواعَدَه أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة -وهو أخو كعب مِن الرضاعة-
فدعاهم إلى الحِصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟
فقال: إنما هو محمّد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، وقال غير عمرو: قالت: أسمع
صوتاً كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمّد بن مسلمة، ورضيعي أبو
نائلة، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة بليلٍ لأجاب.
قال: ويُدخِلُ محمّد بن مسلمة معه رجلين، قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال:
سمّى بعضهم، قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر
والحارث بن أوس وعباد بن بشر، قال عمرو: جاء معه برجلين فقال: إذا ما جاء
فإني قائل (1) بشعره، فأشمَّه فإذا رأيتموني استمكنْتُ مِن رأسه؛ فدونكم
فاضربوه، وقال مرّةً ثمّ أُشِمُّكم.
فنزل إليهم متوشحاً (2) وهو ينفَحُ منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم
ريحاً -أي أطيب- وقال غير عمرو: قال عندي أعطرُ نساء العرب وأكملُ
__________
(1) هو من باب إطلاق القول على الفعل. "الفتح".
(2) يعني لابساً الوشاح: وهو شيءٌ يُنسَج عريضاً من أديم، وربّما رُصّع
بالجوهر والخرز. وانظر "النهاية".
(7/59)
العرب، قال عمرو فقال أتأذن لي أن أشَمَّ
رأسَك قال: نعم فشَمَّه ثم أَشَمَّ أصحابه ثم قال أتأذن لي؟ قال نعم فلما
استمكن منه قال دونكم، فقتلوه، ثمّ أتوا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأخبروه" (1).
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "بعثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي رافعٍ اليهوديّ رجالاً من الأنصار، فأمّرَ
عليهم عبد الله بن عَتيك، وكان أبو رافع يُؤْذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُعين عليه، وكان في حِصنٍ له بأرض الحجاز، فلمّا
دَنَوا منه وقد -غربت الشمس وراح النّاس بسَرْحِهم (2) - فقال عبد الله
لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلقٌ ومتلطّفٌ للبوّاب، لعلي أن أدخل،
فأقبَل حتى دنا مِن الباب، ثمّ تقنّع بثوبه (3) كأنه يقضي حاجةً وقد دخل
النّاس، فهتَف به البوّاب يا عبد الله إنْ كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنّي
أريد أن أغلق الباب، فَدَخَلْتُ فكَمَنْت (4)، فلمّا دخَل الناس أغلق
الباب، ثمّ علّق الأغاليق على وَدّ (5)، قال: فقمت إلى الأقاليد (6)،
فأخذتها ففَتَحْتُ الباب وكان أبو رافعٍ يُسمَرُ عنده، وكان في عَلاليّ (7)
له، فلمّا ذهَب عنه أهل سمرِه صَعِدتُ إليه، فجعلْتُ كلّما فتحْتُ باباً
أغلقت عليّ
__________
(1) أخرجه البخاري: 4037، ومسلم: 1801.
(2) أي: رجَعوا بمواشيهم التي ترعى، وسَرْح -بفتح المهملة وسكون الراء
بعدها مهملة-: هي السائمة من إبِل وبقر وغنم "الفتح".
(3) تغطّى به لئلا يُعرف.
(4) أي: اختبأت.
(5) هو الوتد.
(6) جمع أقليد وهو المفتاح.
(7) العَلاليّ: الغرفة.
(7/60)
مِن داخل، قلتُ إنِ القوم نَذِروا بي (1)؛
لم يخلصوا إلي حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مُظلم وسْط عياله،
لا أدري أين هو مِن البيت.
فقلت يا أبا رافع، قال: مَنْ هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضرِبُه (2) ضربةً
بالسيف وأنا دَهِشٌ فما أغنيتُ شيئاً (3)؛ وصاح فخرجْتُ من البيت، فأمكثُ
غير بعيد، ثمّ دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمّك
الويل، إنّ رجلاً في البيت ضربني قبلُ بالسيف، قال: فأضرِبُه ضربةً
أثخَنَته ولم أقتُله، ثمّ وضعْت ضبيب السيف (4) في بطنه حتى أخذ في ظهره،
فعرفتُ أني قتلتهُ فجعلْتُ أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجةٍ
له فوضعْتُ رِجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعْتُ في ليلة
مقمرةٍ، فانكَسَرت ساقي فعَصَبْتُها بعِمامة ثمّ انطلقتُ حتى جلسْتُ على
الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أَقَتَلْتُه؟.
فلمّا صاح الديك قام الناعي (5) على السُّور فقال أنعى أبا رافع تاجر أهل
الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النَّجاء (6)، فقد قتل الله أبا رافع،
فانتهيتُ إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدَّثته فقال
لي: ابسُط رجلك، فبسطْتُ رجلي فمسَحَها فكأنها لم أشتكِها قطُّ" (7).
__________
(1) أي: علموا وأحسوا بمكاني. "النّهاية".
(2) قال في "الفتح": ذكره بلفظ المضارع مبالغةً لاستحضار صورة الحال، وإنْ
كان ذلك قد مضى.
(3) أي: لم أقْتُله.
(4) قال الحافظ -رحمه الله-: "حرف حدِّ السيف"، وفي "القاموس المحيط": "حدّ
السيف".
(5) النعي: خبر الموت والاسم الناعي. "الفتح".
(6) أي: أسرعوا.
(7) أخرجه البخاري: 4039.
(7/61)
البيان بأن صاحبَ السرية إذا خالَف الإمام
فيما أمَره به كان على القوم أنْ يَعْزِلوه وُيولُّوا غيره (1)
عن عقبةَ بنِ مالك -رضي الله عنه- قال: "بعَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريةً، فسلَّح رجلاً سيفاً، فلمّا انصرفنا، ما رأيت
مِثل ما لامنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
"أعَجَزتم إذا أمّرْتُ عليكم رجلاً، فلم يمض لأمري الذي أمرْتُ، أو نهيْتُ
أن تجعلوا مكانه آخر، يُمضي أمري الذي أمرْتُ؟ " (2).
من تَأمَّر في الحرب مِن غير إمرةٍ إذا خاف العدو (3)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "خَطَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أخَذ الراية زيدٌ فأُصيب ثمّ أخَذَها جعفرٌ
فأُصيب ثمّ أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، ثمّ أخَذَها خالدُ بن الوليد
من غير إمرةٍ ففُتح عليه وما يسرّني -أو قال: ما يُسرّهم- أنّهم عندنا،
وقال: وإنّ عينيه لتَذْرِفان" (4).
توليةُ الإمِام أمراءَ جماعة واحداً بعد الآخر عند قَتْل الأول (5)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أمَّرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة مؤتة
__________
(1) هذا العنوان من "التعليقات الحِسان" (4720).
(2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4720) وأبو داود
وغيرهما، وانظر تخريجه في "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (2362).
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 183).
(4) أخرجه البخاري: 1246، 3063.
(5) مُقتبَسٌ مِن تبويب "صحيح ابن حبان" انظر "التعليقات الحِسان" (7/
124).
(7/62)
زيدَ بن حارثة، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ قُتل زيد فجعفر، وإنْ قُتل جعفر؛ فعبد
الله ابن رواحة، قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمَسْنا جعفرَ
بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين مِن طعنةٍ
ورَمْية" (1).
متى تجب طاعة الجنود الأمير أو القائد
تَجِب طاعةُ الجنود الأميرَ أو القائدَ في غير معصية.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومن
أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عمى أميري فقد عصاني" (2).
وتتضمّن الطاعة ما أحبَّ المرءُ أو كَرِه، ما لم يُؤمَر بارتكاب المعاصي،
أو اقتراف الآثام.
عن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم، فما أحَبَّ وكَرِه، ما لم يُؤمَر
بمعصية، فإذا أُمر بمعصية، فلا سَمْع ولا طاعة" (3).
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(4) قال: نَزَلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ
__________
(1) أخرجه البخاري: 4261.
(2) أخرجه البخاري: 7137، ومسلم: 1835.
(3) أخرجه البخاري: 7144، ومسلم: 1839.
(4) النساء: 59.
(7/63)
بَعثهُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في سريّة" (1).
وعن علي -رضي الله عنه- قال؛ " بَعث النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سريّة، وأمَّر عليهم رجلا من الأنصار، وأمَرَهم أن يطيعوه فغضب
عليهم، وقال: أليس قد أمَرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عَزمْتُ عليكم لَمَا جمعْتم حطباً،
وأوقدتم ناراً ثمّ دخلتم فيها، فجمَعوا حطبَاً فأوقدوا ناراً، فلمّا همُوا
بالدخول؛ فقاموا ينظُر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تَبِعْنا النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراراً مِن النار أفندخلها؟ فبينما هم
كذلك، إذ خَمَدت النار، وسكَن غضبُه، فُذكِر للنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في
المعروف" (2).
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن
أمرٍ؛ ما دريت ما أردّ عليه، فقال: أرأيت رجلاً مؤدِياً (3) نشيطاً، يَخرُج
مع أمرائنا في المغازي، فيَعْزِم علينا في أشياء لا نُحصيها (4)، فقلت له:
والله ما أدري ما أقول لك، إلاّ أنّا كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعسى أن لا يَعزِمَ علينا في أمرٍ إلاَّ مرّة حتى
__________
(1) أخرجه البخاري: 4584، ومسلم: 1834.
(2) أخرجه البخاري؛ 7145، ومسلم: 1840، وقد تقدم، وانظر -إن شئت- رقم
(4340) وما قاله الحافظ -رحمه الله- في شرح هذا الحديث.
(3) مؤديِاً: أي كامل الأداء، أي أداة الحرب، وقال الكرماني -رحمه الله-:
معناه قويّاً؛ وكأنّه فسره باللازم. "فتح الباري".
(4) قال الحافظ -رحمه الله-: "لا نُحصيها: أي لا نطيقها، وقيل: لا ندري أهي
طاعةٌ أم معصية، والأول مُطابِقٌ لما فَهِم البخاري فترجَم به، والثاني
مُوافِقٌ لقول ابن مسعود "وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه"، أي
مِن تقوى الله أن لا يُقدّم المرء على ما يشكّ فيه حتى يسأل مَن عنده عِلْم
فيدلّه على ما فيه شفاؤه".
(7/64)
نفعَلَه، وإنّ أحدَكم لن يزال بخير ما اتقى
الله، وإذا شكَّ في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه والذي
لا إله إلاَّ هو ما أذكر ما غَبَر (1) من الدنيا إلاّ كالثَّغْب (2) شُرِبَ
صَفْوُه وبقي كَدَرُه" (3).
عقوبة مَن عصى الأمير أو القائد (4)
عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرَّجَّالة (5) يوم أحدٍ -وكانوا خمسين رجلاً-
عبد الله بن جُبَيْر فقال: إنْ رأيتمونا تَخْطَفُنا الطَّير (6)؛ فلا
تَبْرحُوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإنْ رأيتمونا هَزَمْنا القومَ
وأوْطأناهُم (7)؛ فلا تبرحوا حتى أُرسِل إليكم، فهزموهم.
__________
(1) ما غَبر: أي ما مضى، وهو مِن الأضداد؛ يُطلَق على ما مضى وعلى ما بقي،
وهو هنا محتمَلٌ للأمرين. "الفتح".
(2) الثَّغْب:: الموضع المطمئنّ في أعلى الجبل؛ يستنقع فيه ماء المطر،
وقيل: هو غديرٌ في غِلَظٍ مِن الأرض، أو على صخرةٍ ويكون قليلاً"
"النّهاية".
(3) أخرجه البخاري: 2964.
(4) مقتبس من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 164).
(5) الرَّجَّالة: جمع الرجل: الفارس. "الكرماني".
(6) تخطفنا الطّير: مَثَلٌ يريد به الهزيمة، أي: إذا رأيتمونا انهزمنا؛ فلا
تفارقوا مكانكم. "شرح الكرماني".
(7) قال ابن التين: يريد مشينا عليهم وهم قتلى على الأرض، وقال الكرماني:
الهمزة في أوطأناهم للتعريض، أي: جعلناهم في معرض الدوس بالقدم. قاله
العيني في "عمدة القاري" (14/ 283).
(7/65)
قال: فأنا والله رأيت النساء يشْتَدِدْن
(1)، قد بدت خلاخلُهن وأسْوُقُهنّ (2)، رافعاتٍ ثيابَهُنّ. فقال أصحاب عبد
الله بن جبيرٍ: الغنيمةَ أيْ قومُ الغنيمةَ، ظهر أصحابُكم فما تنتظرون؟
فقال عبد الله بن جبيرٍ: أنسيتم (3) ما قال لكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قالوا: والله لنأتينّ الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلمّا أتَوْهم صُرِفت
وُجُوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أُخْراهم.
فلم يبْقَ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ اثني عشر
رجلاً، فأصابوا منّا سبعين وكان النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأصحابُه أصابَ مِن المشركين يوم بدر أربعين ومائةً، سبعين
أسيراً وسبعين قتيلاً" (4).
مبادرة الإمام عند الفزع
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان بالمدينة فَزَع، فاستعار النبيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرساً لأبي طلحة، فقال: ما رأينا
مِن شيء وإنْ وجَدناه لبحراً (5) " (6).
__________
(1) يشْتَدِدْن: أي على الكُفّار، يقال: شدَّ عليه في الحرب: أي: حَمَل
عليه، ويقال: معناه: يَعْدُون، والاشتداد: العَدْوُ ... "المصدر السابق".
(2) جمع ساق.
(3) انقسم الصحابة -رضي الله عنهم- قسمين: قسماً أخذ بالنَّص، وقسماً
تأوّل؛ والمصيب هو المتمسك بالنَّص.
(4) أخرجه البخاري: 3039.
(5) لبحراً: أي واسعَ الجري، وسمّي البحر بحراً لسَعَته، وتبحّر في العلم:
أي اتّسَع "النهاية".
(6) أخرجه البخاري: 2968، 2627، ومسلم: 2307.
(7/66)
تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم
يُسنّ تشييع المجاهدين في سبيل الله والغزاة، والدعاء لهم؛ وقد شيَّع
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النفر الذين وجَّهَهم إلى
كعب بن الأشرف؛ إلى بقيع الغرقد ودعا لهم.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مشى معهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّهَهُم، وقال: انطلقوا على اسم
الله، اللهم أعِنْهم" (1).
وكان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يستودع
الجيش قال: "أستَودِع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عَمَلِك" (2).
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب التوديع) (3): ثم ذكرَ حديث أبي
هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بعَثَنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بَعْث فقال لنا: إنْ لقيتم فلاناً وفلاناً -لرجلين
من قريش سمّاهما- فحرِّقوهما بالنار، قال ثمّ أتيناه نودِّعه حين أردنا
الخروج، فقال: إنّي كنت أمرتكم أنْ تحرّقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإنّ
النار لا يُعذِّب بها إلاَّ الله، فإنْ أخذتموهما فاقتلوهما" (4).
من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهاد، واقتداء الصحابة
به في المعارك واستبسالهم فيها (5)
عن زياد بن جبير بن حية قال: "أخبرني أبي أنَ عمر بن الخطاب -رضي الله
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1191).
(2) أخرجه أبو داود، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم، وصححه
شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" برقم (15).
(3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 107).
(4) أخرجه البخاري: 2954.
(5) هذا العنوان من "السلسلة الصحيحة".
(7/67)
عنه- قال للهُرمُزان: أما إذ فُتَّنِي
بنفسك فانصح لي، وذلك اّنه قال له: تكلَّم لا بأس، فأمَّنه، فقال
الهُرمُزان: نعم؛ إنّ فارسَ اليوم رأس وجناحان. قال: فأين الرأس؟ قال:
نهاوند مع بُنْدار، قال: فإنه معه أساورة كسرى وأهل أصفهان، قال: فأين
الجناحان؟ فذكَر الهُرمُزان مكاناً نسيته، فقال الهُرمُزان: اقطع الجناحين
توهن الرأس. فقال له عمر -رضي الله عنه-: كذبْتَ يا عدوَّ الله، بل أعمد
إلى الرأس فيقطعه الله، فإذا قَطَعه الله عني انقطَع عنّي الجناحان.
فأراد عمر أنْ يسير إليه بنفسه، فقالوا: نُذكِّرك الله يا أمير المؤمنين أن
تسير بنفسك إلى العجم، فإن أُصِبْت بها لم يكن للمسلمين نظامٌ (1)، ولكن
ابعث الجنود.
قال: فَبَعث أهل المدينة وبَعَثَ فيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبَعَث
المهاجرين والأنصار، وكتَب إلى أبي موسى الأشعري أنْ سِرْ بأهل البصرة،
وكتَب إلى حذيفة بن اليمان أن سِرْ بأهل الكوفة حتى تجتمعوا بنهاوند
جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مُقَرِّن المزني.
فلمّا اجتمعوا بنهاوند، أرسَل إليهم بُندارُ العلج (2) أنْ أرسِلوا إلينا
يا معشر العرب رجلاً منكم نكلّمه، فاختار النّاس المغيرة بن شعبة، قال أبي:
فكأني أنظر إليه: رجل طويل أشعر أعور، فأتاه، فلمّا رجع إلينا سألناه؟ فقال
لنا: إنّي وجدْتُ العلج قد استشار أصحابه في أيّ شيء تأذنون لهذا العربي؟
أبشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فنزهده عما في أيدينا؟ فقالوا: بل
نأذن له بأفضل ما يكون
__________
(1) وهذا لاهتمامهم العظيم في تنظيم أمور الدولة: داخلها وخارجها.
(2) العِلْج: الرجل من كُفّار العجم وغيرهم، والأعلاج جمعُه ويُجمع على
علوج، "النّهاية".
(7/68)
من الشارة والعدة. فلمّا رأيتهم رأيت تلك
الجراب (1) والدَّرَق (2) يلمع منها البصر، ورأيتهم قياماً على رأسه، فإذا
هو على سريرٍ من ذهب، وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، ونكستُ رأسي لأقعد
معه على السرير، فقال: فدُفعتُ ونُهرت، فقلت: إنّ الرسل لا يُفعَل بهم هذا.
فقالوا لي: إنما أنت كلب، أتقعد مع الملِك؟! فقلتُ: لأنا أشرف في قومي مِن
هذا فيكم.
قال: فانتهرني وقال: اجلس فجلست. فتُرجم لي قوله، فقال: يا معشر العرب،
إنكم كنتم أطولَ النّاس جوعاً، وأعظمَ النّاس شقاءً، وأقذرَ النّاس قذراً،
وأبعدَ النّاس داراً، وأبعدَه مِن كل خير، وما كان منَعَني أن آمر هذه
الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب؛ إلاَّ تنجُّساً لجِيَفِكم لأنكم أرجاس،
فإنْ تذهبوا نُخْلِ عنكم، وإنْ تأبوا نبوّئْكم مصارعَكم.
قال المغيرة: فحمْدتُ الله وأثْنَيت عليه وقلت: والله ما أخطأت من صِفَتِنا
ونَعْتِنا شيئاً، إن كنا لأبعد النّاس داراً، وأشدّ النّاس جوعاً، وأعظم
النّاس شقاءً، وأبعد النّاس من كل خير، حتى بَعَث الله إلينا رسولاً،
فوعدَنا بالنصر في الدنيا، والجنّةِ في الآخرة، فلم نزل نتعرف مِن ربّنا
-مذ جاءنا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- الفلاح والنصر،
حتى أتيناكم، وإنّا والله نرى لكم مُلكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء
أبداً، حتى نغلبَكم على ما في أيديكم، أو نُقتَل في أرضكم. فقال: أمّا
الأعور فقد صدقَكم الذي في نفسه.
فقمتُ مِنْ عنده وقد والله أرعبت العِلْج جهدي، فأرسَل إلينا العِلج: إمّا
أنْ تعبروا إلينا بنهاوند وإمّا أنْ نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا
فَعَبرنا. فقال أبي:
__________
(1) الجراب: إناء مصنوع من الجِلد، يُحمل فيه الزّاد أثناء السفر "غريب
الحديث" للحربي.
(2) جمع الدَّرَقةَ: التُّرس من جِلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.
(7/69)
فلم أر كاليوم قطّ، إنّ العلوج يجيئون
كأنهم جبالُ الحديد، وقد تواثقوا أن لا يَفرّوا مِن العرب، وقد قُرِن بعضهم
إلى بعض حتى كان سبعة في قران، وألقوا حَسَك (1) الحديد خلفهم، وقالوا: مَن
فرَّ منّا عقَرَه حَسَكُ الحديد. فقال: المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتهم: لم
أر كاليوم قتيلاً، إن عدوّنا يتركون أن يتناموا، فلا يُعجلوا. أمَا والله
لو أن الأمر إليَّ لقد أعجلتهم به.
قال: وكان النعمان رجلاً بكّاءَ، فقال: قد كان الله -جلّ وعزّ- يُشهِدك
أمثالها فلا يحْزنك ولا يعيبك موقفك. وإني والله ما يمنعني أنْ أناجزهم
إلاّ لشيء شهِدْته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا غزا فلم
يُقاتِل أول النهار لم يَعَجَل حتى تحضر الصلوات وتهب الأرواح ويطيب
القتال.
ثمّ قال النعمان: اللهم إني أسألك أن تُقرَّ عيني بفتْحٍ يكون فيه عزُّ
الإسلام وأهله، وذلُّ الكفر وأهلِه. ثمّ اختِمْ لي على أثر ذلكَ بالشهادة.
ثمّ قال: أمِّنوا رَحِمكم الله. فأمّنّا وبكى فبكينا. فقال النعمان: إنّي
هازٌّ لوائي فتيسّروا للسلاح، ثمّ هازُّها الثانية، فكونُوا متيسَّرين
لقتال عدوكم بإزائكم، فإذا هززتها الثالثة؛ فليحمِل كل قوم على مَن يليهم
مِن عدوِّهم على بركة الله.
قال: فلمّا حَضَرت الصلاة وهبَّت الأرواح كبّر وكبَّرنا. وقال: ريح الفتح
والله إن شاء الله، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا. فهزّ
اللواء فتيسروا، ثم هزَّها الثانية، ثمّ هزَّها الثالثة، فحمَلْنا جميعاً
كلّ قوم على مَن يليهم. وقال النعمان: إنْ أنا أُصِبت، فعلى النّاس حذيفة
بن اليمان، فإنْ أُصِيب حذيفة؛ ففلان، فإنْ أُصِيب فلان ففلان حتى عدَّ
سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة.
__________
(1) الحَسَك: ما يُعمل على مثال شوكة، أداة للحرب من حديد أو قصَب، فيُلقى
حول العسكر، "القاموس المحيط".
(7/70)
قال أبي: فوالله ما علمْتُ من المسلمين
أحداً يُحبُّ أن يرجع إلى أهله حتى يُقْتل أو يَظفَر. فَثَبتوا لنا، فلم
نسمع إلاَّ وقْع الحديد على الحديد، حتى أصيب في المسلمين عصابة عظيمة.
فلما رأوا صبرنا ورأونا لا نريد أن نرجع انهزموا، فجعل يقع الرجل فيقع عليه
سبعة في قران، فُيقتلون جميعا، وجَعل يعقرهم حَسَكُ الحديد خلفهم. فقال
النعمان: قدِّموا اللواء، فجعلنا نُقدّم اللواء فنقتلهم ونهزمهم.
فلمّا رأى النعمان قد استجاب الله له ورأى الفتح، جاءته نُشَّابَة (1)
فأصابت خاصرته، فقتلته. فجاء أخوه معقل بن مُقَرِّن فسجى عليه ثوباً (2)،
وأخذ اللواء، فتقدَّم ثمّ قال: تقدَّموا رحمكم الله، فجعلنا نتقدم فنهزمهم
ونقتلهم، فلمَّا فرغنا واجتمع النّاس قالوا: أين الأمير؟ فقال معقل: هذا
أميركم قد أقرَّ الله عينه بالفتح، وختَم له بالشهادة. فبايع الناس حذيفةَ
بنَ اليمان.
قال: وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالمدينة يدعو الله، وينتظر مثل
صيحة الحبلى، فكتَب حذيفة إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلمّا قَدِم
عليه قال: أبشِر يا أمير المؤمنين بفتحٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله،
وأذلَّ فيه الشرك وأهله. وقال: النعمان بعثك؟ قال: احتسبْ النعمان يا أمير
المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، فقال: ومن ويحك؟ قال: فلان وفلان -حتى عدّ
ناساً- ثمّ قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم. فقال عمر رضوان الله
عليه -وهو يبكي-: لا يضرهم أن لا يعرفهم عمر، لكن الله يعرفهم" (3).
__________
(1) مفرد النُشَّاب، وهو النَّبْل.
(2) أي: غطّاه بثوب.
(3) أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ، وابن حبان والسياق له، وإسناده
صحيح، وأصْلُه في البخاري (3159، 3160) وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية
"الصحيحة" برقم (2826).
(7/71)
عدد غزوات النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- "أن رسول الله غزا تسعَ عشرَةَ غزوة وحجّ
بعدما هاجر حَجّةً؛ لم يحجّ غَيرها؛ حجَّة الوَدَاعِ" (1).
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تسع عشرة غزوة؛ قاتل في ثمانٍ منهن" (2).
الطليعة واستطلاع الأخبار وابتعاث العيون
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني في غزوة ذات الرقاع- فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من
المشركين، فحلفَ أن لا أنتهيَ حتى أهريق دماً في أصحاب محمّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخَرج يتبع أثر النبى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
منزلاً، فقال: مَنْ رجلٌ يكلأُنا (3) فانتُدِب رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من
الأنصار فقال: كونا بفم الشّعْبِ، قال: فلما خرَج الرجلان إلى فم الشِّعب؛
اضطجع المهاجريّ وقام الأنصاريّ يُصلّي، وأتى الرجل فلمّا رأى شخصه، عَرَف
أنه ربيئة (4) للقوم، فرماه بسهم، فوضَعه فيه، فنزعَه حتى رماه بثلاثة
أسهم، ثمّ ركع وسجَد ثمّ انتبه صاحبه، فلما عَرف أنهم قد نَذِروا به (5)
هَرب، ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاري
__________
(1) أخرجه البخاري: 4404، ومسلم: 1254، واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم: 1814.
(3) يكلأُنا: أي يحرسنا.
(4) ربيئة: أي هو العين، والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلاّ يَدْهمهم عدوّ،
ولا يكون إلاَّ على جبل أو شَرَف ينظرُ منه، "النّهاية".
(5) نذِروا به: أحسّوا بمكانه.
(7/72)
من الدماء قال: سبحان الله ألا أنبهتني
أوّل ما رمى، قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحبَّ أن أقطعَها" (1).
عن ابن المنكَدِر قال: سمعتُ جابراً -رضي الله عنه- يقول: "قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الأحزاب: مَن يأتينا بخبر القوم؟
فقال الزُّبير: أنا، ثم قال: مَن يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثمّ
قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثمّ قال: إنّ لكل نبيٍّ
حَوارِيّاً، وإنّ حَواريَّ الزبير" (2).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله بُسيسةَ (3) عيناً
ينظرُ ما صَنَعَت عيرُ (4) أبي سفيان ... " (5).
التورية في الغزو
عن عبد الله بن كعب -رضي الله عنه، وكان قائدَ كعبٍ مِن بنيه -قال:
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (182) وغيره.
(2) أخرجه البخاري: 4113، ومسلم: 2415.
(3) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا هو في جميع النُّسخ بُسيسة
-بباء موحدة مضمومة وبسينين مُهملتين مفتوحتين بينهما ياء مثناة تحت ساكنة-
قال القاضي: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود وأصحابُ
الحديث، قال والمعروف في كُتب السيرة بَسْبَس -ببائين موحدتين مفتوحتين
بينهما سين ساكنة- وهو بَسبَس بن عمرو، ويقال ابن بشر مِن الأنصار من
الخزرج، ويُقال حليف لهم، قلت: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسماً له والآخر
لقباً".
(4) العير: هي الإبل والدواب تَحْمِل الطعام وغيره من التجارات.
(5) أخرجه مسلم: 1901.
(7/73)
"سمعْتُ كعبَ بن مالك -رضي الله عنه- حين
تخلَّف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد غزوة؛ إلاَّ وَرّى
بغيرها" (1).
الكَذِب والخداع في الحرب
عن جابر -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "الحربُ خُدْعة" (2).
جاء في "الفتح": "قال ابن العربي -رحمه الله-: "الخِداع في الحرب يقع
بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في
الحرب: بل الاحتياج إليه آكد مِن الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير
إليه بهذا الحديث، وهو كقوله "الحجّ عرفة" (3).
قال ابن المنير: معنى الحرب خُدعة، أي: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في
مقصودها؛ إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخَطَر المواجهة، وحصول
الظَّفر مع المخادعة بغير خطَر".
وقال الإمام النووي -رحمه الله- (12/ 45): "واتفقَ العلماء على جواز خِداع
الكُفّار في الحرب، وكيفما أمكَن الخداع؛ إلاَّ أن يكون فيه نقْضُ عهدٍ أو
أمان؛ فلا يَحِلّ".
وعن أمّ كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها- أنها سَمِعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه البخاري: 2947 واللفظ له، ومسلم: 2769.
(2) أخرجه البخاري: 3030، ومسلم 1739.
(3) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم، وصحَّحه
شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1064).
(7/74)
يقول: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين النّاس
فيَنْمي (1) خيراً أو يقول خيراً" (2).
وفي رواية قال ابن شهاب: "ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول النّاس كَذِبٌ
إلاَّ في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأتَه، وحديث
المرأة زوجَها" (3).
قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "باب الكذب في الحرب" (4) ثمّ ذكر تحته
حديث قَتْل كعبِ بن الأشرف" (5).
وفي استئذان محمد بن مسْلَمة -رضي الله عنه- الكذِب للخدعة؛ إذ قال: "ائذن
لي فلأقُل، قال: قل" (6).
وفي رواية: "فقال محمّد بن مسلمة -رضي الله عنه- لكعب بن الأشرف: إنّ هذا
-يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- قد عنّانا (7) وسأَلنا
الصدقة ... فلم يزَلْ يكلّمه، حتى استمكَن منه فقتلَه" (8).
__________
(1) ينمي -بفتح أوله وكَسْر الميم- أي: يُبلغ، تقول: نميت الحديث أنميه،
إذا بلّغتَه على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلّغتَه على وجه الإفساد
والنميمة قلت: نمّيته -بالتشديد- كذا قال الجمهور، قاله الحافظ -رحمه الله-
في "الفتح".
(2) أخرجه البخاري: 2692، ومسلم: 2605.
(3) أخرجه مسلم: 2605.
(4) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (158 - باب).
(5) انظر إن -شئت- بر قم: 3031.
(6) أخرجه البخاري: 3032، ومسلم: 1801 وهذا لفظه.
(7) عنّانا: أي أتعَبنا.
(8) أخرجه البخاري: 3031 وهذا لفظه، ومسلم: 1801.
(7/75)
وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه
-وهو يناقش ما يجوز وما لا يجوز من الكَذِب-: "ليس تحريم الكذب لأجل (ك، ذ،
ب) ولا وجوب الصدق لأجل (ص، د، ق).
قلت: يريد شيخنا -رحمه الله- أنّ تحريم الكَذِب يُدرَك مغزاه ويُعقل مرماه،
فلا يجوز أن تَصْدُق الأعداء وتدلّهم على مواقع المسلمين إذا سألوا؛
تَحرُّجاً من الكَذِب، فالكَذِب هنا واجب، والصدق حرام؛ لما لا يخفى مِن
أثَر ذلك لكلّ ذي لُبٍّ وبصيرة.
التسبيح إذا هَبط وادياً والتكبير إذا عَلا شَرَفاً (1)
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كنا إذا صَعِدنا كبّرنا، وإذا
نزَلنا سبَّحنا" (2).
إباحة تعاقب الجماعة الركُوبَ الواحد في الغزو عند عدم القدرة على غيره (3)
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنهم كانوا يوم بدر بين كلّ ثلاثة
بعير، وكان زميلَيْ (4) رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عليّ وأبو لُبابة، فإذا حانت عُقبةُ (5) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قالا: اركب ونحن نمشي، فيقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى
__________
(1) هذان بابان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب 132، 133).
(2) أخرجه البخاري: 2993.
(3) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" بتصرف يسير، انظر "التعليقات الحِسان"
(7/ 117).
(4) الزميل هنا: هو الذي يركب مع غيره على دابّة واحدة بالنوبة؛ وانظر
"المرقاة" (7/ 459).
(5) أي: نوبة نزولهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "المرقاة".
(7/76)
عن الأجر منكما" (1).
باب الرَّجز (2) في الحرب (3)
عن البراء -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم الخندق وهو ينقل الترابُ؛ حتى وارى التراب شعْرَ صدْرِه
وكان رجلا كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلَّينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا ... وَثَبّتِ الأقدام إنْ لاقينا
إنَّ الأعداء قد بغَوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته" (4).
مَن أَحبَّ الخروج للغزو يومَ الخميس (5)
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بنَ مالك -رضي الله عنه- كان
__________
(1) أخرجه أحمد، وابن حبان "التعليقات الحِسان" (4713) وغيرهما، وانظر
"الصحيحة" (2257)، و"فقه السيرة" (ص 255).
(2) قال الحافظ -رحمه الله-: "الرَّجَز بفتح الراء والجيم والزاي مِن بحور
الشعر على الصحيح، وجَرَت عادة العرب باستعماله في الحرب ليزيد في النشاط
ويبعث الِهمَم، وفيه جوازُ تمثَّل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بشِعر غيرِه".
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب 161).
(4) أخرجه البخاري: 3034، ومسلم: 1803.
(5) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب-103).
(7/77)
يقول: "لقلّما كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرُج إذا خَرَج في سفر؛ إلاّ في يوم الخميس"
(1).
وعن كعب -رضي الله عنه- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خرَج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحبُّ أن يخرج يوم الخميس" (2).
ما يُؤمَر من انضمام العسكر (3)
عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: "كان النّاس إذا نَزَلوا
مَنزِلاً؛ تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ تفرّقكم في هذه الشعاب والأودية؛ إنما ذلكم مِن
الشيطان، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً؛ إلاَّ انضَمَّ بعضهم إلى بعض، حتى يُقال
لو بُسِط عليهم ثوب لَعَمّهُم" (4).
في المياسرة والمرافقة في الغزو (5)
*قال -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (6).
وقال -تعالى-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ (7) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
__________
(1) أخرجه البخاري: 2949.
(2) أخرجه البخاري: 2950.
(3) هذا العنوان من "سنن أبي داود".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2288).
(5) هذا العنوان من كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/ 137).
(6) المائدة: 2.
(7) خصاصة: يعني حاجة، أي: يقدِّمون المحاويج؛ على حاجة أنفسهم، ويبدؤون
بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
(7/78)
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1).
وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الغزو غزوانِ: فأمّا مَن ابتغى وجه الله،
وأطاعَ الإمام وأنفَق الكريمةَ (2)، وياسَرَ الشريك (3)، واجتنَب الفساد،
فإنَّ نومه ونُبْهَهُ (4) أجرٌ كلُّه" (5).
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إنَّ الأشعريين إذا أرملوا (6) في الغزو، أو قلَّ طعامُ
عيالهم بالمدينة؛ جَمَعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثمّ اقتسموه بينهم؛
في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّة، فهم منّي وأنا منهم" (7).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، حدَّث عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، "أنه أراد أن يغزو فقال: يا معشر المهاجرين
والأنصار، إنَّ من إخوانكم قوماً؛ ليس لهم مال ولا عشيرة، فَلْيَضُمَّ
أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة، فما لأحدنا مِن ظَهْرٍ يحمله إلاَّ عُقبةٌ
كعُقْبَةِ (8) -يعني-
__________
(1) الحشر: 9.
(2) أنفَقَ الكريمة: العزيزة على صاحبها. "النّهاية".
(3) ياسَر الشريك: ساهَلَه. "المصدر السابق".
(4) النُّبْهُ: الانتباه من النوم. "المصدر السابق".
(5) أخرجه أبو داود (2515)، وهو في "الصحيحة" (1990).
(6) أرملوا: فَنِي زادهم، وأصله من الرَّمل؛ كأنّهم لصقوا بالرَّمل من
القلَّة، كما قيل في {ذَا مَتْرَبَةٍ}. "فتح".
(7) أخرجه البخاري: 2486، ومسلم: 2500.
(8) عُقبة: العُقبة بالضم: ركوب مركب واحد بالنوبة على التعاقُب، وهو أن
يركب هذا قليلاً، ثم ينزل، فيركب الآخر بالنوبة، حتى يأتي على سائرهم.
ملتقط من "الفتح" و"عون المعبود". والمعنى: لم يكن لي فضلٌ في الركوب على
الذين ضممتُهم إليَّ، بل كان لي عُقبةٌ من جملي مثل عُقبة أحدهم. "عون
المعبود".
(7/79)
أحَدِهِمْ (1)، فضَمَمْتُ إليَّ اثنين أو
ثلاثة، قال: ما لي إلاَّ عُقبة كعقبة أحدِهم مِن جملي" (2) * (3).
عن أبي موسى (4) -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، ونحن ستة نفر، بيننا بعير نَعْتَقِبُهُ (5)
فَنَقِبَتْ أقدامُنا، ونَقِبَت قدماي، وسقَطَت أظفاري، وكنَّا نلفُّ على
أرجُلنا الخِرَقَ، فسُمِّيت غزوةَ ذاتِ الرِّقاع، لمِا كنّا نعْصِبُ من
الخِرَق على أرجلنا، وحدَّث أبو موسى بهذا ثمّ كَرِه ذاك، قال: ما كنت أصنع
بِأنْ أذكُرَه -كأنّه كَرِه أن يكون شيءٌ مِن عَمَلِه أفشاه-" (6).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنا يوم بدرٍ، كلّ ثلاثة على
بعير -أي يتعاقبون- وكان أبو لبابة وعليّ بن أبي طالب زميلَي رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فكانت عُقبة رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالا له: نحن نمشي عنك -ليظلّ راكباً-.
فقال: ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" (7).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخلَّف
__________
(1) جاءت كلمة (أحدِ) مجرورة بالإضافة لأنَّ تقدير الجملة: "كعقبةِ
أحدِهم".
(2) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (2209) وغيرهما.
(3) ما بين نجمتين من كتاب "الإنجاد" (1/ 137).
(4) هذا الحديث إشارة من محقِّقَي كتاب "الإنجاد" -حفظهما الله تعالى-.
(5) نعتقبه: أي نركَبُه عُقبة عُقبة.
(6) أخرجه البخاري: 4128، ومسلم: 1816.
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم: وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم"، وانظر
تخريج "فقه السيرة" (ص 255).
(7/80)
في المسير، فيُزجي (1) الضعيف، ويُردف،
ويدعو لهم" (2).
حرمة نساء المجاهدين ومن خان غازياً في أهله (3):
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "حُرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين؛ كحُرمةِ أمَّهاتهم،
وما مِن رجلٍ من القاعدين يخلُف رجلاً من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم؛
إلاَّ وُقِفَ له يوم القيامة؛ فيأخذ مِن عَمَله ما شاء، فما ظنُّكم؟ " (4).
وفي رواية: "فقال: فخُذ مِن حسناته ما شئت فالتفَتَ إلينا رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: فما ظنُّكُم؟ (5).
وفي رواية: " ... وما مِن رجل مِن القاعدين؛ يخلُف رجلاً من المجاهدين في
أهله؛ إلاَّ نُصب له يوم القيامة، فيُقال: يا فلانُ، هذا فلانٌ، فخُذ مِن
حسناته ما شئت، ثمّ التفَتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إلى أصحابه فقال: ما ظنُّكُم تَرَون، يَدَعُ له مِن حسناته شيئاً؟ " (6).
وفي رواية: "ألا كُلَّما نفَرنا غازين في سبيل الله، خَلَف أحدُهم، له
نبيبٌ
__________
(1) يزجي: أي يسوقه ليُلحقه بالرَّفاق. "النّهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2298) والحاكم، وانظر "الصحيحة"
(2120) وتقدّم.
(3) هذا العنوان من "سنن النسائي" (كتاب الجهاد) (باب 47، 48).
(4) أخرجه مسلم: 1897.
(5) مسلم: 1897 - 140.
(6) "صحيح النسائي": (2990).
(7/81)
كنبيب التيس (1)، يمنح أحدُهم الكُثْبة
(2)، أمَا والله إنْ يُمكِنِّي مِن أحدِهم؛ لأُنكِّلَنَّه عنه (3) " (4).
خروج النساء للتمريض ونحوه
عن أنس -رضي الله عنه- قَالَ: "لمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ الناس
عَنْ النَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَلَقَدْ
رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا
لمُشَمِّرَتَانِ، أرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا (5) تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ
-وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ- عَلَى مُتُونِهِمَا (6) ثُمَّ
تُفْرِغَانِهِ فِي أفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فتَمْلَآَنِهَا،
ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ" (7).
وعن أنس -رضي الله عنه أيضاً- قال: "كَانَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ
__________
(1) نبيب التيس: صوته عند الوقاع، لشِدّة رغبته فيه.
(2) الكُثْبة: القليل من اللبن وغيره. "شرح النووي".
(3) لأُنكِّلنَّه عنه: أي لأمنعنَّه عن ذلك بالعقوبة والحدِّ، وفي رواية
لمسلم (1692 - 18) "إلاَّ جعلتُه نكالاً أو نكَّلته" أي: عِظةً وعِبرةًَ
لمَن بعده، بما أصبْتُه منه من العقوبة؛ ليمتَنعوا من تلك الفاحشة. قاله
النّووي -رحمه الله- أيضاً.
(4) أخرجه مسلم: 1692، وانظر رقم (1694) أيضاً.
(5) قال الإمام النّووي -رحمه الله- (12/ 189): "قوله: (أرى خَدَم سوقها)
هو بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة، الواحدة خدمة، وهي الخلخال، وأمّا
السوق: فجمع ساق، وهذه الرواية للخَدَم لم يكن فيها نهي؛ لأنّ هذا كان يوم
أحد قبل أمْرِ النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن، ولأنه لم يَذكُر هنا
أنه تعمّد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حَصَلَت تلك النظرة فجأة
بغير قصد، ولم يستدِمْها".
(6) أي على ظهورهما.
(7) أخرجه البخاري: 2880، ومسلم: 1811.
(7/82)
وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا
غَزَا، فَيَسْقِينَ الماءَ، وَيُدَاوِينَ الجرْحَى" (1).
حَمل الرجل امرأتَه في الغزو دون بعض نسائه (2)
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أرادَ أن يخرُج؛ أقرع بين نسائه؛ فأيتُهُنّ يخرج
سهمها؛ خرج بها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرع بيننا
في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجْتُ مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أُنزِل الحجاب" (3).
غزوة النساء مع الرجال
عن أنس -رضي الله عنه- " أنّ أم سُليم اتّخذَت يوم حنين خَِنْجراً فكان
معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أمُّ سُليم معها خِنَجرٌ،
فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما هذا
الخِنَجر؟ قالت: اتخذتهُ إنْ دنا مني أحد من المشركين؛ بَقَرتُ (4) به
بطنه، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحك ... "
(5).
تحريم إسناد القتال إلى النّساء
عن أبي بكرةَ -رضي الله عنه- قال: لقد نفعني الله بكلمةٍ سَمِعْتها مِن
رسول الله أيّام الجَمل؛ بعدما كِدْتُ أن ألحقَ بأصحاب الجمل (6) فأقاتلَ
__________
(1) أخرجه مسلم: 1810.
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 64).
(3) أخرجه البخاري: 2593، 2879، ومسلم: 2770.
(4) أي شَقَقتُ.
(5) أخرجه مسلم: 1809.
(6) يعني عائشة -رضي الله عنها- ومن معها.
(7/83)
معهم (1)، قال لما بلَغ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى، قال:
لن يُفْلِح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة" (2).
وما ورد من مشاركة بعض النساء في القتال -في حدودٍ ضيقةٍ- يختلف عن تولّيها
أمرَ القتال والقيادة.
فضل الخدمة في الغزو
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "صَحِبْتُ جريرَ بن عبد الله؛ فكان
يخدمني وهو أكبر من أنس. قال جرير: إنّي رأيت الأنصار يصنعون شيئاً لا أجد
أحداً منهم إلاَّ أكْرمتُه (3) " (4).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنّا مع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أكثرنا ظِلاًّ الذي يستظل بكسائه، وأمّا الذين صاموا فلم
يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر"
(5).
__________
(1) تأمّل كيف نَفَع الله -تعالى- أبا بكرة -رضي الله عنه- لأنه عَمِل
بمقتضى الحديث، ولم يتأوّله فيقول: هذه أم المؤمنين -رضي الله عنها- والأمر
سائغ، بل إنّ الله -تعالى- نجّاه من الفتنة والقتال؛ ببركة تعظِيم الحديث
وإمضائه.
(2) أخرجه البخاري: 4425.
(3) قال الحافظ -رحمه الله-: في رواية نصر "آليت -أي حَلَفْت- أن لا أصحب
أحداً منهم إلاَّ خَدَمْته".
(4) أخرجه البخاري: 2888، ومسلم: 2513.
(5) أخرجه البخاري: 2890، واللفظ له، ومسلم: 1119.
(7/84)
إذن الوالدين في
جهاد التطوع
الجهاد الواجب لا يلزم فيه إذن الوالدين.
أمّا جهادُ التطوّع؛ فإنّه لا بد فيه من إذن الوالِدَيْن المسلِمَين.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سألْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها،
قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدين، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل
الله" (1).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك؟
قال: نعم، قال: ففيهما فجاهِد" (2).
وفي رواية: "جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما فأضحِكهما كما
أبكيتَهما" (3).
وعن جاهمة السُّلمي -رضي الله عنه- قال: "أنّه جاء رجل إلى النبيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أردتُ أن أغزو،
وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك من أمّ، قال: نعم، قال: فالزمها؛ فإنّ الجنّة
تحت رجليها" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 527، ومسلم: 85.
(2) أخرجه البخاري: 3004، ومسلم: 2549.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح
الأدب المفرد" برقم 10.
(4) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2908) وابن ماجه وغيرهم،
وانظر تعليق شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضيّة على الروضة النديّة"
(3/ 439).
(7/85)
وقال في "الروضة النديّة" (2/ 718):
"وقد ذَهَب الجمهور؛ إلى أنَّه يَجب استئذان الأبوين في الجهاد، ويَحرُم
إذا لم يأذنا أو أحدهما، لأنّ بِرّهما فَرْضُ عين، والجهاد فرضُ كفاية،
قالوا: وإذا تعيَّن الجهاد فلا إِذْن ... ".
وقال العلّامة أحمد شاكر -رحمه الله-: "ولعل الأحسن في التوفيق بين
الحديثين، أن يُجْعَل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلِّف، فإنْ كانت المصلحة
تقتضي بأحدهما وجب تقديمه، وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في
شيء من الروايات، أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو".
وجاء في "المغني" (10/ 383):
" (وإذا خوطب في الجهاد فلا إذْن لهما، وكذلك كلّ الفرائض لا طاعة لهما في
تركها) يعني إذا وجَب عليه الجهاد لم يُعتَبَرْ إذن والديه، لأنه صار فرْضَ
عين، وترْكه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذلك كلّ ما وجب، مثل:
الحجّ، والصلاة في الجماعة والجمع، والسفر للعِلم الواجب.
قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في تَرْك الفرائض والجُمَع والحجّ والقتال،
لأنها عبادة تعيّنت عليه، فلم يُعتَبر إذن الأبوين فيها كالصلاة، ولأنّ
الله -تعالى- قال: {وَللهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلبَيتِ مَنِ
اَسْتَطَاعَ إليَهِ سبيلاً}، ولم يَشتَرِط إذن الوالدين".
وجاء في كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1) (1/ 52): "وأمَّا مَن له
__________
(1) تصنيف الإمام أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي
القرطبي المعروف بابن المُناصف -رحمه الله-، علّق عليه وخرّج أحاديثه مشهور
بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي -حفظهما الله-.
(7/86)
أبوان؛ فإنْ كانا يَضيعان بخروجه إلى
الجهاد؛ فهو إجماعٌ على أنّ فرضَ الجهاد ساقِطٌ عنه، ذكَره أبو محمد بنُ
حزمٍ في "مراتب الإجماع". وإنْ كانا ممّن لا يَضيع، فذهب الجمهور إلى أنّ
عليه أن يستأذنهما، فإنْ أذِنا له خرَج، وإنْ أبَيَا عليه لم يجُزْ له أن
يخرج.
رُوي ذلك عن مالكِ، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل،
وغيرهم من أهل العلم، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: "لا خلاف أعلمه أنّ
الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان، أو أحدهما".
قلت [والكلام لصاحب "الإنجاد"]: ذلك إذا لم يتعيَّن الفرض، مِثْل أنْ يفْجأ
العدوُّ (1)، فيُحتاج إليه في الدفع، ونحوِ ذلك ممّا يتعيّن فيه، لأنه ما
لم يتعيَّن، يعصي والديه ويعقُّهما في غير شيء أوجَبَه الشرع، فذلك حرامٌ
عليه، وأمّا إذا تعيَّن الفرض، فلا يستأذنهما في تَرْك الفرائض".
ثمّ ذكَر الأدلة على ذلك، ثمّ قال: "وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا
أذِنَت له أمُّه في الجهاد، وعلِمَ أنّ هواها أن يجلس؛ فليجلس".
وقال في "المغني" (10/ 383) أيضاً:
__________
(1) وجاء في "التعليق": "هل حضور الولد الصّف بعد الإذن، يُؤثّر فيه رجوع
الأبوين عن الإذن؟ خلافٌ بين أهل العلم، بخلاف رجوعهما قبل حضورِ الصفّ،
فالواجب على الولد الرجوع، ما لم يتعيَّن عليه الجهاد، انظر بسط المسألة
في: "روضة الطالبين" (10/ 212)، "أسنى المطالب" (4/ 177 - 178)، "مغني
المحتاج" (4/ 218)، "كشاف القناع" (3/ 40)، "أحكام إذْن الإنسان" (2/ 624 -
625)، "رسالة الإرشاد إلى بيان الحقّ في حُكم الجهاد" (ص 74 - وما بعدها)
".
(7/87)
"وإنْ خرَج في جهاد تطوّعٍ بإذنهما،
فمنَعاه منه بعد سَيْرِه وقبل وجوبه، فعليه الرجوع، لأنه معنى لو وجد في
الابتداء مُنِع، فإذا وُجد في أثنائه منع؛ كسائر الموانع، إلاَّ أن يخاف
على نفسه في الرجوع، أو يحدث له عذر؛ مِن مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه، فإنْ
أمكنه الإقامة في الطريق، وإلا مضى مع الجيش، فإذا حضَر الصفّ، تعيّن عليه
بحضوره، ولم يَبْقَ لهما إذن. وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعيُّن الجهاد
عليه، لم يؤثّر رجوعهما شيئاً".
هل يُستأذَن الدائن (1)
ومن كان عليه دين حالٌّ أو مُؤجَّل، لم يجُز له الخروج إلى الغزو إلاَّ
بإذن غريمه، إلاَّ أن يَتْرُك وفاءً، أو يقيمَ به كفيلاً، أو يُوَثِّقَه
برهن، وبهذا قال الشافعي.
ورخَّص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه؛ لأنه لا تتوجه المطالبة
به، ولا حبْسه من أجله، فلم يُمنَع من الغزو، كما لو لم يكن عليه دين، ولنا
أنّ الجهادَ تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، فيفوت الحقُّ بفواتها.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُغفر للشهيد كلُّ ذنبٍ إلاّ الدَّيْن"
(2).
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله قام فيهم، فذَكَر لهم أن
الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول
الله أرأيت إنْ قُتلتُ في سبيل الله تُكفّر عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول
الله: نعم، إن
__________
(1) عن "المغني" (13/ 27) بتصرف يسير، وزيادة حديث ابن عمرو -رضي الله
عنهما-.
(2) أخرجه مسلم: 1886.
(7/88)
قُتلتَ في سبيل الله، وأنت صابرٌ محُتسب،
مُقبِل غيرُ مُدبر، ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: كيف قلت؟ قال: أرأيتَ إنْ قُتلتُ في سبيل الله أتُكفّرُ عني خطاياي،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم؛ وأنت صابرٌ
محُتسب مُقبل غيرُ مدبر إلاّ الدَّيْن، فإنّ جبريلَ -عليه السلام- قال لي
ذلك" (1).
وأمّا إذا تَعيَّن عليه الجهاد، فلا إذْن لغريمه، لأنّه تعلّق بعينِه، فكان
مُقدَّماً على ما في ذمّته؛ كسائر فروض الأعيان، ولكن يُستحَبّ له أن لا
يتعرض لمظانّ القتل؛ من المُبارزة، والوقوف في أول المقاتلة، لأن فيه
تغريراً بتفويت الحق (2)، وإنْ ترَك وفاءً، أو أقام به كفيلاً، فله الغزو
بغيرِ إذْن.
نصّ عليه أحمد، في مَن تَرك وفاءً، لأنّ عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد
الله خرَج إلى أُحُد، وعليه دَينٌ كثير، فاستُشهِد، وقضاه عنه ابنه بعِلم
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذمّه النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، ولم يُنكر فِعْلَه، بل مَدَحه،
وقال: "ما زالت الملائكة تُظِلّه بأجنحتها، حتى رفعتموه" (3).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجابر: "ألا أُخبرك ما قال
الله -عزّ وجلّ- لأبيك، قلتُ: بلى، قال: ما كَلَّم الله أحداً إلاّ من وراء
حجاب، وكلّم أباك كِفاحاً (4) " (5).
قلتُ: أراد المصنف -رحمه الله- أن يجمع بين تلبية واجب الجهاد وأداء
__________
(1) أخرجه مسلم: 1885.
(2) انظر تعليقي في المتن، بعد قليل إن شاء الله -تعالى-.
(3) أخرجه البخاري: 1244، ومسلم: 2471.
(4) كفاحاً: أي مواجهة، ليس بينهما حجابٌ ولا رسول. "النّهاية".
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2258) وغيره.
(7/89)
الحقوق. ولكن: لا بُدّ من تفصيلٍ فيما
يتعلق بالتّعرض للمبارزة والوقوف في أول المقاتلة.
فإنْ كان أُوتي من الشجاعة والإقدام، ما يُمكنه أن يُحقّق نصراً أو يكون
سبباً في استجلاب نفعٍ عامّ أو مصلحة راجحة؛ فلا حرج من مبادرته بذلك.
فأمّا الدين، فلا يضرُّه عدم أدائه؛ إذا كان قد بذَل الأسباب المطلوبة منه،
ولا يخفى دور الإمام في سدِّ هذا الأمر، والله -تعالى- أعلم.
قلت: ثمّ اطلعت على ما جاء في "الإنجاد" (1/ 57) وفيه: "وأمّا المِدْيان
(1) فاختلفوا فيه، فرُوي عن الأوزاعي أنّه أرخص في خروجه إلى الجهاد مِن
غير إذْنِ صاحب الحقِّ، ورُوي عن الشافعي أنه ليس له أن يغزو بحالٍ؛ إلاَّ
بإذْن أهل الدَّيْن، وسواءٌ كان الدَّين لمسلمٍ أو كافر، وفرَّق مالكٌ بين
أن يجد قضاءً أو لا يجد، واختلفت مع ذلك فيه الروايات عنه ...
... وقد جاء في أمر الدَّين تشديدٌ كثير غير هذا؛ فأقول [الكلام لصاحب
"الإنجاد"]: إنّ تعلّق المأثم بالدَّين، إنما يكون حيث التقصيرُ المُتْلِفُ
لذلك الحقِّ، إمّا بالمَطْلِ أو الجحود، أو تَرْكِ أنْ يوصيَ به، وإمّا أنْ
يَدَّانَ في غير الواجب، وهو ممَّن لا يقدر على الأداء، وما أشبه ذلك.
وللمِدْيان عند إرادة الغزو حالان: مَلاَءٌ أو عَدَمٌ.
فأمّا المليء، فإنْ كان حَلَّ دينُه، فالظاهر أنّه لا يجوز أنْ يغزوَ بغير
إذْنِ صاحب الحقِّ، فإنْ كان دينه لم يحلَّ بعدُ، فهذا له أن يغزو، وعليه
أن يوكِّل مَن
__________
(1) المِدْيان: هو الذي يُقرض كثيراً ويستَقْرِض كثيراً. انظر "المحيط".
(7/90)
يقضيه عنه عند حلوله، والدليل على ذلك أنَّ
مَن كان مليئاً، وقد حلَّ الحقُّ عليه، فهو مأمورٌ كلَّ وقتٍ بالقضاء،
ففِعْلُه ما يحول بينه وبين ذلك؛ مِن غير إذن صاحب الحق لا يحلُّ له.
خرَّج مسلم (1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَطْلُ (2) الغني ظُلْم، وإذا أُتبع أحدكم على
مليءٍ فَلْيتْبَعْ" (3).
وأمّا إذا لم يَحُلْ، فلا حَقَّ عليه الآن في الأداء، فلا يتَّصف بالمطلِ،
فليس عليه أنْ يستأذنه، لكن عليه باتفاقٍ أن يوصيَ به، ويُوكِّل على قضائه،
فإذا فعَل ذلك فقد أدَّى ما لزِمه ساعتئذِ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ".
وأمَّا إنْ كان عديماً لا يَجِدُ قضاءً، ولا يرجو كَسْباً، فهذا روي عن
مالك أنه سُئِل عنه فلم يرَ بجهاده بأساً، يعني: وإن لم يستأذِن غريمه،
وهذا ظاهر؛ لأنه لا منفعة له في منْعِه، وليس ممّن عليه حَبْسٌ ولا سلطان،
بل هو مخلَّى بإنظار الله -عزّ وجلّ- إياه، فلا يَجِب له عليه شيءٌ، ما دام
على حالته تلك. قال بعض المتأخرين: ولعله يُرزق في الغزو ما يؤدي به دَينه،
ففي الغزو خيرٌ لهما.
وقد رُوي -أيضاً- عن مالك ما ظاهِرُه، أنه يَجِب الاستئذانُ على مَن لم يجد
وفاءَ من دَيْنِهِ، ولا استئذان على من ترَك وفاءً".
__________
(1) برقم (1564)، وانظر "صحيح البخاري" 2287، 2288، 2400.
(2) هو مَنْع قضاء ما استُحِق أداؤُه.
(3) معناه: إذا أُحيل بالدَّين الذي له على موسر، فليَقْبَل الحوالة.
(7/91)
حكم الاستعانة
بالمشركين في الجهاد
اختلَف العلماء في مشروعية الاستعانة بالمشركين، فذهَب جماعة من العلماء
إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهَب آخرون إلى جوازها.
ومن أهم أدلة المانعين:
حديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: "خرَج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَل بدر فلمّا كان بِحَرَّة الوَبَرَة (1)، أدركه
رجل قد كان يُذكَر منه جُرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأوه، فلمّا أدركه قال لرسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئت لأتَّبِعَك وأصيبَ معك، قال له رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا،
قال: فارجع فلن أستعين بمشرك.
قالت: ثمّ مضى، حتى إذا كنّا بالشجرة (2)، أدركه الرجل فقال له كما قال
أوّل مرّة، فقال له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال
أول مرة، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال: ثمّ رَجَع فأدركه بالبيداء،
فقال له كما قال أوّل مَرّة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فانطَلِق" (3).
ومن أبرز أدلّة المجوّزين:
حديث ذي مخِبَر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ستصالحون الروم صُلحاً آمناً (4)، فتغزون أنتم
وهم عدواً مِن ورائكم،
__________
(1) الوَبَرَة: موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة.
(2) اسم موضع.
(3) أخرجه مسلم: 1817.
(4) أي صلحاً ذا أمن.
(7/92)
فتُنصَرون وتَغنَمون وتَسلمون ثمّ تَرجعون،
حتى تنزِلوا (1) بمَرْج (2) ذي تُلول (3)، فيرفع رجل من أهل النصرانية
الصليب، فيقول: غَلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه (4)، فعند ذلك
تغدر الروم وتجمعُ للملحمة (5) " (6).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله يؤيّد الدين
بالرّجُل الفاجِر" (7).
فيُجمَع بين الأحاديث بأنّ الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلاّ لضرورة؛ لا
إذا لم تكن ثمّ (8) ضرورة (9).
وبوّب الإمام النّووي -رحمه الله- لمسلم في كتاب "الجهاد والسِّير"، فقال:
"باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلاَّ لحاجة، أو كونه حَسن الرأي في
المسلمين" وذكر الحديث السابق ثمّ قال -رحمه الله- في الشرح: "قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فارجع فلن أستعين بمشرك"، وقد جاء في
الحديث الآخر أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان
__________
(1) أي أنتم وأهل الروم.
(2) مرج: أرض واسعة ذات نبات كثير.
(3) ذي تُلول: جمع تَل: موضع مرتفع.
(4) أي: فيكسر المسلم الصليب.
(5) أي للقتال. وانظر "المرقاة" (9/ 318).
(6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3607)، وابن ماجه. وانظر
للمزيد من شرح الحديث -إن شئت- "المرقاة" (9/ 318) و"عون المعبود"، (11/
268).
(7) البخاري: 4203، ومسلم: 111.
(8) انظر إن شئت المزيد "الروضة الندية" (2/ 722).
(9) قال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 443): "انظر رأي
الشافعي في "الأم" ففيه تفصيل جيّد".
(7/93)
بصفوان بن أُميّة قبل إسلامه، فأخذ طائفة
من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إنْ كان الكافر
حَسَن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به؛ استُعين به وإلاّ
فيُكره، وحَمْل الحديثين على هاذين الحالين". والله -تعالى- أعلم.
وجاء في نيل الأوطار (8/ 45) بعد عَرْض الأدلة ومناقشة الفريقَين: "والحاصل
أنّ الظاهر من الأدلّة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركاً مُطلقاً؛ لما في
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنا لا نستعين بمشرك" من
العموم ... ". انتهى.
قلتُ: ولا أرى معارضة بين هذا وما تقدّم؛ مما جاء في كلام النّووي
ونقولاته، وكذا مما قاله صاحب "الروضة" -رحمهما الله- إذْ أصل الحُكم عدم
جواز الاستعانة، وتبقى الضرورة مسألة أخرى لا يمكن إغفالها، والنصوص فيها
معلومة معروفة، ولكن ينحصر الخلاف ومدار البحث والنظر؛ في تحقيق مناط
الحُكم، إذْ هو مرتبط بتنقيح مناطه (1).
وأقول: لو أنّ المسلمين عملوا ما أوجب الله -تعالى- عليهم من أسبابٍ
لاستجلاب النصر؛ مِنْ إعدادٍ عَقَديّ ومنهجي وروحي ومادي وعسكري ... ،
وتآلفوا فيما بينهم، وتعاونوا على البرِّ والتقوى؛ لما احتاجوا إلى
الاستعانة.
ثمّ اطلعت على ما جاء في كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (ص 158): فقد قال
مصنّفه -رحمه الله-: "واختلَف أهل العِلم في ذلك: فالجمهور على كراهة
الاستعانة بهم في شيءٍ من الغزو، -وهو الصحيح-، لما دلّ عليه القرآن
__________
(1) وانظر -للمزيد إن شئت-: "المغني" (10/ 456)، و"نيل الأوطار" (8/ 42)
و"سُبُل السلام" (4/ 91).
(7/94)
والسُّنة الثابتة، ورُوي عن مالك أنه أجاز
أن يُستعان بهم في خدمةٍ أو صنعَة. وعن ابن حبيب: أن يُستعان بهم في هدم
الحصون ورمي المنجنيق، ... " (1).
وجاء في التعليق من قِبَل محقِّقي الكتاب -حفظهما الله تعالى-: "واشترط
بعضهم في الاستعانة بهم؛ إحسانهم الرأي في المسلمين، وأن يأمن المسلمون
خيانتهم، وأن يكون المسلمون قادرين عليهم؛ لو اتفقوا مع العدو، فإذا وُجِدت
هذه الشروط الثلاثة، جازت الاستعانة بهم. وقيل: لا يجوز استصحابهم في
الجيش، مع موافقتهم العدو في المعتقد، فعلى هذا تكون الشروط أربعة".
وجاء في التعليق (ص 160): "فالاستعانة بالمشرك في القتال تجوز عند الحاجة
إليه. قال ابن القيم -رحمه الله- في "الزاد" (3/ 301) في مَعْرِض كلامه على
ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية: "ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك
المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عَيْنَهُ الخزاعيَّ كان كافراً إذ
ذاك -يشير المصنف إلى ما سبق أن ذكره (ص 288) أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بذي الحليفة؛ أرسَل عيناً له مُشركاً مِن
خزاعة (2) يأتيه بخبر قريش- وفيه في المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو
وأخذه أخبارهم".
أسأل الله -تعالى- أن يُفرّج كربات المسلمين وأن ينصرهم على الأعداء، إنّه
على كل شيء قدير.
__________
(1) انظر تتمة كلامه وردّه -إن شئت-.
(2) انظر ما جاء في "صحيح البخاري" برقم (4178، 4179).
(7/95)
النهي عن السفر بالمصحف إلى أَرض الحرب
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أنْ يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوِّ" (1). وفي
رواية: "أنَّه كان ينهى أنْ يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ مخافةَ أن
ينالَه العدوُّ" (2). وفي رواية أخرى: "لا تسافروا بالقرآن؛ فإنّي لا آمَنُ
أنْ ينالَه العدوُّ" (3).
ما يُنهى عنه في الحرب
قال الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} (4).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا
في ذلك، ويَدْخُل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسَن البصري- من
المُثلة، والغُلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأيَ لهم ولا
قتالَ فيهم، والرُّهبانِ وأصحابِ الصوامع، وتحريقِ الأشجار، وقتلِ
الحيوانات لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل
بن حيان وغيرهم ... ".
وتقدّم حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا أمّرَ
__________
(1) أخرجه البخاري: 2990، ومسلم: 1869.
(2) مسلم: 1869 - 94.
(3) مسلم: 1869 - 94.
(4) البقرة: 190.
(7/96)
أميراً على جيش أو سريَّة (1) أوصاه في
خاصَّته بتقوى الله ومَن معه مِن المُسلمين خيراً، ثمَّ قال: "اغزوا باسم
الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كَفر بالله اغْزوا ولا تَغُلّوا ولا
تَغدرِوا ولا تَمْثُلوا ولا تقتلوا وليداً" (2).
ومما ينهى عنه في الحرب:
1 - قَتْل النساء والوِلدان.
عن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إنّ امرأةً وُجِدت في بعض مغازي
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقتولة، فأنكَر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْل النساء والصبيان" (3).
وعن رباح بن ربيع -رضي الله عنه- قال: "كُنّا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فرأى النّاس مجُتمعين على شيء،
فبعَث رجلاً فقال: انظر عَلامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأةٍ قَتيل،
فقال: ما كانت لتُقاتِل! قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعَث رجلاً
ففال: قُل لخالد لا تقتلنَّ امرأةً ولا عسيفاً (4) " (5).
قال القاري -رحمه الله-: ولعلّ علامته أن يكون بلا سلاح.
__________
(1) السريَّة: هي قطعة من الجيش؛ تخرج منه، تغير وترجع إليه، قالوا: سُميّت
سريّة؛ لأنّها تسري الليل ويخفى ذهابُها. "شرح النّووي" وتقدّم.
(2) أخرجه مسلم: 1731 وتقدم غير بعيد.
(3) أخرجه البخاري: 3014، ومسلم: 1744.
(4) عسيفاً: أي أجيراً.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2324)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2294)، وانظر "الصحيحة" (701).
(7/97)
قال الخطابي -رحمه الله-: "في الحديث دليل
على أنّ المرأة إذا قاتَلت قُتِلَت، ألا ترى أنه جَعل العِلَّة في تحريم
قَتْلها لأنّها لا تُقاتِل، فإذا قاتَلَت دَلّ على جواز قتْلها" (1).
قلت: ويجوز قتْلها إذا كان هناك سببٌ يدعو إلى ذلك.
فقد ورَد قتل المرأة صريحاً؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم
يُقتَل مِن نِسائهم -تعني بني قريظة- إلاَّ امرأة إنها لعندي تُحَدِّثُ:
تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقتُل رجالَهم بالسيوف، إذ هتَف هاتف باسمها أين فلانة؟ قالت: أنا، قُلت
وما شَأنُكِ؟ قالت: حَدَثٌ أحْدَثْتُهُ قالت: فانطُلِق بها، فضُرِبَت
عنُقها، فما أنسى عجَباً منها، أنّها تضحك ظهراً وبطناً، وقد عَلِمت أنها
تُقتَل" (2).
قال الخطّابي -رحمه الله-: "يُقال إنّها كانت شَتَمت النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الحَدث الذي أحدَثَتْهُ، وفيه دلالة على
وجوب قَتْلِ مَنْ فَعَل ذلك ... " (3).
وعن الأسود بن سريع -رضي الله عنه- قال: "أتيتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغزوت معه، فأصبْتُ ظهرَ أفضل النّاس يومئذٍ، حتى
قتلوا الوِلدان- وقال مرَّةً: الذرِّيَّة.
فبلَغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما بال
قومٍ جاوزهم القَتْلُ اليومَ حتى قَتَلُوا الذرِّيَّة؟! فقال رجلٌ: يا رسول
الله! إنَّما هُمْ أولاد المشركين! فقال: ألا إنَّ خِيارَكُم أبناء
المشركين. ثمَّ قال: ألا لا تقتلوا ذُرِّيَّةً، ألا لا تقتلوا ذُرِّيَّةً.
__________
(1) انظر "عون المعبود" (7/ 236).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2325).
(3) انظر "عون المعبود" (7/ 238).
(7/98)
قال: كلّ نَسَمَةٍ تُولد على الفطرة (1)،
حتى يَهُبَّ (2) عنها لسانها (3)؛ فأبواها يُهَوِّدانها ويُنَصِّرانها"
(4).
وعن الصَّعب بن جَثَّامة "أنه سأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الدار من المشركين يُبَيَّتُون فيُصاب مِن ذراريِّهم
ونسائهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُم مِنهُم".
[قال الزهري: ثمّ نَهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بعد ذلك عن قتل النساء والولدان.] (5).
قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (12/ 49) -بحذف-
__________
(1) التي فطَر النّاس عليها أي الخِلقة التي خَلَق النّاس عليها، من
الاستعداد لقَبول الدين والنُّهي للتحلّي بالحق، وقَبول الاستعداد،
والتأبّي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب. "فيض القدير".
(2) وفي لفظ (يُعرب)، انظر "صحيح الجامع" (4435)، وانظر لزاماً "الصحيحة"
(401).
(3) فحينئذ إنْ تُرك بحاله، وخُلّي وطَبعه؛ ولم يتعرض له مِن الخارج مَن
يصدُّه عن النظر الصحيح مِن فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإلف
بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك؛ لينظر فيما نصب من الدلالة
الجلية على التوحيد، وصِدْق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وغير ذلك نظرًا صحيحاً؛ يوصله إلى الحق، وإلى الرشد، عَرف الصواب، ولَزِم
ما طُبع عليه في الأصل، ولم يختر إلاَّ الملة الحنيفية، وإن لم يُترك بحاله
بأن كان أبواه نحو يهوديين أو نصرانيين، فأبواه هما اللذان يهوّدانه أي
يُصيِّرانه يهوديّاً، بأن يُدخلاه في دين اليهودية المحرَّف المبدَّل،
بتفويتهما له أو ينصرانه، أي يصيِّرانه نصرانيّاً ... "فيض القدير" (5/
34).
(4) أخرجه أحمد والنسائي في "الكبرى" والدارمي وغير هم وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "الصحيحة" (402).
(5) أخرجه البخاري: 3012، ومسلم: 1745، وما بين المعقوفتين لأبي داود
(2672) وانظر "صحيح سنن أبي داود" (2326).
(7/99)
"وتقديره: سُئل عن حُكمِ صبيان المشركين
الذين يُبَيَّتون فيُصاب مِن نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال: هم مِن آبائهم
أي لا بأس بذلك؛ لأنّ أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي
القِصاص والدِّيات وغير ذلك، والمراد إذا لم يُتعمَّدوا مِن غير ضرورة،
وأمّا الحديث السابق (1) في النهي عن قتل النساء والصبيان، فالمراد به إذا
تميّزوا، وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بياتهم وقتْل النساء والصبيان في
البيات؛ هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومعنى البيات
وُيبَيَّتُون: أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعرف الرجل من المرأة
والصبي.
وفي هذا الحديث: دليلٌ لجواز البيات، وجواز الإغارة على مَن بلَغتهُم
الدعوة مِن غير إعلامهم بذلك". انتهى.
قلت: وخلاصة القول: عدم جواز تعمُّد قَتْل النساء والصبيان (2)، وجواز ذلك
إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء المقاتلين، لاختلاطهم.
والضابط في عدم قتل الصبيان؛ عدم الإنبات، جاء في "صحيح ابن حبان":
"الأمر بقتل مَن أنْبَت الشعر في دار الحرب والإغضاء (3) على مَن لم
يُنْبِت" (4) ثمّ ذكَر تحته حديث عطية القُرظي -رضي الله عنه- قال:
"عُرضْتُ على
__________
(1) يشير إلى حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي ذَكَرْتُه في بداية
البحث.
(2) قال النّووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (12/ 48): "أجمع العلماء على
العمل بهذا الحديث! نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن قَتْل النساء والصبيان" وتحريم قَتْل النساء والصبيان إذا لم يقاتِلوا،
فإنْ قاتلوا؛ قال جماهير العلماء: يُقتلون".
(3) أي الأمر بإبقائه والسكوت عنه.
(4) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" "التعليقات الحِسان" (7/ 154).
(7/100)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فشكُّوا فيّ، فقيل لي: هل أنبتَّ (1)، ففتّشوني
(2)، فوجدوني لم أُنبِت، فُخلّيَ سبيلي" (3) ".
2 - قتْل الأُجَراء، لحديث رباح -رضي الله عنه- المتقدّم: "لا تَقْتُلَنَّ
امرأةً ولا عَسيفاً".
3 - قتل المجانين: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"رُفِع القلم عن ثلاث ... وعن المجنون حتى يستيقظ".
قال في "الإنجاد" (1/ 228): "وأمّا المجنون فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف
أنّه لا يُقتَل ... ".
4 - قَتْل الرهبان وأصحاب الصوامع الذين لا يخالطون النّاس، وليسوا مِن أهل
القتال ولا هم من أهل المشورة والرأي فيه (4).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 659): "الرهبان الذين تنازَع العلماء في
قَتْلِهم، وأخْذِ الجزية منهم: هم المذكورون في الحديث المأثورِ عن خليفةِ
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أبي بكر الصديق -رضي
الله عنه- أنّه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان لمّا بَعَثَه أميراً على
فَتْح الشام، فقال له في وصيته: وستجدون أقواماً قد حبَسوا أنفسهم في
الصوامع، فذروهم وما حبَسوا أنفسهم له، وستجدون أقواماً قد
__________
(1) أي: هل نبَت شعر عانتك؟
(2) يعني كشفوا العانة، ونظروا أأنبَتُّ أم لا.
(3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4760) وأبو داود وابن
ماجة وغيرهم.
(4) قال في "المغني" (1/ 543): "لأنّ الرأي مِن أعظم المعونة في الحرب".
(7/101)
فحصوا (1) عن أوساط رءوسهم، فاضربوا ما
فحصوا عنه بالسيف، وذلك بأنّ الله يقول: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (2).
وإنما نَهَى عن قَتْل هؤلاء، لأنهم قوم مُنقَطعون عن الناس، محبوسون في
الصوامع، يُسمَّى أحدُهم حبيساً، لا يعاوِنون أهلَ دينهم على أمرٍ فيه ضررٌ
على المسلمين أصْلاً، ولا يخالطونهم في دنياهم؛ ولكن يكتفي أحدُهم بقدر ما
يتبلّغ به. فتنازَع العلماء في قَتْلهم، كتنازُعهم في قَتْل مَن لا يضُرّ
المسلمين؛ لا بيده ولا لسانه؛ كالأعمى، والزَّمِن، والشيخ الكبير، ونحوِه؛
كالنساء والصبيان.
فالجمهور يقولون: لا يُقتَل إلاَّ مَن كان مِن المعاونين لهم على القتال في
الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان. ومِنهم مَن يقول: بل مجرّد الكفر، هو
المبيح للقتل، وإنّما استثني النساء والصبيان، لأنهم أموال. وعلى هذا الأصل
ينبني أخْذ الجزية.
وأمّا الراهب الذي يعاوِن أهلَ دينه بيده ولسانه: مثل أن يكون له رأي
يرجعون إليه في القتال، أو نوع مِن التحضيض: فهذا يُقتَل باتفاق العلماء،
إذا قُدِر عليه، وتُؤخَذ منه الجزية -وإنْ كان حبيساً منفرداً في مُتعبّده-
فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم، ومخالطتهم الناس، واكتساب الأموال
بالتجارات والزراعات والصناعات، واتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم، وإنّما
تميَّزوا على غيرهم بما يُغلِظ كفرهم، ويجعلهم أئمةً في الكُفر، مثل
التعبّد بالنجاسات، وترْك النكاح واللحم واللباس؛ الذي هو شعار الكفر، لا
سيما وهم الذين يقيمون دين
__________
(1) أي: كشفوا عنها بإزالة الشعر.
(2) التوبة: 12.
(7/102)
النصارى؛ بما يُظهرونه مِن الحِيَل الباطلة
التي صَنَّف الفضلاء فيها مُصنّفات، ومِن العبادات الفاسدة، وقَبول نذورهم
وأوقافهم.
والراهب عندهم شَرْطُه تَرْك النكاح فقط، وهم مع هذا يُجوِّزون أن يكون
بتركاً، وبطرقاً، وقسيساً، وغيرهم مِن أئمّة الكفر، الذين يَصْدُرون عن
أمْرِهم ونَهْيهم؛ ولهم أنْ يكتسبوا الأموال، كما لغيرهم مِثْل ذلك.
فهؤلاء لا يَتنازَع العلماء في أنّهم مِن أحقّ النصارى بالقتل عند
المحاربة، وبأخذ الجزية عند المسالمة، وأنّهم مِن جنس أئمّة الكفر الذين
قال فيهم الصدِّيق -رضي الله عنه- ما قال، وتلا قوله -تعالى-: {فَقَاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ".
5 - قتل الهَرِم والأعمى، والمقعد -بالقيد السابق-.
جاء في "الإنجاد" (1/ 227): "وذهب مالك إلى أنه لا يُقتَل الهَرِم، ولا
الأعمى، ولا المعتوه، ولا المُقْعَد، ولا أصحاب الصوامع الذين لا يخالطون
النّاس، يعني: أنه لا أذى عندهم بقتال ولا مشاركة رأي؛ لانفرادهم ونحو ذلك،
ورُوي عن أبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعيّ: "لا يُقْتل الحرّاث، ولا
الراهب ولا الشيخ الكبير ولا المجنون".
وجاء في "المغني" (10/ 542): "ولنا في الزَّمِن (1) والأعمى أنّهما ليسا من
أهل القتال فأشبها المرأة".
قلت: وقد اختلف العلماء في العِلَّة الموجبة للقتل، فمنهم مَن قال:
__________
(1) الزَّمِن: مَنْ مَرِض مرضاً يدوم زماناً طويلاً وضعف بكِبر سنٍّ أو
مطاولة عِلَّة.
(7/103)
العِلَّة هي الكُفر (1) لقوله -تعالى-:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2)، وقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا: لا
إله إلاَّ الله ... " (3). ومنهم من قال: العِلَّة هي القتال وما في معناه؛
كالمشاركة في الرأي والمشورة.
قلت: والراجح هو الثاني لما يأتي:
أ. قوله -تعالى-: {وَقاتلُوا في سَبِيلِ اللهِ الذين يُقاتلُونَكم} (4)،
ففيه عدم قتال من لم يُقاتِل.
ب. لاستثناء أصنافٍ من الكُفار؛ كالنساء والصبيان والعسفاء، كما في النصوص
الثابتة المتقدِّمة، فلا يُسلَّم لهم بما ذهبوا إليه مِن عموم قوله
-تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (5).
ج. تعليل إنكار النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْل المرأة
في الحديث المتقدّم بقوله: "ما كانت تقاتل".
__________
(1) انظر "المحلى" (المسألة 928).
(2) التوبة: 5.
(3) أخرجه البخاري: 1399، ومسلم: 20.
(4) البقرة: 190.
(5) قلت: بل إنّ هذه الآية الكريمة هي إباحةٌ بعد حظر، ونَصُّ الآية:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، فبعد الإباحة يَرجع الحُكم إلى ما كان قبل الحظر
-واجباً كان أو مستحباً- كما في "المسوَّدة" وهو هنا يرجع إلى وجوب القتال،
وما هي سِمة القتال: إنها على النَّحو الذي كان قبل حظر القتال، وليس له
علاقة بما ذهبوا إليه من قَتْلِ كلّ مشرك؛ ومنهم الرهبان وأصحاب الصوامع
... !! بل ينبغي تقييد الآية السابقة بقوله -تعالى-: {وَقاتِلُوا في
سَبِيلِ اللهِ الذين يُقاتِلُونَكم} فيكون المعنى: {فإذا انسلخ الأشهر
الحرم فاقتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حيث وجدتموهم}، وكذا ينبغي إخراج
الأصناف الثابت إخراجها من هذه الآية؛ كالنساء والصبيان والعسفاء ... إلخ.
والله -تعالى- أعلم.
(7/104)
د. وهذا يقوِّي ما قاله الفقهاء من عدم
مشروعية مقاتلة مَن لا رأيَ لهم في القتال، ولا هم فيه مِن أهل المشورة.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 354): "وإذا كان
أَصْل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصودُه هو أن يكونَ الدين كلُّه لله،
وأن تكونَ كلمة الله هي العليا، فمن امتنَع مِن هذا قوتل باتفاق المسلمين.
وأمّا من لم يكن مِن أهل الممانعة والمقاتَلة، كالنساء والصبيان، والراهب،
والشيخ الكبير، والأعمى، والزَّمِن، ونحوِهم فلا يُقْتَل عند جمهور
العلماء؛ إلاَّ أن يُقاتِل بقولِه أو فِعْلِه، وإنْ كان بعضهم يرى إباحةَ
قَتْلِ الجميع لمجرد الكفر؛ إلاَّ النساءَ والصبيان؛ لكونهم مالاً
للمسلمين.
والأوّل هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أرَدْنا إظهارَ دينِ
الله، كما قال الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} (1)، وفي "السنن" عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "أنَّه مرَّ على امرأةٍ مقتولة في بعض مغازيه، قد وقف عليها الناس.
فقال: ما كانت هذه لتُقاتِل" (2). وقال لأحدهم: "الحَقْ خالداً فقل له: لا
تَقْتُلوا ذُريّةً ولا عسيفاً" (3).
وذلكَ أنّ الله تعالى أباحَ مِنْ قَتْلِ النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح
الخلق، كما قال -تعالى-: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (4). أي:
أنّ القتل وإنْ كان فيه شرٌّ وفساد، ففِي فِتْنة الكُفّار مِن الشرّ
والفساد ما هو أكبر منه.
__________
(1) البقرة: 190.
(2) تقدّم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) البقرة: 217.
(7/105)
فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم
تكن مَضَرَّةُ كُفْره إلاَّ على نفسه؛ ولهذا قال الفقهاء: إنّ الداعية إلى
البِدع المخالفةِ للكتاب والسنة؛ يعاقَب بما لا يُعاقَب به الساكت ... ".
6 - النهي عن التحريق بالنّار:
عن حمزةَ الأسلمي -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَّره على سريَّة، قال: فخرجْتُ فيها، وقال: إنْ
وَجدْتُم فلاناً فأحرقوه بالنار، فولَّيْتُ، فناداني فرجعتُ إليه، فقال:
إنْ وجدتم فلاناً فاقتلوه، ولا تُحْرِقُوه، فإنّه لا يُعذِّبُ بالنار إلاَّ
ربُّ النَّار" (1).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة (2)
معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تُفَرِّشُ (3)، فجاء
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مَن فَجَع هذه بولدها؟
ردُّوا ولدها إليها.
ورأى قرية نملٍ قد حرقناها، فقال من حَرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنّه لا
ينبغي أن يُعذّب بالنار إلاَّ ربّ النار" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "بَعَثَنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعثٍ فقال: إنْ وجدْتم فلاناً وفلاناً
فأحرقوهما بالنّار، ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-حين أردنا الخروج-: إنّي أمرتُكم أن تُحرقوا فلاناً وفلاناً، وإنَّ النّار
لا يُعذِّب بها إلاَّ الله،
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2327).
(2) طائر صغير كالعصفور، "النّهاية".
(3) هو أن تفْرش جناحيها وتقرُب من الأرض وتُرفرف، "النّهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2329).
(7/106)
فإنْ وجدتموهما فاقتُلوهما" (1).
وأمّا ما ورد في إحراق زروع الكفّار وقطْع أشجارهم، فهذا مِن باب قوله
-تعالى-: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2).
وقوله -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (3). وقوله
-تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(4).
قال ابن القيم -رحمه الله- في "أعلام الموقعين" (1/ 328):
"وقد صرَّح الفقهاء بجواز إحراق زروع الكفار وقطْع أشجارهم إذا كانوا
يفعلون ذلك بنا وهذا عين المسألة، وقد أقرّ الله -سبحانه- الصحابة على قطْع
نخل اليهود لما فيه مِن خزيهم، وهذا يدلّ على أنه -سبحانه- يُحبّ خزي
الجاني الظالم ويُشرِّعُه".
قلت: يُشير -رحمه الله- إلى قوله- سبحانه-: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ
(5) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 3016.
(2) البقرة: 194.
(3) الشورى: 40.
(4) النحل: 126.
(5) قال الحافظ في "الفتح" (8/ 629): "قال أبو عبيدة في قوله -تعالى-: {مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}: أي مِن نخلة، وهي من الألوان، ما لم تكن عجوة أو
برنية، إلاَّ أن الواو ذهبَت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس
"اللينة: النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال:
اللينة: ما دون العجوة. وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النّوى".
(6) الحشر: 5.
(7/107)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "حرَّق نخل بني النّضير وقطع، وهي
البويرة (1)، فأنزَل الله -تعالى-: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} " (2).
قال أبو عيسى: "وقد ذهَب قومٌ من أهل العلم، إلى هذا، ولم يروا بأساً بقطع
الأشجار، وتخريب الحصون، وَكَرِهَ بعضُهم ذلك وهو قول الأوزاعي، قال
الأوزاعي: ونهى أبو بكر الصديقُ يزيدَ أن يَقطَع شجراً مُثمراً أو يُخرِّب
عامراً، وعمل بذلك المسلمون بعده.
وقال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطْع الأشجار والثمار، وقال
أحمد: وقد تكون في مواضع لا يجدون منهُ بداً، فأمَّا بالعَبَث فلا تُحرَق،
وقال إسحق: التحريقُ سُنة إذا كان أنكى فيهم" (3).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 9) قوله (4): " (بابُ قطعِ الشجر
والنخل) أي: للحاجة والمصلحة؛ إذا تعيّنَت طريقاً في نكاية العدو، ونحو
ذلك.
وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطْعُ الشجر المثمر أصلاً،
وحَملوا ما ورَدَ مِن ذلك إمّا على غير المُثمر، وإمّا على أنّ الشجر الذي
قُطع في قصة بني النضير؛ كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول
الأوزاعي والليث وأبي ثور.
وقال أيضاً (6/ 155): وقد ذهَب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب
__________
(1) البُويرة: موضع نخل بني النضير "شرح النّووي".
(2) أخرجه البخاري: 4884، وفي مواضع عديدة، ومسلم: 1756.
(3) انظر "سنن الترمذي" تحت حديث رقم (1552).
(4) أي الإمام البخاري -رحمه الله-.
(7/108)
في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو
ثور، واحتجُّوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئاً مِن ذلك.
وأجاب الطبري بأنَّ النَّهي محمولٌ على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا
ذلك في خلال القتال؛ كما وقَع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب
به في النهي عن قَتْل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك
القتل بالتغريق.
وقال غيرُه: إنما نهى أبو بكر جيوشَه عن ذلك؛ لأنّه علم أنّ تلك البلاد
ستُفتَح فأراد إبقاءها على المسلمين. والله أعلم". انتهى.
قلت: والذي يترجّح لديّ أنّ الحرق والقطع ونحوَهما جائز بنص الكتاب
والسُّنة، والأمر يرجع إلى الحاكم في الفعل والترك، فإنْ رأى مصلحةً في
مرحلةٍ ما في حرق الزروع والثمار -ومثل ذلك هدم مؤسسات ومبانٍ (1) - فعلَ
ذلك، وإنْ رجّح الاستفادة منها لنصرٍ يرجوه، ولم يرَ فائدةً مِن قطعها
وحرْقها لم يفعل.
أمّا أبو بكر -رضي الله عنه- فإنّه لم يَفُتهُ دليل الكتاب والسنّة، ولكن
لا يخفى أنّ الدليل يدلّ على المشروعية، والمشروعية قد تكون ركناً أو
واجباً، أو مندوباً أوُ مستحَبّاً.
وقد كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- لمصلحةٍ رآها جمْعاً بين النصوص؛
والله -تعالى- أعلم (2).
__________
(1) قال الإمام البخاري -رحمه الله- في (كتاب الجهاد باب - 154): (باب حرق
الدور والنخيل).
(2) انظر ما جاء في كتابي "الموسوعة" (6/ 205 - 211).
(7/109)
7 - النهي عن المُثلَة: كما في حديث بريدة
-رضي الله عنه- المتقدم "ولا تَمثُلُوا".
أمّا ما ورد في حديث أبي قلابةَ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رهطاً
من عُكل -أو قال: عُرَيْنةَ، ولا أعلَمُه إلاّ قال: مِن عُكْلٍ- قَدموا
المدينة، فأمَر لهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِقاح
(1)، وأمَرَهم أن يخرجوا فيشربوا مِن أبوالها وألبانها، فشربوا حتى إذا
برئوا قَتَلوا الراعي، واستاقوا النَّعَم، فبلغَ النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُدوةً، فبعَث الطّلبَ في إثرِهم، فما ارتفَع النهار
حتى جيء بهم، فأمَرَ بهم فقطَع أيديَهم وأرجلَهم، وسمَر (2) أعينهم،
فأُلْقُوا بالحرّة يَسْتَسْقُون فلا يُسقَون" (3).
قال أبو قِلابةَ: "هؤلاء قوم سَرَقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا
الله ورسوله" (4).
وفي رواية: "فأنزل الله -تبارك وتعالى- في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا} (5) " (6).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ونَزَلت فيهم آية المحاربة" (7).
__________
(1) اللقاح: جمع لِقحة وهي الناقة الحَلوب، "شرح الكرماني".
(2) سمرَ: -مخفّفة ومشددة- أي كَحَلَها بمسامير، "شرح الكرماني".
(3) أخرجه البخاري: (6805)، ومسلم (1671).
(4) أخرجه البخاري: (6805).
(5) المائدة: 33.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3670).
(7) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي": (3772).
(7/110)
وفي رواية: " ... فلمّا صحّوا كفروا بعد
إسلامهم، وقتَلوا راعيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مؤمِناً، واستاقوا ذود (1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وانطلقوا محاربين" (2).
فهذا من باب عقوبة الحِرابة وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3).
وعن عبد الله بن يزيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "أنّه نهى عن النُّهْبَة والمُثْلَة" (4).
وعن الهيّاج بن عمران أنّ عمران أبَقَ (5) له غلام، فجعَل لله عليه لئن قدر
عليه ليقطعن يده، فأرسلني لأسأل له، فأتيت سَمَرة بن جُنْدُب فسألتُه،
فقال: كان نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحثنا على
الصدقة وينهانا عن المُثْلَة، فأتيت عمران بن حصين فسألته، فقال: كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحثّنا على الصدقة وينهانا عن
المُثلَة" (6).
8 - الغُلول والنُّهْبَة: كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- المتقدّم" ...
ولا تغُلُّوا".
__________
(1) الذّود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى
العشر "النّهاية".
(2) "صحيح سنن النسائي" (3762)، وأصل أكثر هذه الألفاظ في "الصحيحين" كما
تقدّم.
(3) المائدة: 33 - 34.
(4) أخرجه البخاري: 5516.
(5) أي: هرب.
(6) أخرجه أبو داود (2676)، وصححه شيخنا -رحمه الله- وانظر "الإرواء"
(2230).
(7/111)
وسيأتي الحديث عن الغلول في باب خاصٍّ؛ حين
التحدّث عن الغنيمة؛ بإذن الله -تعالى-.
وعن عبد الله بن يزيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أنّه نهى عن النُّهْبَة والمُثْلَة" (1).
وقال الحافظ -رحمه الله- (9/ 644): "النّهب: أخْذ مال المسلم قهراً جهراً،
ومنه أخذ مال الغنيمة؟ قبل القسمة، اختطافاً بغير تسوية".
9 - النهي عن الغدر: كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- أيضاً المتقدّم: "
... ولا تغدِروا".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبيّ يقول: "لكل غادرٍ لواء
يُنصب بغدرته يوم القيامة" (2).
قلت: وهذا اللفظ عام يتضمن الغدر للمسلم والكافر.
لذلك بوّب له الإمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" بقوله: "باب إثم
الغادر للبَرِّ والفاجر" (3).
...
__________
(1) أخرجه البخاري: 5516، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 3188، ومسلم: 1735.
(3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة باب - 22).
(7/112)
هل تُرمى حصون العدوّ بالمنجنيق ونحوه من
المهلكات وفيهم النساء والذرية؟
قال في "الإنجاد" (1/ 236) -بتصرف يسير-:
"اختلفوا في رمي حصون العدو بالمنجنيق ونحوِه من المُهْلِكات، وفيهم النساء
والذُّرِيَّة، وأُسارى المسلمين؛ فذهَب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة
والأوزاعي وغيرهم إلى جواز ذلك في الجملة؛ على ما نُفصِّله عنهم، وقيل: لا
يجوز ذلك.
ذَكرَ فَضْلٌ أنَّ ابنَ القاسم مِن أصحاب مالكٍ رَوَى عنه المنعَ مِن
رَمْيِهم بالمجانيق، أو إرسالِ الماء عليهم ليغرقوا؛ إذا كان معهم النساء
والأطفال.
فأمَّا أبو حنيفة، فذَهَب إلى جواز رَمْيها وتحريقها عليهم بالنّار، وإنْ
كان فيها الأسارى والأطفال، وكذلك عنده: لو تَتَرَّسوا بالمسلمين، رُموا
-أيضاً-. قال: ويُقصد بذلك مَن فيها من الكُفَّار، فإنْ أصابوا في ذلك
مُسلِماً فلا دِيَة ولا كفّارة.
وقال الشافعي: لا بأس برمي الحصن بالمنجنيق والنّار، وكلّ ما فيه نكاية،
وفيه النساء والأطفال، ولم يَرَ رَمْيَهم إذا تَتَرَّسوا بالمسلمين إلاَّ
في حال الاضطرار؛ حيث يخافهم المسلمون على أنفسهم إنْ كَفُّوا عنهم،
فحينئذٍ يُقاتَلون، ولا يُتَعَمَّدُ قَتْلُ مسلم.
وقد قيل: يُكَفّ عنهم على كلِّ حال إذا لم يكن بُدٌّ مِن إصابة المسلم،
وأيُّ مسلمٍ أصيب ممّن لم يَقْصِد الرامي قَصْدَه بالرمية ولم يره، فعليه
تحرير رقبة، ولا دِيَة له، وإنْ كان رآه، وعَرَف مكانه ورمى، وهو مضطرٌ إلى
الرَّمي، فعليه دِيَة وكفّارة، وإنْ تعمَّده ولم يكن مضطراً فالقِصاص.
(7/113)
وقال الأوزاعي: يُرمى الحصن بالمنجنيق
والنار، وإنْ كان فيه أسرى المسلمين، فإنْ أُصيب أحدٌ مِن المسلمين؛ فهو
خطأ تكون فيه الكفّارة والدِّيَة، ورأى أن يُكَفَّ عنهم، إذا تترّسوا
بالمسلمين.
وعن مالك إجازةُ الرمي بالمنجنيق، ومنْع التحريق بالنار، إلاَّ أن يكون
الحصن ليس فيه إلاَّ المُقاتِلَة فقط، فعنه في ذلك روايتان: الإجازة
والمنع، ولا أعلم له في التترّس قولاً، وظاهر مذهبه المنع.
فأمّا دليل جواز رمي الحصون في الجملة -وفيها الذراريّ-: فما خرّجه البخاري
(1)، ومسلم (2)، عن الصعب بن جثّامة قال: "سُئِل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدار مِن المشركين يُبيَّتون (3)، فيصيبون مِن
نسائهم وذراريّهم، فقال: "هم منهم" (4).
زاد البخاريّ (5)، قال: وسَمِعْتُه يقول: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسولِه"
(6). وقوله
__________
(1) (رقم: 3012).
(2) (رقم: 1745).
(3) قال بعض العلماء: أي أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعرَف الرجل مِن
المرأة والصبيّ.
(4) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "قوله: (هم منهم) أي في الحُكم تلك
الحالة، وليس المراد إباحةَ قَتْلِهم بطريق القصد إليهم؛ بل المراد إذا لم
يُمكِن الوصول إلى الآباء؛ إلاَّ بوطء الذريّة، فإذا أُصيبوا لاختلاطهم
بهم؛ جاز قَتْلُهم.
وقال الكرمانيّ -رحمه الله- (13/ 24): "والنهي عن قَتْلهم فيما إذا كانوا
هم المقصودين، وكذلك النساء إذا قاتَلْن قُتِلْن أيضاً".
(5) (رقم: 3012).
(6) لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله: قال الكرماني -رحمه الله- (10/ 182): "حِمى
-بغير التنوين- لغةً: المحظور، واصطلاحاً: ما يَحمي الإمام من الموات
والمواشي بعينها، ويمنع سائر =
(7/114)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقد
قيل له: لو أنّ خيلاً أغارَت من الليل، فأصابت مِن أبناء المشركين-قال: "هم
مِن آبائهم" (1).
فهذا في نِساء المسلمين وأبنائهم ظاهر، فأمَّا الأسرى مِن المسلمين يكونون
معهم في الحصون، فدليلُ مَن أجاز ذلك؛ هو مِن طريق المعنى، وذلك أنَّ قولَه
في أبناء المشركين: "هم من آبائهم" ليس على معنى أنهم كُفَّار؛ لأنهم لم
يبلُغوا، فلم يخاطَبوا بَعْدُ بالإيمان، ولم يَجْرِ عليهم التكليف، فلا
يصحُّ إطلاق وصْفِ الكفر عليهم، لكن معنى: "هم منهم": رَفْعُ الخرج عن
المسلمين في إصابتهم بحُكم الاضطرار، ومعرَّة الاقتحام، أي: لا مأثم يلحق
في إصابتهم، فكذلك يجري المعنى في حُكْم الأسرى من المسلمين؛ إنْ أُصيب
منهم أحدٌ في أثناء الاقتحام.
ووجه المنعِ في الجملة على نحو ما رُوِي عن ابن القاسم: أن لا يُرموا
بالمجانيق إذا كان معهم النساء والأطفال؛ عُموم النهي عن قَتْلهم؛ ولأنّ
الحديث في إرخاص ذلك؛ إنَّما جاء في البيات والغارات، حيث تدعو الضرورة إلى
المباغتة، ولا يوقَن بالذراريّ أن يُصابوا.
وأمَّا رمي الحصون -وقد عُلم ما فيها من الذريَّة، والأمر فيهم على
الرَّوية وعدم الاضطرار- فليس ممَّا أبيح مِن ذلك، هذا ونحوه هو الذي يتوجه
لهذا القول.
__________
= الناس من الرعي فيها، والمقصود مِن الحصر؛ إبطال ما كان يحميه الرجل
العزيز مِن أهل الجاهلية؛ يأتي الأرض الخصبة فيستَعوي كلباً؛ فيحمي مدى صوت
الكلب من كل وجهة، ويمنع الناس أن يرعوا حوله".
(1) أخرجه مسلم: (1745 - 28).
(7/115)
والأَوْلَى -إن شاء الله- والذي نختاره
التفصيل في ذلك، فنقول [القول لمصنِّف "الإنجاد"]:
أمَّا إنْ لم يُعلم في الحِصنِ أحدٌ من أُسارى المسلمين؛ فالأظهر جواز
رميِهم، مع كون النساء والذريَّة في جملتهم، بدليل الحديث في قوله: "هم
منهم"، إذا لم يُقصَدوا، وكان إصابتهم لضرورة الاقتحام، ولقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله".
وأمَّا إنْ كان في الحصن أحدٌ من أسارى المسلمين، يُعلم ذلك، فالأظهر
توقِّي استعمال ما لا يُؤمَن فيه إصابتُهم، فإْنْ عُلم أنّ ذلك لا يصيب
الأسرى، فلا بأس، وذلك لأنّ حديث الصّعب بن جثَّامة؛ لم يجرِ فيه ذِكْر
مُسلمٍ، إنما هو في نساء المشركين وأبنائهم، فلا يستباح بذلك الاجتراء في
أمر المسلمين.
وأظهرُ من هذا والأتمُّ حُجَّةً قولُ الله -تعالى- في تأخير القتال عن أهل
مكة عام الحديبية: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
(1). فهذا نصٌ في وجوب التَوقِّي.
فإن قيل: إنَّ ذلك خاصٌّ بأهل مَكَّة، فهو دعوى؛ لأن الله -تعالى- إنَّما
جعل الحُرمة في ذلك للإيمان لا للبلد، وهذا التفصيل والفَرْق الذي اخترناه؛
إنما نَعْني به الحُكمَ في قتال الحصون، وحيث لا ضرورة تدعو المسلمين؛
لكَسْر العدو ومدافعتهم.
وأمَّا عند لقاء جيوش المشركين، وفيهم أُسارى من المسلمين، فأرجو -إن
__________
(1) الفتح: 25.
(7/116)
شاء الله- أن يكون كلّ شيءٍ مما يُنْكَى به
العدوّ سائغاً، سواءٌ أُمِن أن يصيب الأسرى مِن ذلك شيءٌ أوْ لا، إلاَّ
أنّهم لا يُتَعَمَّدون، ويُتحفَّظ عنهم بقَدْر الوُسع، وذلك أنَّ في الكفِّ
عن القتال، وتَرْك الدِّفاع في مِثل هؤلاء الذين بَرزوا للمسلمين هلاكاً
للناس، وتمكيناً لأهل الكُفر مِن الإسلام {وَلَن يجعَلَ اَللهُ لِلكافِرينَ
عَلَى المؤمِنِينَ سَبِيلاً} (1).
وهذا كلّه ما لم يتترس الكُفّار بالمسلمين، فإنْ تترسوا بهم، بحيث لا
يُمكِن قتالُهم إلاَّ مِن وراء قَتْل مسلم، فالأرجح الذي نختاره؛ الكفُّ
جُملةً، والقتال لا نراه على حالٍ مِنْ غير تفصيلٍ في قِتال الحصون أو
الجيوش؛ لأنّ ذلك إنْ لم تكن ضرورة، فلا خفاءَ به، وإنْ كانت ضرورة بحيث
يُبْقي المسلمون على أنفسهم في الكفِّ عن القتال؛ فذلك أيضاً موجودٌ إذا
قاتَلوا بقَتْلهم المسلمين الذين تترَّس بهم العدوّ؛ من غير حقٍّ وجب عليهم
مُبيحٍ لدمائهم، وليس لأحدٍ أن يَقْتُل مسلماً بريئاً؛ لينجو بذلك مِن
القتل ... ". انتهى.
قلت: والراجح عندي: أنَّ الأمر يدور حول ترجيح المصالح، واختيارِ أقلِّ
الضرَرين وأخفّ الشرَّين؛ مع التحرُّجِ من قَتْل أُسارى المسلمين، ونساء
وذراريِّ المشركين؛ تقصُّداً وتعمُّداً.
ونلاحظ أنّ ترجيح المصنِّف؛ كان يدور حول المعنى المتقدِّم، وسوَّغ إصابة
النّساء والذّّرّية من المشركين؛ إن لم يكن بُدٌّ مِن ذلك لضرورة الاقتحام،
وقد يكون القتال ليلاً، لا يُميَّز فيه الرجل من المرأة، ولا الصبيُّ من
الرجل؛ كما ذكَر بعض العلماء. وذكروا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا حِمى إلاَّ لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -".
__________
(1) النساء: 141.
(7/117)
ثمّ بيَّن وجوب توقِّي إصابة أُسارى
المسلمين؛ حينما يكونون في حصون العدوِّ، ثمّ استدَلَّ بقوله -تعالى-:
{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1).
قال الحافظ ابن كثيرٍ -رحمه الله-: " {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ
وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أي: بين أظهُرهم ممن يكتُم إيمانَه ويُخْفيه منهم
خيفةً على أنفسهم مِن قومهم، لكُنَّا سلّطْناكم عليهم فقتلتموهم، وأبدْتُم
خضراءَهم [يعني: سوادهم أو معظمهم]، ولكن بين أفنائِهم مِن المؤمنين
والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالةَ القتل؛ ولهذا قال -تعالى-: {لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} أي: إثم
وغرامة {بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}
أي: يؤخر عقوبتَهم ليخلِّص مِن بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى
الإسلام. ثمّ قال -تبارك وتعالى-: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو تميَّز
الكُفّار مِن المؤمنين الذين بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: لسلّطناكم عليهم فلقتلتموهم قَتْلاً
ذريعاً".
ثمّ ذكَر صاحب "الإنجاد" -رحمه الله-: ما يكون مِن شأن لقاءِ جيوش
المشركين، وفيهم أسارى مِن المسلمين، فبيَّن تحريمَ تعمُّدِ إصابتهم،
والتحفّظ عنهم بقدر الوُسع، وتسويغَ القتل لطالما هو ممّا يُنكى به العدوّ،
مُبَيِّناَ خَطَر الكفّ عن القتال وتَرْك الدفاع، وأنّ في ذلك مفسدةً أعظم
من إصابة بعض الأُسارى.
ثمّ ذكَر مسألة تترُّس الكُفَّار بالمسلمين، واختار الكفَّ عن ذلك.
__________
(1) الفتح: 25.
(7/118)
قلت: والراجح عندي في مسألة التترس كلام
شيخ الإسلام، فقد قال - رحمه الله-: "وقد اتفق العلماء على أنّ جيش
الكُفّار إذا تترَّسوا بمَن عندهم مِن أسرى المسلمين؛ وخيف على المسلمين
الضرر إذا لم يقاتِلوا؛ فإنهم يقاتَلون، وإن أَفضى ذلك إِلى قَتْل المسلمين
الذين تترَّسوا بهم، وإِن لم يُخَف على المسلمين؛ ففي جواز القتال المفضي
إِلى قَتْل هؤلاء المسلمين؛ قولان مشهوران للعلماء، وهؤلاء المسلمون إذا
قُتلوا كانوا شهداء، ولا يُتَرك الجهاد الواجب لأجل مَن يُقتَل شهيداً"
(1).
أقول: إِن تترُّس الكُفَّار بالمسلمين؛ ممّا يدلّ على عدم إقامة وزنٍ
للأسارى، فهم مُعرّضون للقتل مِن قِبَل الكُفّار في أيّ لحظة؛ فإنْ كان في
حال عدمِ قتال الكُفّار؛ لا يُؤمَن سلامة الأسارى، ويُخشى انجرار القتل إلى
غيرهم، واحتلال بعض مواقع المسلمين؛ فالقتال هو الأولى، ولو أُصيب المسلم
ضرورةً مِن غير تعمُّد ولا تقصُّد، والله -تعالى- أعلم.
الدعوة قبل القتال
قال الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتى نَبعَثَ رَسُولاً} (2).
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- "أنّه سمِع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول يوم خَيبر: لأُعطينّ الرايةَ رجلاً يَفتَحُ الله على
يديه، فقاموا يرجون لذلك أيُّهُم يُعطى، فغَدوا وكلّهم يرجو أن يُعطى،
فقال: أين عليّ؟ فقيل: يشتكي عينيه، فأمرَ فدُعي له فبصَق
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (28/ 546). وجاء ذِكرُه في التعليق على كتاب:
الإنجاد" (1/ 241).
(2) الإسراء: 15.
(7/119)
في عينيه، فبَرأ مكانَه؛ حتى كأنه لم يكن
به شيء، فقال: نقاتلُهُم حتى يكونوا مثلَنا (1) فقال؛ على رِسلك (2) حتى
تنزل بساحتهم، ثمّ ادْعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله
لأَن يُهدَى بك رجلٌ واحد؛ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم (3) " (4).
وفي حديث بريدة -رضي الله عنه- المتقدم: " ... وإذا لقيتَ عدوّك مِن
المشركين فادْعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خِلال).
فأيتُهُنَّ ما أجابوك؛ فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام،
فإنْ أجابوك فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهُم، ثمّ ادْعهم إلى التحول مِن دارِهم
إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إنْ فعَلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم
ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتَحوَّلوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون
كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون
لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاَّ أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هم أبَوا
فسَلْهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقَبَل منهم وكُفَّ عنهُم، فإن هم أبَوا
فاستَعِن بالله وقاتِلهم" (5).
جاء في "نيل الأوطار" (8/ 53) عقب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ثمّ ادْعهم إلى الإسلام":
__________
(1) جاء في "نيل الأوطار" (8/ 55): المراد من المثليّة المذكورة؛ أن يتصفوا
بوصف الإسلام، وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين، وليس المراد
أنهم يكونون مثلَهم في القيام بأمور الإسلام كلِّها، فإنّ ذلك لا يمكن
امتثاله حال المقاتَلَة.
(2) أي اتّئد ولا تعجل.
(3) هي الإبِل الحُمْر، وهي من أنفس أموال العرب، يضربون بها المثَل في
نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. "شرح النّووي".
(4) أخرجه البخاري: 2942، ومسلم: 2406.
(5) أخرجه مسلم: 1731 وتقدّم.
(7/120)
"وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى
الإسلام قبل المقاتَلَة".
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: أنّه يَجِب تقديم دعاء الكُفّار إلى
الإسلام، مِن غير فرْقٍ بين من بلَغتْه الدعوة منهم، ومن لم تبلغه، وبه قال
مالك والهادوية وغيرهم، وظاهر الحديث معهم.
والمذهب الثاني: أنّه لا يَجب مطلقاً.
المذهب الثالث: أنّه يَجب لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا يَجِب إنْ بلغَتْهم
لكن يُستحَبّ.
قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على
معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: " (باب دعوة اليهود والنصارى، وما
يقاتلون عليه، وما كتب النبيّ إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال (1)) (2).
وعن ابن عون قال: كتبتُ إلى نافع، فكتَب إليّ إنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغارَ على بني المُصْطَلِق وهم غارّون، وأنعامُهم
تُسقى على الماء، فقَتَل مُقاتِلتَهم وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذٍ
جُوْيرية.
حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش" (3).
وفي لفظ: قال ابن عون: "كتبتُ إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال:
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب 101).
(2) ثم ذكر تحته حديثين انظرهما -إن شئت- برقم (2938، 2939).
(3) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730.
(7/121)
فكتَب إليّ إنما كان ذلك في أوّل الإسلام،
قد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلِق
وهم غارّون ... " (1).
جاء في "كتاب الإنجاد" (ص 168): -بعد ذكر حديث سهل رضي الله عنه-: "فتضمَّن
ظاهرُ القرآن، ونصُّ حديث سهلٍ؛ الأمرَ بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال،
وجاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مباغتَتُهم، والإغارةُ عليهم وهم
غارُّون، فوجَب أن يُرجَع ذلك إلى اختلاف أحوال الكُفّار؛ فيمن كان قد
علِمَ بأمر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يُقاتِلُهم
عليه، داعياً إلى الله -تعالى-، وإلى دين الإسلام، أو كان لم يعلم شيئاً من
ذلك.
والدليل على ذلك قوله في الحديث: "إنما كان ذلك في أول الإسلام"، يعني:
دعاءَهم قبل القتال، حيث كانوا جاهلين بأمر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأحوالُ الكُفّار لا تخلو مِن هذين الوجهين، فأمّا
من عُلِمَ، وتُحُقِّق أنّه لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا عُلِمَ ماذا يراد
منه بالقتال، فلا خِلافَ يُعرفُ أنّه يجب أن يُدعى قبلُ إلى الإسلام، ويعلم
بما يجب في ذلك، فإنِ امتنعوا قوتلوا حينئذٍ" (2).
وقال (ص 171): "قال ابن المنذر: ... وكان الشافعيّ وأبو ثور يقولان: فإنْ
كان قومٌ لم تبلُغهم الدعوة، ولا عِلْم لهم بالإسلام، لم يقاتَلوا حتى
يُدْعَوا إلى الإسلام، قال ابن المنذر: وكذلك نقول". انتهى.
قلت: وقد بوّب الإمام النّووي -رحمه الله- للنص الذي قاله نافع، وكان قد
حدّثه هذا الحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قائلاً: (باب جواز
__________
(1) أخرجه مسلم: 1730.
(2) انظر تتمة الكلام للمزيد من الفائدة -إن شئت-.
(7/122)
الإغارة على الكُفّار الذين بلَغتْهم دعوة
الإسلام، مِنْ غير تقدُّم الإعلام بالإغارة".
الدعاء عند القتال
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ بدر؛ نظَر رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه
ثلاثمائة وتسعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل نبيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - القبلة، ثمّ مدّ يديه فجعَل يهتف بربّه: اللهم أنجِز لي ما
وعدتني، اللهم آت ما وعَدتَني، اللهم إنْ تُهلِكْ هذه العِصابة (1) مِن أهل
الإسلام لا تُعبَد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة،
حتى سَقَط رداؤه عن مَنْكِبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على
مَنْكِبيه ثمّ التزمه مِن ورائه، وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتُك ربِّك
(2)؛ فإنه سيُنجِز لك ما وعدَك فأنزَل الله -عزّ وجلّ-: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (3)} (4) فأمدّه الله بالملائكة.
قال أبو زُمَيل: فحدَّثني ابن عباس قال: بينما رجل مِن المسلمين يومئذ،
يَشتدّ في أَثر رجل من المشركين أمامه؛ إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه، وصوت
الفارس يقول: أقدِم حيزوم (5) فنظَر إلى المشرك أمامه فخرَّ مُستلقياً.
__________
(1) أي: الجماعة.
(2) المناشدة: السؤال، مأخوذة مِن النشيد، وهو رفْع الصوت، "شرح النّووي".
(3) أي: يردف بعضهم بعضاً، فهم متتابعون، وراء كلّ ملَك، ملَك، على أثر
بعضهم، "ملتقط من تفسير ابن كثير".
(4) الأنفال: 9.
(5) اسم فرس المَلك.
(7/123)
فنظَر إليه، فإذا هو قد خُطِمَ أنفُه (1)،
وشُقَّ وجهُه كضربةِ السوط، فاخضرَّ ذلك أجمَعُ، فجاء الأنصاري، فحدَّث
بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صدْقتَ ذلك
مِن مَدَد السماء الثالثة، فقَتَلوا يومئذٍ سبعين وأسروا سبعين" (2).
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قوماً قال: "اللهمّ إنّا نجعلُكَ في نحورهم،
ونعوذُ بك مِن شرورهم" (3).
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان لا تُردّان -أو قلّما تُردّان-: الدعاء عند
النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ (4) بعضُهم بعضاً" (5).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله إذا غزا قال: "اللهم
أنت عَضُدي ونَصيري، بك أحول، وبك أصول (6)، وبك أقاتل" (7).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " {حَسْبُنَا اَللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ}
__________
(1) الخطم: الأثر على الأنف.
(2) أخرجه مسلم: 1763.
(3) أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه شيخنا -رحمه اللهَ في "الكَلِم الطيب"،
رقم (124).
(4) بضم الياء وكسر الحاء كما قال المناوي، وجاء في "النّهاية": "أيْ
يَشْتَبِك الحرْبُ بينهم، ويَلْزَم بعضُهم بَعْضاً".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2215)، وصححه شيخنا -رحمه الله-
في "المشكاة" (672).
(6) أي: أسطوا وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النّهاية".
(7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2291)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (2836) وانظر "الكَلِم الطيب"، بتحقيق شيخنا -رحمه الله- رقم
(125).
(7/124)
قالها إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في
النّار، وقالها محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قالوا:
{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) " (2).
وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ الأحزاب، قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَلأ الله بيوتَهم وقُبورهم ناراً،
شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ حين غابت الشمس" (3).
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: دعا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب على المشركين فقال: "اللهم
مُنْزِل الكتاب، سريع الحساب، اللهمّ اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم
وزَلْزِلهم" (4).
وفي لفظ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ،
وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" (5).
الإلحاح على الله -تعالى- في طلب النصر
فيه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: " ... فما زال يهتف بربه
مادّاً يديه، مُستقبل القبلة حتّى سقَط رداؤه عن مَنْكِبيه".
وفي رواية: "قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في
قُبّة (6): اللهمّ إني أَنشُدُك عهدَك
__________
(1) آل عمران: 173.
(2) أخرجه البخاري: 4563.
(3) أخرجه البخاري: 2931، ومسلم: 627.
(4) أخرجه البخاري: 2933، ومسلم: 1742.
(5) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742.
(6) القُبّة: كلّ بناء مدور، وقال ابن الأثير: القبّة من الخيام: بيت صغير
وهو من بيوت العرب، ذكَره العيني -رحمه الله- في "عمدة القاري" (14/ 193).
(7/125)
ووعدَك، اللهم إنْ شئتَ لم تُعْبَد بعد
اليوم، فأخَذ أبو بكرٍ بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك
-وهو في الدرع (1) - فخرَج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
(2). وقال وُهَيب: حدّثنا خالد يوم بدر" (3).
كراهةُ تمنّي لقاءَ العدْوّ، والأمرُ بالصبر عند اللقاء (4)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: "لا تَتَمنَّوا لقاء العدو، فإذا
لقيتموهم فاصبِروا" (5).
وجوب الثبات عند لقاء العدوّ ومتى يجوز الفرار
يَجِبُ ثبات المقاتلين عند لقاء العدوّ، لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً (6) فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7).
وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "لا تتمنّوا لقاء العدوّ ... ".
ويحرُم الفِرار لقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ الذين كفروا
__________
(1) الدرع: هي الزَّرَديّة وهي: قميص من حلقاتٍ من الحديد متشابكة، يُلبس
وقاية من السلاح.
(2) القمر:45 - 46.
(3) أخرجه البخاري: 2915.
(4) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 6).
(5) أخرجه البخاري: 3024، ومسلم: 1742. وتقدّم.
(6) أي تقاربتم منهم، ودنوتم إليهم.
(7) الأنفال: 45.
(7/126)
زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ *
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ
أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1) (2).
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "يقول -تعالى- مُتوعّداً على
الفرار من الزحف بالنار لمن فعَل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي: تقاربتم منهم ودنوتم
إليهم، {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي: تَفرّوا وتتركوا أصحابكم،
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}
أي: يَفرّ بين يدي قِرْنِه (3) مكيدة؛ ليُريَه أنّه قد خاف منه فيتبعه، ثمّ
يكرّ عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك، نصّ عليه سعيد بن جبير، والسدي.
وقال الضحاك: أن يتقدَّم عن أصحابه ليرى غرةً مِن العدو فيصيبُها.
{أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: فرَّ مِن هاهنا إلى فئةٍ أخرى مِن
المسلمين، يُعاونهم ويعاونوه، فيجوز له ذلك، حتى ولو كان في سريةٍ ففرَّ
إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخَل في هذه الرخصة" انتهى.
وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "لو أنّ أبا عبيدة تحيَّز إلي، لكنت له فئة،
وكان أبو عبيدة في العراق" (4).
__________
(1) الأنفال: 15، 16.
(2) عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: نَزَلت في يوم بدر {وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}. أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"
(2648).
(3) أي: مثلِه في الشجاعة والشدّة والقتال.
(4) صححه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (1205).
(7/127)
وفي لفظ عن سويد أنّه سمع عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- "يقول لمّا هُزم أبو عبيدة: لو أتوني كنت أنا فئتَهم" (1).
وقال الضحاك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} المتحيز: الفارّ
إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وكذلك مَن فرّ
إلى أميره وأصحابه.
فإمّا إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب؛ فإنّه حرام، وكبيرة من
الكبائر (2).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات (3)، قالوا: يا رسول الله وما
هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقَتْل النفس التي حرّمَ الله إلاّ بالحقّ،
وأكْلُ الربا، وأكْل مال اليتيم، والتَّولي يومَ الزَّحف، وقذْف المحصناتِ
(4) المؤمنات الغافلات (5) " (6).
ويجوز الفرار مِن الثلاثة ولا يجوز من الاثنين:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنْ فَرَّ رجلٌ من اثنين فقد فرّ، ومَن
فرّ مِن ثلاثة لم يَفرّ" (7).
__________
(1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1205).
(2) انظر "تفسير ابن كثير".
(3) الموبقات: المُهلِكات.
(4) المحصنات: العفائف.
(5) الغافلات: أي الغافلات عن الفواحش وما قُذفن به. "شرح النّووي".
(6) أخرجه البخاري: 6857، ومسلم: 89.
(7) أخرجه البيهقي وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1206).
(7/128)
وهو وإنْ كان موقوفاً؛ فله حُكم المرفوع؛
بدليل القرآن وسبب النزول (1).
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لمّا نَزَلَتْ هذه الآية:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2).
فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَقَالَ
سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ،
ثُمَّ نزَلَتْ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
(3) فكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ.
زَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} (4) " (5).
وفي لفظ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةِ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ
فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ:
فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ
بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ" (6).
__________
(1) انظر الإرواء (1206) للمزيد من الفائدة.
(2) الأنفال: 65.
(3) الأنفال: 66.
(4) الأنفال: 65.
(5) أخرجه البخاري: 4652.
(6) أخرجه البخاري: 4653.
(7/129)
وخلاصة القول: وجوب الثبات عند لقاء
العدوّ، وعدم التولي مِن ميدان القتال، إلاّ إذا رأى أنّ الأفضل والأنفع؛
أن يفرّ ويكرّ، أو يفرّ مِن فئة إلى أخرى من المسلمين؛ يعاونهم ويعانوه
ويقوِّي بعضهم بعضا، مع جواز فِرار الرجل من الثلاثة، وتحريم فِراره من
الرجلين.
لأنه ربّما رجّح أنّه سيُقتل مِن غير فائدة مِن قِبَل الثلاثة، ففراره على
التفصيل السابق، أو لأجل معركة أُخرى، وهو الأنفع، والله -تعالى- أعلم.
وجاء في "المغني" (10/ 553): "وإذا كان العدوّ أكثرَ من ضِعف المسلمين،
فغلَبَ على ظنّ المسلمين الظَّفَر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من
المصلحة.
وإنْ انصرفوا جاز؛ لأنّهم لا يأمنون العَطَب والحُكم عُلّق على مظنّته، وهو
كونهم أقلَّ مِن نصف عددهم، ولذلك لَزمَهم الثبات؛ إذا كانوا أكثر من
النصف، وإنْ غلَب على ظنّهم الهلاك فيه، ويحتمل أن يلزَمهم الثبات إنْ غلَب
على ظنّهم الظَّفَر، لما فيه مِن المصلحة.
وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف؛ فالأولى لهم
الانصراف، وإنْ ثبتوا جاز، لأنّ لهم غرضاً في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا
أيضاً.
وإنْ غلَب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى لهم الثبات،
لينالوا درجة الشهداء المُقبِلين على القتال محُتسِبين، فيكونون أفضل مِن
المولّين، ولأنه يجوز أن يَغلِبوا أيضاً، فإنّ الله -تعالى- يقول: {كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ولذلك صبَر عاصم وأصحابُه، فقاتلوا
__________
(1) البقرة: 249.
(7/130)
حتى أكرَمهم الله بالشهادة".
جاء في "المغني" (10/ 550): "ولا يحلُّ لمسلم أن يهرب مِن كافِرَين، ومُباح
له أن يهرب مِن ثلاثة، فإن خشي الأسرَ قاتل حتى يُقتَل" انتهى.
أقول: فينبغي علينا أن نتعرّف حقيقةً مُرَّة: وهي أنّ الإنسان -لو وقع
الجهاد!!! - قد يفرّ مِن عشرين أو ثلاثين؛ إذا عَلِمت أنّ الكُفار بعضهم
أولياء بعض وأن المسلمين متفرّقون متناحرون متنازعون، وأنّ الكفّار أكثر
إعداداً وعدداً وسلاحاً وقوةً وتقدُّماً علميّاً، ونكاد أن نكون في مرتبة
المتخلّفين!.
فلماذا لا يكون التقويم سديداً في أمور الجهاد والقتال؟!
وليس مرادي أن نَكِلَّ ونيأس؛ فقد قال ربُّنا سبحانه على لسان يعقوب -عليه
السلام-: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ} (1). بل مرادي مِنْ ذلك، أن نسلُك الطريق الصحيح في الإعداد
الجهادي المفضي إلى النصر بإذن الله -تعالى- (2).
المبايعة على الموت أو عدم الفرار
عن مَعْقِل بن يَسار -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتُني يومَ الشجرة،
والنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبايع النّاس وأنا رافع
غُصْناً مِن أغصانها عن رأسه، ونحن أربعَ عَشْرَةَ مائةً، قال: لم نبايعه
على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفرّ" (3).
__________
(1) يوسف: 87.
(2) وانظر عنوان (عَجَباً مِن التخبط والعشوائية في طلب النّصر).
(3) أخرجه مسلم: 1858، ورواه النسائي "سنن النسائي" عن جابر، وقال شيخنا
-رحمه الله - "صحيح".
(7/131)
وعن يزيدَ بنِ أبي عبيد مولى سلمةَ بن
الأكوع قال: "قلت لسلمة: على أيِّ شيء بايعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية؟ قال: على الموت" (1).
قلت: ليس في هذا تعارُض؛ لأن المبايعة على عدم الفرار -وهو المطلوب- لا
يلزم منها الموت دائماً.
قال الحافظ -رحمه الله-: " ... المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفرّوا
ولو ماتوا، وليس المراد؛ أن يقع الموت ولا بُدّ".
التحنُّط (2) عند القتال (3)
عن موسى بن أنس قال: وذَكر يوم اليمامة -قال: "أتى أنسٌ ثابت بن قيس وقد
حَسَرَ (4) عن فَخِذيه، وهو يتحنَّط، فقال: يا عَمِّ ما يَحبِسُك أن لا
تجيء؟ قال: الآن يا ابن أخي؟ وجعل يتحنَّط -يعني من الحنُوط-.
ثمّ جاء فجلَس فذكرَ في الحديث انكشافاً من الناس (5) فقال: هكذا عن وجوهنا
(6) حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7)، بئس ما
__________
(1) أخرجه البخاري: 2960، مسلم: 1860.
(2) التحنّط عند القتال: أي استعمال الحَنوط، وهو ما يُطيَّب به الميت.
"الفتح".
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 39).
(4) حسَر: كشف.
(5) في رواية ابن أبي زائدة: "فجاء حتى جلَس في الصفّ، والناس ينكشفون" أي:
ينهزمون، "الفتح".
(6) هكذا عن وجوهنا: أي افسحوا لي حتى أقاتِل.
(7) أي بل كان الصف لا ينحرف عن موضعه. "الفتح".
(7/132)
عوَّدْتُم أقرانكُم (1) " (2).
مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ (3)
عن عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعدٌ يُعلّم بنيه هؤلاء الكلمات كما
يُعلّم المعلمُ الغلمان الكتابة، ويقول: "إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوّذ منهنّ دُبرَ الصلاة، اللهمّ إنّي أعوذ بك
مِن الجُبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلما أرذل العُمُر، وأعوذ بك مِن فتنة
الدنيا، وأعوذ بك مِن عذاب القبر" (4).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمَّ إنّي أعوذ بكَ من العَجْز والكَسَل، والجُبن
والهرَم، وأعوذ بك مِن فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك مِن عذاب القبر" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شرُّ ما في
__________
(1) أقرانكم: نظراءَكم، أراد توبيخ المنهزمين، أي: عودتموهم الفرار حتى
طمعوا فيكم. "الفتح" بتصرف.
قلت: فواحرّ قلباه ماذا لو رأى -رضي الله عنه- ما نحن عليه الآن وماذا لو
رأى ما عَوّدْنا به أعداءَنا الآن؟!
(2) أخرجه البخاري: 2845.
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسير) (باب - 25).
(4) أخرجه البخاري: 2822.
(5) أخرجه البخاري: 2823، ومسلم: 2706.
(7/133)
الرجل شحٌّ (1) هالع (2)، وجُبْنٌ خالع (3)
" (4).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "المجموع" (28/ 26): "ومِن شرط الجندي أنْ
يكون دَيِّناً شجاعاً. ثمّ قال: الناس على أربعة أقسام: أعلاهم الدَّيِّن
الشجاع؛ ثمّ الدَّيِّن بلا شجاعة؛ ثمّ عكسه؛ ثمّ العري عنهما".
ما جاء في المبارزة (5)
عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضيَ اللهُ عنْهُ- قالَ: "أنا أَوَّلُ
مَنْ يَجْثُو (6) بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ: وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ {هَذَانَ
خَصْمَانِ اَخْتَصمُوا في رَبّهِم} (7) قَالَ: هُمْ الَّذِينَ تَبَارَزُوا
يَوْمَ بَدْرٍ، حَمْزَةُ وَعَليٌّ وَعُبَيْدَةُ -أَوْ أَبو عُبَيْدَةَ بْنُ
الحْارِثِ- وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ" (8).
__________
(1) قال في "النّهاية": "الشُّحُّ: أشدّ البُخل، وهو أبلغ في المنع من
البُخل، وقيل: هو البُخل مع الحِرص، وقيل: البُخل في أفراد الأمور وآحادها،
والشُّحُّ عامٌّ: وقيل البخل بالمال، والشُّحُّ بالمال والمعروف".
(2) الهَلَع: أشدّ الجزَع والضَّجَر.
(3) أي: شديدٌ؛ كأنه يخلع فؤاده من شدّة خوفه ... والمراد به: ما يَعْرِض
من نوازع الأفكار، وضعف القلب عند الخوف. "النّهاية".
(4) أخرجه أبو داود وغيره، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (560).
(5) ملخص من كتاب "الإنجاد" (1/ 196) وأضفْتُ له أثرَ أنسِ بن مالك -رضي
الله عنه-.
(6) يجثو: أي يقعُد على رُكبتيه مخُاصِماً، والمراد بهذه الأوَّليَّة؛
تقييده بالمجاهدين مِن هذه الأمّة؛ لأنّ المبارزة المذكورة؛ أول مبارزةٍ
وقَعَت في الإسلام، قاله الحافظ في "الفتح".
(7) الحج: 19.
(8) أخرجه البخاري: 3965.
(7/134)
وفي رواية: قال عَليٌّ -رَضيَ اللهُ
عَنْهُ-: "تَقَدَّمَ -يَعْنِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ- وَتَبِعَهُ ابْنُهُ
وَأَخُوهُ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنْ
الأنصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوه، ُ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ
لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا
عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الحارِثِ، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى
عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ
وَالْوَليدِ ضَرْبَتَانِ، فَأثخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ،
ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ"
(1).
عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فيها
قَسَماً إِنَّ هَذِهِ الآيةَ: {هَذَانَ خَصْمَانِ اختصموا في رَبّهِم}
نَزَلَتْ فِي حَمْزةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبةَ وَصَاحِبَيْهِ؛ يَوْمَ
بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ" (2).
وعن أبي إسحاق قال: "سأل رجلٌ البراء وأنا أسمع؛ قال: أَشَهِد عليٌّ بدراً؟
قال: بارَز وظاهر (3) " (4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أنّ البراء بنَ مالك -أخا أنس بن مالك-
بارَز مرزبان الزارة (5)، فطعَنه طعنةً فكسر القَرَبوس (6)، وخلَص إليه
فقتَله ... " (7).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2321).
(2) أخرجه البخاري: 4743 واللفظ له، ومسلم: 3033.
(3) ظاهَر: أي لَبِس دِرْعاً على دِرْع، "الفتح".
(4) أخرجه البخاري: (3970).
(5) بلدة كبيرة بالبحرين، وفُتحت الزارة في سنة (12) هـ، في أيام أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه- وصالحوا. ذكَرَه شيخنا -رحمه الله- في التعليق، انظر
"الإرواء" (5/ 57).
(6) قال في القاموس المحيط: "القَرَبوس: حِنو السَّرج، وهما قَرَبوسان"،
والحِنو: عود الرحل.
(7) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإرواء" (1224).
(7/135)
قال أبو بكر بن المنذر: "وأجمعوا على أنّ
للمرء أن يُبارِزَ ويدعو إلى البِراز بإذن الإمام، وانفرَد الحسَن؛ فكان
يكرهه ولا يعرف البِراز" (1).
ما يجوز للرجل مِنَ الحَمْل وحده على جيش العدوِّ وتأويل قول الله -تعالى-:
{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2):
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: "غَزَوْنَا مِنْ المدِينَةِ نُرِيدُ
الْقُسْطَنْطِينيَّةَ وَعَلَى الجماعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ
بْنِ الْوَليدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ المدِينَةِ،
فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ (3) لَا
إِلَهَ إِلَّا اللهُ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أبو
أيُّوبَ: إِتَما أنزلَتْ هَذ الآيةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، لَمَّا
نَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَظْهَرَ
الْإِسْلَامَ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا
فَأَنْزَلَ اللهُ -عزّ وجلّ-: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4).
فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَهْلُكَةِ: أَنْ نُقِيمَ فِي
أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَع الجهَادَ.
ْقَالَ أبو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أبو أيُّوبَ يجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله
حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينيَّةِ" (5).
وقد اختُلف في تأويل الآية، ذَكَر إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" عن
__________
(1) انظر كتاب "الإجماع" (ص 59) (رقم 229)، وذكَرَه صاحب الإنجاد (1/ 197).
(2) انظر "الإنجاد" (ص 188).
(3) اسم فِغل أمر مبنيّ على السكون بمعنى اكفُف.
(4) البقرة: 195.
(5) أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في "الكبرى" وابن حبان وغيرهم، وانظر
"الصحيحة" (13).
(7/136)
حفص، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء:
قال: قلت: أرأيت قول الله -عزّ وجلّ-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ}، أهو الرجل يَحْمِل على الكتيبة فيها ألْفٌ، قال: لا، ولكن
الرجل يُذنب، فيلقي بيده ويقول: لا توبة (1).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَجِب ربُّنا -عزّ وجلّ- مِن رجلٍ غزا في
سبيل الله، فانهزم -يعني: أصحابه- فَعَلِمَ ما عليه، فرجَع حتى أُهريق
دمُه، فيقول الله -عزّ وجلّ- لملائكته: انظروا إلى عبدي رجَع رَغْبَةً فيما
عندي، وشفقةً ممّا عندي، حتى أُهريق دَمُه" (2).
[قلت: وفي الباب، حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة يُحبُّهم الله ويَضْحَك إليهم،
ويستَبْشِر بهم: الذي إذا انكشَفَت فِئَة؛ قاتل وراءَها بنفسه لله -عزّ
وجلّ- فإمَّا أن يُقتَل، وإمَّا أنْ ينصرَه الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى
عبدي هذا؛ كيف صبَر لي بنفسه"] (3).
واختَلَف أهل العلم في حَمْل الرجل وحدَه على الجيش؛ والعدد الكثير مِن
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" وكذا ابن جرير وغيرهما وانظر ما قاله
محققا كتاب "الإنجاد" (ص 191)، قلت؛ وأخرج الحاكم نحوه في "المستدرك"
ولفظه: "قال له [أي للبراء -رضي الله عنه-] يا أبا عمارة {وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، الرجل يلقى العدوَّ، فيقاتل حتى
يُقتَل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب، فيقول: لا يغفره الله لي"،
وصحَّحه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1624).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2211)، ورواه أحمد وأبو يعلى وابن
حبان في "صحيحه"، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1384).
(3) أخرجَه الطبراني، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1384).
(7/137)
العدوِّ؛ فأقول [الكلام لمُصنِّف الإنجاد]:
أحوال الذي يَحْمِل وحده ثلاث:
حال اضطرار، وذلك حيث يحيط به العدوّ، فهو يخاف تَغَلُّبَهم عليه وأسْرَهُم
إياه، فذلك جائزٌ أن يَحْمِل عليهم باتفاق.
وحالٌ يكون فيها في صفِّ المسلمين وَمَنَعتِهم، فيَحْمِل إرادةَ السُّمعة
والاتصافَ بالشجاعة، فهذا حرام باتفاق.
وحالٌ يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غَضَباً لله، محُتَسِباً نفسه عند
الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم مَن كَرِهَ حَمْلَه وحده، ورآه مما
نهى الله عنه مِن الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومنهم مَن أجاز ذلك
واسْتَحْسَنه؛ إذا كانت به قُوّة، وفي فِعله ذلك منفعةٌ، إمَّا لنكاية
العدوِّ أو تَجرئةِ المسلمين -حتى يفعلوا مِثل ما فَعَل- أو إرهابِ
العدوِّ؛ ليعلموا صلابة المسلمين في الدين (1).
__________
(1) وجاء في التعليق في الكتاب المذكور: تكاد تُجمِع كلمة الفقهاء على جواز
ذلك، بل حكى ابن أبي زمنين في "قدوة الغازي" (ص 198) الإجماع عليه، ونصُّ
عبارتِه: "قال ابن حبيب: ولا بأس أن يَحْملَ الرجل وحده على الكتيبة، وعلى
الجيش؛ إذا كان ذلك منه لله، وكانت فيه شجاعةٌ وجَلَدٌ وقوةٌ على ذلك، وذلك
حَسَنٌ جميل لم يكرهه أحدٌ من أهل العلم، وليس ذلك مِن التهلكة، وإذا كان
ذلك منه للفخر والذِّكر فلا يفعل -وإنْ كانت به عليه قوة- وإذا لم يكن به
عليه قوة فلا يفعل وإنْ أراد به الله؛ لأنه حيئذٍ يُلقي بيده إلى التهلكة"
...
وجاء في "البيان والتحصيل" (2/ 564) ما يلي: "قال أشهب: وسُئل مالك عن رجل
من المسلمين يحمل على الجيش من العدوّ وحدَه، قال: قال الله -تعالى-:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فجعَل
كلَّ رجلٍ برجلين؛ بعد أنْ كان كلّ رجُلٍ بعشرة، فأخافُ هذا يلقي بيده إلى
التهلكة، وليس ذلك بسواء أنْ يكون الرجل في الجيش الكثيف =
(7/138)
............................
__________
= فيحمل وحده على الجيش، وأنْ يكون الرجل قد خلفه أصحابُه بأرض الروم،
أحاطوه فتركوه بين ظهرانَيِ الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم،
فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثفٍ وقُوَّة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف
أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب:
الشهيد من احتسَب نفسَه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة.
قال محمد بن رشد: أمّا إذا فعَل ذلك إرادةَ السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا
اختلافَ في أنّ ذلك من الفعل المكروه، وأمّا إنِ اضطرَّ إلى ذلك بإحاطة
العدوِّ به، فَفَعلَهُ مخافة الأسر؛ فلا اختلاف في أنّ ذلك من الفعل
الجائز، إنْ شاء أن يستأسر، وإنْ شاء أن يحمل على العدوِّ، ويحتسب نفسه على
الله، وأمّا إذا كان في صفِّ المسلمين، وأراد أن يُحمل على الجيش من
العدوِّ وحده؛ مُحْتسِباً بنفسه على الله ليُقوِّي بذلك نفوس المسلمين،
ويُلقي الرعب في قلوب المشركين، فمِن أهل العلم مَن كَرهه ورآه مما نهى
الله عنه مِن الإلقاء إلى التهلكة؛ لقوله- عز وجل-: {وَلَا تُلْقُوا
بِأيدِيكم إلى التهلُكَةِ}، وممَن رَوَىَ ذلك عمرو بن العاص، ومنهم من
أجازه واستحبَّه لمن كانت به قوة عليه، وهو الصحيح" ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "قاعدة في الانغماس في العدوِّ،
وهل يباح ... " (ص 24): "والرجل يَنْهزِم أصحابُه، فيقاتِل وحده، أو هو
وطائفة معه العدوَّ، وفي ذلك نكاية في العدوِّ، ولكن يظنُّون أنهم
يُقْتلون، فهذا كلّه جائز عند عامّة علماء الإسلام؛ مِن أهل المذاهب
الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلاَّ خلاف شاذّ.
وأمّا الأئمّة المتبوعون كالشافعي وأحمد وغيرِهما؛ فقد نصّوا على جواز ذلك،
وكذلك هو مذهب أيى حنيفة ومالك وغيرهما"، ودلَّل عليه بتطويلٍ من الكتاب
والسنة وإجماع السلف، ونحوه في "مجموع الفتاوى" (28/ 540) له.
وقال الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 92): "لا أرى ضيقاً على الرجل أن
يُحْمل على الجماعة حاسراً، أو يبادر الرجل، وإنْ كان الأغلب أنّه مقتول؛
لأنه قد بودر بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وحَمَل رجلٌ من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر، بعد =
(7/139)
وبالجملة، فكل مَن بَذَلَ نفسه لإعزاز
الدِّين، وتوهينِ أهْلِ الكفر؛ فهو المقام الشريف الذي تَتَوجّه إليه
مُدْحَةُ الله -تعالى-، وكريمُ وعْدِه في قوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (1)، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (2).
قلت: والراجح: جوازُ حَمْلِ الرجل وحده على جيش العدوِّ حال الاضطرار، إذا
أحاط به العدوُّ، لخوفه تغلُّبَهم عليه وأسْرَهم إيّاه. ويجوز في حالٍ يكون
في صفِّ المسلمين ويجد في نفسه القوة فيحمل غضباً لله، محتسباً نفسه لله،
يفعله لنكاية العدوِّ أو إرهابه، أو ليُجرِّئَ المسلمين، ويفعلوا مِثْل ما
فَعَل، إذا ترجَّح لديه الظنُّ أنّ في هذا منفعةَ المسلمين. ولا يجوز هذا
الحمل إرادة السمعة
__________
= إعلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما في ذلك من الخير
فقُتِل". وانظر: "الأوسط" (11/ 306 - 307). وكلام الإمام أحمد في "مسائل
صالح" (2/ 469) قال: "قلت: الأسير يَجِدُ السيف أو السلاح فيحمل عليهم؛ وهو
لا يعلم أنّه لا ينجو، أعان على نفسه؟ قال: أما سمعْتَ قولَ عمر حين سأله
الرجل فقال: إنّ أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: "ذلك اشترى
الآخرة بالدنيا".
وقال أبو داود في "مسائله" (247): "سمعت أحمدَ بنَ حنبل يقول: إذا عَلِم
أنهُ يؤسَر فليقاتل حتى يُقْتل أحب إليَّ". وقال: "لا يستأسر، الأسر شديد".
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن الأسير إذا أُسر؛ له أن يقاتلهم؟
قال: "إذا علم أنّه يقوى بهم".
(1) التوبة: 111.
(2) البقرة: 207.
(7/140)
والاتصاف بالشجاعة، والله تعالى -أعلم-.
أقول: والأصل في هذا؛ التشاور والرجوع للقائد، فقد أمَر ربُّنا -تبارك
وتعالى- رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمشاورة؛ فقد قال
-سبحانه-: {وَشَاوِرْهُم في الأمر} (1)، وقال -سبحانه-: {وَأَمرُهُمْ
شوُرَى بينهم} (2).
الخُيَلاء في الحرب (3)
عن جابر بن عتيك أنّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يقول: "مِن الغَيرة ما يُحِبّ الله، ومنها ما يُبغِض الله، فأما التي
يُحبها الله فالغَيرة في الريبة، وأمّا الغَيرة التي يُبغضها الله؛
فالغَيرة في غير ريبة، وإنّ مِن الخيلاء ما يُبغض الله، ومنها ما يُحبّ
الله، فأمّا الخيلاء التي يُحب الله؛ فاختيالُ الرجل نفسَه عند القتال،
واختيالُه عند الصدقة (4)، وأمّا التي يبغض الله فاختيالُه في البغي -قال
موسى- والفخر" (5).
...
__________
(1) آل عمران: 159.
(2) الشورى: 38.
(3) هذا العنوان من "سنن أبي داود" (كتاب الجهاد) (باب - 114).
(4) الاختيال في الصدقة: أن يُعطيَها طيبةً بها نفسه، فلا يَستكثر، ولا
يُبالي بما أعطى، ولا يُعطي منها شيئاً إلاّ هو له مستقلّ. انظر "النّهاية"
و"عون المعبود" (7/ 230).
(5) أخرجه أبو داود (2659)، "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (2388)، وابن حبان
في "صحيحه" "التعليقات الحِسان" (4742)، وانظر "الإرواء" (1999).
(7/141)
التكبيرُ عند الحرب (1)
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "صبَّح النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خيبرَ، وقد خرَجوا بالمساحِي (2) على أعناقهم، فلمّا رأَوه
قالوا: هذا محمّد والخميس، محمّد والخميس، فَلَجؤا إلى الحصن فرفع النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، وقال: الله أكبر، خَرِبت خيبر،
إنّا إذا نَزَلْنا بساحة قوم {فساء صَبَاحُ المنذَرِينَ (3)} " (4).
الغارة على الأعداء ليلاً
عن الصّعب بن جثّامة -رضي الله عنه- قال: مرّ النبى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبواء -أو بودّان- فسُئل عن أهل الدار يُبيَّتون
(5) مِن المشركين، فيُصاب مِن نسائهم وذراريِّهم، قال: هم منهم" (6).
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 56).
(2) المساحي: جمع مِسحاة، وهي المِجرفة من الحديد. "النّهاية".
(3) الصافات: 177.
(4) أخرجه البخاري: 2991 واللفظ له، ومسلم: 1365 كتاب النكاح - 48، 87 (باب
فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها) نحوه.
(5) أي: يُصابون ليلاً، وتبييت العدو: هو أن يُقصَد في الليل مِن غير أن
يَعلم؛ فيُؤخَذ بغتة، وهو البَيات. "النّهاية".
(6) قال الحافط -رحمه الله-: "هم منهم أي في الحُكم تلك الحالة، وليس
المراد إباحة قتْلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد: إذا لم يمكن الوصول إلى
الآباء إلاّ بوطء الذريّة، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم، جاز قتْلهم.
(7/142)
وسمْعتُه يقول: "لا حمى إلاّ لله ولرسوله"
(1).
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا بأس بالبيات، ولا أعلم أحداً كَرِهَه"
(2).
القتال أول النهار أو الانتظار حتى تهُبّ الريح
عن صخرٍ الغامديِّ -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "اللهمَّ بارِك لأمّتي في بُكورها (3) وكان إذا بعثَ سريَّة
أو جيشاً؛ بَعَثهُم من أوّل النهار، وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، وكان يبعث
تجارتَه مِن أوّل النهار؛ فأثرى وكثُر مالُه" (4).
وعن جُبَير بن حَيَّة قال: "بَعَث عُمر النّاس في أفناء الأمصار يقاتلون
المشركين فأسلم الهرمُزان ... وذكر الحديث إلى أن قال: فقال النعمان: ربما
أشهدَك الله مثلها مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم
يُندِّمك ولم يُخْزِك ولكني شهْدتُ القتال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا لم يقاتِل في أول النهار؛ انتظر حتى تهبَّ
الأرواح (5) وتحضرَ
__________
(1) أخرجه البخاري: 3012 وهذا لفظه، ومسلم: 1745 وتقدّم. قال العلاّمة
العيني - رحمه الله- في "عمدة القاري": "معناه: لا حمى لأحد يخصُّ به نفسه،
وإنما هو لله ولرسوله، ولمن وَرِث ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من الخلفاء؛ للمصلحة الشاملة للمسلمين، وما يَحتاجون إلى
حمايته".
(2) انظر "الفتح".
(3) قال في "المرقاة" (7/ 454): "أي صَباحِها وأوّل نهارِها ... ، وهو
يشمَل طلبَ العِلم والكَسب".
(4) أخرجه الترمذي وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2207)، وانظر "المشكاة"
(3908).
(5) الأرواح: جمع ريح وأصله الواو، لكن لما انكسر ما قبل الواو الساكنة
انقلبت ياء والجمع يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ... "الفتح".
(7/143)
الصلوات (1) " (2).
ولا تعارُض بين هذا وما تقدّم مِن الغارة على الأعداء ليلاً، فهذا يختلف
حسبما تقتضيه الحاجة، ويتطلّبه الحال، ويُقدّره القائد، والله -تعالى-
أعلم.
إذا ارتدّ على المقاتل سلاحه فقتله فله أجرُه مرّتين
عن سلَمة بنِ الأكوع -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ خيبر، قاتل أخي
قتالاً شديداً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فارتدَّ عليه سيفه فقَتَلَه، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وشكّوا فيه؛ رجل مات في سِلاحه، وشكّوا في
بعض أمرِه.
قال سَلَمَة: فقفَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن
خيبر، فقلتُ يا رسول الله ائذَن لي أن أرجُزَ لك فأَذِن له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: عمر بن الخطاب أعلم ما تقول،
قال: فقلت:
والله لولا اللهُ ما اهتدَيْنا ... ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدَقْتَ.
وأنزِلَن سكينةً علينا ... وثبِّتِ الأقدام إنْ لاقينا
والمشركون قد بغَوا علينا
قال: فلمّا قضيتُ رَجَزِي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: مَن قال هذا؟ قلت: قاله
__________
(1) قال الحافظ -رحمه الله-: "في رواية ابن أبي شيبة: "وتزول الشمس" وهو
بالمعنى.
(2) انظر البخاري: 3159، 3160، وقد تقدّم الحديث بطوله.
(7/144)
أخي، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرحمُه الله، قال: فقلت يا رسول الله إنّ ناساً
ليهابون الصلاة عليه يقولون: رجلٌ مات بسلاحِه، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مات جاهداً مجُاهِداً.
قال ابن شهاب: ثمّ سألتُ ابناً لسلمةَ بنِ الأكوع. فحدَّثني عن أبيه مثل
ذلك. غير أنّه قال: حين قُلت: إنّ ناساً يهابون الصلاة عليه، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كذبوا، ماتَ جاهداً
مجُاهداً، فله أجره مرّتين، وأشار بإِصبَعَيْه" (1).
من لهم ثواب الشهداء
هناك أصناف تُعدّ مِن شهداء الآخرة، كما في حديث مخارق -رضي الله عنه- عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقاتل دون ماله بلفظ:
"قاتِل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة" (2).
فهؤلاء يُغسّلون (3) ويُصلّى عليهم، ولهم أجر الشهداء في الآخرة، وهم:
1 - مَن قُتل دون دِيْنِه.
2 - المطعون (4).
3 - الغريق.
4 - صاحب ذات الجنب (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1802، وأصله في البخاري: 6891.
(2) سيأتي تخريجه -إنْ شاء الله تعالى-.
(3) إذ لا يُشرع غَسْل الشهيد قتيل المعركة، ولو اتفق أنّه كان جُنُباً
وانظر "أحكام الجنائز" (ص 54).
(4) أي: الذي يموت في الطاعون.
(5) الدُمّل الكبيرة، التي تظهر في باطن الجنب، وتَنْفَجر إلى داخل، وقلّما
يسلم صاحبها. "النّهاية".
(7/145)
5 - المبطون (1).
6 - صاحب الحريق (2).
7 - الذي يموت تحت الهدم.
8 - المرأة تموت في نفاسها بسبب ولدها.
10 - من قُتل دون ماله.
11 - من قُتِل دون أهله.
12 - من قُتل دون دمه ونفسه ومظلمته.
13 - الموت بداء السِّلّ.
وأدلّة ذلك:
1 - عن جابر بن عتيك -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله، المطعون
شهيد، والغَرِق شهيد، وصاحب ذات الجنْب (3) شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب
الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمْع شهيدة (4) "
(5).
__________
(1) من مات في البطن.
(2) هو الذي يقع في حَرْق النار فيلتهب. "النّهاية".
(3) تقدم، وانظر للمزيد -إنْ شثت- "فيض القدير".
(4) أي تموت وفي بطنها ولد، أو تموت من الولادة، والمعنى: ماتت مع شيء
مجموع فيها غير منفصل عنها. "فيض القدير" بحذف.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2668)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2261)، والنسائي "صحيح سنن النسائي، (1742)، وانظر "أحكام الجنائز"
(ص 54).
(7/146)
2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدّون الشّهيد
فيكم؟ قالوا: يا رسول الله مَن قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إنّ
شُهداء أُمّتي إذاً لقليل، قالوا: فمَن هم يا رسول الله؟ قال: مَن قُتل في
سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في الطّاعون
فهو شهيد، ومَن مات في البطن فهو شهيد" (1).
3 - عن عُتبة بن عبدٍ السُّلمي -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يأتي الشهداء والمُتوَفَّون بالطاعون، فيقول
أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا، فإنْ كانت جِراحهم كجراح الشهداء
تسيل دماً ريحَ المسك؛ فهم شُهداء، فيجدونهم كذلك" (2).
4 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب
الهدم، والشهيد في سبيل الله" (3).
5 - وعن راشد بن حبيش -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على عبادةَ بن الصامت يعوده في مرضه، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتعلمون مَن الشهيد مِن
أمّتي؟ فأرَمَّ (4) القوم، فقال عبادة: ساندوني. فأسندوه، فقال: يا رسول
الله! الصابرُ المحتسبُ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إنّ شهداء أمّتي إذاً لقليلٌ، القتلُ في
__________
(1) أخرجه مسلم: 1915.
(2) أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بسند حسن، وحسنه شيخنا -رحمه
الله- بشواهده كما في "أحكام الجنائز" (ص 52).
(3) أخرجه البخاري: 2829، ومسلم: 1914.
(4) أي: سكتوا ولم يجيبوا. "النّهاية".
(7/147)
سبيل الله -عزّ وجلّ- شهادةٌ، والطاعونُ
شهادة، والغَرق شهادة، والبَطْنُ شهادة، والنُفساء يجرُّها ولدها بسَرَرِه
(1) إلى الجنّة، والحرِق، والسِّلُّ" (2).
6 - وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "سمعْتُ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد"
(3).
7 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، أرأيت إنْ جاء رجل يريد
أخذ مالي؟ قال: فلا تُعطِه مالك، قال: أرأيت إنْ قاتلني؟ قال: قاتِلْه،
قال: أرأيتَ إنْ قَتَلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيتَ إنْ قتلتُه؟ قال: هو
والنار" (4).
8 - وعن مخارق -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: الرجل يأتيني فيُريد مالي؟ قال: ذكِّره بالله،
قال: فإن لم يَذْكُر؟ قال: فاستعن عليه مَن حولك مِن المسلمين، قال: فإنْ
لم يكن حولي أحَدٌ مِن المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإنْ نأى
السلطان عنّي (وعَجِل عليَّ)؟ قال: قاتِل دون مالك؛ حتى تكون من شهداء
الآخرة، أو تمنع مالك" (5).
__________
(1) ما يُقطع من سُرّة المولود.
(2) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1396).
(3) أخرجه البخاري: 2480، ومسلم: 141.
(4) أخرجه مسلم: 140.
(5) أخرجه النسائي وأحمد، والزيادة له وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر
"أحكام الجنائز" (ص 57).
(7/148)
7 - وعن سويد بن مقرّن -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قُتل دون مظلمته
فهو شهيد" (1).
8 - وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو
شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه فهو شهيد" (2).
ماذا يجد الشهيد من مسّ القتل
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ما يجدُ الشهيد من مسّ القتل إلاّ كما يجدُ أحدكم مِن مسّ
القَرْصَة" (3).
فضل الحرب في البحر
عن أمّ حرام -رضي الله عنها- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنّه قال: "المَائِدُ (4) في البحر الذي يُصيبُه القيء له أجرُ
شهيد، والغَرِقُ له أجرُ شهيدين" (5).
__________
(1) أخرجه النسائي وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1413).
(2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وأحمد، وانظر "أحكام الجنائز"
(ص 57).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1362)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2260)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2963)، وانظر "الصحيحة" (960).
(4) المائد: هو الذي يُدارُ برأسه من ريح البحر واضطراب السّفينة بالأمواج.
"النّهاية".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2177)، وحسنه شيخنا الألباني
-رحمه الله- في "الإرواء" (1194).
(7/149)
في زيادة الأجر للمجاهدين (1) عند الإخفاق
(2):
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما مِن غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون
غنيمةً؛ إلاَّ تعجَّلوا ثُلُثَي أجرهِم مِن الآخرة، ويبقى لهم الثُّلُث،
فإن لم يصيبوا غنيمةً؛ تمَّ لهم أجرهم" (3).
وفي لفظ: "ما مِن غازية أو سريّة، تغزو فتغنم وتسلم؛ إلاَّ كانوا قد
تعجّلوا ثُلُثي أُجورِهم، وما من غازيةٍ أو سريّة تخفق وتُصاب، إلاّ تم
أجورهم" (4).
ظاهر هذا الحديث أنَّ مَن غزا فغنِمَ، نَقَصَ أجرُ جهادِه -كما ذهَب إلى
ذلك قوم-، وليس معنى ذلك كذلك عند أهل العلم والتحقيق، بل أجْرُ الجهاد
كاملٌ لكلِّ واحدٍ منهم، بفضل الله -تعالى-، وإنّما يفترقون في زيادة الأجر
فوق ثوابِ الجهاد؛ فأمّا مَن غَنِم، فقد حَصَل له في الحال من السرور،
ونشاط النفس بالظهور والغُنْم، ما يَدْفعُ عنه آثارَ الجهد في الغزو،
وتخلّف المال في النفقة، ونحو ذلك ممّا تَفترق فيه حالُه مِنْ حال مَنْ غزا
فلم يُصبْ شيئاً، ولا عفَّى على كدِّه ونفقته خَلَفٌ، فلهؤلاء زيادةُ أجرٍ
فوق أجر الجهاد، مِن حيثُ تضاعُفِ آثار الجَهدِ والكرب بفوت المغنم، كما
يُؤجَر مَن أُصيب بجهدٍ في نفسه، أو تَلفِ شيءٍ مِن ماله، وذلك أنَّ حالهَم
بالإضافة إلى مَن غَنِمَ حالُ مَن أُصيب بفوتِ مثل ذلك.
__________
(1) هذا العنوان وما يتضمنه من "الإنجاد" (1/ 87). بزيادة وتصرُّف.
(2) قال أهل اللغة: الإخفاق: أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً، وكذلك كلّ طالب
حاجة إذا لم تحصُل فقد أخفَق، ومنه أخفق الصائد: إذا لم يقع له صيد "شرح
النّووي".
(3) أخرجه مسلم: 1906.
(4) أخرجه مسلم: 1906.
(7/150)
فعلى نحو هذا تترتَّبُ زيادةُ الأجر لمِن
لم يغنم، ويَتَّصِفُ مَنْ غَنِمَ؛ بنقصان الأجر إذا أضيف أجرُه في ذلك؛ إلى
الحَظِّ الذي زِيدَ في ثواب مَنْ لم يغنم، والله أعلم.
... وأدلُّ دليلٍ في ذلك وأوضحه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-وقد ذكر ما فضَّله الله -تعالى- به، وخصَّه من كَرمِه-: "أُعطيتُ خمساً لم
يُعطهنَّ أحدٌ قبلي؛ كان كلُّ نبيٍّ يُبعث إلى قومه خاصَّةً، وبُعثتُ إلى
كلِّ أحمر وأسود، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي" ...
الحديث، ثبت في "الصحيحين": البخاري ومسلم (1) ".
فلو كانت الغنيمة تُحبطُ أجر الجهاد أو تُنْقِصُه، ما كانت فضيلةً، وهذا
ظاهر".
قلت: إنَّ أَجْر مَن أخفَق ومَنْ غَنِم؛ لا يعلمه إلاَّ الله -تعالى-، وكذا
الأجر الكامل وثلثاه، وفي كُلٍّ خيرٌ، وجزالةُ مثوبة، ولكن المراد من
الحديث تحفيز هِمّةِ مَن لم يغنَموا؛ بما لهم عند الله -تعالى-؛ فحين
يَعْلَم مَن أخفَق أَنَّ له ما هو أفضل من الغنيمة -وهو الأجر المُدَّخَرُ
عند الله تعالى-؛ كان ذلك سبيلاً للمزيد مِن الصبر والاحتساب.
وفي مِثل هذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لَيَوَدَّنَّ أهل العافية يومَ القيامة؛ أنَّ جلودهم قُرضت بالمقاريض؛ مما
يَرَوْن مِن ثواب أهل البلاء" (2).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: "أنّه دخَل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مَوْعوكٌ عليه قَطيفَةٌ، فوضَع يدَه فَوْقَ
القَطيفَةِ، فقال: ما أشَدَّ حُمَّاك يا رسول الله!
__________
(1) أخرجه البخاري: 335، 438، ومسلم: 521.
(2) أخرجه الترمذي، وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2206).
(7/151)
قال: إنا كذلك يُشَدَّدُ علينا البَلاءُ،
ويضاعَفُ لنا الأجْرُ. ثمّ قال: يا رسول الله! مَنْ أشدُّ الناس بلاءً؟
قال: الأنبياءُ. قال؛ ثمّ مَن؟ قال: العُلماءُ. قال: ثمّ مَنْ؟ قال:
الصالحِونَ، وكان أحدُهم يُبتلى بالقَمْلِ حتى يَقْتُلَه، ويُبْتلى أحدُهم
بالفقر حتى ما يجدَ إلاَّ العباءةَ يلبَسُها، ولأَحدُهم كان أشدَّ فَرَحاً
بالبلاءِ مِنْ أحدِكُم بالعطاء" (1).
والشاهد فيه: "إنَّا كذلك يُشدَّد علينا البلاء، ويُضاعف لنا الأجر".
فإذا قُلنا إنَّ الإخفاق مِن البلاء، فإنَّ فيه زيادةَ الأجر والثواب.
والله -تعالى- أعلم بالصواب.
قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرحه" (13/ 52): "وأمّا معنى الحديث:
فالصواب الذي لا يجوز غيره، أنَّ الغزاة إذا سَلِموا أو غنموا؛ يكون
أجْرُهم أقلّ مِن أجرِ مَن لم يَسلَم أو سَلِم ولم يَغنم، وأنّ الغنيمة هي
في مقابلة جُزءٍ مِنْ أجرِ غزوهم، فإذا حَصَلَت لهم فقد تعجَّلوا ثُلُثي
أجرِهم المترَتِّب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة مِنْ جملة الأجر، وهذا
موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: "مِنَّا مَن مات ولم
يأكل مِن أجرِه شيئاً، ومِنَّا من أينعَت له ثمرتُه فهو يهدبها " أي:
يجتنيها. فهذا الذي ذَكَرْنا هو الصواب، وهو ظاهر الحديث ولم يأتِ حديث
صريح صحيح يخالِفُ هذا؛ فتعيَّن حَمْلُه على ما ذَكَرنا ... ".
قلت: وكلام الإمام النّووي -رحمه الله- هو الأرجح لدلالة النصوص على ذلك،
ويؤيد هذا ما ثبَت عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: "أُهْدِيَتْ
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (3403).
(7/152)
لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شاةٌ، قال: اقْسِميها، فكانت عائشةُ إذا رَجَعَتِ الخادِمُ
تقولُ: ما قالوا؟ تقولُ الخادم: قالوا: بارَكَ الله فيكُم، فتقول عائشةُ:
وفيهِمْ بارَكَ الله، نرُدُّ عليهم مثلَ ما قالوا، ويبقى أجْرُنا لنا" (1).
هل يسلم المجاهد نفسه للأسر (2)؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشَرَة رهطٍ (3) سريّةً عيناً، وأمَّرَ عليهم عاصمَ
بنَ ثابت الأنصاري -جدَّ عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا، حتى إذا كانوا
بالهَدَأَة -وهو بين عُسْفَانَ ومكة- ذُكِروا لحِيٍّ من هُذَيْلٍ، يقال لهم
بنو لِحْيَانَ (4)، فَنَفروا لهم قريباً من مائتي رجل كلُّهم رامٍ،
فاقْتصُّوا آثارَهم حتى وجدوا مأكلهم تمراً، تَزَوَّدوه مِن المدينة،
فقالوا: هذا تمرُ يثرب.
فاقتصُّوا (5) آثارهم، فلمّا رآهم عاصمٌ وأصحابُه لجئوا إلى فَدْفَدٍ (6)،
وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزِلوا وأعطونا بأيديكم، ولكم العهدُ
والميثاقُ ولا نَقْتُل
__________
(1) أخرجه ابن السني من طريق النسائي بسند جيِّد، وانظر "الكَلِم الطيب"
(238).
(2) هذا العنوان مُقتبس من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 170).
(3) الرهط مِن الرجال ما دون العشرة، وقيل إلى أربعين، ولا يكون فيهم
امرأة، ولا واحدَ له من لفظه. "عمدة القاري" (14/ 291).
(4) بكسر اللام، وقيل بفتحها.
(5) أي: اتَّبَعوها.
(6) قال الحافظ -رحمه الله-: "هي الرابية المشرِفة، قال ابن الأثير: هو
الموضع المرتفِع، ويُقال الأرض المستوية، والأول أصحّ".
(7/153)
منكم أحداً.
فقال عاصم بن ثابت -أمير السريّة-: أمّا أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمّة
كافر، اللهم أخبر عنّا نبيّك، فرموهم بالنَّبْل، فقتلوا عاصماً في سبعة،
فنزَلَ إليهم ثلاثة رهطٍ بالعهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ الأنصاريّ، وابن
دَثِنَةَ ورجلٌ آخر، فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتارَ قِسِيِّهم (1)
فأوثقوهم.
فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبُكم، إنّ لي في هؤلاء
لأُسوةً -يريد القتلى- فجرّروه وعالجوه على أن يصحبَهم فأبى، فقتلوه،
فانطلقوا بخبيب وابن دَثِنة؛ حتى باعوهما بمكّة بعد وقعة بدرٍ، فابتاع
خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيبٌ هو قَتَل
الحارث بن عامر يوم بدرٍ، فلبِثَ خبيبٌ عندهم أسيراً. فأخبرني عبيد الله بن
عِياض أنّ بنت الحارث أخبرته أنّهم حين اجتمعوا؛ استعار منها موسى
يَسْتَحِدُّ بها (2) فأعارته، فأخذ ابناً لي وأنا غافلةٌ حين أتاه.
قالت: فوجدته مُجْلِسَه على فخذه والموسى بيده، ففزعْت فزعةً عَرفها خبيب
في وجهي، فقال: تخشَيْن أنْ أقتلَه؟ ما كنت لأفعل ذلك.
والله ما رأيت أسيراً قطُّ خيراً من خبيب، والله لقد وجدتُه يوماً يأكل من
قِطْف عِنَبٍ في يده، وإنّه لموثَقٌ في الحديد وما بمكَّةَ مِن ثمر. وكانت
تقول إنّه لَرِزق من الله رَزَقَه خُبيباً.
__________
(1) جمع قوس.
(2) يستحِدُّ بها: مِن الاستحداد، وهو حلْق شعر العانة، وهو استفعال مِن
الحديد. "عمدة القاري".
(7/154)
فلمّا خرجوا مِن الحرَم ليقتلوه في
الحِلِّ، قال لهم خُبَيب: ذروني أركعْ ركعتين، فتركوه فركَع ركعتين ثمّ
قال: لولا أنْ تظنّوا أنّ ما بي جَزَع (1) لطوّلتُها، اللهم أحْصِهِم
عَدَداً (2).
ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإنْ يَشَأْ ... يُبارِك على أوصال (3) شِلْوٍ (4)
مُمَزَّعِ (5)
فقتَله ابن الحارث، فكان خبيبٌ هو سنَّ الركعتين لكل امرئ مُسْلم قُتِلَ
صَبْراً (6)، فاستجاب الله لعاصم بن ثابتٍ يوم أصيب. فأخبَر النبيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابَه خَبَرهم وما أُصِيبُوا، وبعَث
ناسٌ من كُفّار قريش إلى عاصم حين حُدِّثوا أنّه قُتِل ليُؤْتَوا بشيء منه
يُعْرَفُ، وكان قد قتل رجلاً مِن عظمائهم يوم بدر، فبُعِث على عاصمٍ مِثْلُ
الظُّلّة (7) مِن الدَّبْرِ (8) فَحَمَتْه (9) من رسولهم، فلم يقدروا على
أن يقطعوا
__________
(1) الجزع: نقيض الصبر.
(2) دعا عليهم بالهلاك استِئصالاً، أي: لا تُبْقِ منهم أحَداً. "عمدة
القاري".
(3) الأوصال: جَمْع وَصل، وهو العضو.
(4) الشِّلو -بكسر المعجمة-: الجسد، وقد يطلق على العضو، ولكن المراد به
هنا الجسد.
(5) الممزَّع: المُقطَّع.
(6) قال في "النّهاية": " ... وكلّ من قُتل في غير معركة، ولا حَرْب، ولا
خطأ، فإنه مقتولٌ صبراً".
(7) الظُلَّة: السَّحابة.
(8) الدَّبر -بفتح المهملة وسكون الموحَّدة-: الزنانبير، وقيل ذكور النحل،
ولا واحد له من لفظه. "الفتح".
(9) مَنَعتْه منهم.
(7/155)
مِنْ لحمه شيئاً" (1)
قال العلامة العيني -رحمه الله- في "عمدة القاري" (14/ 294): "في نزول
خُبَيبٍ وصاحبِه، جواز أن يَسْتأْسر الرجل (2).
قال المهلَّب: إذا أراد أن يأخذ بالرخصة في إحياء نفسه؛ فعَل كفِعل هؤلاء،
وعن الحَسن لا بأس أن يَستأسِر الرجَل إذا خاف أن يُغلَب. وقال الثوريُّ:
أكره للأسير المسلم؛ أن يُمكِّن مِن نفسه إلاَّ مجبوراً، وعن الأوزاعي: لا
بأس للأسير المسلم أن يأبى أن يُمكِّن مِن نفسه، بل يأخذ بالشدة والإِباء
مِن الأسر والأَنَفة؛ من أن يجري عليه مَلِكٌ كافر -كما فعَل عاصم-".
قلت: والأسير هو الذي يرجِّح مصلحته، ويُقرّر أمْرَه، بحسب يقينه وعزمه وما
يشاهده، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ليس الخبر كالمعاينة" (3).
من ركع ركعتين عند القتل
للحديث المتقدم وفيه:
"فلمّا خرجوا مِن الحرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خُبَيب: ذروني أركعْ
__________
(1) أخرجه البخاري: 3045، 3989، 4086.
(2) أي: يُسْلِم نفسه للأسر.
(3) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "تخريج الطحاوية" برقم
(401)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (5670): "حديث صحيح،
صحَّحه ابن حبان وكذا صحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي".
(7/156)
ركعتين، فتركوه فركَع ركعتين ثمّ قال: لولا
أنْ تظنّوا أنّ ما بي جَزَع لطوّلتُها، اللهم أحْصِهِم عَدَداً.
ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإنْ يَشَأْ ... يُبارِك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فقتَله ابن الحارث، فكان خبيبٌ هو سنَّ الركعتين لكل امرئ مُسْلم قُتِلَ
صَبْراً".
استقبال الغزاة (1)
عن ابن أبي مُليكة قال: قال ابن الزبير لابن جعفر -رضي الله عنهم-: أتذكر
إذ تلقّينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأنت وابن
عبّاس؟ قال: نعم، فحَمَلَنا وترَكَك" (2).
وعن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "أَذْكُرُ أني خَرجْتُ مع الغِلمان
إلى ثنيّة الوداع؛ نتلقّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-" (3).
مراسلة المجاهدين والديهم وأهليهم
يُشرَع للمجاهدين مراسلةُ، والدِيهم وأهلِيهم، لتذكيرِهم بالله، وطَلَبِ
الدعاء منهم.
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسِّير) (باب - 196).
(2) أخرجه البخاري: 3082، ومسلم: 2427.
(3) أخرجه البخاري: 3083، 4426.
(7/157)
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إني
لأرى لجِواب الكتاب حقّاً كردِّ السلام" (1).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 48) -بحذف-: "مِنْ أحمدَ بن تيمية إلى
الوالدة السعيدة، أقرَّ الله عينيها بنعمه، وأسبَغ عليها جزيل كَرَمِه،
وجعَلَها مِن خِيار إمائه وخَدَمِه.
سلام الله عليكم، ورحمة الله وبركاته.
فإنَّا نَحْمَد إليكم الله الذي لا إله إلاَّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على
كل شيء قدير. ونسأله أن يصلّيَّ على خاتَم النبيين، وإمام المتقين، محمّدٍ
عبدِه ورسولِه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً-.
كتابي إليكم عن نِعَمٍ مِن الله عظيمة، ومنَنٍ كريمة، وآلاء جسيمة نشكُر
الله عليها، ونسأله المزيد مِنْ فضله، ونِعَمُ الله كلَّما جاءت في نموٍّ
وازدياد، وأياديه جلَّت عن التعداد، وتعلمون أنّ مقامنا الساعة في هذه
البلاد، إنّما هو لأمورٍ ضرورية؛ متى أهملناها فسَد علينا أمْر الدين
والدنيا.
ولسنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حَمَلَتْنا الطيور لسِرنا إليكم، ولكن
الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور، فإنّكم -ولله الحمد- ما
تختارون الساعة إلاَّ ذلك، ولم نعزِم على المقام والاستيطان شهراً واحداً،
بل كلّ يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخِيَرة (2)، فنسأل الله
العظيم أن يَخيرَ لنا
__________
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" انظر "صحيح الأدب المفرد" (850).
(2) انظر -إن شئت- لمعرفة الفَرقَ بين الخِيْرة -بسكون الياء- والخِيَرة:
-بفتح الياء "النّهاية" (باب الخاء مع الياء) كلمة (خير).
(7/158)
ولكم وللمسلمين ما فيه الخِيَرة، في خيرٍ
وعافية.
ومع هذا فقد فتَح الله مِن أبواب الخير والرحمة، والهداية والبركة، ما لم
يكن يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر،
مستخيرون الله -سبحانه وتعالى-.
فلا يظنّ الظانُّ أنّا نُؤثِر على قُربكم شيئاً مِن أمور الدنيا قطّ، بل
ولا نُؤْثِر مِن أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثَمّ أمورٌ
كِبار، نخاف الضرر الخاصّ والعامّ مِن إهمالها. والشاهد يرى ما لا يرى
الغائب.
والمطلوب، كثرةُ الدعاء بالخِيرَة، فإنّ الله يَعلم، ولا نعلم ويَقْدِر ولا
نَقْدِر. وهو علّام الغيوب.
والتاجر يكون مسافراً فيخاف ضياعَ بعضِ مالِه فيحتاج أن يقيمَ حتى
يستوفيَه، وما نحن فيه أمْر يَجِلّ عن الوصف، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيراً كثيراً، وعلى سائِر مَنْ في البيت
مِن الكبار والصغار، وسائِر الجيران والأهل والأصحابِ واحداً واحداً،
والحمد لله رب العالمين. وصَلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلَّم
تسليماً".
انتهاء الحرب (1)
تنتهي الحرب بأحد الأمور الآتية:
1 - إسلامِ المحاربين أو إسلامِ بعضهم، ودخولِهم في دين الله، وفي هذه
الحال يُصبحون مسلمين، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم مِن
__________
(1) عن "فِقه السنة" (3/ 442) بتصرف.
(7/159)
الحقوق والواجبات.
2 - طلَبِهم إيقافَ القتالِ مدة مُعيَّنة، وحينئذٍ يُحقق القائد الاستجابة
إلى ما طلَبوا، [إنْ رأى المصلحة في ذلك] كما فعَل ذلك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صُلح الحديبية.
3 - رغبتِهم في أن يبقوا على دينهم، مع دفْع الجزية، ويتمّ بمقتضى هذا عقد
الذّمة بينهم وبين المسلمين.
4 - هزيمتِهم، وظَفَرِنا بهم، وانتصارِنا عليهم، وبهذا يكونون غنيمةً
للمسلمين.
5 - وقد يحدُث أن يطلب بعض المحاربين الأمان (1)، فيُجاب إلى ما طلَب،
وكذلك إذا طلَب الدخول في دار الإسلام.
لا يجوزُ نزْعُ ثيابِ الشهيد التي قُتل فيها (2)
لا يجوز نزْعُ ثيابِ الشهيدِ التي قُتل فيها، بل يُدفن وهي عليه لقولهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أُحُد: "زمِّلوهم في ثيابهم"
(3)، وفي رواية له: "زمِّلوهم بدمائهم" (4).
استحبابُ تكفين الشهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوق ثيابهِ (2)
يُستحبُّ تكفينُ الشّهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوقَ ثيابهِ.
__________
(1) وله شروطه وضوابطه، وسيأتي بإذن الله -تعالى-.
(2) انظر "أحكام الجنائز" (ص 80).
(3) أخرجه أحمد، وانظر أحكام الجنائز (ص 80).
(4) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1892)، وانظر أحكام الجنائز
(ص 80).
(7/160)
فعن شَدّاد بن الهاد: "أن رجلاً من
الأعراب، جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فآمن به
واتَّبعَه، ثمّ قال: أُهاجرُ معك، فأوصى به النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضَ أصحابه، فلمّا كانت غزوة [خَيْبرَ] غَنِمَ النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيها] شيئاً، فَقَسم، وَقَسَمَ له،
فأعطى أصحابه ما قَسَم له، وكان يرعى ظَهْرَهم، فلمّا جاءهم دفعوه إليه،
فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسَمَ لك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-.
فأخذه فجاء به إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما
هذا؟ قال: قَسَمْتُه لك، قال: ما على هذا اتَّبعْتُك، ولكن اتَّبعْتُك على
أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حَلْقهِ- بسهمٍ فأموتَ، فأدخلَ الجنة، فقال:
إن تَصدُقِ الله يَصْدُقْك.
فَلَبِثُوا قليلاً، ثمّ نهَضُوا في قتال العَدُوِّ، فأُتي به النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْمَل، قد أصابه سهمٌ حيث أشار،
فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهو هو؟ قالوا: نعم،
قال: صدَق الله فصدَقَه.
ثمّ كفَّنه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جُبَّةِ
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قدَّمه فصلَّى عليه،
فكان فيما ظَهرَ مِن صلاتِهِ: اللهمَّ هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك،
فقُتِل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" (1).
وعن الزُّبَير بن العَوّام -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ أُحُد؛
أقبَلتِ امرأةٌ تسعى، حتى إذا كادت أن تُشرِف على القتلى، قال: فَكرِهَ
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تَراهم، فقال: المرأةَ
المرأةَ!
قال: فتوسَّمْتُ أنها أمّي صفيّةُ، فخرجْتُ أسعى إليها، فأدْركْتُها قبل أن
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1845) والحاكم وغيرهم
وصححه شيخنا رحمه الله في "أحكام الجنائز" (ص 81).
(7/161)
تنتهيَ إلى القتلى، قال: فَلَدَمَتْ (1) في
صدري، وكانت امرأةً جَلْدةً، قالت: إليك لا أرضَ لك، فقلتُ: إن رسولَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزَمَ عليك، فَوقَفتْ، وأخرجَتْ
ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبانِ جئتُ بهما لأخي حمزَةَ، فقد بلغني مقتلُه،
فكفِّنْهُ فيهما.
قال؛ فجئنا بالثوبين لِنُكفِّن فيهما حمزة، فإذا إلى جَنْبهِ رجلٌ من
الأنصار قتيل، قد فُعل بهِ كما فُعل بحمزة، فوجدنا غضاضةً (2) وحياءً، أن
نُكفِّنَ حمزةَ في ثوبين، والأنصاريُّ لا كَفنَ له، فقلنا: لحمزةَ ثوبٌ،
وللأنصاريِّ ثوبٌ، فقدَّرناهما فكان أحدُهما أكبرَ مِن الآخر، فأقْرَعْنا
بينهما، فكفَّنّا كلَّ واحدٍ منهما في الثوبِ الذي صار له" (3).
لا يُشْرَعُ غَسْلُ الشهيد قتيلِ المعركة ولو كان جُنُباً (4)
لا يُشْرع غسْل الشهيد قتيل المعركة، ولو كان جُنُباً، وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن جابرٍ قال: "قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
ادفنوهم في دمائهم -يعني يوم أحد- ولم يَغْسِلْهم" (5).
__________
(1) أي: ضربت ودفعت.
(2) الغضاضة: العيب والمنقصة.
(3) أخرجه أحمد -والسياق له بسند حسَن- والبيهقي وسنده صحيح وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 81).
(4) انظر "أحكام الجنائز" (ص 72).
(5) أخرجه البخاري: 1346. وفي رواية "وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء، وأمَر
بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلِّ عليهم، ولم يُغسّلهم"، البخاري: 1347.
(7/162)
وفي رواية: فقال: "أنا شهيدٌ على هؤلاء،
لُفُّوهم في دمائهم، فإنه ليس جريح يُجرح [في الله] إلاَّ جاء وجرحه يوم
القيامة يدْمي، لونُه لونُ الدم، وريحهُ ريحُ المسك" (1).
وفي رواية: "لا تغْسِلوهم، فإنّ كلّ جرحٍ يفوح مِسْكاً يوم القيامة، ولم
يُصلِّ عليهم" (2).
الثاني: عن أبي بَرْزَةَ -رضي الله عنه-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في مغْزىً له، فأفاءَ اللهُ عليه، فقال لأصحابه:
هل تفقدون مِن أحدٍ؟ قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثمّ قال: هل
تفْقِدون مِن أحدٍ؟ قالوا: لا: قال: لكني أفقد جُليْبِيباً، فاطلُبوه.
فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جَنْبِ سبعةٍ قد قَتَلهم، ثمّ قتلوه! فأتى
النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوقفَ عليه فقال: قَتَلَ
سبعةً ثم قَتَلوه! هذا منِّي، وأنا منه، هذا منِّي، وأنا منه، قال:
فَوَضَعه على ساعِدِيْه، ليس له إلاّ ساعدا (3) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فحُفر له ووُضِع في قبره، ولم يَذْكُر غَسْلاً"
(4).
الثالث: عن أنس: "أنّ شهداء أُحُد لم يُغَسَّلوا، ودُفنوا بدمائهم، ولم
يصلِّ
__________
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهما
وانظر "أحكام الجنائز"، (ص 72).
(2) أخرجه أحمد في "المسند" وغيره وصححه شيخنا -رحمه الله- في: الإرواء"
(3/ 164).
(3) أي: لم يكن له سرير إلاَّ ساعدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وهي رواية ثابتة، انظر "أحكام الجنائز" (ص 73).
(4) أخرجه مسلم: 2472.
(7/163)
عليهم [غير حمزة] " (1).
الرابع: عن عبد الله بن الزُّبير في قصة أُحُدٍ واستشهاد حنظلَة بن أبي
عامر، قال: "فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ
صاحِبَكم تَغسِلُه الملائكةُ، فاسألوا صاحِبَتَه، فقالت: خَرَجَ وهو جُنُبٌ
لمّا سَمِع الهائعة (2)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: لذلك غسَّلتْهُ الملائكة" (3).
الخامس: عن ابن عباس قال: "أصيبَ حمزةُ بن عبد المطّلب، وحنظلةُ بن الراهب،
وهما جُنُبٌ (4)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
رأيتُ الملائكةَ تُغَسِّلُهما" (5).
قال شيخنا -رحمه الله - في "أحكام الجنائز" (ص 75):
"واعلم أن وجه دلالة الحديث على عدم مشروعية غَسْل الشهيد الجنبِ؛ هو ما
ذكَره الشافعيةُ وغيرهُم؛ أنّه لو كان واجباً لما سَقَطَ بغسل الملائكةِ،
ولأَمرَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسلِه، لأنّ
المقصودَ منه تعبُّدُ الآدمى به، انظر "المجموع" (5/ 263) و"نيل الأوطار"
(4/ 26) ".
__________
(1) أخرجه أبو داود والزيادة له وللحاكم والترمذي وحسّنه، وغيرهم وانظر
"أحكام الجنائز" (ص 73).
(2) هو الصوتُ الذي تفْزَعُ منه، وتخافه من عدوّ. "النّهاية".
(3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقي بإسناد جيد، وانظر
"أحكام الجنائز" (ص 74).
(4) كذا في "السنن والآثار" للبيهقي، وفي "معجم الطبرانيّ الكبير"
"جُنُبان".
(5) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" وإسناده حسنٌ، كما قال الهيثمي في
"المجمع" (3/ 23).
وانظر "أحكام الجنائز"، (ص 75).
(7/164)
أين يُدفن الشهيد (1)
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- "أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَر بقتلى أُحُد؛ أن يُرَدّوا إلى مصارعهم، وكانوا
قد نُقِلوا إلى المدينة" (2).
عن نُبيح العَنَزي، عن جابر: أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "ادْفِنُوا القتْلَى في مَصَارعِهِمْ" (3).
دفنْ أكثر من شهيد في قبر واحد إذا كَثُر القتلى
عن هشام بن عَامِرٍ، قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله
الحْفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْفِرُوا، وَأَعْمِقُوا،
وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ،
قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ الله؛ قَالَ: قَدِّمُوا
أَكْثَرَهُمْ قُرْآناً، قَالَ: فَكَانَ أَبي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، فِي قَبْرٍ
وَاحِدٍ" (4).
وقال الإمام البخاري -رحمه الله- (باب دفْنِ الرجلين والثلاثة في قبرٍ) (5)
ثمّ ذكر حديث جابر -رضي الله عنه-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يجمع بين الرجلين من
__________
(1) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 431)
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1893).
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1894)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1230).
(4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي، (1899)، وأبو داود "صحيح سنن أبي
داود" (2754)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (1266).
(5) انظر "صحيح البخاري" كتاب الجنائز (باب - 73).
(7/165)
قتلى أُحد" (1).
من غَلب العدوّ فأقام على عرْصتهم (2) ثلاثاً (3)
عن قتادةَ قال: "ذكَر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة -رضي الله عنهما- عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان إذا ظهَر على قوم،
أقام بالعَرْصة ثلاثَ ليال" (4).
ما يقول إذا رجع من الغزو (5)
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قَفَل (6) مِن غزوٍ أو حجٍّ أو عُمرة؛ يُكبّر
على كل شَرَف (7) مِن الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: لا إله إلاَّ الله،
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، آيبون (8)
تائبون عابِدون ساجدون لربنا حامدون، صدَق الله
__________
(1) انظر "صحيح البخاري": 1345.
(2) العَرْصة: هي البقعة الواسعة بغير بناء، من دارٍ وغيرها. "الفتح".
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 185)، وجاء في
تبويب "صحيح ابن حبان" نحوه بزيادة: "إذا لم يكن يخاف على المسلمين فيه".
انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 151).
(4) أخرجه البخاري: 3065، ومسلم: 2875.
(5) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 97).
(6) قفَل: أي رَجع.
(7) شَرَف: الموضع العالي الذي يُشرِف على ما حولَه.
(8) آيبون: راجعون.
(7/166)
وعدَه (1)، ونصَر عبدَه، وهزَم الأحزاب
وحده (2) " (3).
إذا قَدِمَ الإمام أو القائد مِن الغزو يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين
عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: " ... وصبَّح رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادماً، وكان إذا قَدِم مِن سفرٍ (4) بدأ
بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثمّ جَلَس للناس" (5).
مراجعة الإمام أو القائد مَن تخلّف من الغزو والقتال
في الحديث المتقدّم: "ثمّ جلَس للناس، فلمّا فَعل ذلك جاءه المخلَّفون،
فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقَبِل
منهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانِيَّتَهم
وبايعَهَم واستغَفَر لهم وَوَكَل سرائرهم إلى الله، فجئتُه (6) فلمّا
سلّمتُ عليه تبسَّم تبسُّم المُغضَب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ
بين يديه، فقال لي: ما خلَّفَك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟ ... " (7).
__________
(1) أي صدَق وَعْدَه في إظهار الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من
وعْدِه -سبحانه-. "شرح النّووي".
(2) وهزم الأحزاب وحده: أي: مِن غير قتال من الآدميين، والمُراد بالأحزاب:
الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزّبوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسَل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم يَروها.
(3) أخرجه البخاري: 1979 واللفظ له، ومسلم: 1344.
(4) هكذا ورَد في السَّفَر، وهو أعمّ مِن الغزو في مفارقة الوطن، وقد ورَد
هذا السياق في غزوة تبوك في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-.
(5) أخرجه البخاري: 4418، أخرجه مسلم: 2769.
(6) أي كعب بن مالك.
(7) أخرجه البخاري: 4418، ومسلم: 2769.
(7/167)
قتال الإمام مانعي
الزكاة
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لمّا تُوفّيَ رسولُ الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستُخلِف أبو بكر بعده، وكفَر مَن كفَر من
العرب؛ قال عمر لأبي بكر: كيف تُقاتل النّاس وقد قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرتُ أنْ أقاتِل النّاس حتى يقولوا لا
إله إلاَّ الله، فمَن قال: لا إله إلاَّ الله عَصَمَ مني ماله ونفسه إلاَّ
بحقّه، وحسابهُ على الله، فقال: والله لأُقاتلنّ مَن فرَّق بين الصلاة
والزكاة، فإنّ الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عِقالاً (1) كانوا
يؤدّونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتَلْتُهم
على مَنْعِه.
فقال عمر: فوالله ما هو إلاَّ أنْ رأيتُ الله قد شَرح صدْرَ أبي بكر
للقتال، فعرفْتُ أنّه الحقّ، قال ابن بكير وعبد الله عن الليث: عَناقاً؛
وهو أصح" (2).
قتل الجاسوس (3)
عن سلمةَ بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "أتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينٌ من المشركين وهو في سفر، فجلَس عند أصحابه يتحدث
ثمّ انفَتَل، فقال: النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطلبوه
واقتلوه، فقَتَله فنفَّله سَلَبَه" (4).
وهذا ما يتعلّق الجاسوس الحربيّ، وأمّا المعاهَد والذمّي؛ فقال مالك
__________
(1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا في مسلم عِقالاً، وكذا في بعض
روايات البخاري وفي بعضها (عَنَاقا) بفتح العين وبالنون وهي الأنثى مِن ولد
المعز، وكلاهما صحيح".
والعقال: الذي يُعقل به البعير.
(2) أخرجه البخاري: 7284، 7285، ومسلم: 20.
(3) عن "الروضة الندية" (2/ 752) بتصرفٍ يسير.
(4) أخرجه البخاري: 3051، ومسلم مُطولاً: 1754.
(7/168)
والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك.
وعن فرات بن حيّان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمَرَ بقتله -وكان عيناً لأبي سفيان، وحليفاً لرجُل مِن الأنصار-، فمرّ
بحلقة من الأنصار، فقال: إنّي مسلم، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله
إنه يقول إنّى مُسلم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إنّ منكم رجالاً نَكِلُهم إلى إيمانهم؛ منهم فُراتُ بنُ حيان (1) " (2).
في حُكم قتل الجاسوس إذا كان مُسلماً
فيه الحديث المتقدّم في شأن فُرات بن حيّان.
وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "بعثَني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والزبيرَ والمقدادَ
__________
(1) فُرات بن حَيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب بن حية بن ربيعة بن صعب
بن عجل بن لجيم الربعي اليشكري ثمّ العجلي حليف بني سهم ...
قال البخاري: وتَبِعَه أبو حاتم، كان هاجَر إلى النبي -صلى الله تعالى عليه
وعلى آله وسلم-، زاد أبو حاتم أنّه كوفي، وقال البغوي: سكن الكوفة، وابتنى
بها داراً، وله عقب بالكوفة، وأقطعه أرضاً بالبحرين.
وقال ابن السكن: له صُحبة وذكَره ابن سعد في طبقة أهل الخندق وقال نزَل
الكوفة، روى عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال:
"إنّ منكم رجالاً نَكِلُهم إلى إيمانهم؛ منهم فرات بن حيان".
أخرجه أبو داود والبخاري في "التاريخ" وفيه قصّةٌ.
وروى عنه حارثة بن مضرب، وقيس بن زهير، والحسن البصريّ، وكان عيناً لأبي
سفيان في حروبه، ثمّ أسلَم، فحسُن إسلامه، وقال المرزباني كان ممن هجا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ مدَحه فقَبِل مدْحه.
(2) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2310)
والحاكم وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1701).
(7/169)
ابنَ الأسودِ، وقال: انطلِقوا حتى تأتوا
روضة خاخ (1) فإنّ بها ظعينةً (2) ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تَعادَى
(3) بنا خيلنا؛ حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أَخْرجي
الكتاب، فقالت: ما معي مِن كتاب، فقلنا: لتُخْرِجِنّ الكتاب أو لنُلقينّ
الثياب، فأخرَجَتْه مِن عِقاصها (4).
فأتينا به رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا فيه: من حاطب
بن أبي بَلْتَعة إلى أناسٍ مِن المشركين مِن أهل مكة؛ يُخبِرهم ببعض أمْرِ
رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا حاطب ما هذا؟
قال: يا رسول الله لا تعجَلْ عليّ، إنّي كنتُ امرَءاً مُلصَقاً في قريش،
ولم أكن مِن أنفُسِها وكان مَن معك مِن المهاجرين لهم قَرابات بمكّة؛ يحمون
بها أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك مِن النَّسَب فيهم؛ أن أتخذ
عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كُفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً
بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقد
صدَقكم.
فقال عمرُ: يا رسولَ الله دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، قال: إنه قد شهِد
بدراً، وما يدريك لعلّ الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا
ما شئتم؛ فقد غفرْتُ لكم" (5).
قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (3/ 115): "فاستدلَّ به مَن لا
__________
(1) موضع بين مكّة والمدينة.
(2) الظعينة: هنا الجارية، وأصلها الهودج، وسُميّت بها الجارية لأنها تكون
فيه. "شرح النّووي".
(3) أي: تجري.
(4) أي: شعرها المضفور، وهو جمع عقيصة "شرح النّووي".
(5) أخرجه البخاري: 3007، 3081 ومواطن أخرى، ومسلم: 2494.
(7/170)
يرى قَتْل المسلم الجاسوس؛ كالشافعي وأحمد،
وأبي حنيفة -رحمهم الله- واستدل به من يرى قَتْلَه؛ كمالك، وابن عقيل من
أصحاب أحمد -رحمه الله- وغيرهما.
قالوا: لأنه علّل بعلّة مانعةٍ من القتل، منتفية في غيره (1)، ولو كان
الإسلام مانعاً من قَتْله؛ لم يُعلّل بأخص منه (2)، لأن الحكم إذا علّل
بالأعم (3) كان الأخص (4) عديم التأثير وهذا أقوى. والله أعلم".
وقال -رحمه الله أيضاً- (ص 422): "وفيها (5) جواز قَتْل الجاسوس -وإنْ كان
مُسلِماً- لأن عمر -رضي الله عنه- سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَتْل حاطب بن أبي بلتعة، لمّا بعَث يُخبر أهل مكة بالخبر، ولم
يَقُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحلّ قتلُه إنه مسلم، بل
قال وما يدريك لعل الله قد اطلَع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم.
فأجاب بأنّ فيه مانعاً مِنْ قَتْله وهو شهودُه بدراً، وفي الجواب بهذا؛
كالتنبيه على جواز قَتْل جاسوسٍ ليس له مِثل هذا المانع.
وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا
يُقتَل وهو ظاهر مذهبِ أحمد والفريقان يحتجّون بقصة حاطب.
والصحيح أن قَتْله راجع إلى رأي الامام فإنْ رأى في قَتْله مصلحة
__________
(1) وهي شهود بدر.
(2) أي لو كان الإسلام مانعاً مِن قتله؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعلّل عدم الإذن بقتله؛ لكونهِ من أهل بدر، بل
لإسلامه فحسب.
(3) وهو الإسلام هنا.
(4) وهو شهود بدر هنا.
(5) أي في قصة فتح مكة.
(7/171)
للمسلمين، قَتله وإن كان استبقاؤه أصلح
استبقاه، والله أعلم".
وأشار إلى هذا شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضيّة" (3/ 477).
قلت: والذي يبدو لي أنّ هذا يتعلّق بدراسةِ سببِ فِعْل هذا الجاسوس، والنظر
فيما إذا كانت ثمّه قرائن تدلّ على توبته، ففي قصة حاطب -رضي الله عنه-
ظَهَر سبب انجراره إلى هذا الفعل، وهو اتخاذ أسباب الحماية من قِبَل
أقاربه، وتصريحه أنّه لم يكن لكُفرٍ أو ارتداد، ثمّ ما كان مِن قولِ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعلّ الله أن يكون قد اطّلعَ
على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرْتُ لكم".
فالأمر متعلِّق بالتوفيق للتوبة المستجلِبة للمغفرة، والأمر يعود إلى
الإمام فيما يترجّح لديه مِن حال هذا الجاسوس مِن هذا الجانب، والنظر كذلك
فيما يتعلَّق بمصلحة المسلمين، سواءٌكان ذلك في القتل أو عدمه والله
-تعالى- أعلم.
من قفز من عسكر المسلمين إلى عسكر الكُفّار
جاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 534): "فمن قفَز عنهم إلى التتار كان أحقَّ
بالقتال مِنْ كثيرٍ من التتار؛ فإنَّ التتار فيهم المُكْرَه وغيرُ
المكْرَه، وقد استقرَّت السُّنَّة بأنَّ عقوبةَ المرتدّ أعظمُ مِن عقوبة
الكافر الأصلي مِن وجوهٍ متعددة.
منها أنَّ المرتدَّ يُقتَل بكل حال، ولا يُضرَب عليه جزية، ولا تُعقَد له
ذِمَّة؛ بخلاف الكافر الأصلي.
ومنها أنَّ المرتد يُقتل -وإنْ كان عاجزاً عن القتال-؛ بخلاف الكافر
الأصليّ الذي ليس هو مِن أهل القتال، فإنّه لا يُقتَل عند أكثر العلماء
كأبي حنيفة ومالك وأحمد؛ ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتدَّ يُقتَل؛ كما
هو مذهب مالك والشافعي وأحمد.
(7/172)
ومنها أن المرتدَّ لا يَرِث ولا يُناكَح ولا تُؤكَل ذبيحته بخلاف الكافر
الأصلي. إلى غير ذلك من الأحكام". |