حجة الله
البالغة (المقامات وَالْأَحْوَال)
اعْلَم أَن للإحسان ثَمَرَات تحصل بعد حُصُوله، وَهِي المقامات
وَالْأَحْوَال، وَشرح الْأَحَادِيث الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا الْبَاب
يتَوَقَّف على تمهيد مقدمتين: الأولى فِي إِثْبَات الْعقل، وَالْقلب،
وَالنَّفس، وَبَيَان حقائقها، وَالثَّانيَِة فِي بَيَان كَيْفيَّة تولد
المقامات وَالْأَحْوَال مِنْهَا.
(2/136)
الْمُقدمَة الأولى أعلم أَن فِي
الْإِنْسَان ثَلَاث لطائف تسمى بِالْعقلِ، وَالْقلب، وَالنَّفس، دلّ على
ذَلِك النَّقْل، وَالْعقل، والتجربة، واتفاق الْعُقَلَاء.
أما النَّقْل فقد ورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم:
{إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} .
وَورد حِكَايَة عَن أهل النَّار:
{لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا من أَصْحَاب السعير} .
وَورد فِي الحَدِيث:
" أول مَا خلق الله تَعَالَى الْعقل وَقَالَ لَهُ: أقبل فَأقبل، وَقَالَ:
أدبر فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: بك أؤاخذ "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" دين الْمَرْء عقله، وَمن لَا عقل لَهُ لَا دين لَهُ " وَقَالَ:
" أَفْلح من رزق لبا " وَهَذِه الْأَحَادِيث أَن كَانَ لأهل الحَدِيث فِي
ثُبُوتهَا مقَال فَإِن لَهَا أَسَانِيد يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَورد فِي
الْقُرْآن الْعَظِيم:
{وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} .
وَورد:
{إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد}
.
وَفِي الحَدِيث
" أَلا أَن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد وَإِذا فَسدتْ فسد
الْجَسَد أَلا وَهِي الْقلب " وَورد " مثل الْقلب كريشة فِي فلاة تقلبها
الرِّيَاح ظهرا لبطن " وَورد فِي الحَدِيث " النَّفس تتمنى وتشتهي والفرج
يصدق ذَلِك ويكذبه ".
وَيعلم من تتبع مَوَاضِع الِاسْتِعْمَال أَن الْعقل هُوَ الشَّيْء الَّذِي
يدْرك بِهِ الْإِنْسَان مَا لَا يدْرك بالحواس، وَأَن الْقلب هُوَ الشَّيْء
الَّذِي بِهِ يحب الْإِنْسَان، وَيبغض، ويختار، ويعزم، وَأَن النَّفس هُوَ
الشَّيْء الَّذِي بِهِ يَشْتَهِي الْإِنْسَان مَا يستلذه من المطاعم
والمشارب والمناكح.
وَأما الْعقل فقد ثَبت فِي مَوْضِعه أَن فِي بدن الْإِنْسَان ثَلَاث
أَعْضَاء رئيسية بهَا تتمّ القوى، والأفاعيل الَّتِي تقتضيها صُورَة نوع
الْإِنْسَان، فالقوى الإدراكية من التخيل والتوهم وَالتَّصَرُّف فِي
المتخيلات والمتوهمات، والحكاية للمجردات بِوَجْه من الْوُجُوه محلهَا
الدِّمَاغ. وَالْغَضَب. الجرأة. وَالشح. وَالرِّضَا. والسخط وَمَا يشبهها
محلهَا الْقلب، وَطلب مَا لَا يقوم الْبدن إِلَّا بِهِ أَو بِجِنْسِهِ
مَحَله الكبد، وَقد يدل فتور بعض القوى إِذا حدثت آفَة فِي بعض هَذِه
الْأَعْضَاء على اختصاصها بهَا، ثمَّ إِن فعل كل وَاحِد من هَذِه
الثَّلَاثَة لَا يتم إِلَّا بمعونة من الآخرين، فلولا إِدْرَاك مَا فِي
الشتم أَو الْكَلَام الْحسن من الْقبْح وَالْحسن وتوهم النَّفْع والضر مَا
هاج غضب وَلَا حب، وَلَوْلَا متانة الْقلب لم يصر المتصور مُصدقا بِهِ،
وَلَوْلَا معرفَة المطاعم والمناكح
(2/137)
وتوهم الْمَنَافِع فِيهَا لم يمل إِلَيْهَا
الطَّبْع، وَلَوْلَا تَنْفِيذ الْقلب حكمه فِي أعماق الْبدن لم يسع
الْإِنْسَان فِي تَحْصِيل مستلذاته، وَلَوْلَا خدمَة
الْحَواس لِلْعَقْلِ مَا أدركنا شَيْئا، فَإِن الكسبيات فرع البديهيات
والبديهيات فرع المحسوسات، وَلَوْلَا صِحَة كل عُضْو من الْأَعْضَاء
الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا صِحَة الْقلب والدماغ لما كَانَ لَهَا صِحَة
وَلَا تمّ لَهما فعل، وَلَكِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَنْزِلَة ملك اهتم
بِأَمْر عَظِيم من فتح قلعة صعبة أَو نَحوه، فاستمد من إخوانه بجيوش ودروع
ومدافع وَهُوَ الْمُدبر فِي فتح القلعة وَإِلَيْهِ الحكم وَمِنْه الرَّأْي،
وَإِنَّمَا هم خدم يَمْشُونَ على رَأْيه، فَجَاءَت صور الْحَوَادِث على حسب
الصِّفَات الْغَالِبَة فِي الْملك من جراءته وجبنه وسخائه وبخله وعدالته
وظلمه، فَكَمَا يخْتَلف الْحَال باخْتلَاف الْمُلُوك وآرائهم وصفاتهم -
وَإِن كَانَت الجيوش والآلات متشابهة - فَكَذَلِك يخْتَلف حكم كل رَئِيس من
الرؤساء الثَّلَاثَة فِي مملكة بدن الْإِنْسَان.
وَبِالْجُمْلَةِ الأفاعيل المنبجسة من كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة تكون
مُتَقَارِبَة فِيمَا بَينهَا، إِمَّا مائلة إِلَى الإفراط والتفريط، أَو
قارة فِيمَا بَين هَذَا وَذَاكَ، فَإِذا اعْتبرنَا هَذِه الهياكل
الثَّلَاثَة مَعَ أفاعيلها المتقاربة وأمزجتها الَّتِي تَقْتَضِي تِلْكَ
الأفاعيل المتقاربة دَائِما فَهِيَ اللطائف الثَّلَاث الَّتِي يبْحَث
عَنْهَا، لَا تِلْكَ القوى بذواتها من غير اعْتِبَار شَيْء مَعهَا.
فالقلب من صِفَاته وأفعاله الْغَضَب، والجراءة، وَالْحب، والجبن،
وَالرِّضَا، والسخط، وَالْوَفَاء بالمحبة الْقَدِيمَة، والتلون فِي الْحبّ
والبغض، وَحب الجاه والجود، وَالْبخل، والرخاء، وَالْخَوْف.
وَالْعقل من صِفَاته وأفعاله الْيَقِين. وَالشَّكّ. والتوهم. وَطلب
الْأَسْبَاب لكل حَادث والتفكر فِي حيل جلب الْمَنَافِع وَدفع المصار.
وَالنَّفس مُنْتَهى صفاتها الشره فِي المطاعم والمشارب اللذيذة وعشق
النِّسَاء وَنَحْو ذَلِك.
وَأما التجربة فَكل من استقرأ أَفْرَاد الْإِنْسَان علم لَا محَالة أَنهم
مُخْتَلفُونَ بِحَسب جبلتهم فِي هَذِه الْأُمُور: مِنْهُم من يكون قلبه
هُوَ الْحَاكِم على نَفسه، وَمِنْهُم من يكون النَّفس هِيَ الْقَاهِرَة على
الْقلب
أما الأول فَإِذا أَصَابَهُ غضب، أَو هاج فِي قلبه طلب منصب عَظِيم يستهين
فِي جنبه اللَّذَّات الْعَظِيمَة. ويصبر على تَركهَا، ويجاهد نَفسه مجاهدة
عَظِيمَة فِي تَركهَا.
(2/138)
وَأما الآخر فَإِنَّهُ إِذا عرضت لَهُ
شَهْوَة اقتحم فِيهَا وَأَن كَانَ هُنَاكَ ألف عَار، وَلَا يلْتَفت إِلَى
مَا يرغب فِيهِ من المناصب الْعَالِيَة، أَو يرهب مِنْهُ من الذل والهوان،
وَرُبمَا يَبْدُو للرجل الغيور منكح شهي، وَتَدْعُو إِلَيْهِ نَفسه أَشد
دَعْوَة، فَلَا يركن إِلَيْهَا لخاطر هجس من قلبه من قبيل الْغيرَة،
وَرُبمَا يصبر على الْجُوع والعري، وَلَا يسْأَل أحدا شَيْء لما جبل فِيهِ
من الأنفة، وَرُبمَا يَبْدُو للرجل الْحَرِيص منكح شهي أَو مطعم هني،
وَيعلم فيهمَا ضَرَرا عَظِيما، إِمَّا من جِهَة الطِّبّ، أَو من جِهَة
الْحِكْمَة العملية، أَو من جِهَة سطوة بعض بني آدم فيخاف، ويرتعش، ويرعوى،
ثمَّ يعميه الْهوى، فيقتحم فِي الورطة على علم، وَرُبمَا يدْرك الْإِنْسَان
من نَفسه نزوعا إِلَى جِهَتَيْنِ متخالفتين، ثمَّ يغلب دَاعِيَة على
دَاعِيَة، ويتكرر مِنْهُ أَفعَال متشابهة على هَذَا النسق حَتَّى يضْرب
بِهِ الْمثل، إِمَّا فِي اتِّبَاع الْهوى وقله الْحفاظ، وَإِمَّا فِي ضبط
الْهوى وَقُوَّة المسكة، وَرجل ثَالِث يغلب عقله على الْقلب وَالنَّفس
كَالرّجلِ الْمُؤمن حق الْإِيمَان انْقَلب حبه وبغضه وشهوته إِلَى مَا
يَأْمر بِهِ الشَّرْع وَإِلَى مَا عرف من الشَّرْع جَوَازه بل
اسْتِحْبَابه، فَلَا يَبْتَغِي أبدا عَن حكم الشَّرْع حولا، وَرجل رَابِع
يغلب عَلَيْهِ الرَّسْم وَطلب الجاه وَنفي الْعَار عَن نَفسه، فَهُوَ
يَكْظِم الغيظ، ويصبر على مرَارَة الشتم مَعَ قُوَّة غَضَبه وَشدَّة
جرأته، وَيتْرك شهواته مَعَ قُوَّة طَبِيعَته، وَلِئَلَّا يُقَال فِيهِ مَا
لَا يُحِبهُ، لِئَلَّا ينْسب إِلَى الشَّيْء الْقَبِيح، أَو ليجد مَا
يَطْلُبهُ من رفْعَة الجاه وَغَيره، فالرجل الأول يشبه بالسباع،
وَالثَّانِي بالبهائم، وَالثَّالِث بِالْمَلَائِكَةِ. وَالرَّابِع يُقَال
لَهُ: صَاحب الْمُرُوءَة وَصَاحب معالي الهمم، لم يجد من عرض النَّاس
أَفْرَاد يغلب فِيهَا قوتان مَعًا على الثَّلَاثَة، وَيكون أَمرهمَا فِيمَا
بَينهمَا متشابها ينَال هَذَا من ذَلِك من هَذَا أُخْرَى، فَإِذا أَرَادَ
المستبصر ضبط أَحْوَالهم وَالتَّعْبِير عَمَّا هم فِيهِ اضْطر إِلَى
إِثْبَات اللطائف الثَّلَاث.
وَأما اتِّفَاق الْعُقَلَاء فَاعْلَم أَن جَمِيع من اعتنى بتهذيب النَّفس
الناطقة من أهل الْملَل والنحل اتَّفقُوا على إِثْبَات هَذِه الثَّلَاث أَو
على بَيَان مقامات وأحوال تتَعَلَّق بِالثلَاثِ، فالفيلسوف فِي حكمته
العملية يسميها نفسا ملكية، ونفسا سبعية، ونفسا بهيمية، وَفِي هَذِه
التَّسْمِيَة نوع من التسامح، فَسمى الْعقل بِالنَّفسِ الملكية تَسْمِيَة
بِأَفْضَل أفرادها، وسمى الْقلب بِالنَّفسِ السبعية تَسْمِيَة لَهُ بأشهر
صافه.
(2/139)
وَطَوَائِف الصُّوفِيَّة ذكرُوا هَذِه
اللطائف، واعتنوا بتهذيب كل وَاحِدَة إِلَّا أَنهم أثبتوا لطيفتين
أُخْرَيَيْنِ أَيْضا، واهتموا بهما اهتماما عَظِيما: وهما الرّوح، والسر،
وتحقيقهما أَن الْقلب لَهُ وَجْهَان: وَجه يمِيل إِلَى الْبدن والجوارح،
وَوجه يمِيل إِلَى التجرد والصرافة، وَكَذَلِكَ الْعقل لَهُ وَجْهَان: وَجه
يمِيل إِلَى الْبدن والحواس، وَوجه يمِيل إِلَى التجرد والصرافة، فسموا مَا
يَلِي جَانب السّفل قلبا وعقلا، وَمَا يَلِي جَانب الفوق روحا وسرا، فصفة
الْقلب الشوق المزعج والوجد، وَصفَة الرّوح الْأنس والانجذاب، وَصفَة
الْعقل الْيَقِين بِمَا يقرب مأخذه من مَأْخَذ الْعُلُوم العادية كالأيمان
بِالْغَيْبِ، والتوحيد الأفعالي، وَصفَة السِّرّ شُهُود مَا بِحل عَن
الْعُلُوم العادية، وَإِنَّمَا
هُوَ حِكَايَة مَا عَن الْمُجَرّد الصّرْف الَّذِي لَيْسَ فِي زمَان وَلَا
مَكَان، وَلَا يُوصف بِوَصْف وَلَا يشار إِلَيْهِ بِإِشَارَة، وَالشَّرْع
لما كَانَ نازلا على ميزَان الصُّورَة الإنسانية دون الخصوصيات الفردية لم
يبْحَث عَن التَّفْصِيل كثير بحث، وَترك مباحثها فِي مخدع الْإِجْمَال،
وَسَائِر الْملَل والنحل أَيْضا عِنْدهم علم من ذَلِك يعرف بالاستقراء مَعَ
نوع من التفطن.
الْمُقدمَة الثَّانِيَة: اعْلَم أَن الرجل العتيك الَّذِي مكنت مادته
لظُهُور أَحْكَام النَّوْع فِيهَا كَامِلا وافرا وَهُوَ رَئِيس أَفْرَاد
الْإِنْسَان بالطبع، والدستور الَّذِي يعرف جَمِيع الْأَفْرَاد قربا من
الْحَد الْأَعْلَى، وبعدا مِنْهُ بِالنّظرِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي غلب عقله
على قلبه مَعَ قُوَّة قلبه وسوغ قواه وقهر قلبه عل نَفسه ووفور مقتضياتها
فَهَذَا هُوَ الَّذِي تمت أخلاقه، وقويت فطرته، ودونه أَصْنَاف كَثِيرَة
مُتَفَاوِتَة تظهر التَّأَمُّل الصَّحِيح.
وَأما الْحَيَوَان الْأَعْجَم فَفِيهِ القوى الثَّلَاث أَيْضا إِلَّا أَن
عقله مغلوب قلبه وَنَفسه فِي الْغَايَة فَلم يسْتَحق التَّكْلِيف، وَلَا
لحق بالملا الْأَعْلَى، وَهُوَ قَوْله تبَارك وَتَعَالَى.
{وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من
الطَّيِّبَات وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} .
وَهَذَا الرجل العتيك إِن كَانَ عقله منقادا للعقائد الحقة الْمَأْخُوذَة
من الصَّادِقين الأخذين عَن الْمَلأ الْأَعْلَى صلوَات الله عَلَيْهِم
فَهُوَ الْمُؤمن حَقًا، وَإِن كَانَ لَهُ مَعَ ذَلِك سَبِيل إِلَى الْمَلأ
الْأَعْلَى يَأْخُذ عَنْهُم بِغَيْر وَاسِطَة فَفِيهِ شُعْبَة من
النُّبُوَّة وميراث مِنْهَا، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا
الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة، وَإِن
كَانَ عقله منقادا لعقائد زائغة مَأْخُوذَة من المضلين المبطلين فَهُوَ
الملحد الضال، وَإِن كَانَ عقله منقادا لرسم قومه وَلما أدْركهُ بالتجربة
وَالْحكمَة العملية فَهُوَ الْجَاهِل لدين الله،
(2/140)
وَلما كَانَ الْأَمر على ذَلِك وَجب فِي
حكمه الله تَعَالَى أَن ينزل كتابا على أزكى خلق الله وأعتكهم وأشبههم
بالملأ الْأَعْلَى، ثمَّ يجمع إِلَيْهِ الآراء حَتَّى تصير أَحْكَامه من
المشهورات الذائعة.
{ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة ويحيا من حَيا عَن بَيِّنَة} .
وَأَن يبين لَهُم هَذَا النَّبِي صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ طرق
الْإِحْسَان والمقامات الَّتِي هِيَ ثمراته أتم بَيَان.
وَبِالْجُمْلَةِ إِذا آمن الرجل بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو بِمَا جَاءَ
بِهِ نبيه صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه من بَيَانه إِيمَانًا يستتبع
جَمِيع قواة القلبية والنفسية، ثمَّ اشْتغل بالعبودية حق الِاشْتِغَال ذكرا
بِاللِّسَانِ وتفكراً بالجنان وادبا بالجوارح، ودام على ذَلِك مُدَّة مديدة
شرب كل وَاحِد من هَذِه اللطائف الثَّلَاث حَظه من الْعُبُودِيَّة، وَكَانَ
الْأَمر شَبِيها بالدوحة الْيَابِسَة تسقى المَاء الغزير، فَيدْخل الرّيّ
كل غُصْن من أَغْصَانهَا وكل ورقة من أوراقها، ثمَّ ينْبت مِنْهَا الأزهار
وَالثِّمَار، فَكَذَلِك تدخل الْعُبُودِيَّة فِي هَذِه اللطائف الثَّلَاث
وَتغَير صفاتها الطبيعية الخسيسة إِلَى الصِّفَات الملكية الفاضلة.
فَتلك الصِّفَات إِن كَانَت ملكات راسخة تستمر أفاعيلها على نهج وَاحِد
وأنهاج مُتَقَارِبَة، فَهِيَ المقامات، وَإِن كَانَت بوارق تبدو تَارَة،
وتنمحي أُخْرَى، وَلما تَسْتَقِر بعد، أَو هِيَ أُمُور لَيْسَ من شَأْنهَا
الِاسْتِقْرَار كالرؤيا والهواتف وَالْغَلَبَة تسمى أحوالا وأوقاتا.
وَلما كَانَ مُقْتَضى الْعقل فِي غلواء الطبيعة البشرية التَّصْدِيق
بِأُمُور ترد عَلَيْهِ مناسباتها صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه الْيَقِين
بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع كَأَنَّهُ يُشَاهد كل ذَلِك عيَانًا كَمَا أخبر
زيد بن حَارِثَة حِين قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لكل حق
حَقِيقَة فَمَا حَقِيقَة إيمانك؟ فَقَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش
الرَّحْمَن بارزا ".
وَلما كَانَ مُقْتَضَاهُ أَيْضا معرفَة الْأَسْبَاب لما يحدث من نعْمَة
ونقمة صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه التَّوَكُّل، وَالشُّكْر،
وَالرِّضَا، والتوحيد
وَلما كَانَ من مُقْتَضى الْقلب فِي أصل الطبيعة محبَّة الْمُنعم المربى
وبغض المنافر الشانئ. وَالْخَوْف عَمَّا يُؤْذِيه. والرجاء لما يَنْفَعهُ
كَانَ مُقْتَضَاهُ بعد التَّهْذِيب محبَّة الله تَعَالَى وَالْخَوْف من
عَذَابه ورجاء ثَوَابه، وَلما كَانَ من مُقْتَضى النَّفس فِي غلواء طبيعتها
والانهماك فِي الشَّهَوَات والدعة كَانَ صفتهَا عِنْد تهذيبها التَّوْبَة
والزهد وَالِاجْتِهَاد،
(2/141)
وَهَذَا الْكَلَام إِنَّمَا أردنَا بِهِ
ضرب الْمِثَال. والمقامات لَيست محصورة فِيمَا ذكرنَا، فقس غير الْمَذْكُور
على الْمَذْكُور، وَالْأَحْوَال كالسكر وَالْغَلَبَة والعزوف عَن الطَّعَام
وَالشرَاب مُدَّة مديدة، وكالرؤيا والهاتف على المقامات.
وَإِذا قد فَرغْنَا مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ شرح أَحَادِيث الْبَاب حَان
أَن نشرع فِي الْمَقْصُود، فَنَقُول.
أصل المقامات وَالْأَحْوَال الْمُتَعَلّقَة بِالْعقلِ هُوَ الْيَقِين،
وينشعب من الْيَقِين: التَّوْحِيد، وَالْإِخْلَاص والتوكل، وَالشُّكْر،
والأنس. والهيبة، والتفريد، والصديقية، والمحدثية وَغير ذَلِك مِمَّا يطول
عده، وَقَالَ عبد الله بن
مَسْعُود: الْيَقِين الْإِيمَان كُله ويروي رَفعه، وَقَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " واقسم لنا من الْقَيْن مَا تهون بِهِ علينا مصائب
الدُّنْيَا ".
أَقُول: معنى الْيَقِين أَن يُؤمن الْمُؤمن بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع من
مَسْأَلَة الْقدر وَمَسْأَلَة الْمعَاد، ويغلب الْإِيمَان على عقله، ويترشح
من عقله رشحات على قلبه وَنَفسه حَتَّى يصير الْمُتَيَقن بِهِ كالمعاين
المحسوس، وَإِنَّمَا كَانَ الْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله لِأَنَّهُ
الْعُمْدَة فِي تَهْذِيب الْعقل، وتهذيب الْعقل هُوَ السَّبَب فِي تَهْذِيب
الْقلب وَالنَّفس، وَذَلِكَ لِأَن الْيَقِين إِذا غلب على الْقلب انشعب
مِنْهُ شعب كَثِيرَة فَلَا يخَاف مِمَّا يخَاف مِنْهُ النَّاس فِي الْعَادة
علما مِنْهُ بِأَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه، وَمَا أخطأه لم يكن
ليصيبه، ويهون عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا اطمئنانا بِمَا وعد فِي
الْآخِرَة، وتزدري نَفسه بالأسباب المتكثرة علما مِنْهُ بِأَن الْقُدْرَة
الوجوبية هِيَ المؤثرة فِي الْعَالم بِالِاخْتِيَارِ والإرادة، وَبِأَن
الْأَسْبَاب عَادِية فيغتر سَعْيه فِيمَا يسْعَى النَّاس فِيهِ، ويكدون،
ويكدحون، فيستوي عِنْده ذهب الدُّنْيَا وحجرها.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا تمّ الْيَقِين، وَقَوي، وَاسْتمرّ حَتَّى مَا
يُغَيِّرهُ فقر وَلَا غنى وَلَا عز وَلَا ذل - انشعب مِنْهُ شعب كَثِيرَة:
وَمِنْهَا الشُّكْر وَهُوَ أَن يرى جَمِيع مَا عِنْده من النعم الظَّاهِرَة
والباطنة فائضة من بارئه جلّ مجده، فيرتفع بِعَدَد كل نعْمَة محبَّة مِنْهُ
إِلَى بارئه، وَيرى عَجزه عَن الْقيام بشكره، فيضمحل، ويتلاشى فِي ذَلِك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من يدعى إِلَى الْجنَّة
الحامدون الَّذين يحْمَدُونَ الله تَعَالَى فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ آيَة انقياد عقله وَقَلبه لليقين ببارئه،
وَلِأَن معرفَة النعم ورؤية فيضانها من بارئها أورثت فيهم قُوَّة فعالة فِي
عَالم الْمِثَال تنفعل مِنْهَا
القوى المثالية والهياكل
(2/142)
الأخروية، فَلَا ينزل معرفَة تفاصيل النعم
ورؤية فيضانها من الْمُنعم جلّ مجده من الدُّعَاء المستجاب فِي قرع بَاب
الْجُود، وَلَا يتم الشُّكْر حَتَّى يتَنَبَّه بعجيب صنع الله بِهِ فِيمَا
مضى من عمره كَمَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي
انْصِرَافه من حجَّته الَّتِي لم يحجّ بعْدهَا: الْحَمد لله، وَلَا إِلَه
إِلَّا الله، يُعْطي من شَاءَ مَا يَشَاء لقد كنت بِهَذَا الْوَادي -
يَعْنِي ضجنَان - أرعى إبِلا للخطاب، وَكَانَ فظا غليظا يتعبني إِذا عملت
ويضربني إِذا قصرت، وَقد أَصبَحت، وأمسيت، وَلَيْسَ بيني وَبَين الله أحد
أخشاه.
وَمِنْهَا التَّوَكُّل، وَهُوَ أَن يغلب عَلَيْهِ الْيَقِين حَتَّى يفتر
سَعْيه فِي جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار من قبل الْأَسْبَاب وَلَكِن يمشي
فِي مَا سنه الله تَعَالَى على عباده من الاكساب من غير اعْتِمَاد
عَلَيْهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدْخل الْجنَّة من أمتِي
سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب هم الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَلَا
يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ ".
أَقُول إِنَّمَا وَصفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
إعلاما بِأَن أثر التَّوَكُّل ترك الْأَسْبَاب الَّتِي نهى الشَّرْع
عَنْهَا لَا ترك الْأَسْبَاب الَّتِي سنّهَا الله تَعَالَى بعباده،
وَإِنَّمَا دخولوا الْجنَّة من غير حِسَاب لِأَنَّهُ لما اسْتَقر فِي
نُفُوسهم معنى التَّوَكُّل أورث ذَلِك معنى ينفض عَنْهَا سَبَبِيَّة
الْأَعْمَال العاضة عَلَيْهَا من حَيْثُ إِنَّهُم أيقنوا بِأَن لَا مُؤثر
فِي الْوُجُود إِلَّا الْقُدْرَة والوجوبية.
وَمِنْهَا الهيبة وَهِي أَن يستيقن بِعظم جلال الله حَتَّى يتلاشى فِي جنبه
كَمَا قَالَ الصّديق إِذْ رأى طيرا وَاقعا على شَجَرَة فَقَالَ: طُوبَى لَك
يَا طير يَا طير، وَالله لَوَدِدْت أَنِّي كنت مثلك تقع على الشّجر، وتأكل
من الثَّمر، ثمَّ تطير،
وَلَيْسَ عَلَيْك حِسَاب وَلَا عَذَاب، وَالله لَوَدِدْت أَنِّي كنت
شَجَرَة إِلَى جَانب الطَّرِيق مر عَليّ جمل، فأخذني، فَأَدْخلنِي فَاه،
فَلَا كنى ثمَّ ازدردني، ثمَّ أخرجني بعرا، وَلم أكن بشرا.
وَمِنْهَا حسن الظَّن وَهُوَ معبر عَنهُ فِي لِسَان الصُّوفِيَّة بالأنس،
وينشأ من مُلَاحظَة نعم الْحق وألطافه، كَمَا أَن الهيبة تنشأ من مُلَاحظَة
نقم الْحق وسطواته. وَالْمُؤمن وَإِن كَانَ بنظره الاعتقادي يجمع الْخَوْف
والرجاء لَكِن بِحَالَة ومقاومة رُبمَا يغلب عَلَيْهِ الهيبة، وَرُبمَا
يغلب عَلَيْهِ حسن الظَّن، كَمثل رجل قَائِم على شفا الْبِئْر العميقة
ترتعد فرائصه وَإِن كَانَ عقله لَا يُوجب خوفًا، وكما أَن حَدِيث النَّفس
بِالنعَم الهنيئة يفرح الْإِنْسَان وَإِن كَانَ عقله لَا يُوجب فَرحا،
وَلَكِن تشرب الْوَهم فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ خوفًا وفرحا.
(2/143)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
حسن الظَّن بِاللَّه من حسن الْعِبَادَة " وَقَالَ عَن ربه تبَارك
وَتَعَالَى: (أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي) أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن حسن الظَّن
يُهَيِّئ نَفسه لفيضان اللطف من بارئه.
وَمِنْهَا التفريد وَهُوَ أَن يستولي الذّكر على قواه الإدراكية حَتَّى
يصير كَأَنَّهُ يرى الله تَعَالَى عيَانًا، فتضمحل أَحَادِيث نَفسه "
وينطفئ كثير من لهبها، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سِيرُوا،
سبق المفردون هم الَّذين وضع عَنْهُم الذّكر أثقالهم) أَقُول: إِذا خلص نور
الذّكر إِلَى عُقُولهمْ، وتشبح التطلع إِلَى الجبروت فِي نُفُوسهم انزجرت
البهيمية، وانطفأ لهبها، وَذَهَبت أثقالها.
وَمِنْهَا الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن يتَمَثَّل فِي عقله نفع الْعِبَادَة لله
تَعَالَى من جِهَة قرب نَفسه من الْحق كَمَا قَالَ تبَارك وَتَعَالَى.
{إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} .
أَو من جِهَة تَصْدِيق مَا وعد الله تَعَالَى على أَلْسِنَة رسله من ثَوَاب
الْآخِرَة، فينشأ مِنْهُ الْأَعْمَال بداعيه عَظِيمَة لَا يشوبها رِيَاء
وَلَا سمعة وَلَا مُوَافقَة عَادَة، وينسحب هَذَا الْحَال على جَمِيع
أَعماله حَتَّى الْأَعْمَال الْمُبَاحَة العادية، قَالَ الله تَعَالَى:
{وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الْأَعْمَال
بِالنِّيَّاتِ ".
وَمِنْهَا التَّوْحِيد وَله ثَلَاث مَرَاتِب: إِحْدَاهَا تَوْحِيد
الْعِبَادَة، فَلَا يعبد الطواغيت، وَيكرهُ عبادتها كَمَا يكره أَن يقذف
فِي النَّار.
وَالثَّانيَِة أَلا يرى الْحول الْقُوَّة وَيرى أَن لَا مُؤثر فِي الْعَالم
إِلَّا الْقُدْرَة الوجوبية بِلَا وَاسِطَة، وَيرى الْأَسْبَاب عَادِية
إِنَّمَا تنْسب المسببات إِلَيْهَا مجَازًا، وَيرى الْقدر غَالِبا على
إِرَادَة الْخلق.
وَالثَّالِثَة أَن يعْتَقد تَنْزِيه الْحق عَن مشاكله الْمُحدثين وَيرى
أَوْصَافه لَا تماثل أَوْصَاف الْخلق، وَيصير الْخَبَر فِي ذَلِك كالعيان،
ويطمئن قلبه بِأَن لَيْسَ كمثله شَيْء من جذر نَفسه، ويتلقى أَخْبَار
الشَّرْع بذلك على بَيِّنَة من ربه ناشئة من ذَاته على ذَاته.
(2/144)
وَمِنْهَا الصديقية، والمحدثية، وحقيقتها
أَن من الْأمة من يكون فِي أصل فطرته شَبِيها بالأنبياء بِمَنْزِلَة
التلميذ الفطن للشَّيْخ الْمُحَقق، فتشبهه إِن كَانَ بِحَسب القوى
الْعَقْلِيَّة فَهُوَ الصّديق أَو الْمُحدث، وَإِن كَانَ تشبهه بِحَسب
الْقود العملية فَهُوَ الشَّهِيد والحواري، وَإِلَى هَاتين القبيلتين وَقعت
الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون وَالشُّهَدَاء}
.
وَالْفرق بَين الصّديق. والمحدث أَن الصّديق نَفسه قريبَة المأخذ من نفس
النَّبِي، كالكبريت بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّار، فَكلما سمع من النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبرا وَقع فِي نَفسه بموقع عَظِيم،
ويتلقاه بِشَهَادَة نَفسه حَتَّى صَار كَأَنَّهُ علم هاج فِي نَفسه من غير
تَقْلِيد، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى الْإِشَارَة فِيمَا ورد من أَن أَبَا
ابا بكر الصّديق كَانَ سمع دوِي صَوت جِبْرِيل حِين كَانَ ينزل بِالْوَحْي
على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصديق تنبعث من نَفسه
لَا محَالة محبَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشد مَا
يُمكن من الْحبّ، فيندفع إِلَى الْمُوَاسَاة مَعَه بِنَفسِهِ وَمَاله
والموافقة لَهُ فِي كل حَال حَتَّى يخبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من حَاله أَنه " أَمن النَّاس عَلَيْهِ فِي مَاله وصحبته "
وَحَتَّى يشْهد لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ
لَو أمكن أَن يتَّخذ خَلِيلًا من النَّاس لَكَانَ هُوَ ذَلِك الْخَلِيل،
وَذَلِكَ لتعاقب وُرُود أنوار الْوَحْي من نفس النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نفس الصّديق، وفكلما تكَرر التَّأْثِير والتأثر
وَالْفِعْل والانفعال حصل الفناء وَالْفِدَاء، وَلما كَانَ كَمَاله الَّذِي
هُوَ غَايَة مَقْصُوده بِصُحْبَة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وباستماع كَلَامه لَا جرم كَانَ أَكْثَرهم لَهُ صُحْبَة.
وَمن علامه الصّديق أَن يكون أعبر النَّاس للرؤيا، وَذَلِكَ لما جبل
عَلَيْهِ من تلقي الْأُمُور الغيبية بِأَدْنَى سَبَب، وَلذَلِك كَانَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطْلب التَّعْبِير من الصّديق
فِي واقعات كَثِيرَة، وَمن عَلامَة الصّديق أَن يكون أول النَّاس إِيمَانًا
وَأَن يُؤمن بِغَيْر معْجزَة.
والمحدث تبادر نَفسه إِلَى بعض معادن الْعلم فِي الملكوت، فتأخذ مِنْهُ
علوما مِمَّا هيأه الْحق هُنَاكَ؛ ليَكُون شَرِيعَة للنَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليكون إصلاحا لنظام بني آدم وَإِن لم ينزل الْوَحْي
بعد على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمثل رجل يرى فِي
مَنَامه كثيرا من الْحَوَادِث الَّتِي أجمع فِي الملكوت على إيجادها.
وَمن خَاصَّة الْمُحدث أَن ينزل الْقُرْآن على وفْق رَأْيه فِي كثير من
الْحَوَادِث، وَأَن يرى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامه أَنه أعطَاهُ اللَّبن بعد ريه.
وَالصديق أولى النَّاس بالخلافة لِأَن نفس الصّديق تصير وكرا لعناية الله
بِالنَّبِيِّ ونصرته لَهُ وتأييده إِيَّاه حَتَّى يصير كَأَن روح النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينْطق بِلِسَان الصّديق، وَهُوَ قَول عمر
حِين دَعَا النَّاس إِلَى بيعَة الصّديق، فَإِن يَك مُحَمَّد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مَاتَ فَإِن الله قد جعل بَين
(2/145)
أظْهركُم نورا تهتدون بِهِ، هدى الله
مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن أَبَا بكر صَاحب رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِي اثْنَيْنِ وَأَنه أولى
النَّاس بأموركم، فَقومُوا، فَبَايعُوهُ.
ثمَّ الْمُحدث بعد ذَلِك أولى النَّاس بالخلافة، وَذَلِكَ قَوْله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر، وَعمر "،
وَقَوله تَعَالَى:
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ
محدثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر ".
وَمن الْأَحْوَال الْمُتَعَلّقَة بِالْعقلِ التجلي قَالَ سهل: التجلي على
ثَلَاثَة أَحْوَال: تجلي ذَات وَهِي المكاشفة، وتجلي صِفَات الذَّات، وَهِي
مَوَاضِع النُّور، وتجلي حكم الذَّات وَهِي الْآخِرَة وَمَا فِيهَا.
فَمَعْنَى المكاشفة غَلَبَة الْيَقِين حَتَّى يصير كَأَنَّهُ يرَاهُ،
ويبصره، وَيبقى ذاهلا عَمَّا عداهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْإِحْسَان أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ " أما مُشَاهدَة
العيان وَهُوَ فِي الْآخِرَة لَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: تجلي صِفَات الذَّات يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن يراقب
أَفعاله فِي الْخلق، ويستحضر صِفَاته، فيغلب يَقِين قدرَة الله عَلَيْهِ،
فيغيب عَن الْأَسْبَاب، وَيسْقط عَنهُ الْخَوْف والتسبب، ويغلب عَلَيْهِ
علمه تَعَالَى بِهِ،
فَيبقى خاضعا مَرْعُوبًا مدهوشا كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " وَهِي مَوَاضِع النُّور
بِمَعْنى أَن النَّفس تتنور بأنوار مُتعَدِّدَة تتقلب من نور إِلَى نور
وَمن مراقبة إِلَى مراقبة بِخِلَاف تجلي الذَّات إِذْ لَا تعدد هُنَالك
وَلَا تحول.
وَثَانِيهمَا أَن يرى صفة الذَّات بِمَعْنى فعلهَا وخلقها بِأَمْر كن من
غير توَسط الْأَسْبَاب الخارجية، ومواضع النُّور هِيَ الأشباح المثالية
النورية الَّتِي تتراءى للعارف عِنْد غيبَة حواسه عَن الدُّنْيَا.
وَمعنى تجلي الْآخِرَة أَن يعاين كمجازاه ببصر بصيرته فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة، ويجد ذَلِك من نَفسه كَمَا يجد الجائع ألم جوعه والظمآن ألم
عطشه، فمثال الأول قَول عبد الله بن عمر حِين سلم عَلَيْهِ إِنْسَان وَهُوَ
فِي الطّواف، فَلم يرد عَلَيْهِ السَّلَام، فَشَكا إِلَى بعض أَصْحَابه،
فَقَالَ ابْن عمر: كُنَّا نترايا لله فِي ذَلِك الْمَكَان، وَهَذِه
الْحَالة نوع من الْغَيْبَة وَنَوع من الفناء، وَذَلِكَ لِأَن كل لَطِيفَة
من اللطائف الثَّلَاث لَهَا غيبَة وفناء، فغيبة الْعقل وفناؤه سُقُوط
معرفَة الْأَشْيَاء شغلا بربه، وغيبة الْقلب وفناؤه سُقُوط محبَّة الْغَيْر
وَالْخَوْف مِنْهُ، وغيبة النَّفس وفناؤها سُقُوط شهوات النَّفس وانحجامها
(2/146)
عَن الالتذاذ بالشهوات، وَمِثَال الثَّانِي
مَا قَالَ الصّديق. وَغَيره من أجلاء الصَّحَابَة: الطَّبِيب أَمر ضنى،
وَمِثَال الثَّالِث رُؤْيَة الْأَنْصَار ضلة فِيهَا أَمْثَال المصابيح،
وَمَا رُوِيَ أَنه خرج رجلَانِ من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من عِنْد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَة
مظْلمَة ومعهما مثل المصباحين بَين أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرقَا صَار
مَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَاحِد حَتَّى أَتَى أَهله، وَمَا روى فِي
الحَدِيث أَن النَّجَاشِيّ كَانَ يرى عِنْد قَبره نور
وَمِثَال الرَّابِع قَول حَنْظَلَة الأسيدي لرَسُول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تذكرنا بالنَّار وَالْجنَّة، عَن حَنْظَلَة الرّبيع
الأسيدي قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بكر، فَقَالَ:
كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة؟ قلت: نَافق حَنْظَلَة قَالَ: سُبْحَانَ الله
مَا تَقول؟ ! قلت: نَكُون عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ويذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار كَانَا رأى عين، فَإِذا خرجنَا من
عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عافسنا الْأزْوَاج
وَالْأَوْلَاد والضيعات نَسِينَا كثيرا، قَالَ أَبُو بكر فو الله إِنَّا
لنلقى مثل هَذَا، فَانْطَلَقت أَنا وَأَبُو بكر حَتَّى دَخَلنَا على رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقلت: نَافق حَنْظَلَة يَا رَسُول
الله، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا ذَاك؟
قلت: يَا رَسُول الله تكون عنْدك تذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار كَانَا رأى
عين، فَإِذا خرجنَا من عنْدك عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد والضيعات
نَسِينَا كثيرا، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو تدومون على مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي
الذّكر لصافحتكم الْمَلَائِكَة على كرشكم وَفِي طرقكم، وَلَكِن يَا
حَنْظَلَة سَاعَة وَسَاعَة " ثَلَاث مَرَّات، فَأَشَارَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَن الْأَحْوَال لَا تدوم، ومثاله أَيْضا مَا رأى
عبد الله بن عمر فِي رُؤْيَاهُ من الْجنَّة وَالنَّار
وَمِنْهَا الفراسة الصادقة. والخاطر المطابق للْوَاقِع، قَالَ ابْن عمر:
مَا سَمِعت عمر يَقُول لشَيْء قطّ إِنِّي لأظنه كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا
يظنّ.
وَمِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يعتني بتعبير رُؤْيا السالكين، حَتَّى روى أَنه كَانَ يجلس بعد
صَلَاة الصُّبْح، وَيَقُول: " من رأى مِنْكُم رُؤْيا "
فان قصها أحد عبر مَا شَاءَ الله، وأعني بالرؤيا الصَّالِحَة رُؤْيَة
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَام، أَو رُؤْيَة
الْجنَّة وَالنَّار. أَو رُؤْيا الصَّالِحين والأنبياء عَلَيْهِم
السَّلَام. أَو رُؤْيَة الْمشَاهد المتبركة كبيت الله. ورؤية الوقائع
الْآتِيَة فَتَقَع
(2/147)
كَمَا يرى، أَو الْمَاضِيَة على مَا هِيَ
عَلَيْهِ، أَو رُؤْيَة مَا ينبهه على تَقْصِيره بِأَن يرى غَضَبه فِي
صُورَة كلب يعضه، أَو رُؤْيَة الْأَنْوَار والطيبات من الرزق كشرب اللَّبن
وَالْعَسَل وَالسمن، أَو رُؤْيَة الْمَلَائِكَة، وَالله أعلم.
وَمِنْهَا وجدان حلاوة الْمُنَاجَاة وَانْقِطَاع حَدِيث النَّفس، قَالَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من صلى رَكْعَتَيْنِ لَا يحدث فيهمَا نَفسه غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه
".
وَمِنْهَا المحاسبة وَهِي تتولد من بَين الْعقل المتنور بِنور الْإِيمَان
وَالْجمع الَّذِي هُوَ أول مقامات الْقلب، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" الْكيس من دَان نَفسه، وَعمل لما بعد الْمَوْت " وَقَالَ عمر رَضِي الله
عَنهُ فِي خطبَته: حاسبوا أَنفسكُم قبل أَن تحاسبوا، وزنوها قبل أَن توزنوا
وتتزينوا للعرض الْأَكْبَر على الله تَعَالَى، يَوْمئِذٍ تعرضون لَا تخفى
مِنْكُم خافية.
وَمِنْهَا الْحيَاء وَهُوَ غير الْحيَاء الَّذِي هُوَ من مقامات النَّفس،
ويتولد من رُؤْيَة عزة الله تَعَالَى وجلاله، وَمَعَ مُلَاحظَة عَجزه عَن
الْقيام بِحقِّهِ وتلبسه بالأدناس البشرية، قَالَ عُثْمَان رَضِي الله
عَنهُ: إِنِّي لاغتسل فِي الْبَيْت المظلم، فأنطوي حَيَاء من الله
تَعَالَى.
وَأما المقامات الْمُتَعَلّقَة فِي الْقلب فأولها الْجمع، وَهُوَ أَن يكون
أَمر الْآخِرَة هُوَ الْمَقْصُود الَّذِي يهتم بِهِ، وَيكون أَمر
الدُّنْيَا هينا عِنْده لَا يَقْصِدهُ، وَلَا لتفت إِلَيْهِ إِلَّا
بِالْعرضِ من جِهَة أَن يكون بلغَة لَهُ إِلَى مَا هُوَ سَبيله، وَالْجمع
هُوَ الَّذِي يُسَمِّيه الصُّوفِيَّة فِي بالإرادة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من جعل همه هما وَاحِدًا هم الْآخِرَة كَفاهُ الله همه، وَمن تشعبت بِهِ
الهموم لم يبال الله فِي أَي أَوديَة هلك ".
أَقُول: همة الْإِنْسَان لَهَا خاصية مثل خاصية الدُّعَاء فِي قرع بَاب
الْجُود، بل هِيَ مخ الدُّعَاء وخلاصته، فَإِذا تجردت همته لمرضيات الْحق
كَفاهُ الله تَعَالَى، فَإِذا حصل جمع الهمة، وواظب على الْعُبُودِيَّة
ظَاهرا وَبَاطنا أنتج ذَلِك فِي قلبه محبَّة الله ومحبة رَسُوله، وَلَا
يزِيد بالمحبة الْإِيمَان بِأَن الله تَعَالَى مَالك الْملك، وَأَن
الرَّسُول صَادِق مَبْعُوث من قبله إِلَى الْخلق فَقَط، بل هِيَ حَاله
شَبيهَة بِحَالَة الظمآن بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَاء والجائع بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الطَّعَام، وتنشأ الْمحبَّة من امتلاء الْعقل بِذكر الله والتفكر فِي
جَلَاله وترشح نور الْإِيمَان من الْعقل إِلَى الْقلب وتلقي الْقلب ذَلِك
النُّور بِقُوَّة مجبولة فِيهِ.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاث من كن فِيهِ
وجد حلاوة الْإِيمَان، من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مَا سواهُمَا
" الحَدِيث، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ:
" اللَّهُمَّ اجْعَل حبك احب إِلَيّ من نَفسِي
(2/148)
وسمعي وبصري وَأَهلي وَمَالِي وَمن المَاء
الْبَارِد "، وَقَالَ لعمر: " لَا تكون مُؤمنا حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من
نَفسك، فَقَالَ عمر: وَالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب لأَنْت أحب إِلَيّ من
نَفسِي الَّتِي بَين جَنْبي، فَقَالَ: رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
: الْآن يَا عمر تمّ إيمانك "، عَن أنس قَالَ سَمِعت رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
" لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس
أَجْمَعِينَ.
أَقُول: أَشَارَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن
حَقِيقَة الْحبّ غَلَبَة لَذَّة الْيَقِين على الْعقل ثمَّ على الْقلب
وَالنَّفس حَتَّى يقوم مقَام مشتهى الْقلب فِي مجْرى
الْعَادة حب الْأَهْل وَالْولد وَالْمَال، حَتَّى يقوم مقَام مشتهى النَّفس
من المَاء الْبَارِد بِالنِّسْبَةِ إِلَى العطشان، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
فَهُوَ الْحبّ الْخَاص الَّذِي يعد من مقامات الْقلب.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب لِقَاء الله أحب الله
لقاءه " أَقُول: جعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميل
الْمُسلم إِلَى جَانب الْحق وتعطشه إِلَى مقَام التجرد من جِلْبَاب الْبدن
وطلبة التَّخَلُّص من مضايق الطبيعة إِلَى فضاء الْقُدس حَيْثُ يتَّصل
إِلَى مَا لَا يُوصف بِالْوَصْفِ عَلامَة لصدق محبته لربع.
قَالَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ: من ذاق خَالص محبَّة الله تَعَالَى شغله
ذَلِك عَن طلب الدُّنْيَا، وأوحشه من جَمِيع الْبشر أَقُول. قَوْله هَذَا
غَايَة فِي الْكَشْف عَن آثَار الْمحبَّة، فَإِذا تمت محبَّة الْمُؤمن
لرَبه أدّى ذَلِك إِلَى محبَّة الله لَهُ، وَلَيْسَ حَقِيقَة محبَّة الله
من العَبْد انفعاله من العَبْد - تَعَالَى عَن ذَلِك علو كَبِيرا، وَلَكِن
حَقِيقَتهَا الْمُعَامَلَة مَعَه بِمَا استعد لَهُ، فَكَمَا أَن الشَّمْس
تسخن الْجِسْم الصَّقِيل أَكثر من تسخينها لغيره وَفعل الشَّمْس وَاحِد فِي
الْحَقِيقَة، وَلكنه يَتَعَدَّد بِتَعَدُّد استعداد القوابل، كَذَلِك لله
تَعَالَى عناية نفوس عباده من جِهَة صفاتهم وأفعالهم، فَمن اتّصف مِنْهُم
بِالصِّفَاتِ الخسيسة الَّتِي يدْخل بهَا فِي أعداد الْبَهَائِم فعل ضوء
شمس الأحدية فِيهِ مَا يُنَاسب استعداده، وَمن اتّصف بِالصِّفَاتِ الفاضلة
الَّتِي يدْخل بِسَبَبِهَا فِي أعداد الْمَلأ الْأَعْلَى فعل ضوء شمس
الأحدية فِيهِ نورا وضياء حَتَّى يصير جوهرا من جَوَاهِر حَظِيرَة الْقُدس،
وانسحب عَلَيْهِ أَحْكَام الْمَلأ الْأَعْلَى، فَعِنْدَ ذَلِك يُقَال: أحبه
الله لِأَن الله تَعَالَى فعل مَعَه فعل الْمُحب بحبيبه، وَيُسمى العَبْد
حِينَئِذٍ وليا، ثمَّ محبَّة الله لهَذَا العَبْد تحدث فِيهِ أحوالا
بَينهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتم بَيَان:
فَمِنْهَا نزُول الْقبُول لَهُ من الْمَلأ الْأَعْلَى، ثمَّ فِي الأَرْض.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا أحب الله عبدا نَادَى جِبْرِيل إِنِّي أحب فلَانا، فَأَحبهُ،
فَيُحِبهُ جِبْرِيل، ثمَّ يُنَادي جِبْرِيل فِي السَّمَوَات إِن الله
تَعَالَى أحب فلَان، فَأَحبُّوهُ، فَيُحِبهُ أهل السَّمَوَات، ثمَّ يوضع
لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض "
(2/149)
أَقُول: إِذا تَوَجَّهت الْعِنَايَة
آلالهية إِلَى محبَّة هَذَا العَبْد انعكست محبته إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى
بِمَنْزِلَة انعكاس ضوء الشَّمْس فِي المرايا الصقيلة، ثمَّ ألهم الْمَلأ
السافل محبته، ثمَّ من استعد لذَلِك من أهل الأَرْض كَمَا تتشرب الأَرْض
الرخوة الندى من بركَة المَاء.
وَمِنْهَا خذلان أعدائه، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ربه
تبَارك وَتَعَالَى: " من عَاد لي وليا فقد آذنته بِالْحَرْبِ ". أَقُول:
إِذا انعكست محبته فِي مرايا نفوس الْمَلأ الْأَعْلَى، ثمَّ خالفها مُخَالف
فِي من اهل الأَرْض أحست الْمَلأ الْأَعْلَى بِتِلْكَ الْمُخَالفَة كَمَا
يحس أَحَدنَا حرارة الْجَمْرَة إِذا وَقعت قدمه عَلَيْهَا، فَخرجت من
نُفُوسهم أشعة تحيط بِهَذَا الْمُخَالف من قبيل النفرة والشنآن فَعِنْدَ
ذَلِك يخذل، ويضيق عَلَيْهِ، ويلهم الْمَلأ السافل وَأهل الأَرْض أَن
يسيئوا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ حربه تَعَالَى إِيَّاه.
وَمِنْهَا إِجَابَة وسؤاله وإعاذته مِمَّا استعاذ مِنْهُ قَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ربه تبَارك وَتَعَالَى: " وَإِن سَأَلَني
لأعطينه، وَإِن استعاذني لأعيذنه ". أَقُول: وَذَلِكَ لدُخُوله فِي
حَظِيرَة الْقُدس حَيْثُ يقْضِي بالحوادث، فدعاؤه واستعاذته يرتقي هُنَاكَ،
وَيكون سَببا لنزول الْقَضَاء، وَفِي آثَار الصَّحَابَة شَيْء كثير من بَاب
استجابه الدُّعَاء، وَمن جملَة ذَلِك مَا وَقع لسعد حِين دَعَا على أبي
سعدة: اللَّهُمَّ إِن كَانَ عَبدك هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاء، وَسُمْعَة،
فأطل عمره، وأطل فقره، وَعرضه للفتن فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَمَا وَقع
لسَعِيد حِين دَعَا على أروى بنت أَوْس: اللَّهُمَّ إِن كَانَت كَاذِبَة
فاعم بصرها، واقتلها فِي أرْضهَا، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَمِنْهَا فناؤه عَن نَفسه وبقاؤه بِالْحَقِّ؛ وَهُوَ الْمعبر عَنهُ عِنْد
الصُّوفِيَّة بِغَلَبَة
كَون الْحق على كَون العَبْد، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن
ربه تبَارك وَتَعَالَى. " وَمَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل
حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر
بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا " أَقُول: إِذا غشى نور الله نفس هَذَا
العَبْد من جِهَة قوته العملية المنبثة فِي بدنه دخلت شُعْبَة من هَذَا
النُّور فِي جَمِيع قوامه، فَحدثت هُنَالك بَرَكَات لم تكن تعهد فِي مجْرى
الْعَادة، فَعِنْدَ ذَلِك ينْسب الْفِعْل إِلَى الْحق بِمَعْنى من مَعَاني
النِّسْبَة كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن
الله رمى} .
وَمِنْهَا تَنْبِيه الله تَعَالَى إِيَّاه بالمؤاخذة من على ترك بعض
الْآدَاب وبقبول الرُّجُوع مِنْهُ
(2/150)
إِلَى الْأَدَب كَمَا وَقع للصديق حِين
غاضب أضيافه، ثمَّ علم أَن ذَلِك من الشَّيْطَان، فراجع الْأَمر
الْمَعْرُوف، فبورك فِي طَعَامه.
وَمن مقامات الْقلب مقامان يختصان بالنفوس المتشبهة بالأنبياء عَلَيْهِم
الصَّلَوَات والتسليمات ينعكسان عَلَيْهَا كَمَا ينعكس ضوء الْقَمَر
بِإِزَاءِ مرْآة مَوْضُوعَة على كوَّة مَفْتُوحَة، ثمَّ ينعكس ضوؤها على
الجدران والسقف وَالْأَرْض وهما بِمَنْزِلَة الصديقية والمحدثية، إِلَّا
أَن ذَيْنك تستقران فِي الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة من فِي نُفُوسهم. وَهَذَا
فِي الْقُوَّة العملية المنبجسة من الْقلب، وهما مقَاما الشَّهِيد،
والحواري، وَالْفرق بَينهمَا أَن الشَّهِيد تقبل نَفسه غَضبا وَشدَّة على
الْكفَّار ونصرة للدّين من مَوَاطِن من موطن الملكوت هيأ الْحق فِيهِ
إِرَادَة الانتقام من العصاة ينزل من هُنَالك على الرَّسُول، ليَكُون
الرَّسُول جارحة من جوارح الْحق فِي ذَلِك، فَتقبل نُفُوسهم من هُنَاكَ
كَمَا ذكرنَا فِي المحدثية، والحواري من خلصت محبته للرسول، وطالت صحبته
مَعَه، واتصلت
قرَابَته بِهِ، فَأوجب ذَلِك انعكاس نصر دين الله من قلب النَّبِي على
قلبه، قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن
مَرْيَم للحواريين من أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحن أنصار
الله فآمنت طَائِفَة} .
وَقد بشر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير بِأَنَّهُ
حوارِي.
والشهيد. والحواري أَنْوَاع وَشعب، مِنْهُم الْأمين، وَمِنْهُم الرفيق،
وَمِنْهُم النجباء والنقباء وَقد نوه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي فَضَائِل الصَّحَابَة بِشَيْء كثير من هَذِه الْمعَانِي، عَن
عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" إِن لكل نَبِي سَبْعَة نجباء رقباء، وَأعْطيت أَنا أَرْبَعَة عشر
قُلْنَا: من هم؟ قَالَ: أَنا، وابناي، وجعفر، وَحَمْزَة، وَأَبُو بكر،
وَعمر، وَمصْعَب بن عُمَيْر، وبلال، وسلمان، وعمار، وَعبد الله بن
مَسْعُود، وَأَبُو ذَر، والمقداد " وَقَالَ الله:
{لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اثْبتْ أحد فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد.
وَمن أَحْوَال الْقلب السكر، وَهُوَ أَن يتشبح نور الْإِيمَان فِي الْعقل،
ثمَّ فِي الْقلب حَتَّى تفوته مصَالح الدُّنْيَا، وَحَتَّى يجب مَا لَا
يُحِبهُ الْإِنْسَان فِي مجْرى
طَبِيعَته، فَيكون شَبِيها فِي بالسكران الْمُتَغَيّر عَن سنَن عقله
وعاداته كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: أحب الْمَوْت اشتياقا إِلَى
رَبِّي، وَأحب الْمَرَض مكفرا لخطيئتي، وَأحب الْفقر تواضعا لرَبي، وكما
يُؤثر عَن أبي ذَر
(2/151)
كراهيته لِلْمَالِ بطبعه وشنآنه الْغنى
والثروة مثل كَرَاهِيَة الْأُمُور المستقذرة، وَلَيْسَ فِي مجْرى الْعَادة
البشرية حب هَذَا الْقَبِيل وكراهيته، ذَلِك الْقَبِيل ولكنهما غلب
عَلَيْهِمَا الْيَقِين حَتَّى خرجا من مجْرى الْعَادة.
وَمن أَحْوَال الْقلب الْغَلَبَة، وَالْغَلَبَة غلبتان: غَلَبَة دَاعِيَة
منبجسة من قلب الْمُؤمن حِين خالطه نور الْإِيمَان، فطفح طفاحة مُتَوَلّدَة
من ذَلِك النُّور وَمن جبلة الْقلب، فَصَارَت داعيه وخاطرا لَا يَسْتَطِيع
الْإِمْسَاك عَن مُوجبهَا وَافَقت مَقْصُود الشَّرْع أَو لَا، وَذَلِكَ
لِأَن الشَّرْع يُحِيط بمقاصد كَثِيرَة لَا يُحِيط بهَا قلب هَذَا الْمُؤمن
فَرُبمَا ينقاد قلبه إِلَى للرحمة مثلا، وَقد نهى الشَّرْع عَنْهَا فِي بعض
الْمَوَاضِع، قَالَ تَعَالَى:
{وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} .
وَرُبمَا ينقاد قلبه للبغض.
وَقد قصد الشَّرْع اللطف مثل أهل الذِّمَّة، وَمِثَال هَذِه الْغَلَبَة مَا
جَاءَ فِي الحَدِيث عَن أبي لبَابَة بن الْمُنْذر حِين استشاره بَنو
قُرَيْظَة لما اسْتَنْزَلَهُمْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على حكم سعد بن معَاذ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حلقه أَنه الذّبْح، ثمَّ
نَدم على ذَلِك، وَعلم أَنه قد خَان الله وَرَسُوله، مانطلق على وَجهه
حَتَّى ارْتبط نَفسه فِي الْمَسْجِد على عمد من عمده، وَقَالَ. لَا أَبْرَح
مَكَاني هَذَا حَتَّى يَتُوب الله تَعَالَى على مِمَّا صنعت، وَعَن عمر
أَنه غلبت عَلَيْهِ حمية الْإِسْلَام حِين
اعْترض على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أَن أَرَادَ
أَن يُصَالح الْمُشْركين عَام الْحُدَيْبِيَة فَوَثَبَ حَتَّى أَتَى أَبَا
بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَلَيْسَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ أَلسنا بِالْمُسْلِمين؟ قَالَ:
بلَى، قَالَ: أَلَيْسُوا بالمشركين؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فعلام نعطي الدنية
فِي دنينا؟ فَقَالَ أَبُو بكر: يَا عمر الزم غَزوه فَإِنِّي أشهد أَنه
رَسُول الله، ثمَّ غلب عَلَيْهِ مَا يجد حَتَّى أَتَى رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ لأبي بكر، وأجابه
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَجَابَهُ أَبُو بكر رَضِي
الله عَنهُ حَتَّى قَالَ: أَنا عبد الله وَرَسُوله لن أُخَالِف أمره، وَلنْ
يضيعني، قَالَ: وَكَانَ عمر يَقُول: فَمَا زلت أَصوم، وأتصدق وَأعْتق،
وأصلي من الَّذِي صنعت يَوْمئِذٍ مَخَافَة كَلَامي الَّذِي تَكَلَّمت بِهِ
حَتَّى رَجَوْت أَن يكون خيرا، وَعَن أبي طيبَة الْجراح حِين حجم النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشرب دَمه وَذَلِكَ مَحْظُور فِي
الشَّرِيعَة وَلكنه فعله فِي حَال الْغَلَبَة، فعذره النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ:
" قد احتظرت بحظائر من النَّار ".
وَغَلَبَة أُخْرَى أجل من هَذِه وَأتم، وَهِي غَلَبَة دَاعِيَة إلهية تنزل
على قلبه، فَلَا يَسْتَطِيع
(2/152)
الْإِمْسَاك عَن مُوجبهَا، وَحَقِيقَة
هَذِه الْغَلَبَة فيضان علم إلهي من بعض الْمَعَادِن القدسية على قوته
العملية دون الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة.
تَفْصِيل ذَلِك أَن النَّفس المتشبهة بنفوس الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا استعدت لفيضان علم إلهي إِن سبقت الْقُوَّة
الْعَقْلِيَّة مِنْهَا على الْقُوَّة العملية كَانَ ذَلِك الْعلم المفاض
فراسة وإلهاما، وَإِن سبقت الْقُوَّة العملية مِنْهَا على الْقُوَّة
الْعَقْلِيَّة كَانَ ذَلِك الْعلم المفاض عزما وإقبالا أَو نفرة وانجحاماً،
مِثَاله مَا روى فِي قصَّة بدر من أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ألح فِي الدُّعَاء حَتَّى قَالَ:
" إِنِّي أنْشدك عَهْدك وَوَعدك، اللَّهُمَّ إِن شِئْت لم تعبد، فَأخذ
أَبُو بكر
بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسبك، فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول:
{سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} .
مَعْنَاهُ أَن الصّديق ألْقى فِي قلبه دَاعِيَة الإلهية تزهده فِي الإلحاح،
وترغيه فِي الْكَفّ عَنهُ فَعرف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بفراسته أَنَّهَا دَاعِيَة حق، فَخرج مستظهرا بنصرة الله تاليا هَذِه
الْآيَة.
ومثاله أَيْضا مَا روى فِي قصَّة موت عبد الله بن أَبى حِين أَرَادَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُصَلِّي على جنَازَته قَالَ
عمر: فتحولت حَتَّى قُمْت فِي صَدره، قلت: يَا رَسُول الله أَتُصَلِّي على
هَذَا، وَقد قَالَ: يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا أعد أَيَّامه؟ حَتَّى قَالَ:
تَأَخّر عني يَا عمر إِنِّي خيرت، فاخترت، وَصلى عَلَيْهِ، ثمَّ نزلت هَذِه
الْآيَة:
{وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} .
قَالَ عمر: فعجبت لي وجرأتي على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم.
وَقد بَين عمر الْفرق بَين الغلبتين أفْصح بَيَان، فَقَالَ فِي الْغَلَبَة
الأولى: فَمَا زلت أَصوم وأتصدق وَأعْتق الخ، وَقَالَ فِي الثَّانِيَة:
فعجبت لي وجرأتي، فَانْظُر الْفرق بَين هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ.
وَمِنْهَا إِيثَار طَاعَة الله تَعَالَى على مَا سواهُ وطرد موانعها
والنفرة عَمَّا يشْغلهُ عَنْهَا كَمَا فعل أَبُو طَلْحَة الْأنْصَارِيّ
كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِط لَهُ، فطار دبسى وطفق يتَرَدَّد، وَلم يجد مخرجا
من كَثْرَة الأغصان والأورق، فأعجبه ذَلِك، فَصَارَ لَا يدْرِي كم صلى،
فَتصدق بحائطه.
وَمِنْهَا غَلَبَة الْخَوْف حَتَّى يظْهر الْبكاء وارتعاد الْفَرَائِض،
وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا صلى بِاللَّيْلِ أزيز
كأزيز الْمرجل، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَة يظلهم
الله تَعَالَى فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله: "
(2/153)
وَرجل ذكر الله خَالِيا، فَفَاضَتْ عَيناهُ
" وَقَالَ: " لَا يلج النَّار رجل بَكَى من خشيَة الله حَتَّى يعود اللَّبن
فِي الضَّرع " وَكَانَ أَبُو بكر رجلا بكاء لَا يملك عَيْنَيْهِ حِين
يقْرَأ الْقُرْآن، وَقَالَ جُبَير بن مطعم: سَمِعت النَّبِي الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقْرَأ:
{أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ} فَكَأَنَّمَا طَار قلبِي.
وَأما المقامات الْحَاصِلَة للنَّفس من جِهَة تسلط نور الْإِيمَان
عَلَيْهَا وقهره إِيَّاهَا وتغيير صفاتها الخسيسة إِلَى الصِّفَات الفاضلة،
فأولها أَن ينزل نور الْإِيمَان من الْعقل المتنور وبالعقائد الحقة إِلَى
الْقلب، فيزدوج بجبلة الْقلب، فيتولد بَينهمَا زاجر يقهر النَّفس، ويزجرها
عَن المخالفات، ثمَّ يتَوَلَّد بَينهمَا نَدم يقهر النَّفس، وَيَأْتِي
عَلَيْهَا، وَيَأْخُذ بتلابيبها، ثمَّ يتَوَلَّد بَينهَا الْعَزْم على ترك
الْمعاصِي فِي الْمُسْتَقْبل من الزَّمَان، فيقهر النَّفس، ويجعلها مطمئنة
بأوامر الشَّرْع ونواهيه، قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى:
{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ
المأوى} .
أَقُول: أما قَوْله: (من خَافَ) فبيان لاستنارة الْعقل بِنور الْإِيمَان
ونزول النُّور مِنْهُ إِلَى الْقلب وَذَلِكَ لِأَن الْخَوْف لَهُ مُبْتَدأ
ومنتهى، فمبتدؤه
معرفَة الْخَوْف مِنْهُ وسطوته، وَهَذَا مَحَله الْعقل ومنتهاه فزع وقلق
ودهش، وَهَذَا محلّة الْقلب، وَأما قَوْله: (وَنهى النَّفس) فبيان لنزول
النُّور المخالط لوكاعة الْقلب إِلَى النَّفس وقهره إِيَّاهَا وزجره لَهَا،
ثمَّ انقهارها وانزجارها تَحت حكمه، ثمَّ ينزل من الْعقل نور الْإِيمَان
مرّة أُخْرَى، ويزدوج بجبلة الْقلب، فيتولد بَينهمَا اللجأ إِلَى الله،
ويفضي ذَلِك إِلَى الاسْتِغْفَار والإنابة، وَالِاسْتِغْفَار يُفْضِي إِلَى
الصقالة.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن الْمُؤمن إِذا
أذْنب كَانَت نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه فَإِن تَابَ واستغفر صقل قلبه،
فَإِن زَاد زَادَت حَتَّى يَعْلُو قلبه فذلكم الران الَّذِي ذكر الله
تَعَالَى:
{كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
أَقُول: أما النُّكْتَة السَّوْدَاء فظهور ظلمَة من الظُّلُمَات البهيمية
واستنارة نور من الْأَنْوَار الملكية، وَأما الصقالة فضوء يفاض على النَّفس
من نور الْإِيمَان، وَأما الران فغلبة البهيمية، وكمون الملكية رَأْسا،
ثمَّ يتَكَرَّر نزُول نور الْإِيمَان، وَدفعه الهاجس النفساني، فَكلما هجس
خاطر الْمعْصِيَة من النَّفس نزل بإزائه نور، فدمغ الْبَاطِل ومحاه.
(2/154)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ضرب الله مثلا صراطا مُسْتَقِيمًا، وَعَن جَنْبي الصِّرَاط سوران، فيهمَا
أَبْوَاب مفتحة، وعَلى الْأَبْوَاب الستور مرخاة وَعند رَأس الصِّرَاط دَاع
يَقُول: اسْتَقِيمُوا على الصِّرَاط، وَلَا تعوجوا، وَفَوق ذَلِك دَاع
يَدْعُو، كلما هم عبد أَن يفتح شَيْئا من تِلْكَ
الْأَبْوَاب قَالَ: وَيحك لَا تفتحه فَإنَّك إِن تفتحه تلجه، ثمَّ فسره
فَأخْبر أَن الصِّرَاط هُوَ الْإِسْلَام، وَأَن الْأَبْوَاب المفتحة محارم
الله، وَأَن الستور المرخاة حُدُود الله، وَأَن الدَّاعِي على رَأس
الصِّرَاط هُوَ الْقُرْآن، وَأَن الَّذِي من فَوْقه هُوَ واعظ الله فِي كل
مُؤمن ".
أَقُول: بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن هُنَالك
داعيين: دَاعيا على الصِّرَاط، وَهُوَ الْقُرْآن والشريعة. لَا يزَال
يَدْعُو العَبْد إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم بنسق وَاحِد، وداعيا فَوق
رَأس السالك يراقبه كل حِين، كلما هم بِمَعْصِيَة صَاح عَلَيْهِ؛ وَهُوَ
الخاطر المنبجس من الْقلب الْمُتَوَلد من بَين جبلة الْقلب، والنور الفائض
عَلَيْهِ من الْعقل المتنور بِنور الْقُرْآن، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة
شرر ينقدح من الْحجر دفْعَة بعد دفْعَة، وَرُبمَا يكون من الله تَعَالَى
لطف بِبَعْض عباده بأحداث لَطِيفَة غيبية تحول بَينه وَبَين الْمعْصِيَة،
وَهُوَ الْبُرْهَان الْمشَار إِلَيْهِ فِي قَوْله تبَارك وَتَعَالَى.
{وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} .
وَهَذَا كُله مقَام التَّوْبَة وَإِذا تمّ مقَام التَّوْبَة، وَصَارَ ملكة
راسخة فِي النَّفس تثمر اضمحلالا عِنْد إِحْضَار جلال الله لَا يغيرها مغير
سميت حَيَاء، وَالْحيَاء فِي اللُّغَة انحجام النَّفس عَمَّا يعِيبهُ
النَّاس فِي الْعَادة، فنقله الشَّرْع إِلَى ملكة راسخة فِي النَّفس تنماع
بهَا بَين يَدي الله كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء، وَلَا يتقاد
بِسَبَبِهَا للخواطر المائلة إِلَى المخالفات.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْحيَاء من الْإِيمَان " ثمَّ فسر الْحيَاء، فَقَالَ: " من استحيا من
الله حق الْحيَاء فَلْيحْفَظ الرَّأْس وَمَا وعى وليحفظ الْبَطن
وَمَا حوى، وليذكر الْمَوْت والبلى، من أَرَادَ الْآخِرَة ترك زِينَة
الدُّنْيَا، وَمن فعل ذَلِك استحيا من الله حق الْحيَاء " أَقُول: قد
يُقَال فِي الْعرف للْإنْسَان المنحجم عَن بعض الْأَفْعَال لضعف فِي جبلته
إِنَّه حَيّ، وَقد يُقَال للرجل صَاحب الْمُرُوءَة لَا يرتكب مَا يفشو
لأَجله القالة: إِنَّه حَيّ،
(2/155)
وليسا من الْحيَاء الْمَعْدُود من المقامات
فِي شَيْء، فَعرف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنى
المُرَاد بِتَعْيِين أَفعَال تنبعث مِنْهُ، وَالسَّبَب الَّذِي يجبله
ومجاورة الَّذِي يلْزمه فِي الْعَادة، فَقَوله، " فَلْيحْفَظ الرَّأْس "
الخ بَيَان للأفعال المنبجسة من ملكه الْحيَاء المُرَاد مِمَّا هُوَ من جنس
ترك المخالفات، وَقَوله: " وليذكر الْمَوْت " بَيَان لسَبَب استقراره فِي
النَّفس، وَقَوله " من أَرَادَ الْآخِرَة " بَيَان لمجاورة الَّذِي هُوَ
الزّهْد، فَإِن الْحيَاء لَا يَخْلُو عَن الزّهْد، فَإِذا تمكن الْحيَاء من
الْإِنْسَان نزل نور الْإِيمَان أَيْضا وخالطه جبلة الْقلب، ثمَّ انحدر
إِلَى النَّفس، فصدها عَن الشُّبُهَات، وَهَذَا هُوَ الْوَرع.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْحَلَال بَين، وَالْحرَام بَين، وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات لَا
يعلمهَا كثير من النَّاس، فَمن اتَّقى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لعرضه
وَدينه " وَمن وَقع فِي المشتبهات وَقع فِي الْحَرَام " وَقَالَ: " دع مَا
يريبك إِلَى مَا لَا يريبك، فَإِن الصدْق طمأنينة، وَإِن الْكَذِب رِيبَة "
وَقَالَ: " لَا يبلغ العَبْد أَن يكون من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يدع مَا لَا
بَأْس بِهِ حذرا لما بِهِ بَأْس " أَقُول: قد يتعارض فِي الْمَسْأَلَة
وَجْهَان: وَجه إِبَاحَة، وَوجه تَحْرِيم. إِمَّا فِي أصل مَأْخَذ
الْمَسْأَلَة من الشَّرِيعَة كحديثين متعارضين وقياسين متخالفين، وَإِمَّا
فِي تطبيق صُورَة الْحَادِثَة بِمَا تقرر فِي الشَّرِيعَة من حكمي
الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، فَلَا يصفو مَا بَين العَبْد وَبَين الله
إِلَّا بِتَرْكِهِ، وَالْأَخْذ (بِمَا - لَا) اشْتِبَاه فِيهِ، فَإِذا تحقق
الْوَرع نزل نور الْإِيمَان أَيْضا، وخالطه جبلة الْقلب، فانكشف قبح
الِاشْتِغَال بِمَا يزِيد
على الْحَاجة لِأَنَّهُ يصده عَمَّا هُوَ بسبيله، فانحدر إِلَى النَّفس،
فكفها عَن طلبه.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه " أَقُول: كل شغل بِمَا
سوى الله نُكْتَة سَوْدَاء فِي مرْآة النَّفس إِلَّا أَن (مَا - لَا) بُد
لَهُ مِنْهُ فِي حَيَاته إِذا كَانَ بنية الْبَلَاغ مَعْفُو عَنهُ، وَأما
سوى ذَلِك فواعظ الله فِي قلب الْمُؤمن يَأْمر بالكف عَنهُ، وَقَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الزهادة فِي الدُّنْيَا لَيست بِتَحْرِيم
الْحَلَال وَلَا إِضَاعَة المَال، وَلَكِن الزهادة فِي الدُّنْيَا أَلا
تكون بِمَا فِي يدك أوثق مِنْك بِمَا فِي يَدي الله، وَأَن تكون فِي ثَوَاب
الْمُصِيبَة إِذا أَنْت أصبت بهَا أَرغب مِنْك فِيهَا لَو أَنَّهَا أبقيت
لَك ".
أَقُول: قد يحصل للزاهد فِي الدُّنْيَا غَلَبَة تحمله على عقائد وأفعال مَا
هِيَ محمودة فِي الشَّرْع مِمَّا لَيْسَ بمحمود، فَبين النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محَال الزّهْد مَا هُوَ مَحْمُود فِي الشَّرْع
مِمَّا لَيْسَ بمحمود، فالرجل إِذا انْكَشَفَ عَلَيْهِ قبح الِاشْتِغَال
بِالزَّائِدِ على الْحَاجة، فكرهه كَمَا يكره الْأَشْيَاء الضارة بالطبع
رُبمَا يُؤَدِّيه ذَلِك إِلَى التعمق فِيهِ، فيعتقد مُؤَاخذَة الله
عَلَيْهِ فِي صراح
(2/156)
الشَّرِيعَة، وَهَذِه عقيدة بَاطِلَة لِأَن
الشَّرْع نَازل على دستور الطبائع البشرية، والزهد نوع انسلاخ عَن الطبيعة
البشرية وَإِنَّمَا ذَلِك أَمر الله فِي خَاصَّة نَفسه تكميلا لمقامه،
وَلَيْسَ بتكليف شَرْعِي، وَرُبمَا يُؤَدِّيه إِلَى إِضَاعَة المَال
الرَّمْي بِهِ فِي الْبحار وَالْجِبَال، وَهَذِه غَلَبَة لم يصححها
الشَّرْع، وَلم يَعْتَبِرهَا منصة لظُهُور أَحْكَام الزّهْد بل الَّذِي
اعْتَبرهُ الشَّرْع منصة شَيْئَانِ: أَحدهمَا الزَّائِد الَّذِي لم يحصل
بعد، فَلَا يتَكَلَّف فِي طلبه اعْتِمَادًا على مَا وعده الله من الْبلَاء
فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَثَانِيهمَا الشَّيْء الَّذِي
فَاتَ من يَده، فَلَا يتبعهُ نَفسه، وَلَا يتأسف عَلَيْهِ، إِيمَانًا بِمَا
وعد الله الصابرين والفقراء.
وَاعْلَم أَن النَّفس مجبولة على اتِّبَاع الشَّهَوَات، لَا تزَال على
ذَلِك إِلَّا أَن يبهرها نور الْإِيمَان، وَهُوَ قَول يُوسُف عَلَيْهِ
السَّلَام.
{وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي} .
فَلَا يزَال الْمُؤمن طول عمره فِي مجاهدة نَفسه باستنزال نور الله، فَكلما
هَاجَتْ دَاعِيَة نفسية لَجأ إِلَى الله، وتذكر جلال الله وعظمته، وَمَا
أعد للمطيعين من الثَّوَاب وللعصاة من الْعَذَاب، فانقدح من قلبه وعقله
خاطر حَتَّى يدمغ خاطر الْبَاطِل، فَيصير كَأَن لم يكن شَيْئا مَذْكُورا،
إِلَّا أَن الْفرق بَين الْعَارِف والمستأنف غير قَلِيل، وَقد بَين
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدافعة بَين الخاطرين
وَغَلَبَة خاطر الْحق على خاطر الْبَاطِل وانقياد النَّفس للحق إِذا كَانَت
مطمئنة متأدبة بآداب الْعقل المتنور بِنور الْإِيمَان وبغيها عَلَيْهِ
وإبائها مِنْهُ إِذا كَانَت عصية أَبِيه بِمَا ضرب فِي مَسْأَلَة الْبُخْل
والجود من مثل جنتين من حَدِيد إِحْدَاهمَا سابغة وَالْأُخْرَى ضيقَة،
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جنتان من حَدِيد،
وَقد اضطرت أَيْدِيهِمَا إِلَى ثديهما وتراقيهما فَجعل الْمُتَصَدّق كلما
تصدق بِصَدقَة انبسطت عَنهُ، وَجعل الْبَخِيل كلما هم بِصَدقَة قلصت،
وَأخذت كل حَلقَة بمكانها. أَقُول الرجل الَّذِي اطمأنت نَفسه جبلة أَو
كسبا، فخاطر الْحق يملك نَفسه، ويقهرها أول مَا يَبْدُو، وَالرجل الَّذِي
عَصَتْ نَفسه، وأبت فخاطر الْحق لَا يُؤثر فِيهَا، بل ينبو.
وَقد بَين الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم تنور الْعقل بِنور
الْإِيمَان وفيضان نوره على النَّفس حَيْثُ قَالَ:
(2/157)
{إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من
الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} .
أَقُول: الشَّيْطَان يشرف على بَاطِن الْإِنْسَان من قبل كوَّة شَهْوَة
النَّفس، فَيدْخل عَلَيْهِ دَاعِيَة الْمعْصِيَة، فَإِن تذكر جلال ربه،
وخشع لَهُ تولد مِنْهُ نور فِي الْعقل، وَهُوَ الإبصار، ثمَّ ينحدر إِلَى
الْقلب وَالنَّفس، فَيدْفَع الداعية، ويطرد الشَّيْطَان.
قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى:
{وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم
وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون} .
أَقُول: قَوْله تَعَالَى: (إِنَّا لله) إِشَارَة إِلَى نزُول خاطر الْحق،
وَقَوله: (صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة) إِشَارَة إِلَى بَرَكَات يثمرها
الصَّبْر من نورانية النَّفس وتشبهها فِي بالملكوت.
وَقَالَ تَعَالَى.
{وَمَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بأذن الله وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه}
. الْآيَة
أَقُول قَوْله: (باذن الله) إِشَارَة إِلَى معرفَة الْقدر، وَقَوله:
(وَمن يُؤمن بِاللَّه) إِشَارَة إِلَى نزُول الخاطر من الْعقل إِلَى الْقلب
وَالنَّفس
وَمن أَحْوَال النَّفس الْغَيْبَة هِيَ أَن تغيب عَن شهواتها كَمَا قَالَ
عَامر ابْن عبد الله: مَا أُبَالِي امْرَأَة رَأَيْت أم حَائِطا، وَقيل:
للأوزاعي رَأينَا جاريتك الزَّرْقَاء فِي السُّوق، فَقَالَ: أفزرقاء هِيَ؟
، وَمن أحوالها المحق، وَهُوَ أَن تغيب من الْأكل وَالشرب مُدَّة لَا تغيب
فِيهَا عَادَة لميل نَفسهَا إِلَى جَانب الْعقل وامتلاء الْقلب بِنور الله
تَعَالَى، وَأجل من هَذَا وَأتم أَن ينزل نور الله إِلَى النَّفس، فَيقوم
مقَام الْأكل وَالشرب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنِّي لست كهيئتكم إِنِّي أَبيت عِنْد رَبِّي يطعمني ويسقيني ".
وَاعْلَم أَن الْقلب متوسط بَين الْعقل وَالنَّفس، فقد يتَسَامَح، وينسب
جَمِيع المقامات وأكثرها إِلَيْهِ، وَقد ورد على هَذَا الِاسْتِعْمَال
آيَات وَأَحَادِيث كَثِيرَة، فَلَا تغفل عَن هَذِه النُّكْتَة.
وَاعْلَم أَن مدافعة نور الْإِيمَان لكل نوع من دواعي النَّفس البهيمية
وَالْقلب السبعي يُسمى باسم، وَقد نوه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ باسم كل ذَلِك وَوَصفه، فَإِذا حصل لِلْعَقْلِ ملكة فِي انقداح
خواطر الْحق مِنْهُ، وللنفس ملكة فِي قبُول تِلْكَ الخواطر كَانَ ذَلِك
مقَاما، فملكة مدافعة دَاعِيَة الْجزع تسمى صبرا على الْمُصِيبَة، وَهَذَا
مستقره الْقلب. وملكة مدافعة الدعة الْفَرَاغ تسمى
(2/158)
اجْتِهَادًا وصبرا على الطَّاعَة، وَملكه
مدافعة دَاعِيَة مُخَالفَة الْحُدُود الشَّرْعِيَّة تهاونا لَهَا أَو ميلًا
إِلَى أضدادها تسمى تقوى وَقد تطلق التَّقْوَى على جَمِيع مقامات اللطائف
الثَّلَاث بل على أَعمال تنبعث مِنْهَا أَيْضا، وعَلى هَذَا الِاسْتِعْمَال
الْأَخير قَوْله تَعَالَى:
{هدى لِلْمُتقين الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} .
وملكة مدافعة دَاعِيَة الْحِرْص تسمى قناعة، وملكة مدافعة دَاعِيَة العجلة
تسمى تأنيا، وملكة مدافعة دَاعِيَة الْغَضَب تسمى حلما، وَهَذِه مستقرها
الْقلب، وملكة مدافعة دَاعِيَة شَهْوَة الْفرج تسمى عفة، وملكة مدافعة
دَاعِيَة التشدق وَالْبذَاء تسمى صمتا وعيا، وملكة مدافعة دَاعِيَة
الْغَلَبَة والظهور تسمى خمولا، وملكة مدافعة دَاعِيَة التلون فِي الْحبّ
والبغض وَغَيرهمَا تسمى استقامة ووراء ذَلِك دواع كَثِيرَة لمدافعتها أسام،
ومبحث كل ذَلِك فِي الْأَخْلَاق من هَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(2/159)
(من أَبْوَاب ابْتِغَاء الرزق)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى لما خلق الْخلق، وَجعل مَعَايشهمْ فِي الأَرْض،
وأباح لَهُم الِانْتِفَاع بِمَا فِيهَا وَقعت بَينهم المشاحة والمشاجرة.
فَكَانَ حكم الله عِنْد ذَلِك تَحْرِيم أَن يزاحم الْإِنْسَان صَاحبه
فِيمَا اخْتصَّ بِهِ لسبق يَده إِلَيْهِ. أَو يَد مُوَرِثه. أَو لوجه من
الْوُجُوه الْمُعْتَبرَة عِنْدهم إِلَّا بمبادلة أَو ترَاض مُعْتَمد على
علم من غير تَدْلِيس وركوب غرر، وَأَيْضًا لما كَانَ النَّاس مدنيين بالطبع
لَا تستقيم مَعَايشهمْ إِلَّا بتعاون بَينهم نزل الْقَضَاء بِإِيجَاب
التعاون، وَألا يَخْلُو أحد مِنْهُم مِمَّا لَهُ دخل فِي التمدن إِلَّا
عِنْد حَاجَة لَا يجد مِنْهَا بدا، وَأَيْضًا فَأصل التَّسَبُّب حِيَازَة
الْأَمْوَال الْمُبَاحَة أَو استنماء مَا اخْتصَّ بِهِ مِمَّا يستمد من
الْأَمْوَال الْمُبَاحَة كالتناسل بالرعي، والزراعة بإصلاح الأَرْض وَسقي
المَاء، وَيشْتَرط فِي ذَلِك أَلا يضيق بَعضهم على بعض بِحَيْثُ يُفْضِي
إِلَى فَسَاد التمدن، ثمَّ الاستنماء فِي أَمْوَال النَّاس بمعونة فِي
المعاش يتَعَذَّر أَو يتعسر اسقامة حَال الْمَدِينَة بِدُونِهَا كَالَّذي
يجلب التِّجَارَة من بلد إِلَى بلد، ويعتني إِلَى حفظ الجلب إِلَى أجل
مَعْلُوم أَو يسمسر بسعي وَعمل، أَو يصلح مَال النَّاس بإيجاد صفة مرضية
فِيهِ وأمثال ذَلِك، فَإِن كَانَ الاستنماء فِيهَا بِمَا لَيْسَ لَهُ دخل
فِي التعاون كالميسر، أَو بِمَا هُوَ ترَاض يشبه الاقتضاب كالربا، فَإِن
الْمُفلس يضْطَر إِلَى الْتِزَام مَا لَا يقدر على إيفائه، وَلَيْسَ
رِضَاهُ رضَا فِي الْحَقِيقَة، فَلَيْسَ من الْعُقُود المرضية وَلَا
الْأَسْبَاب الصَّالِحَة، وَإِنَّمَا هُوَ بَاطِل وسحت بِأَصْل الْحِكْمَة
المدنية.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ". أَقُول الأَصْل فِيهِ مَا أَو
مأنا أَن الْكل مَال الله، وَلَيْسَ فِيهِ حق لأحد فِي الْحَقِيقَة، لَكِن
الله تَعَالَى لما أَبَاحَ لَهُم الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا
وَقعت
المشاحة، فَكَانَ الحكم حِينَئِذٍ أَلا يهيج أحد مِمَّا سبق إِلَيْهِ من
غير مضارة، فالأرض الْميتَة الَّتِي لَيست فِي الْبِلَاد وَلَا فِي فنائها
إِذا عمرها رجل فقد سبقت يَده إِلَيْهَا من غير مضارة، فَمن حكمه إِلَّا
يهيج عَنْهَا، وَالْأَرْض كلهَا فِي الْحَقِيقَة بِمَنْزِلَة مَسْجِد أَو
رِبَاط جعل وَقفا على ابناء السَّبِيل، وهم
(2/160)
شُرَكَاء فِيهِ، فَيقدم الأسبق فالأسبق،
وَمعنى الْملك فِي حق الْآدَمِيّ كَونه أَحَق بِالِانْتِفَاعِ من غَيره.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" عادى الأَرْض لله وَرَسُوله، ثمَّ هِيَ لكم مني ". اعْلَم: أَن عادى
الأَرْض هِيَ الَّتِي باد عَنْهَا أَهلهَا، وَلم يبْقى من يدعيها، ويخاصم
فِيهَا، ويحتج بسبق يَد مُوَرِثه عَلَيْهَا فَإِذا كَانَت الأَرْض على
هَذِه الصّفة انْقَطع عَنْهَا ملك الْآدَمِيّين، وخلصت لملك الله، وَحكمهَا
حكم مَا لم يحيى قطّ لما ذَكرْنَاهُ من معنى الْملك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا حمى إِلَّا لله وَرَسُوله ". أَقُول: لما كَانَ الْحمى تضييقا على
النَّاس وظلما عَلَيْهِم واضطرارا نهى عَنهُ، وَإِنَّمَا اسْتثْنى
الرَّسُول لِأَنَّهُ أعطَاهُ الله الْمِيزَان، وَعَصَمَهُ من أَن يفرط
مِنْهُ مَا لَا يجوز، وَقد ذكرنَا أَن الْأُمُور الَّتِي مبناها على المظان
الْغَالِبَة يسْتَثْنى مِنْهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَن والأمور الَّتِي مبناها على تَهْذِيب النَّفس وَمَا يشبه ذَلِك
فَالْأَمْر لَازم فِيهَا النَّبِي وَغَيره سَوَاء.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سيل المهزور أَن يمسك حَتَّى
يبلغ
الْكَعْبَيْنِ ثمَّ يُرْسل الْأَعْلَى على الْأَسْفَل، وَفِي قصَّة مخاصمة
الزبير رَضِي الله عَنهُ " اسْقِ يَا زبير، ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع إِلَى
الْجدر، ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك ". أقو ل: الأَصْل فِيهِ أَنه لما
توجه للنَّاس فِي شَيْء مُبَاح حُقُوق مترتبة وَجب أَن يُرَاعِي
التَّرْتِيب فِي قدر مَا يحصل لكل وَاحِد فَائِدَة هِيَ أدنى مَا يعْتد
بهَا فَإِنَّهُ لَو لم يقدم الْأَقْرَب كَانَ فِيهِ التحكم والمضارة، وَلَو
لم يسْتَوْف الأول ثمَّ الأول الْفَائِدَة لم يحصل الْحق، فعلى هَذَا
الأَصْل قضى أَن يمسك حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ، وَهُوَ قريب من قَوْله: "
إِلَى الْجدر " لِأَنَّهُ أول حد بُلُوغ الْجدر، وَإِنَّمَا يكون قبله
امتصاص الأَرْض من غير أَن يصادم الْجِدَار.
(2/161)
وأقطع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْأَبْيَض بن حمال المأربي الْملح الَّذِي بمأرب فَقيل: إِنَّمَا أقطعت
لَهُ المَاء الْعد قَالَ: فرجعه مِنْهُ. أَقُول: لَا شكّ أَن الْمَعْدن
الظَّاهِر الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى كثير عمل إقطاعه لوَاحِد من
الْمُسلمين إِضْرَار بهم وتضييق عَلَيْهِم.
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن اللّقطَة فَقَالَ: " اعرف
عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فشأنك
بهَا، قَالَ فضَالة: الْغنم؟
فَقَالَ: هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب، قَالَ فضَالة: الْإِبِل قَالَ:
مَالك وَلها مَعهَا سقاؤها وحذلؤها ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها
رَبهَا " وَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ: رخص لنا رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه
يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ أَقُول اعْلَم أَن حكم اللّقطَة مستنبط من
تِلْكَ الْكُلية الَّتِي ذَكرنَاهَا فَمَا اسْتغنى عَنهُ صَاحبه، وَلَا
يرجع إِلَيْهِ بعد مَا فَارقه، وَهُوَ التافه يجوز تملكه إِذا ظن أَن
الْمَالِك غَابَ، وَلم يرجع، وَامْتنع عوده إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَجَعَ
إِلَى مَال الله وَصَارَ مُبَاحا، وَأما مَا كَانَ لَهُ بَال يطْلب، وَيرجع
لَهُ الْغَائِب، فَيجب تَعْرِيفه على مَا جرت الْعَادة بتعريف مثله حَتَّى
يظنّ أَن مَالِكه لم يرجع، وَيسْتَحب الْتِقَاط مثل الْغنم لِأَنَّهُ يضيع
إِن لم يلتقط، وَيكرهُ الْتِقَاط مثل الْإِبِل.
وَاعْلَم أَنه يجب فِي كل مُبَادلَة من أَشْيَاء عاقدين وعوضين، وَالشَّيْء
الَّذِي يكون مَظَنَّة ظَاهِرَة لرضا الْعَاقِدين بالمبادلة، وَشَيْء يكون
قَاطعا لمنازعتهما مُوجبا للْعقد عَلَيْهِمَا.
وَيشْتَرط فِي الْعَاقِدين كَونهمَا حُرَّيْنِ، عاقلين، يعرفان النَّفْع
وَالضَّرَر، ويباشران العقد على بَصِيرَة وَتثبت. .، وَفِي الْعِوَضَيْنِ
كَونهمَا مَا لَا ينْتَفع بِهِ، ويرغب فِيهِ، ويشح بِهِ، غير مُبَاح، ولاما
لَا فَائِدَة معتدا بهَا فِيهِ، وَإِلَّا لم يكن مِمَّا شرع الله لخلقه
وَكَانَ عَبَثا أَو مرعيا فِي فَائِدَة ضمنية لَا يذكرهَا فِي الظَّاهِر،
وَهَذَا إِحْدَى الْمَفَاسِد لِأَن صَاحبهَا على شرف أَلا يجد مَا يُريدهُ،
فيسكت على خيبة، أَو يُخَاصم بِغَيْر حق، توجه لَهُ عِنْد النَّاس. .،
(2/162)
وَفِيمَا يعرف بِهِ رضَا الْعَاقِدين أَن
يكون أمرا وَاضحا يُؤَاخذ بِهِ على عُيُون النَّاس، وَلَا يَسْتَطِيع أَن
يَحِيف إِلَّا بِحجَّة عَلَيْهِ، وأوضح الْأَشْيَاء فِي مثل ذَلِك
الْعبارَة بِاللِّسَانِ، ثمَّ التعاطي بِوَجْه لَا يبْقى فِيهِ ريب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ على صَاحبه مَا لم
يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار " أَقُول اعْلَم أَنه لَا بُد من قَاطع
يُمَيّز حق كل وَاحِد من صَاحبه، وَيرْفَع خيارهما فِي رد البيع، وَلَوْلَا
ذَلِك لأضر أَحدهمَا بِصَاحِبِهِ، ولتوقف كل عَن التَّصَرُّف فِيمَا
بِيَدِهِ خوفًا أَن يستقيلها الآخر، وَهَهُنَا شَيْء آخر، وَهُوَ اللَّفْظ
الْمعبر عَن رضَا الْعَاقِدين بِالْعقدِ وعزمهما عَلَيْهِ، وَلَا جَائِز
أَن يَجْعَل الْقَاطِع ذَلِك لِأَن مثل هَذِه الْأَلْفَاظ يسْتَعْمل عِنْد
التراوض والمساومة، إِذْ لَا يُمكن أَن يتراوضا إِلَّا بِإِظْهَار الْجَزْم
بِهَذَا الْقدر، وَأَيْضًا فلسان الْعَامَّة فِي مثل هَذَا تِمْثَال
الرَّغْبَة من قُلُوبهم، وَالْفرق بَين لفظ دون لفظ حرج عَظِيم، وَكَذَلِكَ
التعاطي فَإِنَّهُ لَا بُد لكل وَاحِد أَن يَأْخُذ مَا يَطْلُبهُ على أَنه
يَشْتَرِيهِ، لينْظر فِيهِ، ويتأمله، وَالْفرق بَين أَخذ وَأخذ غير يسير،
وَلَا جَائِز أَن يكون الْقَاطِع شَيْئا غير ظَاهر، وَلَا أَََجَلًا بَعيدا
يَوْمًا فَمَا فَوْقه؛ إِذْ كثير من السّلع إِنَّمَا يطْلب، لينْتَفع بِهِ
فِي يَوْمه، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك التَّفَرُّق من مجْلِس العقد،
لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِأَن الْعَاقِدين يَجْتَمِعَانِ للْعقد، ويتفرقان
بعد تَمَامه، وَلَو تفحصت طَبَقَات النَّاس من الْعَرَب والعجم رَأَيْت
أَكْثَرهم يرَوْنَ رد البيع بعد التَّفَرُّق جورا وظلما، لَا قبله،
اللَّهُمَّ إِلَّا من غير فطرته، وَكَذَلِكَ الشَّرَائِع الإلهية لَا تنزل
إِلَّا بِمَا تقبله نفوس الْعَامَّة قبولا أوليا، وَلما كَانَ من النَّاس
من يتسلل بعد العقد يرى أَنه قد ربح، وَيكرهُ أَن يستقيله صَاحبه، وَفِي
ذَلِك قلب الْمَوْضُوع - سجل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّهْي عَن ذَلِك فَقَالَ:
" وَلَا يحل لَهُ أَن يُفَارق صَاحبه خشيَة أَن يستقيله، فوظيفتهما أَن
يَكُونَا على رسلهما، ويتفرق كل وَاحِد على عين صَاحبه.
وَاعْلَم أَنه إِذا اجْتمع عشرَة آلَاف إِنْسَان مثلا فِي بَلْدَة فالسياسة
المدنية تبحث عَن مكاسبهم، فَإِنَّهُم إِن كَانَ أَكْثَرهم مكتسبين
بالصناعات وسياسة
الْبَلدة، والقليل مِنْهُم مكتسبين بالرعي والزراعة فسد حَالهم فِي
الدُّنْيَا، وَإِن تكسبوا بعصارة الْخمر وصناعة الْأَصْنَام كَانَ ترغيبا
للنَّاس فِي اسْتِعْمَالهَا على الْوَجْه الَّذِي شاع بَينهم فَكَانَ سَببا
لهلاكهم فِي الدّين، فان وزعت المكاسب وأصحابها على الْوَجْه الْمَعْرُوف
الَّذِي تعطيه الْحِكْمَة، وَقبض على أَيدي المتكسبين بالاكساب القبيحة صلح
حَالهم.
وَكَذَلِكَ من مفاسد المدن أَن ترغب عظماؤهم فِي دقائق الْحلِيّ واللباس
وَالْبناء
(2/163)
والمطاعم وغيد النِّسَاء وَنَحْو ذَلِك زِيَادَة على مَا تعطيه الارتفاقات
الضرورية الَّتِي لَا بُد للنَّاس مِنْهَا، وَاجْتمعَ عَلَيْهَا عرب
النَّاس وعجمهم، فيكتسب النَّاس بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُور الطبيعية،
لتتأتى مِنْهَا شهواتهم، فينتصب قوم إِلَى تَعْلِيم الْجَوَارِي للغناء
والرقص والحركات المتناسبة اللذيذة، وَآخَرُونَ إِلَى الألوان المضطربة فِي
الثِّيَاب وتصوير صور الْحَيَوَانَات وَالْأَشْجَار العجيبة والتخاطيط
الغريبة فِيهَا وَآخَرُونَ إِلَى الصناعات البديعة فِي الذَّهَب والجواهر
الرفيعة، وَآخَرُونَ إِلَى الْأَبْنِيَة الشامخة وتخطيطها وتصويرها فَإِذا
أقبل جم غفير مِنْهُم إِلَى هَذِه الأكساب أهملوا مثلهَا من فِي الزراعات
والتجارات، وَإِذا انفق عُظَمَاء الْمَدِينَة فِيهَا الْأَمْوَال أهملوا
مثلهَا من مصَالح الْمَدِينَة، وجر ذَلِك إِلَى على التَّضْيِيق على
القائمين بالاكساب الضرورية والزراع والتجار والصناع وتضاعف الضرائب
عَلَيْهِم، وَذَلِكَ ضَرَر بِهَذِهِ الْمَدِينَة يتَعَدَّى من عضوا مِنْهَا
إِلَى عُضْو حَتَّى يعم الْكل، ويتجارى فِيهَا كَمَا يتجارى الْكَلْب فِي
بدن المكلوب، وَهَذَا شرح تضررهم فِي الدُّنْيَا، وَأما تضررهم بِحَسب
الْخُرُوج إِلَى الْكَمَال الأخروى. ففنى عَن الْبَيَان، وَكَانَ هَذَا
الْمَرَض قد استولى على مدن الْعَجم، فنفث الله فِي قلب نبيه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يداوي هَذَا الْمَرَض بِقطع مادته، فَنظر رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مظان غالبية لهَذِهِ
الْأَشْيَاء كالقينات وَالْحَرِير والقسي وَبيع الذَّهَب بِالذَّهَب
مُتَفَاضلا لأجل الصياغات أَو طَبَقَات أصنافه وَنَحْو ذَلِك، فَنهى
عَنْهَا |