حجة الله البالغة

(قصَّة حجَّة الْوَدَاع)
الأَصْل فِيهَا حَدِيث جَابر. وَعَائِشَة. وَابْن عمر. وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم. اعْلَم أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكث بِالْمَدِينَةِ تسع سِنِين لم يحجّ، ثمَّ أذن فِي النَّاس فِي الْعَاشِرَة أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاج، فَقدم الْمَدِينَة بشر كثير، فَخرج حَتَّى أَتَى ذَا الحليفة، فاغتسل، وتطيب، وَصلى رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، وَلبس إزارا ورداء، وَأحرم، ولبى، لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لبيْك لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك.
أَقُول: اخْتلف هَهُنَا فِي موضِعين: أَحدهمَا أَن نُسكه ذَلِك كَانَ حجا مُفردا، أَو مُتْعَة، بِأَن حل من الْعمرَة، واستأنف الْحَج، أَو أَنه أحرم بِالْحَجِّ، ثمَّ أَشَارَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يدْخل الْعمرَة عَلَيْهِ، فَبَقيَ على إِحْرَامه حَتَّى فرغ من الْحَج، وَلم يحل لِأَنَّهُ كَانَ سَاق الْهدى.

(2/95)


وَثَانِيهمَا أَنه أهل حِين صلى أَو حِين ركب نَاقَته أَو حِين أشرف على الْبَيْدَاء. وَبَين ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّاس كَانُوا يأتونه أَرْسَالًا، فَأخْبر كل وَاحِد بِمَا رَآهُ، وَقد كَانَ أول إهلاله حِين صلى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا اغْتسل وَصلى رَكْعَتَيْنِ لِأَن ذَلِك أقرب لتعظيم شَعَائِر الله، وَلِأَنَّهُ ضبط للنِّيَّة بِفعل ظَاهر منضبط يدل على الْإِخْلَاص لله والاهتمام بِطَاعَة الله، وَلِأَن تَغْيِير اللبَاس بِهَذَا النَّحْو يُنَبه النَّفس، ويوقظها للتواضع لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا تطيب لِأَن الْإِحْرَام حَال الشعث والتفل، فَلَا بُد من تدارك لَهُ قبل ذَلِك، وَإِنَّمَا اخْتَار هَذِه الصِّيغَة فِي التَّلْبِيَة لِأَنَّهَا تَعْبِير عَن قِيَامه بِطَاعَة مَوْلَاهُ وتذكر لَهُ ذَلِك، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعظمون شركاءهم، فَأدْخل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شريك لَك " ردا على هَؤُلَاءِ وتمييزا للْمُسلمين مِنْهُم، وَيسْتَحب زِيَادَة سُؤال الله رضوانه وَالْجنَّة واستعفاءه برحمته من النَّار.
وَأَشَارَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِرَفْع أَصْوَاتهم بِالْإِحْرَامِ والتلبية وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَا من مُسلم يُلَبِّي إِلَّا لبّى مَا عَن يَمِينه وشماله من حجر أَو شجر أَو مدر حَتَّى تَنْقَطِع الأَرْض من هَهُنَا وَهَهُنَا) أَقُول: سره أَنه من شَعَائِر الله، وَفِيه تنويه ذكر الله، وكل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ يسْتَحبّ الْجَهْر بِهِ، وَجعله بِحَيْثُ يكون على رُؤُوس الخامل والنبيه، وبحيث تصير الدَّار دَار الْإِسْلَام، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كتب فِي صحيفَة عمله صُورَة تَلْبِيَة تِلْكَ الْمَوَاضِع:
وأشعر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَته فِي صفحة سنامها الْأَيْمن وسلت الدَّم عَنْهَا وقلدها نَعْلَيْنِ أَقُول: السِّرّ فِي الْإِشْعَار التنويه بشعائر الله وَأَحْكَام الْملَّة الحنيفية يرى ذَلِك مِنْهُ الأقاصي والأداني، وَأَن يكون فعل الْقلب منضبطا بِفعل ظَاهر:
وَولدت أَسمَاء بنت عُمَيْس بِذِي الحليفة فَقَالَ لَهَا " اغْتَسِلِي واستثفري بِثَوْب وأحرمي " أَقُول: ذَلِك لتأتي بِقدر الميسور من سنة الْإِحْرَام.
وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين حَاضَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بسرف: إِن ذَلِك شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم فافعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَلا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري " أَقُول: مهد الْكَلَام بِأَنَّهُ شَيْء يكثر وُقُوعه، فَمثل هَذَا الشَّيْء يجب فِي حِكْمَة الشَّرَائِع

(2/96)


أَن يدْفع عَنهُ الْحَرج، وَأَن يسن لَهُ سنة ظَاهِرَة فَلذَلِك سقط عَنْهَا طواف الْقدوم وَطواف الْوَدَاع.
فَلَمَّا دنا من مَكَّة نزل بِذِي طوى، وَدخل مَكَّة من أَعْلَاهَا نَهَارا، وَخرج
من أَسْفَلهَا، وَذَلِكَ ليَكُون دُخُول مَكَّة فِي حَال اطمئنان الْقلب دون التَّعَب، لتمكن من استشعار جلال الله وعظمته، وَأَيْضًا ليَكُون طَوَافه بِالْبَيْتِ على أعين النَّاس فَإِنَّهُ أنوه بِطَاعَة الله، وَأَيْضًا فَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد أَن يعلمهُمْ سنة الْمَنَاسِك، فأمهلهم حَتَّى يجتمعوا لَهُ جامعين متهيئين وَإِنَّمَا خَالف فِي الطَّرِيق ليظْهر شَوْكَة الْمُسلمين فِي كلتا الطَّرِيقَيْنِ، وَنَظِيره الْعِيد.
فَلَمَّا أَتَى الْبَيْت اسْتَلم الرُّكْن، وَطَاف سبعا، رمل ثَلَاثًا، وَمَشى أَرْبعا، وَخص الرُّكْنَيْنِ اليمانيين بالاستلام، وَقَالَ فِيمَا بَينهمَا: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار} .
ثمَّ تقدم إِلَى مقَام إِبْرَاهِيم، فَقَرَأَ: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} .
فصلى ركعيتن، وَجعل الْمقَام بَينه وَبَين الْبَيْت، وَقَرَأَ فيهمَا: {قل هُوَ الله أحد} .
و {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} .
ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْن فاستلمه.
أَقُول أما سر الرمل والاضطباع فقد ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا خص الرُّكْنَيْنِ اليمانيين بالاستلام لما ذكره ابْن عمر من أَنَّهُمَا باقيان على بِنَاء إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام دون الرُّكْنَيْنِ الآخرين فَإِنَّهُمَا من تغييرات أهل الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّمَا اشْترط لَهُ شُرُوط الصَّلَاة لما ذكره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من أَن الطّواف يشبه الصَّلَاة فِي تَعْظِيم الْحق وشعائره، فَحمل عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سنّ رَكْعَتَيْنِ بعده
إتماما لتعظيم الْبَيْت، فَإِن تَمَامه أَن يسْتَقْبل فِي صلواتهم، وَإِنَّمَا خص بهما مقَام إِبْرَاهِيم لِأَنَّهُ أشرف مَوَاضِع الْمَسْجِد، وَهُوَ آيَة من آيَات الله ظَهرت على سيدنَا إِبْرَاهِيم، وتذكر هَذِه الْأُمُور هِيَ الْعُمْدَة فِي الْحَج، وَإِنَّمَا اسْتحبَّ أَن يَقُول بَين الرُّكْنَيْنِ: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا فِي الْحَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} الخ لِأَنَّهُ دُعَاء جَامع نزل بِهِ الْقُرْآن، وَهُوَ قصير اللَّفْظ يُنَاسب تِلْكَ الفرصة القليلة.
ثمَّ خرج من الْبَاب إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دنا من الصَّفَا قَرَأَ {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} أبدأ بِمَا بَدَأَ بِهِ، فَبَدَأَ بالصفا، ورقي عَلَيْهِ حَتَّى رأى الْبَيْت، فَاسْتقْبل

(2/97)


الْقبْلَة، فَوحد الله، وَكبره، وَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده أنْجز وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده، ثمَّ دَعَا بَين ذَلِك قَالَ مثل هَذَا ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ نزل، وَمَشى إِلَى الْمَرْوَة حَتَّى إِذا انصبت قدماه فِي بطن الْوَادي سعى حَتَّى إِذا صعدتا مَشى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَة، فَفعل على الْمَرْوَة كَمَا فعل على الصَّفَا.
أَقُول: فهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هَذِه الْآيَة أَن تَقْدِيم الصَّفَا على الْمَرْوَة إِنَّمَا هُوَ لتوفيق الْمَذْكُور بالمشروع، وَإِنَّمَا خص من الْأَذْكَار مَا فِيهِ تَوْحِيد وَبَيَان لإنجاز الْوَعْد وَنَصره على أعدائه تذكيرا لنعمه وإظهارا لبَعض معجزاته وقطعا لدابر الشّرك وبيانا أَن كل ذَلِك مَوْضُوع تَحت قَدَمَيْهِ وإعلانا لكلمة الله وَدينه فِي مثل هَذَا الْموضع، ثمَّ قَالَ: " لَو أَنى اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهدى وجعلتها عمْرَة، فَمن كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَه هدى فليحل، وليجعلها عمْرَة، قيل: ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد. قَالَ: لَا بل لأبد الْأَبَد، فَحل النَّاس كلهم، وَقصرُوا إِلَّا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمن كَانَ مَعَه هدى.
أَقُول الَّذِي بدا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُور: مِنْهَا أَن النَّاس كَانُوا قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرَوْنَ الْعمرَة فِي أَيَّام قبل الْحَج من أفجر الْفُجُور، فَأَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يبطل تحريفهم ذَلِك بأتم وَجه.
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حرجا من قرب عَهدهم بِالْجِمَاعِ عِنْد إنْشَاء الْحَج حَتَّى قَالُوا: أناتي عَرَفَة ومذا كيرنا تقطر منيا؟ وَهَذَا من التعمق، فَأَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يسد هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا أَن إنْشَاء الْإِحْرَام عِنْد الْحَج أتم لعظيمهم الْبَيْت.
وَإِنَّمَا كَانَ سوق الْهدى مَانِعا من الْإِحْلَال لِأَن سوق الْهدى بِمَنْزِلَة النّذر أَن يبْقى على هَيئته تِلْكَ حَتَّى يذبح الْهدى، وَالَّذِي يلتزمه الْإِنْسَان إِذا كَانَ حَدِيث نفس أَو نِيَّة غير مضبوطة بِالْفِعْلِ لَا عِبْرَة بِهِ، وَإِذا اقْترن بهَا فعل وَصَارَت مضبوطة وَجَبت رعايتها، والضبط مُخْتَلف، فأدناه بِاللِّسَانِ، وأقواه أَن يكون مَعَ القَوْل فعل عَلَانيَة يخْتَص بالحالة الَّتِي أرادها كالسوق.
فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى، فأهلوا بِالْحَجِّ، وَركب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى بهَا الظّهْر. وَالْعصر. وَالْمغْرب. وَالْعشَاء. وَالْفَجْر، ثمَّ مكث قَلِيلا حَتَّى طلعت الشَّمْس، فَسَار حَتَّى نزل بنمرة.

(2/98)


أَقُول: إِنَّمَا توجه يَوْم التَّرويَة ليَكُون أرْفق بِهِ وَمِمَّنْ مَعَه، فَإِن النَّاس مجتمعون فِي ذَلِك الْيَوْم اجتماعا عَظِيما، وَفِيهِمْ الضَّعِيف والسقيم، فاستحب الرِّفْق بهم، وَلم يدْخل عَرَفَة قبل وَقتهَا لِئَلَّا يتخذها النَّاس سنة، ويعتقدوا أَن دُخُولهَا فِي غير وَقتهَا قربَة.
فَلَمَّا زاغت الشَّمْس بنمرة أَمر بالقصواء فرحلت لَهُ، فَأتى بطن
الْوَادي، فَخَطب النَّاس، وَحفظ من خطبَته يَوْمئِذٍ " إِن دماءكم حرَام " الخ، ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَقَامَ فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا.
أَقُول: إِنَّمَا خطب يَوْمئِذٍ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يحْتَاج النَّاس إِلَيْهَا، وَلَا يسعهم جهلها لِأَن الْيَوْم يَوْم اجْتِمَاع، وَإِنَّمَا تنتهز مثل هَذِه الفرصة لمثل هَذِه الْأَحْكَام الَّتِي يُرَاد تبليغها إِلَى جُمْهُور النَّاس، وَإِنَّمَا جمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء لِأَن للنَّاس يَوْمئِذٍ اجتماعا لم يعْهَد فِي غير هَذَا الموطن، وَالْجَمَاعَة الْوَاحِدَة الْمَطْلُوبَة، وَلَا بُد من إِقَامَتهَا فِي مثل هَذَا الْجمع ليراه جَمِيع من هُنَالك وَلَا يَتَيَسَّر اجْتِمَاعهم فِي وَقْتَيْنِ، وَأَيْضًا فَلِأَن للنَّاس اشتغالا بِالذكر وَالدُّعَاء وهما وَظِيفَة هَذَا الْيَوْم ورعاية الْأَوْقَات وَظِيفَة جَمِيع السّنة، وَإِنَّمَا يرجح فِي مثل هَذَا الشَّيْء البديع النَّادِر.
ثمَّ ركب حَتَّى أَتَى الْموقف، واستقبل الْقبْلَة، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى غربت الشَّمْس، وَذَهَبت الصُّفْرَة قَلِيلا، ثمَّ دفع.
أَقُول: إِنَّمَا دفع بعد الْغُرُوب ردا لتحريف الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يدْفَعُونَ إِلَّا قبل الْغُرُوب، وَلِأَن قبل الْغُرُوب غير مضبوط وَبعد الْغُرُوب أَمر مضبوط، وَإِنَّمَا يُؤمر فِي مثل ذَلِك الْيَوْم بِالْأَمر المضبوط.
ثمَّ دفع حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة، فصلى بهَا الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ وَلم يسبح بَينهمَا، ثمَّ اضْطجع حَتَّى طلع الْفجْر، فصلى الْفجْر حِين تبين لَهُ الصُّبْح بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ ركب الْقَصْوَاء حَتَّى أَتَى الْمشعر الْحَرَام، فَاسْتقْبل الْقبْلَة، فَدَعَا الله، وَكبره، وَهَلله، وَوَحدهُ، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس حَتَّى أَتَى بطن محسر، فحرك قَلِيلا.
أَقُول: إِنَّمَا لم يتهجد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَة مُزْدَلِفَة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يفعل كثيرا من الْأَشْيَاء المستحبة فِي المجامع لِئَلَّا يتخذها النَّاس سنة، وَقد ذكرنَا سر الْوُقُوف بالمشعر

(2/99)


الْحَرَام، وَإِنَّمَا أوضع بمسحر لِأَنَّهُ مَحل هَلَاك أَصْحَاب الْفِيل، فَمن شَأْن من خَافَ الله وسطوته أَن يستشعر الْخَوْف فِي ذَلِك الموطن، ويهرب من الْغَضَب، وَلما كَانَ استشعاره أمرا خفِيا ضبط بِفعل ظَاهر مُذَكّر لَهُ مُنَبّه للنَّفس عَلَيْهِ.
ثمَّ أَتَى جَمْرَة الْعقبَة، فَرَمَاهُ بِسبع حَصَيَات يكبر مَعَ كل حَصَاة مِنْهَا مثل حَصى الْخذف رمى من بطن الْوَادي.
أَقُول: إِنَّمَا كَانَ رمي الْجمار فِي الْيَوْم الأول غدْوَة، وَفِي سَائِر الْأَيَّام عَشِيَّة، لِأَن من وَظِيفَة الأول النَّحْر وَالْحلق والإفاضة، وَهِي كلهَا بعد الرَّمْي، فَفِي كَونه غدْوَة توسعة، وَأما سَائِر الْأَيَّام فأيام تِجَارَة وَقيام أسواق، فالأسهل أَن يَجْعَل ذَلِك بعد مَا يفرغ من حَوَائِجه، وَأكْثر مَا كَانَ الْفَرَاغ فِي آخر النَّهَار، وَإِنَّمَا كَانَ رمى الْجمار توا، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة توا لما ذكرنَا من أَن الْوتر عدد مَحْبُوب، وَأَن خَليفَة الْوَاحِد الْحَقِيقِيّ هُوَ الثَّلَاثَة أَو السَّبْعَة، فبالحري أَلا يتَعَدَّى من السَّبْعَة إِن كَانَ فِيهَا كِفَايَة، وَإِنَّمَا رمي بِمثل حَصى الْخذف لِأَن دونهَا غير محسوس، وفوقها رُبمَا يُؤْذى فِي مثل هَذَا الْموضع.
ثمَّ انْصَرف إِلَى المنحر فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة بِيَدِهِ، ثمَّ أعْطى عليا رَضِي الله عَنهُ لينحر مَا غبر، وأشركه فِي هَدْيه، ثمَّ أَمر من كل بَدَنَة ببضعة فَجعلت فِي قدر، فطبخت، فأكلا من لَحمهَا وشربا من مرقها.
أَقُول: إِنَّمَا نحر بِيَدِهِ هَذَا الْعدَد، ليشكر مَا أولاه الله فِي كل سنة من عمره ببدنة، وَإِنَّمَا أكل مِنْهَا وَشرب اعتناء بِالْهدى وتبركا بِمَا كَانَ لله تَعَالَى.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نحرت هَهُنَا، وَمنى كلهَا منحر، فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ، ووقفت هَهُنَا، وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَهُنَا، وَجمع كلهَا موقف " وَزَاد فِي رِوَايَة وكل فجاج مَكَّة طَرِيق ومنحر " أَقُول: فرق النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين مَا فعله تشريعا لَهُم وَبَين مَا فعله بِحَسب الِاتِّفَاق أَو لمصْلحَة خَاصَّة بذلك الْيَوْم أَو اخْتِيَارا لمحاسن الْأَمر.
ثمَّ ركب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْت، فصلى بِمَكَّة الظّهْر، وَطَاف وَشرب من زَمْزَم.
أَقُول: إِنَّمَا بَادر إِلَى الْبَيْت لتَكون الطَّاعَة فِي أول وَقتهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الْإِنْسَان أَن يكون لَهُ مَانع، وَإِنَّمَا شرب من زَمْزَم تَعْظِيمًا لشعائر الله وتبركا بِمَا أظهره الله رَحْمَة.
فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام منى نزل بِالْأَبْطح، وَطَاف للوداع، وَنَفر.

(2/100)


أَقُول: اخْتلف فِي نزُول الأبطح هَل هُوَ على وَجه الْعِبَادَة أَو الْعَادة؟ فَقَالَت عَائِشَة: نزُول الأبطح لَيْسَ بِسنة إِنَّمَا نزل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ، واستنبط من قَوْله " حَيْثُ تقاسموا على الْكفْر " أَنه قصد بذلك تنويها بِالدّينِ، وَالْأول أصح.
(أُمُور تتَعَلَّق بِالْحَجِّ)
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نزل الْحجر الْأسود من الْجنَّة وَهُوَ أَشد بَيَاضًا من اللَّبن، فسودته خَطَايَا بني آدم "، وَقَالَ فِيهِ: " وَالله ليبعثنه الله يَوْم الْقِيَامَة لَهُ عينان يبصر بهما ولسان ينْطق بِهِ يشْهد على من استلمه بِحَق " وَقَالَ: " إِن الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان " أَقُول: يحْتَمل أَن يَكُونَا من الْجنَّة فِي الأَصْل، فَلَمَّا جعد فِي الأَرْض اقْتَضَت الْحِكْمَة أَن يُرَاعى فيهمَا حكم نشأة الأَرْض، فطمس نورهما، وَيحْتَمل يُرَاد أَنه خالطهما قُوَّة مثالية بِسَبَب توجه الْمَلَائِكَة إِلَى تنويه أَمرهمَا وَتعلق همم الْمَلأ الْأَعْلَى وَالصَّالِحِينَ من بني آدم حَتَّى صَارَت فيهمَا قُوَّة ملكية، وَهَذَا وَجه التَّوْفِيق بَين قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: كلما هَذَا، وَقَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله عَنهُ: حجر من أَحْجَار الأَرْض.
وَقد شاهدنا عيَانًا أَن الْبَيْت كالمحشو بِقُوَّة ملكية، وَلذَلِك وَجب أَن يعْطى فِي الْمِثَال مَا هُوَ خاصية الْأَحْيَاء من الْعَينَيْنِ وَاللِّسَان وَلما كَانَ مُعَرفا لإيمان الْمُؤمنِينَ وتعظيم المعظمين لله وَجب أَن يظْهر فِي اللِّسَان بِصُورَة الشَّهَادَة لَهُ أَو عَلَيْهِ كَمَا ذكرنَا من سر نطق الأرجل وَالْأَيْدِي.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من طَاف بِهَذَا الْبَيْت أسبوعا يُحْصِيه، وَصلى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كعتق رَقَبَة، وَمَا وضع رجل قدما، وَلَا رَفعهَا إِلَّا كتب لَهُ الله لَهُ بهَا حَسَنَة، ومحا بهَا سَيِّئَة، وَرفع لَهُ بهَا دَرَجَة " أَقُول: السِّرّ فِي هَذَا الْفضل شيآن: أَحدهمَا أَنه لما كَانَ شبحا للخوض فِي رَحْمَة الله وَعطف دعوات الْمَلأ الْأَعْلَى إِلَيْهِ ومظنة لذَلِك ذكر لَهُ أقرب خاصية لذَلِك.
وَثَانِيهمَا أَنه إِذا فعله الْإِنْسَان إِيمَانًا بِأَمْر الله وَتَصْدِيقًا لموعوده كَانَ تبيانا لإيمانه وشرحا لَهُ
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا من يَوْم أَكثر من أَن يعْتق الله فِيهِ عبدا من النَّار من يَوْم عَرَفَة، وَإنَّهُ ليدنو، ثمَّ يباهي بهم الْمَلَائِكَة "

(2/101)


أَقُول ذَلِك لِأَن النَّاس إِذا تضرعوا إِلَى الله بأجمعهم لم يتراخ نزُول الرَّحْمَة عَلَيْهِم وانتشار الروحانية فيهم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خير الدُّعَاء دُعَاء يَوْم عَرَفَة، وَخير مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ " الخ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَامع لأكْثر أَنْوَاع الذّكر، وَلذَلِك رغب فِيهِ. وَفِي سُبْحَانَ الله. وَالْحَمْد لله الخ فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وأوقات كَثِيرَة كَمَا يَأْتِي فِي الدَّعْوَات.
وَمن السّنة أَن يهدى وَإِن لم يَأْتِ الْحَج إِقَامَة لاعلاء كلمة الله بِقدر الامكان، وَإِنَّمَا دَعَا للمحلقين ثَلَاثًا وللمقصرين مرّة إبانة لفضل الْحلق، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُنَاسب لزوَال الشعث الْأَقْرَب لهيئة الداخلين على الْمُلُوك وَأدنى أَن يبْقى أثر الطَّاعَة وَيرى مِنْهُ ذَلِك ليَكُون أنوه بِطَاعَة الله، وَنهى أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا لِأَنَّهَا مثلَة وتشبه بِالرِّجَالِ، وَأفْتى فِيمَن حلق قبل أَن يذبح أَو نحر قبل أَن يَرْمِي، أَو رمى بعد مَا أَمْسَى، أَو أَفَاضَ قبل الْحلق أَنه لَا حرج وَلم يَأْمر بكفاره، وَالسُّكُوت عِنْد الْحَاجة بَيَان، وليت شعرى هَل فِي بَيَان الِاسْتِحْبَاب صِيغَة أصرح من لَا حرج، وَلَا يتم التشريع إِلَّا بِبَيَان المرخص فِي وَقت الشدائد فَمِنْهَا أَذَى لَا يَسْتَطِيع مَعَه الاجتناب عَمَّا حرم عَلَيْهِ فِي الاحرام وَفِيه قَوْله تَعَالَى:
{فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب بن عجْرَة: " فَاحْلِقْ رَأسك وَأطْعم
فرقا " الخ وَقد بَينا أَن أحسن انواع الرُّخص مَا يَجْعَل مَعَه شَيْء يذكر لَهُ الأَصْل، ويثلج صدر الْمجمع على عَزِيمَة الأَصْل عِنْد تَركه، وَحمل الافراط فِي وجوب الْكَفَّارَة على ذَلِك بِالطَّرِيقِ الأولى، وَمِنْهَا الاحصار، وَقد سنّ فِيهِ حِين حَال كفار قُرَيْش دون الْبَيْت، فَنحر هَدَايَا، وَحلق، وَخرج من الْإِحْرَام، والسر فِي حرم مَكَّة وَالْمَدينَة أَن لكل شَيْء تَعْظِيمًا وتعظيم الْبِقَاع أَلا يتَعَرَّض لما فِيهَا بِسوء، وَأَصله مَأْخُوذ من حمى الْمُلُوك وحلة بِلَادهمْ، فانه كَانَ انقياد الْقَوْم لَهُم وتعظيمهم إيَّاهُم مساوقا لمؤاخذة أنفسهم أَلا يتَعَرَّضُوا لما فِيهَا من الشّجر وَالدَّوَاب، وَفِي الحَدِيث " إِن لكل ملك حمى وَإِن حمى الله مَحَارمه " فاشتهر ذَلِك بَينهم وركز فِي صميم قُلُوبهم وسويداء أفئدتهم، وَمن أدب الْحرم أَن يتَأَكَّد وجوب مَا يجب فِي غَيره من إِقَامَة الْعدْل وَتَحْرِيم مَا يحرم فِيهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " احتكار الطَّعَام فِي الْحرم إلحاد فِيهِ "
قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} . الْآيَة
أَقُول: لما كَانَ الصَّيْد فِي الْحرم والاحرام، وَالْجِمَاع فِي الاحرام إفراطا ناشئا من

(2/102)


توغل النَّفس فِي شهوتها وَجب أَن يزْجر عَن ذَلِك بكفارة، وَاخْتلفُوا فِي جَزَاء الصَّيْد هَل تعْتَبر المثلية فِي الْخلق أَو الْقيمَة وَالْحق أَنه يَنْبَغِي أَن يسْأَل ذَوي عدل، فَإِن رَأيا رَأْي السّلف فِي تِلْكَ الصُّور فَذَاك، وَإِن رَأيا الْقيمَة فَذَاك.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يصبر على لأواء الْمَدِينَة أحد من أمتِي إِلَّا كنت لَهُ شَفِيعًا يَوْم الْقِيَامَة " أَقُول: سر هَذَا الْفضل أَن عمَارَة
الْمَدِينَة إعلاء لشعائر الدّين، فَهَذِهِ فَائِدَة ترجع إِلَى الْملَّة، وَأَن حُضُور تِلْكَ الْمَوَاضِع والحلول فِي ذَلِك الْمَسْجِد مُذَكّر لَهُ مَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَهَذِه فَائِدَة ترجع إِلَى نفس هَذَا الْمُكَلف.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة فَجَعلهَا حَرَامًا وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة " أَقُول: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن دُعَاء النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجهْد همته وتأكد عزيمته لَهُ دخل عَظِيم فِي نزُول التوقيعات.، وَالله أعلم

(2/103)