حجة الله
البالغة (الْقَضَاء)
اعْلَم أَن من الْحَاجَات الَّتِي يكثر وُقُوعهَا وتشتد مفسدتها المناقشات
فِي النَّاس؛ فانها
(2/256)
تكون باعثة على الْعَدَاوَة والبغضاء
وَفَسَاد ذَات الْبَين، وتهيج الشُّح على غمط الْحق وَألا ينقاد للدليل
فَوَجَبَ أَن يبْعَث فِي كل نَاحيَة من يفصل قضاياهم بِالْحَقِّ، ويقهرهم
على الْعَمَل بِهِ أشاءوا أم أَبَوا، وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتني ببعث قُضَاة اعتناء شَدِيدا، ثمَّ لم يزل
الْمُسلمُونَ على ذَلِك، ثمَّ لما كَانَ الْقَضَاء بَين النَّاس مَظَنَّة
الْجور والحيف وَجب أَن يدهب النَّاس عَن الْجور فِي الْقَضَاء وَأَن يضْبط
الكليات الَّتِي يرجع إِلَيْهَا الْأَحْكَام.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من جعل قَاضِيا بَين النَّاس فقد ذبح بِغَيْر سكين ".
أَقُول: هَذَا بَيَان أَن الْقَضَاء حمل ثقيل وَإِن الْإِقْدَام عَلَيْهِ
مَظَنَّة الْهَلَاك إِلَّا أَن يَشَاء الله.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ابْتغى الْقَضَاء
وَسَأَلَهُ وكل إِلَى نَفسه وَمن أكره عَلَيْهِ أنزل الله ملكا يسدده ".
أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَن الطَّالِب لَا يَخْلُو غَالِبا من دَاعِيَة
نفسانية من مَال أَو جاه أَو التَّمَكُّن من انتقام عَدو نَحْو ذَلِك فَلَا
يتَحَقَّق مِنْهُ خلوص النِّيَّة الَّذِي هُوَ سَبَب نزُول البركات.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقُضَاة ثَلَاثَة وَاحِد فِي الْجنَّة وَاثْنَانِ فِي النَّار فَأَما
الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ، وَرجل عرف الْحق فجار
فِي الحكم فَهُوَ فِي النَّار، وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي
النَّار ".
أَقُول: فِي هَذَا الحَدِيث أَنه لَا يسْتَوْجب الْقَضَاء إِلَّا من كَانَ
عدلا بَرِيئًا من الْجور والميل قد عرف مِنْهُ ذَلِك. وعالما يعرف الْحق
لَا سِيمَا فِي مسَائِل الْقَضَاء، والسر فِي ذَلِك وَاضح فَإِنَّهُ لَا
يتَصَوَّر وجود الْمصلحَة الْمَقْصُودَة إِلَّا بهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقضين حكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ".
أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لذَلِك أَن الَّذِي اشْتغل قلبه بِالْغَضَبِ
لَا يتَمَكَّن من التَّأَمُّل فِي الدَّلَائِل والقرائن وَمَعْرِفَة الْحق.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا حكم فاجتهد
فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد " اجْتهد يَعْنِي بذل طاقته فِي انباع
الدَّلِيل؛ وَذَلِكَ لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع وَإِنَّمَا وسع
الْإِنْسَان أَن يجْتَهد وَلَيْسَ فِي وَسعه أَن يُصِيب الْحق أَلْبَتَّة.
(2/257)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " إِذا تقاضى إِلَيْك رجلَانِ فَلَا تقض للْأولِ
حَتَّى تسمع كَلَام الآخر فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْد مُلَاحظَة الحجتين يظْهر التَّرْجِيح ".
وَأعلم أَن الْقَضَاء فِيهِ مقامان: أَحدهمَا أَن يعرف جلية الْحَال
الَّتِي تشاجرا فِيهِ، وَالثَّانِي الحكم الْعدْل فِي تِلْكَ الْحَالة،
وَالْقَاضِي قد يحْتَاج إِلَيْهِمَا وَقد يحْتَاج إِلَى أَحدهمَا فَقَط
فَإِذا ادّعى كل وَاحِد أَن هَذَا الْحَيَوَان مثلا ملكه قد ولد فِي يَده،
وَهَذَا الْحجر التقطه من جبل ارْتَفع الْإِشْكَال لمعْرِفَة جلية الْحَال.
والقضية الَّتِي وَقعت بَين عَليّ، وَزيد، وجعفر رَضِي الله عَنْهُم فِي
حضَانَة بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ كَانَت جلية الْحَال مَعْلُومَة
وَإِنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوب الحكم.
وَإِذا ادّعى وَاحِد على الآخر الْغَصْب وَالْمَال متغير صفته وَأنكر الآخر
وَقعت الْحَاجة أَولا إِلَى معرفَة جلية الْحَال هَل كَانَ هُنَاكَ غصب
أَولا، وَثَانِيا إِلَى الحكم هَل يحكم بردعين الْمَغْصُوب أَو قِيمَته،
وَقد ضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا المقامين بضوابط
كُلية، أما الْمقَام الأول فَلَا أَحَق فِيهِ من الشَّهَادَات والأيمان
فَإِنَّهُ لَا يُمكن معرفَة الْحَال إِلَّا باخبار من حضرها أَو بِإِخْبَار
صَاحب الْحَال مؤكدا بِمَا يظنّ أَنه لَا يكذب مَعَه، قَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن
الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ "
فالمدعي هُوَ الَّذِي يَدعِي خلاف الظَّاهِر وَيثبت الزِّيَادَة،
وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ هُوَ مستصحب الأَصْل والمتمسك بِالظَّاهِرِ وَلَا
عدل ثمَّ من أَن يعْتَبر فِيمَن يَدعِي بَيِّنَة وفيمن يتَمَسَّك
بِالظَّاهِرِ ويدرأ عَن نَفسه الْيَمين إِذا لم تقم حجَّة الآخر.
وَقد أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَبَب
مَشْرُوعِيَّة هَذَا الأَصْل حَيْثُ قَالَ: " لَو يعْطى النَّاس " الخ
يَعْنِي كَانَ سَببا للتظالم فَلَا بُد من حجَّة، ثمَّ أَنه يعْتَبر فِي
الشَّاهِد صفة كَونه مرضيا عَنهُ لقَوْله تَعَالَى:
{مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} .
وَذَلِكَ بِالْعقلِ. وَالْبُلُوغ. والضبط. والنطق. وَالْإِسْلَام.
وَالْعَدَالَة. والمروءة. وَعدم التُّهْمَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا
ذِي غمر على
(2/258)
أَخِيه وَترد شَهَادَة القانع لأهل
الْبَيْت " وَقَالَ الله تَعَالَى فِي القذفة:
{وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا
الَّذين تَابُوا} الْآيَة.
وَفِي حكم الْقَذْف. وَالزِّنَا سَائِر الْكَبَائِر، وَذَلِكَ لِأَن
الْخَبَر يحْتَمل فِي نَفسه الصدْق وَالْكذب وَإِنَّمَا يتَرَجَّح أحد
المحتملين بِالْقَرِينَةِ، وَهِي إِمَّا فِي الْمخبر أَو الْمخبر عَنهُ أَو
غَيرهمَا، وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مضبوطا يحِق أَن يدار عَلَيْهِ الحكم
التشريعي إِلَّا صِفَات الْمخبر غير مَا ذكرنَا من الظَّاهِر والاستصحاب،
وَقد اعْتبر مرّة حَيْثُ شرع للْمُدَّعِي الْبَيِّنَة وَالْمُدَّعى
عَلَيْهِ الْيَمين ثمَّ اعْتبر عدد الشُّهُود على أطوار وزعها على أَنْوَاع
الْحُقُوق، فالزنا لَا يثبت إِلَّا بأَرْبعَة شُهَدَاء. وَالْأَصْل فِيهِ
قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء}
الْآيَة.
وَقد ذكر سَبَب مَشْرُوعِيَّة هَذَا من قبل.
وَلَا يعْتَبر فِي الْقصاص وَالْحُدُود إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ،
وَالْأَصْل فِيهِ قَول الزُّهْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: جرت السّنة من
عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا تقبل شَهَادَة
النِّسَاء فِي الْحُدُود، وَيعْتَبر فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة شَهَادَة
رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} .
وَقد نبه الله تَعَالَى على سَبَب مَشْرُوعِيَّة الْكَثْرَة فِي جَانب
النِّسَاء " فَقَالَ:
{أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} .
يَعْنِي هن ناقصات الْعقل، فَلَا بُد من جبر هَذَا النُّقْصَان بِزِيَادَة
الْعدَد.
وَقضى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاهِد وَيَمِين
وَذَلِكَ لِأَن الشَّاهِد الْعدْل إِذا لحق مَعَه الْيَمين تَأَكد الْأَمر،
وَأمر الشَّهَادَات لَا بُد فِيهِ توسعة، وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ
ريب زكى الشَّاهِدَانِ، وَذَلِكَ لِأَن شَهَادَتهمَا إِنَّمَا
اعْتبرت من جِهَة صفاتهما المرجحة للصدق على الْكَذِب فَلَا بُد من تبينها.
وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ ريب غلظت الْأَيْمَان بِالزَّمَانِ
وَالْمَكَان وَاللَّفْظ، وَذَلِكَ لِأَن الْأَيْمَان إِنَّمَا صَارَت
دَلِيلا على صدق الْخَبَر من جِهَة اقتران قرينَة تدل على أَنه لَا يقدم
على الْكَذِب مَعهَا فَكَانَ حَقّهَا إِذا كَانَ زِيَادَة ريب طلب قُوَّة
الْقَرَائِن، فِي اللَّفْظ زياده الْأَسْمَاء وَالصِّفَات، وَالْأَصْل
فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْلِف بِاللَّه الَّذِي
لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة " وَنَحْو ذَلِك،
(2/259)
وَالزَّمَان أَن يحلف بعد الْعَصْر لقَوْله
تَعَالَى:
{تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} .
وَالْمَكَان أَن يُقَام بَين الرُّكْن وَالْمقَام إِن كَانَ بِمَكَّة.
وَعند مِنْبَر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن كَانَ
بِالْمَدِينَةِ. وَعند الْمِنْبَر فِي سَائِر الْبلدَانِ لوُرُود فضل هَذِه
الْأَمْكِنَة وتغليظ الْكَذِب عِنْدهَا.
ثمَّ وَقعت الْحَاجة أَن يرهب النَّاس أَشد ترهيب من أَن يجترئوا على خلاف
مَا شرع الله لَهُم لفصل القضايا وَمَعْرِفَة جلية الْحَال.
وَالْأَصْل فِي تِلْكَ الترهيبات ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا أَن
الْإِقْدَام على فعل نهى الله تَعَالَى عَنهُ وَغلظ فِي النَّهْي دَلِيل
قلَّة الْوَرع والاجتراء على الله فأدير حكم الاجتراء على هَذِه
الْأَشْيَاء، وَأثبت لَهَا أَثَره مثل وجوب دُخُول النَّار وَتَحْرِيم
الْجنَّة وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي أَن ذَلِك سعى فِي الظُّلم وبمنزلة السّرقَة وَقطع الطَّرِيق،
أَو بِمَنْزِلَة دلَالَة السَّارِق على المَال ليَسْرِق أوردء الْقَاطِع
فتوجهت لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس على السَّعَادَة فِي الأَرْض
بِالْفَسَادِ إِلَى هَذَا العَاصِي فَاسْتحقَّ النَّار.
وَالثَّالِث أَنه مخالفه لما شرع الله لِعِبَادِهِ وسعى فِي سد جَرَيَانه
على مَا أَرَادَ الله فِي شرائعه فان الْيَمين إِنَّمَا شرعت معرفَة للحق،
وَالْبَيِّنَة إِنَّمَا شرعت مبينَة لجلية الْحَال فان جرت السّنة بزور
الشَّهَادَة وَالْإِيمَان انسد بَاب الْمصلحَة المرعية.
فَمن ذَلِك كتمان الشَّهَادَة لقَوْله تَعَالَى.
(2/260)
{وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} .
وَمِنْهَا شَهَادَة الزُّور لعده عَلَيْهِ السَّلَام من الْكَبَائِر
شَهَادَة الزُّور.
وَمِنْهَا الْيَمين الكاذبة لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف على يَمِين صَبر وَهُوَ فِيهَا فَاجر ليقتطع بهَا حق امْرِئ مُسلم
لَقِي الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
وَمِنْهَا الدَّعْوَى الكاذبة لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ادّعى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَمِنْهَا الاخذ لقَضَاء القَاضِي وَلَيْسَ لَهُ الْحق لقَوْله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ وأنكم تختصمون " الحَدِيث.
وَمِنْهَا الاعتياد بالمجادلة وَرفع الْقَضِيَّة فان ذَلِك لَا يَخْلُو من
إِفْسَاد ذَات الْبَين لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم ".
وَرغب لمن ترك الْمُخَاصمَة فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا فَإِن ذَلِك
مطاوعة لداعية السماحة، وَأَيْضًا كثيرا مَا لَا يكون الْحق لَهُ، ويظن أَن
الْحق لَهُ فَلَا يخرج
عَن الْعهْدَة بِالْيَقِينِ إِلَّا إِذا وَطن نَفسه على ترك الْخُصُومَة
فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا، وَفِي الحَدِيث " إِن رجلَيْنِ تداعيا
دَابَّة فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنَّهَا دَابَّته
نتجها فَقضى بهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للَّذي فِي
يَده.
أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الحجتين لما تَعَارَضَتَا تساقطتا فَبَقيَ
الْمَتَاع فِي يَد صَاحب الْقَبْض لعدم مَا يَقْتَضِي رده، أَو نقُول
اعتضدت إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِر وَهُوَ الْقَبْض
فرجحت.
وَأما الْمقَام الثَّانِي فشرع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهِ أصولا يرجع إِلَيْهَا: وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن جلية الْحَال إِذا
كَانَت مَعْلُومَة فالنزاع يكون إِمَّا فِي طلب كل وَاحِد شَيْئا وَهُوَ
مُبَاح فِي الأَصْل وَحكمه أبدا التَّرْجِيح إِمَّا بِزِيَادَة صفة يكون
فِيهَا نفع للْمُسلمين وَلذَلِك الشَّيْء أَو سَبْعَة أَحدهمَا إِلَيْهِ
أَو بِالْقُرْعَةِ مِثَاله فقضية زيد. وَعلي. وجعفر رَضِي الله عَنْهُم فِي
حضَانَة بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فَقضى بهَا لجَعْفَر رَضِي الله
عَنهُ، وَقَالَ: " الْخَالَة أم "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْأَذَان: " لَا ستهموا " وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَأما أَن يكون هُنَاكَ
سَابِقَة من عقد أَو غصب يَدعِي كل وَاحِد أَنه أَحَق، وَيكون لكل وَاحِد
شُبْهَة وَحِكْمَة اتِّبَاع الْعرف وَالْعَادَة الْمسلمَة عِنْد جُمْهُور
النَّاس يُفَسر الأقارير وألفاظ الْعُقُود بِمَا عِنْد جمهورهم من
الْمَعْنى وَيعرف الأضرار وَغَيرهَا بِمَا عِنْدهم، مِثَاله قَضِيَّة
الْبَراء ابْن عَازِب دخلت نَاقَته حَائِطا فأفسدت فِيهِ، وأدعى كل وَاحِد
أَنه مَعْذُور فَقضى بِمَا
(2/261)
هُوَ الْمَعْرُوف من عَادَتهم من حفظ أهل
الحوائط أَمْوَالهم بِالنَّهَارِ وَحفظ أهل الْمَوَاشِي مَوَاشِيهمْ
بِاللَّيْلِ.
وَمن الْقَوَاعِد المبنية عَلَيْهَا كثير من الْأَحْكَام أَن الْغنم
بالغرم، وَأَصله
مَا قضى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْخراج
بِالضَّمَانِ وَذَلِكَ لعسر ضبط الْمَنَافِع، وَإِن قسم الْجَاهِلِيَّة
ودمائها وَمَا كَانَ فِيهَا لَا يتَعَرَّض بهَا، وَأَن الْأَمر مُسْتَأْنف
بعْدهَا، وَأَن الْيَد لَا تنقص إِلَّا بِدَلِيل آخر وَهُوَ أصل
الِاسْتِصْحَاب وَأَنه إِن انسد بَاب التفتيش فَالْحكم أَن يكون مَا
يُريدهُ صَاحب المَال أَو يترادا، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" البيعان إِذا اخْتلفَا بَينهمَا والسلعة قَائِمَة " الحَدِيث وَأَن
الأَصْل فِي كل عقد أَن يُوفي لكل أحد وعَلى كل أحد مَا الْتَزمهُ بعقده
إِلَّا أَن يكون عقدا نهى الشَّرْع عَنهُ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا
أَو حرم حَلَال " فَهَذِهِ نبذ مِمَّا شرع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمقَام الثَّانِي.
وَمن القضايا الَّتِي قضى فِيهَا رَسُول الله قَضِيَّة صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضيت بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْحَضَانَة
حَيْثُ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. بنت عمي وَأَنا أَخَذتهَا، وَقَالَ
جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ: بنت عمي وخالتها تحتي، وَقَالَ زيد رَضِي الله
عَنهُ: بنت أخي فَقضى بهَا لجَعْفَر رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ: الْخَالَة
بِمَنْزِلَة الْأُم ".
وَقَضِيَّة ابْن وليدة زَمعَة فِي الدعْوَة حَيْثُ قَالَ سعد: إِن أخي قد
عهد إِلَيّ فِيهِ، وَقَالَ عبد بن زَمعَة ابْن وليدة أبي ولد على فرَاشه،
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": هُوَ لَك يَا عبد ابْن زَمعَة
الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر ".
وَقَضِيَّة زيد رَضِي الله عَنهُ. والأنصاري فِي شراج الْحرَّة فَأَشَارَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَمر لَهما فِي سَعَة " اسْقِ يَا
زبير ثمَّ أرسل إِلَى جَارك فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فاستوعى لزبير حَقه
قَالَ: احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر ".
وَقَضِيَّة نَاقَة برَاء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ دخلت حَائِطا لرجل من
الْأَنْصَار فأفسدت فِيهِ فَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن على
أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا
بِاللَّيْلِ.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم فَإِذا
وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة، وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق
وُجُوه هَذِه القضايا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا اختلفتم فِي الطَّرِيق جعل عرضه سَبْعَة أَذْرع ".
(2/262)
أَقُول: وَذَلِكَ أَن النَّاس إِذا عمروا
أَرضًا مُبَاحَة فقصروا بهَا وَاخْتلفُوا فِي الطَّرِيق، فَأَرَادَ بَعضهم
أَن يضيق الطَّرِيق وَيَبْنِي فِيهَا، وأبى الْآخرُونَ ذَلِك، وَقَالُوا:
لَا بُد للنَّاس من طَرِيق وَاسِعَة قضى بِأَن يَجْعَل عرضه سَبْعَة أَذْرع
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد من مُرُور قطارين من الْإِبِل يمشي أَحدهمَا
إِلَى جَانب، وَثَانِيهمَا إِلَى الآخر، وَإِذا جَاءَت زاملة من هَهُنَا
وزاملة من هُنَالك فَلَا بُد من طَرِيق تسعهما وَإِلَّا كَانَ الْحَرج
وَمِقْدَار ذَلِك سَبْعَة أَذْرع.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من زرع فِي أَرض قوم بِغَيْر إذْنهمْ فَلَيْسَ لَهُ من الزَّرْع شَيْء
وَله نَفَقَته " أَقُول: جعله بِمَنْزِلَة أجِير عمل لَهُ عملا نَافِعًا،
وَالله أعلم.
(الْجِهَاد)
اعْلَم أَن أتم الشَّرَائِع وأكمل النواميس هُوَ الشَّرْع الَّذِي يُؤمر
فِيهِ بِالْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَن تَكْلِيف الله عباده بِمَا أَمر وَنهى
- مثله كَمثل رجل مرض عبيده، فَأمر رجلا من خاصته أَن يقيهم دَوَاء، فَلَو
أَنه قهرهم على شرب الدَّوَاء، وأوجره فِي أَفْوَاههم لَكَانَ حَقًا، لَكِن
الرَّحْمَة اقْتَضَت أَن يبين لَهُم فَوَائِد الدَّوَاء؛ ليشربوه على
رَغْبَة فِيهِ، وَأَن يخلط مَعَه الْعَسَل؛ ليتعاضد فِيهِ الرَّغْبَة
الطبيعية والعقلية.
ثمَّ إِن كثيرا من النَّاس يغلب عَلَيْهِم الشَّهَوَات الدنية والأخلاق
السبعية ووساوس الشطان فِي حب الرياسات، ويلصق بقلوبهم رسوم آبَائِهِم،
فَلَا يسمعُونَ تِلْكَ الْفَوَائِد، وَلَا يذعنون لما يَأْمر بِهِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يتأملون فِي حَسَنَة، فَلَيْسَتْ
الرَّحْمَة فِي حق أُولَئِكَ أَن يقْتَصر على إِثْبَات الْحجَّة عَلَيْهِم،
بل الرَّحْمَة فِي حَقهم أَن يقهروا؛ ليدْخل الْإِيمَان عَلَيْهِم على رغم
أنفهم بِمَنْزِلَة إِيجَاد الدَّوَاء المر، وَلَا قهر إِلَّا بقتل من لَهُ
مِنْهُم بكناية شَدِيدَة وتمنع قوى، أَو تَفْرِيق منعتهم وسلب أَمْوَالهم
حَتَّى يصيروا لَا يقدرُونَ على شَيْء، فَعِنْدَ ذَلِك يدْخل أتباعهم
وذراريهم فِي الْإِيمَان برغبة وطوع، وَلذَلِك كتب رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصر " كَانَ عَلَيْك إِثْم الأريسيين.
وَرُبمَا كَانَ أسرهم وقهرهم يُؤَدِّي إِلَى إِيمَانهم، وَإِلَى هَذَا
أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:
" عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل ".
وَأَيْضًا فالرحمة التَّامَّة الْكَامِلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبشر أَن
يهْدِيهم الله إِلَى الاحسان،
وَأَن يكبح ظالمهم عَن الظُّلم، وَأَن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم
وسياسة مدينتهم، فالمدن
(2/263)
الْفَاسِدَة الَّتِي يغلب عَلَيْهَا نفوس
السبعية، وَيكون لَهُم تمنع شَدِيد إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْأكلَة فِي
بدن الْإِنْسَان لَا يَصح الْإِنْسَان إِلَّا بِقطعِهِ، وَالَّذِي
يتَوَجَّه إِلَى إصْلَاح مزاجه وَإِقَامَة طَبِيعَته لَا بُد لَهُ من
الْقطع، وَالشَّر الْقَلِيل إِذا كَانَ مفضيا إِلَى الْخَيْر الْكثير
وَاجِب فعله، وَلَك عَبدة بِقُرَيْش وَمن حَولهمْ من الْعَرَب كَانُوا بعد
خلق الله عَن الاحسان وأظلمهم على الضُّعَفَاء، وَكَانَت بَينهم مقاتلات
شَدِيدَة، وَكَانَ بَعضهم يأسر بَعْضًا، وَمَا كَانَ أَكْثَرهم متأملين فِي
الْحجَّة ناظرين فِي الدَّلِيل فجاهدهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " وَقتل أَشَّدهم بطشا وأحدهم نفسا حَتَّى ظهر أَمر الله،
وانقادوا لَهُ، فصاروا بعد ذَلِك من أهل الْإِحْسَان، واستقامت أُمُورهم،
فَلَو لم يكن فِي الشَّرِيعَة جِهَاد أُولَئِكَ لم يحصل اللطف فِي حَقهم.
وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى غضب على الْعَرَب والعجم، وَقضى بِزَوَال
دولتهم وكبت ملكهم، فنفث فِي روع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وبواسطته فِي قُلُوب أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَن يقاتلوا
فِي سَبِيل الله؛ ليحصل الْأَمر الْمَطْلُوب، فصاروا فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة
الْمَلَائِكَة تسْعَى فِي إتْمَام مَا أَمر الله تَعَالَى، غير أَن
الْمَلَائِكَة تسْعَى من غير أَن يعْقد فيهم قَاعِدَة كُلية، والمسلمون
يُقَاتلُون لأجل قَاعِدَة كُلية علمهمْ الله تَعَالَى، وَكَانَ علمهمْ
ذَلِك أعظم الْأَعْمَال، وَصَارَ الْقَتْل لَا يسند إِلَيْهِم إِنَّمَا
يسند إِلَى الْآمِر، كَمَا يسند قتل العَاصِي إِلَى الْأَمِير دون السياف،
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} .
وَإِلَى هَذَا السِّرّ أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَيْثُ قَالَ:
" مقت عربهم وعجمهم " الحَدِيث، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا كسْرَى
وَلَا قَيْصر " يَعْنِي المتدينين بدين الْجَاهِلِيَّة.
وفضائل الْجِهَاد رَاجِعَة إِلَى أصُول: مِنْهَا أَنه مُوَافقَة تَدْبِير
الْحق وإلهامه، فَكَانَ السَّعْي فِي إِتْمَامه سَببا لشمُول الرَّحْمَة،
وَالسَّعْي فِي إِبْطَاله سَببا لشمُول اللَّعْنَة، والتقاعد عَنهُ فِي مثل
هَذَا الزَّمَان تفويتا لخير كثير.
وَمِنْهَا أَن الْجِهَاد عمل شاق يحْتَاج إِلَى تَعب وبذل مَال ومهجة وَترك
الأوطان والأوطار، فَلَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من أخْلص دينه لله وآثر
الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَصَحَّ اعْتِمَاده على الله.
وَمِنْهَا أَن نفث مثل هَذِه الداعية فِي الْقلب لَا يكون إِلَّا بتشبه
الْمَلَائِكَة، وأحظاهم بِهَذَا الْكَمَال أبعدهم عَن شرور البهيمية
وأطرفهم من رسوخ الدّين فِي قلبه، فَيكون مُعَرفا لِسَلَامَةِ صَدره.
(2/264)
هَذَا كُله إِن كَانَ الْجِهَاد على شَرطه،
وَهُوَ مَا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن
الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ:
من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله ".
وَمِنْهَا أَن الْجَزَاء يتَحَقَّق بِصُورَة الْعَمَل يَوْم الْقِيَامَة،
وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم ي سَبيله إِلَّا
جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا، اللَّوْن لون الدَّم، وَالرِّيح
ريح الْمسك ".
وَمِنْهَا أَن الْجِهَاد لما كَانَ أمرا مرضيا عِنْد الله تَعَالَى وَهُوَ
لَا يتم فِي الْعَادة إِلَّا بأَشْيَاء من النَّفَقَات ورباط الْخَيل
وَالرَّمْي وَنَحْوهَا وَجب أَن يتَعَدَّى الرِّضَا إِلَى هَذِه
الْأَشْيَاء من جِهَة إفضائها إِلَى الْمَطْلُوب.
وَمِنْهَا أَن بِالْجِهَادِ تَكْمِيل الْملَّة وتنويه أمرهَا وَجعله فِي
النَّاس كالأمر اللَّازِم، فَإِذا حفظت هَذِه الْأُصُول انكشفت لَك
حَقِيقَة الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فَضَائِل الْجِهَاد.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة أعدهَا الله للمجاهدين " الحَدِيث.
أَقُول: سره أَن ارْتِفَاع الْمَكَان فِي دَار الْجَزَاء تِمْثَال
لارْتِفَاع المكانة عِنْد الله، وَذَلِكَ بِأَن تسكب النَّفس سعادتها من
التطلع للجبروت وَغير ذَلِك، وَبِأَن يكون سَببا لاشتهار شَعَائِر الله
وَدينه وَسَائِر مَا يُرْضِي الله باشتهاره، وَلذَلِك كَانَت الْأَعْمَال
الَّتِي هِيَ مَظَنَّة هَاتين الخصلتين جزاؤها الدَّرَجَات فِي الْجنَّة،
فورد فِي تالي الْقُرْآن أَنه يُقَال لَهُ " اقْرَأ وارتق ورتل كَمَا كنت
ترتل فِي الدُّنْيَا " وَورد فِي الْجِهَاد أَنه سَبَب رفع الدَّرَجَات
فَإِن عمله يُفِيد ارْتِفَاع الدّين، فيجازى بِمثل مَا تضمنه عمله، ثمَّ
إِن ارْتِفَاع المكانة يتَحَقَّق بِوُجُوه كَثِيرَة، فَكل وَجه يتَمَثَّل
دَرَجَة فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا كَانَ كل دَرَجَة كَمَا بَين السَّمَاء
وَالْأَرْض لِأَنَّهُ غَايَة مَا تمكن فِي عُلُوم الْبشر من الْبعد
الفوقانى فيتمثل فِي دَار الْجَزَاء كَمَا تمكن فِي علومهم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله
كَمثل القانت الصَّائِم ".
أَقُول: سره أَن الصَّائِم القانت إِنَّمَا فضل على غَيره بِأَنَّهُ عمل
عملا شاقا لمرضاة الله، وَأَنه صَار بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة ومتشبها
بهم، والمجاهد إِذا كَانَ جهاده على مَا أَمر الشَّرْع بِهِ يُشبههُ فِي كل
ذَلِك غير أَن الِاجْتِهَاد فِي الطَّاعَات
يسلم فضلَة النَّاس، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْخَاصَّة، فَشبه بِهِ
لينكشف الْحَال.
(2/265)
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى التَّرْغِيب فِي
مُقَدمَات الْجِهَاد الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْجِهَاد فِي الْعَادة إِلَّا
بهَا كالرباط والرعي وَغَيرهمَا لِأَن الله تَعَالَى إِذا أَمر بِشَيْء
وَرَضي بِهِ وَعلم أَنه لَا يتم إِلَّا بِتِلْكَ الْمُقدمَات كَانَ من
مُوجبَة الْأَمر بهَا وَالرِّضَا عَنْهَا.
ورد فِي الرِّبَاط أَنه " خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " وَأَنه " خير
من صِيَام شهر وقيامه وَإِن مَاتَ أجْرى عَلَيْهِ عمله الَّذِي كَانَ عمله
وأجرى عَلَيْهِ رزقه وَأمن الفتان ".
أَقُول: أما سر كَونه خيرا من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَلِأَن لَهُ
ثَمَرَة بَاقِيَة فِي الْمعَاد، وكل نعيم من نعيم الدُّنْيَا لَا محَالة
زائل ...
وَأما كَونه خيرا من صِيَام شهر وقيامه فَلِأَنَّهُ عمل شاق يَأْتِي على
البهيمية لله وَفِي سَبِيل الله كَمَا يفعل ذَلِك الصّيام وَالْقِيَام. .
وسر إِجْرَاء عمله أَن الْجِهَاد بعضه مبْنى على بعض بِمَنْزِلَة الْبناء
وَيقوم الْجِدَار على الأساس وياقوم السّقف على الْجِدَار، وَذَلِكَ لِأَن
الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار كَانُوا سَبَب دُخُول قُرَيْش
وَمن حَولهمْ فِي الْإِسْلَام ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْعرَاق
وَالشَّام، ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْفرس وَالروم، ثمَّ فتح
الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْهِنْد وَالتّرْك والسودان، فالنفع الَّذِي
يَتَرَتَّب على الْجِهَاد يتزايد حينا فحينا وَصَارَ بِمَنْزِلَة
الْأَوْقَاف
والرباطات وَالصَّدقَات الْجَارِيَة.
وَأما الْأَمْن من الفتان يَعْنِي الْمُنكر والنكير فَإِن الْمهْلكَة
مِنْهُمَا على من لم يطمئن قلبه بدين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلم ينْهض لنصرته، أما المرابط على شَرطه فَهُوَ جَامع الهمة
على تَصْدِيق ناهض الْعَزِيمَة على تمشية نور الله.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من جهز غازيا فِي سيل الله فقد غزا وَمن خلف غازيا فِي أَهله فقد غزا "
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أفضل الصَّدَقَة ظلّ فسطاط فِي سَبِيل الله " وَنَحْو ذَلِك.
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَنه عمل نَافِع للْمُسلمين يَتَرَتَّب عَلَيْهِ
نصرتهم، وَهُوَ الْمَعْنى فِي الْغَزْو أَو الصَّدَقَة.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله إِلَّا
حاء يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح
الْمسك ".
أَقُول: الْعَمَل يلتصق بِالنَّفسِ بهيئته وَصورته ويجر مَا فِيهِ معنى
التضاعف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَل والمجازاة مبناها على تمثل
النِّعْمَة والراحة بِصُورَة اقْربْ مَا هُنَاكَ، فَإِذا جَاءَ الشَّهِيد
يَوْم الْقِيَامَة ظهر عَلَيْهِ عمله وتنعم بِهِ بِصُورَة مَا فِي
الْعَمَل.
(2/266)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد
رَبهم يرْزقُونَ} . الْآيَة
" أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالفرش تسرح فِي
الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ".
أَقُول: الَّذِي يقتل فِي سَبِيل الله يجْتَمع فِيهِ خصلتان: إِحْدَاهمَا
أَنه تبقى
نسمته وافرة كَامِلَة لم تضمحل علومها الَّتِي كَانَت منغمسة فِيهَا فِي
حَيَاتهَا الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة رجل مَشْغُول بِأَمْر
معاشه ينَام نومَة بِخِلَاف الْمَيِّت الَّذِي ابْتُلِيَ بأمراض شَدِيدَة
تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مِمَّا كَانَ فِيهِ.
وَالثَّانيَِة أَنه شملته الرَّحْمَة الإلهية المتوجهة إِلَى نظام الْعَالم
الممتلئ مِنْهَا حَظِيرَة الْقُدس وَالْمَلَائِكَة المقربون، فَلَمَّا زهقت
نَفسه وَهِي ممتلئة من السَّعْي فِي إِقَامَة دين الله فتح بَينه وَبَين
حَظِيرَة الْقُدس فيح وَاسع، وَنزل من هُنَاكَ الْأنس وَالنعْمَة والراحة،
وتنفست إِلَيْهِ حَظِيرَة الْقُدس نفسا مثاليا، فيتمثل الْجَزَاء حَسْبَمَا
عِنْده، فتركبت من اجْتِمَاع هَاتين الخصلتين أُمُور عَجِيبَة:
مِنْهَا أَنه تتمثل نَفسه معلقَة بالعرش بنحوما، وَذَلِكَ لدُخُوله فِي
حَملَة الْعَرْش وطموح همته إِلَى مَا هُنَاكَ.
وَمِنْهَا أَنه تمثل لَهُ بدن طير أَخْضَر، فكونه طيرا لِأَنَّهُ من
الْمَلَائِكَة بِمَنْزِلَة الطير من دَوَاب الأَرْض فِي ظُهُور أَحْكَام
الْجِنْس إِجْمَالا وَكَونه أَخْضَر لحسن منظره.
وَمِنْهَا أَنه تتمثل نعْمَته وراحته بِصُورَة الرزق كَمَا كَانَ يتَمَثَّل
النِّعْمَة فِي الدُّنْيَا بالفواكه والشواء.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تَمْيِيز مَا يُفِيد تَهْذِيب النَّفس مِمَّا لَا
يفِيدهُ وَهُوَ مشتبه بِهِ فَإِن الشَّرْع أَتَى بأمرين: بانتظام الْحَيّ
وَالْمَدينَة. وَالْملَّة؛ وبتكميل النُّفُوس.
قيل: الرجل يُقَاتل للمغنم وَالرجل يُقَاتل للذّكر. وَالرجل يُقَاتل
ليرى مَكَانَهُ، فَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله؟ قَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله "
أَقُول: وَذَلِكَ لما ذكرنَا من أَن الْأَعْمَال أجساد، وَأَن النيات
أَرْوَاح لَهَا، وَإِنَّمَا
(2/267)
الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَلَا عِبْرَة
بالجسد إِلَّا بِالروحِ، وَرُبمَا تفِيد النِّيَّة فَائِدَة الْعَمَل وَإِن
لم يقْتَرن بهَا إِذا كَانَ فَوته لمَانع سماوي دون تَفْرِيط مِنْهُ،
وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ
وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ حَبسهم الْعذر " وَإِن كَانَ من تَفْرِيط
فَإِن النِّيَّة لم تتمّ حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْأجر
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْبركَة فِي نواصي الْخَيل " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
الْأجر وَالْغنيمَة ".
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالخلافة
الْعَامَّة، وَغَلَبَة دينه على سَائِر الْأَدْيَان لَا يتَحَقَّق إِلَّا
بِالْجِهَادِ وإعداد آلاته، فَإِذا تركُوا الْجِهَاد، وَاتبعُوا أَذْنَاب
الْبَقر أحَاط بهم الذل؛ وَغلب عَلَيْهِم أهل سَائِر الْأَدْيَان.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من احْتبسَ فرسا فِي سَبِيل الله
إِيمَانًا بِاللَّه وَتَصْدِيقًا بوعده فَإِن شبعه وريه وروثه وبوله فِي
مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة ". أَقُول: ذَلِك لِأَنَّهُ يتعانى فِي علفه
وَشَرَابه وَفِي روثه وبوله، فَصَارَ عمله ذَلِك متصورا بِصُورَة مَا تعانى
فِيهِ، فَيظْهر يَوْم الْقِيَامَة كل ذَلِك بصورته وهيئته، قَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة نفر الْجنَّة، صانعه
يحْتَسب فِي صنعه والرامي بِهِ ومنبله "
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله فَهُوَ لَهُ
عدل مُحَرر " أَقُول: لما علم الله تَعَالَى أَن كبت الْكفَّار لَا يتم
إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء انْتقل رضَا الْحق بِإِزَالَة الْكفْر
وَالظُّلم إِلَى هَذِه.
قَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج
وَلَا على الْمَرِيض حرج} .
وَقَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا
على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج} .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل:
" أَلَك والدان؟ قَالَ. نعم، قَالَ ففيهما فَجَاهد ".
أَقُول: لما كَانَ إقبالهم بأجمعهم على الْجِهَاد يفْسد أرتفاقاتهم وَجب
أَلا يقوم بِهِ إِلَّا الْبَعْض، وَإِنَّمَا تعين غير الْمَعْلُول بِهَذِهِ
الْعِلَل لِأَن على أَصْحَابهَا حرجا وَلَيْسَ فيهم غنية مُعْتَد بهَا
لِلْإِسْلَامِ بل رُبمَا يخَاف الضَّرَر مِنْهُم
(2/268)
قَالَ الله تَعَالَى: {الْآن خفف الله
عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} .
أَقُول: إعلاء كلمة الله لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يوطنوا أنفسهم بالثبات
والنجدة وَالصَّبْر على مشاق الْقِتَال وَلَو جرت الْعَادة بِأَن يَفروا
إِذا عثروا على مشقة لم يتَحَقَّق الْمَقْصُود بل رُبمَا أفْضى إِلَى
الخذلان.
وَأَيْضًا فالفرار جبن وَضعف وَهُوَ أَسْوَأ الْأَخْلَاق
ثمَّ لَا بُد من بَيَان حد يتَحَقَّق بِهِ الْفرق بَين الْوَاجِب وَغَيره
وَلَا تتَحَقَّق النجدة والشجاعة إِلَّا إِذا كَانَ أَسبَاب الْهَزِيمَة
أَكثر من أَسبَاب الْغَلَبَة فَقدر أَولا بِعشْرَة أَمْثَال لِأَن الْكفْر
يَوْمئِذٍ كَانَ أَكثر وَلم يكن الْمُسلمُونَ إِلَّا أقل شَيْء فَلَو رخص
لَهُم الْفِرَار لم يتَحَقَّق الْجِهَاد أصلا، ثمَّ خفف إِلَى مثلين
لِأَنَّهُ لَا تتَحَقَّق النجدة والثبات فِيمَا دون ذَلِك.
ثمَّ لما وَجب الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَجب مَا لَا يكون الإعلاء
إِلَّا بِهِ، وَلذَلِك كَانَ سد الثغور وَعرض الْمُقَاتلَة وَنصب
الْأُمَرَاء على كل نَاحيَة وثغر وَاجِبا على الإِمَام وَسنة متوارثة، وَقد
سنّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاؤه رَضِي الله
عَنْهُم فِي هَذَا الْبَاب سننا، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو على سَرِيَّة أوصاه فِي
خاصته بتقوى الله وَمن مَعَه من الْمُسلمين خيرا، ثمَّ قَالَ: " اغزوا باسم
الله فِي سَبِيل الله قَاتلُوا من كفر بِاللَّه اغزوا وَلَا تغلوا "
الحَدِيث.
وَإِنَّمَا نهى عَن الْغلُول لما فِيهِ من كسر قُلُوب الْمُسلمين
وَاخْتِلَاف كلمتهم واختيارهم النَّهْي على الْقِتَال، وَكَثِيرًا مَا
يُفْضِي ذَلِك إِلَى الْهَزِيمَة، وَعَن الْغدر لِئَلَّا يرْتَفع الْأمان
من عَهدهم وذمتهم وَلَو ارْتَفع ذهب أعظم الْفتُوح وأقربها وَهِي
الذِّمَّة، وَعَن الْمثلَة لِأَنَّهُ تَغْيِير خلق الله، وَعَن قتل
الْوَلِيد لِأَنَّهُ تضييق على الْمُسلمين وإضرار بهم فَإِنَّهُ لَو بَقِي
حَيا لصار رَقِيقا لَهُم وَاتبع السابي فِي الْإِسْلَام.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا ينْكَأ عدوا وَلَا ينصر فِئَة.
والدعوة إِلَى ثَلَاث خِصَال مترتبة: الأولى الْإِسْلَام مَعَ الْهِجْرَة
وَالْجهَاد وَحِينَئِذٍ لَهُ مَا للمجاهدين من الْحق فِي الْفَيْء
والمغانم.
الثَّانِيَة الْإِسْلَام من غير هِجْرَة وَلَا جِهَاد إِلَّا فِي النفير
الْعَام وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ نصيب فِي الْمَغَانِم والفيء، وَذَلِكَ
لِأَن الْفَيْء إِنَّمَا يصرف إِلَّا الأهم فالأهم، وَالْعَادَة قاضية بألا
(2/269)
يسع بَيت المَال الصّرْف إِلَى المتوطنين
فِي بِلَادهمْ غير الْمُجَاهدين فَلَا اخْتِلَاف بَين هَذَا وَبَين قَول
عمر رَضِي الله عَنهُ: فَأَيْنَ عِشْت فليأتين الرَّاعِي وَهُوَ بسرو حمير
نصِيبه مِنْهَا لم يعرق فِيهَا جَبينه يَعْنِي إِذا فتح كنوز الْمُلُوك
وَجِيء من الْخراج شَيْء كثير فَيبقى بعد حَظّ الْمُقَاتلَة وَغَيرهم
الثَّالِثَة أَن يَكُونُوا من أهل الذِّمَّة، ويؤدوا الْجِزْيَة عَن يَد
وهم صاغرون
فبالأولى تحصل المصلحتان من نظام الْعَالم وَرفع التظالم من بَينهم وَمن
تَهْذِيب نُفُوسهم بِأَن يحصل نجاتهم من النَّار ويكونوا ساعين فِي تمشية
أَمر الله.
وبالثانية النجَاة من النَّار من غير أَن ينالوا دَرَجَات الْمُجَاهدين.
وبالثالثة زَوَال شَوْكَة الْكفَّار وَظُهُور شَوْكَة الْمُسلمين، وَقد بعث
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَذِهِ الْمصَالح.
وَيجب على الإِمَام أَن ينظر فِي أَسبَاب ظُهُور شَوْكَة الْمُسلمين وَقطع
أَيدي الْكفَّار عَنْهُم، ويجتهد، ويتأمل فِي ذَلِك فيفعل مَا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده مِمَّا عرف هُوَ أَو نَظِيره عَن النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه رَضِي الله عَنْهُم؛ لِأَن الْأَمَام
إِنَّمَا جعل لمصَالح، وَلَا تتمّ إِلَّا بذلك، وَالْأَصْل فِي هَذَا
الْبَاب سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنحن نذْكر حَاصِل أَحَادِيث الْبَاب:
فَنَقُول. يجب أَن يشحن ثغور الْمُسلمين بجيوش يكفون من يليهم، وَيُؤمر
عَلَيْهِم رجلا شجاعا ذَا رَأْي ناصحا للْمُسلمين وَإِن احْتَاجَ إِلَى حفر
خَنْدَق أَو بِنَاء حصن فعله كَمَا فعله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْم الخَنْدَق، وَإِذا بعث سَرِيَّة أَمر عَلَيْهِم أفضلهم أَو
أنفعهم للْمُسلمين، وأوصاه فِي نَفسه وبجماعة الْمُسلمين خيرا كَمَا كَانَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، وَإِذا أَرَادَ
الْخُرُوج للغزو عرض جَيْشه، ويتعاهد الْخَيل وَالرِّجَال فَلَا يقبل من
دون خمس عشرَة سنة كَمَا كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يفعل ذَلِك، وَلَا مخذلا وَهُوَ الَّذِي يقْعد النَّاس عَن
الْغَزْو، وَلَا مرجفا وَهُوَ الَّذِي يحدث بِقُوَّة الْكفَّار، وَالْأَصْل
فِيهِ قَوْله تَعَالَى. {كره الله انبعائهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا
مَعَ القاعدين لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} .
وَلَا مُشْركًا لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّا لَا نستعين بمشرك إِلَّا عِنْد ضَرُورَة ووثوق بِهِ " وَلَا
امْرَأَة شَابة يخَاف عَلَيْهَا، وَيَأْذَن للطاعنة فِي السن لِأَنَّهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْزُو بِأم سليم ونسوة من
(2/270)
الْأَنْصَار يسقين المَاء ويداوين
الْجَرْحى، ويعبي الْجَيْش ميمنة وميسرة، وَيجْعَل لكل قوم راية، وَلكُل
طَائِفَة أَمِيرا وعريفا كَمَا فعل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح لِأَنَّهُ أَكثر إرهابا وَأقرب ضبطا، ويعين لَهُم
شعارا يتكلمونه فِي البيات لِئَلَّا يقتل بَعضهم بَعْضًا كَمَا كَانَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، وَيخرج يَوْم الْخَمِيس
أَو الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَوْمَانِ يعرض فيهمَا الْأَعْمَال، وَقد
ذكرنَا من قبل، " ويكلفهم من السّير مَا يطيقه الضَّعِيف
إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة، وَيتَخَيَّر لَهُم من الْمنَازل أصلحها وأوفرها
مَاء، وَينصب الحرس والطلائع إِذا خَافَ الْعَدو، وَيخْفى من أمره مَا
اسْتَطَاعَ، ويورى إِلَّا من ذَوي الرَّأْي والنصيحة.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تقطع الْأَيْدِي فِي الْغَزْو " وسره مَا بَينه عمر رَضِي الله عَنهُ
أَلا تلْحقهُ حمية الشَّيْطَان فَيلْحق بالكفار، وَلِأَنَّهُ كثيرا مَا
يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاف بَين النَّاس، وَذَلِكَ يخل بمصلحتهم، وَيُقَاتل
أهل الْكتاب وَالْمَجُوس حَتَّى يسلمُوا أَو يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد
وهم صاغرون، وَلَا يقتل وليدا. وَلَا امْرَأَة، وَلَا شَيخا فانيا إِلَّا
عِنْد ضَرُورَة كالبيات، وَلَا يقطع الشّجر، وَلَا يحرق، وَلَا يعقر
الدَّوَابّ إِلَّا إِذا تعيّنت الْمصلحَة فِي ذَلِك كالبويرة قَرْيَة بني
النَّضِير، وَلَا يخيس بالعهد، وَلَا يحبس الْبرد لِأَنَّهُ سَبَب
انْقِطَاع المراسلة بَينهم، ويخدع فَإِن الْحَرْب خدعة، ويهجم عَلَيْهِم
غارين ويرميهم بالمنجنيق، ويحاصرهم، ويضيق عَلَيْهِم ثَبت عَن رَسُول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذَلِك، وَلِأَن الْقِتَال لَا
يتَحَقَّق إِلَّا بِهِ كَمَا لَا حَاجَة إِلَى شَرحه، وَيجوز المبارزة
بِإِذن الإِمَام لمن وثق بِنَفسِهِ كَمَا فعل عَليّ. وَحَمْزَة رَضِي الله
عَنْهُمَا. وللمسلمين أَن يتصرفوا فِيمَا يجدونه هُنَالك من الْعلف
وَالطَّعَام من غير أَن يُخَمّس لِأَنَّهُ لَو لم يرخص فِيهِ لضاق الْحَال
فَإِذا أَسرُّوا أسراء خير الإِمَام بَين أَربع خِصَال، الْقَتْل،
وَالْفِدَاء، والمن، والارقاق يفعل من ذَلِك الأحظ وَللْإِمَام أَن يعطيهم
الْأمان ولآحادهم.
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك
فَأَجره} .
وَذَلِكَ لِأَن دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام لَا يتَحَقَّق إِلَّا بمخالطة
الْمُسلمين وَمَعْرِفَة حجتهم وسيرتهم.
وَأَيْضًا فكثيرا مَا تقع الْحَاجة إِلَى تردد التُّجَّار وأشباههم،
ويصالحهم بِمَال وَبِغير مَال فَإِن الْمُسلمين رُبمَا يضعفون عَن مقاتلة
الْكفَّار فيحتاجون إِلَى الصُّلْح وَرُبمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى المَال
يتقوون بِهِ، أَو إِلَى أَن يأمنوا من شَرّ قوم فيجاهدوا آخَرين.
(2/271)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا أَلفَيْنِ أحدكُم يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة على رقبته بعير لَهُ
رُغَاء يَقُول يَا رَسُول الله أَغِثْنِي فَأَقُول: لَا أملك لَك شَيْئا قد
بلغتك " وَنَحْو ذَلِك قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" على رقبته فرس لَهُ حَمْحَمَة وشَاة لَهَا يعار وَنَفس لَهَا صياح ورقاع
تخفق ".
أَقُول الأَصْل فِي ذَلِك أَن الْمعْصِيَة تتَصَوَّر بِصُورَة مَا وَقعت
فِيهِ، وَأما حمله فثقله والتأذي بِهِ، وَأما صَوته فعقوبته بإشاعة فاحشته
على رُءُوس النَّاس.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا وجدْتُم الرجل قد غل فاحرقوا مَتَاعه كُله واضربوه " وَعمل بِهِ
أَبُو بكر. وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا.
أَقُول سره الزّجر وكبح النَّاس أَن يَفْعَلُوا مثل ذَلِك
وَاعْلَم أَن الْأَمْوَال الْمَأْخُوذَة من الْكفَّار على قسمَيْنِ: مَا
حصل مِنْهُم بِإِيجَاف الْخَيل والركاب وَاحْتِمَال أعباء الْقِتَال وَهُوَ
الْغَنِيمَة.
وَمَا حصل مِنْهُم بِغَيْر قتال كالجزية وَالْخَرَاج والعشور الْمَأْخُوذَة
من تجارهم وَمَا بذلوا صلحا أَو هربوا عَنهُ فَزعًا.
فالغنيمة تخمس وَيصرف الْخمس إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى فِي كِتَابه
حَيْثُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن
السَّبِيل} .
فَيُوضَع سهم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده فِي مصَالح
الْمُسلمين الأهم فالأهم، وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى فِي بني هَاشم وَبني
الْمطلب الْفَقِير مِنْهُم والغني وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَعِنْدِي أَنه
يُخَيّر الإِمَام فِي تعْيين الْمَقَادِير، وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ
يزِيد فِي فرض آل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بَيت المَال
ويعين الْمَدِين مِنْهُم والناكح وَذَا الْحَاجة، وَسَهْم الْيَتَامَى
لصغير فَقير لَا أَب لَهُ، وَسَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين لَهُم
يُفَوض كل ذَلِك إِلَى الإِمَام يجْتَهد فِي الْفَرْض وَتَقْدِيم الأهم
فالأهم وَيفْعل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَيقسم أَرْبَعَة أخماسه فِي
الْغَانِمين يجْتَهد الإِمَام أَولا فِي حَال الْجَيْش فَمن كَانَ نفله
أوفق بمصلحة الْمُسلمين نفل لَهُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاث.
أَن يكون الإِمَام دخل دَار الْحَرْب فَبعث سَرِيَّة تغير على قَرْيَة مثلا
فَيجْعَل لَهَا الرّبع بعد الْخمس أَو الثُّلُث بعد الْخمس فَمَا قدمت بِهِ
السّريَّة رفع خمسه ثمَّ أعطي السّريَّة ربع مَا غبر أَو ثلثه وَجعل
الْبَاقِي فِي الْمَغَانِم.
(2/272)
وثانيتها أَن يَجْعَل الإِمَام جعلا لمن
يعْمل عملا فِيهِ غناء عَن الْمُسلمين، مثلا أَن يَقُول: من طلع هَذَا
الْحصن فَلهُ كَذَا. وَمن جَاءَ بأسير فَلهُ كَذَا. من قتل قَتِيلا فَلهُ
سلبه، فَإِن شَرط من مَال الْمُسلمين أعطي مِنْهُ، وَإِن شَرط من
الْغَنِيمَة أعطي من أَرْبَعَة أَخْمَاس.
وثالثتها أَن يخص الإِمَام بعض الْغَانِمين بِشَيْء لغنائه وبأسه كَمَا
أعطي
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلمَة بن الْأَكْوَع فِي
غَزْوَة ذِي قرد سهم الْفَارِس والراجل حَيْثُ ظهر مِنْهُ نفع عَظِيم
للْمُسلمين.
وَالأَصَح عِنْدِي أَن السَّلب إِنَّمَا يسْتَحقّهُ الْقَاتِل بِجعْل
الإِمَام قبل الْقَتْل أَو تنفيله بعده.
وَيرْفَع مَا يَنْبَغِي أَن يرْضخ دون السهْم للنِّسَاء يداوين المرضى،
ويطبخن الطَّعَام، ويصلحن شَأْن الْغُزَاة وللعبيد وَالصبيان وَأهل
الذِّمَّة الَّذين أذن لَهُم الإِمَام إِن حصل مِنْهُم نفع للغزاة وَإِن
عثر على أَن شَيْئا من الْغَنِيمَة كَانَ مَال مُسلم ظفر بِهِ الْعَدو رد
عَلَيْهِ بِلَا شَيْء، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على من حضر الْوَقْعَة للفارس
ثَلَاثَة أسْهم. وللراجل سهم.
وَعِنْدِي أَنه إِن رأى الإِمَام أَن يزِيد لركبان الْإِبِل أَو للرماة
شَيْئا أَو يفضل العراب على البراذين بِشَيْء دون السهْم فَلهُ ذَلِك بعد
أَن يشاور أهل الرَّأْي وَيكون أمرا لَا يخْتَلف عَلَيْهِ لأَجله وَبِه
يجمع اخْتِلَاف سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه
رَضِي الله عَنْهُم فِي الْبَاب.
وَمن بَعثه الْأَمِير لمصْلحَة الْجَيْش كالبريد والطليعة والجاسوس يُسهم
لَهُ وَإِن لم يحضر الْوَقْعَة كَمَا كَانَ لعُثْمَان يَوْم بدر.
وَأما الْفَيْء فمصرفه مَا بَين الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {مَا أَفَاء
الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القريى
واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} .
إِلَى قَوْله " {رءوف رَحِيم} وَلما قَرَأَهَا عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
هَذِه استوعبت الْمُسلمين فيصرفه إِلَى الأهم فالأهم، وَينظر فِي ذَلِك
إِلَى مصَالح الْمُسلمين لَا مصْلحَته الْخَاصَّة بِهِ.
(2/273)
وَاخْتلفت السّنَن فِي كَيْفيَّة قسْمَة
الْفَيْء، فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا
أَتَاهُ الْفَيْء قسمه فِي يَوْمه، فَأعْطى الْأَهْل حظين، وَأعْطى الأعزب
حظا، وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يقسم للْحرّ وَلِلْعَبْدِ. ويتوخى
كِفَايَة الْحَاجة، وَوضع عمر رَضِي الله عَنهُ الدِّيوَان على السوابق
والحاجات، فالرجل وَقدمه، وَالرجل وبلاؤه، وَالرجل وَعِيَاله، وَالرجل
وَحَاجته، وَالْأَصْل فِي كل مَا كَانَ مثل هَذَا من الِاخْتِلَاف أَن يحمل
على أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك على الِاجْتِهَاد فتوخى كل الْمصلحَة بِحَسب
مَا رأى فِي وقته، والأراضي الَّتِي غلب عَلَيْهَا الْمُسلمُونَ للْإِمَام
فِيهَا الْخِيَار. إِن شَاءَ قسمهَا فِي الْغَانِمين، وَإِن شَاءَ أوقفها
على الْغُزَاة كَمَا فعل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخَيْبَر. قسم نصفهَا ووقف نصفهَا، ووقف عمر رَضِي الله عَنهُ أَرض
السوَاد، وَإِن شَاءَ أسكنها الْكفَّار ذمَّة لنا.
وَأمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معَاذًا رَضِي الله عَنهُ
أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله معافر، وَفرض عمر رَضِي الله
عَنهُ على الْمُوسر ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وعَلى الْمُتَوَسّط
أَرْبَعَة وَعشْرين، وعَلى الْفَقِير المعتمل اثْنَي عشر.
وَمن هُنَا يعلم أَن قدره مفوض إِلَى الإِمَام يفعل مَا يرى من الْمصلحَة،
وَلذَلِك اخْتلفت سيرهم، وَكَذَلِكَ الحكم عِنْدِي فِي مقادير الْخراج
وَجَمِيع مَا اخْتلفت فِيهِ سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وخلفائه رَضِي الله عَنْهُم.
وَإِنَّمَا أَبَاحَ الله لنا الْغَنِيمَة والفيء لما بَينه النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " لم تحل الْغَنَائِم لأحد من
قبلنَا. . ذَلِك بِأَن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا " وَقَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله فضل أمتِي على الْأُمَم وَأحل لنا
الْغَنَائِم " وَقد شرحنا هَذَا فِي الْقسم الأول فَلَا نعيده.
وَالْأَصْل فِي المصارف أَن أُمَّهَات الْمَقَاصِد أُمُور:
مِنْهَا إبْقَاء نَاس لَا يقدرُونَ على شَيْء لزمانه أَو لاحتياج مَالهم
أَو بعده مِنْهُم.
وَمِنْهَا حفظ الْمَدِينَة عَن شَرّ الْكفَّار بسد الثغور ونفقات
الْمُقَاتلَة وَالسِّلَاح والكراع.
وَمِنْهَا تَدْبِير الْمَدِينَة وسياستها من الحراسة وَالْقَضَاء
وَإِقَامَة الْحُدُود والحسبة.
وَمِنْهَا حفظ الْملَّة بِنصب الخطباء وَالْأَئِمَّة والوعاظ والمدرسين.
وَمِنْهَا مَنَافِع مُشْتَركَة ككرى الأنها وَبِنَاء القناطر وَنَحْو
ذَلِك.
وَأَن الْبِلَاد على قسمَيْنِ. قسم تجرد لأهل الْإِسْلَام كالحجاز، أَو غلب
عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ، وَقسم أَكثر أَهله الْكفَّار فغلب عَلَيْهِم
الْمُسلمُونَ بعنوة أَو صلح.
(2/274)
وَالْقسم الثَّانِي يحْتَاج إِلَى شَيْء
كثير من جمع الرِّجَال وإعداد آلَات الْقِتَال وَنصب الْقُضَاة والحرس
والعمال،
وَالْأول لَا يحْتَاج إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء كَامِلَة وافرة.
وَأَرَادَ الشَّرْع أَن يوزع بَيت المَال الْمُجْتَمع فِي كل بِلَاد على
مَا يلائمها فَجعل مصرف الزَّكَاة وَالْعشر مَا يكون فِيهِ كِفَايَة
المحتاجين أَكثر من غَيرهَا، ومصرف الْغَنِيمَة والفيء مَا يكون فِيهِ
إعداد الْمُقَاتلَة وَحفظ الْملَّة وتدبير الْمَدِينَة أَكثر، وَلذَلِك جعل
سهم الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين والفقراء من الْغَنِيمَة والفيء أقل من
سهمهم من الصَّدقَات وَسَهْم الْغُزَاة مِنْهُمَا أَكثر من سهمهم مِنْهَا.
ثمَّ الْغَنِيمَة إِنَّمَا تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب فَلَا تطيب
قُلُوبهم إِلَّا بِأَن يُعْطوا مِنْهَا. والنواميس الْكُلية المضروبة على
كَافَّة النَّاس لَا بُد فِيهَا من النّظر
إِلَى حَال عَامَّة النَّاس. وَمن ضم الرَّغْبَة الطبيعية إِلَى الرَّغْبَة
الْعَقْلِيَّة وَلَا يرغبون إِلَّا بِأَن يكون هُنَاكَ مَا يجدونه
بِالْقِتَالِ، فَلذَلِك كَانَ أَرْبَعَة أخماسها للغانمين والفيء إِنَّمَا
يحصل بِالرُّعْبِ دون مُبَاشرَة الْقِتَال فَلَا يجب أَن يصرف على نَاس
مخصوصين فَكَانَ حَقه أَن يقدم فِيهِ الأهم فالأهم.
وَالْأَصْل فِي الْخمس أَنه كَانَ المرباع عَادَة مستمرة فِي
الْجَاهِلِيَّة يَأْخُذهُ رَئِيس الْقَوْم وعصبته فَتمكن ذَلِك فِي علومهم
وَمَا كَادُوا يَجدونَ فِي أنفسهم حرجا مِنْهُ، وَفِيه قَالَ الْقَائِل:
(وَإِن لنا المرباع من كل غَارة ... تكون بِنَجْد أَو بِأَرْض التهائم)
فشرع الله تَعَالَى الْخمس لحوائج الْمَدِينَة وَالْملَّة نَحوا مِمَّا
كَانَ عِنْدهم كَمَا أنزل الْآيَات على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
نَحوا مِمَّا كَانَ شَائِعا ذائعا فيهم، وَكَانَ المرباع لرئيس الْقَوْم
وعصبته تنويها بشأنهم وَلِأَنَّهُم مشغولون بِأَمْر الْعَامَّة محتاجون
إِلَى نفقات كَثِيرَة، فَجعل الله الْخمس لرَسُول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَشْغُول بِأَمْر النَّاس
لَا يتفرغ أَن يكْتَسب لأَهله، فَوَجَبَ أَن تكون نَفَقَته فِي مَال
الْمُسلمين، وَلِأَن النُّصْرَة حصلت بدعوة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ والرعب الَّذِي أعطَاهُ الله إِيَّاه، فَكَانَ كحاضر الْوَقْعَة،
ولذوي الْقُرْبَى لأَنهم أَكثر النَّاس حمية لِلْإِسْلَامِ حَيْثُ اجْتمع
فيهم الحمية الدِّينِيَّة إِلَى الحمية النسبية فَإِنَّهُ لَا فَخر لَهُم
إِلَّا بعلو دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَن فِي
ذَلِك تنويه أهل بَيت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتلك
مصلحَة رَاجِعَة إِلَى الْملَّة، وَإِذا كَانَ الْعلمَاء والقراء يكون
توقيرهم تنويها بالملة يجب أَن يكون توقير ذَوي الْقُرْبَى كَذَلِك
بِالْأولَى، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء واليتامى، وَقد ثَبت أَن
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعْطى الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم
وَغَيرهم من الْخمس.
وعَلى هَذَا فتخصيص هَذِه الْخَمْسَة بِالذكر للاهتمام بشأنها، والتوكيد
أَلا
يتَّخذ الْخمس
(2/275)
والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جَانب
المحتاجين، ولسد بَاب الظَّن السَّيئ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرابته.
وَإِنَّمَا شرعت الْأَنْفَال والأرضاخ لِأَن الْإِنْسَان كثيرا مَا يقدم
على مهلكة إِلَّا لشَيْء لَا يطْمع فِيهِ، وَذَلِكَ ديدن وَخلق للنَّاس لَا
بُد من رعايته.
وَإِنَّمَا جعل للفارس ثَلَاثَة أسْهم وللراجل سهم لِأَن غناء الْفَارِس
عَن الْمُسلمين أعظم ومؤنته أَكثر وَإِن رَأَيْت حَال الجيوش لم تشك أَن
الْفَارِس لَا يطيب قلبه وَلَا تَكْفِي ومؤنته إِذا جعلت جائزته دون
ثَلَاثَة أَضْعَاف سهم الراجل لَا يخْتَلف فِيهِ طوائف الْعَرَب والعجم على
اخْتِلَاف أَحْوَالهم وعاداتهم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَئِن عِشْت إِن شَاءَ الله لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من
جَزِيرَة الْعَرَب " وَأوصى بِإِخْرَاج الْمُشْركين مِنْهَا. أَقُول: عرف
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الزَّمَان دوَل وسجال
فَرُبمَا ضعف الْإِسْلَام وانتشر شَمله فَإِن كَانَ الْعَدو فِي مثل هَذَا
الْوَقْت فِي بَيْضَة الْإِسْلَام ومحتده أفْضى ذَلِك إِلَى هتك حرمات الله
وقطعها فَأمر بإخراجهم من حوالي دَار الْعلم وَمحل بَيت الله.
وَأَيْضًا المخالطة مَعَ الْكفَّار تفْسد على النَّاس دينهم وَتغَير
نُفُوسهم، وَلما لم يكن بُد من المخالطة فِي الأقطار أَمر بتنقية
الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم، وَأَيْضًا انْكَشَفَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يكون فِي آخر الزَّمَان فَقَالَ: " إِن الدّين
ليأرز إِلَى الْمَدِينَة " الحَدِيث وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا بألا يكون
هُنَاكَ من أهل سَائِر الْأَدْيَان، وَالله أعلم.
(2/276)
|