حجة الله
البالغة (فضل الصَّلَاة)
قَوْله تَعَالَى:
{إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات}
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن صلى فِي الْجَمَاعَة بعد
الذَّنب: " فَإِن الله قد غفر لَك ذَنْبك " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَو أَن نَهرا بِبَاب أحدكُم يغْتَسل فِيهِ كل يَوْم خمْسا
هَل يبْقى من درنه شَيْء؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِك مثل الصَّلَوَات
الْخمس يمحوا الله بهَا الْخَطَايَا ". وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الصَّلَوَات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان
إِلَى رَمَضَان مكفرات لما بَينهُنَّ إِذا اجْتنب الْكَبَائِر ".
أَقُول: الصَّلَاة جَامِعَة للتنظيف والاخبات، مُقَدَّسَة للنَّفس إِلَى
عَالم الملكوت، وَمن خاصية النَّفس إِنَّهَا إِذا اتصفت بِصفة رفضت ضدها،
وَتَبَاعَدَتْ عَنهُ، وَصَارَ ذَلِك مِنْهَا كَأَن لم يكن شَيْئا
مَذْكُورا، فَمن أدّى الصَّلَوَات على وَجههَا، وَأحسن وضوءهن، وصلاهن
لوقتهن، وَأتم ركوعهن وخشوعهن وأذكارهن وهيآتهن، وَقصد بالأشباح أرواحها،
وبالصور مَعَانِيهَا، لَا بُد أَنه يَخُوض فِي لجة عَظِيمَة من الرَّحْمَة،
ويمحو الله عَنهُ الْخَطَايَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَين العَبْد وَبَين الْكفْر
ترك الصَّلَاة ". أَقُول. الصَّلَاة من أعظم شَعَائِر الْإِسْلَام وعلامته
الَّتِي إِذا فقدت يَنْبَغِي أَن يحكم بفقده لقُوَّة الملابسة بَينهَا
وَبَينه، وَأَيْضًا الصَّلَاة هِيَ المحققة لِمَعْنى إِسْلَام الْوَجْه
لله، وَمن لم يكن لَهُ حَظّ مِنْهَا فَإِنَّهُ لم يبؤ من الْإِسْلَام
إِلَّا بِمَا لَا يعبأ بِهِ.
(أَوْقَات الصَّلَاة)
لما كَانَت فَائِدَة الصَّلَاة وَهِي الْخَوْض فِي لجة الشُّهُود،
والانسلاك فِي سلك الْمَلَائِكَة لَا تحصل إِلَّا بمداومة عَلَيْهَا
وملازمة بهَا وإكثار مِنْهَا حَتَّى تطرح عَنْهُم أثقالهم، وَلَا يُمكن أَن
يؤمروا بِمَا يُفْضِي إِلَى ترك الارتفاقات الضرورية والانسلاخ عَن
أَحْكَام الطبيعة بالليلة - أوجبت الْحِكْمَة الإلهية أَن يؤمروا بالمحافظة
عَلَيْهَا والتعهد لَهَا بعد كل بُرْهَة من الزَّمَان، ليَكُون انتظارهم
للصَّلَاة وتهيؤهم لَهَا قبل أَن يفعلوها وَبَقِيَّة لَوْنهَا وصبابه نورها
بعد أَن يفعلوها فِي حكم الصَّلَاة، وَتَكون أَوْقَات الْغَفْلَة
مَضْمُونَة بطمح بصر إِلَى ذكر الله وَتعلق خاطر بِطَاعَة الله، فَيكون
حَال الْمُسلم كَحال حصان مربوط بآخية يستن شرفا أَو شرفين ثمَّ يرجع إِلَى
أخيته وَيكون ظلمَة الْخَطَايَا والغفلة لَا تدخل فِي جذر الْقلب، وَهَذَا
هُوَ الدَّوَام المتيسر عِنْدَمَا امْتنع الدَّوَام الْحَقِيقِيّ. ثمَّ لما
آل الْأَمر إِلَى تعْيين أَوْقَات الصَّلَاة لم يكن وَقت أَحَق بهَا من
السَّاعَات الْأَرْبَع الَّتِي تَنْتَشِر فِيهَا الروحانية، وتنزل
(1/317)
فِيهَا الْمَلَائِكَة، ويعرض فِيهَا على
الله أَعْمَالهم، ويستجاب دعاؤهم، وَهِي كالأمر الْمُسلم عِنْد جُمْهُور
أهل التلقي من الْمَلأ الْأَعْلَى، لَكِن وَقت نصف اللَّيْل لَا يُمكن
تَكْلِيف الْجُمْهُور بِهِ - كَمَا لَا يخفى - فَكَانَت أَوْقَات الصَّلَاة
فِي الأَصْل ثَلَاثَة: الْفجْر والعشى وغسق اللَّيْل، وَهُوَ قَوْله تبَارك
وَتَعَالَى:
{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن
قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا}
وَإِنَّمَا قَالَ: (إِلَى غسق اللَّيْل) لِأَن صَلَاة العشى ممتدة إِلَيْهِ
حكما - لعدم وجود الْفَصْل - وَلذَلِك جَازَ عِنْد الضَّرُورَة الْجمع بَين
الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء - فَهَذَا أصل.
وَلَا يجوز أَن يكون الْفَصْل بَين كل صَلَاتَيْنِ كثيرا جدا، فَيفوت معنى
الْمُحَافظَة، وينسى مَا كَسبه أول مرّة - وَلَا قَلِيلا جدا - فَلَا
يتفرغون لابتغاء معاشهم، وَلَا يجوز أَن يضْرب فِي ذَلِك إِلَّا حدا ظَاهرا
محسوسا يتبينه الْخَاصَّة والعامة، وَهُوَ كَثْرَة مَا للجزء الْمُسْتَعْمل
عِنْد الْعَرَب والعجم - فِي بَاب تَقْدِير الْأَوْقَات، وَلَيْسَت
بِالْكَثْرَةِ المفرطة - وَلَا يصلح لهَذَا إِلَّا ربع النَّهَار فَإِنَّهُ
ثَلَاث سَاعَات، وتجزئه اللَّيْل وَالنَّهَار إِلَى اثْنَتَيْ عشرَة سَاعَة
أمرأ جمع عَلَيْهِ أهل الأقاليم الصَّالِحَة، وَكَانَ أهل الزِّرَاعَة
وَالتِّجَارَة والصناعة وَغَيرهم يعتادون غَالِبا أَن يتفرغوا لأشغالهم من
البكرة إِلَى الهاجرة، فَإِنَّهُ وَقت ابْتِغَاء الرزق وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى:
{وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا}
وَقَوله تَعَالَى:
{لتبتغوا من فَضله}
واتصاف كثير من الأشغال ينجر إِلَى مُدَّة طَوِيلَة، وَيكون التهيؤ
للصَّلَاة والتفرغ لَهَا من النَّاس أجمعهم فِي أثْنَاء ذَلِك حرجا
عَظِيما، فَلذَلِك أسقط الشَّارِع الضُّحَى، وَرغب فِيهَا ترغيبا عَظِيما
من غير إِيجَاب، فَوَجَبَ أَن تشتق صَلَاة العشى إِلَى صَلَاتَيْنِ
بَينهمَا نَحْو ربع النَّهَار وهما الظّهْر وَالْعصر، وغسق اللَّيْل إِلَى
صَلَاتَيْنِ بَينهمَا نَحْو من ذَلِك وهما الْمغرب وَالْعشَاء، وَوَجَب
أَلا يرخص فِي الْجمع بَين كل من شقي الْوَقْتَيْنِ إِلَّا عِنْد ضَرُورَة
لَا يجد مِنْهَا بدا، وَإِلَّا لبطلت الْمصلحَة الْمُعْتَبرَة فِي تعْيين
الْأَوْقَات - وَهَذَا أصل آخر
وَكَانَ جُمْهُور أهل الأقاليم الصَّالِحَة والأمزجة المعتدلة الَّذين هم
المقصودون بِالذَّاتِ فِي الشَّرَائِع لَا يزالون متيقظين مترددين فِي
حوائجهم من وَقت الْأَسْفَار إِلَى غسق اللَّيْل، وَكَانَ أَحَق مَا يُؤدى
فِيهِ الصَّلَاة وَقت خلو النَّفس عَن ألوان الأشغال المعاشية المنسية ذكر
الله، ليصادف قلبا فَارغًا، فَتمكن مِنْهُ وَيكون أَشد تَأْثِيرا فِيهِ،
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
(1/318)
{وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر
كَانَ مشهودا}
وَوقت الشُّرُوع فِي النّوم ليَكُون كَفَّارَة لما مضى وتصقيلا للصدأ،
وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى الْعشَاء فِي
جمَاعَة كَانَ كقيام نصف اللَّيْل الأول، وَمن صلى الْعشَاء وَالْفَجْر فِي
جمَاعَة كَانَ كقيام ليله " وَوقت اشتغالهم كالضحى ليَكُون مهونا للانهماك
فِي الدُّنْيَا وترياقا لَهُ، غير أَن هَذَا لَا يجوز أَن يُخَاطب بِهِ
النَّاس جَمِيعًا لأَنهم حِينَئِذٍ بَين أَمريْن: إِمَّا أَن يتْركُوا
هَذَا أَو ذَاك - وَهَذَا أصل آخر.
وَأَيْضًا لَا أَحَق فِي بَاب تعْيين الْأَوْقَات من أَن يذهب إِلَى
الْمَأْثُور من سنَن الْأَنْبِيَاء المقربين من قبل، فَإِنَّهُ كالمنبه
للنَّفس على أَدَاء الطَّاعَة تَنْبِيها عَظِيما والمهيج لَهَا على
مُنَافَسَة الْقَوْم، والباعث على أَن يكون للصالحين فيهم ذكر جميل، وَهُوَ
قَول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: " هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك ".
لَا يُقَال ورد فِي حَدِيث معَاذ فِي الْعشَاء " وَلم يصلها أحد قبلكُمْ "
لِأَن الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة، فَقَالَ بَعضهم: أَن النَّاس صلوا ورقدوا،
وَقَالَ بَعضهم وَلَا يُصليهَا أحد إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَنَحْو ذَلِك،
فَالظَّاهِر أَنه من قبل الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَهَذَا أصل آخر.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي تعْيين الْأَوْقَات سر عميق من وُجُوه كَثِيرَة،
فتمثل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَصلى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعلمه الْأَوْقَات، وَلما ذكرنَا طهر وَجه
مَشْرُوعِيَّة الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي الْجُمْلَة، وَسبب وجود
التَّهَجُّد وَالضُّحَى على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والأنبياء على مَا ذكرُوا وَكَونهَا نَافِلَة للنَّاس وَسبب تَأْكِيد
أَدَاء الصَّلَوَات على أَوْقَاتهَا، وَالله أعلم.
وَلما كَانَ فِي التَّكْلِيف بِأَن يُصَلِّي جَمِيع النَّاس فِي سَاعَة
وَاحِدَة بِعَينهَا لَا يتقدمون، وَلَا يتأخرون غَايَة الْحَرج - وسع فِي
الْأَوْقَات توسعه مَا.
وَلما كَانَ لَا يصلح للتشريع إِلَّا المظنات الظَّاهِرَة عِنْد الْعَرَب
غير الْخَفِيفَة على الأداني والأقاصي - جعل لأوائل الْأَوْقَات وأواخرها
حدودا مضبوطة محسوسة.
ولتزاحم هَذِه الْأَسْبَاب حصل للصلوات أَرْبَعَة أَوْقَات: وَقت
الِاخْتِيَار وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يجوز أَن يُصَلِّي فِيهِ من غير
كراهيه، والعمدة فِيهِ حديثان حَدِيث جِبْرِيل فَإِنَّهُ صلى بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ، وَحَدِيث بُرَيْدَة فَفِيهِ
أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجَاب السَّائِل عَنْهَا بِأَن صلى
يَوْمَيْنِ، والمفسر مِنْهُمَا قَاض على الْمُبْهم، وَمَا اخْتلف يتبع فِي
حَدِيث بُرَيْدَة لِأَنَّهُ مدنِي مُتَأَخّر، وَالْأول مكي مُتَقَدم،
وَإِنَّمَا يتبع الآخر فالآخر وَذَلِكَ أَن آخر وَقت الْمغرب هُوَ مَا قبل
أَن يغيب الشَّفق،
(1/319)
وَلَا يبعد أَن يكون جبر يل أخر الْمغرب
فِي الْيَوْم الثَّانِي قَلِيلا جدا لقصر وقته فَقَالَ الرَّاوِي: صلى
الْمغرب فِي يَوْمَيْنِ فِي وَقت وَاحِد إِمَّا لخطأ فِي اجْتِهَاده أَو
بَيَانا لغاية الْقلَّة وَالله أعلم.
وَكثير من الْأَحَادِيث يدل على أَن آخر وَقت الْعَصْر أَن تَتَغَيَّر
الشَّمْس، وَهُوَ الَّذِي أطبق عَلَيْهِ الْفُقَهَاء، فَلَعَلَّ المثلين
بَيَان لآخر الْوَقْت الْمُخْتَار، وَالَّذِي يسْتَحبّ فِيهِ، أَو نقُول:
لَعَلَّ الشَّرْع نظر أَولا إِلَى أَن الْمَقْصُود من اشتقاق الْعَصْر أَن
يكون الْفَصْل بَين كل صَلَاتَيْنِ نَحوا من ربع النَّهَار، فَجعل الأمد
الآخر بُلُوغ الظل إِلَى المثلين، ثمَّ ظهر من حوائجهم وأشغالهم مَا يُوجب
الحكم بِزِيَادَة الأمد، وَأَيْضًا معرفَة ذَلِك الْحَد تحْتَاج إِلَى ضرب
من التَّأَمُّل وَحفظ للفيء الْأَصْلِيّ ورصد، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن
يُخَاطب النَّاس فِي مثل ذَلِك بِمَا هُوَ محسوس ظَاهر، فنفث الله فِي روعه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَجْعَل الأمد تغير قرص الشَّمْس أَو
ضوئها، وَالله أعلم.
وَوقت الِاسْتِحْبَاب الَّذِي يسْتَحبّ أَن يُصَلِّي فِيهِ وَهُوَ أَوَائِل
الْأَوْقَات إِلَّا الْعشَاء فالمستحب الْأَصْلِيّ تَأْخِيرهَا لما ذكرنَا
من الْوَضع الطبيعي، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم أَن يؤخروا الْعشَاء " وَلِأَنَّهُ
أَنْفَع فِي تصفية الْبَاطِن من الأشغال المنسية ذكر الله وأقطع لمادة
السمر بعد الْعشَاء لَكِن التَّأْخِير رُبمَا يُفْضِي إِلَى تقليل
الْجَمَاعَة وتنفير الْقَوْم. وَفِيه قلب الْمَوْضُوع.
فَلهَذَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا كثر النَّاس
عجل، وَإِذا قلوا أخر - وَالْأَظْهَر الصَّيف - وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالظّهْرِ فان شدَّة
الْحر من فيح جَهَنَّم " أَقُول: مَعْنَاهُ مَعْدن الْجنَّة وَالنَّار هُوَ
مَعْدن مَا يفاض فِي هَذَا الْعَالم من الكيفيات الْمُنَاسبَة والمنافرة
وَهُوَ تَأْوِيل مَا ورد فِي الْأَخْبَار فِي الهندبا وَغَيره.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أسفروا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ
أعظم لِلْأجرِ " أَقُول: هَذَا الْخطاب لقوم خَشوا تقليل الْجَمَاعَة جدا
أَن ينتظروا إِلَى الْأَسْفَار أَو لأهل الْمَسَاجِد الْكَبِيرَة الَّتِي
تجمع الضُّعَفَاء وَالصبيان وَغَيرهم كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَيّكُم صلى بِالنَّاسِ فليخفف فَإِنَّهُ فيهم الضَّعِيف "
الحَدِيث أَو مَعْنَاهُ طولوا الصَّلَاة حَتَّى يَقع آخرهَا فِي وَقت
الْأَسْفَار لحَدِيث أبي بَرزَة كَانَ يَنْفَتِل فِي صَلَاة الْغَدَاة حِين
يعرف الرجل
(1/320)
جليسه، وَيقْرَأ بالستين إِلَى الْمِائَة
فَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين حَدِيث الْغَلَس.
وَوقت الضَّرُورَة وَهُوَ مَا لَا يجوز التَّأْخِير إِلَيْهِ إِلَّا
بِعُذْر. وَهُوَ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدْرك رَكْعَة من الصُّبْح قبل أَن
تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن
تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. " تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق يرقب الشَّمْس حَتَّى إِذا اصغرت "
الحَدِيث وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر
وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء والعذر مثل السّفر وَالْمَرَض والمطر وَفِي
الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر، وَالله أعلم
وَوقت الْقَضَاء إِذا ذكر، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من نسي صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ".
أَقُول: وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَلا تسترسل النَّفس بِتَرْكِهَا، وَأَن
يدْرك مَا فَاتَهُ من فَائِدَة تِلْكَ الصَّلَاة، وَألْحق الْقَوْم التفويت
بالفوت نظرا إِلَى أَنه أَحَق بِالْكَفَّارَةِ.
ووصى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا ذَر إِذا كَانَ عَلَيْهِ
أُمَرَاء يميتون الصَّلَاة " صل الصَّلَاة لوَقْتهَا، فَإِن أدركتها مَعَهم
فصلها فَإِنَّهَا لَك نَافِلَة ".
أَقُول: راعي فِي الصَّلَاة اعتبارين اعْتِبَار كَونهَا وَسِيلَة بَينه
وَبَين الله، وَكَونهَا من شَعَائِر الله يلام على تَركهَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا لم
يؤخروا الْمغرب إِلَى أَن تشتبك النُّجُوم أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى
أَن التهاون فِي الْحُدُود الشَّرْعِيَّة سَبَب تَحْرِيف الْملَّة.
قَالَ الله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى}
وَالْمرَاد بهَا الْعَصْر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى البردين دخل الْجنَّة ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك صَلَاة الْعَصْر حَبط
عمله ".
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر
فَكَأَنَّمَا وتر أَهله وَمَاله " قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْفجْر وَالْعشَاء، وَلَو
يعلمُونَ مَا فيهمَا لأتوهما وَلَو حبوا " أَقُول: إِنَّمَا خص هَذِه
الصَّلَوَات الثَّلَاث بِزِيَادَة الاهتمام ترغيبا وترهيبا لِأَنَّهَا
مَظَنَّة
(1/321)
التهاون والتكاسل لِأَن الْفجْر وَالْعشَاء
وَقت النّوم لَا ينتهض لله من بَين فرَاشه ووطائه عِنْد لذيذ نَومه ووسنه
إِلَّا مُؤمن تَقِيّ، وَأما وَقت الْعَصْر فَكَانَ وَقت قيام أسواقهم
واشغالهم بالبيوع وَأهل الزِّرَاعَة أتعب حَالهم هَذِه
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب على
اسْم صَلَاتكُمْ الْمغرب " وَفِي حَدِيث آخر: " على اسْم صَلَاة الْعشَاء "
أَقُول: يكره تَسْمِيَة مَا ورد فِي الْكتاب وَالسّنة مُسَمّى شَيْء اسْما
آخر بِحَيْثُ يكون ذَرِيعَة لهجر الِاسْم الأول لِأَن ذَلِك دَلِيل يلبس
على النَّاس دينهم ويعجم عَلَيْهِم كِتَابهمْ
(الْأَذَان)
لما علمت الصَّحَابَة أَن الْجَمَاعَة مَطْلُوبَة مُؤَكدَة، وَلَا
يَتَيَسَّر الِاجْتِمَاع فِي زمَان وَاحِد وَمَكَان وَاحِد بِدُونِ
إِعْلَام وتنبيه، تكلمُوا فِيمَا يحصل بِهِ الْأَعْلَام، فَذكرُوا النَّار
فَردهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمشابهة الْمَجُوس، - وَذكروا
الْقرن -، فَرده لمشابهة الْيَهُود - وَذكروا الناقوس، - فَرده لمشابهة
النَّصَارَى، فَرَجَعُوا من غير تعْيين، فَأرى عبد الله بن زيد - الْأَذَان
وَالْإِقَامَة فِي مَنَامه، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ:
" رُؤْيا حق ". .، وَهَذِه الْقِصَّة دَلِيل وَاضح على أَن الْأَحْكَام
إِنَّمَا شرعت لأجل الْمصَالح، وَأَن للِاجْتِهَاد فِيهَا مدخلًا، وَأَن
التَّيْسِير أصل أصيل، وَأَن مُخَالفَة أَقوام تَمَادَوْا فِي ضلالتهم
فِيمَا يكون من شَعَائِر الدّين مَطْلُوب، وَأَن غير النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يطلع بالمنام أَو النفث فِي الروع على مُرَاد الْحق،
لَكِن لَا يُكَلف النَّاس بِهِ وَلَا تَنْقَطِع الشُّبْهَة حَتَّى يقرره
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقتضت الْحِكْمَة الإلهية
إِلَّا يكون الْأَذَان صرف إِعْلَام وتنبيه، بل يضم مَعَ ذَلِك من شَعَائِر
الدّين بِحَيْثُ يكون النداء بِهِ على رُءُوس الخامل والنبيه تنويها
بِالدّينِ، وَيكون قبُوله من الْقَوْم آيَة انقيادهم لدين الله، فَوَجَبَ
أَن يكون مركبا من ذكر الله وَمن الشَّهَادَتَيْنِ والدعوة إِلَى الصَّلَاة
ليَكُون مُصَرحًا بِمَا أُرِيد بِهِ.
وللأذان طرق: أَصَحهَا طَرِيقه بِلَال رَضِي الله عَنهُ، فَكَانَ الْأَذَان
على عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّتَيْنِ
مرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَة مرّة مرّة غير أَنه كَانَ يَقُول: قد قَامَت
الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة.
(1/322)
ثمَّ طَريقَة أبي مجذوره علمه النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَان تسع عشره كلمة وَالْإِقَامَة
سبع عشر كلمة، وَعِنْدِي أَنَّهَا كأحرف الْقُرْآن، كلهَا شاف كَاف.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِن كَانَ صَلَاة الصُّبْح
قلت: الصَّلَاة خير من النّوم الصَّلَاة خير من النّوم. أَقُول لما كَانَ
الْوَقْت وَقت نوم وغفلة، وَكَانَت الْحَاجة إِلَى التَّنْبِيه الْقوي
شَدِيدَة اسْتحبَّ زِيَادَة هَذَا اللَّفْظَة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أذن فَهُوَ يُقيم " أَقُول:
سره أَنه لما شرع فِي الْأَذَان وَجب على إخوانه أَلا يزاحموه فِيمَا
أَرَادَ من الْمَنَافِع الْمُبَاحَة
بِمَنْزِلَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يخْطب الرجل
على خطْبَة أَخِيه ".
وفضائل الْأَذَان ترجع إِلَى أَنه من شَعَائِر الْإِسْلَام، وَبِه تصير
الدَّار دَار الْإِسْلَام، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِن سمع الْأذن أمسك، وَإِلَّا أغار، وَأَنه شُعْبَة من شعب
النُّبُوَّة لِأَنَّهُ حث على أعظم الْأَركان وَأم القربات، وَلَا يرضى
الله وَلَا يغْضب الشَّيْطَان مثل مَا يكون فِي الْخَيْر المتعدى، وإعلاء
كلمة الْحق،
(1/323)
وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " فَقِيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد " وَقَوله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا نودى للصَّلَاة أدبر الشَّيْطَان
لَهُ ضراط ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المؤذنون أطول النَّاس أعناقا "
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مدى
صَوته، وَيشْهد لَهُ الْجِنّ وَالْإِنْس " أَقُول. أَمر المجازاة مَبْنِيّ
على مُنَاسبَة الْمعَانِي بالصور وعلاقة الْأَرْوَاح وبالأشباح، فَوَجَبَ
أَن يظْهر نباهة شَأْن الْمُؤَذّن من جِهَة عُنُقه وصوته، وتتسع رَحْمَة
الله عَلَيْهِ أتساع دَعوته إِلَى الْحق.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أذن سبع سِنِين محتسبا كتبت
لَهُ بَرَاءَة من النَّار وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبين صِحَة تَصْدِيقه لَا
تتَصَوَّر الْمُوَاظبَة عَلَيْهِ لله إِلَّا مِمَّن أسلم وَجهه لله،
وَلِأَنَّهُ أمكن من نَفسه غاشية عَظِيمَة من الرَّحْمَة الإلهية.
قَول الله فِي رَاعى غنم فِي رَأس شظية " انْظُرُوا إِلَى عَبدِي هَذَا
يُؤذن، وَيُقِيم الصَّلَاة يخَاف مني، قد غفرت لَهُ وأدخلته الْجنَّة "
قَوْله: " يخَاف مني " دَلِيل على أَن الْأَعْمَال تعْتَبر بدواعيها
المنبعثة هِيَ مِنْهَا، وَأَن الْأَعْمَال أشباح، وَتلك الدَّوَاعِي
أَرْوَاح لَهَا، فَكَانَ خَوفه من الله وإخلاصه لَهُ سَبَب مغفرته.
وَلما كَانَ الْأَذَان من شَعَائِر الدّين جعل ليعرف بِهِ قبُول الْقَوْم
للهداية
(1/324)
الإلهية أَمر بالإجابة لتَكون مصرحة بِمَا
أُرِيد مِنْهُم، فيجيب الذّكر والشهادتين بهما، ويجيب الدعْوَة بِمَا فِيهِ
تَوْحِيد فِي الْحول وَالْقُوَّة دفعا لما عَسى أَن يتَوَهَّم عِنْد إقدامه
على الطَّاعَة من الْعجب من فعل ذَلِك خَالِصا من قلبه دخل الْجنَّة
لِأَنَّهُ شبح الانقياد وَإِسْلَام الْوَجْه لله، وَأمر بِالدُّعَاءِ
للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكميلا لِمَعْنى قبُول دينه
وَاخْتِيَار حبه.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يرد الدُّعَاء بَين
الْأَذَان وَالْإِقَامَة " أَقُول: ذَلِك لشمُول الرَّحْمَة الإلهية
وَوُجُود الإنقياد من الدَّاعِي.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل،
فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم " أَقُول: يسْتَحبّ
للْإِمَام إِذا رأى الْحَاجة أَن يتَّخذ مؤذنين يعْرفُونَ أصواتهما، وَيبين
للنَّاس أَن فلَانا يُنَادي بلَيْل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي
فلَان، ليَكُون الأول مِنْهُمَا للقائم والمتسحر أَن يرجعا، وللنائم أَن
يقوم إِلَى صلَاته، ويتدارك مَا فَاتَهُ من سحوره.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا
تأتوها تسعون، وأتوها تمشون " أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى رد التعمق فِي
التنسك.
(الْمَسَاجِد)
فضل بِنَاء الْمَسْجِد وملازمته وانتظار الصَّلَاة فِيهِ ترجع إِلَى أَنه
من شَعَائِر الْإِسْلَام، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا رَأَيْتُمْ مَسْجِدا، أَو سَمِعْتُمْ مُؤذنًا، فَلَا تقتلُوا أحدا
"، وَأَنه مَحل الصَّلَاة معتكف العابدين ومطرح الرَّحْمَة وَيُشبه
الْكَعْبَة من وَجه، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من
خرج من بَيته متطهرا إِلَى صَلَاة مَكْتُوبَة فَأَجره كَأَجر الْحَاج
الْمحرم، وَمن خرج إِلَى تَسْبِيح الضُّحَى لَا ينصبه إِلَّا إِيَّاه
فَأَجره كَأَجر الْمُعْتَمِر " وَقَوله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا مررتم برياض الْجنَّة فارتعوا
قيل: وَمَا رياض الْجنَّة؟ قَالَ: الْمَسَاجِد ".
وَإِن التَّوَجُّه إِلَيْهِ فِي أَوْقَات الصَّلَاة من بَين شغله وَأَهله
لَا يقْصد إِلَّا الصَّلَاة - معرف لإخلاصه فِي دينه وانقياده لرَبه من جذر
قلبه، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ " إِذا تَوَضَّأ
فَأحْسن الْوضُوء، ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد لَا يُخرجهُ إِلَّا الصَّلَاة
لم يخط خطْوَة إِلَّا رفعت لَهُ بهَا دَرَجَة، وَحط عَنهُ بهَا خَطِيئَة،
فَإِذا صلى لم تزل الْمَلَائِكَة تصلى عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ،
اللَّهُمَّ صل عَلَيْهِ اللَّهُمَّ أرحمه، وَلَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة
مَا انْتظر الصَّلَاة " وَإِن بناءه إِعَانَة لَا عَلَاء كلمة الْحق.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من غَدا إِلَى الْمَسْجِد أَو
رَاح أعد الله لَهُ نزلة من الْجنَّة كلما غَدا أَو رَاح " أَقُول: هَذَا
إِشَارَة إِلَى غدْوَة وروحة تمكن من انقياد البهيمية للملكية.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله
لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " أَقُول سره أَن المجازاة تكون بصوره الْعَمَل،
وَإِنَّمَا انْقَضى ثَوَاب الِانْتِظَار بِالْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يبْقى
متهيئا للصَّلَاة وَإِنَّمَا فضل مَسْجِد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِد الْحَرَام بمضاعفة الْأجر لمعان:
مِنْهَا أَن هُنَالك مَلَائِكَة موكلة بِتِلْكَ الْمَوَاضِع يحفونَ
بِأَهْلِهَا، وَيدعونَ لمن حلهَا
وَمِنْهَا أَن عمَارَة تِلْكَ الْمَوَاضِع فِي تَعْظِيم شَعَائِر الله
وإعلاء كلمة الله.
وَمِنْهَا أَن الْحُلُول بهَا مُذَكّر لحَال أثمة الْملَّة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى
ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى، ومسجدي
هَذَا " أَقُول: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقصدون مَوَاضِع معظمة بزعمهم
يزورونها، ويتبركون بهَا، وَفِيه من التحريف وَالْفساد مَا لَا يخفى، فسد
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفساد لِئَلَّا يلْتَحق غير
الشعائر بالشعائر، وَلِئَلَّا يصير ذَرِيعَة لعبادة غير الله، وَالْحق
عِنْدِي أَن الْقَبْر وَمحل عبَادَة ولي من أَوْلِيَاء الله وَالطور كل
ذَلِك سَوَاء فِي النَّهْي وَالله أعلم
وآداب الْمَسْجِد ترجع إِلَى معَان.
مِنْهَا تَعْظِيم الْمَسْجِد ومؤاخذة نَفسه أَن يجمع الخاطر وَلَا يسترسل
عِنْد دُخُوله، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا دخل
أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس ".
وَمِنْهَا تنظيفه مِمَّا يتقذر ويتنفر مِنْهُ - وَهُوَ قَول الرَّاوِي -
أَمر يعْنى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاء الْمَسْجِد،
وَأَن ينظف ويطيب، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عرضت عَليّ
أجور أمتِي حَتَّى القذاة يُخرجهَا الرجل من الْمَسْجِد "، وَقَوله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " البزاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة وكفارتها
دَفنهَا ".
(1/325)
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن تشويش الْعباد
وهيشات الْأَسْوَاق وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمسك
بنصالها ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سمع رجلا ينشد ضَالَّة فِي
الْمَسْجِد فَلْيقل لَا ردهَا الله إِلَيْك فان الْمَسَاجِد لم تبن لهَذَا
" قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا رَأَيْتُمْ من
يَبِيع أَو يبْتَاع فِي الْمَسْجِد فَقولُوا لَا أربح الله تجارتك " وَنهى
عَن تناشد الْأَشْعَار فِي الْمَسْجِد، وَأَن يستقاد فِي الْمَسْجِد، وَأَن
تُقَام فِيهِ الْحُدُود.
أَقُول أما نَشد الضَّالة أَي رفع الصَّوْت بطلبها فَلِأَنَّهُ صخب ولغط
يشوش على الْمُصَلِّين والمعتكفين، وَيسْتَحب أَن يُنكر عَلَيْهِ
بِالدُّعَاءِ بِخِلَاف مَا يَطْلُبهُ إرغاما لَهُ، وَعلله النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَن الْمَسَاجِد لم تبن لهَذَا أَي إِنَّمَا
بنيت للذّكر وَالصَّلَاة، وَأما الشِّرَاء وَالْبيع فلئلا يصير الْمَسْجِد
سوقا يتعامل فِيهِ النَّاس، فتذهب حرمته وَيحصل التشويش على الْمُصَلِّين
والمعتكفين، وَأما تناشد الْأَشْعَار - فَلَمَّا ذكرنَا - وَلِأَن فِيهِ
إعْرَاضًا عَن الذّكر وحثا على الْأَعْرَاض عَنهُ، وَأما الْقود
وَالْحُدُود فَلِأَنَّهَا مَظَنَّة للألواث والجزع والبكاء والصخب والتشويش
على أهل الْمَسْجِد، ويخص من الْأَشْعَار مَا كَانَ فِيهِ الذّكر ومدح
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيظ الْكفَّار لِأَنَّهُ غَرَض
شَرْعِي، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان: "
اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَا أحل الْمَسْجِد
لحائض وَلَا جنب ".
أَقُول السَّبَب فِي ذَلِك تَعْظِيم الْمَسْجِد فَإِن أعظم التَّعْظِيم
أَلا يقربهُ إِنْسَان إِلَّا بِطَهَارَة، وَكَانَ فِي منع دُخُول الْمُحدث
حرج عَظِيم، وَلَا حرج فِي الْجنب وَالْحَائِض، ولانهما أبعد النَّاس عَن
الصَّلَاة، وَالْمَسْجِد إِنَّمَا بنى لَهَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أكل هَذِه الشَّجَرَة
المنتنة، فَلَا يقربن مَسْجِدنَا فَإِن الْمَلَائِكَة تتأذى مِمَّا
يتَأَذَّى مِنْهُ الْأنس ".
أَقُول هِيَ البصل أَو الثوم، وَفِي مَعْنَاهُ كل منتن، وَمعنى تتأذى تكره
وتتنفر لِأَنَّهَا تحب محَاسِن الْأَخْلَاق والطيبات، وَتكره أضدادها.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد
فَلْيقل اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أَبْوَاب رحمتك، فَإِذا خرج فَلْيقل
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من فضلك ".
أَقُول الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الدَّاخِل بِالرَّحْمَةِ وَالْخَارِج
بِالْفَضْلِ أَن الرَّحْمَة فِي كتاب
(1/326)
الله أُرِيد بهَا النعم النفسانية
والاخروية كالولاية والنبوة قَالَ تَعَالَى:
{وَرَحْمَة رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ} .
وَالْفضل على النعم الدُّنْيَوِيَّة قَالَ تَعَالَى:
{لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم}
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض
وابتغوا من فضل الله} .
وَمن دخل الْمَسْجِد إِنَّمَا يطْلب الْقرب من الله، وَالْخُرُوج وَقت
ابْتِغَاء الرزق.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد
فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس ".
أَقُول إِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن ترك الصَّلَاة إِذا دخل بِالْمَكَانِ
الْمعد لَهَا ترة وحسرة، وَفِيه ضبط الرَّغْبَة فِي الصَّلَاة بِأَمْر
محسوس، وَفِيه تَعْظِيم الْمَسْجِد.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَرْض كلهَا مَسْجِد
إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام ".
وَنهى أَن يُصَلِّي فِي سَبْعَة مَوَاطِن فِي المزبلة والمقبرة، والمجزرة،
وقارعة الطَّرِيق، وَفِي الْحمام وَفِي معاطن الْإِبِل، وَفَوق ظهر بَيت
الله، وَنهى عَن الصَّلَاة فِي أَرض بابل فانها ملعونة.
وَأَقُول الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن المزبلة والمجزرة أَنَّهُمَا موضعا
النَّجَاسَة، وَالْمُنَاسِب للصَّلَاة هُوَ التطهر والتنظيف، وَفِي
الْمقْبرَة الِاحْتِرَاز عَن أَن تتَّخذ قُبُور الْأَحْبَار والرهبان
مَسَاجِد بِأَن يسْجد لَهَا كالأوثان، وَهُوَ الشّرك الْجَلِيّ، أَو
يتَقرَّب إِلَى الله بِالصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْمَقَابِر، وَهُوَ الشّرك
وَهَذَا مَفْهُوم قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن الله
الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد "
وَنَظِيره نَهْيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الصَّلَاة وَقت
الطُّلُوع والاستواء والغروب لِأَن الْكفَّار يَسْجُدُونَ للشمس حِينَئِذٍ،
وَفِي الْحمام أَنه مَحل انكشاف العورات ومظنة الازدحام، فيشغله ذَلِك عَن
الْمُنَاجَاة بِحُضُور الْقلب، وَفِي معاطن الْإِبِل أَن الْإِبِل لعظم
جثتها وَشدَّة بطشها وَكَثْرَة جراءتها كَادَت تؤذي الْإِنْسَان، فيشغله
ذَلِك عَن الْحُضُور بِخِلَاف الْغنم، وَفِي قَارِعَة الطَّرِيق، اشْتِغَال
الْقلب بالمارين وتضييق الطَّرِيق عَلَيْهِم، وَلِأَنَّهَا ممر السبَاع
كَمَا ورد صَرِيحًا فِي النَّهْي عَن النُّزُول فِيهَا، وَفَوق بَيت الله
أَن الترقي على سطح الْبَيْت من غير حَاجَة ضَرُورِيَّة مَكْرُوه هاتك
لِحُرْمَتِهِ، وللشك فِي الِاسْتِقْبَال حالتئذ، وَفِي الأَرْض الملعونة
بِنَحْوِ خسف أَو مطر الْحِجَارَة إهانتها والبعد عَن مظان الْغَضَب
هَيْبَة مِنْهُ وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَا
تدخلوه إِلَّا بَاكِينَ ".
(1/327)
|