فقه النوازل

" 8 "
حق التأليف تاريخاً وحكماً

(2/99)


الحمد لله بجميع محامده على جميع آلائه ونعمه ، والصلاة والسلام
على خاتم أنبيائه ورسله ، ورضي الله عن صحابته ومن اهتدى بهديه واستن
بسنته إلى يوم الدين .
أما بعد - فإن نازلة الحقوق المعنوية مهمة في : حكم تملكها
والتصرفات الواردة عليها مثل بيع الاسم التجاري والترخيص وحقوق الإنتاج
العلمي أو (الإنتاج الذهني) ومن مفرداتها (نازلة حقوق التأليف) هل تملك
وترد عليها التصرفات من بيع ونحوه أم لا ؟ .
وقد عقدت من أجل هذه مؤتمرات وألفت فيها مؤلفات ، حتى صارت
محلاً لعدد من البحوث الجامعية ، لكنها من وجهة القانون الوضعي ، وأما
لدى علماء الشريعة ففيها مقالات ، ومباحث وفي أعقاب ثورة الإنتاج
الطباعي لقاء (ثورة الإنتاج الذهني) وإحياء مآثر الأسلاف كثرت في هذه
المسألة التساؤلات وصارت قضايا وخصومات وأهل العلم فيها بين الحظر
والإباحة والحرمة والجواز ، ولكل وجهة هو موليها .
فمن الضرورة تحرير النظر فيها لرفع التهارج أمام القضاء ، ودفع
التواثب والتغالب بين المؤلفين والباعة من الكتبيين والوراقين ، وغيرهم من
دور الطباعة والنشر ولأن هذه النازلة قد اشتهرت في الدلائل وتبارت فيها
الأنظار ، وظهر لدى بعض الباحثين عسر الاحتجاج كما سترى التنبيه عليه
في هذا الكتاب ، وهم مع نظرائهم متفاوتون على قدر القرائح والفهوم ،

(2/101)


والشأن فيما ينتظمه الدليل ، ويستقيم فيه النظر والتعليل . وهده قبلة
الإنصاف وبها تتساقط الاحتمالات والأقاويل الضعاف ، وهل هي من ذوات
الدليل في التشريع أم أن الشريعة أرسلتها فلم تنط بها حكماً معيناً فتجول
في دائرة (المصالح المرسلة) فيبقى تقدير التمايز بين المصالح المجلوبة
والمفاسد المطرودة فيحصل القول الراجح ويهمل المرجوح .
ولهذا قيدت خلاصة ما وقفت عليه بعد طول تتبع واستقراء ، عاقداً له
الأبحاث الآتية :
المبحث الأول : في الطباعة ، تاريخها وانتشارها .
المبحث الثاني : حق التأليف في المجالات الدولية والحكومية
والفردية .
المبحث الثالث : التاريخ القديم لحق التأليف .
المبحث الرابع : في عنوان هذه النازلة والتعريف به .
المبحث الخامس : الحقوق الواردة على التأليف وبيان حكمها
الشرعي .
المبحث السادس : في حق النشر والتوزيع وحكمه شرعاً .
والله الموفق

(2/102)


المبحث الأول
في فن الطباعة
تاريخ اختراعها ، وتدرج انتشارها في الديار الإسلامية
كان النسخ قبل ظهور المطابع هو الأداة الوحيدة لتقييد العلم تخطه
أيدي العلماء بأقلامهم على (الورق) بأنواعه في تطوراته من الصحف
والقرطاس والرق وهي من ألفاظ القرآن الكريم ، وهو الجلد - والمهرق -
وهو : الصحيفة معرّب جمعه (مهارق) والكاغد - وهو اصطلاح فارسي -
وكانت تستورده العرب من فارس ، والورق هو الذي اكتسب الصفة بعد .
قال حسان - رضي الله عنه :
عرفت ديار زيد بالكثيب ... كخط الوحي بالورق القشيب
وقد عني المتقدمون ومنهم ابن النديم في الفهرست بذكر أنواع الورق
فعقد لها باباً ، والقلقشندي في (صبح الأعشى) ، وفي (مجلة المجمع
العلمي العراقي) لعام 1385 هـ بحث حافل .
وبما أنه هو الوسيلة لتقييد العلم وتداوله محرراً فإن النسخ أصبح حرفة
رائجة وسوقاً نافقة . فإن المؤلف بعد أن يبذل جهداً من الوقت والتفكير
والكتابة والورق والمداد يقي كتابه لديه لَقىً ليس من وسيلة لإبرازه ونشره
إلا عن طريق النسخ ، ولهذا انتشر في طبقات العلماء في العصور كافة من

(2/103)


اشتهر بالنسخ من العلماء والطلاب والوراقين وخلق سواهم . وقد حفلت
كتب التراجم بذكرهم وبأصحاب الخط المنسوب (أي الجميل) منهم .
فكم رأى الناظر في التراجم قولهم : ونسخ ما لا يحصى كثرة ، وقول
بعضهم : وكان ينسخ بأجر ، أو كان يحترف النسخ ، أو : كان يتقوت به
أو : كانت منه بلغته أو : يتبلغ من النسخ ، أو : كان ذا حظ فيه .
واهتم العلماء - وبخاصة المحدثين منهم - بأمر النسخ وضبطه لتلافي
ما يقع من بلايا النسخ من أمور عظام من التصحيف والتحريف فأفردت
من أجله مصنفات طوال ، وقد قال بعضهم : " الناسخ ماسخ " . ونقل الشاعر
أحاسيسهم فقال :
وكم ناسخ أضحى لمعنى مغيراً ... وجاء بشيء لم يرده المصنف
ولو شاهد هذا القائل ما يقع في الطبع لا سيما الطبعات التجارية أو
التي ينشرها المتعالمون لرأى ذلك مضاعفاً .
والمهم هنا ذكر أمثلة النسخ في عصور الإسلام ، فهؤلاء كتاب النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أفردت بأخبارهم المصنفات من أكبرها : المصباح المضيء لابن
حديدة ، وقد أوصلهم العراقي في ألفيته إلى (42) كاتباً . ومن الصحابة
رضي الله تعالى عنهم من اشتهر بكتابة المصاحف منهم : ناجية الطفاوي ،
ونافع بن ظريب النوفلي وكم كان ابتهاج المسلمين في جميع الأقطار
بمصحف عثمان رضي الله عنه وانظر التراتيب الإدارية (1) .
وكان لابن عمر كتب ينظر فيها قبل أن يخرج إلى الناس لكن إسناده
__________
(1) 2 / 282 - 286 .

(2/104)


غريب كما في : السير للذهبي (1) ، وفيها أن مالك بن دينار (م سنة 127 هـ)
من أعيان كتبة المصاحف كان من ذلك بلغته (2) ، وفيها أيضاً (3) قال رباح
بن عمرو القيسى سمعت مالك بن دينار يقول : دخل عليَّ جابر بن زيد
وأنا أكتب فقال : يا مالك ، مالك عمل إلا هذا تنقل كتاب الله ، هذا والله
الكسب الحلال ، وفيها أن مطر الوراق (م سنة 129 هـ) كان يكتب
المصاحف ويتقن ذلك (4) . وفي التهذيب قال (5) : كان يكتب المصاحف
بالأجرة ويتقوت بأجرته وكان لا يأكل شيئاً من الطيبات من المتعقدة الصبر
والمتقشفة الخشن .
وقال جعفر بن سليمان : كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر فيدع
أجرته عند البقال فيأكله . اهـ .
وفيها أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى (م سنة 231) لما
سرقت ثيابه لم يقبل الصدقة فنسخ سماعه من ابن عيينة بدراهم اكتسى
منها ثوبين (6) .
وفي المنتظم (7) بأن محمد بن أحمد المعروف بابن أبي الشيخ (م سنة
433 هـ) يذكرون في ترجمته أنه كان يكتب الشيء الكثير من الحديث .
وابن مقلة : الحسن بن علي (م سنة 338 هـ) كان أكتبَ من أخيه في
__________
(1) 3 / 338 . (2) 5 / 362 .
(3) 5 / 364 . (4) 10 / 15 .
(5) السيرة 5 / 452 . (6) 11 / 192 .
(7) 8 / 112 .

(2/105)


قلم الدفاتر والنسخ وكان أبوهما كاتباً مليح الخط ثم ذكر ياقوت جمعاً من
أولادهما شهروا بالنسخ ثم ذكر من خبر أبي عبد الله هذا ما يستظرف (1) .
وهذا يحي الأرزني (م سنة 415 هـ) يكتب الفصيح لثعلب في كل يوم
ويبيعه بنصف دينار ويشتري به قوته ، ولا يبيت حتى ينفق ما معه منه (2) .
وفي تاريخ ابن كثير أن العكبري الحنبلي (م سنة 428 هـ) كان
يسترزق من الوراقة وهي النسخ (3) وابن الخاضبة المحدث الحافظ (م سنة
489 هـ) قال عنه أبو سعد السمان المعتزلي : نسخ ابن الخاضبة صحيح
مسلم بالأجرة سبع مرات (4) .
وفيها أيضاً (5) (أن أُبياً النرسي الحافظ المسند (م سنة 510 هـ) كان
ينسخ بالأجرة يستعين على العيال .
وفيها (6) أن الماوردي المحدث محمد بن الحسن البصري (م سنة
525 هـ) كان ينسخ للناس بالأجرة .
وفي المنتظم (7) أن عبد الملك بن عبد الله (الكرخي م سنة 548 هـ)
كان يكتب نسخاً من جامع الترمذي ويبيعها فيتقوت بها .
وفي السير للذهبي (8) أن أحمد بن علي الداني (م سنة 609 هـ) كان
ينسخ التيسير بأسبوع ويقتات بثمنه ، وكان ورعاً .
__________
(1) معجم الأدباء 9 / 30 - 31 . (2) معجم الأدباء 19 / 34 .
(3) 12 / 45 . (4) السير للذهبي 19 / 111 .
(5) 19 / 275 . (6) 19 / 589 .
(7) 10 / 154 . (8) 22 / 17 .

(2/106)


وفيها (1) أن النشنبري (م سنة 548 هـ) كان ثقة صالحاً يتبلغ من
النسخ .
وفيها (2) أن ابن المجد الحافظ أحمد بن المحدث عيسى بن الموفق
ابن قدامه (م سنة 643 هـ) كتب لنفسه وبالأجرة وأفاد الطلبة .
وفي شذرات الذهب (3) أن محمد بن محمد الأعزازي (م سنة 968 هـ)
يذكرون في ترجمته من نسخ الكتب المبسوطة ما يكاد يخرج عن طوق
البشر وكتب نحو خمسين مصحفاً .
ومن الغريب أن جوهرة التوحيد للقاني (م سنة 1041 هـ) كتب منها
في يوم واحد خمسمائة نسخة (4) .
وفيها (5) أن القشاش المغربي (م سنة 1031 هـ) كان في خزانته ألف
نسخة من صحيح البخاري . وفي معجم الأدباء (6) أن المبارك بن المبارك
الكرخي كان أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة ابن البواب وكان
ضنيناً بخطه جداً فلذلك قل وجوده . والأخبار من هذا النوع كثيرة جداً ،
وتجد طائفة منها في كتاب تحقيق النصوص ونشرها لعبد السلام هارون (7) .
__________
(1) 23 / 242 .
(2) 23 / 118 .
(3) 8 / 354 .
(4) خلاصة الأثر للمحبي 1 / 6 .
(5) 1 / 141 .
(6) 17 / 56 .
(7) ص / 14 - 24 .

(2/107)


وفي اللطف للثعالبي قال : (وكان بعضهم يقول : الوراق يأكل من دية عينيه) اهـ .
وقد استمرت الحال على هذا حتى صار ظهور المطابع فاختفت حرفة
النسخ أو كادت ، وبقي تدوين أصل التأليف فحسب بقلم مؤلفه ثم دفعه
للمطابع فتنشر منه مئات أو آلاف النسخ في أيام قلائل . فتضعف قيمة
النسخة الخطية للمؤلف إن لم يكن لا قيمة لها . فلا بد إذن من خلاصة
معتصرة عن تاريخ الطباعة التي على أعقابها تولدت نازلة (حقوق الطبع)
مجسدة .
وعليه (1) : فهذه إلمامة مختصرة عن تاريخ الطباعة وتدرج انتشارها حتى
يحصل تمام التصور لنقطة الانطلاق التاريخي لنازلة الاحتفاظ بحقوق
الطبع والتأليف والنشر . لأن ظهور هذه في أعقاب تلك ، فلم يعهد قبل
هذا البروز والانتشار ما يسمى بحقوق التأليف أو بحقوق الطبع والنشر
والتوزيع ، إذ قاعدة العلم قبول الشركة فيه ، لكن في خصوص العلوم
الشرعية يشترط في تحملها أن تكون عن طريق وسائل تحمل العلم
كالإجازة والعرض والمناولة عند المحدثين .
ولهذا فإن من تَسَوَّر العلم بغير طريقه الشرعي يلحقه الإدبار بوصفه
(سارقاً) وكم يرى الناظر في التراجم والمؤلفات ما اكتسب بعد اسم (سرقة
الكتب) ، أو : (استلال الكتب) أو : (السطو العلمي) . وعليه فبيان تاريخ
الطباعة كما يلي :
__________
(1) ما في هذا المبحث من تاريخ الطباعة مستخلص من كتاب مطبعة بولاق لأبي
الفتوح رضوان طبع عام 1953 م . وكتاب تاريخ الطباعة في الشرق العربي تأليف :
خليل ، طبع دار المعارف بمصر عام 1958 م . ملحق تاريخ ابن خلدون لأحمد
تيمور ، ص / 265 .

(2/108)


يقصد بفن الطباعة الذي أحدث انقلاباً في فكر الإنسان وحياته وهو
في أول نشأته : (نقش الحروف المفردة على المعادن بشكل يجعلها تجمع
فتصبح كلاماً يطبع على الورق ثم تُحَل ويعاد جمعها بصيغة أخرى فتطبع
كلاماً آخر ... وهكذا . ثم توضع هذه الحروف المجموعة في آلات تطبع
منها نسخ كثيرة في وقت قصير .
الطباعة على هذا الأساس يرجع اختراعها تاريخاً إلى قبيل منتصف
القرن الخامس عشر الميلادي وحصل خلاف في نسبة الاختراع هل هو
إلى الهولنديين أم الألمان ؟ لكن الذي عليه جلّ الكاتبين أن مخترع
الطباعة هو (جوتمبرج) الألماني ، وأن بعض المحاولات قد سبقته .
وخلاصة تاريخ هذا الاختراع أن الألماني المذكور ولد بمدينة (مينز)
عام 1400 م وكان يعمل في حرف صناعية بالمشاركة . وفي عام 1444 م
اتفق مع (حنا فوست) العامل في مهنة الصياغة وقد أثرى منها . وبتعاون
هذين وامتداداً لحرفة الصياغة صنعا أولها من الخشب بحجم كبير ثم صنعا
حروفاً ذات حجم صغير من الخشب أيضاً ثم توصلا إلى صناعتها من
الرصاص كما هو سائد الآن .
وكان قد انضم إلى (جوتمبرج) صانع ألماني ماهر هو (بطرس شوفير)
نكن سرعان ما انفصلا لخلاف حصل بينهما . واستمر (جوتمبرج) بعمله
حتى افتتح مطبعة فكان أول كتاب طبع بحروف مستقلة تجمع وتفك هو
(الإنجيل) إذ طبع باللغة اللاتينية عام 1455 م بمدينة مينز .
ثم انتقل فن الطباعة إلى إيطاليا عام 1467 م ، ثم إلى فرنسا عام
1469 م ولقيت محاربة من الكهنوت وكفروا صاحبها ، وبعدها ظهرت أول
مطبعة عام 1507 م في باريس ، ثم انتقلت إلى أسبانيا وانتشرت بها بعد

(2/109)


مقاومة أيضاً .
وفي نفس العام تقريباً انتقلت إلى إنجلترا ولقيت محاربة أيضاً وظهر
أول كتاب بها عام 1477م مطبوعاً باللغة الإنجليزية . وقد بلغ من حماس
النصارى لديانتهم تحويل الطباعة إلى اللغة العبرية وهي لغة الإنجيل
والتوراة وفي الربع الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي تم مع التوراة
بالعبرية بإيطاليا ، ثم اتجهت عنايتهم إلى نشر ديانتهم إلى العرب فكانت
ثمة حروف باللغة العربية .
وفي أوائل القرن السادس عشر الميلادي وعلى وجه التحديد في عام
1514 م طبع في إيطاليا أول كتاب في اللغة العربية وهو كتاب (صلاة
السواعي) ويقع في 211 صفحة . ثم طبع الزبور عام 1516م باللغات
المذكورة .
وفي عام 1530 م طبع القرآن الكريم باللغة العربية لكن النسخ
أعدمت خوفاً من أن تؤثر على عقائد المسيحيين .
ثم أخذت الطباعة تنتشر انتشاراً ذريعاً في أوروبا وغيرها وبعد أن كان
الطَّابَع الديني يتحكم بتوجيه المطابع في إنتاجها أصبحت تتحول إلى
الناحية العلمية ولم يشارف القرن السادس عشر الميلادي على الانتهاء إلا
وكانت المطابع العربية منتشرة في أوروبا وغيرها وهي علمية ليس من بينها
من الكتب التي تخدم الديانات الأخرى المخالفة للإسلام إلا القليل .
وكان من أوائل المطبوعات العربية في روما : نزهة المشتاق في ذكر
الأمصار والآفاق لأبي عبد الله محمد المعروف بالشريف الإدريسي . وفي
عام 1593 م نشرت أيضاً : قانون ابن سينا في الطب وفي عام 1616 م طبع

(2/110)


كتاب : قصة يوسف من القرآن الكريم مضبوطاً بالشكل الكامل وكان أول
كتاب يطبع مشكولاً وهو من مخترعات مطبعة ليدن المشهورة في هولندا .
وما كادت الطباعة تنتشر في أوروبا إلا وقد أخذت تنتقل إلى الشرق
الأوسط وكان غرض الأوروبيين من انتشارها في الشرق الأوسط دسيسة دينية
كغرضهم في أول نشرهم لكتبهم باللغات الشرقية ، وكما كانت اللغة العبرية
هي أول لغة شرقية نالت عناية الطابعين ثم تلتها اللغة العربية فقد كان
دخول الطباعة بهاتف اللغتين إلى بلدان المشرق على هذا الترتيب اللغة
العبرية ثم اللغة العربية .
وأشهر مطابع اللغة العبرية كما يلي :
مطبعة الأستانة العبرية في استانبول أنشأها رجل يهودي اسمه اسحق
جرسون وكان ذلك في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وكان أول
كتاب طبع بها هو (ملخص تاريخ اليهود ليوسيفوس) عام 1490 م .
ومطبعة دير فريحا العبرية جنوب طرابلس وكانت أول مطبعة دخلت
بلاد الشام وذلك في أوائل القرن السابع عشر ثم بعد ذلك دخلت الطباعة
العربية بلدان الشرق وانتشرت فيه ، وقد كانت حلب أول مدينة شرقية تنشأ
فيها مطبعة عربية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي .
ثم الآستانة في العشر الثاني من القرن الثامن عشر أي في 1129
هجرية إذ صدر الترخيص من السلطان أحمد الثالث لسعيد أفندي ابن
السفير محمد أفندي حلبي ويتضمن الترخيص : الإذن بطبع جميع الكتب
إلا التفسير ، الحديث ، والفقه ، والكلام ، بعد أن أصدر الشيخ عبد الله
أفندي فتوى بجواز ذلك . وكان أول مطبوعاتها (صحاح الجوهري)

(2/111)


واستمرت هذه المطبعة إلى عام 1230 هـ تقريباً ولم تصدر سوى أربعة
وتسعين كتاباً .
وبعد أن صدرت الفتوى بعد ذلك بجواز طبع كتب التفسير ونحوها
نهضت وانتشرت مطبوعاتها لكن جلّها باللغة التركية ثم أنشئت المطبعة
العربية الثالثة في : دير مرحنا إحدى قرى لبنان عام 1732 م تقريباً . ثم
الرابعة حوالي عام 1751 م في بيروت . ثم جاءت المطبعة الخامسة في
الشرق الأوسط وهي أول مطبعة تدخل مصر قامَ بها نابليون أثناء حملته
على مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وكانت طبيعة منشوراتها
سياسية لحملة نابليون على مصر لطبع المناشير والأوامر . ثم المطبعة
الأهلية بالقاهرة سنة 1798 م .
وفي عام 1235 هـ أي 1819 م أنشأ محمد علي ، المطبعة الشهيرة
باسم (مطبعة بولاق) على اختلاف موسع في تاريخ إنشائها . (وبولاق اسم
حي من أحياء القاهرة) ، وفي حدود 1958 م تغير هذا الاسم فصارت باسم
(المطبعة الأميرية) .
وفي عام 1822 م أنشأ المراسلون الأمريكيون في مالطة (مطبعة مالطة)
تحت نظارة أحمد فارس الشدياق ثم نقلها إلى بيروت عام 1834م ، وفي
فلسطين قامت مطبعة القدس عام 1846 م للنصارى الفرنسيين ، وفي
العراق قامت مطابع الجزيرة بالعراق عام 1856 م .
ثم انتشر فن الطباعة في الشرق الأوسط وبلدانه :
ففي الأردن أول مطبعة عام 1909م قامت في حيفا ثم في عمان عام
1922 م .

(2/112)


وفي اليمن عرفت الطباعة فيها منذ عام 1877 م في صنعاء بأمر
السلطان عبد الحميد الثاني .
وفي المملكة العربية السعودية كانت أول مطبعة في الحجاز عام
1300 هـ مطبعة تدار بالقدم في مكة حرسها الله تعالى ثم مطبعة أخرى
في عام 1919 م . ولما استتب الأمر للملك عبد العزيز آل سعود أطلق على
المطبعة اسم (مطبعة أم القرى) وفي عام 1937 م سميت (مطبعة الحكومة)
ثم تتابع إنشاء المطابع في مدن المملكة بصفة متكاثرة وأرقى آلات الطباعة
الحديثة المدهشة .
وفي البحرين كانت أول مطبعة عام 1938م باسم " مطبعة البحرين " .
وفي الكويت عام 1947 م أسست مطبعة المعرفة من قبل بعض
مواطني الكويت ثم أنشأت مطبعة حكومية عام 1954 م .
وفي قطر أسست أول مطبعة عام 1956 م باسم : مطابع العروبة .
ومن هذا العرض الموجز نستخلص الحقائق التالية :
أولاً : أن تاريخ الطباعة بدأ عام 1400 م في ألمانيا .
ثانياً : أن الطباعة لاقت معارضات شديدة من رجال الدين النصراني
حتى كان لها سلطان التحكم فيما تنتجه هذه المطابع .
ثالثاً : أنه بعد انتشارها أصبحت تسير في منهج علمي وضَعُفَ التحكم
الكنسي فيها أو زال .
رابعاً : وأن أول بلد شرقي تدخلها الطباعة بالعبرية هو الآستانة بتركيا
في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي . وأول بلد شرقي تدخله الطباعة

(2/113)


بالعربية حلب في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي .
خامساً : وأن غرض إدخال الطباعة في البلدان الشرقية كانت حملة
تبشيرية نصرانية عن قرب لمناهضة الإسلام فيها .
سادساً : وأنه لذلك وجد من علماء المسلمين في هذه الديار توقف
وممانعة في طباعة القرآن الكريم والسنة النبوية وعلم الشريعة لذلك
ولتفسيرات أخرى يجد الراغب خبرها في كتب تاريخ الطباعة .
سابعاً : ثم صار انتشار الطباعة حتى أصبحت أساساً في الحياة
الحضارية للأمم .

(2/114)


المبحث الثاني
الاحتفاظ بحق المؤلف
في المجالات الدولية والحكومية والفردية
لم يكن هذا المبحث معروفاً من قبل بهذه الصفة ، وإنما صار وجوده
بحدوث المطابع ، وأخذ يتطور بتطورها وبحكم أوضاع الحياة المدنية
والاقتصادية والثقافية الحديثة ، فهو وليد تلك العوامل والوسائل ، ولذا لم
يكن محلاً للتأليف والبحث المستفيض . وبما أن المطابع إنما
ولدت على الصعيد الغربي فإن مبدأ الاحتفاظ بحقوق الطبع إنما شب
ونضج على الصعيد الغربي كذلك ، ولهذا يجد الناظر البحث مستفيضاً
على مستوى القوانين الغربية والدراسات الفردية ، وله عقدت المؤتمرات
وصدرت الاتفاقيات العالمية ، ونال اهتمام القانونيين بصفة بالغة وصار
مجالاً للأطروحات في هذا المجال ويمكن تسجيل ما تم الوقوف عليه في
هذا على ما يلي :
أولاً : المؤتمرات العالمية (1) :
فأهم المؤتمرات التي عقدت عالمياً لحق المؤلف هي :
__________
(1) مجلة عالم الكتب ، العدد الرابع ربيع الثاني عام 1402 هـ وكتاب الحقوق على
المصنفات لأبي اليزيد ص / 9 .

(2/115)


1- مؤتمر برن بسويسرا في 9 سبتمبر عام 1886 م ، وبلغ عدد الدول
الأطراف الممثلة فيه (73) دولة كلها غربية سوى : تونس ، والجزائر
والمغرب ، ولبنان ، والهند . وهي أول اتفاقية دولية لحماية المصنفات الأدبية
والفنية . وتقع في (38) مادة مع ملاحق لها .
2- مؤتمر باريس عام 1896 م .
3- مؤتمر برلين عام 1908 م .
4- مؤتمر روما عام 1928 م .
م- مؤتمر بروكسل في بلجيكا في 26 يونيو عام 1948 م .
6- مؤتمر اليونسكو عقد في صيف عام 1952 م .
7- الاتفاقية العربية لحماية حق المؤلف ، وعقد لها مؤتمر الوزراء
المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي وذلك في بغداد شهر
محرم عام 1402 هـ وتتكون هذه الاتفاقية من (33) مادة .
8- المنظمة العالمية للملكية الفردية التي يشار إليها باللغة العربية
بلفظ موجز هو (الويبو) ويرجع تاريخها إلى عام 1883 م وهي إحدى
الوكالات المتخصصة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة . وقد انضمت المملكة
العربية السعودية إلى العضوية في هذه المنظمة .
ثانياً : القوانين الغربية المحلية (1) :
يحرر بعض الكاتبين أن أول مشروع قانون لحقوق التأليف صدر عن
__________
(1) مجلة عالم الكتب ص / 962 - 964 مقال بعنوان : ألف باء / حقوق التأليف عن
كتاب باللغة الإنجليزية .

(2/116)


مجلس العموم في بريطانيا عام 1709 م ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية
عام 1789 م وفي فرنسا عام 1791 م .
ثالثاً : القوانين العربية المحلية (1) :
حصل بالتتبع أن أقدمها هو :
1- قانون حق التأليف العثماني الصادر عام 1326 هـ /1910 م . ونشر
مترجماً في مجلة القضاء التي تصدرها نقابة المحامين في بغداد في
العددين (1 ، 2) عام 1948 م ويقع في (42) مادة وهو منشور بنصه في
مجلة عالم الكتب ص / 657 - 658 .
2- القانون المغربي الصادر عام 1916 م .
ثم تتابعت الدول العربية من مصر عام 1954 م وليبيا عام 1968 م
والعراق عام 1971 م بعد إلغاء القانون العثماني . والسودان عام 1974 م .
وهذه القوانين متشابهة . ونقطة انطلاقها من القانون المصري الذي استمده
من القانون الفرنسي .
رابعاً : المؤلفات القانونية الفردية :
التأليف في هذا المجال قد بلغ حد الكثرة سواء كان التتبع في
مجموعات النظم أم الأفراد بالتأليف حتى صارت مجالاً فسيحاً للأطروحات
العلمية في كليات الحقوق . ومن المناسب الإشارة إلى بعض منها :
1- الحقوق على المصنفات الأدبية والفنية والعلمية لأبي يزيد علي
__________
(1) حقوق المؤلف المعنوية في القانون الوافي ص / 9 للقلاوي ومجلة عالم الكتب
ص / 645 - 650 .

(2/117)


المتيت ط / أولى عام 1967 م نشر منشأة المعارف بالإسكندرية .
2- حقوق المؤلف المعنوية في القانون العراقي - سهيل القلاوي -
طبع جمهورية العراق عام 1978 م .
3- حقوق الإنتاج الذهني : أحمد سويلم العمري - طبع دار الكتاب
العربي بمصر عام 1387 هـ .
4- حق المؤلف في القانون المصري : محمد فرج الصده - نشر معهد
البحوث والدراسات العربية بالقاهرة عام 1956 م .
5- الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري . حق الملكية .
المجلد 8 / 282 - 461 .
6- الحق الأدبي للمؤلف . النظرية العامة وتطبيقاتها - عبد الرشيد
مأمون شديد ط / القاهرة دار النهضة العربية يقع في (629) صفحة .
ومن هذا العرض يتبين لنا أن تاريخ حقوق التأليف في العصر الحديث
على الصعيد الغربي عرف منذ قرنين من الزمان تقريباً .
وهذه النظم العربية والغربية وإن كانت متفقة في الأصل على ضرورة
الحماية لحقوق المؤلفين لصالحهم ولصالح الأمة أيضاً إلا أنها تختلف من
بلد لآخر في بعض جزئيات النظام ومواده ، وهذا الاختلاف تفرضه السلطة
القضائية التي تتبناها أي حكومة تُصْدِرُ نظاماً في هذا .
وهكذا شأن ما كان من عند غير الله يكون فيه الاختلاف . والله
المستعان .
خامساً : الجهود الفقهية الإسلامية في هذا المجال :
بعد طول الكشف تحصل ما يلي :

(2/118)


1- في مجلة عالم الكتب بالرياض :
وقد خصصت العدد الرابع من المجلد الثاني لعام 1402 هـ لموضوع
حق المؤلف واستكتبت عدداً من العلماء فنشرت فيه مجموعة مهمة من
الاتفاقيات والقوانين المحلية في بعض الدول العربية ومقالات تحمل
دراسات تاريخية وفقهية وهذه على ما يلي :
أ - الفارق بين المصنف والسارق للسيوطي " م سنة 911 هـ " تحقيق -
قاسم السامرائي ص / 741 - 752 .
ب - سرقات الكتب وانتحالها في العصور الإسلامية : محمد ماهر
حمادة ص / 707 - 712 .
ج - أمانة تحمّل العلم : عبد الفتاح الحلو ص / 703 - 706 .
وقد أحسن القائمون على تلك المجلة أيما إحسان في تخصيص هذا
العدد لهذا المبحث المهم .
2- كتاب حق الابتكار في الفقه الإسلامي - فتحي الدريني - طبع
مؤسسة الرسالة عام 1397 هـ .
ومعه خمسة أبحاث جوابية لبعض المعاصرين منهم : أبو الحسن
الندوي ، وعماد الدين خليل ، وعبد الحميد طهماز ، ووهبه الزحيلي .
وفي المقدمة (1) ذكر أن هذا الموضوع لم يتناوله أحد من متقدمي
الفقهاء بسطاً إلا ما عثر عليه من مقتضبات للقرافي في الفروق 1 / 208
__________
(1) ص / 7 .

(2/119)


وما يليها ثم في ص / 55 حتى ص / 80 عقد عنواناً باسم (منشأ شبهة
القرافي في طبيعة حق المؤلف والرد عليه) . فساق نص القرافي مختصراً
للمقصود منه مع إخلال في الاختصار ص / 55 ثم أخذ يناقشه في نحو من
ثلاثين صفحة .
وقد ذهب بعبارة القرافي إلى غير المراد منها وحملها على ما لا تحتمله
لا من قرب ولا من بعد ولذا ضرب وجوهاً من التعسف في تفسيرها وبيانها .
وفي واقع الأمر أن كلمة القرافي من بدائه العلم ، فقد علم سلفاً وخلفا أن
الأفكار (الاجتهادات) لا تملك وليست حقاً لمبتكرها وإلا فما فائدة التفكير
والاجتهاد والزراعة في ذلك والاستماع إليها . وهذا محل اتفاق بين أهل
الملل ففي القوانين الوضعية في الوقت الذي تحمي فيه حق المؤلف على
مؤلفاته تقول (إن حماية حقوق المؤلف لا تمنع أي شخص من استخدام
الأفكار التي وردت في المقالة من أجل ما هدفت إليه) فهي من الأمور
المعنوية المشاعة النفع ولهذا قرنها المؤلف بقوله (وأفعاله الدينية فهو دينه ،
لا يرث شيئاً من ذلك لأنه لم يرث مستنده وأصله) أي ليس في أمر مادي
محسوس كتأليف ، فالتأليف شيء والفكرة التي يحملها شيء آخر فالأول
يورث والثاني لا يورث ، ولهذا فإن القوانين التي تحمي حقوق المؤلفين
تحمي التعبير عن الفكرة في ذات المؤلف أما الفكرة نفسها فلا سبيل إلى
منع الاستفادة منها .
وقد حُكي الاتفاق على أن الحقوق الشخصية الخالصة أي التي ليست
بمال ولا تابعة للمال أنها لا تورث ولا تعتبر تركة للمورث وذلك كالوظيفة
والوكالة والولاية لأن هذه الحقوق تثبت لمعنى في صاحبها والمعاني لا
تورث .

(2/120)


3- حقوق التأليف والابتكار من وجهة نظر الفقه الإسلامي لعبد الله
العماري القاضي بدولة قطر . نشر في مجلة الدوحة عدد " 94 " لشهر ذي
الحجة عام 1403 هـ ص / 12 - 15 .
4- مقدمة الدستور الإسلامي لتقي الدين النبهاني . ذكر عرضاً خفيفاً
لهذه النازلة قرر فيه عدم مشروعية الاحتفاظ .
5- حكم الإسلام في حقوق التأليف والترجمة والتوزيع والنشر لأحمد
الحجي الكردي المدرس بجامعة دمشق . مقال نشر في ص / 58 - 64 من
مجلة هدي الإسلام المجلد 25 في العددين السابع والثامن عام
1401 هـ - الأردن .
6- حق التأليف في القوانين الوضعية المعاصرة وفي نظر الشرع
الإسلامي لصلاح الدين الناهي ، مقال نشر في ص / 37 - 57 من المجلة
المذكورة رد به على الأستاذ / الكردي المذكور وهذا المقال قد فاق جميع
من تقدم ذكره .
7- في كتاب المدخل لمصطفى الزرقا 213 - 222 ، إلمامة موجزة عنه .
8- وفي كتاب دراسات في الحديث النبوي للأعظمي ص / 379
كلمات تاريخية عنه .
9- وفي مجلة العربي عدد (148) لعام 1971 م مقال بعنوان : الكتاب
العربي في هذا العصر الحديث ص / 20 - 26 لأبي النجا رئيس مجلس
إدارة دار المعارف بالقاهرة .
10- وقبل هذه يوجد في كتب الشريعة الإسلامية نصوص وأبحاث

(2/121)


لتَقهّم التكييف الفقهي لهذه النازلة بفروعها من بيع الحق ووراثته وعقد
التوزيع والترجمة ونحو ذلك .. وبيانها في المبحث بعد هذا .
11- وجهة نظر حول الحكم الشرعي لحق التصنيف والتأليف لمحمد
برهان الدين السنبهلي من دار العلوم بالهند طبع في العدد الأول عام
1408 هـ من مجلة المجمع الفقهي بمكة - حرسها الله تعالى -
ص / 153 - 162 . ونشر قبل في مجلة البعث الإسلامي ص / 69 -80
عدد / 2 المجلد / 30 شوال عام 1405 هـ .
12- وفي كتاب : خلو الرجل للأستاذ مشهور حسن تعليق في هذا
ص / 29 - 32 . طبع دار الفيحاء / عمان عام 1407 هـ .
13- في (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم) للشيخ محمد تقي
عثماني 1 / 365 بحث في هذا .
14- ولوالده مفتي باكستان الشيخ محمد شفيع رحمه الله تعالى فتوى
باسم (ثمرات التقطيف من ثمرات الصنعة والتأليف) . وقد وصلت إلى
مصورتها مطبوعة باللغة الأردية فترجمها بعض إخواننا . ولندرتها أسوقها
مترجمة كما يلي :
السؤال :
1- يسجل المصنفون كتبهم لئلا ينشرها أحد غيرهم . هل هذا
التسجيل جائز شرعاً أم لا . ؟
2- ما حكم البيع والشراء لحق التصنيف والاختراع . ؟
الجواب :

(2/122)


لا يجوز المنع عن النشر والصنعة لمن يسجل تأليفه أو اختراعه لأن
منع أحد عن التصرف في الأمر المباح لا يخلو من وجهين :
أحدهما : أن يتم التصرف في ملك الآخر بلا إذنه .
والآخر : أن يؤدي هذا التصرف إلى إلحاق ضرر للفرد أو الجماعة .
والمسألة التي نحن بصدد بحث عنها تفقد هذين الوجهين لأن الناشر أو
الصانع لا يتصرف في ملك أحد بل يقوم بالكتابة وتوفير الأوراق ودفع أجرة
الطباعة من عنده . هذا وأن ما ينقل منه إما أن يشتريه أو يحصل عليه من
أي طريق مباح .
وأما حق التصنيف : فليس بمال . ولا يصلح أن يكون ملكاً لأحد بل
إن الحكومة الحاضرة كما أنها قررت أن يكون حقاً للأشياء الكثيرة التي
ليست بقابلة أن تكون حقاً . فهكذا قررت أن يكون هذا الشيء حقاً أي
حق التصنيف والاختراع (الإبداع) .
والوجه الثاني مفقود كذلك لأن الناشر لا يمنع المصنف ولا أحداً عن
النشر الذي هو سبب في إلحاق الضرر بل النشر يؤدي إلى حرمان المصنف
أو المبتكر من الغلاء ولا يضر الناس على منفعتهم الشخصية - فهذا ليس
بضرر بل تقليل للنفع والفرق ظاهر بين الضرر وتقليل النفع .
وقد صرح شمس الأئمة في المبسوط - كتاب السير والجهاد - بأنه لا
يجوز لأحد أن يكون سبباً في المضارة لأحد ، ولكن لو نقص ربح فرد فهذا
جائز . فلو كثر عدد المحلات التجارية في السوق وأدى ذلك إلى نقص
الربح أو عدمه لشخص معين فعندئذ لا يقال إن التجار الآخرين ألحقوا
به الضرر ، فلذا ليس من ثم مبرر عقلي أو نقلي على الحجر ومنع الناس

(2/123)


من شيء .
لعل منع المصنف أو المبتكر لأحد عن الطباعة والنشر إنما يحتمل
أن يقرر نسبة الربح أكثر من العادة أو ألا تكون المنافع التجارية إلا له
وأن لا يستفيد الآخرون من ربح هذه الصفقة التجارية وبهذا يتضرر الناس
فهذا يؤدي إلى الحجر عليه فضلاً عن أن يمنع الآخرين .
ولأن النفع الفردي الذي يكون سبباً لإضرار عامة الناس فالشرع لا
يبيحه ولهذا الأمر نظائر وشواهد كثيرة واردة في الأحاديث الصحيحة نحو
حديث الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : نهى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتلقى الركبان ، وأن يبيع حاضر لباد .
أي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع أن تشترى الحبوب في القرى والمزارع قبل
أن تصل إلى المدن وأن يكون رجل من أهل المدينة سمساراً في بيع
البضائع لأن في ذلك تبقى الحبوب في سيطرة شخص واحد أو بعض
أشخاص ، وهذا موجب لإرضاء عامة الناس لما حددوا من الأسعار وبهذا
يتم حرمان الناس من رخص الأسعار من قبل أهل القرى والبدو . وهذا
يؤدي إلى إلحاق ضرر للناس .
وحرفة السمسرة صارت سبباً مباشراً في غلاء الأسعار ولهذا ورد النهي
عن ذلك في الحديث المذكور . وكذلك ورد النهي عن الاحتكار في
الأحاديث الصحيحة . أي أن يتم شراء الحبوب واحتكارها حتى تباع عند
الغلاء . فهذا كذلك سبب مباشر في إلحاق الضرر لعامة الناس رغم أن
هذه التصرفات كلها تتم في ملك شخص معين ومع ذلك لم يبح له الشرع
ذلك ... فكيف يسمح ويتحمل أمر تسجيل حق الطبع والابتكار ما ليس
بملك له وأنه سبب ضرر للناس .

(2/124)


وهناك قاعدة وهي : (الضرر يزال) في كتاب الأشباه والنظائر حيث
اتخذه الفقهاء مستنبطاً من الكتاب والسنة . وذكرت فيه شواهدها الكثيرة .
فالحاصل أنه يتحمل أحياناً خسائر فردية لإزالة الضرر عن عامة
الناس . فعند الحاجة يحق للحاكم تسعير السلع اللازمة حتى لا يسمح
لأحد أن يبيع بسعر زائد على التسعيرة (الأشباه والنظائر) .
فلذا إزالة الضرر الذي يعم الجميع والذي لا يلحق به الضرر لأحد ،
بل ولا حرمان من النفع . قد يكون هناك تقليل في نسبة الربح وهذا أيضاً
موهوم فكيف تُبقي الشريعة الإسلامية مثل هذا الضرر الذي يعم الناس .
ولو أمعن النظر لتبين أن العالم في قلق واضطراب بحيث لا سكون
فيه لفقير ولا لغني وتظهر كل يوم آلاف من الطرق والوسائل المباحة وغير
المباحة لكسب الأموال . فسببه الكبير هو السيطرة من قبل الحكومات
الرأسمالية وأعوانها على طرق الكسب المباحة من قبل الشرع الإسلامي .
أو أن الحكومة تملك كل شيء وتجبر الناس على أداء الضرائب ، وأدى
ذلك إلى نشأة الصراع بين العمال والأغنياء الرأسماليين . وبدأ جنون
الرأسمالية الذي يخالف الفطرة (السليمة) وهذا صار سبباً لنشأة مصائب
كثيرة . ولا شك أن هذا الاضطراب لن يزول ولا يحصل للناس أمن عام
إذا لم يعتمد على نظام اقتصادي إسلامي سليم . وملاك هذا الأمر أن يتم
تحرير المصالح العامة والمنافع من سيطرة الأفراد ، ولا يسمح لأحد أن يرفع
نظره الطامع إلى أجزاء مشتركة المنافع في الكون نحو البحر وما فيه من
الخلق والجبال ومما ينبت فيها من الغابات والعيون الطبيعية بقدرة الله تبارك
وتعالى ، وما يتبعها من المنافع ينبغي تحريرها ، فلا يحفظ حق النشر
للمصنف أو المبتكر بل يتم إتاحة فرصة الانتفاع به لكل تاجر وهذا هو

(2/125)


النظام الاقتصادي السليم الذي يكفل الأمن للجميع .
وخلاصة الأمر أن حق التصنيف والابتكار ليس بشيء قابل أن يكون
ملكاً لأحد . فلو طبع أحد كتاباً أو نقله أو قلد صناعة بجهوده فالمنع عن
ذلك ليس بأمر مباح . بل هذا من حقه . فلا يخفى أن هذا المنع ظلم لا
ينبغي .
التنبيه :
1- وقد يتأول في ذلك بعض الناس بأن من مصلحة التسجيل حفظ
الكتاب عن الطباعة المحرفة والمشحونة بالأخطاء ، فبهذا يفوت الهدف
الأصيل الذي ألف الكتاب من أجله .
فالجواب : أنه يحق للمصنف في مثل هذه الحالة أن يرفع دعواه ضد
الطابع المحرف بأنه نسب إليّ شيئاً لم يصدر مني . فلذا يحكم عليه
بالمنع من الطبع والنشر ويجبر " ويكره " على أن يحتاط في العودة إلى مثل
ذلك .
فإذاً الحجر والمخالفة من الإشاعة مطلقاً ليس من حق أحد أن يفعله
شرعاً . والله أعلم .
2- لما ثبت أنه ليس من حق المصنف والمخترع أن يخصص
التصنيف أو الابتكار لنفسه فلا يجوز شرعاً بيع هذا الحق وشراؤه ويشترط
في المبتاع والمشترى أن يكون مالاً والحق المحض المجرد ليس بمال .
ولو من صلاحيته أن يكون وسيلة إلى كسب المال ...
والله سبحانه وتعالى أعلم .
انتهت الرسالة مترجمة

(2/126)


المبحث الثالث
التاريخ القديم لملكية التأليف (1)
ما تقدم في الفصل قبل أن يعطي إلمامة مختصرة للوقوف على تاريخ
الاحتفاظ بملكية الابتكار بوحدته الموضوعية المتكاملة .
لكن تبقى الإشارة بكل ثبات إلى أن أصول ذلك المبدأ وجذوره تمتد
في تاريخ الأمة الإسلامية إلى أعماق بعيدة وهي وإن لم تكن معروفة بهذا
الاصطلاح الشائع في العصر الراهن إلا أننا نستطيع تكييفها بعدة مظاهر
وهي وإن لم يكن لديهم ضوابط إجرائية لها وأخرى جزائية فمرد ذلك إلى
أنهم يحتكمون إلى شريعة الله في كل أمورهم وشؤونهم ويعالجون كل
قضية بعينها بحكم ما يحيط بها والأصل أن الوازع الديني كان يفرض
سلطانه على النفوس فكان أقوى من أي مشروع زجري آخر . وما حدا بأمم
الغرب إلى وضع قانون لذلك إلا انتشار آفة السرقة والسطو والانتحال
والاختلاق لأنها تفقد صمام الأمان : العقيدة القويمة في دين الإسلام
الخالد .
ونستطيع بمسلك التتبع والاستقراء تكييف التدليل على ذلك بالمظاهر
الآتية :
__________
(1) مجلة عالم الكتب . المدخل للزرقا 3 / 21 - 22 . دراسات في الحديث النبوي
للأعظمي ص / 379 .

(2/127)


أولاً : الأمانة العلمية :
وهذا يعني العناية الفائقة بموجبات الثقة لأمانة تحمل العلم المتمثلة
فيما يلي :
1- توثيق النصوص بالإسناد : وهذا يتجلى في تراث الإسلام العظيم
في كتب السنة والأثر ، الدائرة قبولاً ورداً على الإسناد الموثق بمعاييره
الدقيقة المدونة في علم مصطلح الحديث .
2- تخريج النص بمعنى نسبة القول إلى قائله وذكر المصادر المعتمد
عليها . ومن نظر في أيّ من كتب أهل الإسلام رأى معاناة الدقة في ذلك
حتى بلغ بعضهم أنه إذا نقل النص وفيه تصحيف أو تحريف نقله بذلك
ثم نوه عنه (كذا وجدته وهو تصحيف مثلاً صوابه كذا) .
ثانياً : طرق التحمل والأداء عند المحدثين .
منها الإجازة ، والمناولة ، والوجادة ... ونحوها . وهذه مبسوطة بحثاً في
كتب الاصطلاح ومن غريب ما يسطر هنا أن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله
تعالى لحظ في آخر الرسالة للشافعي رحمه الله تعالى وجود إجازة بخط
الناسخ وهو الربيع تلميذ الشافعي ولكنها ليست إجازة رواية كالمألوف في
الإجازات ولكنها إجازة النسخ ونصها : (أجاز الربيع بن سليمان صاحب
الشافعي نسخ كتاب الرسالة وهي ثلاثة أجزاء في ذي القعدة سنة خمس
وستين ومائتين وكتب الربيع بخطه) (1) اهـ .
ثالثاً : تحريم الكذب والتدليس :
__________
(1) بواسطة تحقيق النصوص ونشرها عبد السلام هارون ص / 36 .

(2/128)


ونصوص الكتاب والسنة وكتب سلف الأمة صريحة بتحريمه والتنديد
بالكاذب ولعنه وزجره ، ويروى في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " أترعون عن
ذكر الفاجر اذكروه بما فيه ليحذره الناس " .
وكم من كتاب ألف في الوضع والوضاعين والكذب والكذابين لكشفهم
وإسقاط حرمة أعراضهم بطرحهم من حساب مجتمعاتهم .
رابعاً : تحريم السرقة والانتحال : المعروف باسم " قرصنة الكتب " .
ومردّ هذا إلى قواعد الإسلام الكلية وأصوله التشريعية وجهود العلماء
في كشف غارات السارقين وعبث الورّاقين وأن هذا مسلك من لم يتحمل
أعباء العلم ولم يلجأ منه إلى ركن وثيق ، فأراد أن ينتج قبل أن ينضج ،
لكنه احترق ، لكشف العلماء لسرقته وانتحاله وسطوه واختلاقه .
والحديث عن هذا يفوق الحصر في عدد من فنون العلم :
فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام (المتوفى سنة 238 هـ) يحذر من
انتحال الشعر في مقدمة كتابه : (طبقات فحول الشعراء) .
وقد ألفت كتب في كشف السرقات في مختلف الفنون منها ما يلي :
في مجال الشعر : الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني (المتوفى
سنة 392 هـ) وكتاب الصناعتين للعسكري (المتوفى سنة 395 هـ) والإبانة
عن سرقات المتنبي للعميدي (م سنة 433 هـ) والحجة في سرقات ابن
حجة للنواجي (المتوفى سنة 859 هـ) .
وكتاب سرقات البحتري من أبي تمام (1) .
__________
(1) معجم الأدباء لياقوت 7 / 74 .

(2/129)


وكتاب السرقات الكبير (1) .
وكتاب السرقات (2) .
وكتاب السل والسرقة (3) .
وكتاب سرقات الكتب من القرآن لابن كناسة (4) .
وفي المجالات الأخرى : كتاب معين الحكام مستل من تبصرة الحكام
لابن فرحون .
وكُتُبُ الشمس ابن طولون استلها من كتب السيوطي وقد ألف بعض
المعاصرين رسالة في ذلك باسم : الفلك المشحون .
وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (5) مقطع لطيف في مبحث الحيل
المحرمة من كتابه أعلام الموقعين إذ يقول رحمه الله تعالى : (وكحيل
اللصوص والسراق على أخذ أموال الناس وهم أنواع لا تحصى فمنهم
السراق بأيديهم ومنهم السراق بأقلامهم ومنهم السراق بأمانتهم ، ومنهم
السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن
بخلافه ، ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم ونمشهم ، وبالجملة فحيل هذا
الضرب من الناس من أكثر الحيل) اهـ . إلى غير ذلك مما هو موضح ومبين
في مؤلفات العلماء وأبحاثهم ولَدَيَّ كتاب في ذلك باسم (المؤلفات
__________
(1) معجم الأدباء لياقوت 7 / 74 - 75 .
(2) معجم الأدباء لياقوت 7 / 191 - 192 .
(3) معجم الأدباء لياقوت 7 / 264 - 265 .
(4) السير للذهبي 9 / 509 .
(5) أعلام الموقعين 3 / 344 .

(2/130)


المنحولة) جمعت فيه طائفة كبيرة على حروف المعجم يسر الله إتمامه
وطبعه .
ومن أراد الوقوف على بعض الأبحاث في هذا فلينظر بعض المقالات
المسطرة في مجلة (عالم الكتب) العدد الرابع لعام 1402 هـ ففيها مقالان
مهمان :
أحدهما : للأستاذ / عبد الستار الحلوجي .
والثاني : للأستاذ / محمد ماهر حمادة .
وفيها نشر الأستاذ / قاسم السمرائي رسالة السيوطي باسم : (الفارق
بين المصنف والسارق) وقد نال اهتمام الكاتبين في شتى المجالات
العلمية الشرعية وعلوم الآلة وغيرها . ولها ألقاب متعددة عندهم منها ما ذكره
ابن الأثير في (كفاية الطالب) (1) استخلصها من (حلية المحاضرة) للحاتمي
وهي : السرقة ، والنظر ، والملاحظة ، والإلمام ، والتغاير ، والاختلاس ،
والاصطراف ، والإغارة ، والغصب ، والالتقاط ، والتلفيق ، والتوليد ، ...
وغيرها . مما شرح معانيها في مجال الشعر وسطو الشعراء .. والله أعلم .
لطيفة : ومن لطيف الاستطراد في ذلك أن أحد الشعراء من السودانيين
النزلاء المقيمين في جدة أنشد قصيدة له أعدها لحفل سيقام . وبينما هو
يتغنى بها ليثقف أوزانها ويهذب ألفاظها ، وإذا بأحد المجاورين له يسمعه
ويكتب على حين غفلة منه حتى استوعبها كتابة فسجل اسمه في الحفل
وسعى حتى قدمت قصيدته في البرنامج فلما ألقاها أصيب أخونا السوداني
بالذهول فاعتذر عن إلقائها ..
__________
(1) ص / 109 - 127 .

(2/131)


تنبيه : في ترجمة محمد بن إسحق (1) قال أبو داود سمعت أحمد يقول :
(كان ابن اسحق يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس ويضعها في
كتبه . قلت : هذا الفعل سائغ فهذا الصحيح للبخاري فيه تعليق كثير) اهـ .
خامساً : التخليد " الإيداع " :
الإيداع (2) يعني : (وضع نسخة من المصنف في المكتبات العامة أو
دور المحفوظات للاحتفاظ بمجموعة منه أو الاحتفاظ به كإثبات لنسبة
المصنف إلى مؤلفه ونشر المصنف بالفعل أو تاريخ نشره) .
ويجوز أحياناً إيداع نسخ عن جميع المنشورات كشرط للتمتع بحقوق
تأليف المصنف .. وبناء على اتفاقية (برن) يجب أن يكون التمتع بحق
المؤلف وممارسة هذا الحق غير مشروطين بالإيداع ، نظراً إلى أن الإيداع
ليس إلا مجرد إجراء شكلي . وتعفي الدول الأطراف في الاتفاقية العالمية
لحقوق المؤلف بالمثل من ضرورة الإيداع كأحد شروط حق المؤلف .
ويشير الأستاذ / محمد ماهر حمادة بسبق المسلمين إلى ذلك فقال في
خاتمة بحثه (3) : (لا نحب أن نختم بحثنا هذا دون التوقف لحظة عند
الإيداع القانوني الذي افتتحنا مقالنا هذا به وأهميته في حسن ضبط عملية
التأليف ، وحفظ المؤلفين ، وقطع دابر السرقة والتزوير ، وإغناء مكتبات
الدول الوطنية بالمؤلفات التي يؤلفها أبناء تلك البلاد ، ذلك أن البلاد
الإسلامية كما هو معلوم شهدت إبان ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون
__________
(1) السير للذهبي 7 / 46 .
(2) مجلة عالم الكتب ص / 589 - 590 ، 650 ، 707 - 708 ، 711 .
(3) مجلة عالم الكتب ص / 711 عدد / 4 عام 1402 هـ .

(2/132)


الأولى التي سبقت سقوط بغداد بيد المغول سنة 656 هـ حركة تأليف رائعة
عزّ نظيرها في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ، وليس هنا المجال للكلام
عن مثل هذه الأمور ، ولكنا نحب أن ننوه أن المسلمين آنذاك عرفوا نظاماً
يشبه نظام الإيداع القانوني المعروف الآن . وإن كنا نجهل الكثير عن
طبيعته والضمانات التي يقدمها وحقوق المؤلفين وطرق حمايتهم . فهذه
الأمور كثيرة بحاجة إلى من يبحثها ويجلي غوامضها ، ولعل فيما نكتبه
حافزاً للبعض لطرق هذا الموضوع المهم الغامض الشائك .
فقد عرف المسلمون كما قلنا نظاماً يشبه الإيداع القانوني وأسموه
(التخليد) فقد ازدهرت مكتبة دار العلم التي بناها ببغداد سنة 382 هـ
الوزير البويهي : سابور بن أردشير ازدهاراً رائعاً وطار صيتها في الآفاق
وارتفعت سمعتها حتى قصدها الأدباء والعلماء والشعراء من كل مكان
وضربوا إليها آباط الإبل . ويعتبر أبو العلاء المعري الشاعر المشهور أشهر
من قصد بغداد بخاصة لزيارة دار العلم هذه والتعرف على محتوياتها وعلى
الأدباء والعلماء الذين كانوا يرتادونها ويرِدُ ذكرها في مؤلفاته . وقد كان يسر
المؤلف - أي مؤلف كان - أن تقبل هذه الدار نسخة من كتابه كهدية وهذا
هو ما نسميه نحن بالإيداع وكانوا يسمونه (التخليد) .
يذكر ياقوت أثناء حديثه عن أحمد بن علي بن خيران الكاتب
أنه .... سلم إلى أبي منصور بن الشيرازي رسول ابن النجار إلى مصر
من بغداد جزئين من شعره ورسائله واستصحبهما إلى بغداد ليعرضهما على
الشريف المرتضى أبي القاسم - المشرف على مكتبة دار العلم في بغداد
آنذاك ... وغيره ممن يأنس به من رؤساء البلد ، ويستشير في تخليدها دار
العلم لينفذ بقية الديوان والرسائل ، إن علم أن ما أنفذه منها قد ارتضي
واستجيد) .

(2/133)


سادساً : الجزاءات :
لم يحصل الوقوف على عقوبة في قضية عينية إلا أن تقعيد العلماء
لمنع الانتحال وكشفهم قطاع الطريق في ذلك وأن قاعدة التشريع أن ما لا
حد فيه فجزاؤه أمر تعزيري يقدر لكل حالة بقدرها ، وإن من العقوبات
التعزيرية التشهير والنقض بالمثل فنستطيع أن نكيف في ضوء ذلك أنهم
يرون الاكتفاء بالتشهير بالمنتحل والنقض عليه بالمثل وهذا وحده كاف في
الاحتفاظ بالحق الأدبي لحقوق المؤلف إذ أن التأليف في ذلك الوقت لم
يكن تسويقه وانتشاره عن طريق المطابع التي تخرج آلاف النسخ بل كان
الكتاب يخرج منه نسخ معدودة والعلم للجميع وكانت تسجل عليه
الانتقالات للملكية ... والله أعلم .
سابعاً : الاستنساخ :
وقد تقدم في فاتحة البحث الأول في " تاريخ الطباعة " ولزيادة الفائدة
تنظر البحوث المعاصرة الآتية :
1- الوراقة والوراقون : لحبيب الزيات في مجلة المشرق المجلد / 41
ص / 305 .
2- الكاغد والورق : لكوركيس عواد . مجلة المجمع العلمي بدمشق
المجلد / 23 ص / 409 .
3- الورق والوراقون في الحضارة الإسلامية : مجلة المجمع العلمي
العراقي المجلد / 12 ص / 82 لعام 1965 م .
4- الوراقة والوراقون : مجلة رسالة المكتبة العدد الأول ص / 10 - 12 .

(2/134)


5 - تحقيق مخطوطات العلوم الشرعية : محي هلال سرحان
ص / 200 - 202 بعنوان الوراقة والنَّساخة .
ثامناً : بيعها :
وهذا بيعها من غير نكير في عامة ديار الإسلام وعلى تطاول الأزمان
ويقرره الفقهاء في البيوع وغيرها كما في مبحثي الاستطاعة وطواف الوداع
من كتاب الحج . وكم رأينا أن فلاناً كان دلاّلاً للكتب .
وفي السير للذهبي جمل وافرة من أخبار التعامل بها بيعاً وشراء فمنها :
أن عبد الله بن المبارك العكبري (م سنة 528 هـ) باع ملكاً له واشترى
كتاب الفنون وكتاب الفصول لابن عقيل ، ووقفها على المسلمين (1) .
وإسماعيل بن أحمد السمرقندي (م سنة 536 هـ) كان له بخت في
بيع الكتب باع مرة الصحيحين بعشرين ديناراً (2) .
وأبو المعالي الكتبي (م سنة 568 هـ) كان دلاّل الكتب في بغداد (3) .
وهذه كتب قاضي الجماعة القرطبي (م سنة 402 هـ) بيعت كتبه
بأربعين ألف دينار (4) .
وابن الملقن (م سنة 804 هـ) قال ابن الحجر (5) : (وكان يقتني
__________
(1) المنتظم 10 / 39 .
(2) السير للذهبي 20 / 30 .
(3) المنتظم 10 / 241 .
(4) العبر 3 / 78 . (5) إنباء الغمر 5 / 42 .

(2/135)


الكتب ، بلغني أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب شخص من المحدثين
فكان وصيّه لا يبيع إلا بالنقد الحاضر ، قال : فتوجهت إلى منزلي فأخذت
كيساً من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته فصرت لا أزيد في الكتاب شيئاً
إلا فالربع له ، فكان فيها اشتريت مسند الإمام أحمد بثلاثين درهماً) اهـ .
وابن جماعة (م سنة 790 هـ) ذكر ابن حجر عنه في شراء الكتب
عجباً (1) .
والإمام ابن فارس (م سنة 395 هـ) رحمه الله تعالى كان يصنف كل
ليلة جمعة كتاباً ويبيعه يوم الجمعة قبل الصلاة وتصدق بثمنه وكان هذا
دأبه (2) .
الحافظ البارع عبد الله بن محمد البغدادي كان وراقاً يورق على جده
وعمه وغيرهما وكان يبيع أصل نفسه كل وقت (3) .
والقيرواني حماس بن مروان الزاهد (م سنة 404 هـ) .
قال أبو زيد في (معالم الإيمان) (4) أنه قال لورثته : (بيعوا من كتبي ما
تكفنوني به) .
المرسي محمد بن عبد الله الأندلسي ترجمه الذهبي . وذكر غرامه
بالكتب وأن السلطان رسم ببيعها فبيعت في نحو من سنة وأحرزت ثمناً
عظيماً (5) .
__________
(1) إنباء الغمر 5 / 42 .
(2) طبقات ابن الصلاح 73 / أ بواسطة مقدمة تحقيق كتاب : الجمل 1 / 14 .
(3) تذكرة الحفاظ 2 / 738 .
(4) 2 / 323 . (5) السير 23 / 313 .

(2/136)


وفي أيام المستنصر بالله (م سنة 640 هـ) بيعت الكتب بأغلى الأثمان
لرغبته فيها ولوقفها (1) .
والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن الأشرف (م سنة 596 هـ) اقتنى من
الكتب نحواً من مائة ألف كتاب قال ابن كثير : هذا شيء لم يفرح به أحد
من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك (2) .
وهذه مكتبة ابن قيم الجوزية (م سنة 761 هـ) صار أولاده بعده يبيعونها
زمناً طويلاً .. واشترى ابن السكيت مكتبة أبي حاتم السجستاني النحوي
(م سنة 250 هـ) بأقل مما قوّمت به وهو : أربعة عشر ألف دينار (3) .
وكانت كتب ابن منده الحافظ (م سنة 395 هـ) أربعين حملاً من
الجمال (4) .
وكان ابن حمدون الكاتب من المحبين للكتب وحصل من أصولها ما
لم يحصل لغيره ثم أصابته فاقة فكان يخرجها فيبيعها وعيناه تذرفان
بالدموع (5) .
واشترى الشريف المرتضى من القالي الإمام النحوي كتاب الجمهرة
لابن دريد بستين ديناراً فإذا عليها للقالي (6) .
__________
(1) السير 23 / 157 .
(2) تاريخ ابن كثير 13 / 24 .
(3) الشذرات 2 / 121 .
(4) الشذرات 3 / 146 .
(5) معجم الأدباء 9 / 186 .
(6) السير 18 / 55 .

(2/137)


أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شؤوني
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين
وكان يحيى بن أبي طي الحلبي المعاصر لياقوت الحموي وقال عنه :
(كان يدّعي العلم والأدب والفقه والأصول على مذهب الإمامية وجعل
التأليف حانوته ومنه قوته ومكسبه) (1) اهـ .
ومحمد بن إبراهيم الشيرازي (م سنة 474 هـ) كان له حانوت ببغداد
يبيع الكتب (2) .
تاسعاً : وقفيتها :
وهذا مما اعتنى الفقهاء بتقريره في كتاب الوقف من كتب الفقه . وكم
رأينا على طررها والتسجيل لوقفيتها وفي كتب السير أخباراً كثاراً عن وقفيتها
من الخلفاء والسلاطين والعلماء وسائر طبقات الناس منها :
دار العلم : وقفها سابور عام 381 هـ وفيها عشرة آلاف مجلد (3) .
خزانة الكتب : في فيروز آباد وقفها الوزير بهرام سنة 433 هـ (4) .
والخطيب البغدادي (م سنة 463 هـ) وقف كتبه على المسلمين
__________
(1) لسان الميزان 5 / 263 .
(2) لسان الميزان 5 / 26 .
(3) المنتظم 8 / 22 .
(4) المنتظم 8 / 111 ، وتاريخ ابن كثير 12 / 54 .

(2/138)


وسلمها إلى الفضل (1) .
ودار غرس النعمة في بغداد وقفها الصابي محمد بن هلال الملقب
بغرس النعمة (م سنة 480 هـ) فيها نحو أربعمائة مجلد . وخبرها مطول في
المنتظم .
وخزانة الكتب بمرو لعبد الله بن أحمد البزاز (م سنة 539 هـ) اشترى
كتباً كثيرة ووقفها على أهل الحديث (2) .
خزائن المستنصر بالله صاحب الأندلس (م سنة 366 هـ) كان مشغوفاً
بالكتب حتى ضاقت خزائنه عنها (3) .
والتقي الفاسي (م سنة 869 هـ) وقف كتبه واشترط عدم إعارتها
لمكي (4) .
مقصورة ابن سنان لزيد بن الحسن الكندي الحنبلي ثم الحنفي (م
سنة 613 هـ) ذكر ابن كثير أنه وقف كتبه وهي سبعمائة وواحد وستون
مجلداً فجعلت في المقصورة المذكورة .. إلخ (5) .
ومكتبة أبي شامة (م سنة 665 هـ) وقف كتبه بخزانة العادلية (6) .
__________
(1) المنتظم 8 / 269 .
(2) المنتظم 10 / 113 .
(3) العبر 2 / 341 .
(4) الضوء اللامع 7 / 19 .
(5) تاريخ ابن كثير 13 / 70 .
(6) الشذرات 5 / 319 .

(2/139)


وابن أبي حاتم وقف تصانيفه (1) .
عاشراً : الوصية بها :
ومنها جريان الوصية بها . وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين
إلا ووصيته مكتوبة عنده " [ متفق عليه ] وفي رواية عند أحمد : وله ما يوصي
فيه . وفي مستخرج الإسماعيلي : له مال . قال الحافظ بن حجر بعد سياقها
في (الفتح 5 / 357) [ فرواية (شيء) أشمل لأنها تعم ما يتمول وما لا
يتمول كالمختصات ] اهـ . وقال أيضاً 5 / 360 : [ واستدل بقوله (له شيء) أو
له (مال) على صحة الوصية بالمنافع وهو قول الجمهور ، ومنعه ابن أبي
ليلى وابن شبرمة ، وداود ، واختاره ابن عبد البر ] اهـ .
الحادي عشر : إعارتها :
في تفسير قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ القِيَامَةِ } الآية 161 من سورة آل عمران قال القرطبي (2) [ ومن الغلول
حبس الكتب عن أصحابها ويدخل غيرها في معناها . قال الزهري : إياك
وغلول الكتب فقيل له : وما غلول الكتب قال : حبسها عن أصحابها ] اهـ .
والمؤلفون الجامعون في الاصطلاح وآداب الرواية يعقدون البحث
لإعارة الكتب كما في الجامع للخطيب . وفيه أسند الخطيب كلمة الزهري
المذكورة (3) .
__________
(1) السير 13 / 265 .
(2) تفسير القرطبي 4 / 262 .
(3) الجامع للخطيب 1 / 240 -247 .

(2/140)


وذكر آثاراً كثاراً في تأثيم السلف لمن استعار كتاباً ولم يرده على من
أعاره إياه . كما ذكر جملة من الآثار في امتناع أقوام من الإعارة خشية الآفة
عليها . وأن بعضهم ما كان يعير كتابه إلا بعد توثقته برهن .
الثاني عشر : المصحف :
للفقهاء أبحاث مهمة في حكام بيعه ورهنه والمبادلة به ، وفي ذلك
روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه الجواز والمنع ، كما في : المغني (1)
وكتاب الروايتين لأبي يعلى (2) وفيه قال : (وكثير من الفقهاء يجيز بيعه)
وانظر : شرح المحلى للمنهاج في الفقه الشافعي (3) وفي حكام إجارته
وجهان عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى كما في المغني (4) .
وفي حكم إرث المصحف تنظر : حاشية ابن عابدين (5) .
وبحثاً جامعاً في (الرسالة المفصلة في أحوال المتعلمين)
للقابسي . (6)
الثالث عشر :
وفي إجازة الكتاب يقررون الجواز كما في : المبسوط
للسرخسي (7) . وروضة القضاة للسمناني (8) .
الرابع عشر : الأجرة على التحديث :
في كتب الاصطلاح وآداب الرواية يذكر المؤلفون الجامعون منهم
__________
(1) المغني 4 / 263 . (2) الروايتين 2 / 371 - 372 .
(3) 2 / 157 . (4) المغني 5 / 504 .
(5) 5 / 486 . (6) ص / 96 - 125 .
(7) 16 / 36 . (8) 2 / 438 .

(2/141)


حكم أخذ الأجرة على التحديث كما في :
علوم الحديث لابن الصلاح ص / 107 .
والكفاية للخطيب البغدادي ص / 241 .
والجامع له 1 / 356 - 358 .
وفتح المغيث للسخاوي وفي غيرها كثير ...
ومحصّل كلامهم جريان الخلف فيها عند السلف على أقوال ثلاثة :
1- الجواز والترخص ، وبه قال أبو نعيم الفضل بن دكين ، وعلي بن
عبد العزيز المكي ، وغيرهما ، ورجحه السخاوي في فتح المغيث .
2- المنع : وبه قال اسحق ، وأحمد ، وابن أبي حاتم وغيرهم ....
3- الكراهة في حق الموسر . وهذه هي نقطة الدفاع عن تضعيف
الراوي بأخذ الأجرة على التحديث . وممن كان يأخذ الأجرة على التحديث
من الرواة :
أ - علي بن عبد العزيز البغوي (1) كما في التقييد لابن نقطة (2) .
ب - الحارث بن أبي أسامة (3) .
ج - أبو القاسم عد الله بن محمد البغوي (4) .
__________
(1) الميزان 3 / 143 .
(2) 2 / 198 - 199 .
(3) الميزان 1 / 442 والسير 13 / 389 .
(4) اللسان 3 / 341 .

(2/142)


د - أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني (1) .
هـ - الحسن بن سفيان .
و - ابن الأعرابي (2) .
ز - هاشم بن عمار (3) .
ح - عبد الله بن وهب المصري (م سنة 197) قال الذهبي بعد أن أثنى
عليه وذكر قدره وجلالته : [ وقد تمعقل بعض الأئمة على ابن وهب في أخذه
للحديث وأنه كان يترخص في الأخذ ، وسواء ترخص ورأى ذلك سائغاً أو
تستر فمن يروي مائة ألف حديث ويندر المنكر في سعة ما روى فإليه
المنتهى في الإتقان ] اهـ .
ط - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو ابن أخي عبد الله بن وهب . ففي
السير (4) للذهبي قال رحمه الله تعالى :
قال خالد بن سعد الأندلسي : سمعت سعيد بن عثمان الأعناقي ،
وسعد بن معاذ ، ومحمد بن فطيس يحسنون الثناء على أحمد بن أخي ابن
وهب ، ويوثِّقونه ، قال الأعناقي : قدمنا مصر ، فوجدنا يونس أمره صعباً ،
ووجدنا أحمد أسهل ، فجمعنا له دنانير ، وأعطيناه ، وقرأنا عليه " موطأ " عمه
وجامعه . وسمعت ابن فطيس يقول : فصار في نفسي ، فأردت أن أسأل
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، فقلت : أصلحك الله ، العالم يأخذ
__________
(1) السير 13 / 537 .
(2) اللسان 1 / 309 .
(3) الميزان 4 / 302 .
(4) السير 12 / 325 .

(2/143)


على قراءة العلم ، فشعر فيما ظهر لي أني إنما سألته عن ابن أخي ابن
وهب ، فقال لي : جائز ، عافاك الله ، حلال أن لا أقرأ لك ورقة إلا بدرهم
ومن أخذني أن أقعد معه طول النهار وأترك ما يلزمني من أسبابي ونفقة
عيالي .
هذا الذي قاله ابن عبد الحكم متوجه في حق متسبب يفوته الكسب
والاحتراف لتعوقه بالرواية . وقال علي بن بيان الرزاز الذي تفرد بجزء ابن
عرفة بعلو ، وكان يطلب على تسميعه ديناراً : أنتم إنما تطلبون مني العلو
وألا فاسمعوا الجز من أصحابي ففي الدرب جماعة سمعوه مني ، فإن كان
الشيخ عسيراً ثقيلاً لا شغل له وهو غني فلا يعطى شيئاً ... والله الموفق .
ي - عبد الله بن حسان التميمي : كان فيما زعموا إذا قعد احتوشه
الناس فيحدثهم حديثاً بعشرة ثم بخمسة ثم بدرهمين ثم بدرهم ثم بأربعة
دوانق ثم بثلاثة ثم بدانقين (1) .
ك - أبو عمر الحوضي .
ل - وكان شيخ القراء القلانسي (م سنة 521 هـ) يأخذ الذهب على
إقراء العشرة (2) .
م - وأبو النعيم الفضل بن دكين ، في بيان يطول سياقه فلينظر (3) .
ن - والدارقطني في قصة ساقها الذهبي في ترجمته من السير (4) .
__________
(1) تهذيب التهذيب 5 / 186 .
(2) السير 10 / 152 .
(3) السير 16 / 456 .
(4) لسان الميزان 5 / 11 .

(2/144)


س - والمبارك بن كامل الخفاف البغدادي (م سنة 543 هـ) قال ابن
الجوزي (1) : (لو قيل إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ لما رد القائل إلا أنه
كان قليل التحقيق فيما ينقل من السماعات مجازفة لكونه يأخذ على ذلك
ثمناً وكان فقيراً كثير التزوج والأولاد) .
ش - محمد بن سفيان الأسنوي (م سنة 331 هـ) كان يأخذ على
السماع أجراً .
وفي كل واحد من الأقوال المذكورة يذكرون قصصاً وحكايات يؤيد بها
كل مذهبه .
وقد قال السخاوي في فتح المغيث (2) الدليل المطلق للجواز القياس
على القرآن فقد جوز أخذ الأجرة على تعليمه الجمهور ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الحديث الصحيح : " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " اهـ .
الخامس عشر : الجوائز على التأليف :
وأما خبر الجوائز على التأليف وقبول العلماء لذلك من غير نكير فأمر
يضيق عنه الحصر ، وينظر على سبيل المثال :
1- شرح سيبويه لابن خروف (م سنة 606 هـ) قدمه إلى صاحب
المغرب فأعطاه ألف دينار (3) .
2- غريب القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (4) .
__________
(1) لسان الميزان 5 / 180 .
(2) 1 / 326 .
(3) تاريخ ابن كثير 13 / 52 . (4) معجم الأدباء 6 / 255 .

(2/145)


3- الأغاني لأبي الفرج (1) .
4- الحيوان للجاحظ (2) .
5- الإصعاد إلى الاجتهاد للفيروز آبادي (3) .
السادس عشر : كوائن تاريخية حول المؤلفات :
يذكر نقلة السير جملة وقائع في هذا منها :
1- كائنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقد تقدمت .
2- كائنة الإمام اللغوي ابن فارس رحمه الله تعالى وقد تقدمت .
3- كائنة عبد الصمد السليطي (4) (م سنة 482 هـ) إذ اشترى كتباً كانت
نهباً فقال مسعود بن ناصر السجزي : أشهد أن كل كتاب بغدادي عند عبد
الصمد السليطي كلها غارة ونهب من نهب نوبة البساسيري ببغداد لا ينتفع
بها دنيا ولا دين . اهـ .
[ كيف بحال الذين ينهبون حقوق المؤلفين ] .
4- كائنة أسد بن الفرات في مدونته الأسدية كما في معالم الإيمان
وهي بأبسط في رياض النفوس . وفيها (5) :
__________
(1) معجم الأدباء 13 / 97 - 98 .
(2) معجم الأدباء 16 / 106 .
(3) فهرس الفهارس 2 / 909 وهو مهم .
(4) السير 19 / 90 .
(5) 1 / 261 - 262 .

(2/146)


(لما عزم على الرحيل إلى أفريقيا قام عليه أهل مصر فسألوه في كتبه
أن ينسخوها فأبى عليهم فقدموه إلى القاضي بمصر فقال لهم القاضي :
وأي سبيل لكم عليه ، رجل سأل رجلاً فأجابه وهو بين أظهركم فاسألوه كما
سأله ، فرغبوا إلى القاضي في سؤاله أن يقضي حاجتهم فسأله القاضي
فأجابه إلى ذلك فنسخوها حتى فرغوا منها) اهـ . فهذا حكم قضائي بالحق
للمؤلف لكن سحنوناً - لمكارم أخلاقه - قَبِل شفاعة القاضي .
5- كائنة السيوطي مع القسطلاني (م سنة 723 هـ) كما في : الشذرات
قال (5) : (ويحكى أن الحافظ السيوطي (م سنة 911 هـ) كان يحط منه
ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها ، ولا ينسب النقل إليها ، وأنه ادعى
عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدعاه فعدد مواضع
قال : إنه نقل فيها عن البيهقي وقال : إن للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر في
أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي ، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك عن
البيهقي ، فنقله برمته ، وكان الواجب عليه أن يقول : نقل السيوطي عن
البيهقي .
وحكى الشيخ جار الله بن فهد : أن الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالة
ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب
السيوطي ودق الباب فقال له : من أنت ؟ فقال : أنا القسطلاني جئت إليك
حافياً مكشوف الرأس ليطب خاطرك عليّ ، فقال له : قد طاب خاطري
عليك . ولم يفتح له الباب ولم يقابله اهـ .
6- ومنها : كائنة الفراء مع الوراقين في كتابه : معاني القرآن كما في
__________
(1) الشذرات 8 / 122 - 123 .

(2/147)


تاريخ بغداد ، وغير ذلك (1) : أنه لما فرغ من كتاب المعاني أخفاه الوراقون
عن الناس ليكسبوا به فقالوا : لا نخرجه إلا لمن أراد أن ننسخه له على
خمس أوراق بدرهم فشكى الناس إلى الفراء فدعا الوراقين فقال لهم
ذلك ، قالوا : إنما صحبناك لننتفع بك وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من
الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب ، فدعنا نعِشْ منه ، قال : فقاربوهم تنتفعوا
وينفعوا فأبوا عليه فقال : سأريكم ، وقال للناس : إنني مملٍ كتاب معان
أتم شرحاً وأبسط قولاً من الذي أمليت ، فجلس يُملي فأملى الحمد في
مائة ورقة فجاء الوراقون إليه وقالوا : نحن نبلغ الناس ما يحبون فنسخوا
كل عشرة أوراق بدرهم اهـ .
7- 8- ذكرها الخطيب البغدادي في : الجامع فقال بسنده (2) عن أبي
زرعة الرازي قال : [ ادعى رجل على رجل بالكوفة سماعاً منعه إياه ،
فتحاكما إلى حفص بن غياث - وكان على قضاء الكوفة - فقال حفص
لصاحب الكتاب : أخرج إليه كتبك ، فما كان من سماع هذا الرجل بخط
يدك ألزمناك ، وما كان بخطه أعفيناك منه . فقيل لأبي زرعة : ممن سمعته
قال : من إسحق بن موسى الأنصاري ، قال ابن خلاد : سألت أبا عبد الله
الزبيري عن هذا ، فقال : لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا ،
لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه . وقال غيره :
ليس بشيء ] .
حدثت عن القاضي أبي الحسن علي بن الحسن الجراحي قال :
حدثنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة بن الصلت ، قال : [ رأيت رجلاً
__________
(1) 14 / 150 .
(2) 1 / 241 - 242 .

(2/148)


قدم رجلاً إلى إسماعيل بن إسحق القاضي ، فادعى عليه أن له سماعاً في
الحديث في كتابه ، وأنه قد أبى أن يعيره ، فسأل إسماعيل المدعى عليه ،
فصدقه ، فقال : في كتابي سماع ، ولست أعيره ، فأطرق إسماعيل ملياً ، ثم
رفع رأسه إلى المدعى عليه ، فقال له : عافاك الله إن كان سماعه في كتابك
بخطك فيلزمك أن تعيره وإن كان في سماعه في كتابك بخط غيرك ، فأنت
أعلم . قال : سماعه في كتابي بخطي ، ولكنه يبطئ برده عليّ ، فقال :
أخوك في الدين أحب أن تعيره ، وأقبل على الرجل فقال : إذا أعارك شيئاً
فلا تبطئ به ] .

(2/149)


المبحث الرابع
التعريف بعنوان هذه النازلة
في هذا أمران :
أحدهما : من حيث الدلالة وشمولها .
الثاني : من جهة تركيبه اللغوي .
أما مبحث دلالته :
فإن هذا المبحث انطلق من قولهم (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف)
لكن أصبح لدينا عدة حقوق من هذا القبيل منها : هذه وهي ما تسمى
بحقوق المؤلف الأدبية أو الأدبية والفنية أو الأدبية الفنية العلمية . ومنها : حق
المخترع ، وهو ما اصطلح على تسميته باسم : (الملكية الصناعية) وتتضمن
الحق في المخترعات والمكتشفات الصناعية والتقنية والعلامات الفارقة
(الامتياز ... وغيرها .
وهي من مباحث القانون التجاري لدى القانونيين ومنها : الحق
المتعلق بالرسالة وهو ما اصطلح عليه باسم : (ملكية الرسائل) ويقصد بها
الأخبار الخاصة المرسلة إلى أشخاص معينين ، وهذا من كل منتج لأثر
مبتكر . فصار أمام هذا لا بد من المواضعة على اصطلاح يشمل الاحتفاظ
بهذه الحقوق ومن المواضعات الجارية في هذا ما يلي :

(2/150)


1- حق الإنتاج الذهني :
يقول صاحب الوسيط (1) :
(ويجمع بين هذه الحقوق جميعاً أنها حقوق ذهنية ، فهي نتاج الذهن
..... وابتكاره) اهـ .
فمن هنا يصلح أن نطلق على مجموعها اصطلاح (حق الإنتاج
الذهني) وقد ألف بعض المعاصرين كتاباً باسم : (حق الإنتاج الذهني) .
2- حق الابتكار :
بينما نرى الأستاذ مصطفى الزرقا يرى أن يشملها اسم : (حقوق
الابتكار) (2) .
والابتكار يعني : أن يكون الإنتاج كالتأليف ذا قيمة ، بمعنى أن تبرز
مغالبة المؤلف في تأليفه . ويرجع تقدير الابتكار الذي بموجبه يحسب تأليفاً
تحمى حقوقه لمؤلفه إلى القضاء ، أما المصنف الذي يكون مجرد ترديد
لمصنف سابق فهذا لا ينسحب عليه حكم الحماية لحقوق المؤلف (3) .
ومنه جمع بعض المعاصرين أبحاثاً باسم : (حق الابتكار في الفقه
الإسلامي) .
3- الملكية المعنوية :
__________
(1) 8 / 276 .
(2) المدخل 3 / 21 - 22 . وانظر : مجلة عالم الكتب ص / 592 .
(3) وانظر : الوسيط 8 / 292 .

(2/151)


وفي كتاب (محاضرات في القانون المدني) لعبد المنعم فرج الصده
طبع عام 1967 م .
ذكر اندراج هذه تحت هذا الاسم فقال (1) :
(تندرج تحت الملكية المعنوية أنواع متعددة من الحقوق المعنوية
يمكن ردها إلى طائفتين ، تشمل أولاهما : الحقوق التي اصطلح على
تسميتها بالملكية الصناعية ، وتشمل الثانية : حقوق المؤلفين ، وهي التي
اصطلح على تسميتها بالملكية الأدبية والفنية) اهـ .
4- الحقوق الواردة على أموال غير عادية .
5- الحقوق المتعلقة بالعملاء .
(ذكرهما الصده في كتابه المذكور) .
6- الحقوق الفكرية :
هي في : النظام التركي كما في مقال الأستاذ الناهي (2) .
وكل واحدة من هذه المواضعات تفيد عند مبديها : الشمولية لمفردات
الإنتاج المتحصل من ذوي المواهب المتفتحة والمدارك العميقة بما
نستطيع أيضاً أن نسميه .
7- حق الإبداع :
وإذا لحظنا أيضاً أن ركيزة الإنتاج هو (العلم) ساغ لنا المواضعة
__________
(1) ص / 5 .
(2) مجلة الهدى الأردنية ص / 38 .

(2/152)


باسم : الإنتاج العلمي .
8- حقوق الإنتاج العلمي :
وقد يكون أكثر وضوحاً ، وأوسع شمولاً لجمع أي إنتاج مصدره العلم
النظري أو العملي مع غض النظر عن مستوى هذا الإنتاج في : الإبداع ،
والابتكار ، وفي إعمال الذهن ، وفي أغراض التأليف الثمانية ، ولأننا وإن كنا
في عصر تفجر المعلومات فنحن كذلك في عصر المحاكاة وغياب التقوى
من كثير من القلوب .
فهذا طالب يستغل جهل أستاذه في جامعة أوروبية باللغة العربية
فيستل واحداً من المؤلفات العربية ويترجمه أطروحة من تأليفه وصنعه
ويستحق على ذلك لقب (دكتور) .
وعكسه فمن عبث المستشرقين الناطقين بالعربية أن يختار واحداً من
كتب المسلمين ويترجمه إلى لغة أخرى وينسبه لنفسه محرفاً ومشوهاً
لمعلوماته .
ومع هذا يظهر الكل مطبوعاتهم بأن (حقوق الطبع محفوظة
للمؤلف) (أيكذب ويقابل) ؟ فأي حرمة لك يا هذا ؟؟ .
فهذا لا نسميه إبداعاً ولا ابتكاراً ولا إنتاجاً علمياً ، لكنه إنتاج علمي
مقنع بدعوى كاذبة فالإضافة الوهمية والإنتاج العلمي يعاد إلى نصابه بنسبته
إلى مؤلفه أصلاً . ويكون هذا الاحتفاظ بعد نذير عذاب لمدعيه . فصارت
التسمية إذا بحق (الإنتاج العلمي) فيها شمول لجميع الحقوق .
على أنني بعد هذا ، وبعد أن تحررت مالية التأليف ، ولكف إبعاد
الأذهان عن مدارك الأحكام تبينت لي تسمية سهلة ميسورة المدرك وهي

(2/153)


أن يقال : ملكية التأليف .
9- ملكية التأليف :
وهذا في خصوص التأليف وهو أهم أنواع الإنتاج فيقال : (ملكية
التأليف محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . فهذا يعني : رقبة الملك (التأليف)
وماله من حقوق مترتبة عليه شرعاً ... والله أعلم .
الثاني : في تركيبه اللغوي :
الجملة الجاري رسمها على المؤلفات كالآتي :
(حقوق الطبع محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . وفي كتاب (كبوات
اليراع) لأبي تراب بن أبي محمد عبد الحق قرر أن الصواب : (حقوق
الطبع محفوظة على المؤلف) وهذا نصه بتمامه (1) :
(يقولون : حقوق الطبع محفوظة للمؤلف . أو الناشر وهو غلط
والصواب : حقوق الطبع محفوظة على المؤلف أو على الناشر ... قال
مصطفى جواد : يقال : حفظ فلان عليه الشيء حفظاً فالشيء محفوظ
عليه) .
وفي شرح نهج البلاغة (ج 4 ص / 371) من كلام علي بن أبي
طالب : فإن نسيت مقالتي حفظها غيرك . فإن الكلام كالشاردة يتقنها هذا
ويخطئها هذا . هذا هو كلام الفصحاء ، وكان زين العابدين علي بن
الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي وبصري إلى انتهاء أجلي
كما أورده ابن أبي الحديد (ج 3 ص / 29) .
__________
(1) ص / 390 - 391 .

(2/154)


وفي سيرة ابن هشام والروض الأنف للسهيلي (ج 2 ص / 241) وتاريخ
الطبري (ج 3 ص 96) . وكتب الحديث : لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
خيبر فكان ببعض الطريق قال من آخر الليل : " من رجل يحفظ علينا الفجر
لعلنا ننام ؟ " قال بلال : أنا يا رسول الله أحفظه عليك .
وفي تاريخ اليعقوبي (ج 3 ص 127) قال محمد المهدي ابن أبي
جعفر المنصور يعني أباه : وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم .
وفي لباب الآداب لأسامة بن منقذ (ص 141) والأغاني لأبي الفرج
(ج 18 ص 10) واللفظ له : قال عمرو بن بانة لمحمد بن جعفر بن موسى
الهادي : أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة على ما فيها حفظ لروحك عليك
فإني لا آمن من أن يتمادى بك هذا الأمر .
وفي اللباب (ص 70) قال أبو الحسن علي بن محمد الصغاني في
كتاب الفرائد والقلائد : ومما يديم لك نصحهم ووفاءهم ويحفظ عليك
ودهم وولاءهم قلة الطمع فيهم وحسن المقابلة لمساعيهم يعني العمال .
وفي تاريخ الطبري (ج 5 ص 97) قال الحجاج بن علاط السلمي
للعباس بن عبد المطلب : احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى
الطلب ثلاثاً .
وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي (ج 5 ص 351) جاء في رقعة لأبي
الفتح ابن العميد : فإن لم يحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات
نعش ، والسلام .
وفي الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (ج 2 ص 11) قال
المقدسي محمد بن معشر : الشريعة طب المرضى ، والفلسفة طب

(2/155)


الأصحاء ، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول
المرض بالعافية فقط . فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على
أصحابها ...
وقال أبو حيان في (الإمتاع) (ج 2 ص 186) : ولما لم يرد من الإنسان
أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو إنسان ودرج إلى كمال الملك الذي هو
شبيه به .
وفي كتاب الأوراق للصولي قول أبي القاسم الأديب الشاعر :
وكم ملك قد خصني بكرامة ... حفظت عليه أمره وهو ضائع
ولا نود أن نطيل بذكر الشواهد أكثر مما فعلنا . وإنما نذكر أن لقولهم :
حفظ له كذا معنى آخر . كقولك أحسنت إلى فلان فحفظ لي ذلك . أي
ذكر الإحسان ورعى ذكراه فهو كالوفاء والجزاء .
قال أبو تراب :
اختلاق صلات الأفعال يجعل المعنى مختلفاً فما كان من هذا القبيل
يجب التثبت فيه فالمحافظة مثلاً تعدى بعلى ، قال الله تعالى : { حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ } والاستحفاظ جاءت صلته بمن ، قال تعالى : { بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } والاحتفاظ بعلى . قال العجير السلولي :
بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب
ويقال : احتفظ بالشيء وتحفظ به أي عني بحفظه . وعليك بالتحفظ
من الناس وهو التوقي وهو حفيظ عليه أي رقيب .
وفي اللسان : الحفيظ من صفات الله عز وجل لا يعزب عن حفظه

(2/156)


الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض . وقد حفظ على خلقه وعباده
ما يعملون من خير أو شر .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا } قال الزجاج - حفظه الله
من الوقوع على الأرض إلا بإذنه ، وقيل محفوظاً بالكواكب كما قال
تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ . وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ }
ويقال : احتفظت بالشيء لنفسي واستحفظت فلاناً إذا سألته أن يحفظ لك .
والحفيظ : المحافظ ، ومنه قوله تعالي : { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } .
ماهية التأليف
المقصود هنا التعريف بالتآليف المحمية ، والتي لصاحبها الاحتفاظ
بحقوقها وهي بالتتبع على نوعين (1) .
الأول : المحررات :
وهذه تعني أي تأليف مكتوب في أي من العلوم كالتفسير والحديث ،
والفقه وأصولها والتوحيد ، وعلوم الآلة ، والرياضيات ، والتاريخ ، والجغرافيا ،
والطب ، والهندسة ، وما جرى مجرى ذلك .
الثاني : الشفويات :
كالخطب ، والمحاضرات ، والمواعظ ، والندوات ، وما جرى مجرى
ذلك مما يلقى شفاها . فلا يصح في القانون الوضعي تسجيل أي من هذه
ونشره دون سابق إذن المؤلف . لكن العرف في كثير من البلدان الإسلامية
أن هذا حق مشاع لكل مسلم تلقيه وتسجيله ونشره لتأصيل عامل الحسبة
فيه . ولهذا فلا يدخل في ماهية التأليف في بحثنا هذا . والله أعلم .
__________
(1) الوسيط 8 / 293 - 294 فقرة رقم / 171 .

(2/157)


المؤلف
يعتبر الشخص مؤلفاً إذا نشر المصنف المبتكر منسوباً إليه سواء بذكر
اسمه على المصنف أو بأي طريقة أخرى ما لم يقم دليل على نفيه (1) .
وهذه النسبة لا يسوغ لصاحبها التنازل عنها لينتحلها شخص آخر ،
فكما لا يجوز التنازل عن الإنتاج الذري كذلك لا يجوز التنازل عن الإنتاج
العلمي .
ومن لطيف حفاوة العلماء بمؤلفاتهم أنهم جعلوها بمنزلة أعلى وأغلى
من نسل أصلابهم فقال بعضهم :
ما نسل قلبي كنسل صلبي ... من قاس رد له قياسه
(أي رد له قياسه في المحبة) .
ولهذا فمن حقه الأدبي فيها أيضاً لا يصح التنازل عنه لأي جهة حكومية
أو غيرها فرداً أو غير فرد بل تبقى له صفته الأدبية في التأليف ، ولو فرض
وجود اتفاق على شرط التنازل عن ذلك لما صح ، نعم يصح الاتفاق على
شرط إسقاط ما يتعلق بحقوقه المالية في المؤلف . هذا ملخص ما في
الاتفاقيات الدولية وبعض القوانين العربية لحقوق المؤلفين .
وبتنزيله على أصول الشريعة وقواعدها لا يظهر معارضته لها بشيء .
وكيف يصح التنازل عن نسبة التأليف إلى مؤلفه مثلاً في علوم الشريعة التي
تعتمد أبحاثها جلب الأدلة ومناقشتها والترجيح والاختيار ، ولهذا يرى الناظر
__________
(1) الوسيط 8 / 325 - 330 .

(2/158)


في آداب التأليف عند المسلمين التنويه بلزوم التصريح باسم المؤلف
وللوثوق به ، وعند بعضهم أن المؤلف المجهول النسبة كالرواية عن مجهول
الحال ، أو العين والحال فالكل لا يحتج به استقلالاً . والله أعلم .

(2/159)


المبحث الخامس
الحقوق الواردة على المؤلفات (1) وحكمها
يرد عليها بالجملة حقان :
الأول : حق خاص : وهو حق للمؤلف نفسه ، ومن أتى من طريقه وهو
ما اصطلح عليه بالحقوق الأدبية والمالية ... الخ . وهذا مخدوم بنظام
الاحتفاظ بحقوق المؤلف ومن أتى من طريقه كالناشر ، والوارث .
الثاني : حق عام : وهو حق للأمة لحاجتها إلى ما فيه من علوم ومعارف
سداً لحاجتها وتنمية لمواهبها .
يبقى كيف السبيل إلى أن تكون الحقوق الخاصة لا تقضي على الحق
العام وحتى يتم التوازن بين الحقين . ؟
ومن المتعذر أن تملك الأفكار بل هي حق مشاع لكل منتفع وإلا فما
فائدة التفكير والقراءة عنه وتفهمه لولا إعمال الأمة جهدها لإنزاله في ميدان
التنمية والاستفادة .
ولهذا ذكر القرافي رحمه الله تعالى في الفروق (2) أن الاجتهادات لا
__________
(1) المبادئ الأولية لحقوق المؤلف ص / 38 - 41 .
(2) الفروق .

(2/160)


تملك . وعليه فإن الاحتفاظ من المؤلف بحقوق وحماية من بسط الله يده
لهذه الحقوق ليس معنى هذا إهدار (الحق العام) وتعميم نفعه . بل هناك
حقوق عامة ترد على المؤلفات وهي :
(أ) حق الاقتباس .
(ب) حق الترجمة .
(ج) حق الدولة عند ممانعة المؤلف من نشر مؤلفه مع قيام الحاجة
إليه .
وبيانها على ما يلي :
(أ) حق الاقتباس :
إنارة المفاهيم والأفكار بالأسس السليمة وتقويم معوجها وإصلاح ما
فسد منها وبعث الحيوية والنشاط فيها واستصلاحها وعمارتها وظهور الأثر
العملي في ميدان العمل والتطبيق . هذه الإيجابيات من أعظم عوائد
التأليف ومنافعه العملية والاقتباس واحد من هذه الآثار المباركة فهو ثمرة
عملية وصلت إلى حد الإيجاب باعتبارها والاستشهاد بها واتخاذ الكاتب لها
سنداً في موضوعه وبحثه فهو انتفاع شرعي لا يختلف فيه اثنان ، وما زال
المسلمون منذ أن عرف التأليف إلى يومنا هذا وهم يجرون على هذا
المنوال في مؤلفاتهم دون نكير .
وعليه فإن منع المؤلف لذلك يعد خرقاً للإجماع ، فلا عبرة به حتى
ولو سجله على طرة كتابه كما يفعله البعض - على ندرة الفعلة لذلك في
عصرنا - يرون تسجيل الممانعة من الاقتباس سبباً يعطي دفعة لمزيد من
التيقظ إلى قيمة الكتاب ومؤلفه . وما علم أولئك أن الأمور مرهونة بحقائقها
ويعقلها العالمون وليعلموا كذلك أن المستقبل كشاف .

(2/161)


شرط الاقتباس : لكن الاقتباس مشروط بأداء أمانته وهو نقله بأمانة منسوباً
إلى قائله دونما غموض أو تدليس أو إخلال ، ومباحث هذه منتشرة في آداب
التأليف وغيرها . والله أعلم .
حق الترجمة (1) :
الترجمة تعني نقل المؤلف من لغة إلى أخرى ويتصور عندنا في هذا
أمران :
الأول : في مدى أحقية صاحب الكتاب الأصل في المطالب بحماية
حقه مقابل قيام غيره بترجمته إلى لغة أخرى ..
وفي مجال الترجمة هذه نلحظ أموراً هي :
1- إن المترجم يعاني فيها من المشقة ما عاناه مؤلف الأصل . لتصل
إلى غاية المطابقة لمعنى ما يحويه الكتاب مفرغاً للمعاني في مباني اللغة
المترجم إليها مراعياً لخصائصها ومعانيها .
2- بهذا تستحق أن تسمى تأليفاً مبتكراً .
3- واجب إبراء العهدة بنشر العلم وإشاعة وإبلاغ الرسالة إلى العالمين
بألسنتهم ، وهذا في خصوص العلوم الشرعية .
لهذه الاعتبارات فإنه ليس من حق المؤلف الأصل المطالبة بحماية
حقه المالي في التأليف وعليه فيجوز للمترجم - بكسر الجيم - ترجمة كتاب
ما إلى لغة أخرى من غير إذن مؤلفه لكن مع الاحتفاظ لمؤلفه الأصل
بحقوق أدبية من نسبة مؤلفه إليه والمحافظة على مادته وعنوانه . وينسحب
__________
(1) الدريني ص / 10 ، 11 ، 182 ، 191 .

(2/162)


هذا الحكم على ترجمة الترجمة إلى لغة أخرى غير لغة الكتاب الأصلية
ولغة ترجمته الثانية . والله أعلم .
الثاني : مدى احتفاظ المترجم بحقوق الترجمة باعتبار ما يبذله
المترجم من جهود مضنية في سبيل الترجمة تعد عملاً أثبت فيه جدارته
وبروز عمله المبتكر فإن ترجمته تكون محمية ويكون لها من الآثار ما
لمؤلف الأصل . والله أعلم .
(ج) حق الولاية العامة :
كم رأينا من تأليف مبارك نفع الله به أقواماً وهدى به آخرين ، فانتشر
بين المسلمين انتشار الشمس ، ونرى طبعاته تصل إلى عشرين وثلاثين
طبعة أو أكثر ومنها ما طبع منه ما لا يحصى من الطبعات لكن دون تدوين
لرقم الطبعة ، والغالب في هذا يدل مع جزالة ما فيه من علم على حسن
نية مؤلفه وصدقها ولهذا كتب الله له القبول والانتشار .
وقد جرت العادة أن من كانت نيته كذلك فهو لا يمانع من مزيد
الانتفاع بمؤلفه حتى ولو لم ينل أي تعويض عنه . لكن لو فرض أن هذا
الكتاب قل وجوده واحتيج إليه في معاهد التعليم أو لغرض نفعي آخر فمانع
مؤلفه من طبعه فإنه يسوغ للدولة بيعه عليه وحفظ مستحقه في بيت مال
المسلمين ، كما في قواعد الملكية للمصالح العامة . وبهذا يجمع بين
الحقين العام والخاص ويكون نزعه بحق . والله أعلم .
الحق الثاني : الحق الخاص للمؤلف ومن أتى من طريقه ، وهو
نوعان :
1- حقوق أدبية .

(2/163)


2- حقوق مالية .
وبيان كل منهما على ما يلي :
" الحق الأدبي " (1)
وشمل أيضا (الحق المعنوي) يشمل هذا الاصطلاح مسائل ترتبط
بشخص المؤلف لأبوته على مؤلفاته ، فهي بمثابة الامتيازات الشخصية
للمؤلف على مؤلفه وهي على ما يلي :
1- أبوته على مصنفه باستمرار نسبته إليه ، فليس له حق التنازل عن
صفته التأليفية فيه لأي فرد أو جهة حكومية أو غيرها ، كما أنه لا يسوغ للغير
انتحاله والسطو عليه ، فله ولورثته حق دفع الاعتداء عليه .
2- حق تقرير نشره بمعنى : التحكم في نشر مصنفه .
3- حق السمعة أي : له سلطة الرقابة بعد النشر لسحبه من التداول
عندما يتضح له مثلاً رجوعه عما قرره فيه من رأي أو أداء ، وعندئذ يلزم
بتعويض ناشر ونحوه عما لحقه من خسائر لقاء ذلك السحب .
4- سلطة التصحيح لما فيه من تطبيعات عند إرادة الناشر إعادة نشره .
5- استمرار هذه الحقوق له مدة حياته فلا تسقط بالتقادم أو بالوفاة .
6- سلامة التصنيف وحصانته .
7- ومن جهة الدولة التي تملك الإذن بالطبع ، لها حق أدبي وهو معرفة
__________
(1) الوسيط 8 / 408 - 421 ، الحقوق على المصنفات لأبي اليزيد ص / 70 - 71 ،
مجلة عالم الكتب ص / 592 ، المبادئ الأولية ص / 23 - 24 .

(2/164)


ما إذا كان نشره سائغاً أو لا ؟ .
ومن هذا يتبين أن هذا الاصطلاح (الحقوق الأدبية) اصطلاح مضلل
لا يعطي تلك المعاني الاعتبارية التي توجب الالتزام بها .
الحق الأدبي في ميزان الشريعة :
إن هذه الفقرات التي تعطي التأليف الحماية من العبث ، والصيانة عن
الدخيل عليه وتجعل للمؤلف حرمته والاحتفاظ بقيمته وجهده هي مما علم
من الإسلام بالضرورة وتدل عليه بجلاء نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها
مما تجده مسطراً في (آداب المؤلفين) وكتب الاصطلاح ويتجلى هذا في
عدة مظاهر :
1- مبحث الأمانة العلمية في الأداء والتوثيق .
2- طرق التحمل والأداء وآداب التلقي .
3- تحريم الكذب والتدليس .
4- تحريم السرقة والانتحال المعروف باسم (قرصنة الكتب) .
5- ذكر المصادر التي يعتمدها المؤلف في تأليفه .
فهذا الحق الأدبي من بدائه العلم عندهم ، وإن لم يلقبوه بذلك
ويضعوا له سنناً وأنظمة تحفظية ، لأنها أمور فطرية عندهم تقتضيها الديانة
وتحمل الأمانة ، وخرقها من نواقض الفطرة فضلاً عن أن تكون خرقاً لسنن
الشريعة وهديها .
ومن اللطيف ما عبر به بعض الكاتبين عن هذا الحق بقوله : (الحق
الأخلاقي) (1) .
__________
(1) مجلة عالم الكتب ص / 675 ، 694 .

(2/165)


وإن هذه المظاهر القانونية والتنظيمية التي نراها اليوم في هذا الصدد
وغيره للحماية والدفاع عن الحقوق - وإن كانت ضرورة ملحة - لكنها من
مظاهر وجود التفلت الديني بضعف الوازع والسلطان الرادع الكامن في
النفوس ، ومنه انتشرت أمراض الإغارة والانتحال والسرقة والسطو فأوجدت
للحد منها فالقضاء عليها إنما هو بمنهاج الله القويم : الإسلام وحده وتربية
النفوس عليه .
وفي مجلة عالم الكتب قال بعض الكاتبين (1) :
(أما موقف الإسلام من هذه الأمور ومن هذه السرقات ومن نسبة
الشيء إلى غير قائله فهذا ما لا نعرفه يقيناً ، ولكن يخيل إليّ أن الإسلام
الذي شرع من أجل حماية المجتمع من السرقة المادية بطريقة صريحة كل
الصراحة وحاسمة لم يتطرق إلى مثل هذه الأمور بمثل تلك الموضوعية
والوضوح ، ولم يصل إلى علمنا أن عوقب أحد ممن اتهم بالسرقة ، لأن
إثبات ذلك صعب جداً ، ولا سيما إذا احتيج إلى دليل حاسم كما هو
الحال في السرقة المادية ، ولكن ذلك لا يعني أن الإسلام يبيح السرقة من
أي نوع أو يسكت عنها . ذلك أن الأخلاق في الإسلام هي لب الدين وهي
العمود الفقري للشريعة الإسلامية ، لذلك لا شك أن أي نوع من السرقة
الأدبية هذه محرمة شرعاً . ولكن لم يعين لها عقوبة واضحة كما هو الحال
في سرقة النقود مثلاً . ونعتقد أن القوم اكتفوا آنذاك بالتعزير بسوء السمعة
والتشهير الذي يصيب الشخص السارق لمؤلفات الآخرين . ولكن هذا لا
يمنع من إصدار تشريع يضمن حقوق التأليف ويفرض عقوبات رادعة
للسارقين . وهذا يحتاج إلى تضافر جهود البلاد العربية والقيام بدراسات
__________
(1) مجلة عالم الكتب ص / 711 - 712 .

(2/166)


مكثفة لتراثنا الفقهي وللقوانين السارية في العالم حالياً . وتحديد السرقة
الأدبية بوضوح تام حتى لا يكون هناك أي التباس وبعد ذلك تقوم هيئة
موحدة في إصدار مثل هذا التشريع وتطبيقه في جميع أرجاء العالم
العربي) .
وصدر كلامه هذا مما لا يوافق عليه للإجمال فيه إذ أن هذه حقوق
شرعية فحمايتها متوجبة شرعاً بالإرجاع إلى أصول الشرع وقواعده . فعلى
المسلمين إعمال لائحة شرعية فيها الضمانات الشرعية والإدارية لحماية
هذه الحقوق الأدبية الأخلاقية . والله أعلم .
الحقوق المالية (1)
وتسمى أيضاً (الحقوق الاقتصادية) وتسمى أيضاً باسم (الحقوق
المادية) .
وهي بمثابة الامتيازات المالية للمؤلف لقاء مؤلفه وهي حق عيني
أصلي مالي منقول . وهي حق قسيم للحق الأدبي المعنوي الشخصي
المتقدم . وهذا الحق هو : الخيط المتصل الذي ينعقد حوله نسيج الأنظمة
لحقوق المؤلف .
والحقوق المالية ذات فرعين :
الأول : حق مالي في حياة المؤلف يفيد إعطاء المصنف دون سواه حق
الاستئثار بمصنفه لاستغلاله بأي صورة من صور الاستغلال المشروعة
__________
(1) الوسيط 8 / 360 - 408 ، المبادئ ص / 27 ، كتاب الحقوق على المصنفات
ص / 79 ، الحقوق المعنوية ص / 52 - 55 . ومجلة عالم الكتب .

(2/167)


بنفسه أو بغيره من قبله مدة معينة . فهذا الحق إذن يتميز بخصيصتين :
1- أنه حق لمؤلفه طيلة حياته ، فعائداته المالية لمؤلفه وهذه العائدات
تعتمد على درجة قبول الناس لهذا المؤلف ومدى انتفاعهم به . وعليه فلا
يسوغ للغير دون إذن مؤلفه .
2- أنه حق مؤقت غير مؤبد فهو ينتهي بمدة معينة . فالقانون الفرنسي
يعطيه مدة حياته وخمس سنين بعد وفاته ، ثم عَدَّلها إلى عشر سنين ، ثم
إلى خمسين عاماً بعد وفاته ، والقانون الألماني إلى سبعين سنة . وفي
المصري لمدة خمسين عاماً من تاريخ وفاته .
الثاني : الحق المالي بعد وفاة المؤلف : هو حق يعود لورثته شرعاً على
قدر الفريضة الشرعية في الميراث فإن لم يكن له وارث فلشركائه في
التأليف . والقوانين تختلف في تقدير المدة التي تكتسب الحماية كما في
الفقرة (ب) قبل هذا .
الفروق بين الحقين الأدبي والمالي هو :
الأول : جواز تنازل المؤلف عن الحق المالي دون الأدبي .
الثاني : الحقوق الأدبية حقوق مؤبدة أما المالية فهي مؤقتة على
اختلاف القوانين في توقيتها .
الحق المالي في ميزان الشريعة
بعد أن تبينت طبيعة الحق الأدبي وأنه ينبغي أن لا يكون الاحتفاظ
به وبذل الطرق لحمايته محل خلاف ، وتبينت طبيعة الحق المالي وأنه حق
عيني أصلي متمول ، وما يتميز به هذا الحق ، يبقى النظر في التكييف
الفقهي لحق المؤلف المالي هل يجوز أخذ المؤلف للعوض على مؤلفه أم

(2/168)


لا يجوز ؟؟ وبيان هذا المبحث الذي هو أساس النظر في هذه النازلة أن
يقال :
هذه النازلة بين الحرمة والجواز :
دارت أقلام الكاتبين في بيان حكم النازلة في خصوص المؤلفات في
العلوم الشرعية بين الحرمة والجواز والخلاف فيها من أثر الخلاف بين أهل
العلم في أخذ العوض على تعليم القرآن وأمور الاعتقاد والحلال والحرام ،
إذ ذهب الأكثر إلى الجواز ومنهم الأئمة الثلاثة وبه قال متأخرو الحنفية
معللين بالحاجة لعدم وجود متبرع به ، وفريق إلى المنع ومنهم الحنفية .
وبعض إلى الكراهة التنزيهية في رواية أحمد رحمه الله تعالى .
وقد تجاذب الفريقان الاستدلال في هذه النازلة كلٌّ بما وسعه لكن
فات الجميع تشخيص مأخذ الخلاف ومدرك الحكم فيه وتخريجه وإن كان
البعض قد حام لكن ما نهل ولا علَّ ، وبعض أغرب في الاستدلال وقصر
عن ضرب المثال فصار ما تحصل مقتطفات في الاستدلال متناثرة وهكذا
الشأن في كل جديدة ونازلة ، فلهم فضل السبق وفتق الرتق وتذليل الصعب
ليتعسعس في حماها من أنس من نفسه الرّشد ، وأدلى بدلوه لكن بحبل
من مسد ليصنف أدلة كل قول وما حوى ، فيجلي ما سلم من المعارض
والمصاب بالتوى .
ويا ليتني كنت هذا ، وأنى لي ولم أشتر من العلم إلا وشلاً ؟ والعلوم
قسم ومنح لكن وظيفتي هنا جمع أدلة القولين وقسمهما في الكفتين ، عسى
أن ينبري لها عالم حفظة فيحررها بنفس من غابت عنا أجسامهم وشهدت
لهم آثارهم وكرائم أقلامهم بعلو شأنهم وسيلان أذهانهم . والله المستعان
وحده دون سواه .

(2/169)


أدلة الجواز :
أدلة المجيزين لأخذ العوض على القُرَب هي أدلة المجيزين لاعتياض
المؤلف عن مؤلفه وهي مع ما يضاف إلى هذه من أدلة كما يلي :
1- إن هذا الحق (حق عيني أصلي مستحق بحكم التكوين والجبلة
وما تولد عنها) . كالشأن في عامة حقوق المرء في تصرفاته التكوينية
والجبلية ببدنه ، وحواسه ، ومشاعره ، وما تولد عن ذلك مثل : نسله ونسل
نعمه ، وثمر بستانه ، وهكذا .
والتأليف هنا : حق مملوك لمؤلفه بحكم ملكه لرقبة تصرفه في فكره وتولد
تأليفه منه . وإعمال الفكر في التأليف حق يستوي فيه المتأهلون له ، لكن
من سبق إلى الإنتاج بإعمال فكره وقلمه فهو من خالص حقوقه . ولو سبق
إلى مخطوط من التراث فقام بتحقيقه وطبعه ونشره فله حق السبق من جهة
وحق إنتاجه الذهني في تحقيقه من جهة أخرى . قال الله تعالى عن
السيارة في قصة يوسف عليه السلام { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ } فقد بشر
نفسه بأنه ملكه بالالتقاط . وفي الحديث " من سبق إلى ما لم يسبق إليه
مسلم فهو أحق به " .
ولو سبق إلى مخطوط من التراث فقام بطبعه دون تحقيقه وإعمال فكره
فيه فهو بهذا استحق الملك بالإحياء ، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من
أحيا أرضاً ميتة فهي له " ، وناله أيضا بطباعته فسبق غيره واختص بملكية
الطبع وآثارها . ولو فرض أنه باعه لناشر ونحوه فالحق على ما شرطاه (إذ
المسلمون على شروطهم) . فالتأليف إذاً (ملك محترم) تنسحب عليه
تصرفات الملاك في أملاكهم وذوي الحقوق في حقوقهم من المعاوضات
والانتقالات ببيع وارث ووقف وهبة ونحوها (وليس لعرق ظالم حق) .

(2/170)


وهذا لا يتنافى مع وجود حق لله تعالى في (المؤلفات في العلوم
الشرعية) من واجب البلاغ إلى الأمة إذ الشرعية كاملة في (الكتاب والسنة)
وفيهما العصمة . والوسائل إليهما من تأليف العلماء محل للخطأ والصواب
على قدر القرائح والفهوم . والله أعلم .
2- حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل في الرقية وفيه قول
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " .. رواه البخاري وغيره .
ويقال : إذا كان جواز العوض في القرآن ففي السنة من باب أولى ،
وإذا جاز على الوحيين ففيما تفرع عنهما من الاستنباط والفهوم وتقعيد
القواعد وتأصيل الأصول فهو أولى بالجواز ، فصارت دلالة هذا الحديث
على جوار العوض عن التأليف أولى من مورد النص . والله أعلم .
3- حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة جعْل
القرآن صداقاً وقال فيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قد زوجتكها بما معك من القرآن " ..
رواه الشيخان وغيرهما .
فيقال إذا جاز تعليم القرآن عوضاً نستحل به الأبضاع ، فمن باب أولى
أخذ العوض عليه لتعليمه ونشره ، وأولى منهما أخذ العوض على مؤلف
يحمل المفاهيم من الكتاب والسنة ، فصارت دلالة هذا الحديث على جواز
العوض على التأليف أولى من مورد النص . والله أعلم .
4- إن التأليف عمل يد وفكر ، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : " أطيب الكسب
عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " أخرجه أحمد وغيره عن رافع بن خديج .
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم فإن
أولادكم من كسبكم " رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم .

(2/171)


وفقه الحديث الأول - حديث رافع بن خديج - يدل على أن كل عمل
الرجل بيده فهو من أطيب الكسب ، فكل عمل مباح يعمله الرجل بيده فهو
من أطيب الكسب .
فإذا كان هذا في المباحات كالاحتطاب والبيع والشراء في الأقوات
وتحصيلها ، ونحو ذلك فما بالك بالمسنونات إذا صلحت فيها النية ، ثم ما
شأن عمل الرجل بيده في تحصيل فروض الكفاية ؟ ثم ما منزلة عمل الرجل
يده في فروض الأعيان كالجهاد العيني وما يرجع به الغازي من مغانم ؟
فكل هذا من الكسب الطيب إذا صلحت النية في المشروع ، فإذا كانت
اليد تعمل في تحصيل المسنونات ، وفروض الكفايات ألا يكون ذلك من
أطيب الكسب ، وأنفعه ، وأكثره تعدياً ؟؟ .
وقد يقال إن المشروعات يجب أن تكون خالصة ، والتأليف في علوم
الوحيين يجب أن يخلص من نية الاكتساب أو نحوه .
والجواب : أن النية مصححة العمل في قبوله والإثابة عليه ، لا في حل
المال المكتسب أو حرمته ، فمن طلب العلم ثم أراد أن ينفع الأمة به ،
وقد يتقوى على ذلك بما يكسبه بعلمه ، فنيته ليست فاسدة ، والمال طيب ،
وأصل هذا قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عباس في الرقية " إن أحق
ما اتخذتم عليه أجراً كتاب الله " .
وفي يوم القيامة أول من تسجر بهم النار ثلاثة : ومنهم قارئ القرآن
فاسد النية . فالنية مفسدة للثواب إذا قارنت العمل من أصله ، محبطة له ،
لكن الكسب مع صلاح النية كيف يقال أنه خبيث ؟ والله أعلم .
وفي الحديث الثاني ما في الأول ، وزيادة : " إن أولادكم من كسبكم " ،

(2/172)


فإن كان الولد الذي غذاه والده ونشَّأه ورعاه من كسبه وماله ، أفلا يقال إن
المصنفات من كسب مؤلفها ؟ فهو الذي غذاها بفكره وقلبه ، ورعاها حتى
اكتملت ، وهجر لأجلها العيش المستريح ، والمكاسب الدنيوية .
وهذا ليس من القياس وقد يقال ، ولكنه من تنقيح المناط .
وما أحسن ما قيل : المصنفات ذرية العلماء .
5- دلّ صنيع أهل العلم المتقدمين على أن مصنفاتهم ملك لهم
أصلاً ، وقد يخرجون هذا الملك إلى انتفاع الناس به ، ولولا أنه ملك لهم
لما استجازوا أخذ مقابل لثمنه .
فهذا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني بيع كتابه (الحلية) في حياته بنيسابور
بأربعمائة دينار ، وما هذه قيمة ورق ونسخ ، وهذا الحافظ ابن حجر
العسقلاني طلب ملوك الأطراف بوساطة علمائهم منه إرسال نسخة (من
كتابه ..) فبيع بنحو ثلاث مائة دينار ذكره السخاوي 2 / 38 . وما ذلك قيمة
ورق ونسخ ، وأمثال هذا معروف مشهور كما تقدمت نظائره مبسوطة ولله
الحمد .
6- الكتب المصنفة في العلوم الشرعية من الأموال ، والمال في الأصل
لصانعه أو مكتسبه ، ولا يخصص هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح ،
فلا ينتقل عن الأصل إلا بناقل متيقن .
7- إن القاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
يمكن إجراؤها في هذه النازلة باعتبار أن المفسدة الحاصلة من ترك الكتب
الشرعية بلا حفظ لحق طبعها مفسدة في هذا الزمان ، من جراء قلة أو عدم
الوازع الديني ومراقبة الله في نشر علوم الشريعة ، وبثها للناس .

(2/173)


والناس اليوم تلمذتهم للكتب أكثر من تلمذتهم للشيوخ ، بل لا تلمذة
إلا للكتب عند كثيرين فما لم تدرأ مفسدة شيوع حق النشر فيستحكم
الناشرون في إفساد الكتب وترك تصحيحها وتصويبها والاعتناء بالآيات
والأحاديث ونحو ذلك .
وقد يسقطون ما يسقطون جهلاً ، ويزيدون ما يريدون .
وهذه الأمور منظورة معلومة والله المستعان .
فدرء هذه المفسدة ينبغي مراعاته ، والمصالح قد تكون مع شيوع حق
النشر لا تُقدّم على درء هذه المفسدة ، والله أعلم .
8- فقد أعطى طلبة العلم من بيت المال في البلدان الإسلامية ما
يستغنون به ، فإذا طلب العلم طالب فأخذ كسباً على تأليفه والحال هذه
مما يسوغ ، كما قالوا في أخذ المؤذن أجراً على إقامته ، والإمام أجراً إذا
لم يوجد من يسد الحاجة دون أجر فيفرض له من بيت المال .
ومسألتنا بعكس هذه .
9- إذا كان المصنف ملك لمصنفه ، وثبتت ملكيته فله أن يتصرف في
ملكه بأنواع التصرفات الجائزة أو المشروعة كبيعه أو هبته أو وقفه أو نحو
ذلك ، والله أعلم .
10- إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ومن فروع هذه القاعدة :
أن ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون .
فإن قلنا بان التأليف في العلوم الشرعية من الواجبات أو المسنونات
فتمكين المصنف من الانتفاع بكسبه إذا كان لن يصنف إلا بذلك مما لا
يتم الأمر إلا به فهو تابع لحكمه .

(2/174)


فإذا كان المؤلف يرشد الناس ويعلمهم أمر دينهم وكان هذا التعليم
مشروعاً ، وانقطاعه للتأليف يفتقر إلى كسب ، وتركه التأليف قد يؤدي إلى
نقص وترك للمشروع فما يبقى للمؤلف نشاطه واستمراره من باب ما لا يتم
المسنون إلا به ، لا يتم المشروع إلا به .
وإن كان في هذا نظر ، يفتقر إلى إعمال فكر وإظهار فكر ، وربما يظهر
أشياء .
11- أن المؤلف بدرجة صانع وتأليفه بمنزلة المصنوع وكل صانع
يملك مصنوعه فكذلك المؤلف يملك تأليفه وحقوقه .
وجه ذلك : أن المؤلف بحكم تحصيله العلمي وابتكاره وإعمال جهوده
بفكره ، وبدنه ، ووقته وربما ماله فيما يتطلبه ذلك من الرحلة وشراء المصادر
والمراجع وأدوات الكتابة ... كل ذلك جعله بمنزلة صانع يملك صنعته
فيملك مقتضاها وأثرها بما لها من حقوق وانتفاع شرعي ...
12- ومنها على أحد وجهي الخلاف في جواز أخذ الأجرة على
التحديث وامتناع بعض المحدثين من الإذن بالرواية إلا لمن يبذل له
العوض ولم يؤثر ذلك على صدقهم في الرواية أو تزيدهم فيها كما أن ذلك
لم يكن مانعاً من انتشار علمهم وبثه وهذا من أسس المقاصد في حمل
العلم .
وعليه : فإذا جاز أخذ العوض على التحديث ففي التأليف في العلوم
الشرعية المزيجة منها ومن كلام المؤلفين واستنباطهم وابتكاراتهم صار ذلك
أولى بالجواز .
13- أنهم أجازوا أخذ الأجرة على نسخ المصحف ، وعن ابن عباس

(2/175)


رضي الله عنهما أنه سئل عن أجرة كتابة المصاحف وقال : لا بأس إنما
هم مصورون وإنما يأكلون من عمل أيديهم . ذكره التبريزي في " مشكاة
المصابيح " (1) .
واختلفوا أيضاً في حكم إجارة المصحف على قولين هما وجهان لدى
الحنابلة أحدهما الجواز : فقرروا جواز العوض على انتساخ الكتاب ،
وانتساخه أعظم طريق للاستفادة منه ولولا الانتساخ لكانت المؤلفات لقىً
عند مؤلفها .
وقرروا وجوب المقابلة على النسخ على أصل مقروء ، والمقابلة تقتضي
أكثر من شخص ولم يقل أحد بمنع العوض للمقابل وهم قائلون بوجوب
المقابلة على أصل فقط أو أكثر من أصل .
فهذه ضروب من الجواز على أخذ العوض بشأن الوحيين وهما أصل
العلم وأساسه وهو واجب النشر والتعليم فهلا يصح بعد هذا أن يقال بجواز
أخذ العوض على التأليف وقد بذل فيه ما بذل ؟؟؟ .
14- أن تجويز ذلك فيه دفع عظيم للبحث والتحقيق وترويج سوق
العلم ونشره وبثه ، وشحذ لهمم العلماء لنشر نتائج أفكارهم وإبداعهم وهذا
من أهم وسائل تقدم الأمة وتصحيح منهجها .
وفي المنع سلب لهذه ووسيلة ركود للحركة العلمية في مجال التأليف
والإبداع . لا سيما مع تغير الزمان والأحوال وندرة المتبرع وشدة الحاجة
وضعف الهمم وقصورها .
__________
(1) بواسطة التراتيب الإدارية 2 / 282 .

(2/176)


وهل جوائز الخلفاء والملوك والسلاطين والوجهاء للمؤلفين على
مؤلفاتهم والمبدعين على إبداعهم إلا مظهر من مظاهر الدفع للهمم وقد
جرى بذلك العمل من غير نكير وقاعدته من عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إجازة كعب
رضي الله عنه بالبردة لقاء قصيدته العصماء التي دان فيها بالإسلام وفي
عنه . فهي من طرق الكسب المباح من غير نكير .
15- أن حق التأليف هو من الحقوق المقررة لا المجردة ، لأن الحق
المجرد ما شرع لدفع الضرر كحق الشفعة فهو لا يقوم بمال ولا يستعاض
عنه بالمال ، أما المقرر فهو ما يثبت لمستحقه أصلاً وابتداء كحق الزوجة
في القسم والمبيت ، وحق القصاص لوليه وحق الزوج في استدامة عقد
النكاح ، وحق مالك الرقيق في استدامة ملكه . فهذه حقوق يجوز الاعتياض
عليها . فكذلك حق التأليف .
وفي مبحث النجش من البيوع جوزوا صرف بعض الناس عن المزايدة
بعوض .
16- ما زال الناس منذ مولد التأليف وإلى أيامنا هذه يجرون على
التأليف أنواع التصرفات من بيع وإعارة ووقف وهدية وعطية وهبة ونحو ذلك
من غير نكير ، فهل هذا إلا دليل ماليته ؟ ولم نر في كلام الأورع أن هذا
يؤثر على المؤلف في صلاح نيته .
17- في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى : ... الحديث رواه
البخاري وغيره .
فنحن نرى الغازي ينال من الغنائم ونرى طالب العلم في معاهده

(2/177)


النظامية وفيها المكافآت المالية ، وهكذا من وجوه التعبد التي ترتب أموراً
مالية فلا نقول بتأثير هذا على شوب نيته بل الظاهر السلامة ، ووجود هذه
الأعواض لا تقدح في النية ، لكنهما رجلان : رجل نوى الغنيمة فله ما نوى
كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
"من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى " (رواه أحمد والنسائي
والدارمي ومدار سنده على حفيد عبادة وهو يحيى بن الوليد بن عبادة وهو
مقبول) . وآخر نوى من غزاته الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ونصيبه
من الغنائم حق له لا يجوز بخسه ، فهو يطالب به ولو اعتدي عليه لكان
المعتدي ظالماً آثماً .
وانظر كيف أبطل في الشرع ما حرمته الجاهلية من الاتجار في الحج
وكانوا يقولون للمتجر فيه (فلان راج وليس بالحاج) فأبطل الله ذلك بقوله
تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يعني في أيام
الحج . فلم يؤثر طلب كسب المال على الحج وهو ركن من أركان
الإسلام .
وفي الغزو قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " من قتل قتيلاً فله سلبه " وهذا نص في أن
تشريك النية لا يؤثر على صحة العبادة فقد ملك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقاتل وهو قتل
في سبيل الله .
وهكذا في نظائرها . وعليه فالتأليف في العلوم الشرعية مثلاً كالطلب
لها ، يتعين أن تكون لله بنية صادقة خالصة ولا يقدح في نيته ما يأتي من
الأعواض على مؤلفه ومطالبته وتأثيم المعتدي عليه كالشأن في الغازي
وطالب العلم ونحوهما ..
وإنما لكل امرئ ما نوى فهي بين العبد وربه وبيع المؤلف لمؤلفه

(2/178)


دليلاً على دخل في نيته كالشأن في الغازي وغنيمته .
ولعظم شأن النية لا سيما في طلب العلوم الشرعية أسوق درراً نثرها
الإمام الذهبي رحمه الله تعالى وذلك في كتابه سير أعلام النبلاء
فقال (1) : (قال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز
وابن جريج لم طلبتم العلم ؟ كلهم يقول : لنفسي . غير ابن جريج فإنه
قال : طلبته للناس) قلت : ما أحسن الصدق واليوم تسأل الفقيه الغبي لمن
طلبت العلم ؟؟ فيبادر ويقول : طلبته لله ويكذب إنما طلبه للدنيا ويا قلة
ما عرف منه .
وفيه (2) وقال عبد الرازق : أنبأنا معمر قال : إن الرجل يطلب العلم
لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله .
قلت : (نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم وحب إزالة الجهل عنه
وحب الوظائف ونحو ذلك ، ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه ولا صدق
النية فإذا علم حاسب نفسه وخاف من وبال قصده فتجيئه النية الصالحة
كلها أو بعضها وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم ، وعلامة ذلك أنه يقصر
من الدعاوى وحب المناظرة ومن قصد التكثر بعلمه ويزري على نفسه ، فإن
تكثر بعلمه أو قال : أنا أعلم من فلان فبعداً له) .
وفيه أيضاً (3) : قال عون بن عمارة : سمعت هشاماً الدستوائي يقول :
والله ما أستطيع أن أقول : إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد وجه
__________
(1) السير 6 / 328 .
(2) السير 7 / 17 .
(3) السير 7 / 152 .

(2/179)


الله عز وجل . قلت : والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا
وصاروا أئمة يقتدى بهم ، وطلبه قوم منهم أولاً [لا] (*) لله وحصلوه ثم استفاقوا
وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق ، كما قال
مجاهد وغيره : طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد ،
وبعضهم يقول طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله فهذا أيضاً
حسن ثم نشروه بنية صالحة . وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى
عليهم فلهم ما نووا . قال عليه السلام : "من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى "
وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقع في النفوس ، ولا
لعلمهم كبير نتيجة من العمل ، وإنما العالم من يخشى الله تعالى .
وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا
الكبائر والفواحش فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء !!
وبعضهم لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى
الشاذ من الأخبار ، وبعضهم اجترأ على الله ووضع الأحاديث فهتكه الله
وذهب علمه وصار زاده إلى النار . وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً
كبيراً وتضلعوا منه في الجملة فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في
العلم والعمل ، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى
نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاً ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون
به إلى الله لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم فصاروا همجاً رعاعاً
غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً فيصحف
ما يورده ولا يقرره فنسأل الله النجاة والعفو . كما قال بعضهم : (ما أنا عالم
ولا رأيت عالماً) .
18- لو كانت المؤلفات من قبيل السوائب واشتراك المسلمين في الماء
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة : الزيادة بين المعكوفين من سير أعلام النبلاء

(2/180)


والكلأ والنار لنقل ذلك إلينا ودوّنه أهل العلم في مدوناتهم ، لكن الأمر على
العكس من ذلك ، وهل طرق التحمل والأداء إلا واحدة من مظاهر الرعاية
لحرمة المؤلفين في مؤلفاتهم ؟ وهل طرق التناقل لها من بيع وشراء ووقف
ونحوه إلا دليل على ملكيتها وماليتها ؟
19- ومن آثار حمايتها دفع تسلط الناشرين من مسلمين وكافرين عليها
حتى لا تكون جواداً رابحاً يغامرون عليه من غير أي عوض . وهل لهذا
نظير في الشريعة أن يعمل الإنسان عملاً يحرم عليه عوضه وينساب
لغيره ؟؟
20- قاعدة القرب أن من تعبد ليأخذ عوضاً فهذا هو الذي لا يجوز
أما من أخذ ليتعبد من جهته فهذا يجوز كما أصّل ذلك ابن تيمية رحمه
الله تعالى في النيابة في الحج فإنه بعد إطالة النفس في أخذ العوض
للنائب حصر المسألة بقوله : إن من حج ليأخذ فهذا لا يجوز أما من أخذ
للحج فهذا الذي يجوز .
وجه ذلك : أن من حج وقصد من النيابة في الحج التكسب والمعاوضة
فهذا لا يجوز ، أما من أخذ العوض ليحج بأن كان قصده الشوق إلى البيت
الحرام والمواقف والمشاعر وحضور دعوة المسلمين لكن يريد ما يتبلغ به
ويعينه فهذا يجوز .
ومثله يقال في التأليف : إن من ألّف ليأخذ بأن جرد فيه القربة من
تأليفه في علوم الشريعة وكان قصده اكتساب المال وجعل هذه الصفة وسيلة
لجلب المال لا غير فهذا لا يجوز لما علم من أن النية الصالحة في التقرب
بخدمة العلم أساس له ، أما من أخذ ليؤلف بأن كانت المعاوضة غير
مقصده الأساس ولكن مقصده التعبد به ونفع المسلمين وإنما أخذ

(2/181)


المعاوضة للتقوت والتعفف ، فهذا الذي يجوز ولا يقدح في نيته كالشأن
في حج النائب والغازي والإمامة ونحوها .
وعليه فيمتنع على هذا القول الاعتداء على مؤلفات الغير بطبعها
ونشرها من غير إذن مؤلفها ومن أتى من طريقه شرعاً . والله أعلم .
القول بالمنع وأدلته :
ومن الباحثين في هذه النازلة من ذهب إلى المنع والتحريم على
المؤلف بأخذ العوض المالي تأليفه في العلوم الشرعية ، وما يترتب من
عقود ، ومجامع الاستدلال على ما يلي :
1- أنه لا يجوز التعبد بعوض ، والعلم عبادة ليس صناعة أو تجارة ،
فالتأليف في العلوم الشرعية : عبادة ، وعليه فلا تجوز المعاوضة عليه (1) .
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " من كتم
علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" . رواه أبو داود ، والترمذي ،
وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم .
ووجه الاستدلال : أن حبس المؤلف لكتابه عن الطبع والتداول إلا
بثمن باب من أبواب كتم العلم فيناله الوعيد ، فيمتنع ذلك ، والله أعلم (2) .
3- أن نوع حق المؤلف في تأليفه ، أكثر ما يقال فيه : حق مجرد
والحق المجرد لا يقوّم بمال ، ولا يستعاض عنه بالمال كحق الشفعة ،
__________
(1) مجلة الهدي النبوي ص / 59 .
(2) مجلة الهدي النبوي ص / 59 ، وكتاب الدريني ص / 100 .

(2/182)


فكذلك حق المؤلف لذلك (1) .
4- أن بذله للنشر والانتفاع بمعنى أن حق الطبع لكل مسلم ، يحقق
مقصداً من مقاصد الشريعة بتحقيق مصلحة : الانتشار والرواج وإغناء
المكتبة الإسلامية ونشر العلم الشرعي (3) .
هذا ما يمكن تصنيفه من مجامع الاستدلال للخلاف في هذه
المسألة ، والناظر يعرف الراجح من الموازنة بين أدلة القولين ، ومسلك
الورع تحقيقاً لخلوص النية وتجريدها مما يشوبها من الخلاف :
وإن الأوْرَعَ الخروج من خلافهم فاستبن
هو كما قرره شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (م سنة 1393 هـ) رحمه
الله تعالى في شأن التعليم بأجر ، فكذلك في شأن التأليف فأقول : الأولى
للعالم المسلم إذا لم تدعُه حاجة أن لا يأخذ عوضاً على مؤلفاته في أمور
الشرع ، وإن دعته حاجة أخذ بقدرها ، ومن أغناه الله فالأولى له التعفف
قي ذلك . وقد كان جماعة من العلماء المعاصرين لا يأخذون عوضاً عن
مؤلفاتهم منهم شيخنا المذكور رحمه الله تعالى ، وكان يزجر عن ذلك لمّا
قلت له لو طبع أضواء البيان طبعة تجارية لكان أكثر لانتشاره ، فقال لا
أتاجر في البيان لكتاب الله تعالى ، وما أظن أحداً يجترئ على كتابي
فيبيعه فأدعو عليه إلا أن تصيبه الدعوة ، هكذا شافهني وأنا بجانبه في
المسجد النبوي الشريف . رحمه الله تعالى . ومنهم الشيخ محمد الحامد
رحمه الله تعالى كما في ترجمته . وقد أدركت عدداً من علماء نجد كذلك .
والله تعالى أعلم .
__________
(1) مجلة الهدي النبوي ص / 62 - 63 ، وكتاب الدريني ص / 52 - 54 .
(2) كتاب فتحي الدريني ص / 162 .

(2/183)


المبحث السادس
في حق النشر والتوزيع
النشر والتوزيع في هذا المجال يلتقيان في النتيجة ، ويتبين ذلك بعد
التعريف بحقيقة كل منهما .
فالنشر : هو وضع نسخ من الكتاب في متناول الجمهور لغرض البيع
عادة .
والتوزيع : هو عرض نسخ من الكتاب على عامة الجمهور ، أو أية
مجموعة منه بالوسائل التجارية المناسبة في الغالب .
فالنشر والتوزيع يلتقيان في : حق تسويق الكتاب . وطبيعتهما تختلف
باختلاف عقد الاتفاق بين المؤلف والناشر أو الموزع ، وما يتفقان عليه من
شروط كالتنازل عن حقوق الطبع المالية كلياً ، والاتفاق على عدد معين من
الكتاب ، ولطبعة واحدة أو أكثر ، ولمدة معينة تعطي الطرف المسَوِّق مهلة
التسويق . وهكذا .
ومن أحوال العقود التجارية بين المؤلفين وشركات التوزيع والنشر ، نرى
أن طبيعة العقد إما إجارة أو بيعاً .
فالتوزيع : إجارة في حال اتفاق المؤلف مع الموزع على توزيع
الكتاب بأجرة معينة على عدد معين .

(2/184)


والنشر: بيع ، إذا باع المؤلف على الناشر عدداً معيناً من الكتاب
وبأيلولته إلى ملكه يتصرف بتسويق ما في حوزته تصرف الملاك في
أملاكهم .
ومن الجائز تناوبهما . هذا من حيث تصوير عقد النشر والتوزيع . يبقى
التكييف الفقهي .
فنحن إذا نظرنا إلى أن العين المعقود عليها عين ذات تكلفة مالية
للطباعة والشحن . والتخزين ، والتسويق ، وما يلزم لذلك .
وعلمنا أن الأصل في العقود والشروط الإِباحة إلا ما دل الشرع على
بطلانه . وأن مقاطع الحقوق عند الشروط ، وأن المسلمين على
شروطهم إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً : لم يحتمل لدينا أي تردد
في جواز عقد التوزيع مثلاً في صورة الإِجارة ، وأنه يلزم كلا العاقدين
الوفاء به لخلوه من الغرر والمخاطرة .
لكن ينبغي أن يمثل أمام المؤلف ملحظ شرعي وهو : وجود حق الله
في المؤلفات الإسلامية ، بحيث يكون الثمن الرائج للكتاب لا يلحق شططاً
بالمشترين فيكون سبباً لمنع انتشار العلم وتحمله .
أما في صورة عقد البيع : فطرد العقد الجواز على احتمال مخاطرة فيه
لكنها ضعيفة لا تقوى على فساد العقد وبطلانه .
ذلك أن الناشر أو الموزع : دخل في الشراء تطلعاً لروج الكتاب
وَنَفَاقِه ، وهذا أمر قد لا ينفع إلا بعد العرض والتوزيع ، فكم من كتاب
عرض ولم يكتب له الرواج فكان نصيبه الكساد ، فلحق الضرر الموزع من
دخوله العقد على مخاطرة وغرر - فتدفع بأن على الموزع التعرف على

(2/185)


موضوع الكتاب ومادته . ومدى حاجة القراء إلى موضوعه . إضافة إلى
أن التوزيع أصبح اليوم عالمياً بحكم وسائل النقل حتى صار العالم كمدينة
واحدة ، ومع هذا فلا نجد أن الموزعين يستطيعون تغطية الأسواق
بمنشوراتهم ، وكم من كتاب بالغ الأهمية لم تتجاوز طبعته قطره لذلك .
تحرر جوازه شرعاً ، لوجود المقتضى وعدم المانع الشرعي .
ثم ليعلم أن عقد البيع مع الناشر إنما هو عقد مقصور على ذات
العين المباعة دون أن يكون له حق التصرف بحقوق المؤلف الأدبية
الأخرى من : آراء المؤلف ونسبته إليه ، والتصرف في عباراته وما إلى ذلك
لأن هذه لا تباع ولا توهب .
وبعد :
فإن دور النشر :
هي من أعظم الوسائل في هذا العصر لنشر العلم وتسويق كتبه نشراً
للإبداع والابتكار وهي من أهم الوسائل لإعانة غير القادرين من المؤلفين
على نشر مؤلفاتهم وبذل أثمان الطباعة . وهي التي يستطاع بوسائلها
والتزاماتها تعميم الكتاب ونشره في أقاليم وممالك متعددة في وقت وجيز
لا يستطيعه المؤلف لو طبعه على حسابه .
وفي الوقت نفسه هي : زبون كاسر لأي مؤلف يتنازل عن حقوقه
المادية ، أو يتواضع معها بالاتفاق - لما يحققه لها من مكاسب مالية
ودعائية - فهل نقول مع هذا بحرمان المؤلف الذي كدّ فكره وأجهد نفسه
وأفنى وقته وعمره في مؤلفه ، من عوض مالي لقاءه وأن يكون غنيمة باردة
لدار النشر تطارح به في الأسواق . ؟

(2/186)


إن السؤال بعد هذا يعود بالدور فكيف يحرم منه مؤلفه ويسوغ لدور
النشر فعله . ؟
بل إن عملية الممارسة بين المؤلف ودار النشر أدعى لضبط الناشر من
استغلال الجشع والمطارحة به في الأسواق .
ثم كيف نسوغ لدار النشر أن ترابح وتتاجر على حساب جهد جهيد
من فكر الإنسان ونضوجه الذي هو أساس في كيانه الفكري وتكوينه في
هذه الحياة . ؟
بل هي التكوين الخالد إلى أن أمضى وأبلغ ، وقد تكون دور النشر
لكافر وظيفته جلب المال فنصفها له لقمة سائغة .
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم .

(2/187)