حجة الله البالغة

 (ثِيَاب الْمُصَلِّي)
اعْلَم أَن لبس الثِّيَاب مِمَّا امتاز بِهِ الْإِنْسَان عَن سَائِر الْبَهَائِم، وَهُوَ أحسن حالات الْإِنْسَان، وَفِيه شُعْبَة من معنى الطَّهَارَة، وَفِيه تَعْظِيم الصَّلَاة وَتَحْقِيق
أدب الْمُنَاجَاة بَين يَدي رب الْعَالمين، وَهُوَ وَاجِب أُصَلِّي جعل شرطا فِي الصَّلَاة لتكميله مَعْنَاهَا، وَجعله الشَّارِع على حَدَّيْنِ.
حد لَا بُد مِنْهُ وَهُوَ شَرط صِحَة الصَّلَاة، وحد هُوَ مَنْدُوب إِلَيْهِ فَالْأول مِنْهُ السوأتان وَهُوَ آكدهما، وَألْحق بهما الفخذان، وَفِي الْمَرْأَة سَائِر بدنهَا، لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار " يَعْنِي الْبَالِغَة لِأَن الْفَخْذ مَحل الشَّهْوَة، وَكَذَا بدن الْمَرْأَة فَكَانَ حكمهَا حكم السوأتين.
وَالثَّانِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء، وَقَالَ: " إِذا كَانَ وَاسِعًا فَخَالف بَين طَرفَيْهِ " والسر فِيهِ أَن الْعَرَب والعجم وَسَائِر أهل الأمزجة المعتدلة إِنَّمَا تَمام هيئتهم وَكَمَال زيهم على اخْتِلَاف أوضاعهم فِي لِبَاس القباء والقميص والحلة وَغَيرهَا أَن يستر العاتقان وَالظّهْر، وَسُئِلَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد فَقَالَ أَو لكلهم ثَوْبَان، ثمَّ سُئِلَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِذا وسع الله فوسعوا جمع رجل الخ.
أَقُول: الظَّاهِر أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَن الْحَد الأول وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ بَيَان للحد الثَّانِي وَيحْتَمل أَن يكون السُّؤَال فِي الثَّانِي الَّذِي هُوَ مَنْدُوب، فَلم يَأْمر بثوبين لِأَن جَرَيَان التشريع وَلَو بِالْحَدِّ الثَّانِي بِاشْتِرَاط الثَّوْبَيْنِ حرج، وَلَعَلَّ من لَا يجد ثَوْبَيْنِ يجد فِي نَفسه، فَلَا تكمل صلَاته لما يجد فِي نَفسه من التَّقْصِير، وَعرف عمر رَضِي الله عَنهُ أَن وَقت التشريع انْقَضى، وَمضى، وَكَانَ قد عرف اسْتِحْبَاب إِكْمَال الزي فِي الصَّلَاة، فَحكم على حسب ذَلِك، وَالله أعلم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يُصَلِّي وَرَأسه معقوص من وَرَائه: " إِنَّمَا مثل هَذَا مثل الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مكتوف ".
أَقُول: نبه على أَن سَبَب الْكَرَاهِيَة الْإِخْلَال بالتجمل وَتَمام الْهَيْئَة وزي الْأَدَب.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خميصة لَهَا أَعْلَام: إِنَّهَا ألهتنى آنِفا عَن صَلَاتي " وَفِي قرام عَائِشَة أميطي عَنَّا قرامك هَذَا فَإِنَّهُ لَا يزَال تصاويره تعرض فِي صَلَاتي، وَفِي فروج الْحَرِير لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتقين.

(1/328)


أَقُول: يَنْبَغِي للْمُصَلِّي أَن يدْفع عَن نَفسه كلما يلهيه عَن الصَّلَاة لحسن هَيئته أَو لعجب النَّفس بِهِ تكميلا لما قصد لَهُ الصَّلَاة.
وَكَانَ الْيَهُود يكْرهُونَ الصَّلَاة فِي نعَالهمْ وخفافهم لما فِيهِ من ترك التَّعْظِيم فَإِن النَّاس يخلعون النِّعَال بِحَضْرَة الكبراء، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فاخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى}
وَكَانَ هُنَا وَجه آخر وَهُوَ أَن الْخُف والنعل تَمام زِيّ الرجل، فَترك النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقيَاس الأول، وأيد الثَّانِي مُخَالفَة للْيَهُود، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خالفوا الْيَهُود فَإِنَّهُم لَا يصلونَ فِي نعَالهمْ وخفافهم " فَالصَّحِيح أَن الصَّلَاة متنعلا وحافيا سَوَاء.
وَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن السدل فِي الصَّلَاة، فَقيل: هُوَ أَن يلتحف بِثَوْبِهِ، وَيدخل يَدَيْهِ فِيهِ، وسيجئ أَن اشْتِمَال الصماء أقبح لبسة
لِأَنَّهُ مُخَالفَة لما هُوَ أصل طبيعة الْإِنْسَان وعادته من إبْقَاء الْيَدَيْنِ مستر سلتين، وَلِأَنَّهُ على شرف انكماش الْعَوْرَة فَإِنَّهُ كثيرا مَا يحْتَاج إِلَى إِخْرَاج الْيَدَيْنِ للبطش، فتنكشف، وَقيل: إرْسَال الثَّوْب من غير أَن يضم جانبيه وَهُوَ إخلال بالتجمل وَتَمام الْهَيْئَة، وَإِنَّمَا نعني بِتمَام الْهَيْئَة مَا يحكم الْعرف وَالْعَادَة أَنه غير فَاقِد مَا يَنْبَغِي أَن يكون لَهُ وأوضاع لباسهم مُخْتَلفَة وَلَكِن فِي كل لبسة تَمام هَيْئَة يعرف بالسير، وَقد بنى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمر على عرف الْعَرَب يَوْمئِذٍ.
(الْقبْلَة)
لما قدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة أَو سَبْعَة عشر شهرا، ثمَّ أَمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة، فاستقر الْأَمر على ذَلِك.
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَنه لما كَانَ تَعْظِيم شَعَائِر الله وبيوته وَاجِبا - لَا سِيمَا فِيمَا هُوَ أصل أَرْكَان الْإِسْلَام. وَأم القربات. وَأشهر شَعَائِر الدّين، وَكَانَ التَّوَجُّه فِي الصَّلَاة إِلَى مَا هُوَ مُخْتَصّ بِاللَّه بِطَلَب رضَا الله بالتقرب مِنْهُ أجمع للخاطر، وأحث على صفة الْخُشُوع، وَأقرب لحضور الْقلب، لِأَنَّهُ يشبه مُوَاجهَة الْملك فِي مناجاته - اقْتَضَت الْحِكْمَة الالهية أَن يَجْعَل اسْتِقْبَال قبْلَة مَا شرطا فِي الصَّلَاة فِي جَمِيع الشَّرَائِع.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم. وإسمعيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَمن تدين بدينهما يستقبلون الْكَعْبَة. وَكَانَ إِسْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَبَنوهُ يستقبلون بَيت الْمُقَدّس. هَذَا هُوَ الأَصْل الْمُسلم فِي الشَّرَائِع.

(1/329)


فَلَمَّا قدم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة، وتوجهت الْعِنَايَة إِلَى تأليف الْأَوْس، والخزرج، وحلفائهم من الْيَهُود، وصاروا هم القائمين بنصرته، وَالْأمة الَّتِي أخرجت للنَّاس، وَصَارَت مُضر وَمَا والاها أعدى أعاديه وَأبْعد النَّاس عَنهُ - اجْتهد، وَحكم باستقبال بَيت الْمُقَدّس؛ إِذْ الأَصْل أَن يُرَاعِي فِي أوضاع القربات حَال الْأمة الَّتِي بعث الرَّسُول فِيهَا، وَقَامَت بنصرته وَصَارَت شُهَدَاء على النَّاس - وَهُوَ الْأَوْس. والخرزج - يَوْمئِذٍ، وَكَانُوا أخضع شَيْء لعلوم الْيَهُود بَينه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم}
حَيْثُ قَالَ: " إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار، وهم أهل وثن، مَعَ هَذَا الْحَيّ من الْيَهُود، وهم أهل الْكتاب، فَكَانُوا يرَوْنَ لَهُم فضلا عَلَيْهِم فِي الْعلم، فَكَانُوا يقتدون بِكَثِير من فعلهم " الحَدِيث، وَأَيْضًا الأَصْل أَن تكون الشَّرَائِع مُوَافقَة لما عَلَيْهِ الْملَل الحقة مَا لم تكن من تحريفات الْقَوْم وتعمقاتهم، ليَكُون أتم لإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، وَأَشد لطمأنينة قُلُوبهم، وَالْيَهُود هم القائمون بِرِوَايَة الْكتاب السماوي وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ، ثمَّ أحكم الله آيَاته وأطلع نبيه على مَا هُوَ أوفق بِالْمَصْلَحَةِ من هَذَا وأقعد بقوانين التشريع بالنفث فِي روعه أَولا، فَكَانَ يتَمَنَّى أَن يَأْمر باستقبال الْكَعْبَة، وَكَانَ يقلب وَجهه فِي السَّمَاء طَمَعا أَن يكون جِبْرَائِيل نزل بذلك، وَبِمَا أنزل فِي الْقُرْآن الْعَظِيم. ثَانِيًا، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث فِي الْأُمِّيين الآخذين بالملة الإسماعيلية، وَقدر الله فِي سَابق علمه أَنهم هم القائمون بنصرة دينه، وهم شُهَدَاء الله على النَّاس من بعده، وهم خلفاؤه فِي أمته، وَأَن الْيَهُود لَا يُؤمن مِنْهُم إِلَّا شرذمة قَليلَة، والكعبة من شَعَائِر الله عِنْد الْعَرَب أذعن لَهَا أقاصيهم وأدانيهم، وَجَرت السّنة عِنْدهم باستقبالها شَائِعا ذائعا، فَلَا معنى للعدول عَن ذَلِك.
وَلما كَانَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة شرطا - إِنَّمَا أُرِيد بِهِ تَكْمِيل الصَّلَاة، وَلَيْسَ شرطا - لَا يَتَأَتَّى أصل فَائِدَة الصَّلَاة إِلَّا بِهِ تَلا - رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن تحرى فِي لَيْلَة مظْلمَة وَصلى لغير الْقبْلَة قَوْله تَعَالَى:
{فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} .
يومى إِلَى أَن صلَاتهم جَائِزَة للضَّرُورَة.

(1/330)


(الستْرَة)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَو يعلم الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَن يقف أَرْبَعِينَ خيرا لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الصَّلَاة من شَعَائِر الله يجب تعظيمها، وَلما كَانَ المنظور فِي الصَّلَاة التَّشَبُّه بِقِيَام العبيد بِخِدْمَة مواليهم ومثولهم بَين أَيْديهم كَانَ من تعظيمها أَلا يمر الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي، فَإِن الْمُرُور بَين السَّيِّد وعبيده القائمين إِلَيْهِ سوء أدب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أحدكُم إِذا قَامَ فِي الصَّلَاة فَإِنَّمَا يُنَاجِي ربه وَإِن ربه بَينه وَبَين الْقبْلَة " الحَدِيث.
وَضم مَعَ ذَلِك أَن مروره رُبمَا يُؤَدِّي إِلَى تشويش قلب الْمُصَلِّي، وَلذَلِك كَانَ لَهُ حق فِي درته، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فليقاتله فَإِنَّهُ شَيْطَان ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تقطع الصَّلَاة الْمَرْأَة وَالْحمار. وَالْكَلب الْأسود " اقول: مَفْهُوم هَذَا الحَدِيث أَن من شُرُوط صِحَة الصَّلَاة خلوص ساحتها عَن الْمَرْأَة. وَالْحمار وَالْكَلب، والسر فِيهِ أَن الْمَقْصُود من الصَّلَاة هُوَ الْمُنَاجَاة والمواجهة مَعَ رب الْعَالمين، واختلاط النِّسَاء والتقرب مِنْهُنَّ والصحبة مَعَهُنَّ مَظَنَّة الِالْتِفَات إِلَى مَا هُوَ ضد هَذِه الْحَالة، وَالْكَلب شَيْطَان لما ذكرنَا لَا سِيمَا الْأسود فَإِنَّهُ أقرب إِلَى فَسَاد المزاج وداء الْكَلْب، وَالْحمار أَيْضا بِمَنْزِلَة
الشَّيْطَان لِأَنَّهُ كثيرا مَا يسافد بَين ظهرانى بني آدم، وينتشر ذكره فَتكون رُؤْيَة ذَلِك مخلة بِمَا هُوَ بصدده لَكِن لم يعْمل بِهِ حفاظ الصَّحَابَة، وفقهاؤهم. مِنْهُم عَليّ. وَعَائِشَة. وَابْن عَبَّاس. وَأَبُو سعيد. وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم - وَرَوَاهُ مَنْسُوخا - وَإِن كَانَ فِي استدلاهم على النّسخ كَلَام، وَهَذَا أحد الْمَوَاضِع الَّتِي اخْتلف فِيهَا طَرِيقا التلقي من النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(2/5)


وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " إِذا وضع أحدكُم بَين يَدَيْهِ مثل مؤخرة الرحل فَليصل، وَلَا يبال بِمن وَرَاء ذَلِك " أَقُول: لما كَانَ فِي ترك الْمُرُور حرج ظَاهر أَمر بِنصب الستْرَة لتتميز ساحة الصَّلَاة بَادِي الرَّأْي، فَيلْحق بالمرور من بعد.
(الْأُمُور الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي الصَّلَاة)
اعْلَم أَن أصل الصَّلَاة ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَن يخضع لله تَعَالَى بِقَلْبِه، وَيذكر الله بِلِسَانِهِ، ويعظمه غَايَة التَّعْظِيم بجسده، فَهَذِهِ الثَّلَاثَة أجمع الْأُمَم على أَنَّهَا من الصَّلَاة، وَإِن اخْتلفُوا فِيمَا سوى ذَلِك، وَقد رخص النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الْأَعْذَار فِي غير هَذِه الثَّلَاثَة، وَلم يرخص فِيهَا، وَقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوتر: " إِن لم تستطع فأوم إِيمَاء ".
وَأَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يشرع لَهُم فِي الصَّلَاة حَدَّيْنِ حدا لَا يخرج من الْعهْدَة بِأَقَلّ مِنْهُ. وحدا هُوَ الاتم الْأَكْمَل المستوفي لفائدة الصَّلَاة، وَالْحَد الأول يشْتَمل على مَا يجب إِعَادَة الصَّلَاة بِتَرْكِهِ، وَمَا يحصل فِيهَا نقص بِتَرْكِهِ، وَلَا يجب الْإِعَادَة، وَمَا يلام على تَركه أَشد الْمَلَامَة من غير جزم بِالنَّقْصِ، وَالْفرق بَين هَذِه الْمَرَاتِب الثَّلَاث صَعب جدا، وَلَيْسَ فِيهِ نَص صَرِيح، وَلَا إِجْمَاع إِلَّا فِي شَيْء يسير، وَلذَلِك قوي الْخلاف بَين الْفُقَهَاء فِي ذَلِك، وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث الرجل الْمُسِيء فِي صلَاته حَيْثُ قَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل - مرَّتَيْنِ. أَو ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فاسبغ الْوضُوء، ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة فَكبر، ثمَّ اقْرَأ بِمَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن، ثمَّ أركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا، ثمَّ أرفع رَأسك حَتَّى تستوي قَائِما، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ أرفع حَتَّى تطمئِن جَالِسا، ثمَّ أفعل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا " وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ " فَإِذا فعلت ذَلِك فقد تمت صَلَاتك وَإِن انتقصت مِنْهَا انتقصت من صَلَاتك " قَالَ: كَانَ هَذَا أَهْون عَلَيْهِم من الأولى أَنه من انْتقصَ
من ذَلِك شَيْئا انْتقصَ من صلَاته، وَلم تذْهب كلهَا،

(2/6)


وَمَا ذكره النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظ الركنية كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تجزى صَلَاة الرجل حَتَّى يُقيم ظَهره فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود " وَمَا سمى الشَّارِع الصَّلَاة بِهِ فَإِنَّهُ تَنْبِيه بليغ على كَونه ركنا فِي الصَّلَاة كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قَامَ رَمَضَان "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فليركع رَكْعَتَيْنِ "، وَقَوله تَعَالَى:
{واركعوا مَعَ الراكعين}
، وَقَوله تَعَالَى:
{وأدبار السُّجُود}
، وَقَوله تَعَالَى:
{وَقُرْآن الْفجْر}
، وَقَوله تَعَالَى:
{وَقومُوا لله قَانِتِينَ}
وَمَا ذكره بِمَا يشْعر بِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُ كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي كل رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّة "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّد: " إِذا فعلت ذَلِك تمت
صَلَاتك " وَنَحْو ذَلِك، وَمَا لم يخْتَلف فِيهِ الْمُسلمُونَ أَنه لَا بُد مِنْهُ فِي الصَّلَاة، وتوارثوه فِيمَا بَينهم، وتلاوموا على تَركه.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّلَاة على مَا تَوَاتر عَنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوارثه الْأمة أَن يتَطَهَّر، وَيسْتر عَوْرَته، وَيقوم، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ، وَيتَوَجَّهُ إِلَى الله بِقَلْبِه، ويخلص لَهُ الْعَمَل وَيَقُول. الله أكبر بِلِسَانِهِ، وَيقْرَأ فَاتِحَة الْكتاب، وَيضم مَعهَا إِلَّا فِي ثَالِثَة الْفَرْض ورابعته - سُورَة من الْقُرْآن، ثمَّ يرْكَع، وينحني بِحَيْثُ يقدر على أَن يمسح رُكْبَتَيْهِ برءوس أَصَابِعه حَتَّى يطمئن رَاكِعا، ثمَّ يرفع رَأسه حَتَّى يطمئن قَائِما، ثمَّ يسْجد على الْآرَاب، السَّبْعَة الْيَدَيْنِ. وَالرّجلَيْنِ. والركبتين. وَالْوَجْه، ثمَّ يرفع رَأسه حَتَّى يَسْتَوِي جَالِسا، ثمَّ يسْجد ثَانِيًا كَذَلِك، فَهَذِهِ رَكْعَة ثمَّ يقْعد على رَأس كل رَكْعَتَيْنِ، ويتشهد فَإِن كَانَ أخر صلَاته صلى على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا أحب الدُّعَاء إِلَيْهِ، وَسلم على من يَلِيهِ من الْمَلَائِكَة وَالْمُسْلِمين، فَهَذِهِ صَلَاة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يثبت أَنه ترك

(2/7)


شَيْئا من ذَلِك قطّ عمدا من غير عذر فِي فَرِيضَة، وَصَلَاة الصَّحَابَة. وَالتَّابِعِينَ. وَمن بعدهمْ من أَئِمَّة الْمُسلمين، وَهِي الَّتِي توارثوا أَنَّهَا مُسَمّى الصَّلَاة، وَهِي من ضروريات الْملَّة، نعم اخْتلف الْفُقَهَاء فِي أحرف مِنْهَا هَل هِيَ أَرْكَان الصَّلَاة لَا يعْتد بهَا بِدُونِهَا. أَو واجباتها الَّتِي تنقص بِتَرْكِهَا، أَو أبعاض يلام على تَركهَا وتجبر بِسَجْدَة السَّهْو.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن خضوع الْقلب لله وتوجهه إِلَيْهِ تَعْظِيمًا ورغبة وَرَهْبَة - أَمر خَفِي لَا بُد لَهُ من ضبط، فضبطه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيئين: أَن يسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ وبدنه. وَأَن يَقُول بِلِسَانِهِ: الله أكبر، وَذَلِكَ لِأَن من جبلة الْإِنْسَان أَنه إِذا اسْتَقر فِي قلبه شَيْء جرى حسب ذَلِك الْأَركان وَاللِّسَان، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن فِي جَسَد
ابْن آدم مُضْغَة " الحَدِيث فَفعل اللِّسَان والأركان أقرب مَظَنَّة وَخَلِيفَة لفعل الْقلب، وَلَا يصلح للضبط إِلَّا مَا يكون كَذَلِك.
وَلما كَانَ الْحق متعاليا عَن الْجِهَة - نصب التَّوَجُّه إِلَى بَيته، وَأعظم شعائره مقَام التَّوَجُّه إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُقبلا إِلَى الله بِوَجْهِهِ وَقَلبه ".
وَلما كَانَ التَّكْبِير أفْصح عبارَة عَن انقياد الْقلب للتعظيم لم يكن لفظ أَحَق أَن ينصب مقَام توجه الْقلب مِنْهُ.
وفيهَا وُجُوه أُخْرَى: مِنْهَا أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَاجِب من جِهَة تَعْظِيم بَيت الله وَقت الصَّلَاة، ليكمل كل وَاحِد بِالْآخرِ.
وَمِنْهَا أَنه أشهر عَلَامَات الْملَّة الْحَنَفِيَّة الَّتِي يتَمَيَّز بهَا النَّاس عَن غَيرهَا، فَلَا بُد من أَن ينصب مثله عَلامَة للدخول فِي الاسلام، فوقت بأعظم الطَّاعَات وأشهرها، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى صَلَاتنَا، واستقبل قبلتنا، وَأكل ذبيحتنا فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله ".
وَمِنْهَا أَن الْقيام لَا يكون تَعْظِيمًا إِلَّا إِذا كَانَ مَعَ اسْتِقْبَال.
وَمِنْهَا أَنه لَا بُد لكل حَال تبَاين سَائِر الْحَالَات فِي الْأَحْكَام من أبتداء وانتهاء، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تحريمهما التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم "
أما التَّعْظِيم بجسده فَالْأَصْل فِيهِ ثَلَاث حالات: الْقيام بَين يَدَيْهِ، وَالرُّكُوع، وَالسُّجُود، وَأحسن التَّعْظِيم مَا جمع بَين الثَّلَاث، وَكَانَ التدريج من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى أَنْفَع فِي تَنْبِيه النَّفس للخضوع من غَيره، وَكَانَ السُّجُود
أعظم التَّعْظِيم يظنّ أَنه مَقْصُود بِالذَّاتِ، وَأَن الْبَاقِي طَرِيق إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَن يُؤَدِّي حق هَذَا الشّبَه وَذَلِكَ بتكراره.

(2/8)


وَأما ذكر الله فَلَا بُد من توقيته أَيْضا، فَإِن التَّوْقِيت أجمع لشملهم. أُطوع لقُلُوبِهِمْ. وَأبْعد من أَن يذهب كل أحد إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيه حسنا كَانَ أَو قبيحا، وَإِنَّمَا تفوض إِلَيْهِم الْأَدْعِيَة النَّافِلَة الَّتِي يُخَاطب بِمِثْلِهَا السَّابِقُونَ على أَنهم أَيْضا لم يَتْرُكهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْر تَوْقِيت وَلَو استجبابا
وَإِذا تعين التَّوْقِيت فَلَا أَحَق من الْفَاتِحَة لِأَنَّهَا دُعَاء جَامع أنزلهُ الله تَعَالَى على أَلْسِنَة عباده، يعلمهُمْ كَيفَ يحْمَدُونَ الله، ويثنون عَلَيْهِ، ويقرون لَهُ بتوحيد الْعِبَادَة والاستعانة، وَكَيف يسألونه الطَّرِيقَة الجامعة لأنواع الْخَيْر، ويتعوذون بِهِ من طَريقَة المغضوب عَلَيْهِم والضالين، وَأحسن الدُّعَاء أجمعه.
وَلما كَانَ تَعْظِيم الْقرَان وتلاوته وَاجِبا فِي الْملَّة، وَلَا شَيْء من التَّعْظِيم مثل أَن يُنَوّه بِهِ فِي أعظم أركا 00 ن الْإِسْلَام وَأم القربات وَأشهر شَعَائِر الدّين، وَكَانَت تِلَاوَته قربَة كَامِلَة تكمل الصَّلَاة وتتمها - شرع لَهُم قِرَاءَة سُورَة من الْقُرْآن لِأَن السُّورَة كَلَام تَامّ تحدى بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببلاغته المنكرين للنبوة، ولانها منفرزة بمبدئها ومنتهاها، وَلكُل وَاحِد مِنْهَا أسلوب أنيق وَإِذا قد ورد من الشَّارِع قِرَاءَة بعض السُّورَة فِي بعض الأحيان جعلُوا فِي مَعْنَاهَا ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة.
وَلما كَانَ الْقيام لَا تستوي أَفْرَاده، فَمنهمْ من يقوم مطرقا، وَمِنْهُم من يقوم منحنيا، ويعد جَمِيع ذَلِك من الْقيام - مست الْحَاجة إِلَى تَمْيِيز الانحناء الْمَقْصُود مِمَّا يُسمى قيَاما، فضبط بِالرُّكُوعِ، وَهُوَ الانحناء المفرط الَّذِي تصل بِهِ رُءُوس الْأَصَابِع إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ.
وَلما لم يكن الرُّكُوع، وَلَا السُّجُود تَعْظِيمًا إِلَّا بِأَن يلبث على تِلْكَ الْهَيْئَة زَمَانا، ويخضع لرب الْعَالمين، ويستشعر التَّعْظِيم قلبه فِي تِلْكَ الْحَالة - جعل ذَلِك ركنا لَازِما.
وَلما كَانَ السُّجُود والاستلقاء على الْبَطن وَسَائِر الهيآت الْقَرِيبَة مِنْهُ - مُشْتَركَة فِي وضع الرَّأْس على الأَرْض وَالْأول تَعْظِيم دون الْبَاقِي مست الْحَاجة إِلَى أَن يضْبط الْفَارِق بَينهمَا، فَقَالَ: " أمرت أَن اسجد على سَبْعَة أراب " الحَدِيث
وَلما كَانَ كل من يهوي إِلَى السُّجُود لَا بُد لَهُ من الانحناء حَتَّى يصل إِلَيْهِ. وَلَيْسَ ذَلِك رُكُوعًا بل هُوَ طَرِيق إِلَى السَّجْدَة - مست الْحَاجة إِلَى التَّفْرِيق بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود بِفعل أَجْنَبِي يتَمَيَّز بِهِ كل من الآخر، ليَكُون كل وَاحِد طَاعَة مُسْتَقلَّة يقصدها مستأنفا، فَتنبه النَّفس لثمرة كل وَاحِد بانفرادها - وَهُوَ القومة -.

(2/9)


وَلما كَانَت السجدتان لَا تصيران اثْنَيْنِ إِلَّا بتخلل فعل أَجْنَبِي شرعت الجلسة بَينهمَا.
وَلما كَانَت القومة والسجدة بِدُونِ الطُّمَأْنِينَة طيشا وَلَعِبًا منافيا للطاعة أَمر بطمأنينة فيهمَا.
وَلما كَانَ الْخُرُوج من الصَّلَاة ينْقض صلطهارة أَو غير ذَلِك من مَوَانِع الصَّلَاة ومفسداتها - قبيحا مستنكرا منافيا للتعظيم، وَلَا بُد من فعل ننتهي بِهِ الصَّلَاة وَيُبَاح بِهِ مَا حرم فِي الصَّلَاة وَلَو لم يضْبط لذهب كل وَاحِد إِلَى هَوَاهُ - وَجب أَن لَا يكون الْخُرُوج إِلَّا بِكَلَام وَهُوَ أحسن كَلَام النَّاس أَعنِي السَّلَام، وَأَن يُوجب ذَلِك وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تحليلها التَّسْلِيم ".
وَكَانَ الصَّحَابَة استحبوا أَن يقدموا على السَّلَام قَوْلهم: السَّلَام على الله قبل عباده، السَّلَام على جِبْرَائِيل وَالسَّلَام على فلَان، فَغير رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك بالتحيات، وَبَين سَبَب التَّغْيِير حَيْثُ قَالَ: " لَا تَقولُوا السَّلَام على الله فَإِن الله هُوَ السَّلَام " يَعْنِي إِنَّمَا الدُّعَاء بالسلامة إِن يُنَاسب من لَا تكون السَّلامَة من الْعَدَم ولواحقه ذاتيا لَهُ، ثمَّ اخْتَار بعده السَّلَام على النَّبِي تنويها بِذكرِهِ وإثباتا اللإقرار برسالته أَدَاء لبَعض حُقُوقه، ثمَّ عمم بقوله: السَّلَام علينا وعَلى عياد الله الصَّالِحين، قَالَ: فَإِذا قَالَ ذَلِك أصَاب كل عبد صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض " ثمَّ أَمر بالتشهد لِأَنَّهُ أعظم الْأَذْكَار قَالَ: " ثمَّ ليتخير من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ " وَذَلِكَ لِأَن وَقت الْفَرَاغ من الصَّلَاة وَقت الدُّعَاء لِأَنَّهُ تغشى بغاشية عَظِيمَة من الرَّحْمَة وَحِينَئِذٍ يُسْتَجَاب الدُّعَاء.
وَمن آدَاب الدُّعَاء تَقْدِيم الثَّنَاء على الله والتوسل بِنَبِي الله، ليستجاب الدُّعَاء، ثمَّ تقرر الْأَمر على ذَلِك، وَجعل التَّشَهُّد ركنا لِأَن لَوْلَا هَذِه الْأُمُور لَكَانَ الْفَرَاغ من الصَّلَاة مثل فرَاغ المعرض أَو النادم، وهنالك وُجُوه كَثِيرَة بَعْضهَا خَفِي المأخذ وَبَعضهَا ظَاهر لم نذكرها اكْتِفَاء بِمَا ذكرنَا.
وَبِالْجُمْلَةِ من تَأمل فِيمَا ذكرنَا وَفِي الْقَوَاعِد الَّتِي أسلفناها علم قطعا أَن الصَّلَاة بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّة هِيَ الَّتِي يَنْبَغِي أَن تكون، وأنما لَا تتَصَوَّر الْعقل أحسن مِنْهَا وَلَا أكمل، وَأَنَّهَا هِيَ الْغَنِيمَة الْكُبْرَى للمغتنم.
وَلما كَانَ الْقَلِيل من الصَّلَاة لَا يُفِيد فَائِدَة معتدا بهَا، وَالْكثير جدا يعسر إِقَامَته اقْتَضَت حِكْمَة الله أَلا يشرع لَهُم أقل من رَكْعَتَيْنِ، فالركعتان أقل الصَّلَاة، وَلذَلِك قَالَ: " فِي كل رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّة ".

(2/10)


وَهَهُنَا سر دَقِيق، وَهُوَ أَن سنة الله تَعَالَى فِي خلق الْأَفْرَاد والأشخاص
من الْحَيَوَان والنبات أَن يكون هُنَالك شقان يضم كل وَاحِد بِالْآخرِ، ويجعلان شَيْئا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَالشَّفْع وَالْوتر}
أما الْحَيَوَان فشقاه معلومان، وَرُبمَا تعرض الآفة شقا دون شقّ كالفالج، أما النَّبَات فالنواة والحبة فيهمَا شقان، وَإِذا نَبتَت الخامة وَإِنَّمَا تنْبت ورقتان كل ورقة مِيرَاث أحد شقي النواة والحبة، ثمَّ يتَحَقَّق النمو على ذَلِك النمط، فانتقلت هَذِه السّنة من بَاب الْخلق إِلَى بَاب التشريع فِي حَظِيرَة الْقُدس، لِأَن التَّدْبِير فرع الْخلق، وانعكس من هُنَاكَ فِي قلب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأصل الصَّلَاة هُوَ رَكْعَة وَاحِدَة، وَلم يشرع أقل من رَكْعَتَيْنِ فِي عَامَّة الصَّلَاة، وضمت كل وَاحِدَة بِالْأُخْرَى وصارتا شَيْئا وَاحِدًا، قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " فرض الله الصَّلَاة حِين فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَر وَالسّفر، فأقرت صَلَاة السّفر وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر " وَفِي رِوَايَة - إِلَّا الْمغرب فَإِنَّهَا كَانَت ثَلَاثًا -.
أَقُول الأَصْل فِي عدد الرَّكْعَات أَن الْوَاجِب الَّذِي لَا يسْقط بِحَال إِنَّمَا هُوَ أحدى عشر رَكْعَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اقْتَضَت حِكْمَة الله أَلا يشرع فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة إِلَّا عددا مُبَارَكًا متوسطا لَا يكون كثيرا جدا، فيعسر إِقَامَته على الْمُكَلّفين جَمِيعًا، وَلَا قَلِيلا جدا، فَلَا يُفِيد لَهُم مَا أُرِيد من الصَّلَاة، وَقد علمت فِيمَا سبق أَن الْأَحَد عشر من بَين الْأَعْدَاد أشبههَا بالوتر الْحَقِيقِيّ، ثمَّ لما هَاجر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتقر الْإِسْلَام، وَكثر أَهله، وتوفرت الرغبات فِي الطَّاعَة زيدت سِتّ رَكْعَات، وأبقيت صَلَاة السّفر على النمط الأول، وَذَلِكَ لِأَن الزِّيَادَة لَا يَنْبَغِي أَن تصل إِلَى مثل الشَّيْء أَو أَكْثَره،
وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يَجْعَل نصف الأَصْل لَكِن لَيْسَ لأحد عشر نصف بِغَيْر كسر، فَبَدَا عددان خَمْسَة وَسِتَّة، وبالخمسة يصير عدد الرَّكْعَات شفعا غير وتر، فتعينت السِّتَّة، وَأما توزيع الرَّكْعَات على الْأَعْدَاد فمبني على آثَار الْأَنْبِيَاء السَّابِقين على مَا يذكر فِي الْأَخْبَار، وَأَيْضًا فالمغرب آخر الصَّلَاة من وَجه لِأَن الْعَرَب يعدون اللَّيَالِي قبل الْأَيَّام، فَنَاسَبَ أَن يكون الْوَاحِد الْوتر للركعات فِيهَا ووقتها ضيق فَلَا تناسب زِيَادَة مَا زيد فِيهَا آخرا، وَوقت الْفجْر وَقت نوم وكسل فَلم يزِيد فِي عدد الرَّكْعَات، وَزَاد فِيهَا اسْتِحْبَاب طول الْقِرَاءَة لمن أطاقه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

(2/11)


{وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا}
وَالله أعلم.