الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الهدنة
الهدنة لغةً: السكون.
واصطلاحاً: الصُّلح والموادعة بين المسلمين والكفار، وبين كلّ متحارِبَين، والاتفاق على عدم القتال فترة زمنية معيّنة (1).
قال العلماء: "إذا مال العدوّ للمسالمة؛ فإنّه يجاب طَلَبُه، إذا كانت مصلحة المسلمين تقتضي ذلك؛ كأن يكون العدوّ كثيفاً، وكان الأنفع تأجيل القتال؛ حتى يتقوى المسلمون".
وقد يريد العدوّ المكر والخديعة، فيجب الحذَر والتيقّظ قال الله -تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ (2) هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (3).
قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول -تعالى-: إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، {وإنْ جَنَحُوا} أي: مالوا {لِلسَّلْمِ} أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، {فَاَجْنَحْ لَهَا} أي:
__________
(1) "النّهاية" بتصرف وزيادة.
(2) قال ابن القيم -رحمه الله- أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه أحد انظر "التفسير القيّم" (ص 292).
(3) الأنفال: 61 - 62.

(7/173)


فمِلْ إليها، واقبَلْ منهم ذلك؛ ولهذا لما طلَبَ المشركون عام الحديبية الصلحَ ووضْعَ الحرب بينهم وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعَ سنين؛ أجابهم إلى ذلك؛ مع ما اشترطوا من الشروط الأُخَر.
قال الإمام البخاريّ -رحمه الله-: (باب ما يُحذَر من الغدر) وقول الله - تعالى-: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} (1).
ثمّ ذكر تحته حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- وفيه "اعدُد ستّاً بين يدي الساعة"، ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثمّ هُدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر (2)، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية (3)، تحت كل غاية اثنا عَشَرَ ألفاً" (4).
وعن البراء -رضي الله عنه- قال: "اعتمَر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخُل مكة؛ حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام.
فلمّا كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا لا نقرّ بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمّد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله وأنا محمّد بن عبد الله، ثمّ قال لعليّ: امْحُ رسولَ الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً.
فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكتاب فكتَب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله،
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 15).
(2) هم الروم.
(3) أي: راية.
(4) انظر "صحيح البخاري" (3176).

(7/174)


لا يدخُلُ مكة سلاح إلاَّ في القِراب (1)، وأن لا يَخرُجَ مِن أهلها بأحدٍ إنْ أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدا مِن أصحابه أراد أن يُقيمَ بها.
فلمّا دخَلها ومضى الأجل، أَتَوا عليّاً فقالوا: قل لصاحِبِك اخرُج عنّا فقد مضى الأجل، فخَرج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
وعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكَم: أنّهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين، يأمَن فيهن النّاس، وعلى أن بيننا عيْبَةً (3) مكفوفة، وأنّه لا إسلال ولا إغلال (4) " (5).
قال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يفِ بالعهد) (6).
وجاء في "السيل الجرار" (4/ 564): تعليقاً على عبارة "ويجوز للإمام
__________
(1) أي: غِمد السيف، جمعها: قُرُب، وأقربَة.
(2) أخرجه البخاري: 2699، ومسلم: 1783.
(3) عيْبَةً: ما يُجعَل فيها الثياب، مكفوفة: أي مشدودة ممنوعة، قال في "النيل" أي: أمراً مطويّاً في صدورٍ سليمةٍ، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة؛ بما تقدَّم بينهم مِن أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقَع بينهم.
(4) لا إسلال ولا إغلال: أي: لا سرقة ولا خيانة، يُقال: أغلّ الرجل أي: خان، والإسلال: من السّلّة، وهي: السرقة، والمراد: أن يأمن النّاس بعضهم من بعض؛ في نفوسهم وأموالهم سرّاً وجهراً. "عون المعبود" (7/ 320). وانظر للمزيد من الفائدة، -إن شئت- "النّهاية" (سلل، غلل).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2404).
(6) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 12).

(7/175)


عقد الصلح لمصلحة":
أقول: وَجْهُ هذا أنّ الله -سبحانه- قال في كتابه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} فدلّ ذلك على جواز المصالحة؛ إذا طلَبها الكُفّار وجَنحُوا إليها.
وقيل لا يجوز ذلك لقوله -سبحانه-: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (1).
ولا يخفاك أنّه لا معارضة بين الآيتين، فإنّ الآية الأولى دلَّت على أن الكُفّار إذا نجحوا للسَّلم جَنَحْنا لها، والآية الأخرى دلّت على عدم جواز الدعاء مِن المسلمين إلى السَّلم، فالجمع بينهما بأنّه يجوز عَقد الصُّلح إذا طلَب ذلك الكفّار، ولا يجوز طَلبُه مِن المسلمين؛ إذا كانوا واثقين بالنصر ...
وقيل: لا يجوز المصالحة أصلاً، وأنّ ما ورَد في جوازها منسوخ بقوله: {فاقْتُلُوا المُشْركِينَ} (2). ونحوها، ولا وَجْهَ لدعوى النسخ، وأيضاً الجمعُ ممكِن بأنهم يُقتَلون ويُقاتَلون؛ ما لم يجنحوا إلى السَّلم.
وأمّا كون المدّة معلومةً، فوجْهُه أنّه لو كان الصلحُ مُطلقاً أو مؤبَّداً؛ لكان ذلك مُبطلاً للجهاد الذي هو مِن أعظم فرائض الإسلام، فلا بُدّ مِن أن يكون مُدّةً معلومة على ما يَرَى الإمام من الصلاح، فإذا كان الكفّار مُستظهرِين وأمرهم مُستعلناً؛ جاز له أن يعقده على مُدّة طويلة، ولو فوق عشر سنين، وليس في ذلك مخالفة لعقده -صلى الله عليه وآله وسلّم- للصُّلح الواقع مع قريش عشر سنين،
__________
(1) محمد: 35.
(2) التوبة: 5.

(7/176)


فإنّه ليس في هذا ما يدّل على أنّه لا يجوز أن تكون المدة أكثرَ مِن عشر سنين؛ إذا اقتضت المصلحة" انتهى.
والخلاصة: جواز المصالحة إذا طلبها الكفّار؛ إذا كان فيها نفعٌ للمسلمين، ولا يجوز ابتداؤها من المسلمين إذا كانوا واثقين بالنصر.
ولا بُدّ أن تكون المُدّة معلومة -طالت أم قصرت- على ما يرى الإمام فيه تغليب المصلحة وترجيح المنفعة؛ والله -تعالى- أعلم.
قال العلاّمة ابن القَيِّم -رحمه الله- في زاد المعاد (5/ 93): (في حُكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهُدنة وما ينقضُها):
"ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه صالَح أهل مكّة، على وضْع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، ودخَل حلفاؤهم مِن بني بكر معهم، وحلفاؤه مِن خزاعة معه، فَعَدَتْ حلفاءُ قريش على حلفائه. فغدروا بهم، فرضِيَت قريش ولم تُنكِره، فجعَلَهم بذلك ناقضين للعهد، واستباح غزْوَهم مِن غير نبْذِ عهدِهم إليهم، لأنهم صاروا محاربين له، ناقضين لعهده؛ برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه، وألحَقَ رِدأهم (1) في ذلك بمباشِرِهم.
وثبت عنه أنّه صالَح اليهود، وعاهَدَهم لمّا قَدِمَ المدينة، فغَدَروا به، ونقَضوا عهده مراراً، وكلّ ذلك يُحاربهم ويظْفَر بهم، وآخرُ ما صالَح يهود خيبر؛ على أنّ الأرض له، ويُقرّهم فيها عُمّالاً له ما شاء، وكان هذا الحكمُ منه فيهم حُجّةً؛ على جواز صُلح الإمام لعدوِّه ما شاء مِن المدّة، فيكون العقدُ جائزاً له
__________
(1) أي: المعين والمناصر.

(7/177)


فسْخُه متى شاء، -وهذا هو الصواب-، وهو مُوجِب حُكْم رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ناسخ له".