بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

أَبْوَابُ الطِّبِّ

بَابُ إبَاحَةُ التَّدَاوِي وَتَرْكُهُ

4795- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4796- وَفِي لَفْظٍ: قَالَتْ الأعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ دَوَاءً إِلا دَاءً وَاحِدَا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4797- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

4798- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4799- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

4800- وَعَنْ أَبِي خِزَامَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا؟ قَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ

(2/578)


حَسَنٌ، وَلا يُعْرَفُ لأبِي خِزَامَةَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ.
4801- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرِقُّونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .

4802- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَك» . فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، وَقَالَتْ: إنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ كُلِّهَا إثْبَاتُ الأسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللهِ وَبِتَقْدِيرِهِ وَأَنَّهَا لا تَنْجَعُ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ فِيهَا، وَأَنَّ الدَّوَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ دَاءً إذَا قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ الإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ حَيْثُ قَالَ " بِإِذْنِ اللهِ " فَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَقْدِيرِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، وَالتَّدَاوِي لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ كَمَا لا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِالأكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ تَجَنُّبُ الْمُهْلِكَاتِ وَالدُّعَاءُ بِالْعَافِيَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ بِذِكْرِهِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا إذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِمَا لا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَدْحُ فِي تَرْكِ الرُّقَى الْمُرَادِ بِهَا الرُّقَى الَّتِي هِيَ مِنْ كَلامِ الْكُفَّارِ، وَالرُّقَى الْمَجْهُولَةِ وَاَلَّتِي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا لا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَهَذِهِ مَذْمُومَةٌ لاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَاهَا كُفْرٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الرُّقَى بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَبِالأذْكَارِ الْمَعْرُوفَةِ فَلا نَهْيَ فِيهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ إنِّي أُصْرَعُ) الصَّرَعُ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ - عِلَّةٌ تَمْنَعُ الأعْضَاءَ الرَّئِيسِيَّةَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ. وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظَةٌ تَنْحَبِسُ فِي مَنَافِذِ
الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الأعْضَاءِ. وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الأعْضَاءِ، وَيَقْذِفُ الْمَصْرُوعُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الصَّرَعُ مِنْ الْجِنِّ وَيَقَعُ مِنْ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، إمَّا لاسْتِحْسَانِ بَعْضِ الصُّوَرِ الإِنْسِيَّةِ، وَإِمَّا لإِيقَاعِ

(2/579)


الأذِيَّةِ بِهِ. وَالأوَّلُ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ جَمِيعُ الأطِبَّاءِ وَيَذْكُرُونَ عِلاجَهُ. وَالثَّانِي يَجْحَدُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَبَعْضُهُمْ يُثْبِتهُ، قَالَ بُقْرَاطُ بَعْدَ ذِكْرِ عِلاجِ الْمَصْرُوعِ: إنَّمَا يَنْفَعُ فِي الَّذِي سَبَبُهُ أَخْلاطٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنْ الأرْوَاحِ فَلا. انتهى.

بَاب مَا جَاءَ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ

4803- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْد الْجُعْفِيُّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، قَالَ: «إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4804- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُسْكِرِ: إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

4805- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ، يَعْنِي السُّمَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي أَبْوَالِ الإِبِلِ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلا يَرَوْنَ بِهَا بَأْسًا. رَوَاهُ ... الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهَا كَمَا يَحْرُمُ شُرْبُهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأمُورِ النَّجِسَةِ أَوْ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكَيِّ

4806- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

4807- وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحُلِهِ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.

(2/580)


4808- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ الشَّوْكَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

4809- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّلِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4810- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مَحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

4811- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَ وَلا أَنْجَحْنَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: فَمَا أَفْلَحْنَا، وَلا أَنْجَحْنَا.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا) اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ يُدَاوِي بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَقَدْ اتَّفَقَ الأطِبَّاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ التَّدَاوِي بِالأخَفِّ لا يُنْتَقَلُ إلَى مَا فَوْقَهُ، فَمَتَى أَمْكَنَ التَّدَاوِي
بِالْغِذَاءِ لا يُنْتَقَلُ إلَى الدَّوَاءِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لا يُعْدَلُ إلَى الْمُرَكَّبِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالدَّوَاءِ لا يُعْدَلُ إلَى الْحِجَامَةِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْحِجَامَةِ لا يُعْدَلُ إلَى قَطْعِ الْعِرْقِ.

قَوْلُهُ: (كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْكَيِّ، وَجَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ حَيْثُ يَقْدِرُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يُدَاوِيَ الْعِلَّةَ بِدَوَاءٍ آخَرَ لأنَّ الْكَيَّ فِيهِ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلأنَّ الْكَيَّ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ فَاحِشٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: (مِنْ الشَّوْكَةِ) ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ حُمْرَةٌ تَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ، فِي جِسْمِهِ شَوْكَةٌ. قَالَ فِي الْهَدْيِ: أَحَادِيثُ الْكَيِّ لا تَعَارُضَ فِيهَا بِحَمْدِ اللهِ فَإِنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَعَدَمِ مَحَبَّتِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَالثَّنَاءُ عَلَى تَارِكِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ دُونِ عِلَّةٍ أَوْ عَنْ النَّوْعِ الَّذِي يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى كَيٍّ. قَالَ الشَّارِح: وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الأحَادِيثِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الاكْتِوَاءُ ابْتِدَاءً قَبْلَ

(2/581)


حُدُوثِ الْعِلَّةِ كَمَا يَفْعَلُهُ الأعَاجِمُ، وَالْمُبَاحُ هُوَ الاكْتِوَاءُ بَعْدَ حُدُوثِ الْعِلَّةِ. انْتَهَى مَلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: «الشِّفَاء فِي ثلاث» . إلى آخره. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَدِيعِ الطِّبِّ عِنْدَ أَهْلِهِ لأنَّ الأمْرَاضَ الِامْتِلائِيَّةَ دَمَوِيَّةٌ أَوْ صَفْرَاوِيَّةٌ أَوْ سَوْدَاوِيَّةٌ أَوْ بَلْغَمِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ دَمَوِيَّةً فَشِفَاؤُهَا بِإخْرَاجُ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الثَّلاثَةِ الْبَاقِيَةِ فَشِفَاؤُهَا بِالإِسْهَالِ بِالْمُسَهِّلِ اللائِقِ بِكُلِّ خَلْطٍ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهِّلاتِ وَبِالْحِجَامَةِ عَلَى إخْرَاجِ الدَّمِ بِهَا وَبِالْفَصْدِ وَوَضْعِ الْعَلَقِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَذُكِرَ الْكَيُّ لأنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ نَفْعِ الأدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ وَنَحْوِهَا،
فَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ. وَالنَّهْيُ عَنْهُ إشَارَةٌ إلَى تَأْخِيرِ الْعِلاجِ بِالْكَيِّ حَتَّى يُضْطَرَّ إلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ الألَمِ الشَّدِيدِ فِي دَفْعِ أَلَمٍ قَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْ أَلَمِ الْكَيِّ.

قَوْلُهُ: (نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا) قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الْكَيُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِالابْتِلاءِ بِالأمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي لا يَنْجَعُ فِيهَا إِلا الْكَيُّ وَيُخَافُ الْهَلاكُ عِنْدَ تَرْكِهِ، أَلا تَرَاهُ كَوَى سَعْدًا لَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ مِنْ جُرْحِهِ، وَنَهَى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَنْ الْكَيِّ لأنَّهُ كَانَ بِهِ بَاسُورٌ وَكَانَ مَوْضِعُهُ خَطَرًا فَنَهَاهُ عَنْ كيه. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْكَيُّ جِنْسَانِ كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلا يَعْتَلَّ فَهَذَا الَّذِي قِيلَ فِيهِ لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اكْتَوَى لأنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ الْقَدَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي كَيُّ الْجُرْحِ إذَا لَمْ يَنْقَطِعْ دَمُهُ بِإِحْرَاقٍ وَلا غَيْرِهِ، وَالْعُضْوُ إذَا قُطِعَ فَفِي هَذَا الشِّفَاءُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَيُّ لِلتَّدَاوِي الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْجَحَ وَيَجُوزُ أَنْ لا يَنْجَحَ فَإِنَّهُ إلَى الْكَرَاهَةِ أَقْرَبُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحِجَامَةُ وَأَوْقَاتُهَا

4812- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَة بنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

4813- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَجِمُ فِي الأخْدَعَيْنِ

(2/582)


وَالْكَاهِلِ، وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

4814- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
4815- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

4816- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنََّّهُ كَانَ يَنْهَى أَهْلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَرْقَأُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

4817- وَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحِجَامَةُ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ دَوَاءٌ لِدَاءِ السَّنَةِ» . رَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَلِكَ.

4818- وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَدْ أُسْنِدَ وَلا يَصِحُّ.

وَكَرِهَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالأرْبِعَاءِ وَالثُّلاثَاءِ، إِلا إذَا كَانَ يَوْمُ الثُّلاثَاءِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فِي الأخْدَعِينَ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الأخْدَعَانِ: عِرْقَانِ فِي جَانِبَيْ الْعُنُقِ يُحْجَمُ مِنْهُ، وَالْكَاهِلُ: مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الظَّهْرِ. وَأََجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأطِبَّاءُ أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الشَّهْرِ أَنْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: أَوْقَاتُهَا فِي النَّهَارِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ أَوْ الثَّالِثَةُ، وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الشِّبَعِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: إنَّ الْمُخَاطَبَ بِأَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ غَيْرُ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ حَاجَتُهُ إلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/583)


بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ

4819- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

وَالتُّوَلَةُ: ضَرْبٌ مِنْ السِّحْرِ، قَالَ الأصْمَعِيُّ: هُوَ تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا.

4820- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَعَلَّقَ بِتَمِيمَةٍ فَلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلا وَدَعَ اللهُ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4821- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا أُبَالِي مَا رَكِبْتُ - أَوْ مَا أَتَيْتُ - إذَا أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا أَوْ عَلَّقْتُ تَمِيمَةً، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: هَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ قَوْمٌ، يَعْنِي التِّرْيَاقَ.

4822- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنَّمِلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

وَالنَّمِلَةُ: قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ.

4823- وَعَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمِلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.
4824- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

4825- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو ابْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ وَإِنَّك نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا أَرَى بَأْسًا، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(2/584)


4826- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لأنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «وَالتَّمَائِمُ» جَمْعُ تَمِيمَةٍ: وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلادِهِمْ يَمْنَعُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ فَأَبْطَلَهُ الإِسْلامُ.

قَوْلُهُ: «مَا أُبَالِي مَا رَكَبْتَ أَوْ مَا أَتَيْتَ إِذَا أَنَا شَرِبْتُ ترياقًا» إلى آخره أَيْ لا أَكْثَرْتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلا أَهْتَمُّ بِمَا فَعَلَتْهُ إنْ أَنَا فَعَلْتُ هَذِهِ الثَّلاثَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ: أَيْ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِمَا يَفْعَلُهُ وَلا يُبَالِي بِهِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلالٌ، وَهَذَا وَإِنْ أَضَافَه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى نَفْسِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ إعْلامُ غَيْرِهِ بِالْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: «تِرْيَاقًا» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مُخْتَلِطًا بِلُحُومِ الأفَاعِي يُطْرَحُ مِنْهَا رَأْسُهَا وَأَذْنَابُهَا وَيُسْتَعْمَلُ أَوْسَاطُهَا فِي التِّرْيَاقِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لأنَّهُ نَجَسٌ، وَإِنْ اتُّخِذَ التِّرْيَاقُ مِنْ أَشْيَاءَ طَاهِرَةٍ فَهُوَ طَاهِرٌ لا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ
فِيمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ لُحُومِ الأفَاعِي لأنَّهُ يَرَى إبَاحَةَ لُحُومِ الْحَيَّاتِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ التِّرْيَاقُ نَبَاتًا أَوْ حَجَرًا فَلا مَانِعَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: «أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رَقِيَّةُ النَّمْلَةُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: وَهِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مِنْ الْجَنْبِ أَوْ الْجَنْبَيْنِ، وَرُقْيَةُ النَّمِلَةِ كَلامٌ كَانَتْ نِسَاءُ الْعَرَبِ تَسْتَعْمِلُهُ يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ كَلامٌ لا يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ. وَرُقْيَةُ النَّمِلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ بَيْنَهُنَّ أَنْ يُقَالَ: الْعَرُوسِ تَحْتَفِلُ، وَتَخْتَضِبُ وَتَكْتَحِلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تفْتَعَلُ غَيْرُ أَنْ لا تَعْصِيَ الرَّجُلَ، فَأَرَادَ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْمَقَالِ تَأْنِيبَ حَفْصَةَ وَالتَّأْدِيبُ لَهَا تَعْرِيضًا لأنَّهُ أَلْقَى إلَيْهَا سِرًّا فَأَفْشَتْهُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} الآيَةَ.

قَوْلُهُ: «كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ «وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ» فَمَحْمُول عَلَى مَنْ يَخْشَى مَنْ تَعْلِيمهَا الْفَسَادَ.

قَوْلُهُ: «لا بَأْسَ بالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْك» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى وَالتَّطَبُّبِ بِمَا لا ضَرَرَ فِيهِ وَلا مَنْعَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللهِ

(2/585)


وَكَلامِهِ، لَكِنْ إذَا كَانَ مَفْهُومًا لأنَّ مَا لا يُفْهَمُ لا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ إذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الأبْرَارِ مِنْ الْخَلْقِ حَصَلَ الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالى.

بَابُ الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالِاسْتِغْسَالِ مِنْهَا

4827- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرنِي أَنْ أَسَتَرْقِي مِنْ الْعَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
4828- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمْ الْعَيْنُ أَفَنَسْتَرقِي لَهُمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَبَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4829- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4830- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُغْسَلُ مِنْهُ الْمَعِينُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

4831- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ وَسَارَ مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخِرَارِ مِنْ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ - وَهُوَ يَغْتَسِلُ - فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لَك فِي سَهْلٍ؟ وَاَللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ» ؟ قَالُوا: نَظَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلا إذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُك بَرَّكْتَ» . ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اغْتَسِلْ لَهُ» . فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ

(2/586)


وَرَاءَهُ فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» أَيْ شَيْءٌ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ بِذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ
بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِمَامِ مَنْعُ الْعَائِنِ إذَا عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَأَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(2/587)