الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة عقد الذمّة
الذمّة هي: العهد والأمان، وعقد الذّمة: هو أنْ يُقرّ الحاكم أو نائبه بعض
أهل الكتاب من الكُفّار على كفرهم بالضوابط الشرعية (1).
جاء في "المغني" (10/ 572): "ولا يجوز عَقْد الذمّة المؤبَّدة إلاّ بشرطين:
أحدهما: أن يلتزموا إعطاء الجزية في كلّ حول.
والثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قَبول ما يُحكَم به عليهم مِن أداء
حقّ، أو تَرْك محُرّم، لقول الله -تعالى-: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2).
وقول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بريدة:
"فادْعُهم إلى أداء الجزية، فإنْ أجابوك فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهم".
وفيه (10/ 573): "ومَن سواهم، فالإسلام أو القتل".
يعني مَن سوى اليهود والنصارى والمجوس؛ لا تُقبَل منهم الجزية، ولا يُقرّون
بها، ولا يُقبَل منهم إلاَّ الإسلام، فإنْ لم يسلموا قُتلوا ... (3).
وقال -رحمه الله-: "ولنا، قَوْل الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ
__________
(1) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 446) بتصرّف.
(2) التوبة: 29.
(3) انظر -إن شئت- "المصدر المذكور" لمعرفة أقوال العلماء؛ مع شيء من
التفصيل.
(7/178)
وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) وقول النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمرتُ أن أقاتِل النّاس؛ حتى يقولوا لا
إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلاَّ بحقّها".
ثمّ بين ما خُصِّص مِن ذلك بالكتاب والسنة (2).
أقول: خُصّص أهل الكتاب بالآية كما ذكَر المصنّف -رحمه الله-، والمجوس، بما
يأتي:
عن بَجَالة قال: "كُنت كاتباً لجزء بن معاوية عمّ الأحنف، فأتانا كتابُ عمر
ابن الخطاب قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي مَحْرَم مِن المجوس، ولم يكن
عمر أخذَ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذَها مِن مجوس هجَر" (3).
وعن المِسور بن مخرَمة أنّه أخبَرَه أنّ عمرَو بن عوف الأنصاري -وهو حليفٌ
لبني عامر بن لؤي، وكان شهِدَ بدراً- أخبره أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "بعثَ أبا عُبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي
بجزيتها، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صالحَ
أهلَ البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي" (4).
قال الحافظ -رحمه الله- في شرح قوله (بعثَ أبا عبيدة بن الجرّاح إلى
البحرين): " ... وكان أغلب أهلها إذ ذاك المجوس، ففيه تقويةٌ للحديث الذي
__________
(1) التوبة: 5.
(2) وقال -رحمه الله-: [وخصّ] المجوس بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "سُنُّوا بهم سُنّة أهل الكتاب" وقد ضعَّفه شيخنا -رحمه الله-
في "الإرواء" (1248) فانظر تفصيل تخريجه فيه -إن شئت-.
(3) أخرجه البخاري: 3156، 3157.
(4) أخرجه البخاري: 3158، ومسلم: 2961.
(7/179)
قبله، ومِن ثمّ ترجم عليه النسائي (بابُ
أخذ الجزية مِن المجوس) ".
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الجزية والموادعة، مع أهل الذّمة
والحرب) وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (1)}
(2).
وما جاء في أخذ الجزية مِن اليهود والنّصارى والمجوس والعجم (3).
ثمّ ذكَر -رحمه الله- ما تقدّم عن بجَالة.
فائدة: وجاء في "المغني" (10/ 574): "وإذا عقَدَ الذّمة لكفارٍ زعموا أنهم
من أهل الكتاب؛ ثمّ تبيّن أنهم عَبَدَة الأوثان؛ فالعقد باطلٌ مِن أصْلِه،
وإنْ شكَكْنا فيهم، لم ينتقض عهدُهم بالشك؛ لأن الأصل صحته، فإنْ أقرّ
بعضهم بذلك دون بعض، قُبل من المقرّ في نفسه، فانتقض عهْدُه، وبقي في حقّ
مَن لم يُقرَّ بحاله".
موجب هذا العقد:
*وإذا تمّ عقْد الذمّة، ترتَّبَ عليه حُرمة قتالهم، والحِفاظ على أموالهم،
وصيانة أعراضهم، وكفالة حرّياتهم، والكفّ عن أذاهم.
__________
(1) قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "يعني أذلاّء والمسكنة: مصدر المسكين،
(فلانٌ) اسكنُ مِن فُلان: احوجُ منه، ولم يذهب إلى السكون .. ".
(2) التوبة: 29.
(3) "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 1)، وانظر -إن شئت- ما
قاله الحافظ -رحمه الله- مُفصلاً في هذا الأمر.
(7/180)
الأحكامُ التي تجري على أهل الذِّمَّة:
وتجري أحكام الإسلام على أهل الذمّة في ناحيتين:
الناحية الأولى: المعاملات المالية، فلا يجوز لهم أن يتصرَّفوا تصرُّفاً لا
يتفق مع تعاليم الإسلام؛ كعقد الربا، وغيره مِن العقود المحرّمة.
الناحية الثانية: العقوبات المقرّرة، فيُقتصّ منهم، وتُقام الحدود عليهم
متى فعلوا ما يوجب ذلك، وقد ثبَت أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجَم يهوديين، زنيا بعد إحصانهما (1).
وإنْ تحاكموا إلينا، فلنا أن نحكم لهم بمقتضى الإسلام، أو نرفض ذلك، يقول
الله -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} (2) * (3).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "ثمّ اختلَف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل
هو ثابتٌ اليوم؟ وهل للحكّام مِن الخِيار في الحُكم والنّظَر بين أهل
الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثل الذي جعَل لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (6841)، و"صحيح مسلم" (1699)، وتقدم في كتاب
(الحدود).
(2) المائدة: 42.
(3) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (3/ 446) بحذف.
(7/181)
فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه
شيء، وللحُكّام من الخِيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله
لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثمّ ذكَر مَن قال ذلك.
ثمّ قال -رحمه الله-: وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ (1)، وعلى الحاكم إذا
احتكَم إليه أهل الذمَّة أن يحكُم بينهم بالحقّ، وليس له تْرك النظرِ
بينهم.
ثمّ ذكرَ من قال ذلك.
ثمّ قال -رحمه الله-: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول مَن قال:
إنّ حُكم هذه الآية ثابتٌ لم يُنسَخ، وأنّ للحُكَّام مِن الخِيار في الحُكم
بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وترْكِ الحكم بينهم والنظر،
مثلُ الذي جَعَله الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن
ذلك في هذه الآية" (2) انتهى.
__________
(1) وجاء في "سنن أبي داود": (باب الحُكم بين أهل الذِّمّة)، وجاء تحته
نصّان، الأول: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " {فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فنُسخت قال: {فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بما أنزل الله} " أخرجه أبو داود (3590)، "صحيح سنن أبي داود"
(3061).
والثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنهما أيضاً- قال: "لما نزَلت هذه الآية
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، {وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية، قال: كان بنو النضير
إذا قتَلوا من بني قريظة، أدَّوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني
النضير، أدَّوا إليهم الدّية كاملة، فسوّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم". أخرجه أبو داود (3591) وغيره،
"صحيح سنن أبي داود" (3062).
(2) انظر تتمة كلامه وتفصيله -إنْ شئت المزيد من الفائدة- في المصدر
المذكور.
(7/182)
قلت: والذي يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الأصل على بقاء الحُكم بالتخيير،
وهذا التخيير قائمٌ على تقدير المصلحة، والنسخ المذكور هو إعادة إلى أصل
الأمر؛ وهو التحاكم إلى شرع الله، ولكن إذا كان هناك تلعّبٌ وأهواء، ورجّح
الحاكم الإعراض عن طَلَبِهم؛ فله ذلك، ففي السياق القرآني ما يُبِّين هذا،
وذلك لأنهم قالوا {إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي: الجلد والتحميم {فَخُذُوهُ}
أي: اقبلوه، {وَإن لمْ تُؤتَؤهُ فَاَحذَرُوا} أي: مِن قَبوله واتّباعه.
{سَمّاَعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (1).
فلأجل تلاعبهم وأهوائهم، ولأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إلى النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتّباع الحق واجتناب الضلال، بل ما وافَق
أهواءهم، لأجل ذلك قال الله -تعالى-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئًا} (2). |