الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز

كتاب الجهاد (*)
__________
(*) انظر تفصيله في رسالتي التي أعددتها لنيل درجة التخصص "الماجستير" بعنوان: (الحرب والسلام في الإِسلام في ضوء سورة محمَّد عليه السلام).

(1/479)


تعريفه (1):
" الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، يقال: جاهد يجاهد جهادًا أو مجاهدة إذا استفرغ وسعه، وبذل طاقته، وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته.
ولا يسمى الجهاد جهادا حقيقيا إلا إذا قصد به وجه الله، وأريد به إعلاء كلمته، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله، فإذا أريد به شيء دون ذلك من حظوظ الدنيا، فإنه لا يسمى جهادًا على الحقيقة.
فمن قاتل ليحظى بمنصب، أو يظفر بمغنم، أو يظهر شجاعة، أو ينال شهرة، فإنه لا نصيب له في الأجر، ولاحظ له في الثواب".
فعن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله" (2).

الترغيب في الجهاد:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها". قالوا: أفلا نبشر الناس؟ قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" (3).
__________
(1) فقه السنة (27، 40/ 3).
(2) متفق عليه: خ (2810/ 27/ 6)، م (1904/ 1512/ 3)، د (2500/ 193/ 7)، ت (1697/ 100/ 3)، جه (2783/ 931/ 2).
(3) صحيح: [ص. ج 2126]، [الصحيحة 921]، خ (2790/ 11/ 6).

(1/481)


وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" (1).
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلى، أن أرجعه بما نال من أجر وغنيمة، أو أدخله الجنة" (2).

فضل الشهادة:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3). قال: إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهى، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا" (4).
وعن أنس أن الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) صحيح: [ص. ج 5851]، م (1878/ 1498/ 3)، ت (1669/ 88/ 3).
(2) متفق عليه: خ (36/ 92/ 1)، م (1876/ 1495/ 3).
(3) آل عمران: 169.
(4) صحيح: [مختصر م 1068]، م (1887/ 1502/ 3)، ت (4098/ 298/ 4).

(1/482)


فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثنى عن حارثة -وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غريب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال:"يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" (1).
وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفع في سبعين من أقربائه" (2).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"الشهيد لا يجد ألم القتل، إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة" (3).

الترهيب من ترك الجهاد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4).
وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... } (5) قال ابن كثير: قال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبى عمران قال: "حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا
__________
(1) صحيح: [ص. ج 7852]، خ (2809/ 25/ 6)، ت (3224/ 9/ 5). و"سهم غريب" لا يعرف راميه.
(2) صحيح: [ص. جه 2257]، ت (1712/ 106/ 3)، جه (2799/ 935/ 2).
(3) حسن صحيح: [ص. جه 2260]، ت (1719/ 109/ 3)، جه (3802/ 937/ 2)، نس (36/ 6).
(4) التوبة 38، 39.
(5) البقرة: 195.

(1/483)


أبو أيوب الأنصارى، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإِسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبّبا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا الإِسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد".
رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مردويه، والحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده, وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1) أهـ.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (2).

حكمه:
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3).
وهو فرض كفاية، لقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
__________
(1) صحيح: [ص. د 2187]، تفسير ابن كثير (228/ 1)، د (2495/ 188/7)، ت (4053/ 280/ 3) كم (275/ 2).
(2) صحيح: [ص. ج 423].
(3) البقرة: 216.

(1/484)


الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (1) "فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا، لكان لهم السوء لا الحسنى" (2).
واعلم أنه يستحب الإكثار من الجهاد، للآيات والأخبار الواردة في ذلك، وأقل ما يجب في السنة مرة, لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتركه منذ أُمر به في كل سنة، والاقتداء به واجب ولأنه فرض يتكرر، وأقل ما يجب التكرر في كل سنة مرة، كالصوم والزكاة، فإن دعت الحاجة إلى أكثر من مرة في السنة وجب، لأنه فرض كفاية، فيقدر بقدر الحاجة. والله أعلم أهـ. "ولكنه ينبغى أن نعرف وأن يعرف الناس جميعًا أن القتال في الإِسلام لا يكون حتى يسبقه إعلان، وتخيير بين: قبول الإِسلام، أو أداء الجزية، أو القتال، ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد -في حالة الخوف من الخيانة - والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإِسلام وأداء الجزية، ولا عهد في غير هذه الحالة، إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلى الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها (3).

آداب القتال:
عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر الأمير على جيش أو سرية وصّاه في خاصته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا
__________
(1) النساء: 94.
(2) تفسير الطبرى (345/ 2).
(3) الظلال.

(1/485)


تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدا، فهذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله تعالى، الذي يجرى على المؤمنين، ولا يكون لهم من الغنيمة والفئ شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.
وإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" (1).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان" (2).
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى أهل اليمن معلما، فكانت وصيته له: "إنك تأتى قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (3).
__________
(1) صحيح: [مختصر م 1111]، م (1731/ 1356/ 3)، ت (1429/ 431/ 2) مختصرا.
(2) متفق عليه: خ (3015/ 148/ 6)، م (1744/ 1364/ 3)، د (2651/ 329/ 7)، ت (1617/ 66/ 3)، جه (2841/ 947/ 2).
(3) متفق عليه.

(1/486)


على من يجب الجهاد؟
يجب على كل مسلم، بالغ، عاقل، حر، ذكر، قادر على القتال، واجد من المال ما يكفيه وأهله في غيبته. أما وجوبه على المسلم دون الكافر فواضح، إذ أن الجهاد قتال الكافرين.
وأما وجوبه على البالغ دون الصبى، فلقول ابن عمر: "عُرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزنى، ثم عُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازنى" (1).
وأما وجوبه على العاقل دون غيره فلحديث "رفع القلم عن ثلاثة" (2).
وأما وجوبه على الرجال دون النساء فلحديث عائشة: "يا رسول الله، هل على النساء جهاد، قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" (3).
وأما عدم وجوبه على المريض وغير الواجد فلقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (4).
وأما عدم وجوبه على غير الحر فلأن العبد مملوك لسيده، ولا يستطيع الجهاد بدون إذنه.

متى يكون الجهاد فرض عين؟
ولا يكون الجهاد فرض عين إلا في الحالات الآتية:
1 - أن يحضر المكلف صف القتال:
__________
(1) متفق عليه: خ (2664/ 276/ 5)، م (1868/ 1490/ 3)، ت (1763/ 127/ 3)، نس (155/ 6) د (4383/ 80/ 12).
(2) سبق مرات.
(3) صحيح: [ص. جه 2345]، جه (2901/ 968/ 2)، أ (21/ 18/ 11)، قط (215/ 284/ 2).
(4) التوبة: 91.

(1/487)


قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (1).
وقال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (2).
2 - إذا وطئ العدو بلدا من بلاد المسلمين.
3 - إذا استنفر الحاكم أحدًا من المكلفين: لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" (3).

أسرى الحرب:
ومن سُبى من الكفار فهو على ضربين:
ضرب يكون رقيقا بنفس السبى، وهم النساء والصبيان, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن قتل النساء والصبيان" (4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقسم السبى كما يقسم المال.
وضرب لا يرق بنفس السبى: وهم الرجال البالغون، والإمام مخير فيهم بين: القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفدية بالمال أو الرجال، يفعل من ذلك ما فيه المصلحة.
قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (5).
وقد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجال بني قريظة، واسترق بني المصطلق، ومنّ على أبى العاص بن الربيع، وثمامة بن أثال، وفدى أسرى بدر بمال، وفدى رجلين منِ أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل. وقد قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (6).
__________
(1) الأنفال: 45.
(2) الأنفال: 15.
(3) متفق عليه: خ (2783/ 3/ 6)، م (1353/ 986/ 2) ت (1638/ 74/ 3)، د (2463/ 157/ 7).
(4) سبق قريبا.
(5) الأنفال 67.
(6) محمَّد 4.

(1/488)


السلب:
" ومن قتل قتيلًا فله سلبه" (1)، وهو ما عليه من ثياب وحلى وسلاح، وكذا دابته التي قتل عليها.

الغنائم:
وتقسم الغنائم بعد ذلك، فيعطى أربعة أخماسها لمن شهد الوقعة، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم:
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... } الآية (2).
وعن ابن عمر قال: "رأيت المغانم تجزء خمسة أجزاء ثم يسهم عليها، فما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو له يتخير".
وعنه أيضًا "أن رسول الله أسهم يوم خيبر، للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان، وللرجل سهم" (3).
وعن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهما" (4).
ولا يُسهم إلا لمن استُكملت فيه خمس شرائط: الإِسلام، والبلوغ، والعقل والحرية، والذكورة، فإن اختل شرط من ذلك رُضخ (5) له ولم يُسهم لأنه ليس ممن يجب عليه الجهاد.
__________
(1) متفق عليه: خ (3142/ 247/ 6)، م (1751/ 1370/ 3)، ت (1608/ 61/ 3) , د (2700/ 385/ 7).
(2) الأنفال 41.
(3) صحيح: [ص. جه 2303]، جه (2854/ 952/ 2) وهذا لفظه، وبنحوه من غير ذكر خيبر رواه خ (2863/ 67/ 6)، م (1762/ 1383/ 3)، د (2716/ 404/ 7).
(4) صحيح: [الإرواء 1227]، هق (293/ 6).
(5) الرضخ: العطية القليلة. انظر لسان العرب (19/ 3).

(1/489)


عن عُمير مولى آبى اللحم قال: "غزوت مع مولاى يوم خيبر، وأنا مملوك، فلم يقسم لي من الغنيمة، وأُعطيت من خُرثىّ المتاع، سيفا، وكنت أجرّه إذا تقلدته" (1).
وعن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويُحْذَيْنَ من الغنيمة، فأما بسهم فلم يضرب لهن" (2).

مصارف الخمس:
ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصرف بعده للمصالح، وسهم لذوى القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل:
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (3).

الفىء:
تعريفه:
الفىء: مأخوذ من قولهم: فاء، إذا رجع.
وشرعا: هو ما أخذ من الكفار من غير قتال، كالمال الذي تركوه فزعًا من المسلمين، والجزية والخراج، والأموال التي يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة.
__________
(1) حسن: [ص. جه 2304]، ت (1600/ 58/ 3)، د (2712/ 402/ 7)، جه (2855/ 952/ 2).
(2) صحيح: [مختصر م 1151]، م (1812/ 1444/ 3)، د (2711/ 399/ 7)، ت (1958/ 57/ 3). وقوله: (وَيْحْذَيْن) أي يعطَيْن الحِذْوة وهي العطية، وتسمى: الرضخ.
(3) الأنفال: 41.

(1/490)


عقد الذّمة:
الذمة: هى العهد والأمان:

وعقد الذمة: هو أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار على كفرهم بشرطين: أن يبذلوا الجزية، وأن يلتزموا أحكام الإِسلام في الجملة (1).
والأصل في هذا العقد قول الله سبحانه:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2).

موجب هذا العقد:
وإذا تم عقد الذمة ترتب عليه حرمة قتالهم، والحفاظ على أموالهم وصيانة أعراضهم وكفالة حريتهم، والكف عن أذاهم (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم" (4).

الأحكام التي تجرى على أهل الذمة:
تجرى عليهم أحكام الإِسلام في حقوق الآدميين، في العقود والمعاملات،
__________
(1) فقه السنة (64/ 3).
(2) التوبة 29.
(3) فقه السنة (65/ 3).
(4) سبق قريبا.

(1/491)


وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وتقام عليهم الحدود (1).
عن أنس: "أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين. قيل: من فعل هذا بك؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سُمى اليهودى، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودى فاعترف، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فرضّ رأسه بين حجرين" (2).
وعن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتى بيهودين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما" (3).

متى ينتقض العهد؟
ومن أبى من أهل الذمة بذل الجزية، أو أبى التزام أحكام الإِسلام فقد انتقض عهده, لأنه لم يف بشرط العهد.
وكذلك ينتقض العهد بالاعتداء على المسلمين، أو سبّ الله ورسوله.
عن عمر رضي الله عنه "أنه رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، فأمر به فصُلب في بيت المقدس" (4).
وعن عليّ رضي الله عنه: "أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها" (5).
__________
(1) منار السبيل (298/ 2).
(2) متفق عليه: خ (6876/ 198/ 12)، م (1672/ 1299/ 3)، نس (22/ 8)، د (4512/ 267/ 12)، ت (1413/ 426/ 2)، ورضَّ رأسه: دق رأسة
(3) صحيح: [الإرواء 1253].
(4) حسن: [الإرواء 1278]، ابن أبي شيبة (11/ 85/ 2)، هق (201/ 9).
(5) صحيح الإسناد: [الإرواء 91/ 5]، د (4340/ 17/ 12)، هق (200/ 9).

(1/492)


موجب النقض:
وإذا انتقض عهده كان حكمه حكم الأسير، فإن أسلم حرم قتله، وان لم يسلم فالإمام مخير فيه بين القتل، والمن، والفداء، كما سبق في حكم الأسرى.

ممن تؤخذ الجزية؟
عن نافع عن أسلم: "أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسى" (1).

قدرها:
عن معاذ رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله من المعافرة" (2).
وتجوز الزيادة لحديث أسلم: "أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام" (3).
ويُراعى الإِمام اليسر والعسر، لقول ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك من قبل اليسار" (4).
__________
(1) صحيح: [الإرواء 1255] , هق (195/ 9).
(2) صحيح: [الإرواء 1254]، د (3022/ 287/ 8).
(3) صحيح: [الإرواء 1261]، هق (195/ 9).
(4) صحيح: [الإرواء 1260]، خ (257/ 6) تعليقا.

(1/493)