الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الجزية
تعريفها: مِن جزأت الشيء: إذا قَسمْته، ثمّ سُهّلت الهمزة، وقيل: مِن الجزاء، أي: لأنها جزاء ترْكِهم ببلاد الإسلام، أو مِن الإجزاء؛ لأنها تكفي مَن توضَع عليه في عصمة دمِه (3).
فالجزية: مبلغٌ مِن المال، يُؤخَذ من الكافر؛ لإقامته بدار الإسلام في كل
__________
(1) السُّحت: الحرام وهو الرشوة.
(2) المائدة: 42.
(3) "الفتح" (6/ 259).

(7/183)


عام (1).

مشروعيتها:
قال الله -تعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ (2) وَهُمْ صَاغِرُونَ (3)} (4).
عن بَجَالة قال: "كُنت كاتباً لجزء بن معاوية عمّ الأحنف، فأتانا كتابُ عمر ابن الخطاب قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي محَرَم مِن المجوس.
ولم يكن عمر أخذَ الجزية من المجوس، حتى شَهِد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذَها مِن مجوس هجر" (5).
عن جبير بن حية قال: "بعثَ عمرُ النّاس في أفناء الأمصار يُقاتلون المشركين [وذكر الحديث إلى أن قال:] ... فلْينفِروا إلى كسرى وقال: فندَبَنا عمرُ، واستعمل علينا النعمانَ بنَ مُقرِّن حتى إذا كُنّا بأرض العدوّ وخرَج علينا عاملُ كسرى في أربعينَ ألفاً، فقام تَرجُمانٌ فقال: ليكلّمْني رجلٌ منكم.
فقال المغيرة: سل عمّا شئتَ، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناسٌ من العرب، كنّا في شقاءٍ شديدٍ، وبلاءٍ شديدٍ، نمصُّ الجلْدَ والنوى من الجوع، ونلْبسُ الوَبَرَ
__________
(1) "المغني" (10/ 567) بتصرف.
(2) عن قهر وغَلَبة.
(3) أي: ذليلون حقيرون مُهانون.
(4) التوبة: 29.
(5) أخرجه البخاري: 3156، 3157، وتقدّم في الباب السابق.

(7/184)


والشَّعَرَ، ونعبد الشَّجر والحجرَ، فبينا نحن كذلك؛ إذ بعَث ربُّ السماوات وربُّ الأرَضِينَ -تعالى ذكره وجَلّت عَظَمَتُه- إلينا نبيّاً من أنفسِنا، نعرفُ أباه وأمّهُ، فأمرَنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتِلَكُمْ حتّى تعبُدوا اللهَ وحدهُ، أو تؤدّوا الجزيَة" (1).

ممن تُقبَل؟
تُقبل الجزية من كل المِلَل والنّحل والأمم، عربهم وعجمهم.
قال الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب الجزية والموادعة ... وما جاء في أخْذِ الجزية مِن اليهود والنصارى والمجوس والعَجَم).
ثمّ ذكَر -رحمه الله- حديث بجَالة المتقدّم، وفيه أنّ رسول الله أخذ الجزية مِن مجوس هجر (2).
وقال العلاّمة ابن القَيِّم -رحمه الله- في حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجزية: "قد تقدَّم أنَّ أول ما بَعَث -الله عزّ وجلّ- به نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعوة إليه بغير قتالٍ ولا جزية، فأقام على ذلك بضع عشرة سنةً بمكّة ثمّ أذِنَ له في القتال؛ لمّا هاجر مِن غير فرضٍ له، ثمّ أمَرَه بقتال مَن قاتلَه، والكفِّ عمّن لم يقاتله، ثمّ لمّا نزلت (براءة) سنة ثمان، أمَرَه بقتال جميع مَن لم يُسلِم من العرب؛ مَن قاتله أو كفَّ عن قتاله إلاَّ مَن عاهدَه ولم يَنْقُصْه مِن عهده شيئاً فأمَرَه أن يفيَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزيةِ مِن المشركين، وحارَب اليهود مراراً، ولم يُؤمَر بأخذ الجزية منهم.
__________
(1) أخرجه البخاري: 3159، وتقدّم.
(2) انظر "صحيح البخاري" (كتاب الجزية والموادعة) (باب - 1)، وتقدّم.

(7/185)


ثمّ أَمَره بقتال أهل الكتاب كلِّهم حتى يُسلِموا، أو يُعطوا الجزية، فامتَثَل أمْر ربِّه فقاتَلهم، فأسلَم بعضُهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته ....
ولم يأخذها مِن مشركي العرب، فقال أحمد والشافعي: لا تُؤخَذ إلاَّ مِن الطوائف الثلاث التي أخذَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس (1).
ومَن عداهم فلا يُقبل مِنهم إلاّ الإسلام أو القتل.
وقالت طائفة: في الأمم كلِّها إذا بذَلُوا الجزية؛ قُبلت منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسُّنَّة، ومَن عَداهم مُلحقٌ بهم؛ لأن المجوس أهلُ شركٍ لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخْذِهِا من جميع المشركين؛ وإنمّا لم يأخذها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عَبَدة الأوثانِ مِن العرب؛ لأنّهم أسلموا كلُّهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرَغ مِن قتال العرب، واستوثَقَت كُلّها له بالإسلام، ولهذا لم يأخُذْها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنّها لم تكن نزَلَت بعد، فلما نزَلت، أخَذَها مِن نصارى العرب، ومِن المجوس، ولو بقي حينئذ أحدٌ مِن عَبَدَة الأوثان بذَلهَا؛ لقَبِلها منه، كما قَبِلها من عَبَدَة الصُّلبان والنِّيران، ولا فرق ولا تأثير، لتغليظ كُفرِ بعض الطوائف على بعض.
__________
(1) وجاء في "الروضة الندية" (2/ 763): "وقال الشافعي: إن الجزية تُقبَل مِن أهل الكتاب؛ عرباً كانوا أو عَجَماً، ويُلحَق بهم المجوس في ذلك".
وقال -رحمه الله- كذلك (2/ 764): "الجزية على الأديان، لا على الأنساب، فتُؤخَذ مِن أهل الكتاب، عرباً كانوا أو عَجَماً، ولا تؤخذ مِن أهل الأوثان، والمجوس لهم شبهة كتاب".

(7/186)


ثمّ إن كُفر عَبَدَة الأوثان ليس أغلظَ مِن كُفر المجوس، وأيُّ فرقٍ بين عَبَدة الأوثانِ والنّيران، بل كُفرُ المجوس أغلظ، وعُبّادُ الأوثان كانوا يُقرّون بتوحيد الربوبية، وأنّه لا خالق إلاَّ الله، وأنّهم إنّما يعبدُون اَلهتم لتُقرِّبهم إلى الله -سبحانه وتعالى- ولم يكونوا يُقِرّون بصانِعَيْن للعالم، أحدهما: خالقٌ للخير، والآخر للشر - كما تقوله المجوس- ولم يكونوا يستحلّون نكاح الأمّهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا مِن دين إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه-.
وأمّا المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحدٍ مِن الأنبياء - لا في عقائدهم ولا في شرائِعهم-، والأثر الذي فيه أنّه كان لهم كتابٌ فرُفِع، ورُفِعت شريعتهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصحُّ البتة، ولو صحّ لم يكونوا بذلك مِن أهل الكتاب، فإنّ كتابهم رُفِع، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شيء منها.
ومعلومٌ أنّ العرب كانوا على دين إبراهيم -عليه السلام- وكان له صُحُف وشريعة، وليس تغيير عَبَدَة الأوثان لدين إبراهيم -عليه السلام- وشريعته بأعظم مِن تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم -لو صحّ-، فإنّه لا يُعرف عنهم التّمسك بشيء مِن شرائع الأنبياء -عليهم الصلوات والسلام- بخِلاف العرب، فكيف يُجعَل المجوس الذين دينهُم أقبحُ الأديان، أحسنَ حالاً مِن مشركي العرب، وهذا القول أصحُّ في الدليل كما ترى (1).
__________
(1) "زاد المعاد" (5/ 90) بحذف. قلت: وحديث أبي داود عن أنس -رضي الله عنه- "أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث خالداً إلى [أكيدردومة]، فأخذوه فأتَوا بِه، فحقَن دمه، وصالحَه على الجزية". ضعيف لإرساله انظر التعليقات الرضية (3/ 488).

(7/187)


مقدار الجزية
عن معاذ -رضي الله عنه- "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا وجَّهَه إلى اليمن؛ أمَرَه أن يأخذ مِن كُلّ حالمٍ (1) ديناراً أو عدله من المعافر (2) " (3).
ثمّ زاد فيها عمر -رضي الله عنه- فجَعَلَها على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهماً، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام" (4).
وعن ابن أبي نُجيح قال: "قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك مِن قبَل اليَسار" (5).
فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِم ضعف أهل اليمن، وعمر -رضي الله عنه- عَلِم غنى أهل الشام وقوّتهم (6).
وقال شيخنا -رحمه الله في "التعليقات الرضية" (3/ 492) بعد ذكر بعض أقوال الأئمة-: "لعلّ الأقربَ إلى الصواب، أن يُقال أن لا حدّ في الجزية يُرجَع إليه، فيقدّرها ولي الأمر بحسب المصلحة، وبهذا قال ابن تيمية -رحمه الله- ... ". انتهى.
__________
(1) يعني محتلماً.
(2) ثياب معروفة باليمن.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1394)، الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (509) وغيرهما وانظر "الإرواء" (3/ 269) تحت الحديث (795).
(4) أخرجه مالك وإسناده صحيح وانظر "الإرواء" (1261).
(5) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجزية والموادعة مع أهل الحرب) (باب - 1) ووصله عبد الرزّاق. وانظر "فتح الباري" (6/ 259)، والإرواء (1260)
(6) انظر "زاد المعاد" (5/ 93).

(7/188)


وجاء في "المغني" (10/ 575): قال الأثرم: "قيل لأبي عبد الله، فيُزاد اليوم فيه ويُنقص؟ يعني -الجزية- قال: نعم، يُزاد فيه ويُنقص على قَدْر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام".

ما يجوز للإمام اشتراطه
ويجوز للإمام أن يَشْترِط على أهل الجزية، ضيافة من يمرّ بهم من المسلمين، وإصلاح القناطر -وهي الجسور المتقوّسة المبنية فوق الأنهار لتسهيل العبور-، وأن يدفعوا دِيَة مَن يُقتَل مِن المسلمين بأرضهم.
فعن أسلم مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- " أنّ عمر بن الخطاب ضرَبَ الجزية على أهل الذّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهماً، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام" (1).
وقال ابن قدامة في "المغني" (10/ 602): "حديث عمر -رضي الله عنه- لا شكَّ في صحتة وشهرته بين الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، لم يُنكِره مُنكر، ولا خلاف فيه، وعَمِل به مَن بعده من الخلفاء -رضي الله عنهم- فصار إجماعاً لا يجوز الخطأ عليه".

الزيادة من غير إجهاد ولا مشقّة
ولأثر عمر -رضي الله عنه- السابق طريق أخرى يرويه شعبة، قال: أخبرني
__________
(1) أخرجه مالك ومن طريقه، أخرجه أبو عبيد (100)، وأخرجه البيهقي من طريق آخر عن نافع به أتمّ منه. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده صحيح غاية". وتقدّم.

(7/189)


الحَكَم قال: "سمعت عمرو بن ميمون، يُحدّث عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فذكره، قال: ثمّ أتاه عثمان بن حنيف، فجعَل يُكلّمه مِن وراء الفسطاط، يقول: والله لئن وضعْتَ على كل جريبٍ (1) من أرضٍ درهماً وقفيزاً (2) مِنْ طعام، وزدت على كل رأسٍ درهمين؛ لا يشق ذلك عليهم ولا يجهدهم، قال: نعم، فكان ثمانية وأربعين، فجعلها خمسين" (3).
وعن الأحنف بن قيس: "أنّ عمر شرَطَ على أهل الذِّمّة ضيافة يوم وليلة، وأن يُصلحوا القناطر، وإنْ قُتِل رجل من المسلمين بأرضهم؛ فعليهم ديَته" (4).
وقد روى أسلَم عن عمر أنّه ضَرَبَ عليهم ضيافة ثلاثة أيام، كما تقدّم في الأثر قبل هذا، وقال البيهقي:
"حدث أسلم أشبه، لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعَل الضيافة ثلاثاً، وقد يجوز أن
__________
(1) جاء في كتاب "المكاييل والأوزان الإسلامية"، ترجمة الدكتور كامل العسلي (ص 96): كان الجريب، [مقياساً] للأرض، يساوي شرعاً في أوائل العصور الوسطى، وفي أوجها 100 قصبة مربعة، وبذلك يكون الجريب -على وجه الدقة 1592 متراً مربعاً (القصبة تساوي 399 سم).
(2) جاء في المصدر السابق (ص 66) القفيز: أقدم رواية مؤكدة عن هذا المكيال تتعلق بقفيز الحجاج، وبمقتضاها كان القفيز يساوي صاع النبيّ، أي: 4.2125 لتر. في القرن العاشر كان في العراق قفيزان: القفيز الكبير، ويستعمل بالتحديد في بغداد والكوفة ويتسع لـ 8 مكاكيك، كل مكوك 3 كيلجات كل كيلجة 600 درهم، أي حوالي 45 كغم (قمح).
(3) أخرجه أبو عبيد والبيهقي والسياق له. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده صحيح أيضاً على شرطهما".
(4) أخرجه البيهقي وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1262).

(7/190)


يكون جَعَلَها على قومٍ ثلاثاً، وعلى قومٍ يوماً وليلة، ولم يجعل على آخرين ضيافةً؛ كما يختلف صلحه لهم، فلا يَرُدّ بعضُ الحديث بعضاً".
وقال شيخنا -رحمه الله -: "هذا هو الوجه وقد توبع الأحنف على اليوم والليلة، فقال الشافعي: أنبأ سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أنّ عمر بن الخطاب فرَض على أهل السواد ضيافة يوم وليلة، فمن حَبَسَه مرض أو مطر أنفَق مِن ماله" (1).

تحريم أخْذ ما يَشُقُّ على أهل الجزية
عن صفوان بن سليم، عن عِدّةٍ من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم دِنْيةً (2) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا مَن ظلم مُعاهَداً (3)، أو انتقصَه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخَذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة (4) " (5).
__________
(1) انظر "الإرواء" (5/ 102).
(2) أي: لاصقي النَّسَب. "عون المعبود" (8/ 211).
(3) مضى ضبطها من النّهاية "بالفتح" وجاء في "عون المعبود" (8/ 211) معاهِداً -بكسر الهاء-: أي ذمّياً أو مستأنفاً". انتهى.
قلت: ويجوز الفتح والكسر هنا، إذ لا معارضة من حيث المعنى في السياق؛ اسماً للفاعل أو المفعول.
(4) حجيجه أي: خَصْمُه، قال في "النّهاية": "فأنا حجيجه: أي محُاجِجه ومُغالبُه بإظهار الحُجّة عليه، والحُجّة الدليل والبرهان، يوم القيامة".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبو داود" (2626) وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (471).

(7/191)


إعفاء من لم يقدر على أدائها
ويعفى من الدفع مَن كان عاجزاً عن ذلك لقول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِفُ الله نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} (1)
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم "مَن ظلم معاهداً ... أو كلّفه فوق طاقته، فأنا حجيجه يوم القيامة".
وذكر بعض العلماء أنّ الجزية لا تؤخذ مِن الأعمى والزَّمِن، والشيخ الفاني (2).
قلت: قد تكون هذه الأصناف غنيّة فلا تسقط عنها، وإنما تسقط عند العجز عن الدفع، فلا يلزم مِن العمى مثلاً الفقر؛ كما لا يلزم من الإبصار الغنى.

لا تُؤخَذ الجزية مِن النساء والصبيان
عن نافع عن أسلَم أنّ عمر -رضي الله عنه- كتَب إلى أمراء الأجناد: "أن يُقاتِلوا في سبيل الله، ولا يُقاتِلوا إلاّ مَنْ قاتَلَهم، ولا يقتُلوا النساء والصبيان، ولا يقتلوا إلاَّ من جَرَت عليه الموسى، وكتَب إلى أمراء الأجناد: أن يضْربوا الجزية، ولا يَضْرِبوها على النّساء والصبيان، ولا يَضْرِبوها إلاّ على مَن جَرَت عليه الموسى" (3).
ثمّ قال أبو عبيد: "وهذا الحديث هو الأصل فيمن تَجِب عليه الجزية، ومَن
__________
(1) البقرة: 286.
(2) انظر "المغني" (10/ 586).
(3) أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال، وكذا البيهقي من طريقين آخرين عن نافع به، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1255): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".

(7/192)


لا تَجِب عليه، ألا تراه إنما جَعَلَها على الذكور المدرِكين، دون الإناث والأطفال، وذلك أنّ الحُكم كان عليهم القتل لو لم يؤدّوها، وأسقطَها عمن لا يستحقّ القتل، وهم الذّرية".
قال: وذكَر حديث معاذ الذي قبله: "وقد جاء في كتاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى معاذ باليمن أنّ على كلّ حالمٍ ديناراً، ما فيه تقوية لقول عمر، ألا ترى أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ الحالم دون المرأة والصبي، إلاّ أنّ في بعض ما ذكَرْنا مِن كُتُبِه: "الحالم والحالمة"، فترى -والله أعلم- أنّ المحفوظ مِن ذلك هو الحديث الذي لا ذِكْر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون" (1).

لا تؤخذ الجزية ممن أسلم ولو كان إسلامه فراراً من دفع الجزية
عن عبيد الله بنِ رواحة قال: "كنت مع مسروق بالسلسلة، فحدّثني أنّ رجلاً مِن الشعوب أسلَم، فكانت تُؤخَذ منه الجزية، فأتى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين إني أسلمْتُ والجزية تُؤخَذ منّي.
قال: لعلك أسلمت مُتعوِّذاً؟ فقال: أمَا في الإسلام ما يُعيذُني؟ قال: بلى، قال: فكتَب عمر: أن لا تُؤخَذ منه الجزية" (2).
__________
(1) انظر "الإرواء" (5/ 96).
(2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" وعنه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1259) وقال: "ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم، غير عبيد الله بن رواحة أورده ابن حبان في "ثقات التابعين" (1/ 119) فقال: "يروي عن أنس عداده في المصريين (كذا ولعله: البصريين) روى عنه إسماعيل بن أبي خالد وحماد بن سلمة". قلت [أي شيخنا - رحمه الله-]: "وروى عنه أيضاً أبان بن خالد كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم فالإسناد عندي حسن أو قريب منه -والله أعلم-".

(7/193)


قال أبو عبيد: الشعوب: الأعاجم.

خَتْم رقابِ أهل الجزية في أعناقهم
عن أسلَم قال: "كتب عُمرُ بنُ الخطاب إلى أمراء الأجناد؛ أن اختِموا رقابَ أهلِ الجزية في أعناقهم" (1).

بمَ يُنقض العهد
*ويُنقَض عهد الذّمّة بالامتناع عن الجزية، أو إباء التزام حُكْم الإسلام؛ إذا
حَكَم حاكمٌ به، أو تعدّى على مُسلم بقَتْلٍ، أو بفتنتهِ عن دينه، أو زَنَى بمسلمة، أو أصابها بزواج، أو عَمِلَ عَمَل قوم لوط، أو قطَع طريقاً، أو تجسَّس، أو آوى الجاسوس، أو ذكَر الله أو رسوله أو كتابه أو دينه بسوء، فإنّ هذا ضررٌ يعُمّ المسلمين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأخلاقهم ودينهم* (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ أعمى كانت له أمّ ولَدٍ تشتم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلمّا كانت ذات ليلة جعَلت تقع في النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المِغْوَل (3)، فوضعَه في بطنها، واتكأ عليها فَقَتلها، فوقَع بين رجليها طِفْل، فلطخَت ما هناك بالدم.
فلمّا أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمَع النّاس، فقال: أُنشِد الله رجُلاً
__________
(1) أخرجه البيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله-: إسناده صحيح. انظر "الإرواء" (5/ 104).
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 454).
(3) المِغوَل: شبه سيفٍ قصير؛ يَشْتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل غير ذلك وانظر "النّهاية".

(7/194)


فَعَل ما فعَل لي عليه حقّ، إلاَّ قام، فقام الأعمى يتخطّى الناس، وهو يتزلزل، حتى قعَد بين يديِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشْتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مِثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة، جَعَلَت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المِغْوَل فوضعتُه في بطنها، واتكأتُ عليها حتى قتلتُها، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا اشهدوا أنّ دَمَها هَدَر" (1).
ورُفع إلى عمر -رضي الله عنه- رجلٌ أراد استكراهَ امرأةٍ مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، فأَمَر به فصُلب في بيت المقدس.
فعن سويد بن غفلة قال: "كنّا مع عمرَ بن الخطاب -وهو أمير المؤمنين
بالشام-، فأتاه نبطي مضروب مُشجَّج مستعدى، فغضب غضباً شديداً، فقال
لصهيب: انظر من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب، فإذا هو عوف بن مالك
الأشجعي، فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضِب غضباً شديداً فلو أتيت معاذ بن
جبل، فمشى معك إلى أمير المؤمنين فإني أخاف عليك بادرته، فجاء معه معاذ،
فلمّا انصرف عمر من الصلاة قال: أين صهيب؟ فقال: أنا هذا يا أمير المؤمنين، قال: أجئت بالرجل الذي ضرَبَه؟ قال: نعم، فقام إليه معاذ بن جبل فقال: يا أمير المؤمنين إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تعجَل عليه، فقال له عمر: مالك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأةٍ مسلمةٍ، فنخس الحمار ليصرعَها،
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3665)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3794)، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 92) تحت الحديث (1251) وتقدّم في الحدود.

(7/195)


فلم تُصرَع، ثمّ دفعها فخرّت عن الحمار، ثمّ تغشاها، فَفَعلْتُ ما ترى.
قال: ائتني بالمرأة لنصدقك، فأتى عوف بالمرأة، فذكر الذي قال له عمر -رضي الله عنه- قال أبوها وزوجها: ما أردْتَ بصاحبتنا؟ فضَحْتَها! فقالت المرأة: والله لأذهبنّ معه إلى أمير المؤمنين، فلمّا أجمعَت على ذلك، قال أبوها وزوجها: نحن نُبلّغ عنك أمير المؤمنين، فأَتَيا فصدَّقا عوف بن مالك، بما قال.
قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فَأَمَر به فصُلب ثمّ قال: يا أيها الناس فُوْا (1) بذمّة محمّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن فعَل منهم هذا فلا ذمّة له، قال سويد بن غفلة: وإنه لأوّل مصلوب رأيته" (2).
وعن زياد بن عثمانَ أنّ رجُلاً من النصارى استكرَه امرأةً مسلمةً على نفسها، فرُفع إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، فقال: "ما على هذا صالحناكم، فضَرَب عُنقه" (3).
...
__________
(1) أي: أوفوا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" تحت الحديث (1278).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا -رحمه الله-: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد هذا؛ أورده ابن أبي حاتم (1/ 2/539) وقال: "روى عن عباد بنِ زياد عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسل، روى عنه حجاج بن حجاج" وذكَره ابن حبّان في "الثقات". وانظر "الإرواء" (5/ 120). قلت: وليست الرواية هنا عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يُحكم عليها بالإرسال.

(7/196)