حجة الله
البالغة (الْمَظَالِم)
اعْلَم أَن من أعظم الْمَقَاصِد الَّتِي قصدت ببعثة الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام دفع الْمَظَالِم من بَين للنَّاس، فان تظالمهم يفْسد
حَالهم، ويضيق عَلَيْهِم، وَلَا حَاجَة إِلَى شرح ذَلِك،
والمظالم على ثَلَاثَة أَقسَام: تعد على
النَّفس، وتعد على أَعْضَاء النَّاس، وتعد على أَمْوَال النَّاس، فاقتضت
حِكْمَة من الله أَن يزْجر عَن كل نوع من هَذِه الْأَنْوَاع بزواجر
قَوِيَّة تردع النَّاس عَن أَن يَفْعَلُوا ذَلِك مرّة أُخْرَى، وَلَا
يَنْبَغِي أَن تجْعَل هَذِه الزواجر على مرتبَة وَاحِدَة فان الْقَتْل
لَيْسَ كَقطع الطّرف؛ وَلَا قطع الطّرف كاستهلاك المَال.
وَأَن الدَّوَاعِي الَّتِي تنبعث مِنْهَا هَذِه الْمَظَالِم لَهَا
مَرَاتِب؛ فَمن البديهي أَن تعمد الْقَتْل لَيْسَ كالتساهل المنجر إِلَى
الْخَطَأ: فأعظم الْمَظَالِم الْقَتْل، وَهُوَ أكبر الْكَبَائِر، أجمع
عَلَيْهِ أهل الْملَل قاطبتهم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ طَاعَة النَّفس فِي
دَاعِيَة لغضب، وَهُوَ أعظم وُجُوه الْفساد فِيمَا بَين النَّاس، وَهُوَ
تَغْيِير خلق الله وَهدم بُنيان الله ومناقضة مَا أَرَادَ الْحق فِي عباده
من انتشار نوع الْإِنْسَان
وَالْقَتْل على ثَلَاثَة أَقسَام: عمد، وَخطأ، وَشبه عمد، فالعمد هُوَ
الْقَتْل الَّذِي يقْصد فِيهِ إزهاق روحه بِمَا يقتل غَالِبا جارحا أَو
مُثقلًا،
وَالْخَطَأ مَا لَا يقْصد فِيهِ إِصَابَته، فَيُصِيبهُ فيقتله كَمَا إِذا
وَقع على إِنْسَان فَمَاتَ أَو رمى شَجَرَة، فَأَصَابَهُ، فَمَاتَ.
وَشبه الْعمد أَن يقْصد الشَّخْص بِمَا لَا يقتل غَالِبا، فيقتله كَمَا
إِذا ضرب بِسَوْط أَو عَصا فَمَاتَ،
وَإِنَّمَا جعل على ثَلَاثَة أَقسَام لما أَشَرنَا من قبل أَن الزاجر
يَنْبَغِي أَن يكون بِحَيْثُ يُقَاوم الداعية والمفسدة، وَلَهُمَا
مَرَاتِب، فَلَمَّا كَانَ الْعمد أَكثر فَسَادًا وَأَشد دَاعِيَة وَجب أَن
يغلظ فِيهِ بِمَا يحصل زِيَادَة الزّجر، وَلما كَانَ الْخَطَأ أقل فَسَادًا
وأخف دَاعِيَة وَجب أَن يُخَفف من جَزَائِهِ، واستنبط النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين الْعمد وَالْخَطَأ نوعا آخر لمناسبة
مِنْهُمَا وَكَونه برزخا بَينهمَا، فَلَا يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي
أَحدهمَا.
فالعمد فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
(2/234)
{وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا
عَظِيما} .
ظَاهره أَنه لَا يغْفر لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا، لَكِن الْجُمْهُور وَظَاهر السّنة على أَنه بِمَنْزِلَة سَائِر
الذُّنُوب، وَأَن هَذِه التشديدات للزجر وَأَنَّهَا تَشْبِيه لطول مكثه
بالخلود وَاخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة فان الله تَعَالَى لم ينص عَلَيْهَا
فِي مَسْأَلَة الْعمد قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر
بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .
نزلت فِي حيين من أَحيَاء الْعَرَب: أَحدهمَا أشرف من الآخر، فَقتل الأوضع
من الْأَشْرَف قَتْلَى فَقَالَ الْأَشْرَف لَنَقْتُلَنَّ الْحر بِالْعَبدِ
وَالذكر بِالْأُنْثَى، ولنضاعفن الْجراح.
وَمعنى الْآيَة - وَالله أعلم أَن خُصُوص الصِّفَات لَا يعْتَبر فِي
الْقَتْلَى كالعقل، وَالْجمال، والصغر، وَالْكبر وَكَونه شريفا أَو ذَا
مَال وَنَحْو ذَلِك،
وَإِنَّمَا تعْتَبر الْأَسَامِي والمظان الْكُلية، فَكل امْرَأَة مكافئة
لكل امْرَأَة، وَلذَلِك كَانَت ديات النِّسَاء وَاحِدَة وَإِن تفاوتت
الْأَوْصَاف، وَكَذَلِكَ الْحر يُكَافِئ الْحر، وَالْعَبْد يُكَافِئ
العَبْد، فَمَعْنَى الْقصاص التكافؤ وَأَن يَجْعَل اثْنَان فِي دَرَجَة
وَاحِدَة من الحكم لَا يفضل أَحدهمَا على الآخر لَا الْقَتْل مَكَانَهُ
أَلْبَتَّة، ثمَّ أَثْبَتَت السّنة أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر، وَأَن
الْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ. وَالذكر يقتل بِالْأُنْثَى لِأَن النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل الْيَهُودِيّ بِجَارِيَة وَفِي كتاب
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أقيال هَمدَان " وَيقتل
الذّكر بِالْأُنْثَى " وسره أَن الْقيَاس فِيهِ مُخْتَلف، ففضل الذُّكُور
على الْإِنَاث، وكونهم قوامين عَلَيْهِنَّ يَقْتَضِي أَلا يُقَاد بهَا
وَأَن الْجِنْس وَاحِد، وَإِنَّمَا الْفرق بِمَنْزِلَة الْفرق الصَّغِير
وَالْكَبِير وعظيم الجثة وحقيرها، ورعاية مثل ذَلِك عسيرة جدا، وَرب
امْرَأَة هِيَ أتم من الرِّجَال فِي محَاسِن الْخِصَال تَقْتَضِي أَن
يُقَاد، فَوَجَبَ أَن يعْمل على القياسين، وَصُورَة الْعَمَل بهما أَنه
اعْتبر الْمُقَاصَّة فِي الْقود وَعدم الْمُقَاصَّة فِي الدِّيَة،
وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِأَن صَاحب الْعمد قَصدهَا وَقصد التَّعَدِّي
عَلَيْهَا، والمتعمد المتعدى يَنْبَغِي أَن يذب عَنْهَا أتم ذب، فَإِنَّهَا
لَيست بِذَات شَوْكَة، وقتلها لَيْسَ فِيهِ حرج بِخِلَاف قتل
(2/235)
الرِّجَال فَإِن الرجل يُقَاتل الرجل،
فَكَانَت هَذِه الصُّورَة أَحَق بِإِيجَاب الْقود؛ ليَكُون ردعا وزجرا عَن
مثله.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقتل مُسلم لكَافِر ". أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الْمَقْصُود
الْأَعْظَم فِي الشَّرْع تنويه الْملَّة الحنيفية، وَلَا يحصل إِلَّا بِأَن
يفضل الْمُسلم على الْكَافِر، وَلَا يُسَوِّي بَينهمَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُقَاد الْوَالِد بِالْوَلَدِ " أَقُول: السَّبَب فِي
ذَلِك أَن الْوَالِد شفقته وافرة، وحبه عَظِيم، فاقدامه على الْقَتْل
مَظَنَّة أَنه لم يتعمده. وَإِن ظَهرت مخايل الْعمد أَو كَانَ لِمَعْنى
أَبَاحَ قَتله، وَلَيْسَت دلَالَة هَذِه اقل من دلَالَة اسْتِعْمَال مَا
لَا يقتل غَالِبا على أَنه لم يقْصد إزهاق الرّوح.
وَأما الْقَتْل شبه الْعمد، فَقَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" من قتل فِي عمية فِي رمي يكون فيهم بِالْحِجَارَةِ أَو جلد بالسياط أَو
ضرب بعصا فَهُوَ خطأ وعقله عقل الْخَطَأ ".
أَقُول: مَعْنَاهُ أَنه يشبه الْخَطَأ وَأَنه لَيْسَ من الْعمد وَأَن عقله
مثل عقله فِي الأَصْل، وَإِنَّمَا يتمايزا فِي الصّفة، أَو أَنه لَا فرق
بَينه وَبَينه فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي
الدِّيَة الْمُغَلَّظَة. فَقَوْل ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: إِنَّهَا
تكون أَربَاعًا خمْسا وَعشْرين جَذَعَة. وخمسا وَعشْرين حقة، وخمسا
وَعشْرين بنت لبون، وخمسا وَعشْرين بنت مَخَاض، وَعنهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلا إِن فِي قتل الْعمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ أَو
الْعَصَا مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها
الأولادها، وَفِي رِوَايَة " ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة
وَأَرْبَعُونَ خَلفه " وَمَا صولحوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم ".
وَأما الْقَتْل الْخَطَأ فَفِيهِ الدِّيَة المخففة المخمسة عشرُون بن
مَخَاض. وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض. وَعِشْرُونَ بنت لبون. وَعِشْرُونَ حقة
وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَفِي هذَيْن الْقسمَيْنِ إِنَّمَا تجب الدِّيَة على
الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين.
وَلما كَانَت هَذِه الْأَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب روعي فِي ذَلِك
التَّخْفِيف والتغليظ من وُجُوه:
مِنْهَا أَن سفك دم الْقَاتِل لم يحكم بِهِ إِلَّا فِي الْعمد. وَلم
يَجْعَل فِي الباقيين إِلَّا الدِّيَة، وَكَانَ فِي شَرِيعَة الْيَهُود
الْقصاص لَا غير: فَخفف الله على هَذِه الْأمة،
فَجعل جَزَاء الْقَتْل
(2/236)
الْعمد عَلَيْهَا أحد الْأَمريْنِ
الْقَتْل. وَالْمَال، فلربما كَانَ المَال أَنْفَع للأولياء من الثأر،
وَفِيه إبْقَاء نسمَة مسلمة.
وَمِنْهَا أَن كَانَت الدِّيَة فِي الْعمد وَاجِبَة على نفس الْقَاتِل
وَفِي غَيره تُؤْخَذ من عَاقِلَته؛ لتَكون مزجرة شَدِيدَة وابتلاء عَظِيما
للْقَاتِل ينهك مَاله أَشد إنهاك، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ فِي غير الْعمد من
الْعَاقِلَة لِأَن هدر الدَّم مفْسدَة عَظِيمَة، وجبر قُلُوب المصابين
مَقْصُود، والتساهل من الْقَاتِل فِي مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم ذَنْب
يسْتَحق التَّضْيِيق عَلَيْهِ، ثمَّ لما كَانَت الصِّلَة وَاجِبَة على ذَوي
الْأَرْحَام اقْتَضَت الْحِكْمَة الإلهية أَن يُوجب شَيْء من ذَلِك
عَلَيْهِم أشاءوا أم أَبَوا، وَإِنَّمَا تعين هَذَا لمعنيين.
أَحدهمَا أَن الْخَطَأ وَإِن كَانَ مأخوذا بِهِ لِمَعْنى التساهل فَلَا
يَنْبَغِي أَن يبلغ بِهِ أقْصَى المبالغ، فَكَانَ أَحَق مَا يُوجب
عَلَيْهِم عَن ذَوي رَحِمهم مَا يكون الْوَاجِب فِي التَّخْفِيف عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَن الْعَرَب كَانُوا يقومُونَ بنصرة صَاحبهمْ بِالنَّفسِ
وَالْمَال عِنْدَمَا يضيق عَلَيْهِ الْحَال، ويرون ذَلِك صلَة وَاجِبَة
وَحقا مؤكدا، ويرون تَركه عقوقا وَقطع رحم، فاستوجبت عاداتهم تِلْكَ أَن
يغين لَهُم ذَلِك.
وَمِنْهَا أَن جعل دِيَة الْعمد مُعجلَة فِي سنة وَاحِدَة، ودية غَيره
مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين لما ذكرنَا من معنى التَّخْفِيف.
وَالْأَصْل فِي الدِّيَة أَنَّهَا يجب أَن تكون مَالا عَظِيما يَغْلِبهُمْ،
وَينْقص من مَالهم، ويجدون لَهُ بَالا عِنْدهم وَيكون بِحَيْثُ يؤدونه بعد
مقلساة الضّيق؛ ليحصل الزّجر وَهَذَا الْقدر يخْتَلف باخْتلَاف
الْأَشْخَاص، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة قدروها بِعشْرَة من الْإِبِل،
فَلَمَّا رأى عبد الْمطلب أَنهم لَا ينزجرون بهَا بلغَهَا إِلَى مائَة،
وأبقاها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذَلِك لِأَن
الْعَرَب يَوْمئِذٍ كَانُوا أهل إبل، غير أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف أَن شَرعه
لَازم للْعَرَب والعجم وَسَائِر النَّاس، وَلَيْسوا كلهم أهل إبل، فَقدر من
الذَّهَب ألف دِينَار، وَمن الْفضة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَمن الْبَقر
مِائَتي بقرة، وَمن الشَّاء ألفي شَاة.
وَالسَّبَب فِي هَذَا إِذا مائَة رجل إِن وزع عَلَيْهِم ألف دِينَار فِي
ثَلَاث سِنِين أصَاب كل وَاحِد مِنْهُم فِي سنة ثَلَاثَة دَنَانِير
وَشَيْء، وَمن الدَّرَاهِم ثَلَاثُونَ درهما وَشَيْء، وَهَذَا شَيْء لَا
يَجدونَ لأَقل مِنْهُ بَالا، والقبائل تَتَفَاوَت فِيمَا بَينهَا، يكون
مِنْهَا الْكَبِيرَة، وَمِنْهَا الصَّغِيرَة، وَضبط الصَّغِيرَة
بِخَمْسِينَ، فَإِنَّهُم أدنى مَا تتقرى بهم الْقرْيَة، وَلذَلِك جعل
الْقسَامَة خمسين يَمِينا متوزعة على خمسين رجلا، والكبيرة ضعف الْخمسين
فَجعلت الدِّيَة مائَة ليصيب كل وَاحِد بَعِيرًا أَو بعيران أَو بعير
وَشَيْء فِي أَكثر الْقَبَائِل عِنْد اسْتِوَاء حَالهم.
(2/237)
وَالْأَحَادِيث الَّتِي تدل على أَن
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذا رخصت الْإِبِل خفض من
الدِّيَة، وَإِذا غلت رفع مِنْهَا، فمعناها عِنْدِي أَنه كَانَ يقْضِي بذلك
على أهل الْإِبِل خَاصَّة، وَأَنت إِن فتشت عَامَّة الْبِلَاد وَجَدتهمْ
ينقسمون إِلَى أهل تِجَارَات وأموال وهم أهل الْحَضَر، وَأهل رعي، وهم أهل
البدو لَا يجاوزهم حَال الْأَكْثَرين.
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} . الْآيَة
أَقُول. إِنَّمَا وَجب فِي الْكَفَّارَة تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة أَو
إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا ليَكُون طَاعَة مكفرة لَهُ فِيمَا بَينه وَبَين
الله فَإِن الدِّيَة مزجرة تورث فِيهِ النَّدَم بِحَسب تضييق النَّاس
عَلَيْهِ، وَالْكَفَّارَة فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي
رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث. النَّفس بِالنَّفسِ.
وَالثَّيِّب الزَّانِي. والمفارق لدينِهِ التارك للْجَمَاعَة. " أَقُول.
الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَدْيَان أَنه إِنَّمَا يجوز
الْقَتْل لمصْلحَة كُلية لَا تتأتى بِدُونِهِ، وَيكون تَركهَا اشد إفسادا
مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى.
{والفتنة أَشد من الْقَتْل} .
وعندما تصدى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للتشريع وَضرب
الْحُدُود وَجب أَن يضْبط الْمصلحَة الْكُلية المسوغة للْقَتْل وَلَو لم
يضْبط، وَترك سدى لقتل مِنْهُم قَاتل من لَيْسَ قَتله من الْمصلحَة
الْكُلية ظنا أَنه مِنْهَا فضبط بِثَلَاث:
الْقصاص فَإِنَّهُ مزجرة، وَفِيه مصَالح كَثِيرَة قد أَشَارَ الله تَعَالَى
إِلَيْهَا بقوله.
{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} .
وَالثَّيِّب الزَّانِي لِأَن الزِّنَا من أكبر الْكَبَائِر فِي جَمِيع
الْأَدْيَان، وَهُوَ من أصل مَا تَقْتَضِيه الجبلة الإنسانية، فَإِن
الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه يخلق على الْغيرَة أَن يزاحمه أحد على
موطوأته كَسَائِر الْبَهَائِم، إِلَّا أَن الْإِنْسَان اسْتوْجبَ أَن يعلم
مَا بِهِ إصْلَاح النظام فِيمَا بَينهم، فَوَجَبَ عَلَيْهِم ذَلِك.
وَالْمُرْتَدّ اجترأ على الله وَدينه، وناقض الْمصلحَة المرعية فِي نصب
الدّين وَبعث الرُّسُل.
وَأما مَا سوى هَؤُلَاءِ الثَّلَاث مِمَّا ذهبت إِلَيْهِ الْأمة مثل
الصَّائِل. وَمثل الْمُحَارب من غير أَن يقتل أحدا عِنْد من يَقُول
بالتخيير بَين أجزية الْمُحَارب فَيمكن إرجاعه إِلَى أحد هَذِه الْأُصُول.
(2/238)
وَاعْلَم أَنه كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة
يحكمون بالقسامة وَكَانَ أول من قضى بهَا أَبُو طَالب كَمَا بَين ذَلِك
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ فِيهَا مصلحَة عَظِيمَة، فَإِن
الْقَتْل رُبمَا يكون فِي الْمَوَاضِع الْخفية والليالي الْمظْلمَة حَيْثُ
لَا تكون الْبَيِّنَة
فَلَو جعل مثل هَذَا الْقَتْل هدرا لاجترأ النَّاس عَلَيْهِ ولعم الْفساد،
وَلَو أَخذ بِدَعْوَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول بِلَا حجَّة لادعى النَّاس
على كل من يعادونه، فَوَجَبَ أَن يُؤْخَذ بأيمان جمَاعَة عَظِيم تتقرى بهَا
قَرْيَة، وهم خَمْسُونَ رجلا، فَقضى بهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأثبتها.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْعلَّة الَّتِي تدار عَلَيْهَا، فَقيل. وجود
قَتِيل بِهِ أثر جِرَاحَة من ضرب أَو خنق فِي مَوضِع هُوَ فِي حفظ قوم
كمحلة، وَمَسْجِد، وَدَار، وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة عبد الله بن سهل وجد
قَتِيلا بِخَيْبَر يتشحب فِي دَمه، وَقيل. وجود قَتِيل وَقيام لوث على أحد
أَنه الْقَاتِل باخبار الْمَقْتُول أَو شَهَادَة دون النّصاب وَنَحْوه،
وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة الْقسَامَة الَّتِي قضى بهَا أَبُو طَالب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" دِيَة الْكَافِر نصف دِيَة الْمُسلم " أَقُول. السَّبَب فِي ذَلِك مَا
ذكرنَا قبل أَنه يجب أَن يُنَوّه بالملة الإسلامية، وَأَن يفضل الْمُسلم
على الْكَافِر، وَلِأَن قتل الْكَافِر أقل إفسادا بَين الْمُسلمين؛ وَأَقل
مَعْصِيّة؛ فَإِنَّهُ كَافِر مُبَاح الأَصْل ينْدَفع بقتْله شُعْبَة من
الْكفْر، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ذَنْب وخطيئة وإفساد فِي الأَرْض، فَنَاسَبَ
أَن تخفف دِيَته.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الاملاص بغرة عبد أَو أمة
اعْلَم أَن الْجَنِين فِيهِ وَجْهَان: كَونه نفسا من النُّفُوس البشرية،
وَمُقْتَضَاهُ أَن يَقع فِي عوضه النَّفس، وَكَونه طرفا وعضوا من أمة لَا
يسْتَقلّ بِدُونِهَا وَمُقْتَضَاهُ أَن يَجْعَل بِمَنْزِلَة سَائِر الجروح
فِي الحكم بِالْمَالِ، فروعي الْوَجْهَانِ فَجعل دِيَته مَالا هُوَ أدمي
وَذَلِكَ غَايَة الْعدْل.
وَأما التَّعَدِّي على أَطْرَاف الْإِنْسَان فَحكمه مَبْنِيّ على أصُول:
أَحدهَا أَن مَا كَانَ مِنْهَا عمدا فَفِيهِ الْقصاص إِلَّا أَن يكون
الْقصاص فِيهِ مفضيا إِلَى الْهَلَاك فَذَلِك مَانع من الْقصاص، وَفِيه
قَوْله تعال ى:
(2/239)
{النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ
وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص} .
فالعين بِمِرْآة محماة وَالسّن بالمبرد وَلَا تقلع لِأَن فِي الْقلع خوف
زِيَادَة الأدى. وَفِي الجروح إِذا كَانَ كالموضحة الْقصاص يقبض على السكين
بِقدر عمق الْمُوَضّحَة فان كَانَ كسر الْعظم فَلَا قصاص لِأَنَّهُ يخَاف
مِنْهُ الْهَلَاك.
وَجَاء عَن بعض التَّابِعين لطمة بلطمة. وقرصة بقرصة.
وَالثَّانِي أَن مَا كَانَ إِزَالَة لقُوَّة نافعة فِي الْإِنْسَان كالبطش.
وَالْمَشْي وَالْبَصَر. والسمع. وَالْعقل. والباءة، وَيكون بِحَيْثُ يصير
الْإِنْسَان بِهِ كلا على النَّاس، وَلَا يقدر على الِاسْتِقْلَال بِأَمْر
معيشته، وَيلْحق بِهِ عَار فِيمَا بَين النَّاس، وَيكون مثله يتَغَيَّر
بهَا خلق الله، وَيبقى أَثَرهَا فِي بدنه طول الدَّهْر فانه يجب فِيهَا
الدِّيَة كَامِلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظلم عَظِيم وتغيير لخلقه وَمثله
بِهِ وإلحاق عَار بِهِ وَكَانَ النَّاس لَا يقومُونَ بنصرة الْمَظْلُوم
بأمثال ذَلِك كَمَا يقومُونَ فِي بَاب الْقَتْل، ويحقر أَمرهم الظَّالِم
وَالْحَاكِم. وعصبة الظَّالِم وعصبة الْمَظْلُوم فاستوجب ذَلِك أَن يُؤَكد
الْأَمر فِيهِ ويبلغ مزجرته أقْصَى المبالغ.
وَالْأَصْل فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابه إِلَى
أهل الْيمن: " فِي الْأنف إِذا أوعب جدعة الدِّيَة، وَفِي الاسنان
الدِّيَة، وَفِي الشفتين الدِّيَة، وَفِي البيضتين الدِّيَة، وَفِي الذّكر
الدِّيَة، وَفِي الصلب الدِّيَة، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة " وَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلَام.
" فِي الْعقل الدِّيَة ".
ثمَّ مَا كَانَ إتلافا لنصف هَذِه الْمَنْفَعَة فَفِيهِ نصف الدِّيَة، فِي
الرجل الواحده نصف الدِّيَة، وَفِي الْيَد الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَمَا
كَانَ إتلافا لعشرها كأصبع
من أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فَفِيهِ عشر الدِّيَة، وَفِي كل سنّ
نصف عشر الدِّيَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَسْنَان تكون ثَمَانِيَة وَعشْرين.
وَسِتَّة وَعشْرين، وَالْكَسْر الَّذِي يكون بِإِزَاءِ نِسْبَة الْوَاحِد
إِلَى ذَلِك الْعدَد خَفِي مُحْتَاج إِلَى التعمق فِي الْحساب، فأخذنا
الْعشْرين، وأوجبنا نصف عشر الدِّيَة.
وَالثَّالِث أَن الجروح الَّتِي لَا تكون إبطالا لقُوَّة مُسْتَقلَّة وَلَا
لنصفها، وَلَا تكون مثله، وَإِنَّمَا هِيَ تَبرأ، وتندمل لَا يَنْبَغِي أَن
تجْعَل بِمَنْزِلَة النَّفس وَلَا بِمَنْزِلَة الْيَد وَالرجل، فَيحكم
بِنصْف الدِّيَة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يهدر وَلَا يَجْعَل بإزائه شَيْء،
فأقلها الْمُوَضّحَة إِذْ مَا كَانَ دونهَا يُقَال لَهُ خدش وخمش لَا جرح،
والموضحة مَا يُوضح الْعظم فَفِيهِ نصف الْعشْر لآن نصف الْعشْر أقل حِصَّة
يعرف من غير إمعان فِي الْحساب، وَإِنَّمَا يبْنى الْأَمر فِي
(2/240)
الشَّرَائِع على السِّهَام الْمَعْلُوم
مقدارها عِنْد الحاسب وَغَيره، والمنقلة فِيهَا خَمْسَة عشر بَعِيرًا
لِأَنَّهَا إِيضَاح وَكسر وَنقل فَصَارَ بِمَنْزِلَة ثَلَاثَة إيضاحات
والجائفة والآمة أعظما الْجِرَاحَات فَمن حَقّهمَا أَن يَجْعَل فِي كل
وَاحِدَة مِنْهُمَا ثلث الدِّيَة لِأَن الثُّلُث يقدر بِهِ مَا دون
النّصْف.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هَذِه وَهَذِه سَوَاء " يَعْنِي الحنصر والابهام، وَقَالَ " الثَّنية
والضرس سَوَاء ".
أَقُول وَالسَّبَب أَن الْمَنَافِع الْخَاصَّة بِكُل عُضْو عُضْو لما صَعب
ضَبطهَا وَجب أَن يدار الحكم على الْأَسَامِي وَالنَّوْع.
وَاعْلَم أَن من الْقَتْل وَالْجرْح مَا يكون هدرا وَذَلِكَ لأحد
وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون دفعا لشر يلْحق بِهِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَاب من قَالَ:
" يَا رَسُول الله أَرَأَيْت إِن جَاءَ رجل يُرِيد أَخذ مَالِي؟ قَالَ:
فَلَا تعطه مَالك، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قاتلني؟ قَالَ: قَاتله، قَالَ:
أَرَأَيْت إِن قتلني؟ قَالَ: فَأَنت شَهِيد، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلته؟
قَالَ: هُوَ فِي النَّار ".
وعض إِنْسَان إنْسَانا، فَانْتزع المعضوض يَده من فَمه، فأندر ثنيته،
فأهدرها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْحَاصِل أَن الصَّائِل على نفس الْإِنْسَان أَو طرفه أَو مَاله يجوز
ذبه بِمَا أمكن، فان انجر الْأَمر إِلَى الْقَتْل لَا إِثْم فِيهِ، فان
الْأَنْفس السبعية كثيرا مَا يتغلبون فِي الأَرْض، فَلَو لم يدفعوا لضاق
الْحَال وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو اطلع فِي بَيْتك أحد، وَلم تَأذن لَهُ، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه مَا
كَانَ عَلَيْك من جنَاح ".
وَأما أَن يكون بِسَبَب لَيْسَ فِيهِ تعد لأحد، وَإِنَّمَا هُوَ
بِمَنْزِلَة الْآفَات السماوية، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" العجماء جَبَّار، والمعدن جَبَّار، والبئر جَبَّار ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْبَهَائِم تسرح للمرعى، فاذا أَصَابَت أحدا لم
يكن ذَلِك من صنع مَالِكهَا، وَكَذَلِكَ إِذا وَقع فِي الْبِئْر أَو انطبق
عَلَيْهِ الْمَعْدن، ثمَّ إِن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سجل عَلَيْهِم أَن يحتاطوا لِئَلَّا يصاب أحد مِنْهُم بخطأ، فان من القرف
والتلف.
(2/241)
وَمِنْه نَهْيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَن الْحَذف قَالَ: " إِنَّه لَا يصاد بِهِ صيد، وَلَا ينْكَأ
بِهِ عَدو، وَلكنه قد يكسر السن، ويفقأ الْعين ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا مر أحدكُم فِي مَسْجِدنَا
أَو فِي سوقنا وَمَعَهُ نبل فليمسك على نصالها أَن تصيب أحدا من الْمُسلمين
مِنْهَا شَيْء ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُشِير أحدكُم إِلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يدْرِي
لَعَلَّ الشَّيْطَان ينْزع من يَده، فَيَقَع فِي حُفْرَة من النَّار ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يتعاطى السَّيْف مسلولا، وَنهى أَن يقدر
السّير بَين أصبعين.
وَأما التَّعَدِّي على أَمْوَال النَّاس فأقسام: غصب. وَإِتْلَاف. وسرقة.
وَنهب ...
أما السّرقَة. والنهب فستعرفهما، وَأما الْغَصْب فاغا هُوَ تسلط على مَال
الْغَيْر مُعْتَمدًا على شُبْهَة واهية لَا يثبتها الشَّرْع، أَو
اعْتِمَادًا على أَلا يظْهر على الْحُكَّام جلية الْحَال، وَنَحْو ذَلِك،
فَكَانَ حريا أَن يعد من الْمُعَامَلَات، وَلَا يبتنى عَلَيْهِ الْحُدُود،
وَلذَلِك كَانَ غصب ألف دِرْهَم لَا يُوجب الْقطع، وسرقة ثَلَاثَة دَرَاهِم
توجبه.
وَأما الاتلاف فَيكون عمدا. وَشبه عمد. وَخطأ، لَكِن الْأَمْوَال لما
كَانَت دون الْأَنْفس لم يَجْعَل لكل وَاحِد مِنْهَا حكما وَكفى الضَّمَان
عَن جَمِيعهَا زاجرا.
قَالَ رسولى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أَخذ شبْرًا من
الأَرْض ظلما طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين ".
أَقُول لقد علمت مرَارًا أَن الْفِعْل الَّذِي ينْقض الْمصلحَة المدنية،
وَيحصل بِهِ الْإِيذَاء والتعدي يسْتَوْجب لعن الْمَلأ الْأَعْلَى،
وَيتَصَوَّر الْعَذَاب بِصُورَة الْعَمَل أَو مجاروه.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" على الْيَد مَا أخذت ".
أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الْغَصْب وَالْعَارِية يجب رد عينه،
فان تعذر فَرد مثله.
وَدفع عَلَيْهِ السَّلَام صَحْفَة فِي مَوضِع صَحْفَة كسرت، وَأمْسك
الْمَكْسُورَة
أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الاتلاف، وَالظَّاهِر من السّنة أَنه
يجوز أَن يغرم فِي المتقومات بِمَا يحكم بِهِ الْعَامَّة والخاصة أَنه
مثلهَا كالصحفة مَكَان الصحفة، وَقضى عُثْمَان
(2/242)
رَضِي الله عَنهُ بِمحضر من الصحابه رَضِي
الله عَنْهُم على الْمَغْرُور أَن يفدى بِمثل أَوْلَاده.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من وجد عين مَاله عِنْد رجل فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَيتبع البيع من بَاعه "
أَقُول السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الحكم أَنه إِذا وَقعت هَذِه
الصُّورَة فَيحْتَمل أَن يكون فِي كل جَانب الضَّرَر والجور، فَإِذا وجد
مَتَاعه عِنْد رجل. فان كَانَت السّنة أَن يهمله حَتَّى يجد بَائِعه
فَفِيهِ ضَرَر عَظِيم لصَاحب الْمَتَاع، فان الْغَاصِب أَو السَّارِق إِذا
عثر على خيانته رُبمَا يحْتَج بِأَنَّهُ اشْترِي من إِنْسَان يذب بذلك عَن
نَفسه، وَرُبمَا يكون السَّارِق وَالْغَاصِب وكل بعض النَّاس بِالْبيعِ
لِئَلَّا يُؤَاخذ هُوَ وَلَا البَائِع، وَفِي ذَلِك فتح بَاب ضيَاع حُقُوق
النَّاس، وَرُبمَا لَا يجد البَائِع إِلَّا عِنْد غيبَة هَذَا المُشْتَرِي
فيؤاخذه فَلَا يجد عِنْده شَيْء فيسكت على خيبة، وَإِن كَانَت السّنة أَن
يقبضهُ فِي الْحَال فَفِيهِ ضَرَر للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ رُبمَا يبْتَاع
من السُّوق لَا يدْرِي من البَائِع وَأَيْنَ مَحَله ثمَّ يسْتَحق مَاله
وَلَا يجد البَائِع فيسكت على خيبة وَرُبمَا يكون لَهُ حَاجَة إِلَى
الْمَتَاع وَيكون فِي قبض
الْمُسْتَحق إِيَّاه حوالته على البَائِع فَوت حَاجته فَلَمَّا دَار
الْأَمر بَين ضررين وَلم يكن بُد من وجود أَحدهمَا وَجب أَن يرجع إِلَى
الْأَمر الظَّاهِر الَّذِي تقبله أفهام النَّاس من غير رِيبَة وَهُوَ هُنَا
أَن الْحق تعلق بِهَذِهِ الْعين وَالْعين تحبس فِي الْعين الْمُتَعَلّق
بِهِ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة وارتفع الأشكال، وعَلى هَذَا الْقيَاس
يَنْبَغِي أَن تعْتَبر القضايا.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن على أهل الحوائط حفظهَا
بِالنَّهَارِ وَأَن مَا أفسدت الْمَوَاشِي فَهُوَ ضَامِن على أَهلهَا
أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الْقَضَاء أَنه إِذا أفسدت
الْمَوَاشِي حَوَائِط النَّاس كَانَ الْجور والعذر مَعَ كل وَاحِد، فَصَاحب
الْمَاشِيَة يحْتَج بِأَنَّهُ لَا بُد أَن يسرح مَاشِيَته فِي المرعى
وَإِلَّا هَلَكت جوعا، وَاتِّبَاع كل بَهِيمَة وحفظها يفْسد عَلَيْهِم
الارتفاقات الْمَقْصُودَة، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اخْتِيَار فِيمَا أتلفته
بهيمته، وَأَن صَاحب الْحَائِط هُوَ الَّذِي قصر فِي حفظ مَاله وَتَركه فِي
بمضيعة، وَصَاحب الْحَائِط يحْتَج بِأَن الْحَائِط لَا تكون إِلَّا خَارج
الْبِلَاد فحفظها والذب عَنْهَا والاقامة عَلَيْهَا يفْسد حَاله، وَأَن
صَاحب الْمَاشِيَة هُوَ الَّذِي سرحها فِي الْحَائِط أَو قصر فِي حفظهَا،
فَلَمَّا دَار الْأَمر بَينهمَا وَكَانَ لكل وَاحِد جور وَعذر، وَجب أَن
يرجع إِلَى الْعَادة المألوفة الفاشية بَينهم فيبنى، الْجور على مجاوزتها،
وَالْعَادَة أَن يكون فِي كل حَائِط فِي النَّهَار من يعْمل فِيهِ، وَيصْلح
أمره، ويحفظه. وَأما فِي اللَّيْل فيتركونه، ويبيتون فِي الْقرى والبلاد،
وَأَن أهل الْمَاشِيَة يجمعُونَ ماشيتهم بِاللَّيْلِ فِي بُيُوتهم، ثمَّ
يسرحونها فِي النَّهَار للرعي، فَاعْتبر الْجور أَن يُجَاوز الْعَادة
الفاشية بَينهم.
(2/243)
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَن الثَّمر الْمُعَلق، فَقَالَ:
" من أَصَابَهُ بِفِيهِ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
"
اعْلَم أَن دفع التظالم بَين النَّاس إِنَّمَا هُوَ أَن يقبض على يَد من
يضر
بِالنَّاسِ وَيَتَعَدَّى عَلَيْهِم، لَا أَن يتبع شحهم وغمر نُفُوسهم،
فَفِي صُورَة الْأكل من الثَّمر الْمُعَلق غير المحرز الْكثير الَّذِي لَا
يشح مِنْهُ بشبع إِنْسَان مُحْتَاج إِذا لم يكن هُنَاكَ مُجَاوزَة حد
الْعرف. وَلَا اتِّخَاذ خبنة، وَلَا رمي الْأَشْجَار بِالْحِجَارَةِ، فان
الْعرف يُوجب الْمُسَامحَة فِي مثله، فَمن ادّعى فِي مثل ذَلِك فانه اتبع
الشُّح، وَقصد الضرار. فَلَا يتبع، وَأما مَا كَانَ من ثَمَر مشفوة أَو
اتِّخَاذ خبنة أَو رمى الْأَشْجَار أَو مُجَاوزَة الْحَد فِي الاتلاف
بِوَجْه من الْوُجُوه فَفِيهِ التعرير والغرامة.
وَأما لبن الْمَاشِيَة فالافية فِيهِ متعارضة، وَقد بَينهَا النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاسها تَارَة على الْمَتَاع المخزون فِي
الْبيُوت، فَنهى عَن حلبه. وَتارَة على الثَّمر الْمُعَلق والأشياء غير
المحرزة، فأباح مِنْهُ بِقدر الْحَاجة لمن لم يجد صَاحب المَال ليستأذنه،
وَالْأَصْل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الاحاديث وأظهرت الْعِلَل أَن يجمع
بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل، فحينما جرت الْعَادة ببذل مثله وَلَيْسَ
هُنَاكَ شح وتضييق وَكَانَت حَاجَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وعَلى مثل ذَلِك
يَنْبَغِي أَن يعْتَبر تصرف الزَّوْجَة فِي مَال الزَّوْج وَالْعَبْد فِي
مَال سَيّده
(الْحُدُود)
اعْلَم أَن من الْمعاصِي مَا شرع الله فِيهِ الْحَد، وَذَلِكَ كل مَعْصِيّة
جمعت وُجُوهًا من المفسده، بِأَن كَانَت فَسَادًا فِي الأَرْض واقتضابا على
طمأنينة الْمُسلمين، وَكَانَت لَهَا دَاعِيَة فِي نفوس بني آدم لَا تزَال
تهيج فِيهَا، وَلها ضراوة لَا يَسْتَطِيعُونَ الاقلاع مِنْهَا بعد أَن
أشربت قُلُوبهم بهَا، وَكَانَ فِيهِ ضَرَر لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم
دَفعه عَن نَفسه فِي كثير من الأحيان، وَكَانَ كثير الْوُقُوع فِيمَا بَين
النَّاس، فَمثل هَذِه الْمعاصِي لَا يَكْفِي فِيهَا التَّرْهِيب بِعَذَاب
الْآخِرَة، بل لَا بُد من إِقَامَة ملامة شَدِيدَة عَلَيْهَا وإيلام،
ليَكُون بَين أَعينهم ذَلِك، فيردعهم عَمَّا يريدونه.
كَالزِّنَا فَإِنَّهَا تهيج من الشبق وَالرَّغْبَة فِي جمال النِّسَاء،
وَلها شرة وفيهَا عَار شَدِيد
(2/244)
على أَهلهَا، وَفِي مزاحمة النَّاس على
موطوأة تَغْيِير الجبلة الإنسانية، وَهِي مَظَنَّة المقاتلات والمحاربات
فِيمَا بَينهم، وَلَا يكون غَالِبا إِلَّا بِرِضا الزَّانِيَة وَالزَّانِي،
وَفِي الخلوات حَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا الْبَعْض، فَلَو لم يشرع
فِيهَا حد وجيع لم يحصل الردع.
كالسرقة فَإِن الْإِنْسَان كثيرا مَا لَا يجد كسبا صَالحا، فينحدر إِلَى
السّرقَة وَلها ضراوة فِي نُفُوسهم، وَلَا يكون الاختفاء بِحَيْثُ لَا
يرَاهُ النَّاس بِخِلَاف الْغَصْب، فانه يكون باحتجاج وشبهة لَا يثبتها
الشَّرْع، وَفِي تضاعيف معاملات بَينهمَا وعَلى أعين النَّاس فَصَارَ
مُعَاملَة من الْمُعَامَلَات.
وكقطع الطَّرِيق فانه لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم ذبه عَن نَفسه وَمَاله،
وَلَا يكون فِي بِلَاد الْمُسلمين وَتَحْت شوكتهم فيدفعوا، فَلَا بُد لمثله
أَن يُزَاد فِي الْجَزَاء والعقوبة، وكشرب الْخمر فان لَهَا شَرها وفيهَا
فَسَادًا فِي الأَرْض وزوالا لمسكة عُقُولهمْ الَّتِي بهَا صَلَاح معادهم
ومعاشهم،
وكالقذف فان الْمَقْذُوف يتَأَذَّى أَذَى شَدِيدا، وَلَا يقدر على دَفعه
بِالْقَتْلِ وَنَحْوه لِأَنَّهُ إِن قتل قتل بِهِ، وَإِن ضرب ضرب بِهِ،
فَوَجَبَ فِي مثله زاجر عَظِيم.
ثمَّ الْحَد إِمَّا قتل وَهُوَ زجر لَا زجر فَوْقه، وَإِمَّا قطع وَهُوَ
إيلام شَدِيد وتفويت قُوَّة لَا يتم الِاسْتِقْلَال بالمعيشة دونهَا طول
عمره ومثو عَار ظَاهر أَثَره بمرأى النَّاس لَا يَنْقَضِي، فان النَّفس
إِنَّمَا تتأثر من وَجْهَيْن؛ النَّفس الواغلة فِي البهيمية يمْنَعهَا
الايلام كالبقر. والجمل وَالَّتِي فِيهَا حب الجاه يردعه الْعَار اللَّازِم
لَهُ اشد من الايلام، فَوَجَبَ جمع هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الْحُدُود
وَدون ذَلِك إيلام بِضَرْب يضم مَعَه مَا فِيهِ عَار، ظهر أَثَره كالتغريب
وَعدم قبُول الشَّهَادَة والتبكيت
وَاعْلَم أَنه كَانَ من شَرِيعَة من قبلنَا الْقصاص فِي الْقَتْل،
وَالرَّجم فِي الزِّنَا وَالْقطع فِي السّرقَة، فَهَذِهِ الثَّلَاث كَانَت
متوارثة فِي الشَّرَائِع السماوية وأطبق عَلَيْهَا جَمَاهِير الْأَنْبِيَاء
والأمم، وَمثل هَذَا يجب أَن يُؤْخَذ عَلَيْهِ بالنواجذ، وَلَا يتْرك،
وَلَكِن الشَّرِيعَة المصطفوية تصرفت فِيهَا بِنَحْوِ آخر، فَجعلت مزجرة كل
وَاحِد على طبقتين: إِحْدَاهمَا الشَّدِيدَة الْبَالِغَة أقْصَى المبالغ،
وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِي الْمعْصِيَة الشَّدِيدَة، وَالثَّانيَِة
دونهَا، وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِيمَا كَانَت الْمعْصِيَة دونهَا.
(2/245)
فَفِي الْقَتْل الْقود وَالدية وَالْأَصْل
فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{ذَلِك تَخْفيف من ربكُم}
قَالَ: ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: كَانَ فيهم الْقصاص وَلم يكن
فيهم الدِّيَة.
وَفِي الزِّنَا الْجلد، وَكَانَ الْيَهُود لما ذهبت شوكتهم، وَلم يقدروا
على الرَّجْم ابتدعوا التجبيه. والتشحيم فَصَارَ ذَلِك تحريفا لشريعتهم،
فَجمعت لنا بَين شريعتي من قبلنَا السماوية والابتداعية، وَذَلِكَ غَايَة
رَحْمَة الله بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا
وَفِي السّرقَة الْعقُوبَة وغرامة مثلَيْهِ على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث.
وَإِن حملت أَنْوَاع من الظُّلم عَلَيْهَا كالقذف. وَالْخمر فَجعلت لَهَا
حدا فَإِن هَذِه أَيْضا بِمَنْزِلَة تِلْكَ الْمعاصِي وَإِن زَادَت فِي
عُقُوبَة قطع الطَّرِيق.
وَاعْلَم أَن النَّاس على طبقتين - ولسياسة كل طبقَة وَجه خَاص _ طبقَة هم
مستقلون، أَمرهم بأيدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يؤخذوا على أعين النَّاس،
ويوجعوا، وَيلْزم عَلَيْهِم عَار شَدِيد، ويهانوا، ويحقروا.
وطبقة هم بأيدي نَاس آخَرين أسراء عِنْدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يُؤمر
سادتهم أَن يحفظوهم عَن الشَّرّ، فَإِنَّهُ يظْهر لَهُم وَجه فِي حَبسهم
عَن فعلهم ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا زنت أمة أحدكُم فليضرب " الحَدِيث، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِذا سرق عبد أحدكُم فبيعوه وَلَو بنش " فضبطت الطبقتان بِوَصْف ظَاهر،
فَالْأولى الْأَحْرَار وَالثَّانيَِة الارقاء.
ثمَّ كَانَ من السَّادة من يتَعَدَّى على عبيده، ويحتج بِأَنَّهُ زنى، أَو
سرق، وَنَحْو ذَلِك، فَكَانَ الْوَاجِب فِي مثله أَن يشرع على الأرقاء دون
مَا على الْأَحْرَار ليقطع هَذَا النَّوْع، وَألا يخيروا فِي الْقَتْل
وَالْقطع، وَأَن يخيروا فِيمَا دون ذَلِك.
وَالْحَد يكون كَفَّارَة لأحد وَجْهَيْن، لِأَن العَاصِي إِمَّا أَن يكون
منقادا لأمر الله وَحكمه، مُسلما وَجهه لله فالكفارة فِي حَقه تَوْبَة
عَظِيمَة، وَدَلِيله حَدِيث
" لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت على أمة مُحَمَّد لوسعتهم ".
(2/246)
وَإِمَّا أَن يكون إيلاما لَهُ وقسرا
عَلَيْهِ، وسر ذَلِك أَن الْعَمَل يَقْتَضِي فِي حِكْمَة الله أَن يجازى
فِي نَفسه أوماله، فَصَارَ مُقيم الْحَد خَليفَة الله فِي المجازاة فَتدبر.
قَالَ الله تَعَالَى:
{الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} .
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: إِن الله بعث مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب، فَكَانَ مِمَّا
أنزل الله آيَة الرَّجْم، رجم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ورجمنا بعده، وَالرَّجم فِي كتاب الله حق على من زنى إِذا أحصن من
الرِّجَال وَالنِّسَاء.
أَقُول: إِنَّمَا جعل حد الْمُحصن الرَّجْم، وحد غير الْمُحصن الْجلد؛
لِأَنَّهُ كَمَا يتم التَّكْلِيف ببلوغ خمس عشر سنة أَو نَحوه، وَلَا يتم
دون ذَلِك لعدم تَمام الْعقل وَتَمام الجثة وَكَونه من الرِّجَال فَلذَلِك
يَنْبَغِي أَن تَتَفَاوَت الْعقُوبَة المترتبة على التَّكْلِيف بأتمية
الْعقل وصيرورته رجلا كَامِلا مُسْتقِلّا بأَمْره مستبدا بِرَأْيهِ،
وَلِأَن الْمُحصن كَامِل وَغير الْمُحصن نَاقص، فَصَارَ وَاسِطَة بَين
الْأَحْرَار الكاملين وَبَين العبيد، وَلم يعْتَبر ذَلِك إِلَّا فِي
الرَّجْم خَاصَّة لِأَنَّهُ أَشد عُقُوبَة شرعت فِي حق الله.
وَأما الْقصاص فَحق النَّاس وهم محتاجون، فَلَا يضيع حُقُوقهم.
وَأما حد السّرقَة وَغَيرهَا فَلَيْسَ بِمَنْزِلَة الرَّجْم وَلِأَن
الْمعْصِيَة مِمَّن أنعم الله عَلَيْهِ وفضله على كثير من خلقه أقبح وأشنع
لِأَنَّهَا اشد الكفران، فَكَانَ من حَقّهَا أَن يُزَاد فِي الْعقُوبَة
لَهَا، وَإِنَّمَا جعل حد الْبكر مائَة جلدَة لِأَنَّهَا عدد كثير مضبوط
يحصل بِهِ الزّجر والإيلام، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بالتغريب لِأَن الْعقُوبَة
المأثرة تكون على وَجْهَيْن: إيلام فِي الْبدن وإلحاق حَيَاء وخجالة وعار
وفقد مألوف فِي النَّفس، وَالْأول عُقُوبَة جسمانية، وَالثَّانِي عُقُوبَة
نفسانية، وَلَا تتمّ الْعقُوبَة إِلَّا بِأَن تجمع الْوَجْهَيْنِ: قَالَ
الله تَعَالَى:
{فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من
الْعَذَاب} .
أَقُول السِّرّ فِي تصنيف الْعقُوبَة على الارقاء أَنهم يُفَوض أَمرهم
إِلَى
مواليهم، فَلَو شرع فيهم مزجرة بَالِغَة أقْصَى المبالغ لفتح ذَلِك بَاب
الْعدوان بِأَن يقتل الْمولى عَبده، ويحتج بِأَنَّهُ زَان، وَلَا يكون
سَبِيل الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ، فنقص من حَدهمْ، وَجعل مَا لَا يُفْضِي
إِلَى الْهَلَاك، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْفرق بَين الْمُحصن وَغَيره
يَتَأَتَّى هُنَا.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عني، خُذُوا
عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام،
وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ، جلد مائَة، وَالرَّجم " وَعمل بِهِ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ
(2/247)
أَقُول: اشْتبهَ هَذَا على النَّاس وظنوا
مناقضا مَعَ رجمه الثّيّب وَعدم جلده، وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ مناقضا لَهُ،
وَأَن الْآيَة عَامَّة لَكِن يسن الإِمَام الِاقْتِصَار على الرَّجْم عِنْد
وجوبهما، وَإِنَّمَا مثله مثل الْقصر فِي السّفر، فَإِنَّهُ لَو أتم جَازَ،
لَكِن يسن لَهُ الْقصر، وَإِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن الرَّجْم عُقُوبَة
عَظِيمَة، فتضمنت مَا دونهَا، وَبِهَذَا يجمع بَين قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا، وَعمل عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَبَين عمله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأكْثر خلفائه فِي الِاقْتِصَار على
الرَّجْم، وَحَدِيث جَابر أَمر بِالْجلدِ، ثمَّ اخبر أَنه مُحصن، فَأمر
بِهِ، فرجم يدل عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَا أقدم على الْجلد إِلَّا لجَوَاز
مثله مَعَ كل زَان.
وَعِنْدِي أَن التَّرْغِيب يحْتَمل الْعَفو، وَبِه بِجمع بَين الْآثَار.
لما قَالَ مَاعِز بن مَالك زَنَيْت فطهرني، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت؟ قَالَ: لَا يَا رَسُول الله
قَالَ: أنكتها؟ قَالَ: نعم فَعِنْدَ ذَلِك أَمر برجمه ".
أَقُول الْحَد مَوضِع الاحيتاط، وَقد يُطلق الزِّنَا على مَا دون الْفرج
كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فزنا اللِّسَان كَذَا وزنا
الرجل كَذَا " فَوَجَبَ التثبت والتحقق فِي مثل ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْمقر على نَفسه بِالزِّنَا الْمُسلم نَفسه لإِقَامَة الْحَد
تائب، والتائب كمن لَا ذَنْب لَهُ، فَمن حَقه أَلا يحد، لَكِن هُنَا وُجُوه
مقتضية لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ:
مِنْهَا أَنه لَو كَانَ إِظْهَار التَّوْبَة وَالْإِقْرَار درءا للحد لم
يعجز كل زَان أَن يحتال إِذا استشعر بمؤاخذة الإِمَام بِأَن يعْتَرف،
فيندرئ عَنهُ الْحَد، وَذَلِكَ مناقضة للْمصْلحَة.
وَمِنْهَا أَن التَّوْبَة لَا تتمّ إِلَّا أَن يعتضد بِفعل شاق عَظِيم لَا
يَتَأَتَّى إِلَّا من مخلص، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَاعِز لما أسلم نَفسه للرجم: " لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت
بَين أمة مُحَمَّد لوسعتهم " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الغامدية "
لقد تابت تَوْبَة تابها صَاحب مكس لغفر لَهُ ".
وَمَعَ ذَلِك فَيُسْتَحَب السّتْر عَلَيْهِ، وَهُوَ وَقَوله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهزال " لَو كَسرته بثوبك لَكَانَ خيرا لَك "، وَأَن
يُؤمر هُوَ أَن يَتُوب فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأَن يحتال فِي دَرْء
الْحَد.
(2/248)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. " إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا فليجلدها الْحَد، وَلَا
يثرب عَلَيْهَا "، ثمَّ إِن زنت فليجلدها
الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْإِنْسَان
مَأْمُور شرعا أَن يذب عَن حريمه الْمعاصِي ومجبول على ذَلِك خلقه، وَلَو
لم يشرع الْحَد إِلَّا عِنْد الإِمَام لما اسْتَطَاعَ السَّيِّد إِقَامَته
فِي كثير من الصُّور، وَلم يتَحَقَّق الذب عَن الذمار، وَلَو لم يحد
مِقْدَار معِين للحد لتجاوز المتجاوز إِلَى حد الإهلاك أَو الايلام
الزَّائِد عَن الْحَد، فَلذَلِك قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَا يثرب ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم
إِلَّا الْحُدُود " أَقُول: المُرَاد بذوي الهيآت أهل المروءات، أما أَن
يعلم من رجل صَلَاح فِي الدّين، وَكَانَت العثرة أمرا فرط مِنْهُ على خلاف
عَادَته، ثمَّ نَدم، فَمثل هَذَا يَنْبَغِي أَن يُجَاوز عَنهُ، أَو
يَكُونُوا أهل نجدة وسياسة وَكبر فِي النَّاس، فَلَو أُقِيمَت الْعقُوبَة
عَلَيْهِ فِي كل ذَنْب قَلِيل أَو كَبِير لَكَانَ فِي ذَلِك فتح بَاب
التشاحن وَاخْتِلَاف على الامام وبغى عَلَيْهِ فان النُّفُوس كثيرا مَالا
تحْتَمل ذَلِك.
وَأما الْحُدُود فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تهمل إِلَّا إِذا وجد لَهَا
سَبَب شَرْعِي تندرئ بِهِ، وَلَو أهملت لتناقضت الْمصلحَة وَبَطلَت
فَائِدَة الْحُدُود.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخْدج يَزْنِي " خُذُوا لَهُ
عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فاضربوا بِهِ ".
اعْلَم أَن من لَا يَسْتَطِيع أَن يُقَام عَلَيْهِ الْحُدُود لضعف فِي
جبلته، فان ترك سدى كَانَ مناقضا لتأكد الْحُدُود فانما اللَّائِق بالشرائع
اللَّازِمَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى بِمَنْزِلَة الْأُمُور الجبلية
أَن يَجْعَل كالمؤثر بالخاصية، ويعض عَلَيْهِ بالنواجذ، وَأَيْضًا فان
فِيهِ بعض الْأَلَم الميسور لَا ضَرُورَة فِي تَركه.
وَاخْتلف فِي حد اللواطة، وَقيل. هِيَ من الزِّنَا، وَقيل: يقتل لحَدِيث "
من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ".
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا
وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك
وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .
وَفِي حكم الْمُحْصنَات المحصنون بالاجماع، والمحصن حر مُكَلّف مُسلم عفيف
من وَطْء يحد بِهِ.
(2/249)
وَاعْلَم أَن هَهُنَا وَجْهَيْن متعارضين،
وَذَلِكَ أَن الزِّنَا مَعْصِيّة كَبِيرَة يجب إخمالها وَإِقَامَة الْحَد
عَلَيْهَا والمؤاخذة بهَا، وَكَذَلِكَ الْقَذْف مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَفِيه
إِلْحَاق عَار عَظِيم يجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيشْتَبه الْقَذْف
بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا، فَلَو أَخذنَا الْقَاذِف لنقيم عَلَيْهِ
الْحَد يَقُول: أَنا شَاهد على الزِّنَا، وَفِيه بطلَان لحد الْقَذْف
وَالَّذِي هُوَ شَاهد على الزِّنَا يذبه عَن نَفسه الْمَشْهُود عَلَيْهِ
بِأَنَّهُ قَاذف يسْتَحق الْحَد، فَلَمَّا تعَارض الحدان فِي هَذِه
الْجُمْلَة عَن سياسة الْأمة وَجب أَن يفرق بَينهمَا بِأَمْر ظَاهر
وَذَلِكَ كَثْرَة المخبرين، فَإِنَّهُم إِذا كَثُرُوا قوى ظن الشَّهَادَة
والصدق، وَضعف ظن الْقَذْف، فان الْقَذْف يستدعى جمع صفتين: ضَعِيف فِي
الدّين، وغل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْذُوف، وَيبعد أَن يجتمعا فِي
جمَاعَة من الْمُسلمين وَإِنَّمَا لم يكتف بعدالة الشَّاهِدين لِأَن
الْعَدَالَة مَأْخُوذَة فِي جَمِيع الْحُقُوق، فَلَا يظْهر للتعارض أثر،
وضبطت الْكَثْرَة بِضعْف نِصَاب الشَّهَادَة.
وَإِنَّمَا جعل حد الْقَذْف ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون أقل
من الزِّنَا، فان
إِشَاعَة فَاحِشَة لَيست بِمَنْزِلَة فعلهَا، وَضبط النُّقْصَان بِمِقْدَار
ظَاهر وَهُوَ عشرُون، فَإِنَّهُ خمس الْمِائَة وَإِنَّمَا جعل من تَمام
حَده عدم قبُول الشَّهَادَة لما ذكرنَا أَن الايلام قِسْمَانِ: جسماني.
ونفساني. وَقد اعْتبر الشَّرْع جَمعهمَا فِي جَمِيع الْحُدُود لَكِن جمع
مَعَ حد الزِّنَا التَّغْرِيب لِأَن الزِّنَا عِنْد سياسة وُلَاة الْأُمُور
وَغَيره الأؤلياء لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد مُخَالطَة وممازجة وَطول
صُحْبَة وائتلاف، فَجَزَاؤُهُ الْمُنَاسب لَهُ أَن يجلى عَن مَحل
الْفِتْنَة، وَجمع مَعَ حد الْقَذْف عدم قبُول الشَّهَادَة، لِأَنَّهُ
إِخْبَار، وَالشَّهَادَة إِخْبَار، فجوزي بِعَارٍ من جنس الْمعْصِيَة فان
عدم قبُول الشَّهَادَة من الْقَاذِف عُقُوبَة، وَعدم قبُولهَا من سَائِر
العصاة لفَوَات الْعَدَالَة وَالرِّضَا، وَأَيْضًا فقد ذكرنَا أَن
الْقَاذِف لَا يعجز أَن يَقُول: أَنا شَاهد فَيكون سد هَذَا الْبَاب أَن
يُعَاقب بِمثل مَا احْتج بِهِ، وَجمع فِي حد الْخمر التبكيت.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِلَّا الَّذين} .
هَل الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى عدم قبُول الشَّهَادَة أم لَا؟ وَالظَّاهِر
مِمَّا مهدنا أَن الْفسق لما انْتهى وَجب أَن يَنْتَهِي أَثَره وعقوبته،
وَقد اعْتَبرهُ الْخُلَفَاء لحد الزِّنَا فِي تنصيف الْعقُوبَة على
الأرقاء.
قَالَ تَعَالَى:
{السَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من
الله وَالله عَزِيز حَكِيم} .
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مُبينًا لما أنزل
إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
(2/250)
{لتبين للنَّاس} .
وَكَانَ أَخذ مَال الْغَيْر أقساما: مِنْهُ السّرقَة، وَمِنْه قطع
الطَّرِيق، وَمِنْه الاختلاس، وَمِنْه الْخِيَانَة، وَمِنْه الِالْتِقَاط،
وَمِنْه الْغَصْب، وَمِنْه مَا يُقَال لَهُ قلَّة المبالاة والورع،
فَوَجَبَ أَن يبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَة
السّرقَة متميزة عَن هَذِه الْأُمُور.
وَطَرِيق التميز أَن ينظر إِلَى ذاتيان هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي لَا
تُوجد فِي السّرقَة، وَيَقَع بهَا التفارق فِي عرف النَّاس، ثمَّ تضبط
السّرقَة بِأُمُور مضبوطة مَعْلُومَة يحصل بهَا التَّمْيِيز مِنْهَا
والاحتراز عَنْهَا، فَقطع الطَّرِيق. والنهب. والحرابة أَسمَاء تنبئ عَن
اعْتِمَاد الْقُوَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المظلومين، وَاخْتِيَار مَكَان
أَو زمَان لَا تحلق فِيهِ الْغَوْث من جمَاعَة الْمُسلمين، والاختلاس يُنبئ
عَن اختطاف على أعين النَّاس وَفِي مرأى مِنْهُم ومسمع، والخيانة تنبئ عَن
تَقْدِيم شركَة أَو مباسطة وَإِذن بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَنَحْو ذَلِك،
والالتقاط يُنبئ عَن وجدان شَيْء فِي غير حرز، وَالْغَصْب يُنبئ عَن
غَلَبَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظْلُوم لَا مُعْتَمدًا على الْحَرْب
والهرب وَلَكِن على الجدل وَظن أَلا يرفع قَضيته إِلَى الْوُلَاة وَلَا
ينْكَشف عَلَيْهِم جبلة الْحَال وَقلة المبالاة، والورع يُقَال فِي
الشَّيْء التافه الَّذِي جرى الْعرف ببذله والمواساة بِهِ بَين النَّاس
كَالْمَاءِ. والحطب، فضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الِاحْتِرَاز على ذاتيات هَذِه الْأَسَامِي.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار " وروى الْقطع فِيمَا بلغ
ثمن الْمِجَن، وروى أَنه قطع فِي مجن ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم، وَقطع
عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي أترجة ثمنهَا ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف
اثْنَي عشر درهما.
وَالْحَاصِل أَن هَذِه التقديرات الثَّلَاث كَانَت منطبقة على شَيْء وَاحِد
فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ اخْتلفت بعده، وَلم
يصلح الْمِجَن للاعتبار لعدم انضباطه، فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فِي
الْحَدِيثين الآخرين: فَقيل: ربع دِينَار،
وَقيل: ثَلَاثَة دَرَاهِم قيل: بُلُوغ المَال إِلَى حد القدرين وَهُوَ
الْأَظْهر عِنْدِي، وَهَذِه شرعة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فرقا بَين التافه وَغَيره لِأَنَّهُ لَا يصلح للتقدير جنس دون جنس
لاخْتِلَاف الأسعار فِي الْبلدَانِ، وَاخْتِلَاف الْأَجْنَاس نفاسة وخساسة
بِحَسب اخْتِلَاف الْبِلَاد، فمباح قوم وتافههم مَال عَزِيز عِنْد آخَرين،
فَوَجَبَ أَن يعْتَبر التَّقْدِير فِي الثّمن، وَقيل: يعْتَبر فيهمَا،
وَأَن الْحَطب وَإِن كَانَ قِيمَته عشرَة دَرَاهِم لَا يقطع فِيهِ.
(2/251)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا قطع فِي ثَمَر مُعَلّق وَلَا فِي حريسة الْجَبَل فَإِذا آواه المراح
والجرين فالقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن " وَسُئِلَ عَن الثَّمر الْمُعَلق،
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من سرق مِنْهُ شَيْئا بعد ان يؤويه الجرين
فَبلغ ثمن الْمِجَن فَعَلَيهِ الْقطع ".
أَقُول: أفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْحِرْز شَرط
الْقطع وَسبب ذَلِك أَن غير المحرز يُقَال فِيهِ الِالْتِقَاط فَيجب
الِاحْتِرَاز عَنهُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَيْسَ على خائن وَلَا منتهب وَلَا مختلس قطع ".
أَقُول. أفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه لَا بُد فِي
السّرقَة من أَخذ المَال مختفيا وَإِلَّا كَانَ نهبة أَو خطْفَة وَألا
يتقدمها شركَة وَلُزُوم حق، وَإِلَّا كَانَ خِيَانَة أَو اسْتِيفَاء لحقه.
وَفِي الْآثَار فِي العَبْد يسرق مَال سَيّده إِنَّمَا هُوَ ملك بعضه فِي
بعض.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسارق:
" اقطعوه ثمَّ احسموه " أَقُول: إِنَّمَا أَمر بالحسم لِئَلَّا يسري
فَيهْلك، فان الحسم سَبَب عدم السَّرَايَة، وَأمر عَلَيْهِ السَّلَام
بِالْيَدِ فعلقت فِي عنق السَّارِق أَقُول. إِنَّمَا فعل هَذَا للتشهير،
وليعلم النَّاس أَنه سَارِق وفرقا بَين مَا يقطع الْيَد ظلما وَبَين مَا
يقطع حدا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرقَة مَا دون النّصاب: "
عَلَيْهِ الْعقُوبَة وغرامة مثيلة ".
أَقُول: إِنَّمَا أَمر بغرامة المثلين لِأَنَّهُ لَا بُد من ردع وعقوبة
مَالِيَّة وبدنية، فَإِن الْإِنْسَان رُبمَا يرتدع بِالْمَالِ أَكثر من ألم
الْجَسَد. وَرُبمَا يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ فَجمع بَين ذَلِك، ثمَّ
غَرَامَة مثله يَجْعَل كَأَن لم لَكِن يسرق وَلَيْسَ فِيهِ عُقُوبَة،
وَلذَلِك زيدت غَرَامَة أُخْرَى لتَكون مناقضة لقصده فِي السّرقَة.
وأتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلص قد اعْترف اعترافا
وَلم يُوجد مَعَه مَتَاع، فَقَالَ: مَا إخالك سرقت قَالَ: بلَى فَأَعَادَ
عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَأمر بِهِ فَقطع، وجئ بِهِ فَقَالَ. قل
اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ، فَقَالَ. اسْتغْفر الله وَأَتُوب
إِلَيْهِ قَالَ. اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ ثَلَاثًا ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن العَاصِي الْمُعْتَرف بِذَنبِهِ النادم
عَلَيْهِ يسْتَحق أَن يحتال فِي دَرْء الْحَد عَنهُ، وَقد ذكرنَا قَوْله
الله تَعَالَى:
(2/252)
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله
وَرَسُوله} الْآيَة.
أَقُول: الْحِرَابَة لَا تكون إِلَّا مُعْتَمدَة على الْقِتَال
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَاعَة الَّتِي وَقع الْعدوان عَلَيْهَا،
وَالسَّبَب فِي مَشْرُوعِيَّة هَذَا الْحَد أَشد من حد السّرقَة أَن
الِاجْتِمَاع الْكثير من بني آدم لَا يَخْلُو من أنفس تغلب عَلَيْهِم
الْخصْلَة السبعية لَهُم جزاءه شديده وقتال واجتماع فَلَا يبالون
بِالْقَتْلِ والنهب، وَفِي ذَلِك مفْسدَة اعظم من السّرقَة لِأَنَّهُ
يتَمَكَّن أهل الْأَمْوَال من حفظ أَمْوَالهم من السراق، وَلَا يتَمَكَّن
أهل الطَّرِيق من التمنع من قطاع الطَّرِيق، وَلَا يَتَيَسَّر
لولاة الْأُمُور وَجَمَاعَة الْمُسلمين نصرتهم فِي ذَلِك الْمَكَان
وَالزَّمَان، وَلِأَن دَاعِيَة الْفِعْل من قطاع الطَّرِيق أَشد وَأَغْلظ،
فَإِن الْقَاطِع لَا يكون إِلَّا جرئ الْقلب قوي الْجنان، وَيكون فِيمَا
هُنَالك اجْتِمَاع واتفاق بِخِلَاف السراق، فَوَجَبَ أَن تكون عُقُوبَته
أغْلظ من عُقُوبَته
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْجَزَاء على التَّرْتِيب وَهُوَ الْمُوَافق
لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقتل الْمُؤمن إِلَّا لأحدى ثَلَاث " الحَدِيث، وَقيل: على
التَّخْيِير وَهُوَ الْمُوَافق لكلمة " أَو " وَعِنْدِي أَن قَوْله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" المفارق للْجَمَاعَة " يحْتَمل أَن يكون قد جمع العلتين وَالْمرَاد أَن
كل عِلّة تفِيد الحكم كَمَا جمع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَين العلتين، فَقَالَ:
" لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفين عَن عودتهما يتحدثان " فكشف
الْعَوْرَة سَبَب اللَّعْن والتحديث فِي مثل تِلْكَ الْحَالة أَيْضا سَبَب
اللَّعْن.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنما الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام
رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون، إِنَّمَا
يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر
وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصلواة فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} .
أَقُول: بَين الله تَعَالَى أَن فِي الْخمر مفسدتين: مفْسدَة فِي النَّاس،
فان شاربها يلاحي الْقَوْم يعدوا عَلَيْهِم، ومفسدة فِيمَا يرجع إِلَى
تَهْذِيب نَفسه، فان شاربها يغوص فِي حَالَة بهيمية، وَيَزُول عقله الَّذِي
بِهِ قوام الاحسان
وَلما كَانَ قَلِيل الْخمر يَدْعُو إِلَى كَثِيره وَجب عِنْد سياسة الْأمة
أَن يدار التَّحْرِيم على كَونهَا مسكرة، لَا على وجود السكر فِي الْحَال.
ثمَّ بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْخمر مَا هِيَ،
فَقَالَ:
" كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام " وَقَالَ: "
(2/253)
الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة
والعنبة " وتخصيصهما بِالذكر لما كَانَ حَال تِلْكَ الْبِلَاد، وَسُئِلَ
عَلَيْهِ السَّلَام عَن المزر والبتع، فَقَالَ: " كل مُسكر حرَام " وَقَالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام " أَقُول: هَذِه الْأَحَادِيث مستفيضة،
وَلَا أَدْرِي أَي فرق بَين العنبى وَغَيره لِأَن التَّحْرِيم مَا نزل
إِلَّا للمفاسد الَّتِي نَص الْقُرْآن عَلَيْهَا وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا،
وَفِيمَا سواهُمَا سَوَاء
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا
فَمَاتَ وَهُوَ يدمنها لم يتب لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة " أَقُول: وَسبب
ذَلِك أَن الغائص فِي الْحَالة البهيمية الْمُدبرَة عَن الْإِحْسَان لَيْسَ
لَهُ فِي لذات الْجنان نصيب، فَجعل شرب الْخمر وإدمانها وَعدم التَّوْبَة
مِنْهَا مَظَنَّة للغوص، وأدير الحكم عَلَيْهَا، وَخص من لذات الْجنان
الْخمر، ليظْهر تخَالف اللذتين بادئ الرَّأْي، وَأَيْضًا أَن النَّفس إِذا
انهمكت فِي اللَّذَّة البهيمية فِي ضمن فعل تمثل هَذَا الْفِعْل عِنْدهَا
شبحا لتِلْك اللَّذَّة يتذكرها بتذكرها، فَلَا يسْتَحق أَن تتمثل اللَّذَّة
الاحسانية بصورتها، وَأَيْضًا فَأمر الْجَزَاء على الْمُنَاسبَة، فَمن عصى
بالاقدام على شَيْء فَجَزَاؤُهُ أَن يؤلم يفقد مثل تِلْكَ اللَّذَّة عِنْد
طلبه لَهَا واستشرافه عَلَيْهَا
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن على الله عهدا لمن شرب الْمُسكر أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال وطينة
عصارة أهل النَّار ".
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْقَيْح وَالدَّم أقبح الْأَشْيَاء السيالة
عندنَا وأحقرها
واشدها نعزة بِالنِّسْبَةِ للطبائع السليمة، وَالْخمر شَيْء سيال فَنَاسَبَ
أَن يتَمَثَّل مَقْرُونا بِصفة الْقبْح فِي صُورَة طِينَة الخبال وَذَلِكَ
كَمَا قَالُوا فِي الْمُنكر والنكير: إنَّهُمَا إِنَّمَا كَانُوا أزرقين
لِأَن الْعَرَب يكْرهُونَ الزرقة، وَقد ذكرنَا أَن بعض الوقائع الْخَارِجَة
بِمَنْزِلَة الْمَنَام فِي ذَلِك
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر لم يقبل الله
لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا فان تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ".
أَقُول: السِّرّ فِي عدم قبُول صلَاته أَن ظُهُور صفة الْبَهِيمَة وغلبتها
على الملكية بالإقدام على الْمعْصِيَة اجتراء على الله وغوص نَفسه فِي
حَالَة رذيلة تنَافِي الْإِحْسَان وتضاده، وَيكون سَببا لفقد اسْتِحْقَاق
أَن تَنْفَع الصَّلَاة فِي نَفسه نفع الْإِحْسَان وَأَن تنقاد نَفسه للحالة
الإحسانية.
(2/254)
وَكَانَ الشَّارِب يُؤْتى بِهِ إِلَى
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر بضربه فَيضْرب بالنعال
والأردية وَالْيَد حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ ضَرْبَة، ثمَّ قَالَ: " بكتوه "
فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْت الله، مَا خشيت الله، مَا
استحييت من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! وروى أَنه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخذ تُرَابا من الأَرْض فَرمى بهَا
وَجهه.
أَقُول: السَّبَب فِي نُقْصَان هَذَا الْحَد بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر
الْحُدُود أَن سَائِر الْحُدُود لوُجُود مفْسدَة بِالْفِعْلِ أَن يكون سرق
مَتَاعا أَو قطع طَرِيق أَو زنى قذف، وَأما هَذَا فقد أَتَى بمظنة الْفساد
دون الْفساد فَلذَلِك نقص عَن الْمِائَة وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضْرب أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْقَذْف
والمظنة يَنْبَغِي أَن تكون أقل من نفس الشَّيْء بِمَنْزِلَة نصفه.
ثمَّ لما كثر الْفساد جعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حَده ثَمَانِينَ
إِمَّا لِأَنَّهُ أخف
حد فِي كتاب الله فَلَا يُجَاوز غير الْمَنْصُوص عَن أقل الْحُدُود،
وَإِمَّا لِأَن الشَّارِب يقذف غَالِبا إِن لم يكن زنى أَو قتل،
وَالْغَالِب حكمه حكم الْمُتَيَقن وَأما سر التبكيت فقد ذكرنَا من قبل.
قَالَ النَّبِي أَيْنَمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أهلك
الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق مِنْهُم الشريف تَرَكُوهُ
وَإِذا سرق مِنْهُم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَايْم وَالله
لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد
الله " أَقُول: علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن حفظ جاه
الشرفاء والمسامحة مَعَهم والذب عَنْهُم والشفاعة فِي أَمرهم أَمر توارد
عَلَيْهِ الْأُمَم وانقاد لَهَا طوائف النَّاس من الْأَوَّلين والآخرين،
فأكد فِي ذَلِك وسجل، فان الشَّفَاعَة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله
الْحُدُود.
وَنهى رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن لعن الْمَحْمُود أَو
الْوُقُوع فِيهِ لِئَلَّا يكون سَببا لِامْتِنَاع النَّاس عَن إِقَامَة
الْحَد، وَلِأَن الْحَد كَفَّارَة، وَالشَّيْء إِذا تدورك بِالْكَفَّارَةِ
صَار كَأَن لم يكن، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه لفي انهار الْجنَّة منغمس بهَا ".
وَيلْحق بالحدود مزجرتان أخريان: إِحْدَاهمَا عُقُوبَة هتك حُرْمَة
الْملَّة، وَالثَّانيَِة الذب عَن الأمامة، وَالْأَصْل فِي الأولى قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ يجب أَن يُقَام اللائمة الشَّدِيدَة على الْخُرُوج من الْملَّة
وَإِلَّا لانفتح بَاب هتك حُرْمَة الْملَّة، ومرضى الله تَعَالَى أَن
تجْعَل الْملَّة السماوية بِمَنْزِلَة الْأَمر المجبول عَلَيْهِ الَّذِي
لَا يَنْفَكّ عَنهُ، وَتثبت الرِّدَّة بقول يدل على نعني الصَّانِع أَو
الرُّسُل أَو تَكْذِيب رَسُول أَو فعل تعمد بِهِ استهزاء صَرِيحًا
بِالدّينِ، وَكَذَا إِنْكَار ضروريات الدّين، قَالَ الله تَعَالَى:
(2/255)
{وطعنوا فِي دينكُمْ} .
وَكَانَت يَهُودِيَّة تَشْتُم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَقَع فِيهِ فخنقها رجل حَتَّى مَاتَت فَأبْطل النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمهَا، وَذَلِكَ لانْقِطَاع ذمَّة الذِّمِّيّ بالطعن
فِي دين الْمُسلمين والشتم والإيذاء الظَّاهِر.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنا برِئ من كل
مُسلم مُقيم بَين أظهر الْمُشْركين، لَا يتَرَاءَى ناراهما ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الِاخْتِلَاط معم وتكثير سوادهم إِحْدَى
النصرتين لَهُم، ثمَّ ضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبعد
من أَحيَاء الْكفَّار بِأَن يكون مِنْهُم بِحَيْثُ لَو أوقدت نَارا على
أرفع مَكَان فِي بلدهم أَو حلتهم لم تظهر للآخرين، وَالْأَصْل فِي
الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى
تفئ إِلَى أَمر الله} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا بُويِعَ لخليفتين
فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا "
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الامامة مَرْغُوب فِيهَا طبعا، وَلَا يخلوا
اجْتِمَاع النَّاس فِي الأقاليم من رجل يجترئ لأَجلهَا على الْقِتَال،
ويجتمع لنصرته الرِّجَال، فَلَو ترك وَلم يقتل لقتل الْخَلِيفَة ثمَّ
قَاتله آخر وهلم جرا، وَفِيه فَسَاد عَظِيم للْمُسلمين، وَلَا ينسد بَاب
هَذِه الْمَفَاسِد إِلَّا بِأَن تكون السّنة بَين الْمُسلمين أَن
الْخَلِيفَة إِذا انْعَقَدت خِلَافَته، ثمَّ خرج آخر ينازعه حل قَتله
وَوَجَب على الْمُسلمين نصْرَة الْخَلِيفَة عَلَيْهِ، ثمَّ الَّذِي خرج
بِتَأْوِيل لمظلمة يُرِيد دَفعهَا عَن نَفسه وعشيرته أَو لنقيصة يثبتها فِي
الْخَلِيفَة ويحتج عَلَيْهَا بِدَلِيل شَرْعِي بعد أَلا يكون مُسلما عِنْد
جُمْهُور الْمُسلمين وَلَا يكون أمرا من الله فِيهِ عِنْدهم
برهَان لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَاره فَأمره دون الْأَمر الَّذِي خرج يفْسد
فِي الأَرْض وَيحكم السَّيْف دون الشَّرْع، فَلَا يَنْبَغِي أَن يجعلا
بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَلذَلِك كَانَ الأول أَن يبْعَث الإِمَام إِلَيْهِم
فطنا ناصحا عَالما يكْشف شبهتهم أَو يدْفع عَنْهُم مظلتهم كَمَا بعث أَمر
الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ عبد الله بن وَابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنهُ إِلَى الحرورية، فَإِن رجعُوا إِلَى جمَاعَة الْمُسلمين فِيهَا
وَإِلَّا قَاتلهم وَلَا يقتل مدبرهم وَلَا أسيرهم وَلَا يُجهز على جريحهم
لِأَن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ دفع شرهم وتفريق جَمَاعَتهمْ وَقد حصل،
وَأما الثَّانِي فَهُوَ من الْمُحَاربين وَحكمه حكم الْمُحَارب. |