الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الفيء
الفيء: ما حصَل للمسلمين، وأفاءه الله -تعالى- عليهم مِن أموال الكُفار من غير حربٍ ولا جهاد.
وأصْل الفيء: الرجوع، يُقال: فاء يفيء فئةً وفُيُوءاً؛ كأنّه كان في الأصل لهم فرجَع إليهم، قال الله -تعالى-: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) (3).
*لأنَّ الله أفاءه على المسلمين؛ فإنّه خَلَقَ الخَلْق لعبادته، وأحلَّ لهم الطيبات، ليأكلوا طيِّباً، ويعملوا صالحاً، والكُفّار عبدوا غيره، فصاروا غيرَ مُستحقّين للمال، فأباحَ للمؤمنين أن يعبدوه، وأن يسترِقّوا أنفسهم (4)، وأن يسترجعوا الأموال منهم، فإذا أعادَها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت، أي: رجَعَت إلى مُستحقّيها* (5).
وقد تنزّل ذِكر الفيء في القرآن الكريم قال الله -تعالى-: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
__________
(1) أخرجه ابن جرير -رحمه الله- في "تفسيره"، وصحح الإمام ابن كثير -رحمه الله- إسناده في "تفسيره".
(2) البقرة: 226.
(3) "النّهاية" بزيادة مِن "حلية الفقهاء".
(4) أي: أنفس الكفار.
(5) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 563).

(7/245)


وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 275):
"فذكر -سبحانه وتعالى- المهاجرين والأنصار والذين جاءوا مِنْ بَعدِهم على ما وصَف فدخَل في الصنف الثالث، كلّ مَن جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة؛ كما دخلوا في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} (2) وفي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (3) وفي قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) ".
وقال -رحمه الله- (ص 276): "وسمّيَ فيئاً؛ لأنَّ الله أفاءَه على المسلمين، أي ردَّه عليهم مِن الكفار؛ فإنّ الأصل أن الله -تعالى- إنّما خلَق الأموال إعانةً على عبادته؛ لأنه إنّما خلَق الخلْق لعبادته. فالكافرون به أباحوا أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التى لم يستعينوا بها على عبادته؛ لعباده المؤمنين الذين
__________
(1) الحشر:6 - 10.
(2) الأنفال: 75.
(3) التوبة: 100.
(4) الجمعة: 3.

(7/246)


يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقّونه، كما يُعاد على الرجل ما غُصِبَ مِن ميراثه؛ وإن لم يكن قَبَضَه قبل ذلك".

إنفاق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهله نفقةَ سَنتِهِم مِن الفيء، وجعْل الباقي في مَجْعَل مال الله
عن عمرو بن عَبَسَة -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعيرٍ مِن المغنم، فلمّا سلَّم أخَذ وبرة من جنب البعير، ثمّ قال: ولا يَحلّ لي من غنائمكم مثل هذا، إلاَّ الخُمُس والخُمُس مردودٌ فيكم" (1).
وعن عطاء في قوله- عزّ وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (2).
قال: خُمُس الله وخُمُس رسولِه، واحد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء" (3).
وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "إنّ الله قد خصَّ رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الفيء بشيء؛ لم يُعْطِه أحداً غيره ثمّ قرأ: {وما أفاء الله على رسوله منهم} إلى قوله {قَدِير}.
فكانت هذه خالصةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووالله ما احتازها دونكم، ولا استأثَرَ
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2393) والبيهقي والحاكم وصححه شيخنا - رحمه الله- في "الإرواء" (1240). وتقدّم.
(2) الأنفال: 41.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (3862) وقال شيخنا -رحمه الله -: صحيح الإسناد مُرسَل.

(7/247)


بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثَّها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنفِق على أهله نفقةَ سَنتَهم مِن هذا المال، ثمّ يأخُذ ما بقي، فيجعله مَجْعَل مال الله، فَعمِل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك حياتَه" (1).
وعن عمر -رضي الله عنه-: "كانت أموال بني النّضير مما أفاءَ الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مما لم يوجِف (2) المسلمون عليه بخيل ولا ركاب (2)، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة، وكان يُنفِق على أهله نفقة سنته (3)، ثمّ يجعل ما بقي في السلاح والكُراع (4)؛ عُدّةً (5) في سبيل الله" (6).
*قال أبو عبيد -رحمه الله- في كتاب "الأموال" (ص 264): "وقد كان رأيُ عمرَ الأول؛ التفصيل على السوابق والغَنَاء عن الإسلام، وهذا هو المشهور مِن رأيه، وكان رأي أبي بكرٍ التسوية، ثمّ قد جاء عن عمرَ شيءٌ شبيهٌ بالرجوع إلى رأي أبي بكر".
__________
(1) أخرجه البخاري: 3094، ومسلم: 1757.
(2) يوجف: الإيجاف: هو الإسراع في السير، [والركاب: الإبل]، أي: لم يعملوا فيه سعْياً؛ لا بالخيل ولا بالإبل. "شرح الكرماني" (12/ 167).
(3) قال النّووي -رحمه الله-: "أي: يعزل لهم نفقَة سنة، ولكنه كان يُنفِقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، فلا تَتِمّ عليه السنة، ولهذا تُوفِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونةٌ على شعير؛ استدانَه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعاً، وقد تظاهَرَت الأحاديث الصحيحة؛ بكثرة جوعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوع عياله".
(4) أي: الخيل.
(5) قال العيني في "عمدة القاري" (14/ 185): "قوله عُدّةً: وهي الاستعداد، وما أعدَدْته لحوادث الدهر مِن سلاحٍ ونحوه".
(6) أخرجه البخاري: 2904، ومسلم: 1757.

(7/248)


وروى (ص 263) بسند صحيح عن عمرَ خطبتَه بالجابية، قال: أمّا بعد؛ فإنّ هذا الفيءَ شيءٌ أفاءه الله عليكم؛ الرفيع فيه بمنزلة الوضيع. ... إلخ.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعْتُ عمر يقول: "لئن عِشت إلى هذا العام المقبِل؛ لأُلحقنّ آخر النّاس بأولهم؛ حتّى يكونوا بياناً (1) واحداً".
وسنده حسن.
وذكر عن شيخه عبد الرحمن بن مهدي قال: بياناً واحداً: أي: شيئاً واحداً* (2).

يُراعى في قَسْم الفيء قِدَمُ الرجل في الإسلام وبلاؤُه، وعِيالُه وحاجتُه
عن مالك بن أوس بن الحدَثان قال: ذكَر عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً الفيء، فقال: "ما أنا بأحقَّ بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منّا بأحقَّ به من أحدٍ، إلاَّ أنّا على منازلنا مِن كتاب الله -عزّ وجلّ- وقَسْمِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالرجلُ وقِدَمُه (3)، والرجل وبلاؤه، والرجل وعِياله والرجل وحاجته" (4).
__________
(1) كذا وردت في المصادر المذكورة، وتقدّم قبل صفحات في (حُكم الأرض المغنومة) في قول عمر -رضي الله عنه- في "الصحيحين" بلفظ "ببّاناً" وهذا الراجح من خلال هذه الرواية وكلام الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" والله أعلم.
(2) ما بين نجمتين من كتاب "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (8/ 302) لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(3) أي: في الإسلام.
(4) أخرجه أبو داود وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3990): "في إسناده عنعنة ابن إسحاق وقال في "صحيح سنن أبي داود" (الأمّ) (8/ 301): لكن له شاهد يأتي =

(7/249)


إعطاء المتزوج حظّين والعزب حظاً واحداً
فيه الحديث المتقدم: " ... والرجل وعِياله والرجل وحاجته".
وعن عوف بن مالك "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتاه الفيء؛ قسَمَه في يومه، فأعطى الآهل (1) حظين (2)، وأعطى العَزبَ (3) حظّاً، فدُعينا، وكنت أدعى قبل عمّار فدُعيت، فأعطاني حَظَّين وكان لي أهل، ثمّ دُعي بعدي عمّار بن ياسر، فأُعطي له حظّاً واحداً" (4).
جاء في "المرقاة" (7/ 658): "والظاهر أنّ في معناه؛ مَن له أحدٌ ممن يَجِب عليه نفقته" أي: له حظّان".

استيعاب الفيء عامّة المسلمين
عن مالك بن أوس الحدَثان قال: قَرَأ عمرُ بنُ الخطاب {إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... } حتّى بلَغ: {عليم حكيم}، فقال: هذه لهؤلاء، ثمّ قَرَأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأنَّ لله خُمُسَهُ ... } حتى بلَغ: {وابن السَبِيلِ}، ثُمّ قال: هذه لهؤلاء، ثُمّ قرَأ: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... } حتّى بلَغ:
__________
= ذِكْره، إن شاء الله -تعالى-، وقال في تخريج "سنن أبي داود" (2950): "حسن موقوف".
(1) الآهل -بالمد وكسر الهاء- أي: المتأهل الذي له زوجة، قال في "النيل": "وفيه دليلٌ عمليّ على أنّه ينبغي أن يكون العطاء؛ على مقدار أتباع الرجل الذي يلزم نفقتهم مِن النّساء وغيرهنّ، إذ غير الزوجة مثلها في الاحتياج إلى المؤونة" وانظر "عون المعبود" (8/ 120).
(2) أي: نصيبَين.
(3) العزب: مَن لا زوجة له.
(4) أخرجه أبو داود، "صحيح سنن أبي داود" (2560) وانظر "المشكاة" (4057).

(7/250)


{للفقراء}، ثمّ قرأ: {والذين جاءوا من بعدهم ... }، ثمّ قال: هذه استوعَبَت المسلمين عامّة، فلئِن عشْتُ فليأتينّ الراعي -وهو بِسَرو حِمْيَر (1) - نصيبُه منها، لم يَعْرَق فيها جَبينه" (2).
وفي رواية: "ما مِن أحدٍ؛ إلاَّ وله في هذا المال حقّ أُعطِيَه أو مُنِعَه؛ إلاَّ ما ملكَت أيمانكم" (3).
بل وردَ عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قسَم للحُرّة والأَمَة.
فعن عائشة: "أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بظَبْية (4) فيها خَرَزٌ، فقسَمها للحُرّة والأَمَة.
قالت عائشة: وكان أبي يَقْسِم للحُرّ والعبد" (5).
__________
(1) وهو بسَرو حمير: -بفَتْح السين وسكون الراء المهملتين-: اسم موضع بناحية اليمن، وحِمْيَر -بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتية-، وهو أبو قبيلة من اليمن أضيف إليهم، لأنه محلتهم، وقيل: سرو حِمير موضع من بلاد اليمن وأصل السَّرو ما ارتفع من منحدر، أو ما انحدر من مرتفع، وإنما ذَكَر سِرْو حِمْيَر؛ لما بينه وبين المدينة من المسافة الشاقّة، وذكر الراعي مبالغة في الأمر الذي أراده من معنى التعميم؛ في إيصال القسم إلى الطالب وغيره، والقريب والبعيد، والفقير والحقير، وذلك لأن الراعي يشغله الرعي عن طَلَب حقّه أو لحقارته، يظنّ أنّه لا يُعطى له شيء، بل قلّ أن يُعلَم أنّ له حقّاً في ذلك. "المرقاة" (7/ 662).
(2) انظر "هداية الرواة" (3991) و"الإرواء" (5/ 84).
(3) أخرجه الشافعيّ، وعنه البيهقي، وقال: هذا هو المعروف عن عمر -رضي الله عنه-، قال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" وإسناده صحيح.
(4) بظبية: هي جراب صغير عليه شعر، وقيل: هي شِبه الخريطة والكيس "النّهاية".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2559)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3989) وإسناده صحيح.

(7/251)


قال القاري: "أي يُعطي كلّ واحد مِن الحرّ والعبد، بقدْر حاجته مِن الفيء ... " (1).

عطاء المحرَّرين
عن زيد بن أسلم: "أنّ عبد الله بن عمر دخل على معاوية -رضي الله عنهم أجمعين- فقال: حاجَتَك (2) يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: عطاء المحرَّرين (3)، فإنّي رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول ما جاء شيء بدأ بالمحرَّرين" (4).
*قال الخطابي -رحمه الله-: "يريد بالمحرَّرين المعتَقين، وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم، وإنّما يدخلون تبعاً في جملة مواليهم"، وقال القاضي الشوكاني: "فيه استحباب البداءة بهم، وتقديمهم عند القِسمة على غيرهم"* (5).

كيفية تجزئة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفيء
عن مالك بن أوس بن الحدَثان قال: "كان فيما احتجَّ (6) به عمر
__________
(1) انظر "عون المعبود" (8/ 120).
(2) حاجتك بالنصب: أي اذكر حاجتَك؛ ما هي؟.
(3) عطاء المحرَّرين: جمع مُحرَّر، وهو الذي صار حُراً بعد أن كان عبداً. "عون المعبود".
(4) أخرجه "أبو داود" (2951) "صحيح سنن أبي داود" (2558) وقال: شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3988) وإسناده حسن.
(5) ما بين نجمتين مِن "عون المعبود" (8/ 120).
(6) أي استدلَّ به على أن الفيء لا يُقسَم، وذلك بمحضرٍ من الصحابة -رضي الله عنهم- ولم يُنكِروا عليه.

(7/252)


-رضي الله عنه- أنّه قال: كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث صفايا (1): بنو النضير (2) وخيبر وفَدَك (3)، فأمّا بنو النضير فكانت حُبْساً (4) لنوائبه (5)، وأمّا فَدَك فكانت حُبْساً لأبناء السبيل (6)، وأمّا خيبر؛ فجزَّأَها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزءاً نفقةً لأهله، فما فَضَل عن نفقة أهله؛ جَعَله بين فقراء المهاجرين" (7).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- مُفصِّلاً في الفيء: *"وهو الذي ذَكَرَه الله -تعالى- في "سورة الحشر" حيث قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} معنى قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} أي ما حرَّكتم ولا أعملتم ولا
__________
(1) صفايا: جَمْعُ صفية وهو: ما يُصطفى ويُختار، قال الخطابي -رحمه الله-: الصفيّ: ما يَصْطفيه الإمام عن عُرْضِ الغنيمة من شيء قبل أن يُقسم؛ من عبدٍ أو جاريةٍ أو فرسٍ أو سيفٍ أو غيرها. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصاً بذلك مع الخُمُس له خاصة، وليس ذلك لواحدٍ من الأئمة بعده. قالت عائشة رضي الله عنها: "كانت صفيةُ من الصفيّ أي: كانت صفيةُ بنتُ حُيي -زوجُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- مِن صفيّ المغنم".
(2) أي أراضيهم.
(3) فَدَك -بفتحتين-: قرية بناحية الحجاز.
(4) حُبْساً: -بضمّ الحاء المهملة، وسكون الموحّدة- أي: محبوسة.
(5) لنوائبه: أي لحوائِجه وحوادثِه؛ من الضيفان والرُّسُل وغير ذلك من السلاح والكراع [أي الخيل: كما تقدم].
(6) كانت حُبْساً لأبناء السبيل: قال ابن المَلَك: يُحتمَل أن يكون معناه؛ أنها كانت موقوفةً لأبناء السبيل، أو مُعدَّةً لوقت حاجتهم إليها وَقْفَاً شرعياً.
ملاحظة: استفدت من المرقاة (7/ 663) في شرح الحديث السابق.
(7) أخرجه أبو داود (2967) وقال شيخنا -رحمه الله- في "هداية الرواة" (3992) إسناده حسن.

(7/253)


سُقتم [خيلاً ولا إبلاً]. يقال وجَف البعير يَجِف وُجوفاً وأوجَفْته: إذا سار نوعاً مِن السير، فهذا هو الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، وهو ما صار للمسلمين بغير إيجاف خيلٍ ولا رِكاب، وذلك عبارة عن القتال، أي: فما قاتلوا عليه، كان للمقاتِلةِ، وما لم يُقاتِلوا عليه؛ فهو فيء.

مصادر الفيء
وهذا الفيء يدخُل فيه جزية الرؤوس التي تُؤخَذ مِن أهل الذمّة، ويدخُل فيه ما يُؤخَذ منهم مِن العشور، وأنصاف العشور، وما يُصالَح عليه الكُفَّار مِن المال؛ كالذي يحملونه، وغيرِ ذلك، ويدخُل فيه ما جَلَوا عنه وتركوه خوفاً مِن المسلمين؛ كأموال بني النضير التي أنزل الله فيها "سورة الحشر" وقال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}.
وهؤلاء أجلاهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانوا يَسكُنون شرقيَّ المدينة النبوية فأجلاهم بعد أنْ حاصَرهم، وكانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله.* (1).
وقال -رحمه الله- (28/ 276): "والمال الذي يُصالَح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين؛ كالحِمل الذي يُحمَل مِن بلاد النصارى ونحوهم؛ وما يُؤخَذ من تجار أهل الحرب -وهو العشر- ومِنْ تُجّار أهل الذِّمَّة إذا اتجَرَوا
__________
(1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 512).

(7/254)


في غير بلادهم -وهو نصف العشر- هكذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يأخذ، وما يُؤخَذ مِن أموال مَنْ ينقُض العهد منهم، والخَراج الذي كان مضروباً في الأصل عليهم أيضاً -وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين- ثمّ إنّه يجتمع مِن الفيء جميعُ الأموال السلطانية التي لبيت مالِ المسلمين؛ كالأموال التي ليس لها مالك مُعيَّن مثل من مات من المسلمين وليس له وارث مُعيَّن؛ وكالغصوب، والعواري، والودائع التي تَعذَّر معرفة أصحابِها، وغير ذلك مِن أموال المسلمين: العقار والمنقول، فهذا ونحوه مال المسلمين".

مصارف الفيء
* [وذكر- ربنا سبحانه- مصارف الفىء بقوله]: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1).
فهؤلاء المهاجرون والأنصار؛ ومَن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، ولهذا قال مالك وأبو عبيد وأبو حكيم النهرواني -من أصحاب أحمد وغيرهم-: "إنّ مَن
__________
(1) الحشر: 7 - 10.

(7/255)


سَبَّ الصحابة؛ لم يكن له في الفيء نصيب".
ومِن الفيء ما ضَرَبه عمر -رضي الله عنه- على الأرض التي فتحها عَنْوَة (1) ولم يَقْسِمها؛ كأرض مصر، وأرض العراق -إلاَّ شيئا يسيرا منها- وبَرّ الشام وغير ذلك.
فهذا الفيء لا خُمُس فيه عند جماهير الأئمة: كأبي حنيفة ومالك وأحمد. وإن يرى تخميسه الشافعيّ، وبعض أصحاب أحمد، وذُكر ذلك رواية عنه، قال ابن المنذر: لا يُحفَظ عن أحدٍ قبل الشافعي؛ أنّ في الفيء خُمُساً كخُمُس الغنيمة.
وهذا الفىء لم يكن ملكاً للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته عند أكثر العلماء وقال الشافعى وبعض أصحاب أحمد: كان ملكاً له.
وأمّا مصرفه بعد موته؛ فقد اتفَق العلماء على أن يُصْرَف منه أرزاقُ الجند المقاتِلين الذين يُقاتِلون الكُفّار؛ فإنَّ تقويتَهم تُذلّ الكُفَّار؛ فيُؤخَذ منهم الفيء.
وتنازعوا هل يُصَرف في سائر مصالح المسلمين، أم تَخْتَصّ به المقاتِلة؟ على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه -وهو مذهب أبي حنيفة ومالك-: أنّه لا يَخْتَص به المقاتِلة؛ بل يصرف في المصالح كلِّها.
وعلى القولين؛ يُعطَى مَن فيه منفعةٌ عامة لأهل الفيء، فإنّ الشافعيّ قال: ينبغي للإمام أن يَخُصّ مَن في البلدان مِن المقاتِلة -وهو مَنْ بَلَغ، ويُحصي الذُّرّية- وهي من دون ذلك والنساء- إلى أن قال: ثمّ يُعطي المقاتِلة في كلّ عام عطاءهم ويُعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم.
__________
(1) عَنْوَة: أي قهراً وغَلَبة.

(7/256)


قال: والعطاء مِن الفيء لا يكون إلاَّ لبالغٍ يُطيق القتال. قال: ولم يختلف أحدٌ ممن لقيه، في أنّه ليس للمماليك في العطاء حقّ ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة.
قال: فإنْ فَضُل مِن الفيء شيء؛ وَضَعه الإمام في أهل الحصون والازدياد، في الكُراع والسلاح، وكلّ ما يقوى به المسلمون. فإنِ استغنَوا عنه وحَصَلت كلّ مصلحةٍ لهم فُرِّق ما يبقى عنهم بينهم؛ على قدْر ما يستحقّون مِن ذلك المال.
قال: ويعطي من الفيء رزقَ العمال والولاة وكلّ مَن قام بأمر الفيء؛ مِن والٍ وحاكم وكاتب وجندي؛ ممن لا غنى لأهل الفيء عنه.
وهذا مُشْكِلٌ مع قوله: إنه لا يُعطى من الفيء صبيٌّ ولا مجنون ولا عبدٌ ولا امرأة ولا ضعيف لا يَقْدِر على القتال؛ لأنه للمجاهدين.
وهذا إذا كان للمصالح؛ فيُصرَف منه إلى كلِّ مَن للمسلمين به منفعةٌ عامّة؛ كالمجاهدين وكولاة أمورِهم؛ مِن ولاة الحرب ووُلاة الديوان، وولاة الحُكم، ومَن يقرئهم القرآن، وُيفتيهم ويُحدّثهم ويؤمّهم في صلاتهم ويُؤَذِّن لهم. ويُصرَف منه في سداد ثغورهم وعمارةُ طُرقاتهم وحصونهم ويُصرَف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضاً ويُبدَأ فيه بالأهم فالأهم، فيقدَّم ذوو المنافع الذين يَحْتاج المسلمون إليهم على ذوي الحاجات الذين لا مَنفَعة فيهم.
هكذا نصَّ عليه عامّة الفقهاء مِن أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرِهم.
قال أصحاب أبي حنيفة يُصرَف في المصالح ما يُسَدُّ به الثغور من القناطر والجسور ويُعطَى قضاة المسلمين ما يكفيهم، ويُدفَع منه أرزاقُ المقاتِلة وذوو الحاجات يُعطَون من الزكوات ونحوها. وما فَضُل عن منافع المسلمين قُسم بينهم.

(7/257)


لكن مذهب الشافعي، وبعض أصحاب أحمد؛ أنّه ليس للأغنياء الذين لا منفعةَ للمسلمين بهم فيه حقٌّ إذا فضُل المال واتسع عن حاجات المسلمين كما فعَل عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- لمّا كَثُر المال أعطى منهم عامّة المسلمين؛ فكان لجميع أصناف المسلمين فرضٌ في ديوان عمر بن الخطاب؛ غنيّهِم وفقيرِهم.
لكن كان أهلُ الديوان نوعين: مقاتلة -وهم البالغون- وذرية -وهم الصغار والنساء الذين ليسوا من أهل القتال-؛ ومع هذا فالواجب تقديمُ الفقراءِ على الأغنياء الذين لا منفعةَ فيهم فلا يُعطَى غنيٌّ شيئاً حتى يَفضُل عن الفقراء.
هذا مذهب الجمهور؛ كمالك وأحمد في الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعي -كما تقدم- تخصيص الفقراء بالفاضل"* (1).