الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الغنائم (1)
تعريفها:
الغنائم، جمع غنيمة، وهي في اللغة، ما يناله الإنسان بسعي، وأَصْل الغُنم: الرِّبح والفضل، يقول الشاعر:
وقد طوَّفتُ في الآفاق حتى ... رَضِيتُ مِن الغنيمة بالإياب
وفي الشّرع؛ هي المال المأخوذ مِن أعداء الإسلام؛ عن طريق الحرب والقتال.
وتشمل الأنواع الآتية:
1 - الأموال المنقولة. 2 - الأسرى. 3 - الأرض.
وتُسمّى الأنفال -جمع نَفَل- لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الإسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض؛ أخذَت الغنيمة ووزَّعَتْها على المحاربين، وجَعَلَت منها نصيباً كبيراً للرئيس: أشار إليه أحد الشعراء فقال:
لك المرباع (2) منها والصفايا (3) ... وحُكْمك والنشيطة (4) والفضول (5)
__________
(1) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 458) بتصرفٍ وزيادةٍ وإضافاتٍ مِن أقوال العلماء.
(2) المرباع: ربع الغنيمة.
(3) الصفايا: ما يصطفيه الإمام عن عُرض الغنيمة من شيء قبل أن يقسم؛ مِن عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في (الفيء).
(4) النشيطة: ما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة.
(5) الفضول: ما يَفْضُل بعد القسمة.

(7/197)


إحلالها لهذه الأمّة دون غيرها
وقد أحلَّ الله الغنائم لهذه الأمَّة: فيُرشِد الله -سبحانه- إلى حِلِّ أخْذِ هذه الأموال بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
ويشير الحديث الصحيح إلى أنّ هذا خاصٌ بالأمّة المسلمة، فإنّ الأمم السابقة لم يكن يحلُّ لها شيءٌ من ذلك.
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُن أَحَدٌ قَبْلي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُوراً، فَأيمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلي، وَأعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النّاس عامّة" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحلّ الله لنا الغنائم، رأى ضعْفَنا وعَجْزنا فأحلّها لنا" (3).

وجوب المجيء بالغنائم إذا نادى المُنادي في الناس بذلك
عن عبد الله بن عمرو قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أصاب غنيمة، أمَرَ بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمِّسُه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزِمامٍ مِن شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة، فقال:
__________
(1) الأنفال: 69.
(2) أخرجه البخاري: 335، ومسلم: 521.
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري: 3124، ومسلم: 1747.

(7/198)


أسمعتَ بلالاً يُنادي ثلاثاً؟ قال: نعم، قال: فما مَنَعك أن تجيء به؟ فاعتذَرَ فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبَلَه عنك" (1).

كيفية تقسيم الغنائم
لقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- كيفية تقسيم الغنائم، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2).
قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وهذا تعليمٌ من الله -عزّ وجلّ- المؤمنين قَسْم غنائمهم إذا غَنِموها".
واختلفَ أهل التأويل في قوله تعالى: {فأنَّ لله خُمُسَهُ} والراجح أنها مفتاحُ كلام.
وعن قيس بن مسلم قال: "سألْتُ الحسن بن محمّد عن قوله -عزّ وجلّ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: هذا مفاتح كلام الله: الدنيا والآخرة لله ... " (3).
فالآية الكريمة نصَّت على الخُمس، وأنه يُصرَف على المصارف التي ذكَرها الله -سبحانه وتعالى-، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى،
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2359).
(2) الأنفال: 41.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3863)، وقال شيخنا -رحمه الله-: "صحيح الإسناد مرسل".

(7/199)


والمساكين، وابن السبيل، فيُنفق سهم الله ورسوله على الفقراء، والسلاح والخيل وغير ذلك مِن المصالح العامّة.
عن عمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعيرٍ (1) مِن المغنم، فلمّا سلَّم، أخذ وَبَرَة مِن جنب البعير، ثمّ قال: ولا يَحِلُّ لي مِن غنائمكم مثل هذا إلاّ الخُمس، والخُمس مردودٌ فيكم" (2).
وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين إلى جنب بعيرٍ مِن المقاسم، ثمّ تناوَل شيئاً مِن البعير، فأخَذ منه قَرَدَةً -يعني وَبَرَة (3) - فجَعل بين إصبعيه، ثمّ قال: يا أيها الناس إنّ هذا مِن غنائمكم، أدّوا الخَيْط والمِخْيَط، فما فوق ذلك، فما دون ذلك، فإنّ الغُلول عارٌ على أهله يوم القيامة وشَنارٌ (4) ونار" (5).
وفي الحديث: "وأيّما قرية عَصَت الله ورسولَه، فإنّ خمسَها لله ورسوله، ثمّ هي لكم" (6).
قال في "عون المعبود" (7/ 309): "أي مصروفٌ في مصالحكم مِن
__________
(1) أي: جَعَلَهُ سُترة.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2393)، والبيهقي والحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1240).
(3) أي: شعرة.
(4) الشنّار: العيب والعار، وقيل: هو العيب الذي فيه عار. "النّهاية".
(5) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "الصحيحة" (985)، و"الإرواء" (5/ 74).
(6) أخرجه مسلم: 1756.

(7/200)


السلاح والخيل وغير ذلك، فيه أنّ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وأنّها لم تكن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الشوكانّي: لا يَأْخُذ الإمامُ من الغنيمة إلاَّ الخُمس، ويقسم الباقي منها بين الغانمين، والخُمس الذي يَأخذه أيضاً ليس هو له وحده، بل يجب عليه أن يرُدّه على المسلمين على حسب ما فصَّله الله -تعالى- في كتابه بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ". انتهى.
أمّا نفقات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد كانت ممّا أفاء الله -سبحانه وتعالى- عليه من أموال بني النضير كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في باب (الفيء).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت المغانم تُجزّأ خمسة أجزاء، ثمّ يُسْهَم عليها، فما كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو له يَتَخير" (1).
وعن رجل مِن بلقين قال: "أتيت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بوادي القرى فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ فقال: لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم، قلت: فهل أحد أحقّ بشيء من المغنم من أحد؟ قال: لا؛ حتى السهم يأخذه أحدكم من حينه؛ فليس بأحقَّ به مِن أخيه" (2).
__________
(1) أخرجه الطحاوي وأحمد، وانظر "الإرواء" تحت الحديث (1225).
(2) أخرجه الطحاوي وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 60) تحت الحديث (1225).

(7/201)


وأمّا الأربعة الأخماس الباقية، فتُعطى للجيش، ويختصُّ بها الذكور، الأحرار، البالغون، العقلاء.
جاء في "الروضة الندية" (2/ 732): "وما غَنِمَه الجيش كان لهم أربعةُ أخماسهِ، وخُمُسه يَصرفهُ الإمام في مصارفهِ لقوله -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تُخَمّس، فالخُمُس للأصناف التي ذُكِرت في القرآن، وأربعة أخماسها للغانمين".
وسَهْم ذوي القُربى: أي قرابة رسولِ الله، وهم بنو هاشم، وحُلفاؤُهم مِن بني المطلب (1) ممّن آزرَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وناصَرَه، دون مَن خذَلَه منهم.
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "مَشَيْتُ أنا وَعثْمانُ بنُ عفانَ إلى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَعْطَيْتَ بَني المطَّلِبِ وتركْتنا، ونحْنُ وَهُمْ منكَ بِمنْزلةٍ وَاحدةٍ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّما بنو المطَّلبِ وبنُو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ" (2).
وفي لفظٍ: قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: "مَشَيْتُ أنا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي المطَّلبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتركْتنا وَنحْنُ بِمنْزلَةٍ واحدةٍ مِنْكَ، فقال: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَ جُبَيْرٌ: وَلم يَقْسِمْ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا" (3).
__________
(1) انظر ترجيح ابن جرير الطبري في "تفسيره"، وأدلته في ذلك.
(2) أخرجه البخاري: 3140.
(3) أخرجه البخاري: 4229.

(7/202)


وفي لفظٍ: قال جبير بن مطعم: "لما كان يوم خيبر قَسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، فأتيتُ أنا وعُثمان بن عفّان، فقلْنا: يا رسول الله، أمّا بنو هاشم، فلا نُنكر فضلَهم؛ لمكانِك الذي وضعكَ اللهُ بهِ منْهم، فما بالُ إخواننا من بَني المُطلب أعطيتَهم وتركْتَنا، وإنّما نحنُ وَهُمْ بمنزلةٍ واحدة؟! فقال: إنّهم لمْ يفارِقوني في جاهليةٍ ولا إسْلام، وإنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك أصابعه" (1).
وقد ثبت عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان سيُعطي منه عمّه العبّاس -وهو غنيّ-، ويُعطي عمّته صفيّة -رضي الله عنهما- (2).
والعبّاس -رضي الله عنه- كان موسراً في الجاهلية والإسلام؛ كما جزَم بذلك غيرُ واحدٍ من الحُفّاظ؛ منهم أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله- (3).

يأخذ الفارس مِن الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل (4) سهماً
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعَل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً" (5)، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور (6).
وفي لفظٍ: عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ عَنْهما- قال: "قَسَمَ رَسُولُ الله
__________
(1) انظر "الإرواء" (1242).
(2) انظر "الإرواء" (1243).
(3) انظر "الإرواء" (5/ 79).
(4) وهو الماشي على رجليه.
(5) أخرجه البخاري: 2863، ومسلم: 1762.
(6) انظر "الروضة النّديّة" (2/ 735).

(7/203)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خيْبرَ لِلْفرَس سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِل سَهْماً، قَالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ" (1).
وقال مالك: "يُسهم للخيل والبراذين (2) منها لقوله: {وَالخيلَ وَالبِغَالَ وَاَلحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا (3)} (4) ولا يُسهَم لأكثر من فرس" (5).
قال الإمام النّووي -رحمه الله- (12/ 83): "واختلف العلماء في سهم الفارس والراجل مِن الغنيمة؛ فقال الجمهور: يكون للراجل سهمٌ واحد وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان بسبب فرسه، وسهم بسبب نفسه.
ممّن قال بهذا: ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز
__________
(1) أخرجه البخاري: 4228، ومسلم: 1762 بلفظ: "قَسَمَ فِي النَّفَلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْماً". والمراد بالنفل هنا: الغنيمة.
(2) البراذين: جمع بِرذَون، والمراد: الجفاة الخِلْقة من الخيل، وأكثر ما تُجلَب مِن بلاد الروم، ولها جَلَدٌ على السير في الشعاب والجبال والوعر، بخلاف الخيل العربية. "الفتح".
(3) جاء في "الفتح" (6/ 67): "قال ابن بطال: وجه الاحتجاج بالآية؛ أنّ الله -تعالى- امتنّ بركوب الخيل وقد أسهم لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. واسم الخيل يقع على البِرذَون والهجين؛ بخلاف البغال والحمير، وكأنّ الآية استوعَبت ما يُركَب من هذا الجنس؛ لما يقتضيه الامتنان، فلمّا لم ينصّ على البِرذَون والهجين فيها، دلّ على دخولها في الخيل. قلت: وإنما ذكَر الهجين لأن مالكاً ذكَر هذا الكلام في الموطأ وفيه "والهجين" والمراد بالهجين: ما يكون أحد أبويه عربيا والآخر غير عربي، وقيل: الهجين: الذي أبوه فقط عربي وأمّا الذي أمّه فقط عربية، فيُسمّى المقرف، وعن أحمد: الهجين: البِرذَون".
(4) النحل: 8.
(5) انظر "صحيح البخاري" تحت الحديث السابق (2863).

(7/204)


ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط، سهم لها وسهم له، قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد إلاَّ ما روي عن علي وأبي موسى.
وحُجّة الجمهور هذا الحديث، وهو صريح على رواية مَن روى "للفرس سهمين، وللرجل سهماً" بغير ألف في (الرجل) وهي رواية الأكثرين، ومن روى (وللراجل) روايتهُ محتَملة، فيتعيّنَ حمْلها على موافقة الأولى جمعاً بين الروايتين، قال أصحابنا وغيرهم: ويرفَع هذا الاحتمال ما وَرَدَ مُفسَّراً في غير هذه الرواية، في حديث ابن عمر هذا؛ من رواية أبي معاوية وعبد الله بن نمير وأبي أسامة وغيرهم بإسنادهم عنه "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه"، ومِثْلُه من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري -رضي الله عنهم-. والله أعلم".
أقول: المراد مِن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "جعَل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً" أي غير سهمي الفرس، فيصير للفارس ثلاثة أسهم كما قال الحافظ رحمه الله-: "وسيأتي في غزوة خيبر أنّ نافعاً فسّره كذلك، ولفظه: "إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم" (1).
وعن أبي عمرة عن أبيه قال: "أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعةَ نَفَر، ومعنا فرس،
__________
(1) أخرجه البخاري: 4228.

(7/205)


فأعطى كلّ إنسان منّا سهماً، وأعطى للفرس سهمين" (1).
قال أبو داود -رحمه الله-: وعن أبي عمرة -بمعناه- إلاَّ أنّه قال: "ثلاثة نفر: فزاد: فكان للفارس ثلاثة أسهم" (2).

يستوي في الغنائم مِن أفراد الجيش القوي والضعيف ومَن قاتَل ومن لم يُقاتِل
وَيستوي فيما تقدم مِن تقسيم الغنائم؛ القوي والضعيف، ومَن قاتَل ومن لم يُقاتل مِن أفراد الجيش.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر: "مَن فَعَل كذا وكذا؛ فله من النفل كذا وكذا.
قال: فتقدَّم الفتيان، ولَزِم المشيخةُ الراياتِ فلم يبرحوها، فلمّا فتح الله عليهم، قال المشيخة: كنا ردْءاً (3) لكم، لو انهزمتم لفِئْتُم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى.
فأبى الفِتيان وقالوا: جعَلَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إلى قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (4).
يقول: فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم، زاد في رواية: "فقسَمَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسواء" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2374).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2375).
(3) الردء: العون والنصر.
(4) الأنفال: 1 - 5.
(5) أخرجه أبو داود (2737، 2739)، وهو في "صحيح سنن أبي داود"، (الأمّ) برقم =

(7/206)


وعن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد -رضي الله عنه- أنّ له فضلاً على مَن دونه، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تُنصَرون وتُرزقون إلاّ بضعفائكم" (1).
قال الحافظ -رحمه الله- "الفتح": "وعلى هذا؛ فالمراد بالفضل؛ إرادة الزيادة مِن الغنيمة، فأعلَمَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ سهام المقاتِلة سواء؛ فإنْ كان القوي يترجّح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجّح بفضل دعائه وإخلاصه".
ويستوي كذلك في تقسيم الغنائم مَن تغيَّب لعُذر، أو مَن بعَثَه الأمير لمصلحةِ الجيش.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إنما تغيّب عثمانُ عن بدر، فإنّه كانت تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت مريضة، فقال له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ لك أجرَ رجُلٍ ممن شهِد بدراً وسهمَه" (2).
وجاء في "الروضة النديّة" (2/ 736) وفي كتاب حُجّة الله البالغة: "ومَن بَعثَه الأمير لمصلحة الجيش؛ كالبريد، والطليعة، والجاسوس؛ يُسهَم له، وإن لم يَحْضُر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر".

السَّلَب للقاتل
السَّلَب: هو ما يأخذه المقاتل في الحرب مِن المقتول، ممّا يكون عليه،
__________
= (2445)، وقال شيخنا -رحمه الله- فيه: "إسناده صحيح، وصححه ابن حبّان والحاكم والذهبي -دون الزيادة-، والضياء في "المختارة"".
(1) أخرجه البخاري: 2896 وتقدم في (الاستنصار بالضعفاء).
(2) أخرجه البخاري: 3135.

(7/207)


ومعه من سلاح وثياب ودابّة وغيرها، وهو (فَعَل) بمعنى (مفَعول) أي: مسلوب (1).
وللإمام أو القائد أن يُحفّز المجاهدين في سبيل الله، وأن يُرَغّبهم بأخذ سَلَب المقتول والتفرّد به.
عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "مَن قَتَل قتيلاً له عليه بيّنة؛ فله سَلَبُهُ" (2).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حُنين: مَن قتل قتيلاً فله سلَبُه، فقَتَل أبو طلحة يومئذٍ عشرين رجلاً، وأخَذَ أسلابهم" (3).
وعن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسَّلب للقاتل، ولم يُخمّس السَّلب" (4).
وعن سَلمةَ بن الأكوع عن أبيه قال: "أتى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينٌ من المشركين -وهو في سفر- فجلَس عند أصحابه يتحدّث، ثمّ انفَتَل، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطلبوه واقتلوه، فقَتَلَه، فنفَّله (5) سَلَبَه" (6).
__________
(1) "النّهاية" بتصرف.
(2) أخرجه البخاري: 3142، ومسلم: 1751.
(3) أخرجه أبو داود والدارمي وابن حبان وغيرهم، وانظر "الإرواء" (1221).
(4) أخرجه أبو داود (2721) وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله - في "الإرواء" (1223).
(5) قال الحافظ -رحمه الله-: "فيه الْتِفات مِن ضمير المتكلّم إلى الغَيْبة، وكان السياق يقتضي أن يقول (فنفلني) وهي رواية أبي داود" قلت: يمضي على قوله (فقَتَلَه) ففي رواية: (فقتلْتُه).
(6) أخرجه البخاري: 3051.

(7/208)


تخميس السَّلَب إذا بلغ مالاً كثيراً
لقد تقدّم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسَّلَب للقاتل، ولم يُخمّس السَّلَب، ولكن وردت بعض الآثار في التخميس.
فقد بارز البراء مرزبان الزارة (1) فقتله، فبلغ سواره ومِنطَقَته (2)، ثلاثين ألفاً فخمّسه (3) عمر ودفَعَه إليه.
عن أنس بن مالك: أنّ البراء بن مالك أخا أنس بن مالك؛ بارز مرزبان الزارة، فطَعنه طعنة فكسر القَرَبوس (4)، وخَلص إليه فَقَتَله، فقوَّم سَلَبَه ثلاثين ألفا، فلمّا صلّينا الصبح، غدا علينا عمر، فقال لأبي طلحة: إنّا كنّا لا نُخمِّس الأسلاب، وإنَّ سَلَب البراء قد بلغ مالاً، ولا أرانا إلاَّ خامسيه، فقوَّمناه ثلاثين ألفا، فدفَعْنا إلى عمر ستة آلاف" (5).
وفي لفظ: "إن أول سَلَبٍ خمّس في الإسلام، سَلَب البراء بن مالك، كان حَمَل على المرزبان فطعَنه، فقتَله، وتفرّق عنه أصحابه، فنزل إليه، فأخذ منطقته وسواريه، فلمّا قَدِم، مشى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حتى أتى أبا طلحة الأنصاري ... " فذكره مثل رواية الطحاوي، دون قوله في آخرها:
__________
(1) الزارة: بلدة كبير: بالبحرين.
(2) ما يُشدّ به الوسط.
(3) أي: أخذ منه الخُمس: ستة آلاف، وأعطى البراء -رضي الله عنه- الباقي.
(4) هو حِنو السرج، قال في "القاموس المحيط" القَرَبوس: "حِنو السرج" والحِنو عود الرَّحل.
(5) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 58) تحت الحديث (1224).

(7/209)


"فدفعنا إلى عمر ستة آلاف" (1).
وفي لفظ: "فنَفَلَه السلاح وقوّم المنطقة ثلاثين ألفاً، فخمَّسَها، وقال: إنها مال" (2).
أقول: ولا تعارُض بين عدم تخميسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّلَب، وبين فِعْل عمر -رضي الله عنه-، لأنّ السَّلَب الذي عُرف بقيمته المتداولة الشائعة؛ هو الذي لا يُخمَّس، أمّا إذا بلغَ مالاً كثيراً؛ فإنّه يُخمّس ليكون النفع أكثر، والفائدة أعمّ، مع تحقيق معنى استفادة المقاتل مِن ذلك، والله -تعالى- أعلم.

الرّضخ (3) من الغنيمة لمن حضر
وَيرْضَخ الإمامُ لمن حضَر، مِن النساء والعبيد -ممن لا سهم له في الغنيمة-.
عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ "أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْألهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ: أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لهُنَّ بِسَهْمٍ؟ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ وَعَنْ الْخُمْسِ لمِنْ هُوَ؟
فكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتبتَ تَسْألُني هَلْ كَانَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِيَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟
__________
(1) وصحّح إسناده شيخنا -رحمه الله- في المصدر السابق.
(2) وقال شيخنا -رحمه الله- في المصدر المذكور: وإسناده لا بأس به.
(3) الرضخ: هو العطية القليلة. "النّهاية".

(7/210)


وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الجرْحَى وَيُحْذَيْنَ (1) مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لهُنَّ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ، فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ.
وَكَتَبْتَ تَسْألنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتيمِ؛ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لتنْبُتُ لحيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النّاس؛ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ.
وَكَتَبْتَ تَسْألنِي عَنْ الْخُمْسِ لمِنْ هُوَ؟ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ: هُوَ لَنَا فَأبى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ" (2).
وفي رواية: "وسألت عن المرأة والعبد: هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس؟ فإنهم لم يكن لهم سهمٌ معلوم إلاَّ أن يُحذَيا مِن غنائم القوم" (3).
وفي زيادة: "وأما العبد فليس له من المغنم نصيب، ولكنهم قد كان يُرضَخ لهم" (4).
وعن عمير مولى آبي اللحم قال: "شَهِدْت خيبر مع سادتي، فكلّموا فيَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمَرَ بي، فقُلّدْتُ سيفاً، فإذا أنا أجرّه (5)، فأُخبِر أني مملوك، فأَمَر لي
__________
(1) أي: يُعطين.
(2) أخرجه مسلم: 1812.
(3) أخرجه مسلم: 1812.
(4) انظر "الإرواء" تحت الحديث (1236).
(5) أي: أسحب السيف على الأرض مِن صِغَر سنّي أو قِصَر قامتي. "عون المعبود".

(7/211)


بشيء مِن خُرثيِّ المتاع (1) " (2).
وعن ثابت بن حارث الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "قسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر؛ لسهلةَ بنتِ عاصم بن عدي، ولابنةٍ لها وُلِدَت" (3).
وعن زينب امرأة عبد الله الثقفية " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها بخيبر خمسين وَسْقاً (4) تمراً، وعشرين وسْقاً شعيراً بالمدينة" (5).

جواز تنفيل بعض الجيش مِن الغنيمة
يجوز للإمام تنفيل بعض الجيش، وإعطاؤهم سوى قسم عامّة الجيش، إذا كان لهم مِن العناية، والمقاتلة ما لم تكن لغيرهم.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَثَ سرِيّة فيها عبد الله بن عمر قِبَلَ نجد، فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سُهمانهم اثني عشَر بعيراً، أو أحدَ
__________
(1) الخُرثي: أثاث البيت ومتاعه. "النّهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2730) والترمذي، "صحيح سنن الترمذي" (1261)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2304)، وصححه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (1234).
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 72) تحت الحديث (1237).
(4) الوَسْق: ستون صاعاً، والأصل في الوَسْق: الحِمْل، وكلُّ شيء وسَقْته فقد حملته "النّهاية" بحذف وتقدم في "كتاب الزكاة".
(5) أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وانظر "الإرواء" (5/ 72) تحت الحديث (1237).

(7/212)


عشَر بعيراً، ونُفِّلوا بعيراً بعيراً" (1).
وفي رواية: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "بَعَثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جيش
قِبَلَ نجدٍ، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سُهمان الجيش اثني عشَر بعيراً، اثني
عشر بعيراً، ونفل أهل السريّة (2) بعيراً بعيراً، فكانت سُهْمانُهُم (3) ثلاثةَ عشَر ثلاثةَ
عشَر" (4).
جاء في "عون المعبود" (7/ 296): "فيه دليلٌ على أنّه يجوز للإمام أن يُنفِّل
بعض الجيش ببعض الغنيمة، إذا كان له مِن العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيره".
وعَن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ
مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عامّة الجيْشِ [وَالْخُمْسُ فِي
ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلِّهِ (5)] " (6).
جاء في "عون المعبود" (7/ 300): "وهذا تصريحٌ بوجوب الخُمُس في كل
الغنائم، قاله النّووي، وقال في "فتح الودود": يفيد أنّ الخُمُس يُؤخَذ أولاً من
الغنيمة، ثمّ يُنفَّل من الباقي ثمّ يُقْسم ما بقي".
__________
(1) أخرجه البخاري: 3134، ومسلم: 1749.
(2) أي: أعطاهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زائداً على سهامهم.
(3) أي: مع النفل.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2379).
(5) كلِّه: مجرور لأنه توكيد لكلمة (في ذلك).
(6) أخرجه البخاري: 3135، ومسلم: 1750، وما بين معقوفتين من "صحيح مسلم"
(1750 - 40).

(7/213)


وعن حبيب بن مسلمة الفهري -رضي الله عنه- أنّه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنفل الثلث بعد الخُمُس" (1).
وعنه: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُنفّل الرُّبع (2) بعد الخُمس (3)، والثُّلث بعد الخُمس، إذا قَفَل (4) " (5).
وعن أبي وَهْبٍ يَقُولُ: "سَمِعْتُ مَكْحُولاً يَقُولُ: كُنْتُ عَبْداً بِمِصْرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ، فَأَعْتَقَتْنِي، فَما خَرَجتُ مِنْ مِصْرَ وَبِهَا عِلْمٌ إِلا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أرَى، ثُمَّ آليْتُ الحجَازَ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلَّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أتيْتُ الْعِرَاقَ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الشَّامَ، فَغَرْبَلْتُهَا، كُلُّ ذَلِكَ أَسْأل عَنْ النَّفَلِ، فَلَمْ أَجِدْ أحَدًا يُخْبِرُنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، حَتَّى لَقِيتُ شَيْخاً يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي النّفلِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ" (6).
وجاء في "عون المعبود" (7/ 300): "وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول والأوزاعي: لا يجاوز بالنّفل الثُّلُث، وقال الشافعي: ليس في النّفل حدٌّ
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2387).
(2) أي: في البَدْأةَ أي: ابتداء السفر للغزو.
(3) أي: بعد أن يُخرِج الخُمس.
(4) إذا رجع من الغزو.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2388)، وابن ماجه وابن حبان وغيرهم.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2389).

(7/214)


لا يُجاوَز؛ إنما هو اجتهاد الإمام". انتهى.
قلت: هو اجتهاد الإمام بما ورَد في النّصوص.

ردّ أموال وسبايا التائبين
عن ابن شهاب قال: وزعم عروة أنّ مروانَ بن الحكم والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ -رضي الله عنهما- أخبراه: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قامَ حين جاءه وفْدُ هوازنَ مسلمين، فسألوه أن يَرُدّ إليهم أموالهم وسبْيَهم، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحبُّ الحديثِ إليّ أصدقُه، فاختاروا إحدى الطائفتين إمّا السبي وإمّا المال، وقد كنت استأنَيت (1) بهم، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظَرَهم بضعَ عشَرةَ ليلةً؛ حين قَفَل من الطائف، فلمّا تبيّن لهم أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ رادٍّ إليهم إلاَّ إحدى الطائفتين؛ قالوا: فإنّا نختار سَبْيَنا.
فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال: أمّا بعد؛ فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإنّي قد رأيت أن أردّ إليهم سبْيَهم، فمن أحبَّ منكم أن يَطيب بذلك فليفعل، ومَن أحبَّ منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيَه إياه مِن أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل.
فقال النّاس: قد طيّبنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا لا ندري مَنْ أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يَرفَعَ إلينا عرفاؤكم أمرَكم، فرجَع النّاس فكلَّمهم عرفاؤهم ثمّ رجعوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه
__________
(1) أي: انتظَرْتُ وتربّصت، يُقال: أنيت وأنَّيْت وتأنَّيْت واسْتَأنيْت. "النّهاية".

(7/215)


أنهم قد طيَّبوا وأذِنوا" (1).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أعطَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرَ ابن الخطاب جارية من سَبْيِ هوازن، فوهَبَها لي فبعثْتُ بها إلى أخوالي من بني جمح ليُصلحوا لي منها، حتى أطوف بالبيت، ثمّ آتيَهم وأنا أريد أن أصيبَها إذا رجعْت إليها.
قال: فخرجْت مِن المسجد حين فرغْتُ فإذا النّاس يشتدّون، فقُلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردَّ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبناءنا ونساءنا، قال: قلت: تلك صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا فأخَذوها" (2).

إذا غنم المشركون مال المسلم ثمّ وجده المسلم (3)
إذا غنم المشركون مال المسلم، أو وجد المسلم ماله عند الأعداء، فإنّه يُرَدُّ على صاحبه، ولا يُضاف إلى الغنائم ولا يُخمّس.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ذهَب (4) فرسٌ له فأخذَه العدوّ، فظَهر عليه المسلمون، فرُدَّ عليه في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأَبَقَ (5) عبدٌ له، فَلَحِقَ بالروم، فظَهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد بن الوليد بعد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: (2307، 2308، 2539، 2540).
(2) أخرجه أحمد، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (5/ 37).
(3) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد والسير) (باب - 187).
(4) أي: نَفَر وشرَد إلى الكُفّار "عون المعبود" (7/ 212).
(5) أي: هَرَب.
(6) أخرجه البخاري: 3067.

(7/216)


وعن عمرانَ بن حصين قال: "كانت ثقيفُ حلفاءَ لبني عُقَيل، فأسرَت ثقيفُ رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسَر أصحاب رسول الله رجُلاً من بني عُقيلٍ، وأصابوا معه العضباء [وذكر الحديث إلى أن قال:] وأُسِرت امرأةٌ مِن الأنصار، وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوَثاق، وكان القوم يُريِحُون نَعَمَهُم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذاتَ ليلةٍ مِن الوَثاق، فأتت الإِبِلَ؛ فجعَلت إذا دنَت من البعير رغا فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء، فلم تَرْغُ، قال: وناقة مُنَوّقَة (1)، فقعدَت في عَجُزِها ثمّ زجَرَتْها فانطلَقت ونذِروا بها (2) فطلبوها، فأعجَزَتْهم، قال: ونَذَرت لله إنْ نجاها الله عليها لتنحَرَنَّها.
فلمّا قَدِمت المدينة رآها النّاس فقالوا: العضباء ناقةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إنها نَذَرَت إنْ نجّاها الله عليها لتنحرنّها، فأتَوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك له.
فقال: سبحان الله بئسما جَزَتْها، نَذَرت لله إنْ نجّاها الله عليها لتنحرَنَّها، لا وفاء لنذرٍ في معصية ولا فيما لا يملك العبد" (3).

إذا أسلَم قومٌ في دار حرب ولهم مالٌ أو أرضون (4) فهي لهم (5)
عن صخر بن عيلة "إنّ قوماً مِن بني سليم؛ فرّوا عن أرضهم حين جاء الإسلام، فأخَذْتُها فأسلموا، فخاصموني فيها إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فردَّها عليهم وقال:
__________
(1) ناقة مُنَوّقة: أي مُذللة.
(2) نذِروا بها: أي علموا.
(3) أخرجه مسلم: 1641.
(4) انظر -إن شئت المزيد من الفائدة- ما قاله ابن حزم -رحمه الله- تحت المسألة (937).
(5) هذا العنوان مِن "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد) (باب - 180).

(7/217)


إذا أسلَم الرجل فهو أحقّ بأرضه وماله" (1).
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (باب إذا أسلم قوم ... ) وذكر العنوان السابق ثم ذكر تحته حديثين (2).
قال الحافظ -رحمه الله - في "الفتح" (6/ 175):
"أشار [أي: الإمام البخاري -رحمه الله-] بذلك إلى الردّ على من قال مِن الحنفية إنّ الحربي إذا أسلَم في دار الحرب، وأقام بها حتى غلَب المسلمون عليها، فهو أحقُّ بجميع ماله إلاَّ أرضَه وعقاره، فإنّها تكون فيئاً للمسلمين، وقد خالفَهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور ... ".
ثمّ ذكَر حديث صخر بن عيلة المتقدّم، وأشار شيخنا إلى استدلال الحافظ -رحمهما الله- في "الصحيحة" (1230).
جاء في "السيل الجرار" (4/ 554): "الإسلام عصمةٌ لمال الرجل ولأولاده الذين لم يبلغوا، فمَن زعَم أنّه يَحِلُّ شيءٌ مِن مال مَن أسلم؛ لكون المال في دار الحرب؛ لم يُقبل منه ذلك إلاّ بدليلٍ يدلّ على النقل مِن عصمة الإسلام، ولا دليل ... فإنّ الأحاديث الصحيحة المُصرّحة بأنّ الكُفَّار إذا تكلَّموا بكلمة الإسلام؛ عصموا بها دماءهم وأموالهم، يُغني عن غيرها ... ". انتهى.
قلت: يُشير -رحمه الله- إلى حديث: ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرتُ أنْ أُقاتِل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأنّ محمداً
__________
(1) أخرجه أحمد وإسناده حسن، وانظر الصحيحة (1230).
(2) انظرهما -للمزيد من الفائدة إن شئت- برقم (3058، 3059) وكذا انظر وجه مطابقة الترجمة في "عمدة القاري" (14/ 304).

(7/218)


رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعَلوا؛ ذلك فقد عصَموا منّي دماءهم وأموالهم؛ إلاَّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله" (1).

حُكم الأرض المغنومة (2)
الأرض المغنومة أمْرُها إلى الإمام، يفعل الأصلح مِن قِسمَتها، أو ترْكِها مشتركةً بين الغانمين، أو بين جميعِ المسلمين، لأنّ النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلّم- قَسَم نصفَ أرض خيبر بين المسلمين، وجَعل النصف الآخر لمن ينزل به مِن الوفود والأمور ونوائبِ الناس.
فعن بُشير بن يَسار مولى الأنصار، عن رجالٍ مِن أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ظَهَر على خيبر؛ قسَّمها على ستة وثلاثين سهماً، جمَع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وعزَل النصف الباقي؛ لمن نَزَل به من الوفود والأمور ونوائب النّاس" (3).
وفي رواية مِن حديث سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- قال: "قَسَم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسَمَها بينهم على ثمانيةَ عشَرَ سهماً" (4).
وقد ترَك الصحابة ما غَنِموه من الأراضي مُشترَكَةً بين جميع المسلمين،
__________
(1) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 21.
(2) من "الروضة النّديّة" (2/ 755) بتصرف يسير.
(3) أخرجه أبو داود: "صحيح سنن أبي داود" (2603).
(4) أخرجه أبو داود: "صحيح سنن أبي داود" (2601).

(7/219)


يَقسِمون خَراجها بينهم، وقد ذهَب إلى هذا جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وعمل عليه الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم-.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّما قريةٍ أتيتموها وأقمتم فيها؛ فسَهْمُكم فيها، وأيُّما قريةٍ عَصت الله ورسوله؛ فإنَّ خُمُسَها لله ولرسوله، ثمّ هي لكم" (1).
وجاء في "الروضة الندية" (2/ 756):
أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين مِن: خراجٍ، ومعاملةٍ، وجزيةٍ، وصُلحٍ، وغير ذلك؛ ينبغي تفويض قِسْمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النّصح لرعيته، ويبذْل جهده في مصالحهم، فيَقْسِم بينهم ما يقوم بكفايتهم، ويدَّخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها.
ولا يلزمه في ذلك سلوكُ طريقٍ مُعيَّنة سلَكَها السلف الصالح، فإنّ الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فإنْ رأى الصلاح في تقسيم ما حَصل في بيت المال في كلّ عامٍ فعَل، وإنْ رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فَعَل.
ثمّ إذا فاضَ مِن بيتِ مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم، وما يدخِر لدفْع ما ينوبهم، جعل ذلك في مُناجزة الكَفَرة، وفتْح ديارِهم، وتكثير جهاتِ المسلمين، وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح، فإنّ تقويةَ جيوش المسلمين هي الأصلُ الأصيل في دفْع المفاسد وجَلْبِ المصالح.
__________
(1) أخرجه مسلم: 1756.

(7/220)


ومِن أعظم موجبات تكثيرِ بيت المال وتوسيع دائرته؛ العدلُ في الرعية، وعدمُ الجور عليهم، والقَبولُ من مُحْسِنهم، والتجاوزُ عن مسيئهم، وهذا معلومٌ بالاستقراء في جميعِ دول الإسلام والكُفر ... ".
وعن زيدٍ عن أبيه أنّه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "أما والذي نفسي بيده؛ لولا أن أتركَ آخر النّاس بَبَّاناً (1) ليس لهم شيء ما فُتِحت عليَّ قرية إلاَّ قَسمْتُها كما قسَم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ولكنّي أتركها خِزانةً لهم يقتسمونها (2) " (3).
وفي رواية: "لولا آخر المسلمين؛ ما فُتِحَت عليهم قرية، إلاّ قسمْتُها كما قسَم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر" (4).
__________
(1) جاء في "الفتح": "قال أبو عبيدة بعد أن أخرجه عن ابن مهدي: قال: ابن مهدي يعني شيئاً واحداً، قال الخطابي: ولا أحسب هذه اللفظة عربية، ولم أسمعها في غير هذا الحديث، وقال الأزهريّ: بل هي لغة صحيحة، لكنها غيرُ فاشية في لغة معد، وقد صحَّحَها صاحب العين وقال: ضوعفت حروفه، وقال: البَبَّان: المعدَم الذي لا شيء له، ويقال: هم علىَ بَبَّان واحدٍ، أي: على طريقةٍ واحدة، وقال ابن فارس: يقال هم بَبَّان واحد، أي: شيء واحد، قال الطبري: البَبَّان: المعدَم: الذي لا شيء له، فالمعنى: لولا أن أتركهم فقراءَ مُعدمين، لا شيء لهم، أي: متساوين في الفقر".
(2) أي: يقتسمون خراجها. "الفتح".
(3) أخرجه البخاري: 4235، ومسلم: 2334، قال الحافظ -رحمه الله -: زاد ابن إدريس في روايته: "ما افتَتَح المسلمون قَريةً مِن قرى الكُفَّار؛ اِلا قَسَمْتها سُهماناً".
(4) أخرجه البخاري: 4636، 2334.
وانظر إن شئت المزيد من الفائدة "نيل الأوطار" (8/ 162) (كتاب الجهاد) (باب حُكم الأرض المغنومة).

(7/221)


الغُلول

تعريفه:
الغلول: هو الخيانة في المغنم، والسّرقة مِن الغنيمة قبل القِسمة (1).
تحريم الغُلول:
قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، قال: "ما كان لنبيّ أن يتَّهمَه أصحابُه (3) " (4).
وفي رواية: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} في قطيفة حمراء فُقِدت يوم بدر، فقال بعضُ النّاس: لعلّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل الله- عزّ وجل- {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إلى آخر الآية" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خَرجْنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر، فلم نغنم ذهباً ولا فضة؛ إلاّ الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضُّبَيب -يقال له: رِفاعة بن زيد- لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاماً يقال له مِدعَم، فوجَّه
__________
(1) "النّهاية".
(2) آل عمران: 161.
(3) أي ما كان لنبيٍّ أن يخون أصحابه؛ فيما أفاء الله عليهم، مِن أموال أعدائهم. وانظر "تفسير الطبري".
(4) أخرجه البزّار في مسنده، وانظر "الصحيحة" (2788).
(5) أخرجه أبو داود (3971) والترمذي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (2788).

(7/222)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وادي القُرى، حتى إذا كان بوادي القُرى -بينما مِدْعَم يحطُّ رَحْلاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سهْمٌ عائر (1) فقتَله، فقال النّاس: هنيئاً له الجنّة.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلاّ؛ والذي نفسي بيده؛ إنّ الشملة (2) التي أخذَها يوم خيبر مِن المغانم؛ لم تُصبها المقاسم، لتَشْتَعل عليه ناراً، فلمّا سَمِع ذلك النّاس جاء رجل بشِراكٍ (3) أو شِراكين إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: شِراك من نار أو شِراكان من نار" (4).
وعن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لمّا كان يومُ خيبر أقْبَل نفرٌ مِن صحابة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: فلانٌ شهيد، فلانٌ شهيد، حتى مرّوا على رجلٍ فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلاّ إني رأيته في النار في بُردةٍ (5) غلَّها أو عباءةٍ" (6).
__________
(1) سهم عائر: أي لا يُدرى من رمى به. "الفتح".
(2) الشملة: كساءٌ يُتغطَّى به، ويُتلفّف فيه. "النّهاية".
(3) الشِّراك: -بكسر السين- وهو السير المعروف؛ الذي يكون في النعل على ظهر القدم. "شرح النّووي".
(4) أخرجه البخاري: 6707، ومسلم: 115.
(5) قال النّووي -رحمه الله-: "أمّا البردة -بضم الباء- فكساءٌ مخُطَّط وهي الشملة والنَّمِرة، وقال أبو عبيد: هو كساء أسود فيه صور وجمعها بُرَد -بفتح الراء-" انتهى.
والنّمرة: كل شملة مخطوطة من مآزر الأعراب؛ لأنها أُخذت مِن لون النَّمِر، لما فيها مِن السواد والبياض. "النّهاية".
(6) أخرجه مسلم: 114.

(7/223)


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قام فينا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَر الغلول فعظَّمَه، وعظَّم أمْرَه، قال: "لا أُلفِيَنَّ (1) أحدكم يوم القيامة؛ على رقبته شاةٌ لها ثُغاء (2)، وعلى رقبته فرسٌ له حَمْحَمَة (3) " (4).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كان على ثَقَل (5) النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ يقال له كِركَرة، فمات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلَّها" (6).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّه نهى أن تُباع السهام حتى تُقسم" (7).
وعن عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "أدّوا الخِياط والمِخْيَط (8)، وإيّاكم والغُلول، فإنّه عارٌ على أهله يوم القيامة" (9).
__________
(1) أي: لا أجدنَّ.
(2) ثُغاء: صوت الشاة.
(3) حمحمة: صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل. "فتح".
(4) أخرجه البخاري: 3073، ومسلم: 1831.
(5) الثّقَل -بمثلثة وقاف مفتوحتين-: العيال: وما يثقُل حَمْلُه من الأمتعة "الفتح".
(6) أخرجه البخاري: 3074.
(7) أخرجه الدارمي بسند حسن، وانظر "هداية الرواة" برقم (3945).
(8) الخِياط: الخيط، والمِخيط -بالكسرة-: الإبرة. "النّهاية".
(9) أخرجه الدارمي وإسناده حسن، وانظر "هداية الرواة" برقم (3952).

(7/224)


ما يجوز الانتفاع به قبل قسمة الغنائم
يُباح للمقاتلين أن ينتفعوا بالطعام وعَلَف الدواب؛ ما داموا في أرض العدوّ، قبل أنْ تُقسّم عليهم.
عن عبد الله بن مُغَفَّلٍ -رضي الله عنه- قال: "كنّا محاصِرين قصرَ خيبر، فرمى إنسانٌ بجرابٍ (1) فيه شحم، فنزوت (2) لآخذه، فالتفتُّ، فإذا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستحييتُ منه" (3). وفي رواية " فالتَفَتُّ فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتبسّماً" (4).
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثمّ ينصرف" (5).
وعن ابن -عمر رضي الله عنهما- " كنّا نُصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه (6) " (7).
__________
(1) الجراب: وعاء مِن جِلد.
(2) أي: وَثَبْت، وهي رواية مسلم: 1772.
(3) أخرجه البخاري: 3153 واللفظ له، ومسلم: 1772.
(4) أخرجه مسلم: 1772.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2353)، والحاكم (2/ 126) وقال: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وشيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (3/ 468) وكذا البيهقي.
(6) قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "أي ولا نحمله على سبيل الادّخار، ويُحتمل أن يُريد ولا نرفعه إلى متولّي أمر الغنيمة، أو إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا نستأذنه في أكْلِه، اكتفاءً بما سَبَق منه مِن الإذن".
(7) أخرجه البخاري: 3154.

(7/225)


جاء في "الروضة النديّة" (2/ 745): "قال مالك في "الموطأ": لا أرى بأساً أن يأكُل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو مِن طعامهم؛ ما وجدوا مِن ذلك كلّه، قبل أن تقع في المقاسم".
وقال أيضاً: "أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام؛ يأكُلُ منه المسلمون إذا دخَلوا أرض العدو؛ كما يأكلون الطعام".
وقال: "ولو أنّ ذلك لا يُؤكَل حتى يحضُر النّاس المقاسم ويُقسَم بينهم؛ أضرَّ ذلك بالجيوش، قال: فلا أرى بأساً بما أُكل من ذلك كلّه؛ على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدّخِرَ ذلك شيئاً؛ يَرجِع به إلى أهله. قلت: وعليه أهل العلم". انتهى.
قلت: ويجوز ركوب الدوابّ وما في معناها، ولبس الثياب، مِن غير إتلاف ولا إخلاق.
فعَنْ رُوَيْفعِ بْنِ ثَابِتٍ الأنصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ المسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا (1) رَدَّهَا فِيهِ (2)، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ (3) رَدَّهُ فِيهِ" (4).
__________
(1) أعْجَفَها: أي أضعَفها وأهزلها "عون المعبود" (7/ 268).
(2) أي: الفيء.
(3) أخلَقَه: أي أبلاه.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود (2078) وغيرهما، وقال شيخنا -رحمه الله- حسن صحيح، وانظر "التعلقيات الرضية على الروضة الندية" (3/ 467).

(7/226)


جاء في عون المعبود (7/ 268): "قال في "السبيل": يُؤخَذ منه جوازُ الركوبِ ولبسِ الثوب، وإنما يتوجه النهي إلى الإعجاف والإخلاق للثوب، فلو رَكِب من غير إعجاف، وَلَبِس من غَير إخلاق وإتلافٍ؛ جاز. انتهى.
قال في "الفتح": وقد اتفقوا على جواز رُكوب دوابِّهم يعني؛ أهلَ الحرب ولبس ثيابِهم، واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب. وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يردّ كلما فرغت حاجته، ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر بردّه انقضاء الحرب لئلا يُعرّضه للهلاك".
قلت: وقوله بإذن الإمام ليس على الإطلاق، لحديث عبد الله بن مغفّل -رضي الله عنه- قال: "أصبت جراباً من شحم يوم خيبر، فقال: فالتزمتُه، فقلت: لا أُعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً؛ فالتفتّ فإذا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متبسَّماً" (1).
قال النّووي -رحمه الله-: "ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه، ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلاَّ الزهري ... ".
...
__________
(1) أخرجه مسلم: 1772.

(7/227)


أسرى الحرب
ومن جملة الغنائم الأسرى، ولا خلافَ في ذلك (1)، وهم على قسمين:
1 - النساء والصبيان، وهذا القسم يكون رقيقاً بمجرّد السبي، لأن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قَتْل النساء والصبيان (2).
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المُصطَلَق وهم غارُّون (3) وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقَتَل مُقاتِلتَهم (4)، وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذ جُوَيْرية (5) " (6).
__________
(1) انظر "الروضة الندية" (2/ 748).
(2) وفي ذلك أحاديث منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قَتْل النساء والصبيان" أخرجه البخاري: 3015، ومسلم: 1744 وتقدّم.
(3) وهم غارُّون: جمع غار بالتشديد أي غافل، أي أخَذَهم على غِرة. "الفتح".
(4) أي: الطائفة البالغين الذين هم على صدد القتال. "الكرماني".
(5) قال النّووي -رحمه الله- (12/ 36): وفي هذا الحديث جواز الإغارة على الكُفّار الذين بلغتهم الدعوة مِن غير إنذار بالإغارة ... " وانظر تتمة كلام النّووي -رحمه الله- إن شئت المزيد.
(6) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730، ولفظ مسلم من حديث ابن عون قال: "كتبت إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتَب إليَّ إنما كان ذلك في أول الإسلام؛ قد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... " وذكره، وتقدّم.
وانظر رواية الإمام أحمد -رحمه الله- وما جاء في "الإرواء" تحت رقم (1212) -إنْ شئت-.

(7/228)


2 - الرجال البالغون المقاتِلون، والإمام فيهم مخُيَّرٌ بينَ قَتْلٍ وَرِقٍّ ومَنٍّ وفداءٍ بمالٍ أو بأسيرٍ مسلم.
أمّا القَتل: فلقوله تعالى: {فاقتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدتمُوهُم} (1).
وقَتَل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالاً مِن بني قريظة حين حكَم فيهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: أَحْكُم فيهم أن تُقتل مُقاتلتهم وتُسبَى ذراريُّهُم وتُقسّم أموالهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمْتَ بحُكم الله -عزّ وجل- وحُكم رسوله" (2).
وجاء في "سنن أبي داود " تحت (بابُ قتلِ الأسير ولا يُعرَض عليه الإسلام) عن سعد قال: "لمّا كان يوم فتح مكة أمَّنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس إلاَّ أربعةَ نفر وامرأتين وسمّاهم، وابن أبي سَرْح، فذكَر الحديث.
قال: وأمّا ابنُ أبي سرح؛ فإنّه اختَبأ عند عثمان بن عفان، فلمّا دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النّاس إلى البيعة؛ جاء به حتى أوقَفَه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا نبيَّ الله بايعْ عبد الله، فرفَع رأسه فنظَر إليه ثلاثاً، كلّ ذلك يأبى، فبايَعَه بعد ثلاث، ثمّ أقبَلَ على أصحابه فقال: أمَا كان فيكم رجل رشيد؛ يقوم إلى هذا حيث رآني كَففْتُ يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأتَ إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنةُ الأعين" (3).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل مكَّة عام
__________
(1) التوبة: 5.
(2) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (67) و"الإرواء" (1213).
(3) أخرجه أبو داود: (2683، 4359) وغيره وانظر "الصحيحة" (1723).

(7/229)


الفتح وعلى رأسه المِغفَر (1)، فلمَّا نَزَعَه جاءه رجل فقال: ابن خَطَل متعلِّقٌ بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه.
قال أبو داود: ابن خَطَل اسمه عبد الله، وكان أبو برزة الأسلمي قَتَله" (2).
وأمّا دليل الرِّق، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوفد هوازن: " ... وأحبّ الحديث إليّ أصدقُه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا المال وإمّا السبي" (3).
قال في "منار السبيل" (ص 272): "ولأنه يجوز إقرارهم بالجزية، فبالرقّ أولى؛ لأنّه أبلَغُ في صَغارهم".
وأمّا المنّ -وهو إطلاق سراح الأسير مجّاناً-، فلقوله -تعالى-: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (4).
ولأنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنّ على ثُمامة بن أُثال، وسيأتي بتمامه -إن شاء الله تعالى- في (باب ما جاء في الإحسان إلى الأسرى).
وكذلكَ منَّ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي العاص بن الربيع.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لمّا بعَثَ أهلُ مكّةَ في فداء أسراهم؛ بَعَثَتْ زينبُ بنتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبَعَثَتْ فيه
__________
(1) زرَد يُنسج من الدروع، على قدر الرأس، يُلبس تحت القلنسوة.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2335).
(3) أخرجه البخاري: 2539، 2540 من حديث مروان والمسور بن مخرمة -رضي الله عنهما-. وتقدم غير بعيد.
(4) محمد: 4.

(7/230)


بقلادة لها؛ كانت خديجة أدخلَتْها بها على أبي العاص؛ حينَ بنَى عليها.
قالت: فلمّا رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رقَّ لها رِقّةً شديدة، وقال؛ إنْ رأيتم أنْ تُطلِقوا لها أسيرها، وترُدُّوا عليها مالها، فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلَقوه وردُّوا عليها الذي لها" (1).
وأمّا الفداء بالمال، فإنّه قد ثبَت عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه فدى أهل بدرٍ بمال (2).
ْوأمّا الفداء بالأسير المسلم، فلأنّه قد ثبَت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه فدّى رجلين مِن أصحابه برجلٍ مِن المشركين من بني عُقَيل.
عن عمرانَ بنِ حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبنى عُقَيل، فأسرَت ثقيف رجلين مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسرَ أصحابُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً مِن بني عقيل ... ففُدِي بالرجلين" (3).
ويَجب على الحاكم فِعْل الأصلح، فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال، تعيَّنَت عليه، لأنّه ناظرٌ للمسلمين، وتخييره تخيير اجتهاد لا شهوة (4).
قال ابن المناصف -رحمه الله-، في "الإنجاد" (1/ 269): "يكون نَظَر
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" ومن طريقه أبو داود وابن الجارود والحاكم وأحمد وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1216/ 2).
(2) أخرجه أبو داود (2991) وغيره، وانظر للمزيد من الفائدة والتفصيل ما جاء في "الإرواء" (1218).
(3) أخرجه مسلم: 1641 مُطوّلاً، وانظر للمزيد من الفائدة -إن شئت- ما جاء في: الإرواء" (1217).
(4) انظر "منار السبيل" (ص 272).

(7/231)


الإمام في الأسرى؛ بحسب الاجتهاد والمصلحة لأهل الإسلام، فمَن خُشيت شجاعته منهم وإقدامُهُ، أو رأيُهُ وتدبيرُه، وما أشبه ذلك مِن الوجوه التي تعود بتقوية بأس العدو على المسلمين في بقائه؛ كان الأولى قَتْلُهُ، إلاَّ أن يَعْرضَ هناك ما يمنع، وتكونُ مراعاته أهمّ، مِثل أن يكون في بلاد الكفر أسيرٌ مِن المسلمين، لا يُستطاع إخراجُه إلاَّ بالمفاداة بهذا، وما أشبهَ ذلك مِن وجوه النَّظَرِ في الحال، وذلك غير مُنْحَصرٍ، بل هو بحسب ما يرى الحاضر والمجتهد، ومَن لم يكن مِن الأسرى على هذه الصِّفة، وكان في المفاداة به مصلحةٌ وتقويةٌ للمسلمين بالمال، وما أشبه ذلك مما لا ينحصر أيضاً مِن وجوه النَّظَر - فالأوْلَى المفاداةُ.
ومن يُرجى إسلامُه بَعدُ، أو الانتفاع به في استمالة أهل الكفر، أو كَسْرِ شوكتهم، وما في معنى ذلك إذا رُدَّ وأُنعِم عليه؛ فالأَوْلَى المَنُّ.
ومَن كان صانعاً أو عسيفاً يُنتفع بمِثله في الخدمة، ولم يعرض فيه وجهٌ مِن الوجوه المتقدمة؛ اسْتُرِقَّ هؤلاء، أو ضُربت عليهم الجزية -إن كانوا من أهلها- على حسب ما يظهر من ذلك.
وبالجملة، فالنَّظَر في هذه الوجوه لمصالح المسلمين بحسب الحال؛ أوسَعُ من هذا، وإنما نَبَّهْنا على أنموذج من طريق النَّظَر، لا أنَّ ذلك واجبٌ بعينه، إلاَّ أنّه لا ينبغي أن يميل إلى واحدٍ من هذه الوجوه؛ إلاَّ لمصلحةٍ في حقِّ المسلمين؛ يغلب على نَظَرِه واجتهاده أنهأ أَوْلى.
فأمَّا القتل، فما دام الإمام مُرتئياً؛ لم يَعزِم على واحدةٍ مما سواه؛ ساغَ له القتل -ولو بعد مدةٍ-.
قال بعض الفقهاء: لو عَرَضَهم للبيع ليختبر أثمانهم، ويناظر بها وجه

(7/232)


المصلحة في إحرازها للمسلمين، أو قتلهم، وما أشبه هذا؛ كان له من ذلك ما رآه بعد، فإذا أنفَذَ نظَرَهُ في واحدةٍ من ذلك غير القتل، أو أسقَط عنه القتل، وبقي مرتئياً فيما عداه من الوجوه؛ لم يكن له الرجوع إلى القتل؛ لأنه حُكْمٌ وَقَعَ، يتضمَّن التأمين، والله أعلم".

جوازُ استرقاقِ الكُفّار مِنْ عربٍ أو عَجَم (1)
يجوزُ استرقاقُ العرب، لأنّ الأدلة الصحيحة قد دلَّت على جواز استرقاق الكُفَّار، مِن غير فَرْقٍ بين عربيٍّ وعجمي، وذَكَرٍ وأنثى.
ولم يقُم دليلٌ يصلُح للتمسك قطّ في تخصيص أسْرى العرب بعدم جواز استرقاقهم؛ بل الأدلّة قائمةٌ متكاثرة على أن حُكْمهم حُكمُ سائر المشركين.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ما زلت أُحبُّ بني تميم منذ ثلاثٍ، سمعتُ مِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول فيهم: سمعته يقول: هم أشدّ أمّتي على الدجّال، قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذه صدقات قومِنا، وكانت سَبِيَّةٌ منهم عند عائشة؛ فقال: أعتقيها؛ فإنها مِن وَلَد إسماعيل" (2).
وعن مروان والمِسْوَر بنِ مخرمة -رضي الله عنهما-: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام حين جاءه وفْد هوازن، فسألوه أن يَرُدّ إليهم أموالهم وسبْيَهم فقال: إنّ معي من ترون وأَحَبُّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا المال وإمّا السبي ... " (3).
__________
(1) عن الروضة الندية (2/ 750) بتصرف يسير.
(2) أخرجه البخاري: 2543، ومسلم: 2525.
(3) أخرجه البخاري: 2539، 2540، وتقدّم.

(7/233)


وعن ابن عون قال: "كتبتُ إلى نافع، فكتَب إليّ أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغارَ على بني المصطلِق وهم غارّون وأنعامُهم تُسقى على الماء فَقَتل مُقاتلتهم وسبَى ذراريَّهم وأصاب يومئذٍ جُوْيرية ... " (1).
وقد ذهَب إلى جوازِ استرقاق العرب الجمهور، والحاصل: أنّ الواجب الوقوفُ على ما دلّت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة؛ مِن التخيير في كلِّ مُشرك بين القتل والمَنّ والفداء والاسترقاق، فمن ادَّعى تخصيصَ نوعٍ منهم، أو فرْدٍ مِن أفرادهم فهو مُطالَب بالدليل.
وأمّا أسْرُ نساء العرب فالأمر أظهر مِن أن يُذكر، والوقائع في ذلك ثابتة في كُتُب الحديث: الصحيحين وغيرِهما، وفي كتب السِّيَر جميعها".

إذا أسلم الأسير حَرُمَ قتْلُه
عن ابن شُماسةَ المَهْري قال: حَضَرْنا عمرو بنَ العاص وهو في سياقةِ الموت، فبكى طويلا وحوّل وجهَه إلى الجدار، [وذكر الحديث وفيه] أما علِمت أنّ الإسلام يَهْدِم (2) ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأنّ الحجَّ يَهدِم ما كان قبله" (3).
قلت: فيستفاد من هذا الحديث؛ أن الإسلام يهدِم ما استوجبه هذا الأسير من قَتْل.
__________
(1) أخرجه البخاري: 2541، ومسلم: 1730، وتقدّم.
(2) وفي رواية أحمد "يجُبّ" وإسنادها صحيح وانظر "الإرواء" (1280).
(3) أخرجه مسلم: 121.

(7/234)


ما وَرَد في الإحسان إلى الأسرى
قال الله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ (1) مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (2).
قال ابن جرير -رحمه الله-: {وَأَسِيرًا}: وهو الحربيّ مِن أهل دار الحرب، يُؤخَذ قهراً بالغَلبَة، أو مِن أهل القبلة يُؤخذ فيُحبَس بحقّ.
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فُكّوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض" (3).
ومِن جملة الإحسان المنّ على الأسرى إذا رأى الإمام مصلحةً في ذلك.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعثَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجُلٍ مِن بني حنيفة يقال له ثُمامةُ بن أُثال، فرَبطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فخرَج إليه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ماذا عندك يا ثُمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إنْ تَقْتلني تقتْل ذا دم، وإن تُنْعم تُنْعِم على شاكر، وإنْ كنت تريد المال فَسلْ منه ما شئت.
فتُرك حتى كان الغد ثمّ قال: له ما عندك يا ثُمامة فقال: ما قلت لك، إنْ تُنْعِم تُنْعِم على شاكر، فترَكَه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثُمامة فقال: عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثُمامة.
__________
(1) أي: وهم يشتهون هذا الطعام.
(2) الإنسان: (8، 9).
(3) أخرجه البخاري: 3046.

(7/235)


فانطلق إلى نخْلٍ (1) قريب من المسجد، فاغتسل ثم دَخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمّد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغَضُ (2) إليّ مِن وجهك، فقد أصبَحَ وجهُك أحبَّ الوجوه إليّ، والله ما كان مِن دينٍ أبغضَ إليّ من دينك فأصبح دينُك أحبَّ الدين إليّ، والله ما كان مِن بلدٍ أبغضُ إليّ مِن بلدِك، فأصبَح بلدُك أحبَّ البلاد إليّ، وإنَّ خيلَك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟
فبشَّره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمرَهَ أن يعتمر، فلمّا قَدم مكة قال له قائل: صَبَوْت؟ قال: لا ولكنْ أسلمتُ مع محمّد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا والله لا يأتيكم مِن اليمامة حبّةُ حِنطة حتى يأذَن فيها النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وفي زيادة: "وانصَرف إلى بلده، ومنَع الحمل إلى مكّة؛ حتى جَهِدَت قريش، فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة، يُخلِّي إليهم حمْل الطعام، ففعَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (4).
وفي زيادة أُخرى:
حتى قال عمر: "لقد كان والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنّه في عيني، أعظم من الجبل" (4).
__________
(1) وردت بالجيم: وهو المال القليل المُنبعث، ووردت بالخاء، وتقديره: انطلَق إلى نخلٍ فيه ماء، فاغتسَل منه. وانظر "شرح النّووي" (8912).
(2) وردَ بالرفع والنّصب، وهما وجهان في النحو.
(3) أخرجه البخاري: 4372، ومسلم: 1764.
(4) أخرجهما أحمد وإسنادهما حسن، انظر "الإرواء" (5/ 42).

(7/236)


وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "لما قَسَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المُصْطَلِق؛ وقعَت جويرية بنت الحارث في السّهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عمٍّ له، وكاتَبته على نفسها، وكانت امرأةً حلوة مُلاّحة (1)، لا يراها أحد إلاَّ أخذَت بنفسه، فأتَت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستعينه في كِتابتها.
قالت: فوالله ما هو إلاّ أن رأيتها على باب حجرتي؛ فكرِهْتُها، وعرفت أنّه سيرى منها ما رأيت، فدخَلَت عليه، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيّد قومه، وقد أصابني ما لم يخفَ عليك، فوقعْتُ في السهم لثابت بن قيس بن الشِّماس أو لابن عمٍّ له، فكاتَبْتُه على نفسي، فجئتك أستعينك على كِتابتي.
قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتَك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعَلْتُ، قالت: وخرَج الخبر إلى النّاس أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوَّجَ جويريةَ بنتَ الحارث، فقال النّاس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسَلُوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتقَ بتزويجه إياها مائةَ أهلِ بيتٍ مِن بني المُصطَلِق، فما أعلَمُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومها منها" (2).
__________
(1) مُلاّحة أي: شديدةَ المَلاحَة، وهو من أبنية المبالغة. "النّهاية". قلت: على وزن فُعّال كقوله -تعالى-: {وَمَكرُوا مَكْراً كُبَّاراً}. وانظر "التطبيق الصرفي" (ص 87) للدكتور عبده الراجحي.
(2) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وحسّن شيخنا -رحمه الله- إسناده في "الإرواء" (5/ 37) تحت الحديث (1212).

(7/237)


ما ورَد في الإحسان إلى الرقيق
قال الله -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى (1) وَالْجَارِ الْجُنُبِ (2) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (3) وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (4).
عن أبي ذرِ الغِفاريّ -رضي الله عنه- قال: "قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنّ إخوانكم خوَلُكم (5) جعَلَهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمِه مما يأكل وليُلبِسْه مما يلبس، ولا تُكلّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلّفتموهم ما يَغْلِبهُم، فأعينوهم" (6).
وعن أبي هريرة- ر ضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكلَّف مِن العمل إلاَّ ما يُطيق" (7).
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوصي
__________
(1) أي: الجار ذي القرابة والرّحم، فله حقّان اثنان: حقّ القرابة وحقّ الجار.
(2) هو الجار الغريب البعيد المجانِب للقرابة.
(3) والصاحب بالجنب، قال بعضُ أهل التأويل: هو رفيق الرجل في سفره، وقال آخرون: هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه، وقال آخرون: هو الذي يلزَمُك ويصحبُك رجاء نفْعِك، قال ابن جرير -رحمه الله - "فالصواب أن يُقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلّهم قد أوصى الله بالإحسان إليه".
(4) النساء: 36.
(5) هم الخَدَم، سُمّوا بذلك لأنهم يتخوّلون الأمور: أي يُصلحونها. "الفتح".
(6) أخرجه البخاري: 2545، ومسلم: 1661.
(7) أخرجه مسلم: 1662.

(7/238)


بالمملوكين خيراً ويقول: أطعِموهم مما تأكلون، وألبِسوهم من لَبوسكم، ولا تُعذِّبوا خَلْق الله -عزّ وجلّ-" (1).
وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمِعْت مِن خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود للهُ أقدَرُ عليك منك عليه، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله! هو حرٌّ لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل، للفَحَتْك النار، أو لمسَّتك النار" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن قذَف مملوكه وهو بريء ممّا قال؛ جُلدَ يوم القيامة، إلاّ أن يكون كما قال" (3).
وعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: "لا يَضْرب أحدٌ عبداً له، وهو ظالمٌ له؛ إلاّ أُقيدَ (4) منه يوم القيامة" (5).
عن أبي ليلى قال: "خرَج سلمان فإذا علَفُ دابّته يتساقط من الآريّ (6)، فقال لخادمه: لولا أنّي أخاف القِصاص لأوجعتك ضَرْباً" (7).
وعن زاذان: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- دعا بغلام له فرأى بظهره أثراً
__________
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (139).
(2) أخرجه مسلم: 1659.
(3) أخرجه البخاري: 6858، ومسلم: 1660.
(4) أُقيد منه: مِن القَوَد وهو القِصاص، أي: أُقتصّ منه يوم القيامة.
(5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (134).
(6) الآريّ: محبس الدّابة.
(7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (135).

(7/239)


فقال له: أوجعتك؟ قال: لا قال: فأنت عتيقٌ.
قال: ثم أخذ شيئاً مِن الأرض فقال: ما لي فيه من الأجر ما يَزِن هذا، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن ضرَب غلاماً له حدّاً لم يأته، أو لَطَمه؛ فإن كفّارتَه أن يُعتقه" (1).
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَن كانت له جارية، فعلَّمها فأحسن إليها، ثمّ أعتقَها وتزوَّجَها كان له أجران" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَقُلْ أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي وفتاتي وغلامي" (3).
وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "كان آخر كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاةَ (4)، الصلاةَ، اتقوا الله فيما ملكت أيمانُكم" (5).

ربط الأسير وحبْسُه
فيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل مِن بني حَنيفة، يقال له ثُمامة بن أُثال، فرَبطوه بساريةٍ مِن
__________
(1) أخرجه مسلم: 1657.
(2) أخرجه البخاري: 2544، ومسلم: 154.
(3) أخرجه البخاري: 2552، ومسلم: 2249.
(4) بالنّصب على تقدير فِعْل، أي: الزموا الصلاة، أو أقيموا أو احفظوا الصلاة بالمواظبة عليها ... "عون المعبود" (13/ 44).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4295)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2184) وانظر "الإرواء" (2178).

(7/240)


سواري المسجد" (1).

نفيُ جوازِ قتْلِ الحربيّ إذا أتى ببعضِ أَمارات الإسلام (2)
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مرّ رجل مِن بني سُليم على نَفَر مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعَه غنَم فسلَّم عليهم، فقالوا ما سلَّم عليكم إلاَّ ليتعوّذ مِنكم، فعدَوا عليه فقتلوه، وأخذوا غنَمه، فأتوا بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... } (3) إلى آخر الآية" (4).

تحرير الرقاب (5)
لقد فَتَح الإسلام أبواب تحرير الرِّقاب، وبيَّنَ سُبُل الخلاص، واتخذ وسائل شتّى لإنقاذ هؤلاء مِن الرِّقّ؛ منها:
1 - أنّه طريقٌ إلى رحمةِ الله وجنّته، يقول الله -سبحانه-: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 4372، ومسلم: 1764 وتقدّم.
(2) هذا العنوان من "صحيح ابن حبان" انظر "التعليقات الحِسان" (7/ 130).
(3) النساء: 94.
(4) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وابن حبان "التعليقات الحِسان" (4732) وغيرهما، وفيه: وقد أخرجَه البخاري: 4591، ومسلم: 3025 وغيرهما، من طريق عطاء، عن ابن عباس به، ببعض الاختصار.
(5) عن "فقه السُّنَّة" (3/ 476) بتصرف وزيادة من "تفسير ابن كثير" وغيره.
(6) البلد: 11 - 13.

(7/241)


عن البراء -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي فقال: يا نبيّ الله علِّمْني عَمَلاً يُدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصَرْتَ الخُطبة لقد أعرضْتَ المسألة (1)، أعتق النَّسَمَة (2)، وفُكَّ الرَقَبَة. قال: أوليستا واحداً؟ قال: لا؛ عتق النَّسَمَة: أن تعتق النَّسَمَة (3)، وفكُّ الرَّقبةِ: أن تُعين على الرقبة" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما رجلٍ أعتَق امرَءاً مسلماً؛ استنقَذَ الله بكل عضوٍ عضواً منه مِن النار" (5).
وفي رواية "مَن أعتقَ رقبةً مسلمة؛ أعتقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضواً مِنه مِن النار، حتى فَرجَه بفرجِه" (6).
2 - وأنّ العِتق كَفّارة للقتل الخطأ. يقول الله -عزّ وجل-: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (7).
3 - وأنّه كفَّارةٌ للحَنْث في اليمين لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (8).
__________
(1) أي جئت بالخطبة قصيرة، وبالمسألة واسعة كثيرة. "النّهاية".
(2) النَّسَمَة: النفس والروح، أعتق النَّسَمَة: أعتق ذا روح، وكل دابة فيها روح فهي نَسَمَة، وإنّما يُريد النّاس. "النّهاية".
(3) أي: تنفرد بِعتْقها، وفكُّ الرقبة أن تُعين في عِتْقها.
(4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (50) وغيره.
(5) أخرجه البخاري: 2517، ومسلم: 1509.
(6) أخرجه البخاري: 6715، ومسلم: 1509.
(7) النساء: 92.
(8) المائدة: 89.

(7/242)


4 - وأنّ العِتق كفّارة في حالة الظِّهار، يقول الله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (1).
5 - وجعَل الإسلامُ من مصارف الزكاة شراءَ الارقاء وعِتْقَهم، يقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} (2).
6 - ومَن نَذَر أن يُحرّر رقبةَ، وجَب عليه الوفاء بالنذر متى تحقَّق له مقصوده. وبهذا يتبيّن أنّ الإسلام ضيَّق مصادر الرَّق، وعامَل الأرقاء معاملةً كريمةً، تمهيداً لتحريرهم.
7 - وأمَرَ الله -سبحانه- بمكاتبة العبد على قَدْرِ من المال، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (3) وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (4).
والكتابة: أن يكاتِب الرجلُ عبده على مالٍ يؤديه إليه مُنجَّماً (5)، فإذا أدّاه صار حُرّاً، وسُمّيت كتابةً لمصدر كتَب كأنه يكتُب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب
__________
(1) المجادلة: 3.
(2) سورة التوبة: 60.
(3) قال بعضهم: أمانة، وقال بعضهم: صِدْقاً، وقال بعضهم: مالاً، وقال بعضهم: حيلةً وكسْباً. قلت: وهذه الأقوال يُفسّر بعضها بعضاً، ولا يمتنع الجمع بينها. والله -تعالى- أعلم.
(4) النور: 33.
(5) قال في "النّهاية": " ... ومنه تنجيم المكاتَب ونجوم الكتابة، وأصْلُه أنّ العرب كانت تجعل مطالعَ منازل القمر ومساقطَها مواقيتَ لحلول ديونها وغيرها، فتقول: إذا طلَع النجم؛ حلّ عليك مالي: أي الثريا، وكذلك باقي المنازل.

(7/243)


مولاه له عليه العِتق، وقد كاتبتُه مكاتبةً والعبد مكاتَب (1).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا أمرُ إرشاد واستحباب، والسيّدُ مخيَّرٌ في ذلك، وذهَب آخرون إلى وجوب ذلك.
والآية تدل على وجوب المكاتبة، بشرط أن يكون للمملوك حيلة وقوة وكسْبٌ ومال؛ يؤدي إلى سيده ما شارطه على أدائه.
والأثران الآتيان يدلان على الإيجاب:
عن ابن جريج قلتُ لعطاء: "أواجبٌ عليَّ إذا علِمْتُ له مالاً أن أكاتِبَهُ؟ قال: ما أراه إلاَّ واجباً".
وقال عمرو بن دينارٍ: "قلتُ (2) لعطاء: أتأثُرُه (3) عن أحد؟ قال: لا، ثمّ أخبَرَني أن موسى بنَ أنس أخبَره أنّ سيرين سأَل أنسَاً المكاتَبَة وكان كثير المال، فأبى، فانطلَق إلى عمر -رضي الله عنه- فقال كاتِبه، فأبى، فضربَه بالدِّرَّة ويتلو عمر: {فَكاتِبوُهُم إنْ عَلِمتُم فِيهِم خيراً} فكاتَبهُ" (4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ سيرين أراد أن يُكاتِبه، فتلكَّأَ
__________
(1) "النّهاية".
(2) القائل: ابن جريج.
(3) أي: أترويه.
(4) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في "كتاب المكاتَب" (باب المكاتَب ونجومه في كلّ سنة نجم)، ووصلَه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسندٍ صحيح عنه، وكذلك أخرجَه عبد الرزاق والشافعي من وجهين آخرين عن ابن جُريج، وانظر "فتح الباري" (5/ 186) و"مختصر البخاري" (2/ 179) لشيخنا -رحمه الله-.

(7/244)


عليه، فقال له عمر: لتُكاتِبنَّه" (1).