مختصر خلافيات البيهقي

كتاب الصّيام

ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - من كتاب (الصّيام)

مَسْأَلَة (1)
:
لَا يَصح صَوْم شهر رَمَضَان بنية من النَّهَار.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا نوى قبل الزَّوَال يَصح ".
وَدَلِيلنَا: من طَرِيق الْخَبَر مَا (روى) عَن حَفْصَة - رَضِي الله

(3/25)


عَنْهَا - زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ ". وروى من وَجه آخر عَنْهَا بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنه قَالَ " مَعَ الْفجْر ". وَرُوَاته ثِقَات.
وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَنْهَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: من لم يبيت الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ.
قَالَ عَليّ: رُوَاته ثِقَات، إِلَّا أَنه قد رُوِيَ مَوْقُوفا على حَفْصَة

(3/26)


وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من لم يبيت الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ ". قَالَ عَليّ بن عمر: " تفرد بِهِ عبد الله بن عباد عَن الْفضل بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَكلهمْ ثِقَات "
وروى مَالك: عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: كَانَ يَقُول: " لَا يَصُوم إِلَّا من أجمع الصّيام قبل الْفجْر "، وَعَن ابْن شهَاب عَن عَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا -: بِمثل ذَلِك.
وَرَوَاهُ اللَّيْث: عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم: أَن عبد الله وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَا ذَلِك.
فَهُوَ عَن عبد الله بن عمر، وَحَفْصَة صَحِيح، وَلَا مُخَالف لَهما فِي ذَلِك فِي صَوْم الْفَرْض من الصَّحَابَة.

(3/27)


وَرُبمَا استدلوا بِحَدِيث الرُّبيع بنت معوذ - رَضِي الله عَنْهَا - فِي صِيَام يَوْم عَاشُورَاء: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قرى الْأَنْصَار: " من أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن كَانَ أصبح مُفطرا فليتم صَوْمه آخر يَوْمه. قَالَت: فَلم نزل نصومه بعد، ونُصَوِّمه صبياننا " الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأَخْرَجَا أَيْضا عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث رجلا من أسلم إِلَى قومه يَوْم عَاشُورَاء فَقَالَ: مرهم فليصوموا هَذَا الْيَوْم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا أَرَانِي آتيهم حَتَّى يطعموا، قَالَ: من طعم مِنْهُم فليصم بَقِيَّة يَوْمه "
وَعِنْدَهُمَا عَن حميد أَنه سمع مُعَاوِيَة يَوْم عَاشُورَاء، عَام حج - وَهُوَ على الْمِنْبَر - يَقُول " أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِن هَذَا الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَلم يكْتب عَلَيْكُم صِيَامه، فَمن شَاءَ فليصم، وَمن شَاءَ فليفطر "

(3/28)


وَعند مُسلم عَن ابْن عمر قَالَ " ذكر عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَوْمًا يَصُومهُ أهل الْجَاهِلِيَّة، فَمن أحب مِنْكُم أَن يَصُومهُ فليصمه، وَمن كرهه فليدعه " ,
فَحَدِيث ابْن عمر وَمُعَاوِيَة - رَضِي الله عَنْهُم - دَلِيل على أَن صَوْم عَاشُورَاء لم يكن وَاجِبا قطّ. وَمن زعم أَنه كَانَ وَاجِبا ثمَّ ترك فَفِي خبر سَلمَة بن الْأَكْوَع دلَالَة على أَنه إِنَّمَا أَمر بِهِ نَهَارا، فَكَانَ وُجُوبه من ذَلِك الْوَقْت، فَلذَلِك (جَازَ بنية من) النَّهَار.
وَحَدِيث الْأَمر بِالْقضَاءِ لم يثبت إِسْنَاده، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، فَقيل من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مسلمة، وَقيل: ابْن سَلمَة، وَلم نقف على اسْمه وحاله، وَالله أعلم.

(3/29)


مَسْأَلَة (2) :
وَصَوْم التَّطَوُّع يَصح بِالنِّيَّةِ بعد الزَّوَال فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح ".
وَرُوِيَ عَن حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه بدا لَهُ الصَّوْم بعد مَا زَالَت الشَّمْس فصَام.
قَالَ الرّبيع: " وَقَالَ الشَّافِعِي حِكَايَة عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش

(3/30)


عَن عمَارَة عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أحدكُم بِالْخِيَارِ مَا لم يَأْكُل أَو يشرب "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (3) :

لم يذكرهَا الإِمَام - وَيكرهُ صَوْم يَوْم الشَّك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا يكره ".
وَدَلِيلنَا: مَا عِنْد البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يتَقَدَّم أحدكُم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصم ذَلِك الْيَوْم " وَأخرجه

(3/31)


مُسلم أَيْضا إِلَّا أَنه قَالَ: " لَا تقدمُوا قبل رَمَضَان.
وَرُوِيَ عَن سماك قَالَ: " دخلت على عِكْرِمَة فِي الْيَوْم الَّذِي شكّ فِيهِ من رَمَضَان وَهُوَ يَأْكُل، قَالَ " أدن فَكل، قلت: إِنِّي صَائِم، قَالَ: وَالله لتدنون، فَقلت: فَحَدثني، قَالَ: حَدثنِي ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تستقبلوا الشَّهْر اسْتِقْبَالًا، صُومُوا لرُؤْيَته، وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن حَال بَيْنكُم وَبَين منظره سَحَابَة أَو قترة فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ ". قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد "
عَن صلَة بن زفر قَالَ: " كُنَّا عِنْد عمار بن يَاسر - رَضِي الله عَنهُ - فَأتي بِشَاة مصلية، فَقَالَ: كلوا، فَتنحّى بعض الْقَوْم، فَقَالَ: إِنِّي صَائِم، فَقَالَ عمار - رَضِي الله عَنهُ - من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".

(3/32)


قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة من كِتَابه الصَّحِيح "
وروى أَبُو دَاوُد: عَن قُتَيْبَة، حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد قَالَ: " قدم عباد بن كثير الْمَدِينَة فَمَال إِلَى مجْلِس الْعَلَاء، فَأَخذه بِيَدِهِ فأقامه، ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ، إِن هَذَا يحدث عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا فَقَالَ الْعَلَاء: اللَّهُمَّ إِن أبي حَدثنِي عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك "

(3/33)


قَالَ أَبُو دَاوُد: " قَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر، يَعْنِي حَدِيث الْعَلَاء هَذَا "
وَرُوِيَ عَن عمر، وَعلي - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الشَّك.
وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن حنين عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " عجبت مِمَّن

(3/34)


يتَقَدَّم الشَّهْر، وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَصُومُوا حَتَّى تروه (وَلَا تفطروا حَتَّى تروه "
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " لِأَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان ثمَّ أقضيه أحب إِلَيّ من أَن أَزِيد فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ "
وَرُوِيَ أَن الْحسن، وَابْن سِيرِين، وَقَتَادَة كَانُوا إِذا حَال بَينهم وَبَين الْهلَال قترة أفطروا.
وَعَن عبد الْعَزِيز بن حَكِيم الْحَضْرَمِيّ قَالَ: سَمِعت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقيل لَهُ إِن قوما يَصُومُونَ الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ من رَمَضَان، فَقَالَ ابْن عمر: أُفٍّ لَهُم (أُفٍّ لَهُم) مَا أحب أَن أَصوم إِلَّا مَعَ الْجَمَاعَة "
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت - وَقد سُئِلت عَن الشَّهْر إِذا غم: " لِأَن أَصوم يَوْمًا من شعْبَان أحب إِلَيّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان "

(3/35)


وَرُوِيَ أَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ إِذا حَال بَينه وَبَينه سَحَاب أَو قترة صَامَ.
وَأما حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ لَهُ، أَو لغيره: " (هَل) صمت من سرر شعْبَان شَيْئا؟ " قَالَ: " لَا " (قَالَ) : " فَإِذا أفطرت فَصم يَوْمَيْنِ "، فقد حكينا عَن الْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز - رحمهمَا الله - أَنَّهُمَا قَالَا: سره أَوله. وَقيل عَن الْأَوْزَاعِيّ: آخِره. وَالْمرَاد بِهِ - وَالله أعلم - الْيَوْم أَو

(3/36)


(اليومان اللَّذَان) يسْتَتر فيهمَا الْقَمَر. وَقيل: يَوْم الشَّك، وَأَرَادَ بِهِ صِيَام آخر الشَّهْر مَعَ يَوْم الشَّك إِذا وَافق ذَلِك عَادَته فِي صَوْم آخر كل شهر.
وَأما حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " لِأَن أَصوم (يَوْمًا) من شعْبَان أحب إليّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان " فَإِنَّمَا قَالَه عِنْد شَهَادَة رجل على رُؤْيَة الْهلَال، وَبِه نقُول. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (4) :

وَشَهَادَة الْعدْل الْوَاحِد تقبل فِي هِلَال رَمَضَان مَعَ صحو السَّمَاء فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا لم يكن فِي

(3/37)


السَّمَاء عِلّة وَكَانَ الْبَلَد كَبِيرا فعدد الْقسَامَة فَصَاعِدا شَرط فِيهِ ".
لنا: مَا روى عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَيّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت الْهلَال - يَعْنِي هِلَال رَمَضَان - فَقَالَ: أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَ نعم، قَالَ: أَتَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، قَالَ: يَا بِلَال أذن فِي النَّاس أَن يَصُومُوا غَدا ".
وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس بِمَعْنَاهُ.
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " قد احْتج البُخَارِيّ بِأَحَادِيث عِكْرِمَة، وَاحْتج مُسلم بِأَحَادِيث سماك، وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح على أَصلهمَا.
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " ترَاءى النَّاس الْهلَال، فَأخْبرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنِّي رَأَيْته، فصَام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأمر النَّاس بالصيام "

(3/38)


قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا الحَدِيث صَحِيح ".
وروى الشَّافِعِي (بِسَنَدِهِ) عَن فَاطِمَة بنت حُسَيْن أَن رجلا شهد عِنْد عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان، فصَام - وَأَحْسبهُ قَالَ: وَأمر النَّاس أَن يَصُومُوا - وَقَالَ: " أَصوم يَوْمًا من شعْبَان أحب إِلَيّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان ".
وَرُوِيَ عَن طَاوُوس عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجَاز شَهَادَة رجل على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان "، وَلَيْسَ بمعتمد؛ لِأَن رَاوِيه حَفْص بن عمر الْأَيْلِي، وَهُوَ ضَعِيف.

(3/39)


وَرُوِيَ عبد الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْبَراء بن عَازِب (عَن) عمر أَنه أجَاز شَهَادَة الْأَعرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال، وَهَذَا خطأ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا قَوْله: " عَن عبد الرَّحْمَن عَن الْبَراء عَن عمر "، وَالْمَحْفُوظ: " عَن عبد الرَّحْمَن عَن عمر ".
وَالْآخر: إِطْلَاقه الْهلَال دون تَقْيِيده بِهِلَال شَوَّال، فَالْمَشْهُور عَن عبد الرَّحْمَن عَن عمر فِي رُؤْيَة هِلَال شَوَّال.
وَهُوَ أَيْضا مُنْقَطع، فَلم يثبت سَماع عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى من عمر - رَضِي الله عَنهُ -، وَعبد الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيّ ضَعِيف، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (5) :

لَا تقبل شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ فِي هِلَال شَوَّال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: " تقبل إِذا كَانَ فِي السَّمَاء عِلّة "، (وَكَذَلِكَ عِنْده تقبل شَهَادَة الْوَاحِد فِي هِلَال شَوَّال إِذا كَانَ فِي السَّمَاء عِلّة،

(3/40)


وَعِنْدنَا لَا يقبل (إِلَّا شَاهدا عدل) .
عِنْد (أبي دَاوُد: " عَن مَالك الْأَشْجَعِيّ عَن حُسَيْن) بن الْحَارِث الجدلي: جديلة قيس " أَن أَمِير بكة خطب، ثمَّ قَالَ: عهد إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نمسك لرُؤْيَته، فَإِن لم نره وَشهد شَاهدا عدل تمسكنا بِشَهَادَتِهِمَا - فَسَأَلَهُ الْحُسَيْن بن الْحَارِث: من أَمِير مَكَّة؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، ثمَّ لَقِيَنِي بعد ذَلِك فَقَالَ: هُوَ الْحَارِث بن حَاطِب أَخُو مُحَمَّد / بن حَاطِب - ثمَّ قَالَ الْأَمِير: إِن

(3/41)


مِنْكُم من هُوَ أعلم بِاللَّه وَرَسُوله مني، وَشهد هَذَا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأما بِيَدِهِ إِلَى رجل - قَالَ الْحُسَيْن: فَقلت لشيخ إِلَى جَنْبي: من هَذَا الَّذِي أَوْمَأ إِلَيْهِ الْأَمِير؟ قَالَ: هَذَا عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، وَصدق كَانَ أعلم بِاللَّه مِنْهُ - فَقَالَ: بذلك أمرنَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ من وَجه آخر بِمَعْنَاهُ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " قَالَ لنا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: سَأَلت إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: حَدثنَا بِهِ سعيد بن سُلَيْمَان، ثمَّ

(3/42)


قَالَ إِبْرَاهِيم: " هَذَا الْحَارِث بن حَاطِب بن الْحَارِث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، كَانَ من مُهَاجِرِي الْحَبَشَة ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن مَنْصُور عَن ربعي بن حِرَاش عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أصبح النَّاس صياما لتَمام ثَلَاثِينَ، فجَاء رجلَانِ فشهدا أَنَّهُمَا رَأيا الْهلَال بالْأَمْس، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس فأفطروا "
عَن (شَقِيق) قَالَ: جَاءَنَا كتاب عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَنحن (بخانقين) ، وَقَالَ فِي كِتَابه: " إِن الْأَهِلّة بَعْضهَا أكبر من

(3/43)


بعض، فَإِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال نَهَارا فَلَا تفطروا حَتَّى يشْهد شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رأياه بالْأَمْس "
وَهَذَا أصح إِسْنَادًا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - من حَدِيث عبد الْأَعْلَى بن عَامر الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن أبي ليلى عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (6) :

وَإِذا رئي الْهلَال يَوْم الثَّلَاثِينَ من شهر رَمَضَان نَهَارا فَهُوَ لليلة المستقبلية، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: " إِذا رئي قبل الزَّوَال فَهُوَ لليلة الْمَاضِيَة ".
لنا: حَدِيث عمر الْمَذْكُور آنِفا رَوَاهُ شُعْبَة عَن سُلَيْمَان

(3/44)


(عَن) أبي وَائِل بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنه قَالَ: " وَإِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال من أول النَّهَار "
وَكَذَلِكَ بِمَعْنَاهُ رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن الْأَعْمَش أَيْضا، وَقَالَ: " أول النَّهَار ".
وَرَوَاهُ مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل عَن الثَّوْريّ، وَقَالَ " إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال أول النَّهَار ... " وَذكر الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن سَالم قَالَ: " كَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: إِن نَاسا يفطرون إِذا رَأَوْا الْهلَال نَهَارا، وَإنَّهُ لَا يصلح لكم أَن تفطروا حَتَّى تروه لَيْلًا من حَيْثُ يرى "
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " كتب عمر إِلَى عتبَة بن فرقد: إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال نَهَارا قبل أَن (تَزُول) الشَّمْس لتَمام ثَلَاثِينَ

(3/45)


فأفطروا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ بعد مَا تَزُول الشَّمْس فَلَا تفطروا حَتَّى تَصُومُوا ".
هَذَا مُنْقَطع، ويعارضه حَدِيث سُفْيَان، وَهُوَ أصح مِنْهُ.
وَرُوِيَ الْوَاقِدِيّ بِسَنَدِهِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا: " أصبح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَائِما صبح ثَلَاثِينَ فَرُئِيَ هِلَال شَوَّال نَهَارا فَلم يفْطر حَتَّى أَمْسَى ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (7) :

وَإِذا جَامع امْرَأَته فِي نَهَار رَمَضَان فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهَا فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " على كل وَاحِد مِنْهُمَا كَفَّارَة ".

(3/46)


فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: هَلَكت يَا رَسُول الله قَالَ: وَمَا أهْلكك؟ قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان ... " الحَدِيث.
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " قَالَ لي بعض فقهائنا: قد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو ثَوْر عَن مُعلى بن مَنْصُور الرَّازِيّ عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ

(3/47)


عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ هَلَكت وأهلكت.
قلت لَهُ: هَذَا بَاطِل لَا أصل لَهُ، فَذكر سَمَاعا لَهُ فِيهِ عَن أبي ثَوْر، فَقلت: اشْهَدُوا عَليّ أَنه مَتى صَحَّ هَذَا عَن أبي ثَوْر كَمَا قَالَ فَهُوَ بَاطِل، وَالدَّلِيل على بُطْلَانه أَنِّي قَرَأت فِي كتاب أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن باكويه الجلاث، سَمَاعه من مُحَمَّد بن شَاذان الْجَوْهَرِي، بِخَط مشطاج الْوراق - الْخط الْمَشْهُور الَّذِي كَانَ مَشَايِخ أهل النَّقْل يحتجون بِهِ - فِي كتاب الصَّوْم، تصنيف الْمُعَلَّى بن مَنْصُور: حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجل فَقَالَ: هَلَكت فَقَالَ: وَمَا شَأْنك؟ قَالَ وَقعت على امْرَأَتي فِي شهر رَمَضَان ... الحَدِيث بِطُولِهِ. وَكَيف يجوز أَن يُقَال: إِن الْمُعَلَّى بن مَنْصُور صنف كتاب الصَّوْم فَترك هَذِه اللَّفْظَة من، وَخص بهَا أَبَا ثَوْر من بَين النَّاس؟ ".

(3/48)


وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن الْمسيب الأرغياني عَن مُحَمَّد بن عتبَة عَن أَبِيه، وَعَن عبد السَّلَام عَن عَمْرو والوليد، قَالُوا: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي الزُّهْرِيّ، فَذكر هَذِه اللَّفْظَة.
قَالَ أَبُو عبد الله - رَحمَه الله -: " هَذِه اللَّفْظَة الزَّائِدَة فِي هَذَا الحَدِيث - " وأهلكت " - مدخولة على مُحَمَّد بن الْمسيب فِي هَذَا الحَدِيث، وَقد كَانَ من صالحي الْمُسلمين، وَمن الرحالة فِي طلب الحَدِيث، وَمن المكثرين بِلَا فهم وَلَا معرفَة بالصنعة، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ عمي - رَحمَه الله (تَعَالَى) - من كَثْرَة بكائه، فَكَانَ أَصْحَاب الحَدِيث يضعون لَهُ، ويتمكنون من كتبه، وَلَا يخفى مَا يخْشَى من بَعضهم إِذا (استومنوا) الشَّيْخ، وَرَوَاهُ أَبُو عَليّ الْحَافِظ عَن مُحَمَّد بن الْمسيب دون هَذِه الزِّيَادَة.

(3/49)


(وَرَوَاهُ الْعَبَّاس بن الْوَلِيد عَن عقبَة بن عَلْقَمَة دون هَذِه الزِّيَادَة) ، وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك، والوليد بن مُسلم، والوليد بن يزِيد، والهقل، وَغَيرهم عَن الْأَوْزَاعِيّ دونهَا.
وَرَوَاهُ عَامَّة أَصْحَاب الزُّهْرِيّ أَكثر من ثَلَاثِينَ نفسا عَن الزُّهْرِيّ دون ذكرهَا، إِلَّا أَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة روى عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن (حميد) عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أهلكت يَا رَسُول الله ".
وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء؛ فقد رَوَاهُ غَيره عَن مُحَمَّد بن يحيى " هَلَكت ".
وَرَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره عَن عبد الرَّزَّاق: " هَلَكت ".
وَقد أقرّ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بالتصحيف، فَقَالَ بعد رِوَايَته

(3/50)


الحَدِيث: هَذِه اللَّفْظَة فِي كتابتي (بخطي) : أهلكت يَا رَسُول الله ". وَسمعت هَذَا الْكتاب مرَّتَيْنِ من مُحَمَّد، وأملى (علينا) مُحَمَّد - رَحمَه الله - هَذَا الْخَبَر فِي الْمسند فَقَالَ: " هَلَكت يَا رَسُول الله " بِإِسْقَاط الْألف، وَلَا أعلم أحدا من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ أَدخل فِيهِ هَذَا الْألف.
وَقد صنف أستاذنا أَبُو عبد الله الْحَافِظ - رَحمَه الله - فِي إبِْطَال هَذِه الزِّيَادَة ثَلَاثَة أَجزَاء بخطي.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَفِيمَا صَحَّ غنية؛ إِذْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات أمره أَيْضا بِالْقضَاءِ، وَلم يَأْمر الْمَرْأَة بذلك، وَهُوَ أخبر عَن حَاله وحالها.
(و) فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بقريب من معنى حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، وَفِيه مَكَان " هَلَكت ": " احترقت ".
والْحَدِيث الَّذِي يتعلقون بِهِ مخرج فِي مَسْأَلَة الْفطر بِالْأَكْلِ فِي نَهَار رَمَضَان. وَالله أعلم.

(3/51)


مَسْأَلَة (8) :

وَمن أكل عَامِدًا فِي صَوْم رَمَضَان فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: " عَلَيْهِ كَفَّارَة الْجِمَاع (فِيهِ) "

(3/52)


رُوي عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة رخصها الله - عز وَجل - لم يقْض عَنهُ وَلَو صَامَ الدَّهْر كُله ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَجَابِر بن زيد، وَإِبْرَاهِيم (أَلا) كَفَّارَة على الْمُفطر فِي رَمَضَان ,
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا أفطر فِي شهر رَمَضَان فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (بِعِتْق رَقَبَة، أَو صِيَام شَهْرَيْن، أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا، فَقَالَ: إِنِّي لَا أجد، فَأتي رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/53)


بعرق تمر فَقَالَ: خُذ هَذَا فَتصدق بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا أجد أحْوج مني، فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَدَت ثناياه، ثمَّ قَالَ: كُله ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - " وَكَانَ فطره بجماع ".
أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح، من حَدِيث مَالك، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ من حَدِيثه.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَابْن جريج، وَهِشَام بن سعد، وَغَيرهم، عَن الْأَزْهَرِي إِلَّا أَنه مُطلق.
وَقد رَوَاهُ سَائِر أَصْحَابه عَنهُ مُقَيّدا، وَذكر أَن فطره كَانَ بجماع، مِنْهُم معمر بن رَاشد، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم بن سعد،

(3/54)


وَاللَّيْث بن سعد وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَعبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن سَافر، وَحَدِيث هَؤُلَاءِ كلهم فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَو فِي أَحدهمَا مخرج.
وتابعهم على ذَلِك عرَاك بن مَالك الْغِفَارِيّ، ومُوسَى بن عتبَة، وَعبد الله بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر، وَعقيل بن خَالِد، والنعمان بن رَاشد، وَغَيرهم، عَن الزُّهْرِيّ مُقَيّدا.

(3/55)


وَمَالك بن أنس الإِمَام - رَحمَه الله - وَمن تَابعه - كَمَا رَوَاهُ - عَن الزُّهْرِيّ مُطلقًا خالفوا أَيْضا أَصْحَاب الزُّهْرِيّ فِي مَتنه، فجعلوه على التَّخْيِير: " أَو "، " أَو ". كَمَا صرنا إِلَى تَرْتِيب الْكَفَّارَة إِلَى رِوَايَة الْجَمَاعَة نصير إِلَيْهَا فِي استفادة مَا وَقع بِهِ الْفطر عَنْهَا.
على أَنه قد رُوِيَ عَن مَالك هَذَا الحَدِيث مثل مَا رَوَاهُ أقرانه من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ: أَخْبرنِي أَبُو الْفضل ابْن إِبْرَاهِيم قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن سَلمَة يَقُول: " ذاكرت مُسلم بن الْحجَّاج حَدِيث مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي قصَّة الوقاع أَنه قَالَ فِيهِ: " أَو ... أَو " فَقَالَ: لم أَجِدهُ من حَدِيث مَالك عِنْد أحد إِلَّا قَالَ هَكَذَا، حَتَّى وجدته عِنْد عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن حَمَّاد بن مسْعدَة عَن مَالك، قَالَ فِيهِ: " أعتق

(3/56)


رَقَبَة، ثمَّ قَالَ: صم شَهْرَيْن "، قَالَ أَحْمد: فَذَهَبت / إِلَيْهِ فَحَدثني بِهِ ".
وَصَحَّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مُقَيّدا: " أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنَّه احْتَرَقَ، فَسَأَلَهُ: مَا لَهُ؟ فَقَالَ: أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمكتل يدعى الْعرق فِيهِ تمر فَقَالَ: أَيْن المحترق؟ فَقَامَ الرجل فَقَالَ: تصدق بِهَذَا ". أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.
وَهَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد بن يحيى بن سعيد مُقَيّدا. وَرَوَاهُ عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم مُقَيّدا.
وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن يحيى بن سعيد مُطلقًا،

(3/57)


قَالَ: " أفطرت فِي رَمَضَان "
وَالْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد، وَلَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَفَّارَة الْفطر بِالْأَكْلِ شَيْء، وَالْأَخْبَار كلهَا وَردت فِي الْفطر بِالْجِمَاعِ.
وَكَانَ على بن مُوسَى القمي من أَصْحَاب الرَّأْي - وَيَدعِي الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ - زعم أَن الْخَبَر الَّذِي أوجب الْكَفَّارَة على الْمُفْسد لصيامه هُوَ فِي الْجِمَاع، فَجعل عُلَمَاؤُنَا الْأكل بِمَنْزِلَة الْجِمَاع.
روى لَيْث بن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَمر الَّذِي يفْطر فِي رَمَضَان بِمثل كَفَّارَة الظِّهَار.
وَلَيْث لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث، وَقد أرْسلهُ غَيره عَن مُجَاهِد،

(3/58)


ثمَّ هُوَ أَرَادَ أَيْضا فِي الْمُفطر بِالْجِمَاعِ.
وَقد رُوِيَ جرير، وَعبد الْوَارِث بن سعيد عَن أَبِيه عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي وَقعت على أَهلِي فِي رَمَضَان وَأَنا صَائِم، فَذكر الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أتيت - يَا رَسُول الله - أَهلِي فِي نَهَار رَمَضَان "، فَأمره أَن يكفر كَفَّارَة الظِّهَار.
وَرُوِيَ عَن الْحمانِي عَن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ

(3/59)


وهم: وَالْمَحْفُوظ: عَن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل عَن مُجَاهِد مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد مظلم بِإِسْنَاد عَن مقَاتل بن سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان فِي الْحَضَر مُتَعَمدا من غير عذر عَلَيْهِ عتق رَقَبَة، الحَدِيث.

(3/60)


وَمُقَاتِل ضَعِيف الحَدِيث. قَالَ مقَاتل بن الْجراح: " حَدثنَا مقَاتل بن سُلَيْمَان، وَكَانَ كذابا ... "
ثمَّ هُوَ وَارِد فِي الْفطر بِالْجِمَاعِ، بِدَلِيل مَا أخبرنَا أَبُو عبد الله، وَذكر إِسْنَاده عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل: حَدثنَا لَيْث عَن عَطاء عَن جَابر، وَأبي هُرَيْرَة - رضب الله عَنْهُمَا - قَالَا: " جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي وَقعت على امْرَأَتي نَهَارا فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة (وَذكر الحَدِيث) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَطاء (عَن جَابر) - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، (إِنِّي) وَقعت على امْرَأَتي نَهَارا فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة "
وَرَوَاهُ الصَّباح بن محَارب عَن هَارُون بن عميرَة - وليسا (مِمَّن

(3/61)


يقوم بهما) حجَّة - عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنِّي أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان "، وَذكر الحَدِيث.
وَهُوَ مَتى مَا صَحَّ كَانَ وارداً أَيْضا فِي الْمُفطر بِالْجِمَاعِ، بِدَلِيل أَنه قد رُوِيَ عَن عبد الله الْعمريّ ولوين بن حَكِيم عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مُقَيّدا: " أَتَى رجل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان ".
وروى الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله

(3/62)


عَنهُ -: " جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أعتق رَقَبَة، أَو صم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، أَو أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا "
وَرَوَاهُ عبد الله بن شبيب بن أبي أويس عَن أَبِيه بِإِسْنَادِهِ، وَمَعْنَاهُ. والواقدي وَابْن شبيب ضعيفان، ثمَّ هُوَ وَارِد فِي الْفطر بِالْجِمَاعِ، بِدَلِيل مَا سبق.
وروى نجيح أَبُو معشر عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة -

(3/63)


رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رجلا أكل فِي رَمَضَان فَأمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يعْتق رَقَبَة، أَو يَصُوم شَهْرَيْن، أَو يطعم سِتِّينَ مِسْكينا ".
وَهَذِه اللَّفْظَة بَاطِلَة، وَأَبُو معشر ضَعِيف الحَدِيث، وَقد سبق مِنْهُ مَا يَكْفِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد (رُوِيَ عَنهُ من وَجه آخر) ، فَقَالَ فِيهِ: " أفطرت " وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (9) :

وَالْحَامِل والمرضع إِذا خافتا على ولديهما أفطرتا، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاء والفدية، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِمَا الْقَضَاء وَلَا فديَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْأَثر: مَا روى الشَّافِعِي عَن مَالك - رحمهمَا الله - عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: سُئِلَ عَن الْمَرْأَة الْحَامِل إِذا خَافت على وَلَدهَا، قَالَ: تفطر وَتطعم مَكَان كل يَوْم مِسْكينا، مدا من حِنْطَة "
قَالَ الشَّافِعِي: " قَالَ مَالك: وَأهل الْعلم يرَوْنَ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِك الْقَضَاء ".

(3/64)


قَالَ مَالك ك " عَلَيْهَا الْقَضَاء؛ فَإِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - يَقُول: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} .
ثمَّ قد رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " وَإِذا صحت قَضَت ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ لأم ولد حُبْلَى، أَو مرضع: " أَنْت من الَّذين لَا يُطِيقُونَ الصّيام، عَلَيْك الْجَزَاء، وَلَيْسَ عَلَيْك الْقَضَاء ". قَالَ عَليّ بن عمر: " إِسْنَاد صَحِيح ".
والفدية وَجَبت بقول (ابْن عَبَّاس وَابْن عمر) - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْقَضَاء وَاجِب بقول الله تَعَالَى: {فَعدَّة من أَيَّام أخر} ، وبإجماع من بعدهمَا على وجوب الْقَضَاء على الْحَامِل والمرضع.
روى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: (وعَلى

(3/65)


الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} : قَالَ: كَانَت رخصَة للشَّيْخ الْكَبِير، وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة - وهما يطيقان الصّيام - أَن يفطرا، ويطعما مَكَان كل يَوْم مِسْكينا، والحبلى والمرضع إِذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (10) :

من رأى الْهلَال وَحده و (شهد بِهِ) ، فَردَّتْ شَهَادَته كَانَ عَلَيْهِ أَن يَصُوم إِجْمَاعًا، فَإِن جَامع فِي يَوْم رد شَهَادَته لَزِمته الْكَفَّارَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سَالم أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لهِلَال رَمَضَان: " إِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ".
فَثَبت بِهَذَا الْخَبَر وجوب الصَّوْم عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَونه عِنْده من رَمَضَان، والمفسد لصومه فِي نَهَار رَمَضَان بِالْجِمَاعِ يلْزمه الْكَفَّارَة.

(3/66)


(و) حَدِيث المجامع فِي شهر رَمَضَان يدل على ذَلِك؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لم يسْأَل أوقع) - ذَلِك فِي مثل هَذَا الْيَوْم أَو بعده؟
وَرُوِيَ الْوَاقِدِيّ بِسَنَدِهِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا: (" صومكم يَوْم تصومون، وفطركم يَوْم تفطرون ". وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن عَائِشَة مَرْفُوعا:) " عَرَفَة يَوْم يعرف الإِمَام، والأضحى يَوْم يُضحي الإِمَام، وَالْفطر يَوْم يفْطر الإِمَام ". وَابْن الْمُنْكَدر عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مُرْسل. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (11) :

وَمن كَانَ عَلَيْهِ صَوْم (رَمَضَان) فَلم يقضه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى دخل عَلَيْهِ رَمَضَان آخر قضى وَكفر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يقْضِي، وَلَا يكفر ".

(3/67)


روى عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " يطعم عَن السالف ويصوم الدَّاخِل "، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِمثلِهِ.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا قَالَ: " من فرط فِي صِيَام شهر رَمَضَان حَتَّى يُدْرِكهُ رَمَضَان آخر فليصم هَذَا الَّذِي أدْركهُ، ثمَّ ليصم مَا فَاتَهُ، وَيطْعم مَعَ كل يَوْم مِسْكينا:. وأسانيد هَذِه الْآثَار صَحِيحَة.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه قَالَ: " يَصُوم الَّذِي حضر، وَيَقْضِي الآخر، وَيطْعم لكل يَوْم مِسْكينا ".
وَرُوِيَ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يَصح، رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن نَافِع أَبُو إِسْحَاق الْجلاب عَن عمر بن مُوسَى بن

(3/68)


دحْيَة، وهما ضعيفان.
وَثَبت ذَلِك عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، وَعَن سعيد بن جُبَير، رَحِمهم الله. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (12) :

لم يذكرهَا الإِمَام، رَحمَه الله - وَمن كَانَ عَلَيْهِ صَوْم فَلم يقضه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ صَامَ عَنهُ وليه - إِن شَاءَ - أَو أطْعم عَنهُ، على قَوْله فِي الْقَدِيم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: يطعم عَنهُ، وَلَا يجزيء الصَّوْم عَنهُ "، وَهُوَ قَوْله فِي الْجَدِيد.
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: " جَاءَت امْرَأَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر، قَالَ: أَكنت قاضية دينا لَو كَانَ على أمك؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فصومي عَنْهَا ".

(3/69)


(وَعند مُسلم عَن عبد الله بن يزِيد عَن أَبِيه قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت: إِنِّي تَصَدَّقت على أُمِّي بِجَارِيَة وَإِنَّهَا مَاتَت، قَالَ: وَجب أجرك، وردهَا عَلَيْك الْمِيرَاث. قَالَت: يَا رَسُول الله، إِنَّه كَانَ عَلَيْهَا صَوْم شهر، أفأصوم عَنْهَا؟ قَالَ: صومي عَنْهَا) ، قَالَت: يَا رَسُول الله، إِنَّهَا لم تحج، أفأحج عَنْهَا؟ قَالَ: حجي عَنْهَا ". فَهَذَا الحَدِيث قد صَحَّ وَهُوَ صَرِيح فِي جَوَاز الصَّوْم عَن الْمَيِّت بعيد من التَّأْوِيل.
وَمذهب إمامنا الشَّافِعِي - رَحمَه الله - اتِّبَاع السّنة بعد ثُبُوتهَا، وَترك مَا يُخَالِفهَا بعد صِحَّتهَا. وَهَذِه الْأَخْبَار ثَابِتَة، وَلَا أعلم خلافًا بَين أهل الحَدِيث فِي صِحَّتهَا. فَوَجَبَ على من سَمعهَا اتباعها، وَلَا يَسعهُ خلَافهَا.
وَأما الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن مُحَمَّد عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا أَن فِيهِ الْكَفَّارَة، وَلم يذكر الصّيام، فَإِن رَفعه وهم، وَالصَّوَاب: عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. وَمُحَمّد هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى، قَالَه ابْن عدي، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث كثير الْوَهم، وَقد سبق من ذكره مَا يَكْفِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(3/70)


وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " لَا يَصُوم أحد عَن أحد، وَلَا يحجّ أحد عَن أحد " فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ - وَالله أعلم - فِي حَال الْحَيَاة. ثمَّ اتِّبَاع سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى. (وَعلمِي أَنه لَو بلغه الْخَبَر لصار إِلَيْهِ.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهُم - أَنَّهُمَا أفتيا بِالْكَفَّارَةِ دون ذكر الصَّوْم عَنهُ. وَمن قَالَ من أَصْحَابنَا بذلك احْتج بِهِ عَنْهُمَا، وهما رويا الحَدِيث الْمَرْفُوع فِي الْقَضَاء / عَن الْمَيِّت، فَدلَّ على) أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوع فعل مَا يكون قَضَاء لصومه، وَهُوَ الْإِطْعَام الَّذِي فسره، وَالله أعلم.
وَالْأَحَادِيث المرفوعة أصح إِسْنَادًا، وأحفظ رجَالًا من الَّذِي رُوِيَ مَوْقُوفا، وَالْأَحَادِيث على ظَاهرهَا حَتَّى يَأْتِي دلَالَة على غير ذَلِك، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " فِي رَمَضَان يطعم عَنهُ، وَفِي النّذر يقْضِي عَنهُ وليه "، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا يَصُوم أحد عَن أحد، وَيطْعم عَنهُ ". وَالله أعلم.

(3/71)


مَسْأَلَة (13) :

وَمن نذر صَوْم يَوْم النَّحْر، أَو يَوْم الْفطر لم ينْعَقد نَذره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " ينْعَقد نَذره، ويصوم يَوْمًا آخر مَكَانَهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِيَة: لَو صَامَهُ جَازَ ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي عبيد مولى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنه شهد الْعِيد مَعَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فصلى قبل أَن يخْطب بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة، ثمَّ خطب فَقَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن صِيَام هذَيْن الْيَوْمَيْنِ، أما أَحدهمَا (ف) يَوْم فطركم من صِيَامكُمْ، وعيدكم، وَأما الآخر فَيوم تَأْكُلُونَ فِيهِ من نسككم ".
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن صِيَام يَوْمَيْنِ: يَوْم الْفطر، وَيَوْم الْأَضْحَى، وَعَن

(3/72)


لبستين: الصماء، وَأَن يحتبي (الرجل) فِي الثَّوْب الْوَاحِد، وَعَن الصَّلَاة فِي ساعتين: بعد الصُّبْح، وَبعد الْعَصْر "
وَعند مُسلم عَن عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا نذر فِي مَعْصِيّة، وَلَا فِيمَا لَا يملكهُ (ابْن آدم) ".
وَعند البُخَارِيّ عَن حَكِيم بن أبي حَمْزَة الْأَسْلَمِيّ: سمع رجلا يسْأَل عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رجل نذر: لَا يَأْتِي عَلَيْهِ يَوْم سَمَّاهُ إِلَّا وَهُوَ صَائِم فِيهِ، فَوَافَقَ ذَلِك يَوْم أضحى، أَو يَوْم فطر، فَقَالَ ابْن عمر: - رَضِي الله عَنْهُمَا - {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} ، لم يكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/73)


يَصُوم يَوْم الْأَضْحَى، وَلَا يَوْم الْفطر، وَلَا يَأْمر بصيامهما ".
وهم يروون عَنهُ حسب مَا يُوَافق مَذْهَبهم، وَلَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا الصَّحِيح عَنهُ هَكَذَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (14) :

وَمن سبق مَاء الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق إِلَى جَوْفه لم يفْطر على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " أفطر " وَهُوَ القَوْل الثَّانِي، وَاخْتِيَار الْمُزنِيّ، رَحمَه الله.
وَجه قَوْله: " لم يفْطر " من طَرِيق الْخَبَر: مَا رَوَاهُ الثِّقَات عَن ابْن

(3/74)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ".
وَوجه قَوْله: " أفطر ": روى أَبُو دَاوُد عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ: هششت فَقبلت وَأَنا صَائِم (فَقلت: يَا رَسُول الله، صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما، قبلت وَأَنا صَائِم) ، قَالَ: أَرَأَيْت لَو تمضمضت من المَاء وَأَنت صَائِم؟ قلت: لَا بَأْس، قَالَ: فَمه ".
وروى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ عَن لَقِيط بن صبرَة - رَضِي الله عَنهُ - حَدِيثا فِيهِ: " قلت: يَا رَسُول الله، أَخْبرنِي عَن الْوضُوء، قَالَ: أَسْبغ الْوضُوء، وخلل بَين الْأَصَابِع، وَبَالغ فِي الِاسْتِنْشَاق، إِلَّا أَن تكون صَائِما ". وَالله أعلم.

(3/75)


مَسْأَلَة (15) :

وَالْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي بعض نَهَار رَمَضَان لم يلْزمه قَضَاء مَا مضى من الْأَيَّام على الْجُنُون. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يلْزمه قَضَاؤُهَا إِذا كَانَ جُنُونه عارضاً، وَلم يكن أَصْلِيًّا ".
عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث، عَن النَّائِم حَنى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يبرأ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يعقل ".
روى جرير بن حَازِم عَن سُلَيْمَان بن مهْرَان عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " مر عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -

(3/76)


بمجنونة بني فلَان قد زنت، وَهِي ترْجم، فَقَالَ عَليّ لعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أمرت برجم فُلَانَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أما تذكر قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (رفع) الْقَلَم عَن ثَلَاث: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَنى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق "؟ قَالَ نعم، فَأمر بهَا فخلى عَنْهَا "، رُوَاته ثِقَات، إِلَّا أَن جَرِيرًا انْفَرد بِرَفْعِهِ عَن سُلَيْمَان، وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن الْأَعْمَش مَوْقُوفا على عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
وَرَوَاهُ عَطاء بن السَّائِب عَن أبي ظبْيَان عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرْفُوعا، دون ذكر ابْن عَبَّاس فِي إِسْنَاده.
وَرَوَاهُ قَتَادَة عَن الْحسن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِسْنَاده حسن، والمحدثون يَقُولُونَ: " أدْرك الْحسن الْبَصْرِيّ عليا، رَضِي الله عَنهُ ".
وَعند أبي دَاوُد عَن أبي الضُّحَى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -

(3/77)


عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (16) :

(و) يكره السِّوَاك للصَّائِم (بعد العشى) . وَقَالَ أَبُو

(3/78)


حنيفَة - رَحمَه الله: " لَا يكره ذَلِك ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كل حَسَنَة يعْمل ابْن آدم تكْتب عشرا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ، وللصائم فرحتان: فرحة عِنْد فطره، وفرحة يَوْم الْقِيَامَة، ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك "، والسواك يقطع هَذَا الخلوف.
وبمثله احْتج أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " لَك السِّوَاك إِلَى الْعَصْر / فَإِذا صليت الْعَصْر فألقه، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: خلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا يستاك الصَّائِم بالْعَشي، وَلَكِن بِاللَّيْلِ، فَإِن يبوس شفتي الصَّائِم نور بَين عَيْنَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة ".

(3/79)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عَاصِم بن عبيد الله عَن (ابْن عَامر) بن عبد الله بن ربيعَة عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " مَا أحصي، وَلَا أعد مَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتَسَوَّك وَهُوَ صَائِم ".
وَعَاصِم بن عبيد الله ضَعِيف الحَدِيث، قَالَ البُخَارِيّ: " مُنكر الحَدِيث ".
وروى مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من خير خِصَال الصَّائِم السِّوَاك ".
قَالَ البُخَارِيّ: " مجَالد بن سعيد بن عُمَيْر الْكُوفِي: كَانَ يحيى

(3/80)


الْقطَّان يُضعفهُ، وَكَانَ ابْن مهْدي لَا يروي عَنهُ، عَن الشّعبِيّ وَقيس ابْن أبي حَازِم، وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل لَا يرَاهُ شَيْئا، وَيَقُول: " مجَالد لَيْسَ بِشَيْء ".
وروى إِبْرَاهِيم بن قِنْطَار أَبُو إِسْحَاق الْخَوَارِزْمِيّ عَن عَاصِم الْأَحول عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي ذَلِك.

(3/81)


وَأَبُو إِسْحَاق: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ فَإِنَّهُ حدث ببلخ عَن عَاصِم بِالْمَنَاكِيرِ.
وروى الْقَاسِم بن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يتَسَوَّك بِالسِّوَاكِ الرطب وَهُوَ صَائِم.
قَاسم ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (17) :

من أفطر فِي صَوْم التَّطَوُّع عَامِدًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة = رَحمَه الله =: " عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَلم يكن لَهُ الْخُرُوج مِنْهُ ".
دلينا من طَرِيق (الْأَثر و) الْخَبَر: مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن

(3/82)


عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت -: " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة، هَل عنْدك شَيْء؟ قَالَت: لَا وَالله، مَا عندنَا شَيْء، قَالَ: إِنِّي صَائِم. قَالَت: فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأهديت لنا هَدِيَّة، أَو جَاءَنَا زور، قَالَت: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلت: يَا رَسُول الله أهديت لنا هَدِيَّة، أَو جَاءَنَا زور، وَقد خبأت لَك شَيْئا، قَالَ: مَا هُوَ؟ قلت: حيس، قَالَ: هاتيه، فَجئْت بِهِ فَأكل، ثمَّ قَالَ: قد كنت أَصبَحت صَائِما ".
هَكَذَا أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَن أبي كَامِل الجحدري عَن عبد الْوَاحِد، وَعَن أبي بكر عَن وَكِيع عَن طَلْحَة بن يحيى.
وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ وَغَيره عَن طَلْحَة.
وَرَوَاهُ شيخ يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْعَبَّاس الْبَاهِلِيّ عَن ابْن

(3/83)


عيية، وَزَاد فِيهِ: " وَأَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ.
قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يروه عَن ابْن عيية بِهَذَا اللَّفْظ غير الْبَاهِلِيّ، وَلم يُتَابع على قَوْله، وَلَعَلَّه شبه عَلَيْهِ - وَالله أعلم - لِكَثْرَة من خَالفه.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا سُفْيَان عَن طَلْحَة، فَذكر سَنَده عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " دخل عليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: إِنَّا خبأنا لَك حَيْسًا، فَقَالَ: أما إِنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم، وَلَكِن قربيه "، كَذَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ عَنهُ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ، فَزَاد: " سأصوم يَوْمًا مَكَانَهُ ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " سَمِعت سُفْيَان، عَامَّة مجالسه لَا يذكر فِيهِ: " سأصوم يَوْمًا مَكَانَهُ "، ثمَّ عرضته عَلَيْهِ قبل أَن يَمُوت بِسنة فَأجَاب فِيهِ: سأصوم يَوْمًا مَكَانَهُ "
ثمَّ حمله الشَّافِعِي - إِن كَانَ ثَابتا - على الإختيار للتطوع يَصُوم

(3/84)


يَوْمًا مَكَانَهُ، كقضائه رَكْعَتي الظّهْر بعد الْعَصْر فِي حَدِيث أم سَلمَة، وسط الْكَلَام فِيهِ، رَحمَه الله تَعَالَى.
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن جَابر - رصي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج عَام الْفَتْح فصَام حَتَّى بلغ كرَاع الغميم فَقيل لَهُ: إِن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصّيام وَإِنَّمَا ينظرُونَ فِيمَا فعلت، فَدَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر، فَشرب وَالنَّاس ينظرُونَ، فَأفْطر بعض النَّاس، وَصَامَ بَعضهم، فَبَلغهُ أَن أُنَاسًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ العصاة ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي جُحَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن

(3/85)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آخى بَين سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء، قَالَ: فَجَاءَهُ سلمَان يزوره فَإِذا أم الدَّرْدَاء مبتذلة، فَقَالَ: مَا شَأْنك يَا أم الدَّرْدَاء؟ قَالَت: إِن أَخَاك يقوم اللَّيْل ويصوم النَّهَار، فَجَاءَهُ أَبُو الدَّرْدَاء، فرحبه، و (قرب إِلَيْهِ) طَعَاما، وَقَالَ لَهُ سلمَان قَالَ: أطْعم، إِنِّي صَائِم، قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتفطرن، قَالَ: مَا أَنا بآكل حَتَّى تَأْكُل، فَأكل مَعَه، ثمَّ بَات عِنْده، فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل أَرَادَ أَبُو الدَّرْدَاء أَن يقوم فَمَنعه سلمَان، وَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاء، إِن لجسدك عَلَيْك حَقًا، ولربك عَلَيْك حَقًا، ولأهلك عَلَيْك حَقًا، صم وَأفْطر، وأت أهلك، وَأعْطِ كل ذِي حق حَقه، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجه الصُّبْح قَالَ: قُم الْآن إِن شِئْت، قَالَ فقاما، فتوضآ، ثمَّ ركعا، ثمَّ خرجا إِلَى الصَّلَاة، فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاء ليخبر

(3/86)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالَّذِي أمره سلمَان، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا أَبَا الدَّرْدَاء، إِن لجسدك عَلَيْك حَقًا، مثل مَا قَالَ سلمَان ".
وَعند أبي دَاوُد عَن عبد الله بن الْحَارِث عَن أم هَانِئ قَالَت: " لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة جَاءَت فَاطِمَة فَجَلَست عَن يسَار رَسُول الله -
- وَأم هَانِئ عَن يَمِينه، فَجَاءَت الوليدة بِإِنَاء فِيهِ شراب فَنَاوَلَهُ، فَشرب، ثمَّ ناول أم هَانِئ فَشَرِبت مِنْهُ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، لقد أفطرت، وَكنت صَائِمَة، فَقَالَ لَهَا: كنت تقضين شَيْئا؟ قَالَت: لَا، قَالَ: فَلَا يَضرك إِن كَانَ تَطَوّعا ".
قَوْلهَا: " يَوْم فتح مَكَّة " أَرَادَت بِهِ أَيَّام فتح مَكَّة.
وروى عون بن عمَارَة الْبَصْرِيّ عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -، وَعَن جَعْفَر بن الزبير عَن الْقَاسِم عَن أبي

(3/87)


أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " (الصَّائِم بِالْخِيَارِ مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار ".
وَعون بن عمَارَة فِيهِ نظر، وجعفر بن الزبير مَتْرُوك.
وروى ابْن فديك عَن ابْن أبي حميد عَن إِبْرَاهِيم بن عبيد الله ابْن رِفَاعَة الْأنْصَارِيّ أَن أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - صنع طَعَاما، فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه، فَقَالَ: كلوا، فَقَالَ رجل مِنْهُم: إِنِّي صَائِم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تكلّف لَك أَخُوك، وصنع لَك طَعَاما، فَأفْطر، وصم يَوْمًا غَيره إِن أَحْبَبْت ".

(3/88)


كَذَلِك رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن أبي سعيد بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " صم مَكَانَهُ يَوْمًا إِن شِئْت ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن ابْن أبي حميد بِبَعْض مَعْنَاهُ، وَلم يقل: " إِن أَحْبَبْت، وَتلك الزِّيَادَة أصح.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مُسلم، وَعبد الْمجِيد عَن ابْن جريج عَن عَطاء " أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يفْطر الْإِنْسَان فِي صِيَام التَّطَوُّع، وَيضْرب لذَلِك أَمْثَالًا: رجل طَاف سبعا، وَلم يوفه، فَلهُ أجر مَا احتسب، أَو صلى رَكْعَة، وَلم يصل أُخْرَى، فَلهُ أجر مَا احتسب ".
قَالَ: " وَأخْبرنَا مُسلم، وَعبد الْمجِيد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: " كَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - لَا يرى بالإفطار فِي صِيَام التَّطَوُّع بَأْسا ".
وَعنهُ: " حَدثنَا عبد الْمجِيد عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن

(3/89)


جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كَانَ لَا يرى بالإفطار فِي صِيَام التَّطَوُّع بَأْسا ".
وروى عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " إِذا أَصبَحت وَأَنت تنهوي الصّيام فَأَنت (بأخير) النظرين: إِن شِئْت صمت، وَإِن شِئْت أفطرت "
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " من أصبح صَائِما ثمَّ بدا لَهُ أَن يفْطر فليقض يَوْمًا مَكَانَهُ ".
وَهَذَا على الِاسْتِحْبَاب، ورد بِدَلِيل مَا مضى، أَو فِي فَرِيضَة مقضية، أَو منذورة مفعولة.
وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا وَحَفْصَة أصبحتا - رَضِي الله عَنْهُمَا - صائمتين، فَأَصَابَهُمَا جهد، فذكرتا

(3/90)


ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمرهمَا أَن يفطرا، وَقَالَ: " اقضيا يَوْمًا مَكَانَهُ ".
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن حجاج بن أَرْطَاة عَن الزُّهْرِيّ، وَالْحجاج لم ير الزُّهْرِيّ وَلم يسمع مِنْهُ، وَذكر عُرْوَة فِي هَذَا الحَدِيث وهم، وَإِنَّمَا رُوِيَ (عَن الزُّهْرِيّ) عَن عَائِشَة مرسلاُ، وَكَذَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ.
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَيُونُس بن يزِيد، وَابْن جريج، وَمعمر بن رائد، وَمُحَمّد بن الْوَلِيد، وَبكر ابْن وتال، وَغَيرهم عَن الزُّهْرِيّ أَن عَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - ...
وَقد أقرّ الزُّهْرِيّ أَنه لم يسمع هَذَا الحَدِيث من عُرْوَة، قَالَ ابْن جريج: " قلت لَهُ: أحَدثك عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين؟ فَقَالَ: لم أسمع من عُرْوَة فِي هَذَا شَيْئا، وَلَكِن حَدثنِي نَاس فِي خلَافَة سُلَيْمَان بن عبد الْملك

(3/91)


عَن بعض من كَانَ يدْخل على عَائِشَة، قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين، فأهدي لنا هَدِيَّة فأكلناها، فَدخل علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فبدرتني حَفْصَة، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: اقضيا يَوْمًا مَكَانَهُ ".
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَا يَصح حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب الحَدِيث الَّذِي رويت عَن عَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - / عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ ابْن جريج: " فَقلت لَهُ: أسمعته من عُرْوَة؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا أخبرنيه رجل بِبَاب عبد الْملك، أَو رجل من جلساء عبد الْملك بن مَرْوَان ".
قَالَ مُحَمَّد بن يحيى: " لم يَصح ذَا عندنَا من حَدِيث عُرْوَة لتنصيص ابْن جريج الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: لم اسْمَع من عُرْوَة فِي ذَلِك شَيْئا، ولحكاية سُفْيَان جَوَاب الزُّهْرِيّ لصالح بن أبي الْأَخْضَر حِين قَالَ لِلزهْرِيِّ: إِنَّمَا هُوَ عَن عُرْوَة، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا، وَرفع صَوته. وَتَتَابَعَتْ الْأَخْبَار بعد عَن الْحفاظ بإرسال الزُّهْرِيّ الحَدِيث ".
معمر، وَمَالك، وَيُونُس، والزبيدي، وَيحيى بن سعيد، وَعبد الله

(3/92)


ابْن عمر، فَهَؤُلَاءِ أثبت وَأولى مِمَّن خالفهم.
وَقيل: " عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُمَا " وَهُوَ وهم.
روى أَبُو بكر الْأَثْرَم: " قلت لأبي عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - يحفظ عَن يحيى عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين؟ فَأنكرهُ، فَقَالَ: من رَوَاهُ؟ قلت: جرير بن حَازِم، قَالَ جرير كَانَ يحدث بالتوهم، فَقلت لَهُ: بِمصْر خَاصَّة أَو فِي غَيرهَا؟ فَقَالَ: كَانَ يحدث بالتوهم فِي غَيرهَا، وفيهَا "، هَذَا معنى كَلَامه، إِن شَاءَ الله.
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " أَشْيَاء عَن قَتَادَة أسندها كلهَا (بَاطِل) ".
وروى أَحْمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي (قَالَ) : " قلت لعَلي بن

(3/93)


الْمَدِينِيّ: يَا أَبَا الْحسن، تحفظ عَن يحيى بن سعيد عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين؟ فَقَالَ لي: من هَذَا؟ قلت: ابْن وهب عَن جرير بن حَازِم عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: فَضَحِك، ثمَّ قَالَ لي: مثلك يَقُول هَذَا حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن سعيد) عَن الزُّهْرِيّ أَن عَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - أصبحتا صائمتين ".
وَرُوِيَ عَن الْفرج بن فضَالة - وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث جدا - عَن يحيى عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَهُوَ وهم رَوَاهُ هِشَام بن خَالِد عَن

(3/94)


شُعَيْب بن إِسْحَاق وَقيل: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " هَذَا شَاذ بِمرَّة، فَإِن شُعَيْب بن إِسْحَاق وَإِن كَانَ من الثِّقَات فقد أَتَى هِشَام بن خَالِد عَنهُ بمعضل، إِنَّمَا يعرف هَذَا لهشام بن عبد الله بن عِكْرِمَة المَخْزُومِي عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَهِشَام بن عبد الله قد روى عَن هِشَام بن عُرْوَة غير حَدِيث من الْمَنَاكِير الَّتِي لم يُتَابع عَلَيْهَا، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث بِلَا خلاف بَين أهل النَّقْل فِي مَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن رجل مَجْهُول عَن عُرْوَة، يُقَال لَهُ: زميل، وَقَالَ آخَرُونَ: زميل، قَالَ البُخَارِيّ: " زميل بن عَيَّاش، أَو عَيَّاش بن زميل، مولى عُرْوَة ابْن الزبير، عَن عُرْوَة، روى عَنهُ يزِيد بن الْهَاد،

(3/95)


لَيْسَ فِي الْعَتِيق مُقَيّد، لَا يعرف لزميل سَماع من عُرْوَة، وَلَا لزيد بن زميل، لَا تقوم بِهِ الْحجَّة ".
وَرُوِيَ من وَجه عَن عُرْوَة، وَلَا يَصح.
وَرُوِيَ عَن هِشَام بن عبيد الله الرَّازِيّ عَن (العطاف بن خَالِد) المَخْزُومِي عَن زيد بن أسلم: " أَن عَائِشَة وَحَفْصَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - أصبحتا صائمتين ... "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " زيد بن أسلم لم يسمع من عَائِشَة، والعطاف بن خَالِد لم يرضه مَالك، وَهِشَام

(3/96)


ابْن عبيد الله الملقب بِالسنةِ عِنْد الْقَوْم، وَعند أهل النَّقْل وأئمة الحَدِيث لَيْسَ بِالْحجَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: " السّني "، لِأَنَّهُ من قَرْيَة السن، فصحفوا، وَقَالُوا " السّني "، فَبَقيَ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد لَا يسوى ذكره عَن عبد الله بن مطرف عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَلم يرضه أستاذنا أَبُو عبد الله الْحَافِظ.
رَوَاهُ مُحَمَّد أَبُو عبد الله الْمَكِّيّ عَن مُحَمَّد بن عمر عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، وَقيل عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَكِلَاهُمَا وهم.
مُحَمَّد الْمَكِّيّ هَذَا مَجْهُول.
وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن الْحصين بن الترجمان عَن يزِيد بن يزِيد

(3/97)


ابْن جَابر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة عَن جدته البرصاء عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَهَذَا إِسْنَاد لَا تقوم بِهِ الْحجَّة، وَعبد الْعَزِيز ضَعِيف الحَدِيث، قَالَه ابْن معِين.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن جبلة عَن سَلامَة بنت سليم المزنية قَالَت: حَدَّثتنِي أم سَلمَة قَالَت: سَأَلت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَقلت: إِنِّي أَصوم الْيَوْم فيهدى إِلَيّ الطَّعَام فَأفْطر؟ قَالَت: صمت أَنا وَحَفْصَة بنت عمر فأهدي لنا طَعَام فأفطرنا، فسألنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: اقضياه ".
قَالَ (الْحَافِظ أَبُو عبد الله) : سَلامَة، وَأم سَلمَة إِن لم يكن زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا نعرفها فِي غير الرِّوَايَة. وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن جبلة سَاقِط.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَلَيْسَ بِشَيْء، رَوَاهُ مُحَمَّد ابْن مُوسَى عَن خطاب عَن خصيف عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل على حَفْصَة، وَأم

(3/98)


سَلمَة أَو عَائِشَة، وَذكر حَدِيثا، ثمَّ قَالَ: فَقَالَ: " صوما يَوْمًا مَكَانَهُ ".
مُحَمَّد بن مُوسَى هُوَ (مِسْكين أَبُو عوَانَة) ، ضَعِيف الحَدِيث؛ بَلغنِي أَنه كَانَ يسرق الحَدِيث وَيحدث / بِهِ، ويروي عَن الثِّقَات أَشْيَاء مَوْضُوعَات. وخصيف رُبمَا يهم فِي الشَّيْء، إِلَّا أَن الْحمل فِيهِ - عِنْدِي - على مُحَمَّد بن مُوسَى هَذَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهُوَ بَاطِل، رَوَاهُ حَمَّاد ابْن الْوَلِيد الْأَزْدِيّ عَن عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " حَمَّاد بن الْوَلِيد من أهل الْكُوفَة حدث بِبَغْدَاد أَحَادِيث منكير، وَيُقَال: إِنَّه يسرق الحَدِيث، وَلَو صَحَّ مثل هَذَا عَن عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لما احْتج النَّاس فِيهِ بمراسيل الزُّهْرِيّ.
وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى مُحَمَّد بن أبي حميد عَن إِبْرَاهِيم بن عبيد قَالَ: " صنع أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - طَعَاما فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه، فَقَالَ رجل من الْقَوْم: إِنِّي صَائِم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صنع لَك أَخُوك، وتكلف لَك أَخُوك، أفطر، وصم يَوْمًا مَكَانَهُ ".

(3/99)


قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا مُرْسل ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد مظلم، وَمُحَمّد بن أبي حميد ضَعِيف الحَدِيث، قَالَ يحيى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر أَوْهَى من هَذَا، رَوَاهُ عَمْرو بن خليف بن إِسْحَاق بن مرسال الْخَثْعَمِي عَن عَمه عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر بِمَعْنَاهُ.
وَعَمْرو بن خليف كَانَ يضع الحَدِيث، ذكره (أَبُو حَاتِم) فِي كتاب الْمَجْرُوحين. ثمَّ قد روينَا فِي هَذِه الْقِصَّة: " صم يَوْمًا مَكَانَهُ إِن أَحْبَبْت "، وَهُوَ مَذْكُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة قبل هَذَا، وَالله أعلم، (وَله الْحَمد والْمنَّة) .

(3/100)


مَسْأَلَة (18) :

يسْتَحبّ أَن تتبع رَمَضَان بست من شَوَّال، وَقَالَ مَالك، وَأَبُو حنيفَة - رحمهمَا الله -: " يكره ذَلِك ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنهُ - " قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه سِتا من شَوَّال فَذَاك صِيَام الدَّهْر ".
ورويناه أَيْضا فِي كتاب السّنَن من حَدِيث ثَوْبَان، وَجَابِر.

(3/101)


وَإِذا ثَبت الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا معنى للكراهة بِأَنَّهُ زِيَادَة على الْفَرْض، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يصومهن تَطَوّعا، لَا بنية الْفَرْض، وَقد فصل بَينه وَبَين الْفَرْض بإفطار يَوْم الْعِيد، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (19) :

وَصِيَام أَيَّام التَّشْرِيق لَا يجوز بِحَال، وَقَالَ فِي الْقَدِيم: يجوز صيامها للمتمتع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
فَوجه قَوْلنَا: " لَا يجوز بِحَال " مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن نُبَيْشَة -

(3/102)


رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام أكل وَشرب وَذكر لله ".
وَعَن كَعْب بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعثه وَأَوْس بن الْحدثَان أَيَّام التَّشْرِيق، فَنَادَى أَن لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن، وَأَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب ".
وَرُوِيَ عَن عقبَة بن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ

(3/103)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق عيدنا أهل الْإِسْلَام، وَهن أَيَّام أكل وَشرب ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك، رحمهمَا الله - وَهُوَ عِنْد أبي دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك - عَن يزِيد بن الْهَاد عَن أبي مرّة مولى أم هَانِئ أَنه دخل مَعَ عبد الله بن عَمْرو (على أَبِيه عَمْرو) بن الْعَاصِ - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقرب إِلَيْهِمَا طَعَاما فَقَالَ: " كل "، قَالَ: " إِنِّي صَائِم ". فَقَالَ عَمْرو: " كل فَهَذِهِ الْأَيَّام الَّتِي كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرنَا بإفطارها، وَينْهى عَن صيامها "، قَالَ مَالك - رَحمَه الله -: " وَهن أَيَّام التَّشْرِيق ".

(3/104)


وَرُوِيَ عَن مَسْعُود بن الحكم الزرقي عَن أمه أَنَّهَا حدثته، قَالَت: " كَأَنِّي أنظر إِلَى عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - على بغلة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْضَاء فِي شعب الْأَنْصَار، وَهُوَ يَقُول: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّهَا لَيست أَيَّام صِيَام، إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَذكر ".
وَوجه قَوْلنَا فِي الْقَدِيم مَا فِي الصَّحِيح البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " صِيَام التَّمَتُّع مَا بَين أَن يهل بِالْحَجِّ إِلَى يَوْم عَرَفَة، فَإِن فَاتَهُ صَامَ أَيَّام منى ".
وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مثله.
وَعَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن ابْن عمر - رصي الله عَنْهُم - أَنَّهُمَا قَالَا: " لم يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَن يصمن إِلَّا من لم يجد الْهَدْي ".

(3/105)


وَعِنْده أَيْضا عَن هِشَام بن عُرْوَة: " أَخْبرنِي أبي قَالَ: كَانَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - تَصُوم أَيَّام منى، وَكَانَ أَبوهَا يصومها ".
وَرُوِيَ فِي جَوَاز صيامها للمتمتع - إِذا لم يجد الْهَدْي وفاتته أَيَّام الْعشْر - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق إِذا فَاتَهُ الصَّوْم ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (20) :

الِاعْتِكَاف بِغَيْر صَوْم يَصح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح ".

(3/106)


دليلنا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنِّي نذرت أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: / أوف بِنَذْرِك ".
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَنهُ حَدِيث فِيهِ: " وَكَانَ على عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - نذر اعْتِكَاف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمره أَن يَفِي بِهِ، فَدخل الْمَسْجِد تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أصبح إِذْ السَّبي يسعون وَيَقُولُونَ: أعتقنا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عبد الله بن بديل عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عمر (عَن عمر) - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْجِعِرَّانَة: يَا رَسُول الله، إِن عَليّ يَوْمًا أعتكفه، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اذْهَبْ فاعتكفه وصمه ".

(3/107)


قَالَ عَليّ بن عمر: " تفرد بِهِ ابْن بديل عَن عَمْرو، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث، سَمِعت أَبَا بكر النَّيْسَابُورِي يَقُول: هَذَا حَدِيث مُنكر؛ لِأَن الثِّقَات من أَصْحَاب عَمْرو لم يذكروه، وَابْن بديل ضَعِيف الحَدِيث ".
وَرَوَاهُ سعيد بن بشير عَن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - نذر أَن يعْتَكف فِي الشّرك ويصوم، فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد إِسْلَامه، فَقَالَ: أوف بِنَذْرِك ".
وَقَوله: " ويصوم " لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَسَعِيد تفرد بِهِ، وَهُوَ غير مَقْبُول مِنْهُ لمُخَالفَته الثِّقَات.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ على الْمُعْتَكف صِيَام، إِلَّا أَن يَجعله على نَفسه ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: تفرد بِرَفْعِهِ عبد الله الْموصِلِي ".

(3/108)


وَرَوَاهُ عَمْرو بن زُرَارَة عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن أبي سُهَيْل بن مَالك عَن طَاوُوس قَالَ: " كَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - لَا يرى على الْمُعْتَكف صياما، إِلَّا أَن يَجعله على نَفسه "، قَالَ أَبُو سُهَيْل: " قَالَ عَطاء: ذَلِك رَأْيِي ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحميدِي عَن عبد الْعَزِيز أتم مِنْهُ، ذَكرْنَاهُ فِي كتاب السّنَن.
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَرَادَ أَن يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان ... ، فَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره: " ثمَّ أحر الِاعْتِكَاف إِلَى الْعشْر الأول من شَوَّال ".
قَالَ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ: " فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاعْتِكَاف بِغَيْر صَوْم؛ لِأَن أول شَوَّال يَوْم الْفطر، وَلَا يجوز صَوْمه ".

(3/109)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز الدِّمَشْقِي عَن سُفْيَان ابْن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا " لَا اعْتِكَاف إِلَّا بصيام ".
وَرَفعه وهم، وَالصَّحِيح مَوْقُوف، تفرد بِهِ سُوَيْد عَن سُفْيَان، وهما غير مُحْتَج بهما فِي الصَّحِيح، قَالَ ابْن معِين: " سُوَيْد لَيْسَ بِشَيْء، وَكَانَ قاضياُ بِدِمَشْق بَين النَّصَارَى " وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَوْقُوف: " من اعْتكف فَعَلَيهِ الصّيام ". .
وَعَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " لَا اعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْم ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات زِيَادَة. فِي الحَدِيث الصَّحِيح عِنْدهمَا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان حَتَّى توفاه الله، ثمَّ اعْتكف أَزوَاجه من بعده ".

(3/110)


وَزَاد: " وَمن السّنة فِي الْمُعْتَكف أَن لَا يخرج إِلَّا لِحَاجَتِهِ الَّتِي لَا بُد مِنْهَا، وَلَا يعود مَرِيضا، وَلَا يمس امْرَأَته، وَلَا يُبَاشِرهَا، وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا فِي مَسْجِد جمَاعَة، وَالسّنة فِيمَن اعْتكف أَن يَصُوم ".
وَبَعْضهمْ يَقُول: " إِنَّه من قَول عَائِشَة ". قَالَ عَليّ بن عمر: " يُقَال: لَيْسَ من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَنه من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَمن أدرجه فِي الحَدِيث فقد وهم ". وَالله أعلم.
وروى أَبُو دَاوُد عَن وهب عَن خَالِد عَن عبد الرَّحْمَن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " السّنة على الْمُعْتَكف أَن لَا يعود الْمَرِيض، وَلَا يشْهد الْجِنَازَة، وَلَا يمس امْرَأَة، وَلَا يُبَاشِرهَا، وَلَا يخرج لحَاجَة إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْم، وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا فِي مَسْجِد جَامع ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " غير عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق لَا يَقُول فِيهِ:

(3/111)


" قَالَت: السّنة، جعله (من قَول عَائِشَة) ، رَضِي الله عَنْهَا ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن ابْن عمر أَنَّهُمَا قَالَا: " الْمُعْتَكف يَصُوم ".
وَرُوِيَ عَن أبي بكر الْحميدِي عَن سُفْيَان: حَدثنَا عَمْرو: سَمِعت أَبَا فَاخِتَة يَقُول: سَمِعت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " يَصُوم المجاور "، والمجاور الْمُعْتَكف، فَحكى لِسُفْيَان أَن هشيماً يَقُوله عَن عَمْرو عَن أبي فَاخِتَة أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لَا اعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْم "، فَقَالَ سُفْيَان: " أَخطَأ هِشَام، هُوَ كَمَا قلت لَك ".
وَرُوِيَ عَن حَمَّاد بن زيد أَن رجلا قَالَ لعَمْرو بن دِينَار: يَا أَبَا مُحَمَّد، كَيفَ قَول ابْن عَبَّاس: " على المجاور الصَّوْم "؟ فَقَالَ عَمْرو: لَيْسَ كَذَا، قَالَ: ابْن عَبَّاس إِنَّمَا قَالَ: " المجاور يَصُوم ". وَالله أعلم.

(3/112)


كتاب الْحَج

ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - من كتاب الْحَج، وَمَا ورد فِيهِ من خبر أَو أثر

مَسْأَلَة (21) :

من حج مُسلما ثمَّ ارْتَدَّ، ثمَّ أسلم لم يلْزمه حجَّة الْإِسْلَام ثَانِيًا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: يلْزمه.
(وَدَلِيلنَا) من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مهلين بِالْحَجِّ، ومعنا النِّسَاء

(3/113)


والولدان "، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ: " فجَاء سراقَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت عُمْرَتنَا هَذِه لِعَامِنَا (هَذَا) أم لِلْأَبَد؟ فَقَالَ: لَا، بل لِلْأَبَد ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خَطَبنَا رَسُول الله قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله كتب عَلَيْكُم الْحَج مرّة "، قَالَ: فَقَامَ الْأَقْرَع بن حَابِس فَقَالَ: أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله، فَقَالَ: " لَو قلتهَا لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تعلمُوا بهَا، وَلم تستطيعوا أَن تعملوا بهَا. الْحَج مرّة، فَمن زَاد فمتطوع ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح "، وَالله أعلم.

(3/114)


مَسْأَلَة (22) :

(والمعضوب) إِذا كَانَ واجداً لِلْمَالِ يلْزمه الْحَج، وَعَلِيهِ أَن يسْتَأْجر. من يحجّ عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يلْزمه ".
قَالَ الله (جلّ ثَنَاؤُهُ) : {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} .
رُوِيَ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَول الله - تبَارك وَتَعَالَى: (وَللَّه على النَّاس

(3/115)


حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} ، قَالَ: " قيل: يَا رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة ".
وَرُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة هَكَذَا.
وَرَوَاهُ جَعْفَر بن عون عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُس بن عبيد عَن الْحسن مُرْسلا، رُوِيَ فِي ذَلِك عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذكره، ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا أخرجته شَاهدا ".

(3/116)


\ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " كَانَ الْفضل بن عَبَّاس رَدِيف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَتْهُ امْرَأَة من خثعم تستفتيه؛ فَجعل الْفضل ينظر إِلَيْهَا، وَتنظر إِلَيْهِ، فَجعل رَسُول الله يصرف وَجه الْفضل إِلَى الشق الآخر، فَقَالَت: يَا رَسُول الله - إِن فَرِيضَة الله على عباده فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا، لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت على الرَّاحِلَة أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم. وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع " وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا مُخْتَصرا: " عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل - رَضِي الله عَنْهُم - أَن امراة جَاءَت إِلَى النَّبِي -
- فَقَالَت: إِن أبي أدْركهُ الْحَج وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يَسْتَطِيع أَن يركب الْبَعِير، أفأحجد عَنهُ؟ قَالَ: حجي عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن أبي رزين الْعقيلِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِن أبي شيخ كَبِير لَا يَسْتَطِيع الْحَج، وَلَا الْعمرَة، وَلَا الظعن، فَقَالَ: حج عَن أَبِيك وَاعْتمر ". رُوَاته ثِقَات.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ رجل فَقَالَ: إِن أبي شيخ كَبِير أدْرك الْإِسْلَام وَلم يحجّ، وَلَا يسْتَمْسك

(3/117)


على رَاحِلَته، وَإِن شددته بالحبل خشيت أَن أَقتلهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: احجج عَن أَبِيك ".
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن عبد الله بن أبي رَافع عَن عَليّ بن أبي طَالب: " أَن امْرَأَة من خثعم شَابة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أبي شيخ كَبِير، أَدْرَكته فَرِيضَة الله على عباده فِي الْحَج، لَا يَسْتَطِيع أداءها، أفيجزئ عَنهُ أَن أؤديها عَنهُ؟ قَالَ: نعم ".
مَسْأَلَة (23) :

وَمن مَاتَ بعد وجوب الْحَج عَلَيْهِ قضي عَنهُ، وَإِن لم يوص وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح قَضَاء الْحَج عَنهُ إِذا لم يوص بِهِ، إِلَّا لِابْنِهِ، فَإِن حج عَنهُ رَجَوْت أَن يُجزئهُ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رجلا أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِن أُمِّي نذرت أَن تحج، وَإِنَّهَا مَاتَت "، فَقَالَ: " لَو كَانَ على أمك دين

(3/118)


أَكنت قاضيه؟ " قَالَ: " نعم "، قَالَ: " فاقضوا الله، فَهُوَ أَحَق بِالْوَفَاءِ ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كنت عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَتْهُ امْرَأَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت تَصَدَّقت (بوليدة على أُمِّي، فَمَاتَتْ) وَبقيت الوليدة، قَالَ: قد وَجب أجرك، وَرجعت إِلَيْك فِي الْمِيرَاث، قَالَت: إِنَّهَا مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم شهر، فَقَالَ: صومي عَن أمك، قَالَت: إِنَّهَا لم تحج، قَالَ فحجي عَن أمك ".
وَرُوِيَ فِي ذَلِك خبر صَرِيح فِي الْحَج عَمَّن مَاتَ وَلم يوص عَن أبي الْغَوْث بن الْحصين الْخَثْعَمِي عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن إِسْنَاده ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (24) :

وَمن لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام لَا يَصح حجه عَن غَيره، وَإِذا أحرم عَن الْغَيْر وَقع عَن فَرْضه، وَكَذَلِكَ من كَانَ عَلَيْهِ حج وَاجِب. وَقَالَ أَبُو

(3/119)


حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح حجه عَن الْغَيْر وَإِن لم يحجج عَن نَفسه ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل: " حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان ع 7 ن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة، قَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لي، أَو قريب لي، قَالَ: حججْت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حج عَن نَفسك، ثمَّ عَن شبْرمَة ".
قَالَ يحيى بن معِين: " أثبت النَّاس سَمَاعا من (سعيد عَبدة) بن سُلَيْمَان

(3/120)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح، لَيْسَ فِي الْبَاب أصح مِنْهُ ".
وَرَوَاهُ جمَاعَة مثل ابْن معِين، وَابْن نمير، وَهَارُون بن إِسْحَاق، وَغَيرهم عَن عَبدة هَكَذَا مَرْفُوعا، وَعَبدَة بن سُلَيْمَان حجَّة، اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم على الِاحْتِجَاج بروايته.
كَيفَ؟ وَقد رُوِيَ عَن الْأنْصَارِيّ، وَمُحَمّد بن بشر، وَأبي يُوسُف عَن سعيد هَكَذَا، وَعُرْوَة هَذَا هُوَ ابْن يحيى. أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ: سَمِعت أَبَا عَليّ الْحَافِظ يَقُول ذَلِك.
قَالَ: " وَقد روى قَتَادَة أَيْضا عَن عُرْوَة بن تَمِيم، وَعَن عُرْوَة بن عبد الرَّحْمَن. وقصرته جمَاعَة، فأوقفوه على ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا "

(3/121)


وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، وَعَن جَابر أَيْضا، والإسناد الأول أصح مَا فِي هَذَا الْبَاب.
وَرُوِيَ أَن امْرَأَة سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَت: إِنِّي نذرت أَن أحج فَلم أحج، فَقَالَ: " ابدئي بِحجَّة الْإِسْلَام ".
وَعَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - فِيمَن نذر أَن بِحَجّ فَلم يحجّ قطّ، قَالَ: " ليبدأ بالفريضة ".
وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى الْحسن بن عمَارَة عَن عبد الْملك عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا يُلَبِّي عَن نُبَيْشَة، فَقَالَ: أَيهَا الملبي، هَذِه عَن نُبَيْشَة، واحجج عَن نَفسك ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " تفرد الْحسن (بن عمَارَة، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، وَالْمَحْفُوظ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - حَدِيث شبْرمَة، وَيُقَال: إِن الْحسن) رَجَعَ عَنهُ إِلَى الصَّوَاب، فَحدث بِهِ مُوَافقا لرِوَايَة غَيره عَن ابْن عَبَّاس / - رَضِي الله عَنْهُمَا -،

(3/122)


وَهُوَ مَتْرُوك على كل حَال ". وَالله أعلم.

مَسْأَلَة (25) :

(3/123)


يلْزم الْمَرْأَة الْخُرُوج إِلَى الْحَج صُحْبَة النِّسَاء الثِّقَات، كَمَا يلْزمهَا صُحْبَة الْمحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: " إِذا لم يكن مَعهَا محرم يخرج مَعهَا لم يلْزمهَا الْحَج ".
قَالَ الله - عز وَجل -: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} .
وَرُوِيَ عَن قَتَادَة عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن قَول الله تَعَالَى: {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} ، فَقيل: وَمَا السَّبِيل؟ قَالَ: " الزَّاد وَالرَّاحِلَة ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".

(3/124)


هَكَذَا رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَالْمَحْفُوظ عَن قَتَادَة، وَغَيره عَن الْحسن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله ".
وَعند البُخَارِيّ عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كنت عِنْد (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَهُ رجلَانِ أَحدهمَا يشكو الْعيلَة، وَالْآخر يشكو قطع السَّبِيل، قَالَ: فَقَالَ: لَا يَأْتِي عَلَيْك إِلَّا قَلِيل حَتَّى تخرج الْمَرْأَة من الْحيرَة إِلَى مَكَّة بِغَيْر خفير ... " وَذكر بَاقِي الحَدِيث.
وروى إِسْرَائِيل عَن سعد الطَّائِي فِي هَذَا الحَدِيث: " فَإِن طَالَتْ بك حَيَاة لترين الظعينة ترتحل من الْحيرَة حَتَّى تَطوف الْكَعْبَة لَا تخَاف أحدا إِلَّا الله ".

(3/125)


قَالَ عدي - رَضِي الله عَنهُ - فِي آخِره: " قد رَأَيْت الظعينة ترتحل من الْكُوفَة حَتَّى تَطوف بِالْبَيْتِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن حُذَيْفَة عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُوشك أَن تخرج الظعينة من الْحيرَة إِلَى مَكَّة بِلَا مجوزه "، قَالَ: " وَقد كَانَ ذَلِك - وَالله - عَزِيزًا فِي الْجَاهِلِيَّة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا يخلون رجل بِامْرَأَة، وَلَا يحل لامْرَأَة أَن تُسَافِر إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم، فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله: أَنِّي اكتتبت فِي غَزْوَة كَذَا وَكَذَا، وَإِن امْرَأَتي انْطَلَقت حَاجَة، فَقَالَ: انْطلق فأحجج بامرأتك ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة أَنَّهَا كَانَت عِنْد عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأخْبرت أَن أَبَا سعيد يخبر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يحل للْمَرْأَة أَن تُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم، فالتفتت إِلَيْهَا عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -

(3/126)


فَقَالَت: مَا كُلهنَّ لَهَا (ذُو) محرم " رُوَاته ثِقَات.
وَفِي قَوْلهَا - رَضِي الله عَنْهَا - دلَالَة على أَن الْخَبَر ورد فِي غير السّفر الْوَاجِب، وَأَن الْمَقْصُود من الْخَبَر الحياطة عَلَيْهَا، أَلا ترى أَنه فِي حَدِيث (أبي هُرَيْرَة) ذكر يَوْمًا، وَفِي حَدِيث أبي سعيد ثَلَاثَة أَيَّام، وَالْكل فِي صَحِيح مُسلم، وَلَيْسَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس ذكر الْمدَّة، فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْأَخْبَار صيانتها عَمَّا يخْشَى عَلَيْهَا، سَوَاء كَانَ السّفر ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أقل أَو أَكثر. وَنحن إِنَّمَا نوجب عَلَيْهَا الْخُرُوج فِي مَوضِع تكون فِيهِ آمِنَة.
وَمَا رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا تُسَافِر الْمَرْأَة (سفرا) ثَلَاثَة أَيَّام، أَو تحجج إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا ".
وَهَذَا اللَّفْظ: " أَو تحجج " لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَرَاوِيه جَابر الْجعْفِيّ، وَهُوَ كَذَّاب كَمَا سبق ذكره. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (26) :

الْحَج موسع الْوَقْت، يجوز تَأْخِيره بعد وُجُوبه. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه مضيق الْوَقْت، يكون مؤخره عَن سنة وُجُوبه مفرطاً ".

(3/127)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أنزلت فَرِيضَة الْحَج بعد الْهِجْرَة، وَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْحَج، وتخلف - عَلَيْهِ السَّلَام - بِالْمَدِينَةِ بعد مُنْصَرفه من تَبُوك، لَا مُحَاربًا، وَلَا مَشْغُولًا بِشَيْء، وتخلف أَكثر الْمُسلمين قَادِرين على الْحَج، وَأَزْوَاج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَو كَانَ كمن ترك الصَّلَاة حَتَّى يخرج وَقتهَا مَا ترك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْفَرْض، وَلَا ترك المتخلفين عَنهُ، وَلم يحجّ - عَلَيْهِ السَّلَام - بعد فرض الْحَج إِلَّا حجَّة الْإِسْلَام، وَهِي حجَّة الْوَدَاع ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَآهُ - وَالْقمل يسْقط على وَجهه - فَقَالَ: " أيوذيك هوامك؟ " قَالَ: " نعم " فَأمره أَن يحلق. وهم بِالْحُدَيْبِية، لم يتَبَيَّن أَنهم يحلونَ بهَا وهم على طمع من دُخُول / مَكَّة، فَأنْزل الله - عز وَجل - الْفِدْيَة، فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يطعم فرقا بَين سِتَّة مَسَاكِين، أَو يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو ينْسك شَاة.

(3/128)


وَفِيه دَلِيل على أَن قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} ... إِلَى قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} ... إِلَى آخِره نزل زمن الْحُدَيْبِيَة، وَالْحُدَيْبِيَة كَانَت فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة بِلَا خلاف أعرفهُ بَين أهل النَّقْل فِيهِ، فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن نزُول وجوب الْحَج كَانَ سنة سِتّ أَو قبلهَا.
ثمَّ خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سنة سبع مُعْتَمِرًا عمْرَة الْقَضَاء، فَأَقَامَ بِمَكَّة ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ انْصَرف، وَلَو أَرَادَ الْحَج لأمكنه ذَلِك إِن شَاءَ الله. ثمَّ خرج فِي شهر رَمَضَان سائراً إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان، فَأَقَامَ بهَا سبع عشرَة، ثمَّ خرج مِنْهَا، وَاسْتعْمل عَلَيْهَا عتاب بن أسيد. وَلَو أَرَادَ الْحَج أمكنه ذَلِك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: " ارتحل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعمرَة بعد ثَلَاث، ثمَّ غزا الْفَتْح فتح مَكَّة ".

(3/129)


قَالَ الزُّهْرِيّ: " وَأَخْبرنِي عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج فِي رَمَضَان، فصَام، وَصَامَ النَّاس مَعَه، وَذَلِكَ على رَأس ثَمَان سِنِين وَنصف من مقدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْمَدِينَة، ثمَّ سَار وَمن مَعَه من النَّاس حَتَّى إِذا كَانَ بالكديد أفطر، وَأفْطر من مَعَه من الْمُسلمين، ثمَّ لم يصم بَقِيَّة رَمَضَان ".
قَالَ الزُّهْرِيّ:: " فَصبح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّة لبضع عشرَة خلت من شهر رَمَضَان ".
وَعِنْده أَيْضا فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة أَن أَبَا بكر الصّديق - رَضِي الله عَنْهُمَا - بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل حجَّة الْوَدَاع يَوْم النَّحْر فِي رَهْط يُؤذن فِي النَّاس أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان ". قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وروى

(3/130)


عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ تسع سِنِين لم يحجّ، ثمَّ حج ".
وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم فِي الحَدِيث الطَّوِيل فِي صفة الْحَج، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (27) :

وَالْإِحْرَام بِالْحَجِّ فِي غير أشهر الْحَج لَا يَصح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " أَسَاءَ، وتجزئه ".
روى أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب، حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، عَن شُعْبَة عَن الحكم

(3/131)


عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لَا يحرم بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أشهر الْحَج، فَإِن من سنة الْحَج أَن يحرم بِالْحَجِّ فِي اشهر الْحَج ".
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَقد جرت فِيهِ مناظرة بيني وَبَين أبي مُحَمَّد السبيعِي، فَإِنَّهُ أنكرهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ النَّاس عَن أبي خَالِد عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الحكم، فَمن أَيْن جابه شيخكم - يَعْنِي ابْن خُزَيْمَة - عَن شُعْبَة؟ فَقلت: تَأمل مَا تَقول، فَإِن شَيخنَا أَتَى بالإسنادين جَمِيعًا، فَكَأَنَّمَا ألقمته حجرأً ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " رَأَيْت فِي يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلاثمائة فِي مَنَامِي، كَأَنِّي أرى جمَاعَة من أَصْحَابنَا يبشروني بورود أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء الْهَمدَانِي نيسابور، فقصدته، فَدخلت دَارا لم أذكر لمن هِيَ، وَإِذا شيخ كوسج هرم فَسلمت عَلَيْهِ فَرد الْجَواب، فَقلت: يَأْذَن الشَّيْخ فِي أَحَادِيث أعرضها عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، قلت: إِن إمامنا وَشَيخ بلدنا أَبَا بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة حدث عَنْك عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن

(3/132)


شُعْبَة عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: لَا يحرم بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أشهر الْحَج. وَهَذَا عِنْد غَيره عَنْك عَن أبي خَالِد عَن الْحجَّاج عَن الحكم؟ فَقَالَ أَبُو كريب: حدّثنَاهُ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر مرَّتَيْنِ، مرّة قَالَ: شُعْبَة، وَمرَّة قَالَ: عَن الْحجَّاج. ثمَّ انْتَبَهت ".
وَقد روى عَن حَمْزَة الزيات (عَن الحكم) مثل رِوَايَة شُعْبَة وَالْحجاج عَنهُ، قَالَ " عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي الرجل الَّذِي يحرم بِالْحَجِّ فِي غير أشهر الْحَج قَالَ: " لَيْسَ ذَلِك من السّنة ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون أَنه

(3/133)


رأى ابْن أبي نعيم يحرم بِالْحَجِّ فِي غير أشهر الْحَج فَقَالَ: " لَو أدْرك هَذَا أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجموه ".
وروى الشَّافِعِي: " أخبرنَا مُسلم وَسَعِيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - / سُئِلَ عَن الرجل، أيهل بِالْحَجِّ قبل أشهر الْحَج؟ فَقَالَ: لَا ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء قَالَ: " إِنَّمَا قَالَ الله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} لِئَلَّا نفرض الْحَج فِي غَيرهم ".
وَعنهُ قَالَ: " من أحرم فِي غير أشهر الْحَج جعلهَا عمْرَة ". وَالله أعلم.

مَسْأَلَة (28) :

وَلَا يكره فعل الْعمرَة فِي وَقت. و (حكى عَن أبي حنيفَة) -

(3/134)


رَحمَه الله - أَنه قَالَ: " نكره فعلهَا يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر، وَأَيَّام التَّشْرِيق ".
وَدَلِيلنَا مَا ذكرنَا من حَدِيث أبي الْأسود عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام حجَّة الْوَدَاع، فمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل (بِحجَّة وَعمرَة) ، وَمنا من أهل بِالْحَجِّ ... الحَدِيث ".
فالقارن مُعْتَمر فِي هَذِه الْأَيَّام، وَأي فرق بَين إِفْرَاده (عمْرَة) ، وَبَين قرانه بَينهَا وَبَين حجَّة؟
وَمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " حلت الْعمرَة فِي السّنة كلهَا، إِلَّا فِي أَرْبَعَة أَيَّام: يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر، ويومان بعد ذَلِك "، فموقوف، وَهُوَ عندنَا مَحْمُول على من كَانَ مشتغلاً بِالْحَجِّ، فَلَا تدخل الْعمرَة عَلَيْهِ، وَلَا يعْتَمر حَتَّى يكمل عمل الْحَج كُله. فقد أَمر عمر بن الْخطاب. رَضِي الله عَنهُ - أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وَهَبَّار بن الْأسود حِين فَاتَ كل وَاحِد مِنْهُمَا

(3/135)


الْحَج أَن يتَحَلَّل بِعَمَل عمْرَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَأعظم الْأَيَّام حُرْمَة لأولادها أَن ينْسك فِيهَا لله عز وَجل ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (29) :

الْعمرَة وَاجِبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا سنة ".
قَالَ تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} .
قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِتْمَامهَا أَن تحرم من دويرة أهلك ".
وَعَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم -: " وَأقِيمُوا الْحَج وَالْعمْرَة لله ".
وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله، عز وَجل: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} .
وَفِي حَدِيث الصَّبِي بن معبد أَنه قَالَ لعمر بن الْخطاب -

(3/136)


رَضِي الله عَنهُ -: " إِنِّي وجدت الْحَج وَالْعمْرَة مكتوبتين عَليّ، وَإِنِّي أَهلَلْت بهما "، فَقَالَ: " هديت لسنة (نبيك مُحَمَّد) ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَفِيه دلَالَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهُ أخبر عَن وُجُوبهَا، وَصَوَّبَهُ عمر، وَبَين أَنه مهتد بِمَا يرَاهُ من وُجُوبهَا لسنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مهلين بِالْحَجِّ ... "، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: " فجَاء سراقَة بن مَالك بن جعْشم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أرايت عُمْرَتنَا هَذِه لِعَامِنَا هَذَا أم لِلْأَبَد، فَقَالَ: لَا، بل لِلْأَبَد ".
وَحكى مُسلم بن الْحجَّاج عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه لَا يعلم فِي إِيجَاب الْعمرَة حَدِيثا أَجود، وَلَا أصح من حَدِيث أبي رزين الْعقيلِيّ، قَالَ: " سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: إِن أبي شيخ كَبِير، لَا يَسْتَطِيع الْحَج وَالْعمْرَة، وَلَا الظعن، قَالَ: حج عَن أَبِيك وَاعْتمر ".
قَالَ: " وَلم يجوده أحد كَمَا جوده شُعْبَة ".

(3/137)


وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان ".
وَعنهُ: " لَيْسَ من خلق الله أحد إِلَّا عَلَيْهِ حجَّة وَعمرَة واجبتان، من اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِك سَبِيلا ".
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " الْعمرَة وَاجِبَة كوجوب الْحَج ".
أَسَانِيد ذَلِك كُله صَحِيحَة.
وَرُوِيَ عَن طَاوُوس، وَعَطَاء، وَابْن سِيرِين - رَحمَه الله - قَالُوا: " الْعمرَة وَاجِبَة "، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير، ومسروق، وَأبي بردة.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، الْعمرَة وَاجِبَة؟ " قَالَ: " لَا، وَأَن تعتمر خير لَك ".

(3/138)


وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث بِثَابِت، وحجاج بن أَرْطَأَة ينْفَرد بِسَنَدِهِ، وَرَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من هَذَا الْوَجْه، وَخَالفهُ عبد الْملك بن جريج، وَغَيره، فَرَوَوْه عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله، وَهُوَ الصَّوَاب.
وحجاج لَيْسَ مِمَّن يقبل مِنْهُ مَا ينْفَرد بِهِ من الرِّوَايَات؛ لسوء حفظه، وَقلة مراعاته لما يحدث بِهِ، وَكَثْرَة تدليسه، فَكيف إِذا خَالف الثِّقَات؟ وَرفع الْمَوْقُوفَات والمعضلات؟
ثمَّ يُعَارضهُ مَا رُوِيَ عَن ابْن لَهِيعَة عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان واجبتان ".
وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن جَابر مَرْفُوعا - وَلَا يَصح:

(3/139)


" الْعُمر وَاجِبَة؟ قَالَ: لَا، وَأَن تعتمر خير لَك ".
وعَلى الْأَحْوَال كلهَا رَفعه وهم، وَالصَّوَاب مَوْقُوف. وَقد رُوِيَ من حَدِيث أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا، يرويهِ نوح بن أبي مَرْيَم عَن ثَابت الْبنانِيّ عَنهُ. ونوح: أَبُو عصمَة مَتْرُوك الحَدِيث.
كَذَا رَوَاهُ عَنهُ حَمَّاد بن قِيرَاط / النَّيْسَابُورِي، وَإِنَّمَا يرويهِ نوح عَن ابْن الْمُنكر عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي صَالح الْحَنَفِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْحَج جِهَاد، وَالْعمْرَة تطوع.
وَلَا تقوم بِهِ الْحجَّة، لِأَن أَبَا صَالح: ماهان، وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن قيس، لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الصَّحِيح، وَهُوَ مُرْسل، وَنحن لَا نحتج بالمراسيل إِذا لم تخَالف المسانيد، فَكيف إِذا خالفتها؟ !
وَقد وهم بَعضهم فرفعه، وَالصَّحِيح أَنه مُرْسل.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَهُوَ مَتْرُوك.

(3/140)


وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله مَوْقُوفا، وَهُوَ مُنْقَطع بَين إِبْرَاهِيم وَعبد الله - رَضِي الله عَنهُ - وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (30) :

والإفراد أفضل من الْقرَان والتمتع، ثمَّ التَّمَتُّع أفضل من

(3/141)


الْقرَان. وَقَالَ أيو حنيفَة - رَحمَه الله =: " الْقرَان أفضل ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " اخْتلفُوا فِي إهلال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصَح ذَلِك حَدِيث عمْرَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: " خرجنَا لخمس لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَلَا نرى إِلَّا الْحَج، وَإِنَّمَا أحرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْتَظر الْقَضَاء، أَي أَن يُؤمر بِهِ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يذكر حجا وَلَا عمْرَة، فَلَمَّا قدمنَا - يَعْنِي مَكَّة - أمرنَا أَن نحل "، وَذكر بَاقٍ الحَدِيث. وَرَوَاهُ طَاوُوس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (من الْمَدِينَة) لَا يُسَمِّي حجا، وَلَا عمْرَة، ينْتَظر الْقَضَاء، فَنزل عَلَيْهِ الْقَضَاء وَهُوَ بَين الصَّفَا والمروة فَأمر أَصْحَابه من كَانَ مِنْهُم أهل وَلم يكن مَعَه هدي أَن يَجْعَلهَا عمْرَة، وَقَالَ: لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لما سقت الْهَدْي، وَلَكِن لبدت رَأْسِي، وسقت الْهَدْي، فَلَيْسَ لي مَحل

(3/142)


دون مَحل هَدْيِي ... . "، وَذكر بَاقِي الحَدِيث.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفرد الْحَج، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمر بإفراد الْحَج حِين نزل عَلَيْهِ الْقَضَاء، وَالله تَعَالَى لَا يخْتَار لرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا هُوَ أفضل.
وَعِنْده عَنْهَا - رَضِي الله عَنْهَا - أَيْضا، قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: من أَرَادَ مِنْكُم أَن يهل بِحَجّ وَعمرَة فَلْيفْعَل، وَمن أَرَادَ أَن يهل بِحَجّ فليهل. قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا: وَأهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحَجّ، وَأهل بِهِ نَاس مَعَه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا - رَضِي الله عَنْهَا -: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام حجَّة الْوَدَاع، فمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بِحَجّ وَعمرَة، وَمنا من أهل بِالْحَجِّ، وَأهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ. فَأَما من أهل بِالْحَجِّ أَو جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَلم يحلوا حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر ".

(3/143)


وَعند مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَا مَعْنَاهُ: أَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ تسع سِنِين لم يحجّ، ثمَّ أذن للنَّاس بِالْحَجِّ، فَقدم النَّاس الْمَدِينَة لِيخْرجُوا مَعَه، فَانْطَلق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانطلقنا، لَا نَعْرِف إِلَّا الْحَج ".
وَله: " خرجنَا وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين أظهرنَا، ينزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَهُوَ يعرف تَأْوِيله، وَإِنَّمَا يفعل مَا أَمر بِهِ، فقدمنا مَكَّة، فَلَمَّا طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ، وبالصفا والمروة قَالَ: من لم يكن مَعَه هدي فليجعلها عمْرَة، وَلَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي، ولجعلتها عمْرَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي شهَاب مُوسَى بن نَافِع الْأَسدي قَالَ: " قدمت مَكَّة وَأَنا متمتع بِعُمْرَة، فَدخلت قبل التَّرويَة بِثَلَاثَة أَيَّام، فَقَالَ أنَاس من أهل مَكَّة: تصير الْآن حجتك مَكِّيَّة، فَدخلت على عَطاء بن أبي رَبَاح أستفتيه، فَقَالَ: حَدثنِي جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه حج مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم سَاق الْبدن، وَقد أهلوا بِالْحَجِّ مُفردا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحلُّوا من إحرامكم بِطواف الْبَيْت، وَبَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ أقِيمُوا حَلَالا، حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة فأهلوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قدمتم بهَا مُتْعَة. فَقَالُوا: كَيفَ نَجْعَلهَا مُتْعَة، وَقد

(3/144)


سمينا الْحَج؟ فَقَالَ: افعلوا مَا أَمرتكُم بِهِ، فلولا أَنِّي سقت الْهَدْي لفَعَلت مثل الَّذِي أَمرتكُم بِهِ، / وَلَكِن لَا يحل مني حرَام حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله ".
وَرَوَاهُ ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ خَالِصا وَحده "، وَذكر بَاقِي الحَدِيث بِمَعْنَاهُ.
وَفِيه الْبَيَان الْوَاضِح أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مُفردا.
وَعند مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ مُفردا ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه قَالَ: " حججْت مَعَ أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَجرد، وَمَعَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَجرد، وَمَعَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَجرد ".
وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " افصلوا بَين حَجكُمْ وعمرتكم، فَإِنَّهُ أتم لحج أحدكُم، وَأتم لعمرته أَن يعْتَمر فِي غير

(3/145)


أشهر الْحَج ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يَأْمر بنيه، وَغَيرهم بإفراد الْحَج، يَقُول: " إِنَّه أفضل ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - بِسَنَدِهِ عَن عبد الله أَنه أَمر بإفراد الْحَج، قَالَ: " أحب أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا شعث وسفر ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وهم يَزْعمُونَ أَن الْقرَان أفضل، وَبِه يفتون من استفتاهم، وَعبد الله يكره الْقرَان ".
ذكر حجج من اخْتَار التَّمَتُّع وَرَآهُ أفضل:
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " اخْتَرْت الْإِفْرَاد، والتمتع حسن لَا نكرهه ".
وَعند البُخَارِيّ وَمُسلم - وَاللَّفْظ لَهُ - عَن نصر بن عمرَان أبي

(3/146)


جَمْرَة الضبعِي قَالَ: " تمتعت فنهاني نَاس عَن ذَلِك، فَأتيت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَسَأَلته فَأمرنِي بهَا، فَانْطَلَقت إِلَى الْبَيْت، فَنمت، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ: عمْرَة متقبلة وَحج مبرور، فَأتيت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَأَخْبَرته بِالَّذِي رَأَيْت، فَقَالَ: الله أكبر، سنة أبي الْقَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ فِي الْهَدْي: جزور، أَو بقرة، أَو شَاة، أَو شركا فِي دم ".
وَعند مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذِه عمْرَة استمتعنا بهَا، فَمن لم يكن مَعَه هدي فليحل الْحل كُله، وَقد دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
كَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ أَصْحَابه الَّذين حلوا وَاسْتَمْتِعُوا، إِذْ ثَبت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلهف، حَيْثُ سَاق الْهَدْي فَلم يحل، وَلَو كَانَ مُتَمَتِّعا لم يتلهف عَلَيْهَا.

(3/147)


وَعِنْده عَن غنيم بن قيس قَالَ: " سَأَلت سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - عَن مُتْعَة الْحَج، فَقَالَ: قد فعلناها مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذَا يَوْمئِذٍ كَافِر - يَعْنِي مُعَاوِيَة - بالعرش، يَعْنِي بيُوت مَكَّة ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل أَنه سمع سعد بن أبي وَقاص وَالضَّحَّاك بن قيس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَام حج مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان - رَضِي الله عَنْهُمَا -، وهما يتذاكران التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، فَقَالَ الضَّحَّاك: لَا يصنع ذَلِك إِلَّا من جهل أَمر الله، فَقَالَ

(3/148)


سعد: بئس مَا فعلت، يَا ابْن أخي، فَقَالَ الضَّحَّاك: فَإِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قد نهى عَن ذَلِك، فَقَالَ سعد: قد صنعها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وصنعناها مَعَه ".
وَعِنْدهَا عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " تمتّع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج (فأهدى وسَاق مَعَه الْهَدْي من ذِي الحليفة، وَبَدَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأهل بِالْعُمْرَةِ، ثمَّ أهل بِالْحَجِّ، وتمتع النَّاس مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج) ، فَلَمَّا قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّة قَالَ للنَّاس: من كَانَ مِنْكُم أهْدى فَإِنَّهُ لَا يحل لَهُ شَيْء حرم مِنْهُ حَتَّى يقْضِي حجَّة، وَمن لم يكن مِنْكُم أهْدى فليطف بِالْبَيْتِ، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليحلل، ثمَّ ليهل بِالْحَجِّ ... " وَذكر الحَدِيث فِي طواف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ " ثمَّ لم يحلل من شَيْء حرم مِنْهُ حَتَّى قضى حجه، وَنحر هَدْيه (يَوْم النَّحْر) ، وأفاض، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثمَّ حل من كل شَيْء حرم مِنْهُ ".
قُلْنَا: حَيْثُ لم يتَحَلَّل حَتَّى فرغ من حجه فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَغَيرهَا، فَفِيهِ دَلِيل على أَنه لم يكن مُتَمَتِّعا، وَالله أعلم. ثمَّ فِي أَخْبَار الْإِفْرَاد مَا يُعَارضهُ.

(3/149)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا شَأْن النَّاس حلوا، وَلم تحلل أَنْت من عمرتك؟ " فَقَالَ: " إِنِّي لبدت رَأْسِي، وقلدت هَدْيِي، فَلَا أحل حَتَّى أنحر ".
وَعند مُسلم عَن إِبْرَاهِيم بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رجل: " رويدك بِبَعْض فتياك، فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث / أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي النّسك بعْدك "، حَتَّى لقِيه فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ: " قد علمنَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعله، وَلَكِن كرهت أَن يظلوا معرضين بالأراك، ثمَّ يروحوا بِالْحَجِّ تقطر رؤوسهم "

(3/150)


وَعند البُخَارِيّ وَمُسلم عَن طَارق بن شهَاب عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قدمت على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لي: بِمَ أَهلَلْت؟ قَالَ: قلت: لبيْك إهلالاً كإهلال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: سقت الْهَدْي؟ قلت: لَا، قَالَ: فَأمرنِي فطفت بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ أحللت فَأتيت امْرَأَة من قومِي فغسلت ثِيَابِي وغسلت رَأْسِي، فَكنت أُفْتِي النَّاس، إِذْ أَتَانِي رجل فَقَالَ: إِنَّك مَا تَدْرِي مَا أحدث أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي شَأْن النّسك، قلت: أَيهَا النَّاس، هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قادم عَلَيْكُم، فبه فَأتمُّوا، فَلَمَّا قدم قلت: مَا الَّذِي أحدثت فِي شَأْن النّسك؟ فَقَالَ: إِن نَأْخُذ بِكِتَاب الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يَأْمُرنَا بالإتمام، قَالَ الله - عز وَجل: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} ، وَإِن نَأْخُذ بِسنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لم يحل حَتَّى نحر الْهَدْي ".
وَعند مُسلم عَن أبي نَضرة قَالَ: (كَانَ) ابْن عَبَّاس - رَضِي الله

(3/151)


عَنْهُمَا - يَأْمُرهُم بِالْمُتْعَةِ، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - ينْهَى عَنْهَا، فَذكرت ذَلِك لجَابِر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " على يَدي دَار الحَدِيث "، فَقَالَ: " تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قَامَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله - عز وَجل - كَانَ يحل لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِن الْقُرْآن قد نزل مَنَازِله، فَأتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله كَمَا أَمركُم، وأبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء، فَلَنْ أُوتى بِرَجُل تزوج امْرَأَة إِلَى أجل إِلَّا رَجَمْته بِالْحِجَارَةِ ".
وَفِي رِوَايَة: " افصلوا حَجكُمْ من عُمْرَتكُمْ، فَإِنَّهُ أتم لحجكم وَأتم لعمرتكم ".
وَعِنْده أَيْضا عَن عبد الله بن شَقِيق أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - جعل يَأْمر بِالْمُتْعَةِ، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - ينْهَى عَنْهَا، فَقَالَ عُثْمَان كلمة، فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: لقد علمت أَنا تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: " أجل، وَلَكنَّا كُنَّا خَائِفين ".
وَعِنْده أَيْضا عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا يصلح المتعتان إِلَّا لنا خَاصَّة، يَعْنِي مُتْعَة النِّسَاء، ومتعة الْحَج ".

(3/152)


عِنْدِي أَن المُرَاد - وَالله أعلم - فَسخه الْحَج على من لم يكن مَعَه هدي بِالْعُمْرَةِ، ثمَّ حجهم بعد ذَلِك، وَالْفَسْخ كَانَ لَهُم خَاصَّة دون غَيرهم، وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ تخصيصهم بِجَوَاز مُتْعَة الْحَج.
وكل من قَالَ فِي هَذِه الْأَحَادِيث: " تمتّع رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يحْتَمل أَن يكون مُرَاده بذلك إِذْنه فِيهِ وَأمره من لم يكن مَعَه هدي؛ بِدَلِيل مَا مضى من الْأَحَادِيث فِي الْإِفْرَاد، وَالله أعلم.
وَعند أبي دَاوُد عَن سعيد بن الْمسيب أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - شهد عِنْده أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرضه الَّذِي قبض فِيهِ ينْهَى عَن الْعمرَة قبل الْحَج.
إِنَّمَا أخرجت هَذِه الْأَحَادِيث لتعلم اخْتِلَاف النَّاس فِي حج

(3/153)


التَّمَتُّع، وَلَا نَعْرِف أحدا من الصَّحَابَة كره الْإِفْرَاد، وَلَيْسَ الْمُخْتَلف فِيهِ كالمتفق عَلَيْهِ.
وَعند مُسلم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَرْبَع أَو خمس مضين من ذِي الْحجَّة، فَدخل عليّ، وَهُوَ غَضْبَان، فَقلت: من أغضبك؟ أدخلهُ الله النَّار، فَقَالَ: وَمَا شَعرت أَنِّي أمرت النَّاس بِأَمْر فهم يَتَرَدَّدُونَ، وَلَو أَنِّي كنت اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي معي، حَتَّى أشتريه، وَأحل كَمَا حلوا ".
وَقد روينَاهُ من حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ -، وَفِيه الْبَيَان

(3/154)


الْوَاضِح أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن مُتَمَتِّعا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج؛ " إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لما قَالَ هَذَا، لكنه أَمر أَصْحَابه بِفَسْخ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ؛ قطعا لعادة النَّاس فِي كَرَاهَة الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج، ثمَّ لما رَآهُمْ يكْرهُونَ ذَلِك قَالَ: " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي، ولجعلتها عمْرَة "، تطييباً لقُلُوبِهِمْ؛ لَا أَن التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج أفضل مِمَّا كَانَ فِيهِ.
وَيدل على صِحَة ذَلِك مَا ثَبت عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " كَانُوا يرَوْنَ أَن الْعمرَة فِي اشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور فِي الأَرْض، يَقُولُونَ: إِذا برأَ الدبر، وَعَفا الْأَثر، وانسلخ صفر حلت الْعمرَة لمن اعْتَمر، وَكَانُوا يسمون الْمحرم صفراً، قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصبح رَابِعَة، مهلين بِالْحَجِّ، فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يجعلوها عمْرَة، فتعاظم ذَلِك عِنْدهم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أَي الْحل؟ قَالَ: الْحل كُله " - يَعْنِي: يحلونَ من كل شَيْء - أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
ذكر حجج من اخْتَار الْقرَان وَرَآهُ أفضل:
عِنْد أبي دَاوُد / عَن ابْن حَنْبَل عَن هشيم عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق، وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَحميد (عَن) أنس - رَضِي الله

(3/155)


عَنهُ -: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا، يَقُول: لبيْك عمْرَة وحجاً، لبيْك عمْرَة وحجاً ". وَفِي رِوَايَة يحيى بن يحيى عَن هشيم بِمثلِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بهما جَمِيعًا ".
أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَنهُ.
وَبِهَذَا الْمَعْنى رَوَاهُ وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس، وَخَالفهُ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب وَهُوَ أحفظ - فَرَوَاهُ عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: " سمعهم يصرخون بهما جَمِيعًا: الْحَج وَالْعمْرَة ".
قَالَ سُلَيْمَان بن حَرْب: " سمع أَبُو قلَابَة هَذَا من أنس - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ فَقِيه، فِي رِوَايَته أَن أنسا إِنَّمَا سمع أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصرخون بذلك، وهم كل من جمع مِنْهُم بَين الْحَج وَالْعمْرَة ". وَقد ذكرنَا هَذَا فِي كتاب السّنَن مشروحاً.
حَدِيث معَاذ بن معَاذ عَن شُعْبَة عَن مُسلم القري، سمع ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " أهل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُمْرَة، وَأهل الصَّحَابَة بِحَجّ، فَلم يحجّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا من سَاق الْهَدْي من

(3/156)


أَصْحَابه، وَحل بَقِيَّتهمْ، وَكَانَ طَلْحَة بن عبيد الله مِمَّن سَاق الْهَدْي، فَلم يحل "، رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عبيد الله بن معَاذ، وَعَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، إِلَّا أَن فِيهِ: " وَكَانَ مِمَّن لم يكن مَعَه الْهَدْي طَلْحَة بن عبيد الله - رَضِي الله عَنهُ - وَرجل آخر فأحلا ".
وَخَالَفَهُمَا روح بن عبَادَة، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فروياه عَن شُعْبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد يَقُول: " أهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ "، وَذكر الحَدِيث

(3/157)


بِمثلِهِ، وَلم يَقُولَا: " أهل بِعُمْرَة ".
وَفِي حَدِيث روح أَن طَلْحَة لم يسق الْهَدْي فَحل. وَفِي حَدِيث أبي دَاوُد: وَكَانَ طَلْحَة مِمَّن مَعَه الْهَدْي.
وَرِوَايَة من قَالَ: " أهل بِالْحَجِّ " أشبه؛ لموافقة رِوَايَة أبي الْعَالِيَة الْبَراء، وَابْن حسان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي إهلاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ.
وَعَن حميد عَن بكر عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا ". قَالَ حميد: قَالَ بكر: فَحدثت بذلك ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: لبي بِالْحَجِّ وَحده، فَلَقِيت أنسا فَحَدَّثته بقول ابْن عمر، فَقَالَ أنس: مَا تعدوننا إِلَّا صبياناً سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لبيْك حجا وَعمرَة ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الثِّقَات عَن زيد بن أسلم وَغَيره أَن رجلا أَتَى ابْن عمر -

(3/158)


رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " بِمَ أهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ " قَالَ: " ألم تأت الْعَام الأول؟ " قَالَ: بلَى، وَلَكِن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - زعم أَنه قرن ". قَالَ ابْن عمر: " إِن أنس بن مَالك كَانَ يدْخل على النِّسَاء وَهن مكشفات الرؤوس، وَإِنِّي كنت تَحت نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمسني لُعَابهَا، أسمعهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ ".
وَعَن قَتَادَة قَالَ: " سَأَلت أنسا - رَضِي الله عَنهُ - (كم حجَّة) حَجهَا النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: حجَّة وَاحِدَة، وَاعْتمر عمرته الَّتِي صده الْمُشْركُونَ عَن الْبَيْت، وعمرنه حِين صالحوه، فَدخل من الْعَام الْمقبل، وعمرته فِي ذِي الْقعدَة حِين قسم غنيمَة حنين، وعمرته فِي حجَّته ". أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَمُسلم، قَالَ: " مَعَ حجَّته ".
وَرُوِيَ ذَلِك فِي حَدِيث عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - وَلم يخرج فِي الصَّحِيح، أما حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَذكره عَنْهَا مُجَاهِد، وَقد اخْتلف فِي سَمَاعه مِنْهَا، فشعبة يُنكره، وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم يثبتانه، وَالله أعلم.

(3/159)


وروى زيد بن الْحباب عَن الثَّوْريّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " حج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّتَيْنِ قبل أَن يُهَاجر، وَحج بعد مَا هَاجر حجَّة قرن مَعهَا عمْرَة ".
وَكَذَا رَوَاهُ غير وَاحِد عَن زيد بن الْحباب، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بذلك - وَالله أعلم، إِن صَحَّ - الْجمع بَينهمَا فِي سنة وَاحِدَة، لَا فِي عقد وَاحِد؛ فقد روينَا عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر - رَضِي الله عَنْهُمَا - الحَدِيث الطَّوِيل الْمَشْهُور فِي إخْبَاره عَن حجَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنه كَانَ مُفردا.
وَقد قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا حَدِيث خطأ، وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا عَن الثَّوْريّ مُرْسلا ". وَقَالَ البُخَارِيّ: " وَكَانَ زيد بن الْخطاب إِذا روى حفظا رُبمَا غلط فِي الشَّيْء ".
وَعَن دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن عَن عَمْرو عَن عِكْرِمَة عَن ابْن

(3/160)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: عدد عمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أربعاُ، وَقَالَ: " وَالرَّابِعَة الَّتِي قرن مَعَ حجَّته ".
وَهَذَا أَيْضا لَا يرضاه أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ؛ فقد رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو ابْن دِينَار عَن عِكْرِمَة / أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ... ، مُرْسل.
قَالَ البُخَارِيّ: " دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن صَدُوق، إِلَّا أَنه رُبمَا يهم فِي الشَّيْء ".
ثمَّ إِنَّه إِنَّمَا أَرَادَ مَا ذكرنَا، فقد روينَا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بِالْحَجِّ "، وَهُوَ عِنْد أبي دَاوُد.
وَعند مُسلم عَن حميد بن هِلَال عَن مطرف قَالَ: " قَالَ

(3/161)


عمرَان بن الْحصين - رَضِي الله عَنهُ -: أحَدثك حَدِيثا عَسى الله أَن ينفعك بِهِ، إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بَين حج وَعمرَة، ثمَّ لم ينْه عَنهُ حَتَّى مَاتَ، وَلم ينزل فِيهِ قُرْآن يحرمه، وَقد كَانَ بسلم على حَتَّى اكتويت، فَترك، ثمَّ تركت الكي فَعَاد ".
وَعند البُخَارِيّ عَن قَتَادَة عَن مطرف عَن عمرَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنزل فِيهِ الْقُرْآن ".
وَرَوَاهُ أَبُو الْعَلَاء عَن مطرف عَن عمرَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمر طَائِفَة من أَهله فِي الْعشْر ".
وَرَوَاهُ أَبُو رَجَاء العطاردي عَن عمرَان فِي الْمُتْعَة.
هَكَذَا اخْتلفُوا عَنهُ. وقصده من جَمِيع ذَلِك بَيَان جَوَاز الْعمرَة فِي

(3/162)


أشهر الْحَج، وَقَوله: " جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة " - إِن كَانَ الرَّاوِي حفظه - يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ إِذْنه فِيهِ، وَأمره بعض أَصْحَابه بِهِ، وَالله أعلم.
وَعند البُخَارِيّ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول - وَهُوَ بوادي العقيق: أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ، فَقَالَ: صل فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة ".
فَيكون ذَلِك - وَالله أعلم - إِذْنا فِي إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج، لَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر بذلك فِي نَفسه.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: " وَقل: عمْرَة فِي حجَّة، فقد دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَعِنْده، وَعند مُسلم عَن حَفْصَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " يَا رَسُول الله، مَا شَأْن النَّاس حلوا من عمرتهم، وَلم تحلل أَنْت من عمرتك؟ " فَقَالَ: " لبدت رَأْسِي، وقلدت هَدْيِي، فَلَا أحلل حَتَّى أنحر ".
وَعند البُخَارِيّ عَن مَرْوَان بن الحكم قَالَ: " شهِدت عُثْمَان، وعلياً - رَضِي الله عَنْهُمَا - بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - ينْهَى عَن الْمُتْعَة، وَأَن يجمع بَينهمَا، فَلَمَّا رأى ذَلِك عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أهل بهما جَمِيعًا فَقَالَ: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا، فَقَالَ عُثْمَان -

(3/163)


رَضِي الله عَنهُ -: تراني أنهى النَّاس عَن شَيْء وَأَنت تَفْعَلهُ؟ فَقَالَ: مَا كنت لأدع سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقَوْل أحد من النَّاس ".
وَعند أبي دَاوُد عَن الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كنت مَعَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - حِين أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْيمن " ... فَذكر الحَدِيث فِي قدومه، وَقَالَ عَنهُ: " قَالَ: فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ صنعت؟ قَالَ: قلت: أَهلَلْت بإهلال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنِّي قد سقت الْهَدْي وقرنت ".
قَوْله: " وقرنت " لَيْسَ بمذكور فِي الرِّوَايَات الْوَارِدَة فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قدوم عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - من الْيمن، وَجعل الْعلَّة فِي امْتِنَاعه من التَّحَلُّل كَون الْهَدْي مَعَه، والقارن لَا يحل من إِحْرَامه حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا، سَوَاء كَانَ مَعَه هدي أَو لم يكن، فَدلَّ على خطأ تِلْكَ اللَّفْظَة، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ للصَّبِيّ بن معبد - وَقد قرن -: " هديت لسنة نبيك، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند أبي دَاوُد أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ " يَا أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل تعلمُونَ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى

(3/164)


عَن ركُوب جُلُود النمور؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فتعلمون أَنه نهى أَن يقرن بَين الْحَج وَالْعمْرَة؟ قَالُوا: أما هَذَا فَلَا، فَقَالَ: أما إِنَّهَا مَعَهُنَّ، وَلَكِنَّكُمْ نسيتم ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (31) :

صَوْم السَّبْعَة لَا يجوز إِلَّا بعد رُجُوعه إِلَى أَهله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن صَامَ بِمَكَّة أَو فِي الطَّرِيق بعد أَيَّام منى جَازَ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " تمتّع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج "، وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وليهد، فَمن لم يجد هَديا فليصم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح ".

(3/165)


وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رجعتم إِلَى أمصاركم ". وَهُوَ مخرج فِي كتاب البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ عَطاء، وَمُجاهد عَن جَابر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله ". وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (32) :

ويبتدئ بِالتَّلْبِيَةِ إِذا انبعثت بِهِ رَاحِلَته فِي قَوْله الْجَدِيد.؟ وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " الْمُخْتَار أَن يَبْتَدِئ بِهِ فِي مجْلِس صلَاته بعد / فَرَاغه من الرَّكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْله الْقَدِيم ".
فَوجه الْجَدِيد مَا عِنْد البُخَارِيّ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -

(3/166)


" أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة ".
وَأخرجه مُسلم عَنهُ بِمَعْنَاهُ.
وَعِنْدَهُمَا عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " صلى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنحن مَعَه الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَصلى بِذِي الحليفة - يَعْنِي الْعَصْر - رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ بَات بهَا حَتَّى أصبح، ثمَّ ركب حَتَّى اسْتَوَت بِهِ الْبَيْدَاء كبر وَسبح، ثمَّ أهل "، وَذكر بَاقِي الحَدِيث ".
وَعَن أبي دَاوُد عَن سعد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أَخذ الطَّرِيق الْفَزع أهل إِذا اسْتقْبلت بِهِ رَاحِلَته، وَإِذا أَخذ طَرِيق أحد أهل إِذا أشرف على جبل بيداء ".
وَوجه قَوْله الْقَدِيم مَا روى خصيف عَن سعيد بن جُبَير عَن

(3/167)


ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل فِي دبر صلَاته حِين فرغ من رَكْعَتَيْنِ ".
وَمَا مضى أصح إِسْنَادًا؛ لِأَن خصيفاً تكلمُوا فِيهِ، وَقد تَابعه الْوَاقِدِيّ فِي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، ومتابعة الْوَاقِدِيّ لَا تغني. وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِيهِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيره أسانيدها قَوِيَّة ثَابِتَة، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (33) :

والتلبية لَيست بواجبة فِي الْإِحْرَام، وَلَا هِيَ شَرط فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " التَّلْبِيَة شَرط فِي صِحَة الْإِحْرَام، أَو مَا يقوم مقَامهَا من سوق للهدي ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن عُرْوَة بن مُضرس بن أَوْس بن حَارِثَة بن لَام - رَضِي الله عَنهُ - أَنه حج على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأدْرك

(3/168)


النَّاس وَهُوَ بِجمع، فَانْطَلق إِلَى عَرَفَات لَيْلًا، فَأَفَاضَ مِنْهَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَى جمع، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَا رَسُول الله: أَتعبت نَفسِي وأنضبت رَاحِلَتي، فَهَل لي من حج؟ ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من صلى مَعنا صَلَاة الْغَدَاة، ووقف مَعنا حَتَّى يفِيض، وَقد أَتَى عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا، فقد تمّ حجه، وَقضى تفثه ".
والْحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ فِي الْأَمر بِرَفْع الصَّوْت فِي التَّلْبِيَة، لَا يدل على وُجُوبهَا؛ لِأَنَّهُ ورد فِي التَّرْغِيب ي رفع الصَّوْت بهَا، وأجمعنا أَنه غير وَاجِب. وَالله أعلم.

(3/169)


مَسْأَلَة (34) :

لم يذكرهَا الإِمَام - والاقتصار على تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحب إِلَّا أَن يرى شَيْئا يُعجبهُ فَيَقُول: " لبيْك أَن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة "، لَا يضيق أَن يزِيد عَلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن زَاد فَحسن ".
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - بِسَنَدِهِ عَن عبد الله بن أبي سَلمَة أَنه قَالَ: سمع سعد بن وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - بعض بني أَخِيه وَهُوَ يُلَبِّي يَا ذَا المعارج، فَقَالَ سعد: " إِنَّه لذُو المعارج، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نلبي على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".

(3/170)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لبيْك لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك ".
وَكَانَ عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يزِيد فِيهَا: " لبيْك لبيْك، وَسَعْديك، وَالْخَيْر بيديك لبيْك، وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر التَّلْبِيَة مثل حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: " وَالنَّاس يزِيدُونَ (يَا ذَا المعارج) وَنَحْوه من الْكَلَام وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسمع، فَلَا يَقُول لَهُم شَيْئا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " كَانَ من تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لبيْك إِلَه الْحق) ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (35) :
وَلَيْسَ للمحرمة أَن تلبس لقفازين على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَلها

(3/171)


لبسهَا على القَوْل الآخر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله.
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ " قَامَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله: مَا تَأْمُرنَا أَن نلبس من الثِّيَاب فِي الْإِحْرَام؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تلبسوا القمص، وَلَا السراويلات، وَلَا العمائم، وَلَا البرانس، وَلَا الْخفاف، إِلَّا أَن يكون إِنْسَان لَيست لَهُ نَعْلَانِ؛ فليلبس الْخُفَّيْنِ، فليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تلبسوا شَيْئا من الثِّيَاب مَسّه الزَّعْفَرَان، وَلَا الورس، وَلَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة، وَلَا تلبس القفازين ". أخرجه البُخَارِيّ فِي / الصَّحِيح وَقَالَ: " تَابعه مُوسَى بن عقبَة، وَإِسْمَاعِيل بن عقبَة، وَجُوَيْرِية ابْن إِسْمَاعِيل، وَابْن إِسْحَاق - يَعْنِي عَن نَافِع - فِي النقاب والقفازين ".
وَعَن أبي دَاوُد عَنهُ: أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى النِّسَاء فِي إحرامهن عَن القفازين والنقاب، وَمَا مس الورس والزعفران من الثِّيَاب، ولتلبس بعد ذَلِك مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب معصفراً، أَو حزاً، أَو حليا، أَو سراويلاً، أَو قَمِيصًا، أَو خفاً.
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ يَقُول: " لَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة، وَلَا تلبس القفازين ".

(3/172)


وروى عبد الله بن رَجَاء العداني، حَدثنَا أَيُّوب بن مُحَمَّد أَبُو الْجمال ثِقَة عَن عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ على الْمَرْأَة حرم إِلَّا فِي وَجههَا ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَكَذَا رَوَاهُ أَيُّوب عَن عبيد الله مُسْندًا مَرْفُوعا، وحاله عِنْد أَئِمَّة أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا عدله بِهِ عبد الله بن رَجَاء رَحمَه الله.
قَالَ ابْن معِين: " شيخ يماني ضَعِيف ".
وروى مخلد بن مَالك، حَدثنَا يحيى بن سعيد، حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِحْرَام الرجل فِي رَأسه، وإحرام الْمَرْأَة فِي وَجههَا ".

(3/173)


قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " وَأما حَدِيث مخلد بن مَالك عَن يحيى بن سعيد، ومخلد قد روى عَن يحيى بن سعيد الْعَطَّار، (وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَيحيى بن سعيد الْأمَوِي، فَإِن كَانَت الرِّوَايَة عَن يحيى بن سعيد الْعَطَّار) - وَلَا يبعد رِوَايَته عَن عبيد الله بن عمر - فَإِن يحيى بن سعيد الْعَطَّار شيخ من أهل حمص، ينتسب إِلَى الْأَنْصَار، قد عرف بمخالفة الْأَثْبَات فِي حَدِيثه، وَقد دلّس عَنهُ جمَاعَة، فَقَالُوا: حَدثنَا أَبُو زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ، قَالَ أبن معِين: لَيْسَ بِشَيْء ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " وَإِن كَانَت الرِّوَايَة عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان الإِمَام - رَحمَه الله -، أَو يحيى بن سعيد الْأمَوِي فقد وهم فِي رَفعه أحد الروَاة، وَلَا يسلم صَاحب الْكتاب من مثله، وَالدَّلِيل على مَا ذَكرْنَاهُ إِجْمَاع أَصْحَابه على رِوَايَته عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَوْقُوفا من قَوْله، هَكَذَا رَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن حسان عَن عبيد الله " عَن نَافِع ".
وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَمُحَمّد بن فليح بن سُلَيْمَان، وَعبد

(3/174)


الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد، وَغَيرهم من المعروفين بالرواية عَن عبيد الله بن عمر.
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " لم تَرَ بالقفازين بَأْسا " وَهُوَ مُرْسل.
رَوَاهُ سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن عمر. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (36) :

وَلَا فديَة على الرجل بستر وَجهه طَالَتْ الْمدَّة فِيهِ أَو قصرت. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " إِن ستره يَوْمًا فَأكْثر لَزِمته الْفِدْيَة ".
روى مَالك عَن يحيى عَن الْقَاسِم عَن الفرافصة بن عُمَيْر الْحِمْيَرِي، أَنه رأى عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - يُغطي

(3/175)


وَجهه وَهُوَ محرم.
وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن ابْن الْقَاسِم عَن أَبِيه أَن عُثْمَان بن عَفَّان وَزيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَذكر رجلا آخر كَانُوا يخمرون وُجُوههم وهم حرم ". وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: " وهم محرمون ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَمَا هُوَ أقوى من هَذَا كُله أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بميت مَاتَ محرما أَن يكْشف عَن رَأسه دون وَجهه، وَلَا يقرب طيبا، ويكفن فِي ثوبيه اللَّذين مَاتَ فيهمَا ".
قَالَ ابْن الْمُنْذر فِيهِ أَي الْمحرم يُغطي وَجهه: وَرخّص سعد بن أبي وَقاص، وَجَابِر بن عبد الله، روى عَن ابْن الزبير: " يغشى الْمحرم وَجهه بِثَوْبِهِ حَتَّى شعر رَأسه إِن شَاءَ ".

(3/176)


وروى مَالك عَن نَافِع: أَن عبد الله كَانَ يَقُول: " أما فَوق الذقن من الرَّأْس فَلَا يخمره الْمحرم ".
وَقَول من وَافق قَوْله السّنة أولى من قَول ابْن عمر، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (37) :

وَالْمحرم إِذا لم يجد الْإِزَار لبس السَّرَاوِيل، وَلَا فديَة عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْفِدْيَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَات، فَقَالَ: " من لم يجد الْإِزَار فليلبس السَّرَاوِيل، وَمن لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ ".
أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَلم يرخص فِي حَدِيث ابْن عمر إِلَّا فِي النَّعْلَيْنِ، قَالَ: " وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ "، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات أَن ذَلِك كَانَ حِين سَأَلَهُ رجل عَنهُ فِي الْمَسْجِد، وَذَلِكَ يدل على أَنه كَانَ قبل

(3/177)


الْإِحْرَام بِالْمَدِينَةِ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس بعد حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - وَالله أعلم.
وَعند مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من لم يجد إزاراً فليلبس سَرَاوِيل، وَمن لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة / (38) :

وَإِذا غسل الْمحرم رَأسه بالسدر والخطمي لم تلْزمهُ الْفِدْيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْفِدْيَة ".
فِيهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي الْمحرم. وَالله أعلم.

(3/178)


مَسْأَلَة (39) :

وَإِذا ادهن الزَّيْت والشيرج فِي بدنه فَلَا فديَة عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " هما طيبان، وَفِيهِمَا الْفِدْيَة ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ادهن بِزَيْت (غير) مقتت، وَهُوَ محرم ". وَفِي رِوَايَة: " ابْن عَبَّاس "، بدل " ابْن عمر ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (40) :

وَإِن تطيب نَاسِيا فَلَا فديَة عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْفِدْيَة ".

(3/179)


دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن يعلى بن أُميَّة قَالَ: " كُنَّا عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالجعرانة، فَأَتَاهُ رجل، وَعَلِيهِ مقطع - يَعْنِي جُبَّة - وَهُوَ متضمخ بالخلوق، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَحرمت بِالْعُمْرَةِ، وَهَذِه على؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا كنت تصنع فِي حجك؟ قَالَ: كنت أنزع هَذِه، وأغسل هَذَا الخلوق، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا كنت صانعاً فِي حجتك فاصنعه فِي عمرتك ". أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ نوح بن حبيب القومسي فَقَالَ فِيهِ: " فَأتى بِالرجلِ فَقَالَ: أما الْجُبَّة فاخلعها، وَأما الطّيب فاغسله، ثمَّ أحدث إحراماً ".
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: " لَا أعلم أَن أحدا قَالَ:

(3/180)


" أحدث إحراماً " غير نوح بن حبيب، وَلَا أَحْسبهُ مَحْفُوظًا "، هَذِه الزِّيَادَة: " ثمَّ أحدث إحراماً " لَيست بمحفوظة.
فقد رَوَاهُ مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان، وَأَبُو عَاصِم، وَإِسْمَاعِيل بن علية، وَمُحَمّد بن بكر، وَعِيسَى بن يُونُس، كلهم عَن ابْن جريج، دون ذكر هَذِه الزِّيَادَة.

(3/181)


وَرَوَاهُ همام بن يحيى، وَقيس بن سعد، ورباح بن أبي مَعْرُوف، وَأَبُو بشر جَعْفَر بن إِيَاس، وَاللَّيْث، وَالْحجاج، كلهم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح فِي هَذَا الحَدِيث، لم يذكر وَاحِد مِنْهُم هَذِه، غير (نوح بن حبيب) عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج، وَلم يقبلهَا أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ مِنْهُ.
وَقد روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن الله تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان ".
وروى ابْن جريج عَن عَطاء: " من تطيب نَاسِيا، أَو لبس نَاسِيا،

(3/182)


أَو جَاهِلا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (41) :

وَلَا يَصح نِكَاح الْمحرم وإنكاحه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى مَالك عَن نَافِع مولى عبد الله بن عمر عَن نبيه بن وهب، أَن عمر بن عبيد الله أَرَادَ أَن يُزَوّج طَلْحَة بن عمر ابْنة شيبَة بن جُبَير، فَأرْسل إِلَى أبان بن عُثْمَان؛ ليحضر ذَلِك - وَهُوَ أَمِير الْحَج - فَقَالَ أبان: سَمِعت عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لَا ينْكح

(3/183)


الْمحرم، وَلَا ينْكح، وَلَا يخْطب " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَنبيه بن وهب من أَشْرَاف بني عبد الدَّار، مَعْرُوف الدَّار وَالنّسب بِمَكَّة، روى عَنهُ نَافِع مولى ابْن عمر، وَبُكَيْر بن عبد الله وَأَيوب بن مُوسَى، وَعبد الْأَعْلَى، وَعبد الْجَبَّار

(3/184)


ابْنا نبيه، وَسَعِيد بن أبي هِلَال والمسور بن عبد الْملك.
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: " فَكيف يكون مَجْهُولا (من هُوَ) مَعْرُوف الدَّار وَالنّسب. وَقد روى عَنهُ مثل هَؤُلَاءِ قَالَ: وَلَقَد سَمِعت مُسلم بن الْحجَّاج يَقُول - وَذكر لَهُ قَول من زعم أَن نبيه بن وهب مَجْهُول - قَالَ: " لَو سمع بَنو عبد الدَّار بن قصي هَذَا القَوْل، لقذفوا قَائِله ".
وروى عَن إِسْحَاق بن رَاشد الْجَزرِي عَن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: أَرَادَ عمر بن عبيد الله بن معمر أَن يُزَوّج ابْنا لَهُ وَأَبَان بن عُثْمَان على الوشم، فَطلب إِلَيْهِ أَن يحضر ذَلِك، فَقَالَ لَهُ أبان: " أَلا أَرَاك أَعْرَابِيًا جَافيا، أَو مَا سَمِعت عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يذكر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الْمحرم لَا ينْكح، وَلَا ينْكح، وَلَا يخْطب ".

(3/185)


قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " فَصَارَ الحَدِيث عَن زيد بن عَليّ عَن أبان بن عُثْمَان، وَهُوَ عَجِيب بِمرَّة ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا.
وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي بن أبي طَالب، وَزيد بن ثَابت، وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُم.
أما حَدِيث عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَرَوَاهُ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن دَاوُد بن الْحصين عَن أبي غطفان الْمُزنِيّ: " أَن أَبَا طريف تزوج امْرَأَة وَهُوَ محرم، فَرد عمر نِكَاحه ".

(3/186)


وَأما حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فَروِيَ عَن عَمْرو بن عَليّ، قَالَ: " سَأَلت يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن حَدِيث مطر عَن الْحسن، أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من تزوج وَهُوَ محرم نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَته وَلم يجز نِكَاحه، قَالَ حَدثنَا مَيْمُون المراني، حَدثنَا الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقلت: " أُرِيد حَدِيث مطر، فَمَا حَدثنِي بِهِ إِلَّا بعد شدَّة ".
وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه / أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: لَا ينْكح الْمحرم، فَإِن نكح رد نِكَاحه ".
وَأما حَدِيث زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ -، فَقَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله: قَالَ لنا عبد الله بن سَلمَة حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن قدامَة بن مُوسَى عَن شَوْذَب مولى زيد بن ثَابت، أَنه تزوج وَهُوَ محرم، فَفرق بَينهمَا زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ.

(3/187)


وَأما حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: " لَا ينْكح الْمحرم، وَلَا يخْطب على نَفسه، وَلَا على غَيره ".
وَعَن سعيد بن الْمسيب، وَسَالم بن عبد الله، وَسليمَان بن يسَار أَنهم سئلوا عَن نِكَاح الْمحرم فَقَالُوا: " لَا ينْكح الْمحرم، وَلَا ينْكح ".
استدلوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال، وَمَاتَتْ (وَهُوَ) بسرف. أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وروى عَمْرو بن دِينَار عَن أبي الشعْثَاء عَن عبد الله بن

(3/188)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح وَهُوَ محرم ".
قَالَ عَمْرو: فَحدثت ابْن شهَاب حَدِيث أبي الشعْثَاء، فَقَالَ حَدثنِي يزِيد ابْن الْأَصَم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح وَهُوَ غير محرم. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأخرج أَيْضا فِي الصَّحِيح عَن أبي فَزَارَة عَن يزِيد بن الْأَصَم، قَالَ: " حَدَّثتنِي مَيْمُونَة بنت الْحَارِث أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال، قَالَ: " وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس ".
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن يزِيد بن الْأَصَم ابْن أُخْت مَيْمُونَة عَن مَيْمُونَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " تزَوجنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنحن حلالان بسرف ".

(3/189)


وروى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَلمَة عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: " أوهم الَّذِي روى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، مَا نَكَحَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا وَهُوَ حَلَال ".
روى أَبُو عَاصِم عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوج وَهُوَ محرم.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ - رَحمَه الله: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ - رَحمَه الله - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: يرَوْنَ هَذَا عَن ابْن أبي مليكَة مُرْسل، ذكر عَائِشَة فِيهِ وهم، وَالصَّوَاب إرْسَاله، كَذَا يَقُول أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَالله أعلم ".
وَيُقَال: " إِن أَبَا عَاصِم رَجَعَ عَن وَصله حِين عَاد إِلَى أَصله فَوَجَدَهُ فِيهِ مُرْسلا "، قَالَه عَمْرو بن عَليّ عَن بعض أَصْحَابه.

(3/190)


وَرَوَاهُ عَمْرو عَن أبي عَاصِم مُرْسلا.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر واه عَن عَائِشَة: " عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة ".
وَقيل: عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة.
وَالْمَحْفُوظ: عَن الْمُغيرَة عَن سماك عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، هَكَذَا رَوَاهُ جرير عَن مُغيرَة مرسلاَ.
قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " كلا الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي عوَانَة خطأ، وَالْمَحْفُوظ حَدِيث جرير ".
قَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - " لَا بَأْس أَن

(3/191)


يتَزَوَّج الْمحرم ": " لَيْسَ يحدث بِهِ عَن جرير إِلَّا من يُرِيد شين جرير، إِنَّمَا هُوَ قَول إِبْرَاهِيم "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (42) :

ويستلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَلَا يقبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " (لَا يستلمه) ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " مَا تركت (استلام) هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحجر فِي شدَّة، وَلَا رخاء مُنْذُ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستلمهما ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لم أر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَالله أعلم.

(3/192)


وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدع أَن يسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَالْحجر فِي كل طَوَافه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (43) :

وَلَا يَصح الطّواف إِلَّا بِمَا تصح بِهِ الصَّلَاة من الطَّهَارَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن طَاف بِغَيْر طَهَارَة أَجزَأَهُ، وَيجْبر بِدَم ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن مُوسَى بن أعين عَن عَطاء بن السَّائِب عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، وَلَكِن الله تَعَالَى أحل لكم فِيهِ الْمنطق، فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير ".
تَابعه الثَّوْريّ، وَجَرِير بن عبد الْمجِيد، والفضيل بن عِيَاض، وَغَيرهم عَن عَطاء بن السَّائِب مُسْندًا مُتَّصِلا.

(3/193)


وَرَوَاهُ عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَوْقُوفا. وروى عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عُرْوَة حَدِيث فِيهِ: " وأخبرتني عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَن تَوَضَّأ، ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ " يَعْنِي رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(3/194)


روى أَبُو دَاوُد عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ _: " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْمِي على رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، يَقُول لنا: خُذُوا عني مَنَاسِككُم؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه ".
أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح بِنَحْوِهِ.
وَعند البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " قدمت وَأَنا حَائِض، فشكوت ذَلِك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: افعلي كَمَا يفعل الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري ".
وَالله - (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) - أعلم. (وَله الْحَمد وَالنعْمَة، وَبِه التَّوْفِيق والعصمة) ,
مَسْأَلَة (44) :

وَبَعض الطّواف لَا يقوم مقَام جَمِيعه، وَلَا يُجزئهُ، كَانَ الْمَفْعُول أَكثر أَو الْمَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يُجزئ وَالْمَفْعُول أَكثر من الْمَتْرُوك مَعَ دم ". وَهَكَذَا الْخلاف فِيمَن طَاف بِالْبَيْتِ فسلك الْحجر، وَلم يطف من وَرَائه، فعندنا لَا يُجزئهُ، وَعِنْدهم بجزئه.

(3/195)


دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا ". و (قَالَ) : " قَالَ الله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} . أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَعَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الِاسْتِجْمَار تو، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة تو، وَالطّواف تو، وَإِذا استجمر أحدكُم فليستجمر بتو ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِيه دَلِيل على أَنه إِذا طَاف أَرْبعا لَا يُجزئهُ.
روى الرّبيع: " أخبرنَا الشَّافِعِي: أخبرنَا سُفْيَان: حَدثنَا هِشَام عَن طَاوُوس - فِيمَا أَحسب أَنه قَالَ: عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: الْحجر من الْبَيْت، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} ، وَقد طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَرَاء الْحجر ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي السّفر عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله

(3/196)


عَنْهُمَا - قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، اسمعوا مَا أَقُول لكم، وأسمعوني مَا تَقولُونَ، وَلَا تَقولُوا: قَالَ ابْن عَبَّاس: من طَاف بِالْبَيْتِ فليطف بِالْحجرِ؛ فَإِن الْحجر من الْبَيْت، وَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف من وَرَائه، وَلَا يَقُولَن أحدكُم: الْحطيم ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَن الْحجر من الْبَيْت، وَالسَّبَب فِي تَركه خَارج الْبَيْت ". وَالله أعلم.

(3/197)


مَسْأَلَة (45) :

لَا دم على من طَاف رَاكِبًا ركب مُخْتَارًا أَو مَعْذُورًا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن كَانَ مُخْتَارًا فَعَلَيهِ دم ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف فِي حجَّة الْوَدَاع على بعيره، يسْتَلم الرُّكْن بمحجن ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله عَنهُ.
وروى يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم مَكَّة، وَهُوَ يشتكي، فَطَافَ على رَاحِلَته ". وَهَذِه الزِّيَادَة لم يُتَابع عَلَيْهَا.
وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث خَالِد الْحذاء عَن

(3/198)


عِكْرِمَة، دون هَذِه الزِّيَادَة، وَيزِيد بن أبي زِيَاد غير مُحْتَج بِهِ.
وَقد بَين جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - السَّبَب فِي طوافة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع على راحتله بِالْبَيْتِ، وبالصفا والمروة: ليراه النَّاس، وليشرف، وليسألوه، فَإِن النَّاس غشوه. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأخرج أَيْضا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع حول الْكَعْبَة على بعيره، يسْتَلم الرُّكْن؛ كَرَاهِيَة أَن يصرف عَنهُ النَّاس ".
وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَت أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي لم أطف طواف الْخُرُوج، فَقَالَ: إِذا أَقمت الصَّلَاة فطوفي من وَرَاء النَّاس على بعيرك ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (46) :

وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة فِي الْحَج وَالْعمْرَة ركن مَفْرُوض لَا

(3/199)


يَنُوب عَنهُ الدَّم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّه وَاجِب، وينوب عَنهُ الدَّم ".
لنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ إِذا طَاف فِي الْحَج وَالْعمْرَة أول مَا يقدم سعى ثَلَاثَة أطواف، وَمَشى أَرْبعا، ثمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقد روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِككُم ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ حِين ذكرت فِيهِ نزُول الْآيَة، ثمَّ قَالَت: " قد سنّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطّواف بَينهمَا، وَلَيْسَ لأحد أَن يتْرك الطّواف بَينهمَا ".
كَذَا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. وَفِي رِوَايَة هِشَام عَن أَبِيه قَالَت: " مَا أتم الله حج امْرِئ، وَلَا عمرته لم يطف بَين الصَّفَا والمروة ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.

(3/200)


وَعَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: " سَأَلنَا ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رجل قدم بِعُمْرَة فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَلم يطف بَين الصَّفَا والمروة أياتي امْرَأَته؟ فَقَالَ: قدم / النَّبِي -
- فَطَافَ فِي بِالْبَيْتِ سبعا، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، وَطَاف بالصفا والمروة سبعا، وَقَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة (حَسَنَة} } ، قَالَ عَمْرو: فسألنا جَابِرا - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: لَا تَقربهَا حَتَّى تَطوف بَين الصَّفَا والمروة ". رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن الْحميدِي، وَغَيره، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
وروى الشَّافِعِي عَن عبد الله بن المؤمل عَن عمر عَن عبد الرَّحْمَن عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت:

(3/201)


أَخْبَرتنِي بنت أبي تجراة، إِحْدَى نسَاء بني عبد الدَّار، قَالَت: دخلت مَعَ نسْوَة من قُرَيْش دَار أبي حُسَيْن نَنْظُر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة، فرأيته يسْعَى وَأَن (مِئْزَره) ليدور من شدَّة السَّعْي، حَتَّى لَا أَقُول إِنِّي لأرى ركبته، وسمعته يَقُول: اسْعوا، فَإِن الله - عز وَجل - كتب عَلَيْكُم السَّعْي ".
وَرَوَاهُ يُونُس بن مُحَمَّد، و (معَاذ) بن هَانِئ، عَن ابْن المؤمل فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: " حَسَنَة بنت أبي تجراة ".
مَسْأَلَة (47) :

الْقَارِن يَكْفِيهِ طواف وَاحِد، وسعي وَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة -

(3/202)


رَحمَه الله: " إِنَّه يطوف طوافين، وَيسْعَى سعيين ".
لنا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام حجَّة الْوَدَاع "، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: " قَالَت: وَأما الَّذين كَانُوا جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم عَنْهَا - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا حَاضَت بسرف، وطهرت بِعَرَفَة، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُجزئ عَنْك طوافك بالصفا والمروة عَن حجك وعمرتك ".
عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " طوافك بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك ". قَالَ الشَّافِعِي: " وَكَانَ سُفْيَان رُبمَا قَالَ: عَن عَطاء عَن عَائِشَة، وَرُبمَا قَالَ: عَن عَطاء أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لعَائِشَة ".
وروى الثِّقَات عَن الثَّوْريّ عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَكْفِيك طواف وَاحِد بعد الْمُعَرّف لحجك وعمرتك ".
وَفِي حَدِيث " ابْن عمر حِين خرج إِلَى الْحَج عَام) نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير قَالَ: " ثمَّ انْطلق يهل بهما جَمِيعًا، حَتَّى قدم

(3/203)


مَكَّة فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة، وَلم يزدْ على ذَلِك، وَلم ينْحَر، وَلم يحلق، وَلم يقصر، وَلم يحلل من شَيْء حرم مِنْهُ، حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر، فَنحر وَحلق، وَرَأى أَنه قد قضى طواف الْحَج وَالْعمْرَة بطوافه الأول، وَقَالَ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: هَذَا من فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الثِّقَات عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة كَفاهُ لَهما طواف وَاحِد، لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا ".
وَعَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لم يطف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَصْحَابه بَين الصَّفَا والمروة إِلَّا طَوافا وَاحِدًا، طَوَافه الأول ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
استدلوا بِمَا روى الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم عَن مُجَاهِد قَالَ: " خرج ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يهل بِعُمْرَة، وَهُوَ يتخوف أَيَّام نجدة أَن يحبس عَن الْبَيْت، فَلَمَّا سَار أَيَّامًا قَالَ: مَا الْحصْر فِي الْعمرَة والحصر فِي الْحَج إِلَّا وَاحِد، فضم إِلَيْهَا حجَّة، فَلَمَّا قدم طَاف طوافين، طَوافا لعمرته، وطوافاً لحجته، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يروه عَن الحكم غير الْحسن بن

(3/204)


عمَارَة هُوَ مَتْرُوك ".
وَالْحسن بن عمَارَة مِمَّن أجمع أَئِمَّة أهل النَّقْل على ترك حَدِيثه؛ لِكَثْرَة الْمَنَاكِير فِي رواياته، وَكَيف يَصح مثل هَذَا عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقد ثَبت عَنهُ أَنه طَاف لَهما طَوافا وَاحِدًا؟ - كَمَا سبق - وَالله أعلم.
وروى حَفْص بن أبي دَاوُد عَن ابْن أبي ليلى عَن الحكم عَن ابْن أبي ليلى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، (ثمَّ قَالَ ابْن عمر) هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " حَفْص بن أبي دَاوُد ضَعِيف، وَابْن أبي ليلى ردئ الْحِفْظ كثير الْوَهم ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر، وَلَا يَصح؛ لِأَن رَاوِيه الْحسن بن عمَارَة.
وَرَوَاهُ عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ: حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا، فَطَافَ طوافين، وسعى سعيين ".
قَالَ على بن عمر: " عِيسَى بن عبد الله يُقَال لَهُ: مبارك، وَهُوَ

(3/205)


مَتْرُوك الحَدِيث ". وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " إِنَّه روى عَن أَبِيه عَن آبَائِهِ أَحَادِيث مَوْضُوعَة ". وروى بِإِسْنَاد فِيهِ مَجْهُول يُقَال لَهُ حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ: " طفت مَعَ أبي، وَقد جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، / وحَدثني أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - فعل ذَلِك، وحدثه عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل ذَلِك ". وَمثل ذَلِك لَا يَصح.
وروى عَليّ بن عمر عَن ابْن صاعد عَن ابْن زنبور عَن

(3/206)


فُضَيْل عَن مَنْصُور عَن مَالك بن الْحَارِث عَن (أبي نصر) قَالَ: لقِيت عليا - رَضِي الله عَنهُ -، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: " ثمَّ يطوف لَهما طوافين، وَيسْعَى لَهما سعيين ".
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن مَنْصُور، فَلم يذكر فِيهِ السَّعْي، وَكَذَلِكَ شُعْبَة، وَابْن عُيَيْنَة.
وَأَبُو نصر هَذَا مَجْهُول، فَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ طواف الْقدوم وَطواف الزِّيَارَة، وَأَرَادَ سعياً وَاحِدًا، على مَا رَوَاهُ الثَّوْريّ وصاحباه، فَلَا يكون مُخَالفا لما رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن أبي يحيى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي الْقَارِن: " يطوف طوافين، وَيسْعَى سعياً ". يَعْنِي طواف الْقدوم والزيارة.
وَقد روينَا عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِخِلَافِهِ: عَن ابْن

(3/207)


سمْعَان عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أهل بِحجَّة وَعمرَة مَعًا، فَطَافَ لَهما طوفاً وَاحِدًا، وسعى لَهما سعياً وَاحِدًا.
وروى عَليّ بن عمر: " عَن ابْن صاعد عَن مُحَمَّد بن يحيى الْأَزْدِيّ، حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد عَن شُعْبَة عَن حميد عَن مطرف عَن عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَاف طوافين، وسعى قَالَ وسعى سعيين ". قَالَ لنا ابْن صاعد: خَالف مُحَمَّد بن يحيى غَيره فِي هَذِه الرِّوَايَة، قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن: يُقَال: إِن مُحَمَّد بن يحيى حدث بِهَذَا من حفظه، فَوَهم فِي مَتنه، وَالصَّوَاب بِهَذَا الْإِسْنَاد: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرن الْحَج وَالْعمْرَة "، وَلَيْسَ فِيهِ (ذكر) الطّواف، وَلَا السَّعْي. وَقد حدث بِهِ مُحَمَّد بن يحيى على الصَّوَاب مرَارًا، وَيُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَن ذكر الطّواف وَالسَّعْي إِلَى الصَّوَاب، وَالله أعلم ".
وروى أَبُو بردة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن

(3/208)


عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " طَاف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمرته وحجته طوافين، وسعى سعيين، وَأَبُو بكر، وَعمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُم ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " أَبُو بردة هَذَا عَمْرو بن يزِيد ضَعِيف، وَمن دونه فِي الْإِسْنَاد ضعفاء ". وَالله أعلم.

مَسْأَلَة (48) :

المؤذنون بِعَرَفَة يُؤذنُونَ فِي حَال مَا يخْطب الإِمَام الْخطْبَة الثَّانِيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله _: " قبل الْخطْبَة الأولى ".
وَلنَا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - الطَّوِيل فِي صفه الْحَج عِنْد مُسلم، وَفِيه: " فَركب - يَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَنى نزل بطن الْوَادي، فَخَطب النَّاس، فَقَالَ: إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ عَلَيْكُم

(3/209)


حرَام. . " فَذكر حطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَقَامَ، فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ، فصلى الْعَصْر، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا ".
وروى الشَّافِعِي: " أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَغَيره عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر فِي حجَّة الْإِسْلَام قَالَ: فراح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْموقف بِعَرَفَة فَخَطب النَّاس الْخطْبَة الأولى، ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة، ففرغ من الْخطْبَة، وبلال من الْأَذَان، ثمَّ أَقَامَ بِلَال فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (49) :

وَتُؤَدِّي صَلَاة الْجمع بِالْمُزْدَلِفَةِ بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " بِأَذَان وَإِقَامَة ".
وَلنَا مَا فِي حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فَجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ، وَلم يسبح بَينهمَا شَيْئا ". وَهُوَ عِنْد مُسلم. وَعِنْدَهُمَا عَن أُسَامَة - رَضِي الله عَن -: " دفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ نزل، فَبَال، ثمَّ تَوَضَّأ، وَلم يسبغ

(3/210)


الْوضُوء، فَقلت لَهُ: الصَّلَاة؟ قَالَ: الصَّلَاة أمامك، فَركب، فَلَمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَة نزل فَتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فصلى الْمغرب، ثمَّ أَنَاخَ كل إِنْسَان بعيره فِي منزله، ثمَّ أُقِيمَت الْعشَاء فصلاهما، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (50) :

لَا يجوز الرَّمْي إِلَّا بِمَا كَانَ من جنس الْحجر ز وَقَالَ أَبُو حنيفَة: " جَازَ بِكُل مَا كَانَ من طَبَقَات الأَرْض كالكحل، والنورة، والجص، والمدر ".
لنا حَدِيث الْفضل بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي صَحِيح مُسلم، وَفِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " عَلَيْكُم بحصى الْخذف الَّذِي يرْمى بِهِ الْجَمْرَة ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ " قَالَ لي ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - غَدَاة الْعقبَة: هَات القط لي / حَصَيَات من حَصى الْخذف، فَلَمَّا وضعن فِي يَده قَالَ: بأمثال هَؤُلَاءِ بأمثال هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُم والغلو فِي الدّين، فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالغلو فِي الدّين ".

(3/211)


قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
فَالْوَاجِب أَن يُؤْتى بِمَا أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا قَامَ دَلِيله.
وَلَهُم فِي ذَلِك أثر عَن سُفْيَان بن حَرْب، قَالَ: رَأَيْت سكينَة بنت الْحسن ترمي الْجَمْرَة، وَرجل يناولها حَصَاة حَصَاة، كلما رمت بحصاة كَبرت، ورمت بست، وَسَقَطت وَاحِدَة، فرمت بخاتمها ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (51) :

وَرمي جَمْرَة الْعقبَة جَائِز فِي النّصْف الْأَخير من لَيْلَة النَّحْر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أَسمَاء - رَضِي الله عَنْهَا - فِي

(3/212)


الصَّحِيحَيْنِ، عَن عبد الله مَوْلَاهَا قَالَ: " قَالَت " لي أَسمَاء، وَهِي بِمُزْدَلِفَة: هَل غَابَ الْقَمَر؟ قلت: لَا، فصلت سَاعَة، ثمَّ قَالَت: يَا بني، هَل غَابَ الْقَمَر؟ قلت: نعم، قَالَت: ارحل بِي فارتحلنا حَتَّى رمت الْجَمْرَة، ثمَّ صلت فِي منزلهَا، فَقلت لَهَا: لقد غلسنا، قَالَت: كلا إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن للظعن " - لفظ حَدِيث مُسلم.
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " أرسل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأم سَلمَة لَيْلَة النَّحْر فرمت الْجَمْرَة قبل الْفجْر، ثمَّ مَضَت فأفاضت، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم الَّذِي يكون عِنْدهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن بِمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهَا أَن توافي مَعَه صَلَاة الصُّبْح يَوْم النَّحْر بِمَكَّة ".
رُوَاته ثِقَات. رَوَاهُ جُمُعَة عَن أبي مُعَاوِيَة هَكَذَا. وَقَالَ بَعضهم: " توافيه ".
وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَغَيره عَن هِشَام عَن أَبِيه مُرْسلا، وَقَالُوا فِي الحَدِيث: " توافي ".
وَهَذَا اللَّفْظ هُوَ الصَّحِيح، فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن مَعهَا بِمَكَّة

(3/213)


وَقت صَلَاة الصُّبْح يَوْم النَّحْر، وَإِنَّمَا أَفَاضَ (بعد ذَلِك، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى، فصلى بهَا الظّهْر فِي رِوَايَة ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَفِي حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَا يدل على أَنه أَفَاضَ) يَوْم النَّحْر، ثمَّ رَجَعَ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أم سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُمَا. وكل ذَلِك أصح من راية من روى تَأْخِيره الطّواف إِلَى اللَّيْل.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " حملنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أغيلمة عبد الْمطلب على حمرات، ثمَّ جعل يلطح أفخاذنا وَيَقُول: " أبيني، لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس " - اللطح الضَّرْب اللين.

(3/214)


وَهَذَا الحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُ ورد فِي وَقت الِاخْتِيَار، بِدَلِيل جَوَازه بِالْإِجْمَاع قبل طُلُوع الشَّمْس.
وروى كريب عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمر نِسَاءَهُ وَثقله من صَبِيحَة جمع أَن يفيضوا مَعَ أول الْفجْر بسواد، وَأَن لَا يرموا الْجَمْرَة إِلَّا مصلين ". رُوَاته ثِقَات.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " رمى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى، وَأما بعد فَإِذا زَالَت الشَّمْس ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (52) :

وَمن حلق قبل أَن ينْحَر لم يكن عَلَيْهِ دم. وَقَالَ أَبُو

(3/215)


حنيفَة - رَحمَه الله - " عَلَيْهِ ".
دليلنا حَدِيث عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " وقف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى للنَّاس يسألونه، فجَاء رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لم أشعر فحلقت قبل أَن أنحر، قَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حرج، ثمَّ جَاءَهُ آخر فَقَالَ: لم أشعر فنحرت قبل أَن أرمي، قَالَ: ارْمِ، وَلَا حرج، فَمَا سُئِلَ رَسُول الله -
- عَن شَيْء قدم، وَلَا أخر إِلَّا قَالَ: " افْعَل وَلَا حرج ". أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْدَهُمَا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيل لَهُ فِي الذّبْح، وَالْحلق، وَالرَّمْي، والتقديم وَالتَّأْخِير، قَالَ: لَا حرج ".
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ أَيْضا: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يسْأَل بمنى، فَيَقُول: " لَا حرج) ، فَسَأَلَهُ رجل فَقَالَ: إِنِّي حلقت قبل أَن أذبح فَقَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حرج، قَالَ أَنِّي أمسيت وَلم أرم، قَالَ: ارْمِ، وَلَا حرج. وَالله أعلم.

(3/216)


مَسْأَلَة (53) :

وَلَا تقطع التَّلْبِيَة حَتَّى رمى الْجَمْرَة بِأول حَصَاة
وَلنَا حَدِيث الْفضل بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، (وَكَانَ رَدِيف النَّبِي) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من جمع إِلَى منى، " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة "، اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يكبر حَتَّى يصل إِلَى الْبَيْت. وَالله أعلم.

(3/217)


مَسْأَلَة / (54) :

وَلَا يحل الطّيب بِالْحلِّ الأول فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالظَّاهِر من الْمَذْهَب أَنه يحل. وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، رَحمَه الله.
فَوجه قَوْلنَا: " لَا يحل " مَا روى مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - خطب النَّاس بِعَرَفَة يعلمهُمْ أَمر الْحَج، وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُم: " إِذا جئْتُمْ منى فَمن رمى الْجَمْرَة فقد حل لَهُ مَا حرم عَلَيْهِ إِلَّا الطّيب وَالنِّسَاء، لَا يمس أحد نسَاء، وَلَا طيبا حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ ".
قَالَ مَالك: " وحَدثني عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - ... . فَذكر مَعْنَاهُ.
وروى مَالك عَن ابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - ذكر الْحَج، وَقَالَ: " فَإِذا رمى الْجَمْرَة الْكُبْرَى حل لَهُ كل شَيْء حرم عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاء وَالطّيب، حَتَّى يزور الْبَيْت ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى عَنهُ بِخِلَافِهِ، أَنه قَالَ: إِذا رميت الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر فقد حل لَك مَا وَرَاء النِّسَاء ".
وَجه قَوْلنَا: " يحل " - وَهُوَ الصَّحِيح - مَا اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم

(3/218)


على صِحَّته عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كنت أطيب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لإحرامة قبل أَن يحرم، ولحلة قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ ".
وَسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَق أَن تتبع وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (55) :
ويخطب يَوْم النَّحْر بعد الظّهْر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " لَا خطْبَة يَوْم النَّحْر ".
دليلنا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينا هُوَ يخْطب يَوْم النَّحْر فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ: كنت أَحسب - يَا رَسُول الله - أَن كَذَا وَكَذَا قبل كَذَا وَكَذَا، ثمَّ قَالَ آخر فَقَالَ: كنت أَحسب - يَا رَسُول الله - أَن كَذَا وَكَذَا لهَؤُلَاء الثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " افْعَل، وَلَا حرج ".
اتفقَا على صِحَّته، وَصِحَّة حَدِيث أبي بكرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَي يَوْم هَذَا؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم، فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟ قُلْنَا: بلَى " ... وَذكر بَاقِي الحَدِيث. وَالله أعلم.

(3/219)


مَسْأَلَة (56) :

يَوْم النَّفر الأول يَوْم خطْبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا خطْبَة فِيهِ ".
روى أَبُو دَاوُد: مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن ابْن الْمُبَارك عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن ابْن أبي نجيح عَن أَبِيه عَن رجلَيْنِ من بني بكر قَالَا: " رَأينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب بَين أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، وَنحن عِنْد رَاحِلَته، وَهِي خطْبَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّتِي خطب بمنى ".
مَسْأَلَة (57) :

لَا يجوز الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق إِلَّا بعد الزَّوَال. وَقَالَ أَبُو

(3/220)


حنيفَة - رَحمَه الله: " إِذا رمى فِي الْيَوْم الثَّالِث قبل الزَّوَال أجزاه 7 اسْتِحْسَانًا ".
لنا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَحِيح مُسلم: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رمى جَمْرَة الْعقبَة أول يَوْم ضحى، وَأما بعد ذَلِك فَبعد الزَّوَال ".
وروى طَلْحَة بن عَمْرو عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " إِذا انتضح النَّهَار من يَوْم النَّفر الآخر فقد حل الرَّمْي والصدر ".
وَطَلْحَة بن عَمْرو ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (58) :

للصَّبِيّ حج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا حج للصَّبِيّ ".

(3/221)


لنا حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا: " ... . فَرفعت إِلَيْهِ امْرَأَة صَبيا لَهَا فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُوِيَ عَنهُ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " حجَجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعنا النِّسَاء وَالصبيان، فلبينا عَن الصّبيان، ورمينا عَنْهُم ".
وَعند البُخَارِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد - رَضِي الله عَنهُ: " حج بِي فِي ثقل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا غُلَام ".
وَفِي رِوَايَة عِنْده عَنهُ: " حج بِي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي

(3/222)


حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين ".
وَحج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَبْد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قبل بُلُوغه؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ - رَضِي الله عَنْهُمَا - " جِئْت رَاكِبًا على أتان، وَقد ناهزت الْحلم، فَإِذا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بمنى " ... الحَدِيث.
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ: " بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الثّقل من جمع بلَيْل، فصلينا ورمينا قبل أَن يَأْتِي النَّاس ".
وروى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم عَن مَالك بن مغول عَن أبي السّفر قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَيهَا النَّاس أسمعوني مَا تَقولُونَ، وافهموا مَا أَقُول لكم: أَيّمَا مَمْلُوك حج بِهِ أَهله فَمَاتَ قبل أَن يعْتق فقد قضى حجه، وَإِن عتق قبل أَن يَمُوت فليحجج، وَأَيّمَا غُلَام حج بِهِ أَهله فَمَاتَ قبل أَن يدْرك فقد قضى عَنهُ حجه، وَإِن بلغ فليحجج ".
وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا فِي حَدِيث مُحَمَّد بن الْمنْهَال / عَن يزِيد بن

(3/223)


زُرَيْع عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا حج الصَّبِي فَهِيَ لَهُ حجَّة حَتَّى يعقل، وَإِذا عقل فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى " قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: وأظن أَن شَيخنَا حمل حَدِيث عَفَّان وَغَيره على حَدِيث يزِيد، فَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَاب شُعْبَة عَنهُ مَوْقُوفا، سوى ابْن زُرَيْع، فَإِن مُحَمَّد بن الْمنْهَال ينْفَرد بِرَفْعِهِ عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (59) :

وَإِذا جَامع الْمحرم قبل الْحل الأول، فسد حجه، وَعَلِيهِ بَدَنَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - إِذا كَانَ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، فسد حجه، وَعَلِيهِ شَاة، وَإِن كَانَ بعد الْوُقُوف لم يفْسد حجه، وَعَلِيهِ بَدَنَة.
قَالَ الله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} .
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " الرَّفَث: الْجِمَاع، والفسوق: السباب، والجدال: أَن تُمَارِي صَاحبك حَتَّى تغضبه ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " الرَّفَث: الْجِمَاع، والفسوق: مَا أُصِيب من معاصي الله تَعَالَى، والجدال: السباب والمنازعة ".

(3/224)


حَدِيث يزِيد بن نعيم الْأَسْلَمِيّ أَن رجلا من جذام جَامع امْرَأَته وهما محرمان، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقضيا نسككما، واهديا هَديا "، فِي هَذَا الحَدِيث " وعليكما حجَّة أُخْرَى ".
وَهَذَا يتَأَكَّد بآثار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم - كَمَا سنذكرها عقيب هَذَا الْمُرْسل.
روى الثِّقَات عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - يسْأَله عَن محرم وَقع بامرأته، فَأَشَارَ إِلَى عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " اذْهَبْ إِلَى ذَلِك، فَاسْأَلْهُ:، قَالَ شُعَيْب: " فَلم يعرفهُ الرجل، فَذَهَبت مَعَه، فَسَأَلَ ابْن عمر "، فَقَالَ " بَطل حجك "، فَقَالَ الرجل / فَمَا أصنع؟ " اخْرُج مَعَ النَّاس، واصنع مَا يصنعون، فَإِذا أدْركْت قَابل، فحج، وأهد "، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه، فَأخْبرهُ، فَقَالَ: ط اذْهَبْ إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَاسْأَلْهُ "، قَالَ شُعَيْب: " فَذَهَبت مَعَه إِلَى ابْن

(3/225)


عَبَّاس، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو، وَأَنا مَعَه، فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ ابْن عَبَّاس "، ثمَّ قَالَ: مَا تَقول أَنْت؟ فَقَالَ: " قولي مثل مَا قَالَا ". وَفِيه دَلِيل على صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من جده عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ مَالك - رَحمَه الله - إِنَّه بلغه أَن عمر بن الْخطاب، (وَعلي بن أبي طَالب، وَأَبا هُرَيْرَة) - رَضِي الله عَنْهُم - سئلوا عَن رجل أصَاب أَهله وَهُوَ محرم، فَقَالُوا: " ينفذان لوجههما حَتَّى يقضيا حجهما، وَعَلَيْهِمَا الْحَج من قَابل وَالْهَدْي ".
وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -: " وَإِذا أَهلا بِالْحَجِّ عَام قَابل، تفَرقا حَتَّى يقضيا حجهما ".
وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك فِي التَّفَرُّق عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَيْضا، وَقيل عَنهُ: " من حَيْثُ وَاقعهَا " وَالله أعلم.
. وَالله
مَسْأَلَة (60) :

وَمن فَاتَهُ الْحَج فِي سنة عقده، لزمَه دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا دم بالفوت ".

(3/226)


دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن ابْن أبي ليلى عَن عَطاء أَن نَبِي الله -
- قَالَ: " من لم يدْرك الْحَج، فَعَلَيهِ دم، ويجعلها عمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر مثله.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد، أَخْبرنِي سُلَيْمَان بن يسَار أَن أَبَا أَيُّوب خرج حَاجا، حَتَّى إِذا كَانَ بالنازية من طَرِيق مَكَّة أضلّ رواحله، وَأَنه قدم على عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - يَوْم النَّحْر، فَذكر ذَلِك، فَقَالَ: " اصْنَع كَمَا يصنع الْمُعْتَمِر، ثمَّ قد حللت، فَإِذا أدْركْت الْحَج، قَابل حج، وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي ".
وروى الشَّافِعِي، وَابْن بكير، وَاللَّفْظ لَهُ - عَن مَالك عَن نَافِع

(3/227)


عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن هَبَّار بن الْأسود جَاءَ يَوْم النَّحْر وَعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - ينْحَر هَدْيه، فَقَالَ: يَا (أَمِير) الْمُؤمنِينَ، أَخْطَأنَا الْعدَد، كُنَّا نظن هَذَا الْيَوْم يَوْم عَرَفَة، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " اذْهَبْ إِلَى مَكَّة، فَطُفْ أَنْت وَمن مَعَك، وانحر، وأهد إِن كَانَ مَعَك، ثمَّ احْلقُوا أَو اقصروا، فَإِذا كَانَ عَام قَابل، فحجوا وأهدوا، فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ ".
وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان عَن هَبَّار أَنه حَدثهُ أَنه فَاتَهُ الْحَج، فَذكره مَوْصُولا بِمَعْنَاهُ. وَعَن نَافِع ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مثل ذَلِك، فَصَارَ حَدِيثهمَا مَوْصُولا من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا أنس بن عِيَاض عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " من أدْرك لَيْلَة النَّحْر من الْحَاج، فَوقف بجبل عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر، فقد أدْرك الْحَج، وَمن لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر،

(3/228)


فقد فَاتَهُ الْحَج، فليأت الْبَيْت، فليطف بِهِ سبعا، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة سبعا، ثمَّ ليحلق، أَو / يقصر إِن شَاءَ الله، وَإِن كَانَ مَعَه هدي فلينحره قبل أَن يحلق، فَإِذا فرغ من طَوَافه وسعيه، فليحلق أَو يقصر، ثمَّ ليرْجع إِلَى أَهله، فَإِن أدْرك الْحَج قَابل، فليحج إِن اسْتَطَاعَ، وليهد، فَإِن لم يجد هَديا، فليصم عَنهُ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله ".
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود، قَالَ: سَأَلت عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: " يهل بِعُمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، ثمَّ خرجت الْعَام الْمقبل، فَلَقِيت زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - فَسَأَلته عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: " يهل بِعُمْرَة، وَعَلِيهِ الْحَج من عَام قَابل ".
وَزَاد فِيهِ بعض الروَاة " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي "، (وَقَالَ: " فَلَقِيت زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - بعد عشْرين سنة، فَقَالَ مثل قَول عمر رَضِي الله عَنْهُمَا ".
فَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي " زِيَادَة من بعض الروَاة ظنا مِنْهُ.
فقد روينَا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أَمر بِالْهَدْي، وَهُوَ الزَّائِد وَهُوَ أولى.

(3/229)


وَيحْتَمل قَوْله: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي " - إِن كَانَ ثَابتا - أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن لَا يتضيق عَلَيْهِ وَقت إراقته، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ - وَالله أعلم - سنة الْفَوات.
فقد روينَا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - " وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (61) :

(3/230)


وَالْإِحْرَام لمورد الْحرم غير وَاجِب، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجب احرام بِحَجّ أَو عمْرَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل مَكَّة عَام الْفَتْح، وعَلى رَأسه مغفر ".
وَعند مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل يَوْم فتح مَكَّة، وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوَاء بِغَيْر إِحْرَام ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -

(3/231)


أقبل من مَكَّة، حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد جَاءَهُ خبر من الْمَدِينَة، فَرجع فَدخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام.
(وَعَن ابْن شهَاب أَنه سُئِلَ عَن الرجل يدْخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام) ، فَقَالَ: " لَا أرى بذلك بَأْسا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِخِلَافِهِ.
رُوِيَ الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء أَنه رأى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يرد من جَاوز الْمَوَاقِيت غير محرم. وَثَبت عَنهُ أَنه قَالَ: " مَا يدْخل مَكَّة أحد من أَهلهَا، وَلَا من غير أَهلهَا إِلَّا بِإِحْرَام ".

(3/232)


وروى خصيف عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تجوز الْمَوَاقِيت إِلَّا بِإِحْرَام ". . خصيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وروى إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " فوَاللَّه مَا دَخلهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا حَاجا أَو مُعْتَمِرًا " وَإِسْمَاعِيل بن مُسلم هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ: كَيفَ وَقد صَحَّ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه -
- دَخلهَا بِغَيْر إِحْرَام. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (62) :

وَإِذا قُلْنَا: " إِنَّه يلْزمه دُخُولهَا بنسك "، فَلم يفعل فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْقَضَاء "، فَيحْتَاج أَن يدخلهَا بِحَجّ أَو عمْرَة، إِلَّا أَن يحجّ من سنته، فَيدْخل الْقَضَاء فِي حجَّة الْإِسْلَام.
(لنا) حَدِيث الْأَقْرَع بن حَابِس. وَالله أعلم.

(3/233)


مَسْأَلَة (63) :

إِذا بلغ الصَّبِي قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، أَو فِي حَال وُقُوفه بهَا انْقَلب حجه فرضا، وَيجزئهُ عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِحْرَامه لَا يَصح، فَيحْتَاج إِلَى أَن يسْتَأْنف الْإِحْرَام، وَإِلَّا فَلَا يدْرك بِهِ حج الْفَرْض ".
روى عبد الرَّحْمَن بن يعمر: شهِدت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الْحَج عَرَفَة، من أدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج، وَتمّ حجه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (64) :

وَمَا لَهُ مثل من النعم من الصَّيْد، يجزى بِمثلِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " بِقِيمَتِه ".

(3/234)


دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} .
رُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الضبع يُصِيبهُ الْمحرم كَبْشًا نجدياً، وَجعله من الصَّيْد ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا مَالك، وسُفْيَان عَن أبي الزبير عَن جَابر أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - " قضى فِي الأرنب بعناق، وَقضى فِي الغزال بعنز، وَفِي اليربوع بجفرة ".
وروى الْأَجْلَح ذَلِك مُسْندًا عَن جَابر مَرْفُوعا، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْد أهل الحَدِيث.
وَالصَّوَاب: أَنه من قَول عمر مَوْقُوفا.
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا سعيد بن سَالم عَن ابْن

(3/235)


جريج عَن عَطاء، أَن عُثْمَان بن عبد الله بن حميد، قتل ابْن لَهُ حمامة، فجَاء ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ ذَلِك لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: " يذبح شَاة؛ فَيتَصَدَّق بهَا ".
قَالَ ابْن جريج فَقلت لعطاء: " أَمن حمام مَكَّة؟ " قَالَ: " نعم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا سُفْيَان، أخبرنَا مُخَارق عَن طَارق بن شهَاب، قَالَ: " خرجنَا حجاجاً (فأوطأ) رجل منا - يُقَال لَهُ أَرْبَد - ضباً (ففزر) ظَهره، فقدمنا على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَسَأَلَهُ أَرْبَد، فَقَالَ لَهُ عمر: " احكم يَا أَرْبَد فِيهِ "، فَقَالَ: أَنْت خير مني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ (وَأعلم) ، فَقَالَ عمر: إِنَّمَا أَمرتك أَن تحكم فِيهِ، وَلم آمُرك أَن تزكيني "، فَقَالَ أَرْبَد: أرى فِيهِ جدياً قد جمع المَاء وَالشَّجر، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: فَذَاك فِيهِ ".
قَالَ مَالك - رَحمَه الله - عَن عبد الْملك بن قرير عَن

(3/236)


مُحَمَّد بن سِيرِين أَن رجلا جَاءَ إِلَى عمر، فَقَالَ /: " إِنِّي أجريت أَنا وصاحبي فرسين لنا إِلَى ثغرة ثنية، فأصبنا ظَبْيًا وَنحن محرمان فَمَا ترى؟ فَقَالَ عمر لرجل إِلَى جنبه: تعال، حَتَّى أحكم أَنا وَأَنت "، قَالَ: فحكما عَلَيْهِ بعنز. وَالرجل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " إِذا قتل الْمحرم شَيْئا من الصَّيْد، حكم عَلَيْهِ "، وَذكر فِي الظبي شَاة، وَفِي الْإِبِل بقرة، وَفِي النعامة وحمار الْوَحْش بَدَنَة.
وَفِي هَذَا إرْسَال بَين ابْن أبي طَلْحَة، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا،

(3/237)


فَإِن ثَبت فَنَقُول بقوله بِوُجُوب الْمثل، ونخالفه فِي كَيْفيَّة التَّعْدِيل بِظَاهِر الْكتاب وَقَول غَيره.
وَرُوِيَ عَنهُ أَن فِي الأرنب عنَاقًا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن عمر، وَعُثْمَان، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حمام مَكَّة شَاة.
وَرُوِيَ عَنهُ بِإِسْنَاد مَجْهُول عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي الطير، والعصفور: يهريق دَمًا، وَالدَّم شَاة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَوْف، وَابْن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا حكما فِي ظَبْي بتيس الْمعز.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن حبشِي قَالَ: " مَرَرْت بِالْمَسْجِدِ، فدعاني عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ: مَا تَقول فِي ولد أرنب أَصَابَهُ الْمحرم؟ فَقلت: أَنْت أعلم بذلك، فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِي عناء، وَلَكِن قَول الله - عز وَجل - {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} ،

(3/238)


قلت: ولد شَاة، قَالَ: صدقت ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي الضبع: " إِذا عدا على الْمحرم، فليقتله، فَإِن قَتله من قبل أَن يعدو عَلَيْهِ فَعَلَيهِ شَاة مُسِنَّة ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة أَن مَرْوَان سَأَلَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: أَرَأَيْت مَا أصبْنَا من الصَّيْد، لم نجد لَهُ فدَاء من النعم؟ قَالَ: " قيمَة ذَلِك طَعَاما لأهل مَكَّة ".
وروى مُحَمَّد بن أَشْرَس - وَكَانَ يضع الحَدِيث - عَن جَابر حَدِيثا مَرْفُوعا: " من أَشَارَ إِلَى حرَام بصيد فَعَلَيهِ صِيَام، أَو إطْعَام وَإِن كَانَ المشير حَلَالا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (65) :

وَلَا يحل للْمحرمِ لحم مَا يصطاد لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يحل ".
دليلنا مَا رُوِيَ عَن جَابر - رَحمَه الله - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لحم صيد الْبر لكم حَلَال مَا لم تصيدوه، أَو يصاد لكم ".

(3/239)


قَالَ لنا أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَفِي حَدِيث أبي قَتَادَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خرجت زمن الْحُدَيْبِيَة، فَأحْرم أَصْحَابِي، وَلم أحرم، فَرَأَيْت حمارا، فَحملت عَلَيْهِ فاصطدته، فَذكرت شَأْنه لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذكرت أَنِّي لم أكن أَحرمت، وَأَنِّي إِنَّمَا اصطدته لَك، فَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه، فَأَكَلُوا، وَلم يَأْكُل مِنْهُ حِين أخْبرته أَنِّي اصطدته لَهُ ".
قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي، قَوْله: " اصطدته لَك "، وَقَوله: " وَلم يَأْكُل مِنْهُ " لَا أعلم أحدا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث غير معمر، وَهُوَ

(3/240)


مُوَافق لما رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عبد الله بن عَامر، قَالَ: رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - بالعرج فِي يَوْم صَائِف وَهُوَ محرم، وَقد غطى وَجهه بقطيفة أرجوان، ثمَّ أَتَى بِلَحْم صيد، فَقَالَ لأَصْحَابه: " كلوا "، قَالُوا: أَلا تَأْكُل أَنْت؟ قَالَ: " إِنِّي لست كهيئتكم، إِنَّمَا صيد من أَجلي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (66) :

وَإِذا دلّ الْمحرم على صيد فَقتله مَحل، أَو محرم فَلَا ضَمَان على الدَّال، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا دله دلَالَة باطنة، أَو أعَار سِلَاحا لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ لزمَه الضَّمَان ".
لَهُم حَدِيث أَشْرَس الَّذِي تقدم، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (67) :

وللصوم مدْخل فِي ضَمَان صيد الْمحرم. وَالله أعلم.

(3/241)


مَسْأَلَة (68) :

وَشَجر الْحرم مَضْمُون على الْمحل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الشّجر الَّذِي ينبته الآدميون فِي الْعَادة لَا ضَمَان فِيهِ بِحَال، وَكَذَلِكَ مَا ينبته الله فِي الْحل فَأدْخلهُ فِي الْحرم فأنبته ".
رُوِيَ عَن عَطاء فِي الرجل يقطع من الْحرم قَالَ: " فِي الْقَضِيب دِرْهَم، وَفِي الدوحة بقرة ".
وروينا عَن الْحَارِث وَحَمَّاد قَالَا: " عَلَيْهِ قِيمَته ".
وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يخْطب بمنى فَرَأى رجلا على جبل يعضد شَجرا، فَدَعَاهُ فَقَالَ: أما علمت أَن مَكَّة لَا يعضد شَجَرهَا، وَلَا يخْتَلى خَلاهَا؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن حَملَنِي على ذَلِك بعير لي نضو، قَالَ: فَحَمله على بعير، وَقَالَ لَهُ: " لَا تعد "، وَلم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا. وَالله أعلم.

(3/242)


مَسْأَلَة (69) :

وَيجوز الرَّعْي فِي الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ". وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (70) :

وَالْجَمَاعَة إِذا اشْتَركُوا فِي قتل صَيْده فَعَلَيْهِم جَزَاء وَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " على كل وَاحِد مِنْهُم جَزَاء كَامِل ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مَالك عَن عبد الْملك بن قرير عَن ابْن سِيرِين أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قضى هُوَ وَرجل آخر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَالك: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ - على رجلَيْنِ أوطياً / ظَبْيًا فقتلاه بِشَاة ".

(3/243)


وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قوم أَصَابُوا ضبعاً قَالَ: " عَلَيْهِم كَبْش يتخارجونه بَينهم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي الثِّقَة عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن زِيَاد مولى بني مَخْزُوم - وَكَانَ ثِقَة: " أَن قوما أَصَابُوا صيدا، فَقَالَ لَهُم ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " عَلَيْكُم جَزَاء "، قَالُوا: " على كل وَاحِد منا أَو علينا كلنا جَزَاء وَاحِد؟ فَقَالَ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " إِنَّه لمعوز بكم، بل كلكُمْ جَزَاء وَاحِد ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (71) :

وَمَا لَا يُؤْكَل فَلَا جَزَاء عَلَيْهِ على من قَتله فِي إِحْرَام أَو حرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِي الْأسد، والفهد، والنمر، وسباع الطير الْجَزَاء ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خمس من الدَّوَابّ لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، والفأرة، وَالْكَلب الْعَقُور ".

(3/244)


وَرَوَاهُ اللَّيْث، وَأَيوب عَن نَافِع، وَزَاد فِيهِ: " قَالَ نَافِع: والحية لَا يخْتَلف فِيهَا ".
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خمس من الدَّوَابّ، كلهَا فَاسق، يقتلن فِي الْحرم: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْكَلب الْعَقُور، وَالْعَقْرَب، والفأرة " - أخرجه من حَدِيث عُرْوَة.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن الْمسيب عَنْهَا، وَقَالَ فِيهِ: " الْحَيَّة "، بدل الْعَقْرَب، وَمن حَدِيث الْقَاسِم عَنْهَا: " أَربع فواسق "، فَلم يذكر الْحَيَّة، وَلَا الْعَقْرَب.
وَرَوَاهُ أَبُو صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن

(3/245)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر الْحَيَّة بدل الْغُرَاب.
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن حَنْبَل: أخبر هشيم: أخبرنَا يزِيد بن أبي زِيَاد: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي نعيم البَجلِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يقتل الْمحرم، قَالَ: " الْحَيَّة، وَالْعَقْرَب، والفويسقة، وَيَرْمِي الْغُرَاب، وَلَا يقْتله، وَالْكَلب الْعَقُور، والحدأة، والسبع العادي ". وَالله أعلم.؟
مَسْأَلَة (72) :

وَقتل صيد الْمَدِينَة، وَقطع شَجَرهَا محرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحرم ".

(3/246)


وَدَلِيلنَا حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمَدِينَة حرَام مَا بَين عير إِلَى ثَوْر، فَمن أحدث فِيهَا حَدثا، أَو آوى مُحدثا فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل مِنْهُ عدل، وَلَا صرف ". الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَذِه الْقِصَّة، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يخْتَلى خَلاهَا، وَلَا ينفر صيدها، وَلَا يلتقط لقطتهَا إِلَّا لمن أَشَارَ بهَا، وَلَا يصلح لرجل أَن يحمل فِيهَا السِّلَاح لقِتَال، وَلَا يصلح لرجل أَن يقطع مِنْهَا شَجَرَة إِلَّا أَن يعلف رجل بعيره ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 طلع لَهُ أحد، فَقَالَ لَهُ: هَذَا جبل يحبنا ونحبه، اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي أحرمك مَا بَين لابتيها ".

(3/247)


وَعند مُسلم عَن يزِيد بن هَارُون: أخبرنَا عَاصِم، قَالَ: سَأَلت أنسا - رَضِي الله عَنهُ - أحرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة؟ قَالَ: " نعم، هِيَ حرَام حرمهَا الله وَرَسُوله، لَا يخْتَلى خَلاهَا، فَمن (فعل ذَلِك) فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ ".
وَعَن عبد الله بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَحرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة، ودعوت لَهَا فِي مدها، وصاعها، مثل مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم لمَكَّة ".
أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم. (وَأَخْرَجَا) أَيْضا من حَدِيث مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ - وَاللَّفْظ لمُسلم: أَنه كَانَ يَقُول: " لَو رَأَيْت الظباء ترتع بِالْمَدِينَةِ مَا ذعرتها، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا بَين لابتيها حرَام ".
وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: " لَو رَأَيْت الظباء بِالْمَدِينَةِ مَا ذعرتها؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا بَين لابتيها حرَام ".

(3/248)


قَالَ مَالك: " حرم الْمَدِينَة بريد فِي بريد، واللابتان هما الحرتان ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح حَدِيث، فِيهِ أَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " وَقد حرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا بَين لابتيها ".
وَذَلِكَ عندنَا فِي أَدِيم حولاني.
وَعِنْده أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِنِّي قد حرمت مَا بَين لابتي الْمَدِينَة، كَمَا حرم إِبْرَاهِيم "، ثمَّ كَانَ أَبُو سعيد يجد أَحَدنَا فِي يَده الطير قد أَخذه، فيفكه من يَده فيرسله.
وَعِنْده أَيْضا عَن سهل بن حنيف - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ:

(3/249)


" أَهْوى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة، فَقَالَ: إِنَّهَا حرم آمن ".
وَعِنْده أَيْضا عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها، لَا يقطع عضاهها، وَلَا يصاد صيدها ".
وَعِنْده أَيْضا عَن سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها، أَو يقتل صيدها ".
وروى فِي تَحْرِيم الْمَدِينَة عَن زيد بن ثَابت، وَأبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَفِي ذَلِك إبِْطَال قَول من زعم أَن ذَلِك لَيْسَ بعام. فقد روينَاهُ عَن أحد عشر نفسا، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَعند مُسلم أَن سَعْدا - رَضِي الله عَنهُ - ركب إِلَى قصره

(3/250)


بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا فاستلبه، فَلَمَّا رَجَعَ جَاءَهُ أهل العَبْد يسألونه أَن يرد عَلَيْهِم مَا أَخذ من عبدهم، فَقَالَ: " معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلم يرد إِلَيْهِم شَيْئا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَ ابْن لأم سليم - رَضِي الله عَنْهَا - يُقَال لَهُ " أَبُو عُمَيْر "، كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُبمَا يمازحه إِذا جَاءَ، فَدخل يَوْمًا فَوَجَدَهُ حَزينًا، فَقَالَ: مَا لي أرى أَبَا عُمَيْر حَزينًا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، مَاتَ نغيره الَّذِي كَانَ يلْعَب بِهِ، فَجعل يُنَادِيه: يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير؟ ".
قَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ: " فِيهِ غير شَيْء من الْعلم، فِيهِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مازح صَبيا، وَفِيه أَنه لم ينْه عَن لعب

(3/251)


الصَّبِي بالطير، وَفِيه أَنه كنى من لم يُولد لَهُ، وَفِيه أَنه لم ينْه عَن صيد وجد بِالْمَدِينَةِ - قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " يَعْنِي إِذا كَانَ قد أدخلهُ من الْحل فِي حرم الْمَدِينَة " - وَفِيه أَنه صغر طيراً، وَهُوَ خلق من خلق الله تَعَالَى ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله: " هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنه صيد بِالْمَدِينَةِ.
وَهُوَ دَلِيل لنا عَلَيْهِم فِي مَسْأَلَة أُخْرَى، وَهِي أَن الصَّيْد الْمَمْلُوك الَّذِي يدْخلهُ الْحَلَال فِي الْحرم يبْقى على ملكه، وَجَوَاز تصرفه فِيهِ، وَيحل ذبحه لَهُ، وَلغيره، وَلَا جَزَاء عَلَيْهِ فِي ذبحه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يلْزمه رفع الْيَد عَنهُ، فَإِن قَتله جزأه ".
وَهَذَا خلاف مَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ أَنه لم يَأْمُرهُ بِرَفْع الْيَد عَنهُ، وَحين مَاتَ لم يُوجب فِيهِ الْجَزَاء.
وَقد دللنا على أَن حرم الْمَدِينَة كحرم مَكَّة، وَأما تَحْرِيم وَج من الطَّائِف فَمَا روى فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَن الزبير بن الْعَوام -

(3/252)


رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من لية - قَالَ الْحميدِي: مَكَان بِالطَّائِف - حَتَّى إِذا كُنَّا عِنْد السِّدْرَة وقف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طرف الْقرن الْأسود حذوها، فَاسْتقْبل نخباً - قَالَ الْحميدِي: مَكَان يُقَال لَهُ " نخب " - يبصره، ثمَّ وقف حَتَّى أوقف النَّاس، ثمَّ قَالَ: " إِن صيد وَج، وعضاه حرم محرم لله، عز وَجل، وَذَلِكَ قبل نُزُوله الطَّائِف، وحصاره ثقيفاً " ... وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (73) :

وَيحل الْمحصر فِي الْحل، مَحل دم إحصاره. وَقَالَ أَبُو

(3/253)


حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَسُوق دم إحصاره إِلَى الْحرم على يَد غَيره، ويواعده يَوْمًا لنحره، ثمَّ لَا يحل هُوَ قبل يَوْم مواعدته ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ: " نحرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (بِالْحُدَيْبِية) الْبَقَرَة عَن سَبْعَة، والبدنة عَن سَبْعَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ (عَن عُرْوَة) عَن الْمسور، ومروان - يصدق حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه - قَالَا: " خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زمن الْحُدَيْبِيَة "، فَذكر الحَدِيث فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة، وَفِيه: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نحر بهَا هَدْيه، وَأَن أَصْحَابه لما رَأَوْهُ نحر، قَامُوا فنحروا.
وَفِي ذَلِك دَلِيل على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نحر هَدْيه بِالْحُدَيْبِية وَهِي من الْحل خلاف مَا زَعَمُوا أَنه بعث بهديه مَعَ جُنْدُب هَذِه السّنة حَتَّى نَحره فِي الْحرم.
وَإسْنَاد حَدِيث جُنْدُب لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَلَعَلَّه كَانَ فِي وَقت آخر إِن صَحَّ، رَوَوْهُ عَن نَاجِية بن جُنْدُب الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَأَبُو دَاوُد يَقُول: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، أخبرنَا سُفْيَان عَن هِشَام

(3/254)


عَن أَبِيه عَن نَاجِية الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مَعَه بِهَدي، فَقَالَ: " إِن عطب فانحره، ثمَّ أصبغ نَعله فِي دَمه، ثمَّ خل بَينه وَبَين النَّاس "، وَلَيْسَ لَهُم حجَّة فِيهِ.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سِتّ عشرَة بَدَنَة / مَعَ رجل وَأمره، قَالَ: مضى ثمَّ رَجَعَ، قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ أصنع بِمَا أبدع (عَليّ) مِنْهَا؟ قَالَ: " انحرها، ثمَّ اصبغ نعلها فِي دَمهَا، ثمَّ اجْعَلْهَا فِي صفحتها، وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت، وَلَا أحد من أهل رفقتك ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَالْحُدَيْبِيَة مَوضِع من الأَرْض مِنْهُ مَا هُوَ فِي الْحل، وَمِنْه مَا هُوَ فِي الْحرم، وَإِنَّمَا نحر الْهَدْي - عندنَا - فِي الْحل، وَفِيه منحر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي بُويِعَ فِيهِ تَحت الشَّجَرَة ".
قَالَ: " وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنه نحر فِي الْحل؛ لِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: {هم الَّذين كفرُوا وصدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفاً أَن يبلغ مَحَله} ، وَالْحرم كُله مَحَله عِنْد أهل الْعلم ".

(3/255)


قَالَ أَبُو عبيد فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - فِي الَّذِي لدغ وَهُوَ محرم بِالْعُمْرَةِ، فأحصر، فَقَالَ عبد الله: " ابْعَثُوا بِالْهَدْي، وَاجْعَلُوا بَيْنكُم وَبَينه يَوْم أمار، فَإِذا ذبح الْهَدْي بِمَكَّة، حل ": " حدّثنَاهُ عباد بن الْعَوام عَن أبان بن تغلب عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ الْكسَائي: الأمارة: الْعَلامَة الَّتِي يعرف بهَا الشَّيْء، يَقُول: اجعلوا بَيْنكُم يَوْمًا تعرفونه؛ لكيلا تختلفوا ".

(3/256)


مَسْأَلَة (74) :

وَلَيْسَ للْمحرمِ أَن يتَحَلَّل من إِحْرَامه بمرضه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك ".
وَدَلِيلنَا مَا روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو "، فَزَاد أَحدهمَا: " ذهب الْحصْر الْآن ".
وَعَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار " أَن ابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا -، ومروان أفتوا ابْن حزابة المَخْزُومِي - وَأَنه صرع بِبَعْض طَرِيق مَكَّة وَهُوَ محرم - أَن يتداوى بِمَا لَا بُد (لَهُ) مِنْهُ ويفتدي، فَإِذا صَحَّ اعْتَمر، فَحل من إِحْرَامه، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يحجّ عَاما قَابلا وَيهْدِي ".
وروى مَالك - رَحمَه الله - عَن يحيى بن سعيد " أَنه بلغه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَت تَقول: الْمحرم لَا يحله إِلَّا الْبَيْت ".

(3/257)


وَعَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة عَن رجل من أهل الْبَصْرَة، أَنه قَالَ: " خرجت إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق، كسرت فَخذي، فَأرْسلت إِلَى مَكَّة، وَبهَا عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم -، وَالنَّاس، فَلم يرخص لي أحد فِي أَن أحل، فأقمت على ذَلِك المَاء سَبْعَة أشهر، ثمَّ حللت بِعُمْرَة.
وَرُبمَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِمَا حدثت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: " دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ضباعة بنت الزبير، فَقَالَ لَهَا: أردْت الْحَج؟ قَالَت: وَالله مَا أجدني إِلَّا وجعة، فَقَالَ لَهَا: " حجي، واشترطي، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ محلي حَيْثُ حبستني، وَكَانَت تَحت الْمِقْدَاد "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَمر ضباعة بنت الزبير) أَن تشْتَرط فِي الْحَج،

(3/258)


فَفعلت ذَاك عَن أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ الِاشْتِرَاط فِي الْحَج عَن ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود، وَعَائِشَة، وَأم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهُم - من قَوْلهم: " وَلَو كَانَ يحل بِالْمرضِ، لم يكن للاشتراط معنى. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من كسر أَو عرج فقد حل، وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى ". قَالَ عِكْرِمَة: " سَأَلت ابْن عَبَّاس، وَأَبا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنْهُم - عَمَّا قَالَ، فَقَالَا: صدق "، وَلَيْسَ بمخرج فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن الْمسيب، أَن معبد بن حزابة خرج حَاجا، فَوَقَعت رجله فِي بِئْر، فانفسخت، فَسَأَلَ ابْن الزبير - رَضِي الله عَنهُ -، ومروان بن الحكم، وَغَيرهم، كلهم يَقُول لَهُ:

(3/259)


" تداوى بِمَا يصلحك من الطّيب، وافسخ حجك إِلَى عمْرَة، ثمَّ عَلَيْك الْحَج من قَابل، وأهرق لذَلِك دَمًا ".
وبإسناده عَن يحيى بن سعيد عَن مربع الْأَسدي عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " لم يكن لأحد أَن يفْسخ حجَّة إِلَى عمْرَة إِلَّا للركب من أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَاصَّة ".
وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ - على أَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة لَا يجوز لأحد بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يجوز للْمَرِيض فسخ الْحَج بِالْعُمْرَةِ، وَلَكِن يصبر حَتَّى يبرأ فيحج، أَو يفوتهُ الْحَج فيتحلل بِعَمَل عمْرَة.
وَهَذَا هُوَ المُرَاد بفتوى ابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيره، وَذَلِكَ فِي رِوَايَة مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (75) :

وَإِذا أَحرمت الْمَرْأَة لحج / إسْلَامهَا دون إِذن (زَوجهَا، كَانَ) للزَّوْج أَن يمْنَعهَا من الْمُضِيّ فِيهِ على أحد الْقَوْلَيْنِ

(3/260)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
رُوِيَ عَن حسان بن إِبْرَاهِيم فِي امْرَأَة - لَهَا مَال، تستأذن زَوجهَا فِي الْحَج، فَلَا يَأْذَن لَهَا: قَالَ إِبْرَاهِيم الصَّائِغ: قَالَ نَافِع: قَالَ عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 قَالَ: " لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إِلَّا بِإِذن زَوجهَا، وَلَا يحل للْمَرْأَة أَن تُسَافِر ثَلَاث لَيَال إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم تحرم عَلَيْهِ ".
وَرُوِيَ عَن حسان بالْقَوْل الثَّانِي، احْتج بِمَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله "، فَحَمله الشَّافِعِي على هَذَا القَوْل، على الْمَسْجِد الْحَرَام خَاصَّة، دون سَائِر الْمَسَاجِد.
وَمن قَالَ بِالْأولِ، حمله على الِاسْتِحْبَاب فِي جَمِيع الْمَسَاجِد.
وَالله أعلم.

(3/261)


مَسْأَلَة (76) :

الْأَيَّام المعلومات عشر ذِي الْحجَّة، آخرهَا يَوْم النَّحْر، وَالْأَيَّام

(3/262)


المعدودات ثَلَاثَة أَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " المعلومات ثَلَاثَة: يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر، وَالْأول من أَيَّام التَّشْرِيق والمعدودات: ثَلَاثَة أَيَّام التَّشْرِيق رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْأَيَّام المعلومات أَيَّام الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق ".
وَكَذَا قَالَه مُجَاهِد، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (77) :

وَمن نذر هَديا مُطلقًا من غير تَسْمِيَة شَيْء، وَلَا نِيَّة شَيْء، خرج من وَاجِب نَذره بِقدر مَا يتَصَدَّق بِهِ عَن كل مَا يتمول، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُجزئه من غير النعم "، وَهُوَ القَوْل الآخر.

(3/263)


فِي صَحِيح مُسلم، حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة، كَانَ على كل بَاب من أَبْوَاب الْمَسْجِد مَلَائِكَة، يَكْتُبُونَ النَّاس الأول فَالْأول، فالمهجر إِلَى الصَّلَاة كالمهدي كَبْشًا، حَتَّى ذكر الدَّجَاجَة والبيضة، فَإِذا جلس الإِمَام طَوَوْا الصُّحُف، واجتمعوا للخطبة ".
وَعِنْدهَا عَنهُ فِيهِ: " فَمثل المهجر يهدي بَدَنَة، ثمَّ كَالَّذي يهدي بقرة، ثمَّ كَالَّذي يهدي الْكَبْش، ثمَّ كَالَّذي يهدي الدَّجَاجَة، ثمَّ كَالَّذي يهدي الْبَيْضَة ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (78) :

إشعاره الْبَدنَة مسنون. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه مَكْرُوه ".
لنا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " فتلت قلائد هدي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيَدي، ثمَّ أشعرها وقلدها، ثمَّ بعث بهَا إِلَى الْبَيْت، وَأقَام بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حرم عَلَيْهِ شَيْء كَانَ حل لَهُ ".

(3/264)


وَفِي رِوَايَة: " فتلت قلائد بدن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح.
وَعند البُخَارِيّ عَن الْمسور بن مخرمَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج عَام الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة مائَة من أَصْحَابه، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة، قلد الْهَدْي، وَأَشْعرهُ وَأحرم مِنْهَا.
وَعند مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أَتَى ذَا الحليفة، أشعر بدنته من جَانب سنامها الْأَيْمن، ثمَّ سلت عَنْهَا الدَّم ".
وَفِي رِوَايَة " ثمَّ أماط عَنْهَا الدَّم، وَأهل بِالْحَجِّ ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " كَانَ يشْعر بدنه من الشق الْأَيْسَر إِلَّا أَن تكون صعاباً تنفر بِهِ، فَإِذا لم يسْتَطع أَن يدْخل بَينهَا، أشعر من الشق الْأَيْمن، وَإِذا أَرَادَ أَن يشعرها، وَجههَا إِلَى الْقبْلَة، وَإِذا أشعرها، قَالَ: بِسم الله، وَالله أكبر، وَأَنه كَانَ يشعرها بِيَدِهِ قيَاما ".

(3/265)


وبإسناده أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْهَدْي مَا قلد، وأشعر، ووقف بِهِ بِعَرَفَة ".
مَسْأَلَة (79) :

وَإِن كَانَ الْهَدْي شَاة، قَلّدهُ بِحَرب الْقرْبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا تَقْلِيد فِي الْغنم ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كنت أفتل قلائد الْغنم لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيبعث بهَا، ثمَّ يمْكث حَلَالا ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنْهَا قَالَت: " أهْدى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة غنما فقلدها ".
وعنها أَيْضا قَالَت: " كُنَّا نقلد الشَّاة، وَنُرْسِل بهَا وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَلَال، لم يحرم مِنْهُ شَيْء ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (80) :

إِذا نذر هَديا بِعَيْنِه، لم يكن لَهُ أَن يصرفهُ إِلَى غَيره، أَو يعْطى قِيمَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله، فِيمَا حكى عَنهُ: " إِن لَهُ ذَلِك ".

(3/266)


وروى أَبُو دَاوُد عَن سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: " أهْدى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - نجيباً، فَأعْطى بهَا ثَلَاث مائَة دِينَار، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي أهديت نجيباً، فَأعْطيت بهَا ثَلَاث مائَة دِينَار، أَفَأَبِيعهَا، وأشتري بِثمنِهَا بَدَنَة؟ قَالَ: لَا، انحرها إِيَّاهَا.
وَالله - (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم، وَله الْحَمد والْمنَّة، وَمِنْه التَّوْفِيق والعصمة) . آخر كتاب الْعِبَادَات.

(3/267)


صفحة فارغة.

(3/268)


كتاب الْبيُوع.
ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة - رحمهمَا الله تَعَالَى - من كتاب الْبيُوع مِمَّا ورد فِيهِ خبر أَو أثر

مَسْأَلَة (81) :

بيع الْعين الغائبة لَا يجوز على أحد الْقَوْلَيْنِ / وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَصَاة، وَعَن بيع الْغرَر ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن أبي دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحل بيع، وَلَا سلف، وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا ربح مَا لم يضمن، وَلَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ".

(3/269)


وروى عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْغَائِب كُله، من كل شَيْء يديره النَّاس بَينهم ".
وروى الشَّافِعِي عَن الثِّقَة - قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن علية - عَن أَيُّوب عَن يُوسُف بن مَاهك عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: " نهاني رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْدِي ".
وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى (عمر بن) إِبْرَاهِيم - بأسانيد لَهُ - عَن مُحَمَّد ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " من اشْترى شَيْئا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ ".
وَهَذَا بَاطِل لَا يَصح، لم يروه غَيره.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " عمر بن إِبْرَاهِيم - يُقَال لَهُ: الْكرْدِي -، كَانَ يضع الحَدِيث، وَإِنَّمَا يروي عَن ابْن سِيرِين من قَوْله ".
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم عَن مَكْحُول يرفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(3/270)


قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا مُرْسل، وَأَبُو بكر بن أبي مَرْيَم ضَعِيف. وَقد سبق ذكره فِي كتاب الطَّهَارَة.
وَرُوِيَ فِي جَوَاز بيع خِيَار الرُّؤْيَة عَن عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَجبير بن مطعم - رَضِي الله عَنْهُم - وَذكرنَا قصتهم فِي كتاب السّنَن. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (82) :

وَخيَار الْمجْلس عندنَا ثَابت فِي البيع بِالشَّرْعِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يثبت ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُم بِالْخِيَارِ على صَاحبه مَا لم يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار ". أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَمُسلم، وَاللَّفْظ لَهُ.

(3/271)


وَعِنْدَهُمَا أَيْضا بِمَعْنَاهُ، وَزَاد: " وَكَانَ ابْن عمر إِذا اشْترى شَيْئا ً يُعجبهُ، فَارق صَاحبه.
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا (عَنهُ) عَن رَسُول الله -
- قَالَ: " إِذا تبَايع الرّجلَانِ فَكل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لم يفترقا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَو يُخَيّر أَحدهمَا الآخر، فتبايعا على ذَلِك، فقد وَجب البيع، وَإِن تفَرقا بعد أَن تبَايعا، وَلم يتْرك وَاحِد مِنْهُمَا البيع، فقد وَجب البيع.
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَن حَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله -
- قَالَ: " الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صدقا وَبينا بورك لَهما فِي بيعهمَا، وَإِن كتما وكذبا، محقت الْبركَة من بيعهمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله -
- " من اشْترى بيعا فَوَجَبَ لَهُ هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لم يُفَارِقهُ صَاحبه، فَإِن فَارقه فَلَا خِيَار لَهُ ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة، وَسمرَة بن جُنْدُب، وَجَابِر،

(3/272)


وَجَرِير بن عبد الله، وَعُثْمَان بن عَفَّان، وَعبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُم، وَقَالَ فِي حَدِيثه: " وَلَا يحل لَهُ أَن يُفَارق صَاحبه بنية أَن يستقيله، ثمَّ عَن شُرَيْح، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح.
وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - البيع صَفْقَة، أَو خِيَار ".
قَالَ أَبُو عوَانَة: الصَّفْقَة: أَن يضْرب بِيَدِهِ على يَده، وَالْخيَار: أَن يَقُول اختر ".
هَذَا مُنْقَطع لَا تقوم بِهِ حجَّة.
ثمن مَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِي - رَحمَه الله - البيع صَفْقَة، بعْدهَا تفرق أَو خِيَار، فَمن الْمحَال تعلق وجوب البيع بِالْخِيَارِ دون الصَّفْقَة.
وَكَذَلِكَ لَا تتَعَلَّق الصَّفْقَة دون الْخِيَار والتفرق. وَالله أعلم.

(3/273)


مَسْأَلَة (83) :

وَشرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام، يبطل البيع، وَلَا يَصح بِإِسْقَاط الزِّيَادَة على الثَّلَاث.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن أسقطا الزِّيَادَة على الثَّلَاث فِي الثَّلَاث صَحَّ البيع، وَإِن سكتا حَتَّى مضى الثَّلَاث بَطل ".
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد - رحمهمَا الله -: " يجوز شَرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه نهى عَن بيع الْغرَر ".
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قصَّة بَرِيرَة: " مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل، وَإِن كَانَ مائَة شَرط ". اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وأصل البيع على الْخِيَار، لَوْلَا الْخَبَر كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون فَاسِدا، فَلَمَّا اشْترط رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي

(3/274)


الْمُصراة خِيَار ثَلَاثَة بعد البيع، وَرُوِيَ أَنه جعل لحبان بن منقذ - رَضِي الله عَنهُ - خِيَار ثَلَاثَة فِيمَا ابْتَاعَ انتهينا إِلَى مَا أَمر بِهِ رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم نجاوزه ".
أما حَدِيث الْمُصراة فَهُوَ فِي مَسْأَلَة بيعهَا.
وَأما حَدِيث حبَان بن منقذ - رَضِي الله عَنهُ - فغروي عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " كَانَ حبَان بن منقذ رجلا ضَعِيفا، وَكَانَ قد سفع فِي رَأسه مأمومة؛ فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ الْخِيَار فِيمَا اشْترى ثَلَاثًا، وَكَانَ قد ثقل لِسَانه، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْ، وَقل: لَا خلابة، وَكنت أسمعهُ يَقُول: لَا (خذابة) ، فَكَانَ يَشْتَرِي الشَّيْء ويجئ بِهِ أَهله، فَيَقُولُونَ: هَذَا غال، فَيَقُول: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيرني فِي بيعي "، رُوَاته ثِقَات.

(3/275)


وَمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الْمُسلمُونَ على شروطهم، وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين "، فقد رُوِيَ فِي بعض طرقه: " فِيمَا وَافق الْحق "، وَشرط الْخِيَار أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام يُخَالف مَا سبق ذكره من الْأَحَادِيث؛ فَلَا يَصح. وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (84) :

وَخيَار الثَّلَاث عِنْدَمَا يُورث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يُورث ".
قَالَ الله تَعَالَى {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم}
عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مَاتَ وَترك عَلَيْهِ دينا، فدينه على الله وَرَسُوله، وَمن مَاتَ وَترك شَيْئا، فَهُوَ للْوَارِث ". وَالله أعلم.

(3/276)


مَسْأَلَة (85) :

والتفرق (عَن) بيع الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، أَو الشّعير بِالشَّعِيرِ قبل الْقَبْض يبطل البيع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يبطل ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، أَنه التمس صرفا بِمِائَة دِينَار، قَالَ: " فدعاني طَلْحَة بن عبيد الله، فتراوضنا حَتَّى اصطرف مني، وَأخذ الذَّهَب يقلبها فِي يَده، ثمَّ قَالَ حَتَّى يَأْتِي خازني، أَو يَأْتِي خازني من الغابة - أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك، قَالَ الشَّافِعِي: أَنا شَككت - وَعمر - رَضِي الله عَنهُ - يسمع، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: وَالله لَا تُفَارِقهُ حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَب بالورق رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء، (وَالْبر بِالْبرِّ رَبًّا، إِلَّا هَاء وهاء، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ رَبًّا إِلَّا

(3/277)


هَاء وهاء) ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء ".
وَعنهُ عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب عَن مَالك بن أَوْس عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مثل حَدِيث مَالك، وَقَالَ: " حَتَّى (يَأْتِي خازني) من الغابة "، أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك) .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن أبي قلَابَة، قَالَ " كنت بِالشَّام فِي حَلقَة فِيهَا مُسلم بن يسَار، فجَاء أَبُو الْأَشْعَث قَالَ: قَالُوا: أَبُو الْأَشْعَث، فَجَلَسَ، فَقلت لَهُ: حدث أخانا حَدِيث

(3/278)


عبَادَة بن الصَّامِت، - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: نعم، غزونا غزَاة، وعَلى النَّاس مُعَاوِيَة - رَضِي الله عَنهُ - فغنمنا غَنَائِم كَثِيرَة فَكَانَ فِيمَا غنمنا آنِية من فضَّة، فَأمر مُعَاوِيَة رجلا أَن يَبِيعهَا فِي أعطيات النَّاس، فَتسَارع النَّاس فِي ذَلِك، فَبلغ ذَلِك عبَادَة بن الصَّامِت، فَقَامَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْهَى عَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء، عينا بِعَين، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ، فقد أربى، فَرد النَّاس مَا أخذُوا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن عبَادَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف، فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد "، أخرجه مُسلم.
وَعَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر

(3/279)


بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، يدا بيد، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ، فقد أربى، الْآخِذ والمعطي فِيهِ سَوَاء "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْده عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: التَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالْملح بالملح مثلاًُ بِمثل، يدا بيد، فَمن زَاد، أَو اسْتَزَادَ، فقد أربى إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه ".
قَوْله: " إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه "، أَرَادَ بِهِ فِي جَوَاز التَّفَاضُل، لَا فِي التَّفَرُّق عَن الْمجْلس قبل التَّقَابُض، بَيَانه فِي حَدِيث عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (86) :

(3/280)


صفحة فارغة.

(3/281)


صفحة فارغة.

(3/282)


صفحة فارغة.

(3/283)


صفحة فارغة.

(3/284)


وَعلة الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الطّعْم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْكَيْل ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن معمر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ 0، قَالَ: كنت أسمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل ":
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه لعن آكل الرِّبَا، وموكله ".
وَقد روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / أَنه قَالَ: " وَالْملح بالملح مثلا بِمثل، يدا بيد.

(3/285)


وَأما الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن (عبد الْمجِيد) عَن سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبا سعيد - رَضِي الله عَنْهُمَا - حَدَّثَاهُ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أَخا بني عدي الْأنْصَارِيّ، فَاسْتَعْملهُ على خَيْبَر، فَقدم بِتَمْر جنيب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل تمر خَيْبَر هَكَذَا؟ ، قَالَ: لَا وَالله، يَا رَسُول الله، إِنَّا لنشتري الصَّاع بالصاعين من الْجمع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَفعلُوا، وَلَكِن مثلا بِمثل، أَو تَبِيعُوا هَذَا، وتشتروا بِثمنِهِ من هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَان "، رَوَاهُ مُسلم، وَالْبُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرجه من حَدِيث مَالك دون قَوْله: " وَكَذَلِكَ الْمِيزَان ". وَالْأَشْبَه أَن يكون ذَلِك من قَول أبي سعيد لما خَالفه فِيهِ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - من بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ على مَا رُوِيَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّاع بالصاعين.
وَكَذَلِكَ مَا فِي حَدِيث حبَان بن عبد الله، إِن صَحَّ ذَلِك من تِلْكَ الْجِهَة. الَّذِي يدل على ذَلِك من قَول أبي سعيد حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد فِي احتجاجه على ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِقصَّة التَّمْر، قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أربيت إِذا أردْت ذَلِك فبع تمرك بسلعة، ثمَّ اشْتَرِ بسلعتك أَي تمر شِئْت "،

(3/286)


قَالَ أَبُو سعيد: " فالتمر بِالتَّمْرِ أَحَق أَن يكون رَبًّا، أَو الْفضة بِالْفِضَّةِ؟ ".
فَكَانَ هَذَا قِيَاسا من أبي سعيد لِلْفِضَّةِ على التَّمْر الَّذِي روى فِيهِ قصَّته إِلَّا أَن بعض الروَاة رَوَاهُ مُفَسرًا مَفْصُولًا، وَبَعْضهمْ مُجملا مَوْصُولا، وَالله أعلم.
وروى حبَان بن عبد الله أَبُو زُهَيْر الْعَدوي عَن لَاحق بن حميد أبي مجلز: أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ لَا يرى بِالصرْفِ بَأْسا، وَأَن أَبَا سعيد أنكر ذَلِك عَلَيْهِ، وَاسْتدلَّ بِأَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - بعثت بصاعين من تمر عَتيق، فَأتيت بدلهما بِصَاع عَجْوَة، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ردُّوهُ، ردُّوهُ التَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، يدا بيد، مثلا بِمثل / لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة، وَلَا نُقْصَان، فَمن زَاد، أَو نقص، فقد أربى فِي كل مَا يُكَال، أَو يُوزن ".

(3/287)


وقصة أبي سعيد مَعَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مخرجه فِي الصَّحِيح من غير هَذِه الرِّوَايَة، وَلَيْسَ فِيهِ: " وكل مَا يُكَال ويوزن "، وَإِنَّمَا انْفَرد بِهِ حبَان بن عبيد الله هَذَا من هَذِه الرِّوَايَة، وحبان لم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَلَا لَهُ ذكر فِي كتابهما، وَهُوَ مُخَالف للروايات عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرِّبَا.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث عبَادَة، وَأنس بن مَالك - وَلَا يَصح - رَوَاهُ أَبُو بكر ابْن عَيَّاش عَن الرّبيع بن صبيح عَن الْحسن عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا وزن مثل بِمثل إِذا كَانَ نوعا وَاحِدًا، وَمَا كيل فَمثل ذَلِك، وَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يروه غير أبي بكر عَن الرّبيع هَكَذَا، وَخَالفهُ جمَاعَة، فَرَوَوْه عَن الرّبيع عَن ابْن سِيرِين عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَفْظ غير هَذَا اللَّفْظ ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن يعلى الْكُوفِي عَن الرّبيع عَن ابْن سِيرِين عَن ابْن الصَّامِت، وَعَن أنس رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَرق بِالذَّهَب، وَالذَّهَب بالورق، وَاحِد بِاثْنَيْنِ، لَا بَأْس بِهِ التَّمْر بالملح، وَالْملح بِالتَّمْرِ وَاحِد بِاثْنَيْنِ يدا بيد، لَا بَأْس بِهِ، وَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس بِهِ اثْنَان بِوَاحِد يدا بيد، على أَلا تفارق صَاحبك حَتَّى تَأْخُذهُ.

(3/288)


وَعَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن ابْن سِيرِين عَن عبَادَة، وَأنس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَرق بالورق، وَالذَّهَب بِالذَّهَب، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالْملح بالملح، عينا بِعَين "، أَو قَالَ: " وزنا بِوَزْن ".
وَقَالَ أَحدهمَا، وَلم يقلهُ الآخر: " وَلَا بَأْس بالدينار بالورق اثْنَيْنِ بِوَاحِد يدا بيد، وَلَا بَأْس بِالْبرِّ بِالشَّعِيرِ اثْنَيْنِ بِوَاحِد، وَلَا بَأْس بالملح بِالشَّعِيرِ اثْنَيْنِ بِوَاحِد يدا بيد ".
هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ من حَدِيث الرّبيع بن صبيح، وعَلى الْأَحْوَال كلهَا الرّبيع غير مُحْتَج بِهِ، وَقد سبق ذكري لَهُ.
وَقَوله: " أَو قَالَ: وزنا بِوَزْن " لَيْسَ (بِشَيْء) ، وَالْمَحْفُوظ من حَدِيث عبَادَة " كَيْلا بكيل "، يدل على صِحَة ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَن عباد / - رَضِي الله عَنهُ -، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ: " الذَّهَب بِالذَّهَب، تبرها وعينها، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، تبرها وعينها، وَالْبر بِالْبرِّ مد بِمد، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ مد بِمد، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ مد بِمد، وَالْملح بالملح مد بِمد، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ فقد أربى، وَلَا بَأْس بِبيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّة أكثرهما يدا بيد، وَأما النَّسِيئَة فَلَا "

(3/289)


وَرُوِيَ غير مَرْفُوع.
وروى مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن أبي الزِّنَاد أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي ذهب، أَو فضَّة، أَو مَا يُكَال، أَو يُوزن مِمَّا يُؤْكَل أَو يشرب ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب أَنه من قَول ابْن الْمسيب مَعَ أَنه لَا حجَّة لَهُم (فِيهِ) . وَالله أعلم.

(3/290)


مَسْأَلَة (87) :

والنسأ جَائِز فِي الْجِنْس الْوَاحِد مِمَّا لَا رَبًّا فِيهِ كَالثَّوْبِ فِي الثَّوْب، وَالْبَعِير فِي الْبَعِير، وَغير ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُجهز جَيْشًا، فنفذت الْإِبِل، فَأمره أَن يَأْخُذ فِي قلاص الصَّدَقَة، فَكَانَ يَأْخُذ الْبَعِير بالبعيرين إِلَى إبل الصَّدَقَة ".
وَله شَاهد صَحِيح عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا نَحوه، ذَكرْنَاهُ فِي كتاب السّنَن.
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن صَالح عَن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن عَليّ عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه بَاعَ

(3/291)


جملا لَهُ - يدعى عصيفيراً - بِعشْرين بَعِيرًا إِلَى أجل ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَنه اشْترى رَاحِلَة بأَرْبعَة أبعر مَضْمُونَة عَلَيْهِ يوفيها صَاحبهَا بالربذة ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " لَيْسَ فِي الْحَيَوَان رَبًّا "، وَالْمَحْفُوظ أَنه عَن ابْن الْمسيب من قَوْله. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة ".
هَذَا حَدِيث رُوَاته ثِقَات إِلَّا أَن أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ اخْتلفُوا فِي

(3/292)


سَماع الْحسن من سَمُرَة، قَالَ يحيى بن معِين، قَالَ أَبُو النَّضر عَن شُعْبَة، قَالَ: " لم يسمع الْحسن من سَمُرَة ". قَالَ يحيى: " لم يسمع الْحسن من سَمُرَة شَيْئا ".
وَأما عَليّ بن الْمَدِينِيّ فَكَانَ يثبت سَمَاعه مِنْهُ، وَيَقُول: " الْحسن قد سمع من سَمُرَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عهد عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - ابْن أَربع عشرَة سنة وَأشهر، وَمَات سَمُرَة فِي عهد زِيَاد "، وَلم يخرج البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن الْحسن عَن سَمُرَة شَيْئا.
مِمَّا (يرْوى) عَنهُ لما فِيهِ الِاخْتِلَاف إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا، بَين الْحسن فِيهِ سَمَاعه مِنْهُ، فَروِيَ عَن حبيب بن الشَّهِيد، قَالَ: " قَالَ لي مُحَمَّد بن سِيرِين: سُئِلَ الْحسن مِمَّن سمع حَدِيث الْعَقِيقَة؟ ، (قَالَ: فَسَأَلته، فَقَالَ: من سَمُرَة بن جُنْدُب ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة ".
كل من روى هَذَا الحَدِيث عَن الثَّوْريّ، وَذكر ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - فِي إِسْنَاده، فقد وهم، وَذَلِكَ لِأَن الثَّوْريّ إِنَّمَا رَوَاهُ مُرْسلا، وَذكره من حَدِيث الْفرْيَابِيّ عَنهُ، مُرْسلا، وَقَالَ: وَهُوَ

(3/293)


الصَّوَاب. وَهَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، وَعبد الْأَعْلَى عَن معمر مُرْسلا.
وَرَوَاهُ عَليّ ابْن الْمُبَارك عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ - رَحمَه الله - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: قد روى دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار عَن معمر، وَقَالَ: عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ النَّاس: عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، فوهن مُحَمَّد هَذَا الحَدِيث.
وَقد رُوِيَ عَن دَاوُد مُسْندًا مَرْفُوعا: نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نساً ".

(3/294)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَأما قَوْله: نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، فَهَذَا غير ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ أَبُو بكر بن خُزَيْمَة: " الصَّحِيح عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ هَذَا الْخَبَر مُرْسل، لَيْسَ مُتَّصِل "
وروى مُحَمَّد بن دينارعن يُونُس بن عبيد عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة "، تفرد بِهِ مُحَمَّد بن دِينَار، إِنَّمَا يرويهِ النَّاس عَن زِيَاد (بن جُبَير) عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
قَالَ أَحْمد بن زُهَيْر: " سُئِلَ يحيى بن معِين عَن مُحَمَّد بن دِينَار الطَّاحِي، فَقَالَ: ضَعِيف "

(3/295)


وَرَوَاهُ يزِيد بن مَرْوَان عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل بن سعد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ عُثْمَان بن سعيد: سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: يزِيد بن مَرْوَان الْخلال كَذَّاب، قَالَ أَبُو سعيد: وَقد أدْركْت أَبَا يزِيد هَذَا، وَهُوَ ضَعِيف، قريب مِمَّا قَالَ يحيى.
وَقد رُوِيَ عَنهُ أَيْضا عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ "، وَهَذَا أَيْضا بَاطِل، إِنَّمَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم عَن سعيد بن الْمسيب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا فِي النَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ.
وروى إِسْحَاق الْحَنْظَلِي عَن مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، قَالَ: " سَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن شَاة بشاتين إِلَى الحبال، فَقَالَ: سَأَلَ رجل عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -، فَقَالَ عمر: إِن (من) آخر مَا أنزل الله الرِّبَا، وَإِن

(3/296)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبض قبل أَن يُفَسِّرهَا لنا، فدعوا الرِّبَا والريبة ".
وروى بَحر بن كثير السقا عَن أبي الزبير عَن جَابر: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الْحَيَوَان اثْنَيْنِ (بِوَاحِد) نَسِيئَة، وَلم ير بِهِ بَأْسا يدا بيد ". تفرد بِهِ بَحر وَهُوَ ضَعِيف. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (88) :

وَلَا يجوز أَن يَبِيع مَا يجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحدهمَا شَيْء آخر، فَلَا يجوز أَن يَبِيع مد عَجْوَة ودرهماً بمدي عَجْوَة، وَلَا بيع دِينَار وثوب بدينارين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث فضَالة بن عبيد، قَالَ: " أُتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام خَيْبَر بقلادة فِيهَا خرز معلقَة بِذَهَب، ابتاعها

(3/297)


رجل بسبعة دَنَانِير أَو تِسْعَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا، حَتَّى يُمَيّز بَينه وَبَينهَا، قَالَ: إِنَّمَا أردْت الْحِجَارَة، قَالَ: لَا، (حَتَّى) يُمَيّز بَينهمَا، قَالَ: فَرده حَتَّى ميز بَينهمَا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأما الَّذِي رَوَاهُ اللَّيْث عَن سعيد بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن فضَالة أَنه اشْترى يَوْم خَيْبَر قلادة بِاثْنَيْ عشر دِينَارا، فِيهَا ذهب وخرز، (وَفِي رِوَايَة أُخْرَى بِاثْنَيْ عشر دِينَارا فِيهَا ذهب وخرز) ، (ففصلها) ، فَوجدت فِيهَا أَكثر من (اثْنَي عشر دِينَارا) ، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا تبَاع حَتَّى تفصل "، فَإِنَّهُ قصَّة أُخْرَى.
أَلا ترى أَن فِي الحَدِيث الأول: " عَن فضَالة أَو رجلا " ابْتَاعَ، وَفِي هَذَا الحَدِيث: " عَن فضَالة، أَنه اشْترى "، وَفِي الحَدِيث: " أَنه ابتاعها بسبعة دَنَانِير أَو تِسْعَة "، وَفِي هَذَا: " بِاثْنَيْ عشر دِينَارا "، فَأجَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا: برد البيع حَتَّى يفصل الذَّهَب، وَنحن نقُول بهما جَمِيعًا. وَالله أعلم.

(3/298)


مَسْأَلَة (89) :

وَلَا يجوز بيع الرطب بِالتَّمْرِ كَيْلا بكيل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن ذَلِك يجوز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعند مُسلم عَنهُ: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَعَن بيع الْعِنَب بالزبيب كَيْلا، وَعَن بيع الزَّرْع بِالْحِنْطَةِ كَيْلا ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن عبد الله بن يزِيد:

(3/299)


" أَن زيدا أَبَا عَيَّاش أخبرهُ أَنه سَأَلَ سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - عَن الْبَيْضَاء بالسلت، فَقَالَ لَهُ سعد: أَيَّتهمَا أفضل؟ قَالَ: الْبَيْضَاء، فَنهى عَن ذَلِك، وَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن شِرَاء التَّمْر بالرطب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أينقص الرطب إِذا يبس؟ ، قَالُوا: نعم؛ فَنهى عَن ذَلِك "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن يزِيد: " أَن أَبَا عَيَّاش أخبرهُ أَنه سمع سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالفه مَالك، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان، وَأُسَامَة بن زيد، وَرَوَوْهُ عَن عبد الله بن يزِيد وَلم يَقُولُوا:

(3/300)


فِيهِ نَسِيئَة، وَإِجْمَاع هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة على خلاف مَا رَوَاهُ يحيى يدل على ضبطهم للْحَدِيث، وَفِيهِمْ إِمَام حَافظ مَالك بن أنس رَحمَه الله تَعَالَى.
وَشهد لحَدِيث زيد أبي عَيَّاش مُرْسل جيد عَن عبد الله بن أبي سَلمَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن رطب بِتَمْر، فَقَالَ: أينقص الرطب؟ ، فَقَالُوا: نعم، فَقَالَ: لَا يُبَاع رطب بيابس ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع رطب بيابس ".
وَعَن سَالم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التَّمْر الجاف بالرطب ".
وَعَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الخمير والخميرة يقرضها الْجِيرَان، فَردُّوا أَكثر وَأَقل، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، إِنَّمَا هَذِه مرافق من النَّاس، لَا يُرَاد فِيهَا الْفضل ".

(3/301)


قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْوَلِيد - رَحمَه الله تَعَالَى -: " يدل هَذَا على أَن مَا يُرَاد بِهِ الْفضل فَهُوَ محرم:. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (90) :

وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير يتعينان فِي العقد بِالتَّعْيِينِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يتعينان ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب، وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ، وَلَا الْبر بِالْبرِّ، وَلَا الشّعير بِالشَّعِيرِ، وَلَا الْملح بالملح، وَلَا التَّمْر بِالتَّمْرِ، إِلَّا مثلا بِمثل، سَوَاء بِسَوَاء، عينا بِعَين ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن سماك بن حَرْب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -، قَالَ: " كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ، فأبيع بِالدَّنَانِيرِ، وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ، وآخذ الدَّنَانِير، فَوَقع فِي

(3/302)


نَفسِي من ذَلِك، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي بَيت حَفْصَة، أَو قَالَ: حِين خرج من بَيت حَفْصَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، رويدك، أَسأَلك، إِنِّي أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ، فأبيع بِالدَّنَانِيرِ، وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ، وآخذ الدَّنَانِير، فَقَالَ: لَا بَأْس أَن تأخذهما بِسعْر يَوْمهَا مَا لم تفترقا، وبينكما شَيْء:.
وَعنهُ عَن سعيد عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن اشْتِرَاء الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّة بِالذَّهَب فَقَالَ: إِذا أخذت أَحدهمَا (بِالْآخرِ) فَلَا يفارقك صَاحبك، وَبَيْنك وَبَينه لبس ".
هَذَا الحَدِيث بعض من الأول، وَفِيه دَلِيل لقَوْل أَصْحَابنَا إِنَّه كَانَ يجدد العقد، فَيقبض وَيَشْتَرِي الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، أَو الْفضة بِالذَّهَب. وَالله أعلم.
وَعنهُ بِالْإِسْنَادِ قَالَ: " كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ فيجتمع عِنْدِي من الدَّرَاهِم، فأبيعها من الرجل بِالدَّنَانِيرِ، ويعطينيها الْغَد، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِذا بَايَعت الرجل بِالذَّهَب

(3/303)


وَالْفِضَّة (فَلَا تُفَارِقهُ) وبينكما لبس ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على أَنَّهُمَا كَانَا يحددان العقد على الدَّرَاهِم بِالدَّنَانِيرِ حَتَّى اعْتبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ حكم الصّرْف، فَلم يجز العقد إِلَّا بعد التَّقَابُض فِي الْمجْلس.
وَهَذِه الْأَحَادِيث وَردت فِي بيع الْإِبِل بِالدَّرَاهِمِ أَو الدَّنَانِير فِي الذِّمَّة، وَلذَلِك) جَازَ أَخذ الْعِوَض عَنْهَا؛ لاستقرارها فِي الذِّمَّة.
والْحَدِيث مَشْكُوك فِي رَفعه رَوَاهُ جمَاعَة غير سماك مَوْقُوفا على ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (91) :

وَبيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
دليلنا مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع شَاة بِاللَّحْمِ ".

(3/304)


قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَشَاهده مُرْسل ".
وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم عَن سعيد بن الْمسيب: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ ".
وَرَوَاهُ يزِيد بن مَرْوَان عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سهل بن سعد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بَاطِل؛ إِنَّمَا هُوَ عَن مَالك عَن زيد عَن سعيد مُرْسلا.
وروى مَالك عَن دَاوُد بن الْحصين أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول: " كَانَ من ميسر أهل الْجَاهِلِيَّة بيع اللَّحْم بِالشَّاة والشاتين ".
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: " وَكَانَ / من أدْركْت من النَّاس ينهون عَن بيع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ، وَكَانَ ذَاك يكْتب فِي عهد الْعمَّال فِي زمَان أبان بن عُثْمَان وَهِشَام بن إِسْمَاعِيل، ينهون عَنهُ ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مُسلم عَن ابْن جريج عَن الْقَاسِم بن أبي بزَّة قَالَ: " قدمت الْمَدِينَة فَوجدت جزوراً قد

(3/305)


جزرت، فجزيت أَرْبَعَة أَجزَاء كل جُزْء مِنْهَا يُضَاف، فَأَرَدْت أَن ابْتَاعَ مِنْهَا جُزْءا، فَقَالَ لي رجل من أهل الْمَدِينَة إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع حَيّ بميت، قَالَ: فَسَأَلت عَن ذَلِك الرجل فَأخْبرت عَنهُ خيرا ".
وَعَن ابْن أبي يحيى عَن صَالح مولى التَّوْأَمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - " أَنه كره بيع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (92) :

وَإِذا اشْترى نخيلاً مثمرة، وَلم تكن مؤبرة كَانَ الثَّمر للْمُشْتَرِي بِغَيْر شَرط. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الثَّمَرَة

(3/306)


للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من بَاعَ نخلا قد أبرت فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع "، اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَإِذا جعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإبار حدا لملك البَائِع، فقد جعل مَا قبله حدا لملك المُشْتَرِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (93) :

وَبيع الثِّمَار قبل بَدو صَلَاحهَا غير جَائِز إِلَّا بِشَرْط الْقطع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح مُطلقًا، ثمَّ يُؤْخَذ للْمُشْتَرِي بِالْقطعِ ".
عِنْد البُخَارِيّ، وَمُسلم - وَاللَّفْظ لَهُ - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، نهى البَائِع والمبتاع ".
وَعِنْدَهُمَا عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تزهى، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا تزهى؟ قَالَ:

(3/307)


حَتَّى تحمر، وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمَرَة فَبِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟ "
وَعند البُخَارِيّ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح، قيل: وَمَا تشقح؟ قَالَ: تحمار، أَو تصفار، ويؤكل مِنْهَا ".
وَعند مُسلم عَنهُ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْمُزَابَنَة، والمحاقلة، وَالْمُخَابَرَة، وَعَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح ".
وَعِنْدهَا - وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ - عَن شُعْبَة، قَالَ: " عَمْرو أَخْبرنِي عَن أبي البخْترِي، قَالَ: سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن السّلم فِي النّخل، قَالَ: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، قَالَ: فَسَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، فَقَالَ: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع النّخل حَتَّى يَأْكُل مِنْهُ، أَو يُؤْكَل، وَحَتَّى يُوزن، قَالَ شُعْبَة: فَقلت لرجل فِي الْحلقَة مَا يُوزن؟ قَالَ: يحزر ".
قَول ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " نهى "، يَعْنِي بِهِ عمر - رَضِي الله عَنهُ - فقد بَينه غَيره.
وَعند مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ، قَالَ:

(3/308)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الثِّمَار حَتَّى تبدو صَلَاحهَا ".
وَرُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْحبّ حَتَّى تشتد، وَعَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع التَّمْر حَتَّى يحمر ويصفر "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن طَاوس: سمع ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " لَا يُبَاع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا "، وَسَمعنَا ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " لَا يُبَاع الثَّمر حَتَّى يطعم ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (94) :

وَلَا بجوز بيع الْحِنْطَة فِي سنبلها بِالشَّعِيرِ، وَلَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِير فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن

(3/309)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر، وَعَن بيع الْحَصَاة "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الثِّقَات عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى يتَبَيَّن صَلَاحهَا، تصفر، أَو تحمر، وَعَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع الْحبّ حَتَّى يفرك ".
قَالَ الرّبيع: " قلت للشَّافِعِيّ - رَحمَه الله - إِن عَليّ بن معبد أخبرنَا بِإِسْنَاد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّه أجَاز بيع الْقَمْح فِي سنبله إِذا أَبيض "، فَقَالَ: " أما هَذَا فغرر؛ لِأَنَّهُ يحول دونه، فَلَا يرى، فَإِن ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا بِهِ، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام، كَمَا أجزنا بيع الصُّبْرَة بَعْضهَا فَوق بعض "، يَعْنِي وَهِي غرر، فَلَمَّا أجازها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجزناها كَمَا أجازها، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر، وَأَجَازَ هَذَا، وَكَذَلِكَ أجَاز بيع الشّقص من الدَّار، وَجعل لصَاحِبهَا الشُّفْعَة، وَأَن كَانَ الأساس فِيهَا مغيباً، وخشباً فِي الْحَائِط لَا يرى، فَلَمَّا أجَاز ذَلِك أجزناه كَمَا أجَازه، وَإِن كَانَ فِيهِ غرر، وَكَانَ خَاصّا مستخرجاً من عَام ".
روى أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله

(3/310)


عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع النّخل حَتَّى تزهو، وَعَن السنبل حَتَّى يبيض، ويأمن العاهة "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عَليّ بن حجر عَن ابْن علية عَنهُ.
ذكر السنبل فِي هَذَا الحَدِيث مِمَّا تفرد بِهِ أَيُّوب؛ فقد رَوَاهُ كَافَّة أَصْحَاب نَافِع عَنهُ دونه، وَرَوَاهُ سَالم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - دونه.
وروى حَدِيث النَّهْي عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يذكر أحد مِنْهُم مَا روى أَيُّوب إِلَّا مَا روينَا عَن عباد بن سَلمَة عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّهْي عَن بيع الْحبّ حَنى يشْتَد، وَفِي رِوَايَة حَتَّى يفرك، فَإِن كَانَ بخفض الرَّاء فَهُوَ كَقَوْلِه " حَتَّى: تشتد "، وَيكون مُوَافقا لرِوَايَة أَيُّوب، وَإِن كَانَ (يفرك) بِنصب الرَّاء اقْتضى تنقيته عَن السنبل، وَالْأَشْبَه أَن يكون بالخفض؛ لرِوَايَة من رَوَاهُ " حَتَّى يشْتَد ".
وَرَوَاهُ أَيْضا أبان بن أبي عَيَّاش عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، وَأَبَان مَتْرُوك، وَرُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا عَلَيْهِ من رِوَايَة ابْن أبي شيبَة. وَالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم.

(3/311)


مَسْأَلَة (95) :

لم يذكرهَا الإِمَام - وَإِذا بَاعَ ثَمَرَة بعد بَدو الصّلاح فِيهَا، فأصابتها جَائِحَة بعد التَّسْلِيم، فقد قَالَ - فِي الْقَدِيم - تُوضَع الْجَائِحَة، وَأَشَارَ - فِي الْجَدِيد - إِلَى قَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُوضَع، وَتَكون من مَال المُشْتَرِي.
فَوجه قَوْلنَا " تُوضَع، وَتَكون من مَال البَائِع " حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَو بِعْت من أَخِيك تمراًُ، فأصابته جَائِحَة، فَلَا تحل لَك أَن تَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، بِمَ تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق؟ " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن حميد عَن سُلَيْمَان عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع السنين، وَأمر بِوَضْع الْجَائِحَة "، أخرج مُسلم نَهْيه عَن بيع السنين.

(3/312)


(عَن ابْن أبي شيبَة وَغَيره عَن سُفْيَان: وَأمره بِوَضْع الجوائح ") ، عَن بشر بن الحكم عَن سُفْيَان.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " سَمِعت سُفْيَان يحدث هَذَا الحَدِيث كثيرا مَا لَا أحصي من كثرته، لَا يذكر فِيهِ: (أَمر بِوَضْع الجوائح) ، ثمَّ زَاد بعد ذَلِك (وَأمر بِوَضْع الجوائح) ".
قَالَ سُفْيَان: " وَكَانَ حميد يذكر بعد مَعَ (السنين) كلَاما قبل (وضع الجوائح) ، لَا أحفظه، وَكنت أكف (عَن وضع الجوائح) ، لِأَنِّي لَا أَدْرِي كَيفَ كَانَ الْكَلَام؟ ، وَفِي الحَدِيث أَمر بِوَضْع الجوائح ".
قَالَ الشَّافِعِي: " أخبرنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله ".
وَوجه قَوْلنَا: " لَا تُوضَع الْجَائِحَة وَتَكون من مَال المُشْتَرِي " حَدِيث أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أُصِيب رجل فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثمار ابتاعها؛ فَكثر دينه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدقوا عَلَيْهِ، فتصدقوا عَلَيْهِ، فَلم يبلغ ذَلِك وَفَاء دينه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذُوا مَا وجدْتُم، وَلَيْسَ لكم إِلَّا

(3/313)


ذَلِك "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح، وَلَو كَانَت الْجَائِحَة مَوْضُوعَة لما كَانَ لِلْأَمْرِ بالتصدق عَلَيْهِ، وَصَرفه ذَلِك فِيهِ معنى. وَيحْتَمل غير ذَلِك، وَهُوَ جَوَاز كَون الدُّيُون عَلَيْهِ من غير جِهَة مَا ابتاعه. وَحَدِيث أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - صَرِيح فِي وضع الْجَائِحَة، وَالله أعلم.
روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الرِّجَال عَن أمه عمْرَة أَنه سَمعهَا تَقول: " ابْتَاعَ رجل ثَمَر حَائِط فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعالجه، وَأقَام عَلَيْهِ حَتَّى تبين لَهُ النُّقْصَان، فَسَأَلَ رب الْحَائِط أَن يضع، فَحلف أَلا يفعل، فَذَهَبت أم المُشْتَرِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/314)


فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تألى أَن لَا يفعل خيرا، فَسمع بذلك رب المَال، فَأتى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله هُوَ لَهُ ".
هَذَا مُرْسل، وَقد أسْندهُ ابْن أبي الرِّجَال - وَلَا أَحْسبهُ إِلَّا حَارِثَة بن أبي الرِّجَال - عَن أَبِيه عَن أمه عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وحارثة ضَعِيف الحَدِيث.
وأسنده يحيى بن سعيد عَن أبي الرِّجَال إِلَّا أَنه مُخْتَصر، لَيْسَ فِيهِ ذكر الثَّمر، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن ابْن أبي أويس عَن

(3/315)


أَخِيه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى عَن أبي الرِّجَال عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَأخرجه مُسلم (أَيْضا) ، فَقَالَ: " حَدثنِي غير وَاحِد من أَصْحَابنَا، قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس - بِالْإِسْنَادِ - عَنْهَا، سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَوت خصوم بِالْبَابِ، عالية أَصْوَاتهم، وَإِذا أحدهم يستوضع الآخر، ويسترفقه فِي شَيْء، وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا أفعل، فَخرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَيْن المتألي على الله، لَا يفعل الْمَعْرُوف؟ فَقَالَ: (أَنا) يَا رَسُول الله، فَلهُ (أَي ذَلِك) أحب وَالله أعلم. /
مَسْأَلَة (96) :

وَيجوز بيع الْعرية بِخرْصِهَا تَمرا فِي دون خَمْسَة أوسق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
لنا حَدِيث ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص لصَاحب الْعرية أَن يَبِيعهَا (بِخرْصِهَا من التَّمْر "، كَذَا عِنْد مُسلم، وَعند البُخَارِيّ - رَحمَه الله -: " رخص

(3/316)


لصَاحب الْعرية أَن يَبِيعهَا) بِخرْصِهَا "، وَفِي رِوَايَة: " رخص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تبَاع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا تَمرا ".
وروى الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى تبدو صَلَاحه، وَلَا تَبِيعُوا التَّمْر بِالتَّمْرِ ".
وَعنهُ عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه رخص بعد ذَلِك فِي الْعرية بالرطب، أَو التَّمْر، وَلم يرخص فِي غير ذَلِك "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِيه الْبَيَان الْوَاضِح أَن الرُّخْصَة فِي بيع الْعَرَايَا كَانَت بعد تَحْرِيم الرِّبَا، وَيدل على ذَلِك حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي الصَّحِيح أَيْضا عِنْدهمَا: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ، إِلَّا أَنه رخص فِي الْعرية أَن تبَاع بِخرْصِهَا تَمرا يأكلها أَهلهَا رطبا ".

(3/317)


وَفِي رِوَايَة عَن مُسلم: " أَن رَسُول الله - 0 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يُبَاع التَّمْر بِالتَّمْرِ، قَالَ: ذَلِك الرِّبَا، ذَلِك الْمُزَابَنَة إِلَّا أَنه أرخص فِي بيع الْعرية النَّخْلَة، والنخلتين يَأْخُذهَا أهل الْبَيْت بِخرْصِهَا تَمرا يأكلونها رطبا ".
وَعِنْدَهُمَا عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الْمُزَابَنَة - والمزابنة: التَّمْر بِالتَّمْرِ - إِلَّا أَنه رخص فِي الْعَرَايَا ".
وَعِنْدَهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعَرَايَا مَا دون خَمْسَة أوسق، أَو فِي خَمْسَة أوسق "، شكّ دَاوُد بن الْحصين.
وروى (عَن) مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص فِي الْعَرَايَا أَن تبَاع بِخرْصِهَا كَيْلا "، قَالَ مُوسَى: " الْعَرَايَا: نخلات مَعْلُومَات تأتيها فتشتريها "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وروى يحيى بن سعيد عَن نَافِع عَن عبد الله عَن زيد -

(3/318)


رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص فِي الْعَرَايَا بِخرْصِهَا تَمرا ".
قَالَ يحيى: " الْعرية: أَن يَشْتَرِي الرجل تَمرا لنخلات لطعام أَهله رطبا بِخرْصِهَا (تَمرا) ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (97) :

وَبيع الْعقار قبل الْقَبْض غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه جَائِز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن حَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَشْتَرِي بيوعاً، فَمَا يحل لي مِمَّا يحرم عَليّ؟ ، فَقَالَ: إِذا بِعْت بيعا فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه ".
وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله إِنِّي أَشْتَرِي هَذِه الْبيُوع فَمَا يحل لي مِنْهَا؟ ، وَمَا يحرم عَليّ؟ "، قَالَ: " يَا ابْن أخي، إِذا اشْتريت بيعا، فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه ".
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث

(3/319)


عتاب بن أسيد، فَنهى عَن شرطين، وَعَن سلف وَبيع، وَعَن بيع مَا لَيْسَ عنْدك، وَعَن ربح مَا لم يضمن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعتاب بن أسيد: " إِنِّي بَعَثْتُك إِلَى أهل الله، وَأهل مَكَّة، فانههم عَن بيع مَا لم يقبضوا، أَو ربح مَا لم يضمنوا، وَعَن قرض وَبيع، وَعَن شرطين فِي بيع، وَعَن بيع وَسلف "، تفرد بِهِ يحيى بن صَالح.
وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أما الَّذِي فَقَالَ: " أما الَّذِي نهى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع حَتَّى يَسْتَوْفِي ". وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا، بِرَأْيهِ -: " وَلَا أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح. وَالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم.
مَسْأَلَة (98) :

والتخلية فِيمَا ينْقل ويحول لَيْسَ بِقَبض، يَصح بهَا بيع المُشْتَرِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّهَا قبض ".

(3/320)


لنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم عَنهُ، قَالَ: " كُنَّا فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نبتاع طَعَاما، فيبعث علينا من يَأْمُرنَا بانتقاله من الْمَكَان الَّذِي ابتعناه إِلَى مَكَان سواهُ قبل أَن نبيعه ".
وَعِنْدَهُمَا: " أَنهم كَانُوا يضْربُونَ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اشْتَروا الطَّعَام (جزَافا) أَن يبيعوه فِي مَكَانَهُ حَتَّى يحولوه ".
وَعند أبي دَاوُد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من ابْتَاعَ (طَعَاما) فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يكتاله "، قلت لِابْنِ عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم؟ قَالَ: أَلا ترى أَنهم يبتاعون بِالذَّهَب، وَالطَّعَام (مزجا) ".
وروى سُلَيْمَان بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ لمروان: " أحللت بيع الصكاك، وَقد نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / عَن بيع

(3/321)


الطَّعَام قبل أَن يسْتَوْفى؟ ، قَالَ: فَخَطب مَرْوَان، فَنهى عَن بَيْعه، فَرَأَيْت الحرس يأخذونه من أَيدي النَّاس "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعِنْده عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا ابتعت طَعَاما فَلَا تبيعه حَتَّى تستوفيه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (99) :

وَمن اشْترى شَاة، فَوَجَدَهَا مصراة، كَانَ لَهُ ردهَا بعد مَا حلبها، وَبرد مَعهَا صَاعا من تمر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يرجع بِأَرْش عيب التصرية، وَلَا يرد ".
لنا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يتلَقَّى الركْبَان للْبيع، وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض، وَلَا تناجشوا، وَلَا يبع حَاضر لباد، وَلَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد ذَلِك، فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها، فَإِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعاً من تمر "، أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم حَدِيث التصرية، وَلم يخرجَا مَا قبله فِيهِ.

(3/322)


وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله، وَلَا يعلم لَهُ مُخَالفا من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، قَالَ: " من اشْترى محفلة فَردهَا، فليرد مَعهَا صَاعا، "، قَالَ: " وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن تلقي الركْبَان "، أَو كَمَا قَالَ، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا، وَالصَّحِيح أَنه هَكَذَا.
وَرُوِيَ فِي ذَلِك أَحَادِيث، وَفِي بَعْضهَا قَالَ: " ردهَا مَعهَا مثل، أَو مثلي لَبنهَا قمحاً ".
وَمن روى التَّمْر أَكثر وأحفظ، فَهُوَ أولى، على أَن من أَصْحَابنَا من حمله على مَوضِع لَا يُوجد فِيهِ التَّمْر؛ فَيرد حِينَئِذٍ الْقَمْح. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (100) :

وَإِن اشْترى مَاشِيَة فنتجت فِي يَده، أَو أشجاراً فأثمرت، ثمَّ ظهر مِنْهَا على عيب، فَلهُ أَن يردهَا بِالْعَيْبِ، وَيكون النِّتَاج، وَالثَّمَرَة لَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أرش الْعَيْب، وَلَيْسَ لَهُ الرَّد ".

(3/323)


وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى ابْن أبي ذِئْب عَن مخلد بن خفاف الْغِفَارِيّ، قَالَ: " خَاصَمت إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فِي عبد دلّس لنا، فأصبنا من غَلَّته، وَعِنْده عُرْوَة بن الزبير، فحدثه عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي من لَا أتهم عَن ابْن أبي ذِئْب، قَالَ: أَخْبرنِي مخلد بن خفاف، قَالَ: ابتعت غُلَاما فاستعملته، ثمَّ ظَهرت مِنْهُ على عيب، فخاصمت فِيهِ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز،

(3/324)


فَقضى لي برده وَقضى علتي برد غَلَّته، فَأتيت عُرْوَة، فَأَخْبَرته، فَقَالَ: أروح إِلَيْهِ العشية، فَأخْبرهُ أَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَخْبَرتنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي مثل هَذَا أَن الْخراج بِالضَّمَانِ، فعجلت إِلَى عمر، فَأَخْبَرته مَا أَخْبرنِي عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عمر: فَمَا أيسر عَليّ من قَضَاء قَضيته، الله يعلم أَنِّي لم أرد فِيهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، فبلغني فِيهِ سنة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فأرد قَضَاء عمر، أنفذ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فراح إِلَيْهِ عُرْوَة، فَقضى لي أَن آخذ الْخراج من الَّذِي قضى بِهِ عَليّ لَهُ ".
وَرَوَاهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن ابْن أبي ذِئْب مُخْتَصرا، وَقد سرني ذَلِك حِين وجدته؛ لِأَن يحيى بن سعيد الإِمَام - رَحمَه الله تَعَالَى - لَا يروي إِلَّا حَدِيث الثِّقَات، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ، وَابْن الْمُبَارك، وَجَمَاعَة عَن ابْن أبي ذِئْب.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْخراج بِالضَّمَانِ ".
وَرُوِيَ عَن مُسلم بن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه: " أَن رجلا اشْترى من رجل غُلَاما فِي زمَان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ (عِنْده) مَا شَاءَ الله، ثمَّ رده من عيب وجد بِهِ، فَقَالَ الرجل حِين رد عَلَيْهِ الْغُلَام: يَا رَسُول الله إِنَّه (كَانَ) استغل غلامي مُنْذُ كَانَ عِنْده، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخراج

(3/325)


بِالضَّمَانِ ". وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه قَالَ: " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغلَّة بِالضَّمَانِ ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ". قَالَ الدَّارمِيّ: " قلت ليحيى بن معِين فالزنجي؟ - يَعْنِي مُسلم بن خَالِد - فَقَالَ: ثِقَة ".
وَقد رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة يحيى بن خلف الْبَصْرِيّ عَن عمر بن عَليّ الْمقدمِي عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخراج بِالضَّمَانِ "، وَعمر بن عَليّ ثِقَة لَا شكّ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَن مُصعب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " أَن رَسُول الله / - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ ".

(3/326)


قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " مُصعب هَذَا من أهل الرقة، لم يحدث بِهِ عَن ابْن جريج غَيره، وَلَا يعرف هَذَا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَإِنَّمَا يرويهِ عَن عُرْوَة مخلد بن خفاف وَهِشَام بن عُرْوَة من رِوَايَة مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، وَعمر بن عَليّ الْمقدمِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَن شُرَيْح القَاضِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (101) :

وَإِذا اشْترى أمة ثَيِّبًا وَوَطئهَا، ثمَّ وجد بهَا عَيْبا، كَانَ لَهُ أَن يردهَا بِالْعَيْبِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ لَهُ ردهَا ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي، وعَلى أَن فسخ البيع قطع لَهُ من وقته، وَلَيْسَ بِرَفْع لَهُ من أَصله، وَمَا استدللنا بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الأولى دَلِيل على أَنه قطع لَهُ من وقته.
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن جَعْفَر: حَدثنِي أبي عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: فِي رجل اشْترى جَارِيَة،

(3/327)


فَوَطِئَهَا، فَوجدَ بهَا عَيْبا، قَالَ: " لَزِمته، وَيرد البَائِع مَا بَين الصِّحَّة والداء، وَإِن لم يكن وَطئهَا ردهَا ".
كَذَا رَوَاهُ سُلَيْمَان الثَّوْريّ، وَحَفْص بن غياث عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، وَهُوَ مُرْسل؛ فَإِن عَليّ بن حُسَيْن لم يدْرك جده عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَقد وَصله مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن الْحُسَيْن بن عَليّ عَن أَبِيه، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِن كُنَّا نروي حَدِيثه على طَرِيق الاستشهاد، فَهُوَ بَين قبُول ورد، قبله بعض الْمُحدثين، ورده بَعضهم، وَالله أعلم.
وَرَوَاهُ جُوَيْبِر - وَهُوَ ضَعِيف - عَن الضَّحَّاك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ مُرْسل، وَلَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا ذكر الثّيّب، والبكارة، وَإِنَّمَا هُوَ مُطلق، فافهمه.
وَرُوِيَ عَن شريك عَن جَابر عَن عَامر عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي رجل اشْترى جَارِيَة، فيطؤها، ثمَّ يظْهر مِنْهَا على عيب، قَالَ: " إِن كَانَت ثَيِّبًا، رد مَعهَا نصف الْعشْر، وَإِن كَانَت بكرا رد الْعشْر ".

(3/328)


قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا مُرْسل، عَامر لم يدْرك عمر، رَضِي الله عَنهُ، هَذَا لَا يثبت؛ فَإِن الشّعبِيّ عَن عمر مُرْسل، وَجَابِر الْجعْفِيّ ضَعِيف. وَمَا قَالَ إِن كَانَ قد قَالَه فِي رد الثّيّب يُوَافق قَوْلنَا، وَيُخَالف فِي (رد نصف الْعشْر؛ لما روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: الْخراج بِالضَّمَانِ، وَيُخَالف فِي) الْبكر بِالْإِجْمَاع، وَبِمَا روينَا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ ".
وَقَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عندنَا هُوَ فِي الْبكر؛ لِئَلَّا يكون مُخَالفا لما روينَا من السّنة، وافتضاض الْبكر نُقْصَان أدخلهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ؛ فيمنعه ذَلِك من الرَّد بِالْعَيْبِ، فَيرجع بِأَرْش الْعَيْب، وَوَطْء الثّيّب لَيْسَ بِنُقْصَان، إِنَّمَا هُوَ أَخذ مَنْفَعَة، فَهُوَ كاستخدام، فيردها بِالْعَيْبِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (102) :

وَيملك العَبْد بالتمليك على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يملك "، وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب.
فِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن

(3/329)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من بَاعَ عبدا، وَله مَال، فَمَاله للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ".
وَفِي حَدِيث سلمَان رَضِي الله عَنهُ - " أَنه جَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برطب، أَو تمر، فَلم يَأْكُل حِين أخبرهُ أَنه صدقه، وَحين أخْبرته أَنه هَدِيَّة قبل ".
قَالَ أَبُو عبد الله: " إِنَّه حَدِيث صَحِيح، وَفِيه أَنه سَأَلَهُ لمن هُوَ، قَالَ: لقوم، فَأمره أَن يطْلب إِلَيْهِم أَن يكاتبوه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَنه زوج عبدا لَهُ وليدة لَهُ، فَطلقهَا، فَقَالَ: ارْجع، فَأبى، فَقَالَ: هِيَ لَك، طَأْهَا بِملك الْيَمين ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: ط لَيْسَ فِي مَال العَبْد زَكَاة حَتَّى يعْتق ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (103) :

وَإِذا بَاعَ حَيَوَانا بِشَرْط الْبَرَاءَة برِئ من كل عيب لم يُعلمهُ، وَلَا يبرأ من عيب علمه وَلم يسمه لَهُ، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو

(3/330)


حنيفَة - رَحمَه الله -: " برِئ من كل عيب كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد، علم بِهِ، أَو لم يعلم ".
وَدَلِيلنَا مَا روى (مَالك عَن يحيى عَن سَالم) " أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بَاعَ غُلَاما لَهُ بثمان مائَة دِرْهَم، وَبَاعه بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابتاعه لعبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا،: بالغلام دَاء لم تسمه؛ فاختصما إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ الرجل: بَاعَنِي عبدا، وَبِه دَاء، وَلم يسمه لي، فَقَالَ عبد الله بن عمر: بِعته بِالْبَرَاءَةِ، فَقضى عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - على عبد الله بن عمر بِالْيَمِينِ أَن يحلف لَهُ، لقد بَاعه الْغُلَام وَمَا بِهِ دَاء يُعلمهُ، فَأبى عبد الله أَن يحلف لَهُ، وارتجع العَبْد، فَبَاعَهُ عبد الله بن عمر بعد ذَلِك بِأَلف وَخمْس مائَة دِرْهَم ".
قَالَ مَالك - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْأَمر الْمُجْتَمع عَلَيْهِ عندنَا أَن من بَاعَ عبدا، أَو وليدة، أَو حَيَوَانا بِالْبَرَاءَةِ، فقد برِئ من كل عيب إِلَّا أَن يكون علم فِي ذَلِك عَيْبا، فَإِن كَانَ علم عَيْبا، فكتمه، لم يَنْفَعهُ تبرئته، وَكَانَ مَا بَاعَ مردوداً عَلَيْهِ ".
وروى شريك عَن عَاصِم عَن عبيد الله عَن عبد الله بن عَامر: " أَن

(3/331)


زيد بن ثَابت و (عبد الله) بن عمر كَانَا يريان / الْبَرَاءَة من كل عيب جَائِزَة ". وَهَذَا حَدِيث قد أنكرهُ عبد الله بن الْمُبَارك، وَيحيى بن معِين على شريك، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن عقبَة بن عَامر، قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، وَلَا يحل لمُسلم إِن بَاعَ من أَخِيه بيعا فِيهِ عيب أَن لَا يُبينهُ لَهُ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن وائلة بن الْأَسْقَع - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا يحل لأحد يَبِيع شَيْئا إِلَّا بَين مَا فِيهِ، وَلَا يحل لمن علم ذَلِك أَلا يُبينهُ ".
وَفِي هَذَا تَنْبِيه على وُقُوع الْبَرَاءَة من عيب علمه فبينه، أَو لم يُعلمهُ، دون عيب علمه فَلم يُبينهُ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (104) :

وَإِذا بَاعَ سلْعَة بِثمن مَعْلُوم إِلَى أجل، ثمَّ اشْتَرَاهَا من المُشْتَرِي بِأَقَلّ مِنْهُ نَقْدا جَازَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".

(3/332)


وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - " من بَاعَ سلْعَة من السّلع إِلَى أجل من الْآجَال، وَقَبضهَا المُشْتَرِي، فَلَا بَأْس أَن يَبِيعهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِأَقَلّ من الثّمن، أَو أَكثر وَدين، أَو نَقْدا، لِأَنَّهَا بيعَة غير الْبيعَة الأولى.
وَقَالَ بعض النَّاس: " لَا يَشْتَرِيهَا البَائِع بِأَقَلّ من الثّمن، وَزعم أَن الْقيَاس بِأَن ذَلِك جَائِز، وَلكنه زعم تتبع الْأَثر، ومحمود مِنْهُ أَن يتتبع الْأَثر الصَّحِيح، فَلَمَّا سُئِلَ عَن الْأَثر إِذا هُوَ أَبُو إِسْحَاق عَن امْرَأَته غَالِيَة بنت أَيفع، أَنَّهَا دخلت مَعَ امْرَأَة أبي السّفر على عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَذكرت لعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن زيد بن أَرقم بَاعَ شَيْئا إِلَى الْعَطاء، ثمَّ اشْتَرَاهُ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعه، فَقَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا: أَخْبِرِي زيد بن أَرقم أَن الله قد أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن يَتُوب "، فَقيل لَهُ: أثبت هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة فَقَالَ: أَبُو إِسْحَاق: رَوَاهُ عَن امْرَأَته، قيل: فتعرف امْرَأَته بِشَيْء يثبت بِهِ حَدِيثهَا. فَمَا عَلمته قَالَ شَيْئا. فَقلت لَهُ: ترد حَدِيث بسرة بنت صَفْوَان مهاجرة مَعْرُوفَة بِالْفَضْلِ أَن تَقول: حَدِيث امْرَأَة، وتحتج بِحَدِيث امْرَأَة لَيست عنْدك مِنْهَا معرفَة أَكثر من أَن زَوجهَا روى عَنْهَا؟ ".
قَالَ الرّبيع: " أخبرنَا مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم - يَعْنِي ابْن مُحَمَّد - قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -

(3/333)


وَرجل يسْأَله عَن رجل سلف فِي سبايب - قَالَ الرّبيع: سبائك، فَأَرَادَ أَن يَبِيعهَا قبل أَن يقبضهَا، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: تِلْكَ الْوَرق بالورق، وَكره ذَلِك ".
وَقَالَ مَالك - رَحمَه الله -: " وَذَلِكَ فِيمَا نرى - أَنه أَرَادَ أَن يَبِيعهَا من صَاحبهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ من الثّمن الَّذِي ابتاعها بِهِ، وَلَو بَاعهَا من غير الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ، لم يكن بِبيعِهِ بَأْس ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " إِنَّمَا أخرجت هَذَا؛ لأَنهم يَرْوُونَهُ على مَا يريدونه، وَإِنَّمَا يرْوى هَكَذَا، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ قبل الْقَبْض، وَذَلِكَ لَا يجوز، لَا من الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَلَا من غَيره ".
وروى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَنه سُئِلَ عَن بيع الْحَرِير، قَالَ: " وَإِيَّاك أَن تكون دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَينهمَا حَرِير "، وَقَالَ سُفْيَان: " يَعْنِي أَن يَبِيع عشْرين دِينَارا وحريرة ثمن نصف دِينَار بِأَرْبَع وَعشْرين دِينَارا، أَو أَكثر ".
وَهَذَا البيع على مَا فسره سُفْيَان غير جَائِز عندنَا؛ فَإِنَّهُ بيع ذهب وَغَيره بِذَهَب، وَذَلِكَ لَا يجوز عندنَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (105) :

وَإِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ، والسلعة قد تلفت فِي يَد المُشْتَرِي،

(3/334)


تحَالفا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَأَبُو يُوسُف - رحمهمَا الله -: " سقط التَّحَالُف، وَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي ".
لنا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ على الْمُدعى عَلَيْهِ "، اتفقَا على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن أبي العميس عَن عبد الرَّحْمَن بن قيس بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن قيس عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " اشْترى

(3/335)


الْأَشْعَث بن قيس رَقِيقا من الرَّقِيق الْخمس من عبد الله بِعشْرين ألفا، فَأرْسل إِلَيْهِ عبد الله فِي ثمنهم، فَقَالَ: إِنَّمَا أخذتهم بِعشْرَة آلَاف، فَقَالَ عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وَبَيْنك، فَقَالَ الْأَشْعَث: أَنْت بيني وَبَين نَفسك، قَالَ عبد الله: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِذا اخْتلف البيعان، وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة، فَهُوَ مَا يَقُول رب السّلْعَة، أَو يتتاركان "، أخرجه أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن.
وَقَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا (حَدِيث) صَحِيح الأسناد ".
وروى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج أَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أخبرهُ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: " حضرت أَبَا عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود، وَأَتَاهُ رجلَانِ تبَايعا سلْعَة، (فَقَالَ أَحدهمَا: أخذت بِكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الآخر: بِعْت بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: (أَتَى) عبد الله بن مَسْعُود فِي مثل هَذَا) ، قَالَ حضرت

(3/336)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مثل هَذَا فَأمر للْبَائِع / أَن يسْتَخْلف ثمَّ يُخَيّر الْمُبْتَاع، إِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك "، رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ.
حَدِيث أبي عُبَيْدَة هَذَا إِن كَانَ سعيد بن سَالم حفظ عبد الْملك بن عُمَيْر فِي إِسْنَاده، فَهُوَ أَيْضا جيد، لَا بَأْس بِهِ، إِلَّا أَنه مُرْسل؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
رَوَاهُ ابْن عجلَان عَن عون بن عبد الله عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - نَحْو رِوَايَة أبي عُبَيْدَة، وَهُوَ أَيْضا جيد، إِلَّا أَنه مُرْسل " عون بن عبد الله لم يسمع من ابْن مَسْعُود شَيْئا ً.
وَحَدِيث المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله

(3/337)


ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " بَايع (عبد الله بن الْأَشْعَث) برقيق من رَقِيق الأمارة، فَذكر الحَدِيث بِمَعْنى حَدِيث أبي العميس، فَقَالَ عبد الله: أما وَالله لأقضين بيني وَبَيْنك بِقَضَاء سمعته من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اخْتلف البيعان، وَلم يكن بَينهمَا بَيِّنَة فَهُوَ بِمَا يَقُول رب السّلْعَة، أَو يتتاركان ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معن بن عبد الرَّحْمَن المَسْعُودِيّ عَن أَخِيه الْقَاسِم وَهُوَ مُرْسل؛ الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن لم يدْرك جده.
وَقد رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن عقبَة عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عبد الله قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي البيع، والسلعة كَمَا هِيَ بِعَينهَا، لم تستهلك، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع ".
وروى عَنهُ أَيْضا بِالْإِسْنَادِ نَحْو رِوَايَة النَّاس عَن عبد الله: " إِذا اخْتلف البيعان اسْتحْلف البَائِع، وَكَانَ الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك ".

(3/338)


وَرَوَاهُ هشيم عَن ابْن أبي ليلى عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه فَذكر قصَّة الْأَشْعَث وَعبد الله، فَقَالَ عبد الله: " إِن شِئْت حدثتك بِحَدِيث سمعته من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قَالَ وهب: قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) يَقُول: إِذا اخْتلف البيعان، وَالْبيع قَائِم بِعَيْنِه، وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع "، كَذَا قَالَ: " وَالْبيع قَائِم "، وَلم يقل: " وَالْمَبِيع ".
وَرَوَاهُ الْحسن بن عمَارَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله قَالَ، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف البيعان، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، فَإِذا اسْتهْلك، فَالْقَوْل قَول مَا قَالَ المُشْتَرِي ".
وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَابْن أبي ليلى، وَالْحسن بن عمَارَة كلهم ضعفاء، قد سبق ذكرهم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (106) :

وَإِذا اشْترى عبدا بِشَرْط أَن يعتقهُ صَحَّ الشِّرَاء على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث بَرِيرَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ.

(3/339)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اشترطي: (لَهُم الْوَلَاء، مَعْنَاهُ: اشترطي) عَلَيْهِم الْوَلَاء ".
قَالَ الله عز وَجل: {أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة} ، يَعْنِي: عَلَيْهِ اللَّعْنَة، واستقصينا هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْوَلَاء وَالْعِتْق. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (107) :

وَلَا يجوز بيع مَال الْغَيْر دون إِذْنه، مَوْقُوفا على إِجَازَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " إِنَّه يجوز "، ووافقنا فِي الشِّرَاء للْغَيْر أَنه لَا يجوز بِغَيْر إِذْنه.
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الْغرَر "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: وأحسب أَن كل شَيْء مثله "، اتفقَا على صِحَّته.

(3/340)


وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء، أَخَاف أَن أَنْسَاهَا فتأذن لي أَن أَكتبهَا؟ ، قَالَ: نعم، فَكَانَ فِيمَا كتبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لما بعث عتاب بن أسيد إِلَى أهل مَكَّة، قَالَ: أخْبرهُم أَنه لَا يجوز بيعان فِي بيع، وَلَا تبع مَا لم تملك، وَلَا سلف وَبيع، وَلَا شرطين فِي بيع ".
وَأما الحَدِيث الَّذِي يروي عَن عُرْوَة الْبَارِقي: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطَاهُ دِينَارا؛ ليَشْتَرِي بِهِ شَاة لأضحية، فَاشْترى شَاتين، فَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار، وأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَاة، ودينار، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه، وَكَانَ لَو اشْترى التُّرَاب ربح فِيهِ ".
قَالَ سُفْيَان: " كَانَ الْحسن بن عمَارَة جَاءَنَا بِهَذَا الحَدِيث عَنهُ، قَالَ: سَمعه شبيب من عُرْوَة، فَأَتَيْته فَقَالَ شبيب: إِنِّي لم أسمعهُ

(3/341)


من عُرْوَة، سَمِعت الْحَيّ يخبرونه عَنهُ، وَلَكِن سمعته يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
والْحَدِيث / الَّذِي رُوِيَ عَن أبي الْحصين عَن شيخ من أهل الْمَدِينَة عَن حَكِيم بن حزَام: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مَعَه بِدِينَار يَشْتَرِي لَهُ أضْحِية، فاشتراها بِدِينَار، وباعها بدينارين، فَرجع فَاشْترى أضْحِية بِدِينَار إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتصدق بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعا لَهُ أَن يُبَارك لَهُ فِي تِجَارَته "، فالحي الَّذين أخبروا شبيب بن غرقدة عَن عُرْوَة الْبَارِقي لَا نعرفهم، وَالشَّيْخ الَّذِي أخبر أَبَا حُصَيْن (عَن حَكِيم) لَا نعرفه، وَلَيْسَ هَذَا من شَرط أَصْحَاب الحَدِيث فِي قبُول الْأَخْبَار. (وَالله أعلم) .
مَسْأَلَة (108) :

وقرض الْحَيَوَان جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " غير جَائِز إِلَّا أَن يستقرضه للْمَسَاكِين ".
عَن أبي رَافع - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/342)


استسلف من رجل بكرا، فَقدمت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إبل، قَالَ أَبُو رَافع: فَأمرنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أَقْْضِي الرجل بكرَة، فأبغيت فِي الْإِبِل، فَلم أجد فِيهَا إِلَّا جملاُ رباعياً، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، فَإِن خير عباد الله أحْسنهم قَضَاء "، مخرج فِي صَحِيح مُسلم.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ: قَالَ " كَانَ لرجل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سنّ من الْإِبِل؛ فجَاء يتقاضاه، فَقَالَ: أَعْطوهُ، فَلم يَجدوا إِلَّا سنا فَوق سنه، فَقَالَ: أَعْطوهُ، فَقَالَ أوفيتني، أوفاك الله، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن خياركم أحسنكم قَضَاء "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ: " أَن رجلا تقاضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَغْلَظ لَهُ، فهم أَصْحَابه بِهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعوه؛ فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا، فاشتروا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطوهُ إِيَّاه، قَالُوا: لَا نجد إِلَّا أفضل من

(3/343)


سنة، قَالَ: اشتروه، فَأَعْطوهُ إِيَّاه؛ فَإِن خياركم أحسنكم قَضَاء "، اتفقَا على صِحَّته. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (109) :

(3/344)


صفحة فارغة.

(3/345)


رباع (مَكَّة) مَمْلُوكَة، يَصح بيعهَا، وَالتَّصَرُّف فِيهَا كَغَيْرِهَا من الْأَرَاضِي. وَعَن أبي حنيفَة - رَحمَه الله - فِيهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: مثل قَوْلنَا.
وَالْأُخْرَى: أَنَّهَا لَيست مَمْلُوكَة؛ فَلَا يجوز إِجَارَتهَا، وَلَا بيعهَا.
عَن ابْن شهَاب عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أُسَامَة بن يزِيد أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أتنزل فِي دَارك بِمَكَّة؟ قَالَ: وَهل ترك لنا عقيل من رباع، أَو دور ".
وَكَانَ عقيل ورث أَبَا طَالب هُوَ وطالب، وَلم يَرِثهُ جَعْفَر، وَلَا عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسلمين، وَكَانَ عقيل، وطالب كَافِرين؛ فَكَانَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - من أجل ذَلِك

(3/346)


بقول: " لَا يَرث الْمُؤمن الْكَافِر "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح جَاءَهُ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بِأبي سُفْيَان ابْن حَرْب، فَأسلم بمر الظهْرَان، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا سُفْيَان رجل يحب هَذَا الْفَخر، فَلَو جعلت لَهُ شَيْئا، قَالَ: نعم، من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَمن أغلق بَابه فَهُوَ آمن "، فنسب الديار إِلَى أَرْبَابهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله: " وَقد اشْترى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - دَار الحجامين، وسكنها، يَعْنِي بِمَكَّة (حرسها الله تَعَالَى) .
رُوِيَ عَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة الْكِنَانِي، قَالَ: كَانَت دور مَكَّة على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر، وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - تدعى السوايب، من احْتَاجَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن، لَا يُبَاع وَلَا يُورث ".

(3/347)


وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " مَكَّة حرَام، وَحرَام بيع رباعها، وَحرَام أجر بيوتها "، قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا وهم، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " إِن الَّذِي يَأْكُل كراً بيُوت مَكَّة، إِنَّمَا يَأْكُل فِي بَطْنه نَارا ". وَعنهُ مَرْفُوعا: " مَكَّة مناخ لَا يُبَاع رباعها، وَلَا يُؤَاجر بيوتها ". وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (110) :

السرجين نجس الْعين، لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز بَيْعه ".

(3/348)


رُوِيَ عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيّ - رَضِي الله عَنهُ - صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " ذاكرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْيَاء، فَقَالَ: " كَذَا وَكَذَا حَلَال، وَكَذَا وَكَذَا حرَام، ثمَّ قَالَ: مَا حل لَك أكله وشربه، حل لَك بَيْعه وشراؤه، وَمَا حرم عَلَيْك أكله وشربه، حرم عَلَيْك بَيْعه وشراؤه ".
وَفِي مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسا عِنْد الرُّكْن "، فَذكر الحَدِيث / ذَكرْنَاهُ فِي غير مَوضِع فِي السّنَن.
وَكَذَلِكَ قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " لَا تحل التِّجَارَة فِي شَيْء لَا يحل أكله وشربه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (111) :

وَلَا يجوز بيع الْكَلْب، وَلَا تجب قِيمَته على قَاتله. وَقَالَ

(3/349)


أَبُو حنيفَة رَحمَه الله -: " يجوز بَيْعه، وَتجب قِيمَته على قَاتله:.
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي، وحلوان الكاهن "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن عون بن أبي جُحَيْفَة، قَالَ: " اشْترى أبي عبدا حجاماً، فَأمر بمحاجمه فَكسرت، وَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَكسب الْبَغي، وَثمن الدَّم، وَلعن الواشمة، والمستوشمة، وآكل الرِّبَا، وموكله، وَلعن المصور "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كسب الْحجام خَبِيث، وَكسب الْبَغي خَبِيث، وَثمن الْكَلْب خَبِيث "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.

(3/350)


وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، وَإِن جَاءَ يطْلب ثمن الْكَلْب فاملأ كَفه تُرَابا ".
وَعِنْده عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحل ثمن الْكَلْب، وَلَا حلوان الكاهن، وَلَا مهر الْبَغي ".
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، والسنور ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم -: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لعن الله الْيَهُود، حرمت عَلَيْهِم الشحوم، فجملوها، فَبَاعُوهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 جَالِسا عِنْد الرُّكْن، قَالَ: فَرفع بَصَره إِلَى السَّمَاء، فَضَحِك، فَقَالَ: لعن الله الْيَهُود ثَلَاثًا؛ إِن الله حرم عَلَيْهِم الشحوم، فَبَاعُوهَا، وأكلوا أثمانها، وَإِن الله عز وَجل إِذا حرم على قوم أكل شَيْء حرم عَلَيْهِم ثمنه ".

(3/351)


استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن الْهَيْثَم بن جميل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عباد بن الْعَوام عَن الْحسن بن أبي جَعْفَر - كِلَاهُمَا عَن أبي الزبير. عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ثمن الْكَلْب، والهر، إِلَّا الْكَلْب الْمعلم ".
وَرَوَاهُ عبد الله بن مُوسَى عَن حَمَّاد بِالشَّكِّ فِي رَفعه، وَرَوَاهُ سُوَيْد بن عَمْرو عَن حَمَّاد مَوْقُوفا على جَابر، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ الصَّوَاب.
وَفِي الْجُمْلَة، لَا يُعَارض بِهَذِهِ الرِّوَايَة مَا روينَا من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي اتّفق عُلَمَاء أهل الحَدِيث على إخْرَاجهَا فِي المسانيد الصَّحِيحَة، وَالْحكم بثبوتها.
وروى الْمثنى بن الصَّباح عَن عَطاء، قَالَ: " سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة -

(3/352)


رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث كُلهنَّ سحت، كسب الْحجام سحت، وَمهر الزَّانِيَة سحت، وَثمن الْكَلْب سحت، إِلَّا كَلْبا ضارياً "، وَتَابعه الْوَلِيد بن عبد الله بن أبي رَبَاح عَن عَمه عَطاء، وهما ضعيفان.
وَرُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قيس عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " نهى عَن مهر الْبَغي، وعسب الْفَحْل، وَعَن ثمن السنور، وَعَن الْكَلْب إِلَّا كلب صيد ".
وَرِوَايَة حَمَّاد عَن قيس بن سعد فِيهَا نظر، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء غير مَحْفُوظ فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح فِي النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب، وَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا فِي النَّهْي عَن اقتناء الْكَلْب، وَكَأَنَّهُ شبه على بَعضهم مِمَّن دون التَّابِعين، فَذكره فِي حَدِيث النَّهْي عَن ثمنه. وَالله أعلم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن أبي إِسْحَاق عَن عمرَان بن أبي أنس: " أَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا ".

(3/353)


وَهَذَا إِن ثَبت عَن ابْن إِسْحَاق فَهُوَ لم يقل: " أخبرنَا عمرَان "، وَلَكِن قَالَ: " عَن عمرَان "، وَهُوَ مَشْهُور بالتدليس، ثمَّ عمرَان لم يدْرك عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَهُوَ مُنْقَطع.
وروى عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه ذكره عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ (وَهَذِه) الرِّوَايَة أَيْضا مُنْقَطِعَة.
ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - بِخِلَافِهِ؛ فَإِنَّهُ خطب، فَأمر بقتل الْكلاب، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله -: " فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله قِيمَته ".
وَرُوِيَ عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو: " أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش ". وَهَذَا مُرْسل، مَوْقُوف، وَابْن جريج لم يسمع من عَمْرو بن شُعَيْب، كَذَا قَالَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.

(3/354)


وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جساس عَن عبد الله بن عَمْرو، وَزَاد: " فِي كلب الزَّرْع بفرق من طَعَام، وَفِي كلب الْحَرْث فرق من تُرَاب، وَحقّ على الَّذِي قَتله أَن يُعْطي، وَحقّ على صَاحب الْكَلْب أَن يَأْخُذ مَعَ مَا نقص من الْأجر ".
" وَإِسْمَاعِيل بن جساس لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، وفال البُخَارِيّ: " لم يُتَابع عَلَيْهِ ". ثمَّ هَذَا مُقَابل بِمَا رَوَاهُ هَيْثَم عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن / عبد الله بن عَمْرو " قَالَ نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي "، وَذكر الحَدِيث. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (112) :

وَيجوز السّلم فِيمَا يكون عَام الْوُجُود فِي مَحَله، وَإِن لم يكن مَوْجُودا فِي وَقت عقده، وَفِيمَا بعده إِلَى مَحَله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا يجوز ".
لنا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي التَّمْر السّنة، والسنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلف فليسلف فِي كيل

(3/355)


مَعْلُوم، وَوزن مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي الثِّمَار السنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله -: أَسْلمُوا فِي الثِّمَار فِي كيل مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن مُحَمَّد بن أبي مجَالد، قَالَ: " اخْتلف أَبُو بَرزَة، وَعبد الله بن شَدَّاد فِي السّلم، فأرسلوني إِلَى ابْن أبي أوفى

(3/356)


رَضِي الله عَنْهُم - فَسَأَلته فَقَالَ: كُنَّا نسلم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبر، وَالشعِير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر إِلَى قوم مَا هُوَ عِنْدهم، قَالَ: وَسَأَلنَا ابْن أَبْزَى، فَقَالَ: مثل ذَلِك "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
استدلوا بِحَدِيث حَكِيم بن حزَام: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك "، وَإِنَّمَا ورد ذَلِك فِي بيع الْأَعْيَان، وَقد أخرجته فِي هَذَا الْكتاب.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن رجل نجراني عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن رجلا أسلف فِي نخل، فَلم تخرج تِلْكَ السّنة شَيْئا؛ فاختصما إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " بِمَ تستحل مَاله؟ أردد عَلَيْهِ مَاله "، ثمَّ قَالَ: " لَا تسلفوا فِي النّخل حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه ".
وَهَذَا إِن سلم من الرجل النجراني، فَإِنَّمَا ورد فِي ثَمَرَة نخل

(3/357)


بِعَينهَا، فَالْمُرَاد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيع الْأَعْيَان، وَالله أعلم، وَعبر بالسلف، أَو السّلم عَن البيع، وَبيع عين الثَّمَرَة قبل ظُهُورهَا لَا تجوز، وَالسّلم الْمُتَعَلّق بِالْعينِ لَا يجوز بِالْإِجْمَاع. وَالله أعلم.
وَعَن أبي البخْترِي قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن السّلم فِي النّخل، فَقَالَ: نهى عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَن بيع التَّمْر حَتَّى يصلح، وَنهى عَن (الْوَرق بِالذَّهَب نساً) بناجز "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بيع الْعين. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (113) :

وَيصِح السّلم حَالا، كَمَا يَصح مُؤَجّلا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يَصح ".
رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ من أَعْرَابِي جزوراً بِتَمْر، وَكَانَ يرى أَن التَّمْر عِنْده، فَإِذا بعضه عِنْده، وَبَعضه لَيْسَ عِنْده، فَقَالَ لَهُ: هَل لَك أَن تَأْخُذ بعض

(3/358)


تمرك، وَبَعضه إِلَى الْجذاذ، فَأبى، فاستلف لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمره، فَدفعهُ إِلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وروى هَذَا الحَدِيث الإِمَام أَبُو سهل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الصعلوكي بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا قَالَت: " ابْتَاعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جزوراً من أَعْرَابِي بوسق من تمر الذَّخِيرَة، وَهِي الْعَجْوَة، قَالَت فجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى منزله، فالتمس التَّمْر فَلم يجده، فَقَالَ للأعرابي: لتفقه يَا عبد الله، إِنَّا ابتعنا مِنْك جزوراً بوسق من تمر الذَّخِيرَة، فالتمسناه، فَلم نجده، قَالَ الْأَعرَابِي: واغدراه، قَالَت: فوجزه النَّاس، وَقَالُوا: تَقول هَذَا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: دَعوه؛ فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا، قَالَت: فَلَمَّا لم يفهم عَنهُ أرسل إِلَى خَوْلَة بنت حَكِيم أَن أقرضينا من تمر الذَّخِيرَة حَتَّى يكون عندنَا؛ فنقضيك، فَقَالَت: نعم، فَأرْسل رَسُولا يَأْخُذهُ، وَقَالَ للأعرابي: انْطلق مَعَه حَتَّى يؤتيك، فَانْطَلق الْأَعرَابِي، فَأخذ التَّمْر، ثمَّ مر برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ

(3/359)


جَالس بَين أَصْحَابه، فَقَالَ: جَزَاك الله خيرا، وَبَارك عَلَيْك، فقد أوفيت، وأطبت، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُولَئِكَ خِيَار عباد الله يَوْم الْقِيَامَة، الموفون الطيبون ".
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سهل - رَحمَه الله -: " هَذَا الحَدِيث يجمع فنوناً من الْأَحْكَام، وعيوناً من آدَاب الْإِسْلَام: مِنْهَا جَوَاز ابتياع الشريف من المشروف / والمتبوع من التَّابِع، وَمِنْهَا حسن التِّجَارَة، وارتفاع قدرهَا، وعلو أمرهَا. وَمِنْهَا أَن الإِمَام يَلِي البيع وَالشِّرَاء بِنَفسِهِ، وَلَا يكون ذَلِك وَاضِعا من قدره، وَمِنْهَا صِحَة ابتياع الْحَيَوَان بالمصوق من التَّمْر غير الْمُؤَجل، وَهَذَا أصل فِي جَوَاز السّلم الْحَال خلافًا على الْعِرَاقِيّ حِين أَبَاهُ محتجاً بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم، وَأجل مَعْلُوم.
وَالْحَدِيثَانِ متفقان، وعَلى مَذْهَب التَّأْلِيف متسقان، وَلَكِن الحَدِيث الَّذِي رَوَوْهُ، الْغَرَض مِنْهُ أَن يكون الْأَجَل مَعْلُوما؛ إِذْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورد الْمَدِينَة وهم يسلفون إِلَى آجال مُتَفَاوِتَة، وأوقات غير مَعْلُومَة؛ فنهاهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، وعرفهم أَن الْأَجَل الَّذِي يَصح بِهِ هَذَا العقد على حكم الدّين والشريعة، وَهُوَ الْأَجَل الْمَعْلُوم دون أَن يقْصد قصد إبِْطَال مَا هُوَ أعرف من الْأَجَل الْمَعْلُوم الْمُقْتَضى حَقه فِي فَور العقد مَعَ امْتنَاع التَّأْخِير والبعد.
وَالْأَصْل فِي البيع كُله الْحُلُول والنقد، وَالْأَجَل ترخيص وترفيه، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن لَا بيع يمْتَنع عَن جَوَازه لكَونه نَقْدا، وبيوع كَثِيرَة تمْتَنع عَن الصِّحَّة للأجل.

(3/360)


وَمِمَّا يقرب الْأَمر فِيهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كيل مَعْلُوم " قصدا مِنْهُ إِلَى أَن يكون الْمِقْدَار، والمخبر عَن الكمية مَعْلُوما، لَا على وَجه إِفْرَاد الْكَيْل بِالْجَوَازِ دون الْوَزْن، وكل مَكِيل بِالْوَزْنِ جَائِز اتِّفَاقًا، وإجماعاً؛ لِأَن الْوَزْن أحْصر، وبالكمية أخبر، فَلهَذَا أجَاز جَوَازه، كَذَلِك الْحُلُول.
فَإِن قيل: مَا أمكن فِيهِ الْأَجَل، فشرطه التَّأْجِيل، قلت: وَمَا أمكن فِيهِ الْكَيْل، فشرطه الْكَيْل، فَإِن قَالَ: الْوَزْن يحل مَحَله، وَيفْعل فعله، وَيزِيد عَلَيْهِ فِي الْحصْر، والإنباء عَن الْقدر، قلت: كَذَلِك الْحَال يحل مَحل الْأَجَل، ويربي عَلَيْهِ؛ إِذْ غَايَته مفضي إِلَيْهِ.
فَإِن قيل: فالكتابة، قلت لَهُ: أَنْت تجوزها حَالَة، وَأما نَحن فَإنَّا خصصنا الْبيُوع الْمُمْتَنع كثير مِنْهَا عَن الْأَجَل؛ لجوازه حَالا مَا جَازَ مِنْهُ مُؤَجّلا، فَأَما الْكِتَابَة فالغرض فِيهِ الْعتْق، وَالْعَمَل فِيهِ على الرِّفْق المخلص من الرّقّ؛ إِذْ هُوَ يُعَامل مَاله بِمَالِه، وَيَأْخُذ عَن عَبده كسب يَده. وَلَوْلَا مَا أحذره من الإملال الْجَارِي بالإقلال لملأت الأطباق فِي هَذَا الْمَعْنى بِتَوْفِيق الله، وَمِنْه.
وَمِنْهَا جَوَاز تَسْمِيَة الطَّعَام بإسمين: أَحدهمَا أشهر من الآخر، وَإِذا خَافَ الْحَكِيم ذهَاب الْمخبر عَن مقْصده بالإسم الْغَرِيب عرفه بالإسم الْمَشْهُور، وَذَلِكَ قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " تمر الذَّخِيرَة وَهِي الْعَجْوَة ".
وَمِنْهَا حسن ابتياع الشَّيْء بالواقع فِي الذِّمَّة على حسن الظَّن

(3/361)


بالموجود عِنْده؛ ليقضى مِنْهُ مَا فِي ذمَّته، وَهَذَا رَسُول الله رب الْعَالمين يبْتَاع بِتَمْر الذَّخِيرَة، وَيَأْتِي الْأَعرَابِي إِلَى منزله؛ ليوفيه.
(وَمِنْهَا اسْتِصْحَاب الْغَرِيم لقَضَاء الدّين وَالْغُرْم كاستصحاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَعرَابِي إِلَى منزله للوفاء.
وَمِنْهَا) الرئيس الْكَرِيم الْكَبِير، والجليل الخطير يلْتَمس فِي منزله مَا خَلفه فِيهِ، فَإِن لم يجده، لم يعقبه بعتب، أَلا ترى إِلَى عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - تَقول: " فالتمس التَّمْر، فَلم يجده ".
وَمِنْهَا أَن لَا عتب على الْإِنْسَان فِي إخلاف الظَّن، ووجودج الْأَمر بِغَيْر التَّقْدِير الَّذِي فِي نَفسه.
وَمِنْهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعْصم فِي أَمر الدّين، والإخبار عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَما فِي أَمر الدُّنْيَا فَإِنَّهُ بشر، كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (" إِنَّمَا أَنا بشر أغضب كَمَا تغضبون ") وكما قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نَهَاهُم عَن التابير، فشاصت النخيل، فشكوا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإلَى، وَمَا كَانَ من أَمر دنياكم فإليكم "، أَو كَمَا قَالَه. وَمِنْهَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى بدر أَرَادَ أَن ينزل

(3/362)


منزلا، فَقَالُوا لَهُ: " يَا رَسُول الله، إِن كَانَ هَذَا عَن وَحي فالسمع، وَالطَّاعَة، / وَلَا اخْتِيَار على أَمر الله، وَإِن كَانَ هَذَا عَن رَأْي فَمَا هَذَا منزل مكيدة، فطوى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَمِنْهَا أَن الْمُبْتَاع يعرض لبَائِعه بالاستقالة وَالْإِقَالَة إِذا لم يجد قَضَاء، وَهُوَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا عبد الله أَنا ابتعنا مِنْك جزوراً بوسق من تمر الذَّخِيرَة، وَنحن نرى أَنه عندنَا، فالتمسناه، فَلم نجده ".
وَمِنْهَا جَوَاز تَسْمِيَة من لم يعرف اسْمه، وكنيته بِعَبْد الله؛ إِذْ الْخلق عبيد الله، وَبِهَذَا يعلم صِحَة المعاقدة، وَتحمل الشَّهَادَة على الْأَعْيَان للمشاهدة مَعَ الِاسْتِغْنَاء عَن الْأَنْسَاب، والكنى، والألقاب خلاف هاجس الهوس الشايع فِي هَذَا الزَّمَان العجيب أمره من طلب أثر بعد عين.
وَمِنْهَا استغاثة الملهوف، وندبة المضعوف وَهُوَ قَول الْأَعرَابِي: " واغدراه " حِين تصور الْأَمر بِغَيْر صورته، وَقدر غدراً وَاقعا بِهِ، ومكراً جَامعا لَهُ.

(3/363)


وَمِنْهَا أَن اتِّبَاع الرئيس، وَأَصْحَاب الإِمَام إِذا رَأَوْا مُنْكرا غاضاً عَن مَحَله بَادرُوا الغاض بالفض، والغض، وَهُوَ قَول أم الْمُؤمنِينَ - رَضِي الله عَنْهَا -: " فزجره النَّاس ".
وَمِنْهَا لطف الإِمَام فِي كف أَتْبَاعه عَن المتألم، ورد أنصاره عَن رد المتظلم حَتَّى يَتَّضِح سَبيله، وَلَا يقر بالظلم قبله، وَقَالَ: " دَعوه ". ثمَّ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا "، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (لصَاحب الْحق يَد) ، ولسان "، فيده تنَاول مَاله مِمَّن يحتجبه، وَأخذ مثله مَعَ فَوت عينه. وَلَا يذهب بك عَن الصَّوَاب قَول من يَقُول: " رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: أد إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك "، إِذْ معنى هَذَا القَوْل أَلا يُقَابل الْأَخْذ بِمثلِهِ بعد وُصُوله إِلَى حَقه، وَتَنَاول مَاله من تَحت يَده، فيده فِي الْعَدْوى عَلَيْهِ، والتزامه لِلْخُرُوجِ من حَقه إِذْ الْيَد يعبر بهَا عَن الْقُدْرَة، وَالْقُوَّة، والبسط، والجارحة، وَالنعْمَة، وَالصّفة الْمَخْصُوصَة، وَهَذَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي على تَقْدِيره فِيهِ حِين وضع الْأَمر أَنه يمْنَع مَاله عَن بَيْعه.

(3/364)


ثمَّ قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لتفقه، يَا عبد الله "، هَذَا يدل على حسن التّكْرَار، وصواب التَّقْدِير، وَمحل التَّحْرِير بترديد الْكَلَام، وإعادة النظام لتَفَاوت النَّاس فِي الأفهام، فَمن بَين يدْرك اللحظة من اللَّفْظَة من بَين قوم لَا يعْرفُونَ (لَا) إِلَّا ب (لَا) .
سَمِعت الشَّيْخ أَبَا الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي مجَالِس نظرة يَوْم الْخَمِيس، وَقد ألح عَلَيْهِ ملح، فَقَالَ: إِن هَهُنَا أَقْوَامًا لَا يعْرفُونَ " لَا " إِلَّا ب " لَا "، فَهَذَا رَسُول رب الْعِزَّة يُكَرر على الْأَعرَابِي القَوْل؛ ليفقه الْعلم؛ إِذْ لَيْسَ كل من يسمع يفقه، وَهَذَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " نضر الله أمرا سمع منا مقَالا، فوعاه، فأداه كَمَا سَمعه، فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ "، فَقَالَ الْأَعرَابِي ثَانِيًا: " واغدراه " فزجره النَّاس "، وَهَذَا يدل على أَن الاستكفاف على الْحَالة لَا توجب كفا على التَّأْبِيد، وَأَن الْمُسِيء إِذا عَاد إِلَى سوء القَوْل قوبل بِالرَّدِّ من الْفِعْل، أَلا ترى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم: " دَعوه " فَلَمَّا عَاد إِلَى قَوْله، عَادوا إِلَى زَجره، وَلم يكن النَّهْي الأول ناهياً عَن هَذِه الْحَالة، لِأَنَّهُ لَو نَهَاهُم عَنْهَا لكانوا عصاة بارتكاب النَّهْي، وحاشاهم أَن يَكُونُوا بِهَذِهِ الصّفة، وَلَو كَانُوا للحقتهم الموعظة، والمزجرة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وروينا حَدِيث طَارق بن عبد الله فِي ابتياع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جملا بِكَذَا وَكَذَا، صَاعا من تمر خَارج

(3/365)


الْمَدِينَة وَأَخذه الْجمل، ورجوعه إِلَى الْمَدِينَة، ثمَّ إِنْفَاذه بِالتَّمْرِ. وَهُوَ مَذْهَب عَطاء بن أبي رَبَاح الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ آخرا فِي جَوَاز السّلم فِي الْحَال ".
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْمَدِينَة، وهم يسلفون السنتين، وَالثَّلَاث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) /: من سلف فِي تمر، فليسلف فِي كيل مَعْلُوم، وَوزن مَعْلُوم، إِلَى أجل مَعْلُوم ".
(وَقَوله: " إِلَى أجل مَعْلُوم "، أَي: إِذا (كَانَ مُؤَجّلا يجب أَن) يكون الْأَجَل مَعْلُوما غير مَجْهُول، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الْحَال، يُوضحهُ الْجمع بَين الْكَيْل، وَالْوَزْن فِي هَذَا الحَدِيث، وبالإجماع لَا يلْزم اجْتِمَاعهمَا، إِنَّمَا يلْزم أَحدهمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (114) :

وَالسّلم فِي الْحَيَوَان جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه لَا يجوز ".

(3/366)


وَدَلِيلنَا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد سبق ذكرنَا لَهُ فِي مَسْأَلَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَذكرنَا أَيْضا حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهم لَهُم، وأجبنا (عَنهُ) بِمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْكتاب.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة فِي ثوب وَاحِد؛ لأجل أَن تصفها لزَوجهَا حَتَّى كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا، وَنهى إِذا كُنَّا ثَلَاثَة أَن يَتَنَاجَى اثْنَان دون وَاحِد أجل أَن يحزنهُ حَتَّى يخْتَلط بِالنَّاسِ ".
وَفِيه دَلِيل على أَن الْحَيَوَان يضْبط بِالصّفةِ خلاف مَا زعم أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - من أَنه لَا يضْبط بِالصّفةِ.
وَرُوِيَ عَن أبي الحسان الْأَعْرَج، قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر، وَابْن

(3/367)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - عَن السّلم فِي الْحَيَوَان، فَقَالَ: إِذا سمي الْأَسْنَان، والآجال، فَلَا بَأْس ".
وَعَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: " أسلم عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فِي وصف "، قَالَ: " وَكَانَ الشّعبِيّ لَا يرى بَأْسا بالسلم فِي الْحَيَوَان ".
وَعَن يُونُس عَن الْحسن: " أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا فِي السّلف فِي الْحَيَوَان إِذا كَانَ شَيْئا مَعْلُوما إِلَى أجل مَعْلُوم "، وَقد مضى سَائِر الْآثَار فِيهَا فِي أول كتاب الْبيُوع.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عمار الذَّهَبِيّ، قَالَ: " رَأَيْت سعيد بن جُبَير بِمَكَّة ينْهَى عَن السّلم فِي الْحَيَوَان، فَقلت: أَلَيْسَ كنت

(3/368)


بِأَذربِيجَان سنتَيْن؟ يعْملُونَ بذلك، لَا تنه عَنهُ، فَقَالَ: نهى عَنهُ حُذَيْفَة ". (سعيد لم يدْرك حُذَيْفَة بن سعيد.
وروى عَنهُ، وَعَن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنه كره السّلف) فِي الْحَيَوَان ". وَسَعِيد، وَإِبْرَاهِيم لم يدركا ابْن مَسْعُود.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَيَزْعُم الشّعبِيّ الَّذِي هُوَ أكبر سنا من الَّذِي روى عَنهُ - يَعْنِي عَن ابْن مَسْعُود - الْكَرَاهَة؛ أَنه إِنَّمَا أسلف لَهُ فِي لقاح إبل بِعَيْنِه، وَهَذَا مكروة عندنَا، وَعند كل أحد، هَذَا بيع الملاقيح، والمضامين، أَو هما ". قَالَ الشَّافِعِي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ، فِي الْقَدِيم -: وَقد يكون ابْن مَسْعُود كرهه تنزهاً عَن التِّجَارَة فِيهِ، لَا على تَحْرِيمه "، ثمَّ قد روينَا عَن الْقَاسِم، قَالَ: أسلم عبد الله فِي وصفاء ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه

(3/369)


ذكر فِي أَبْوَاب الرِّبَا: " أَن يسلم فِي سنّ "، رُوِيَ ذَلِك عَن المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عمر، وَهَذَا إِسْنَاد مُنْقَطع. وَالله أعلم.

(3/370)


ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي، وَأَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - من كتاب الرَّهْن، والتفليس، وَالْحجر، وَالصُّلْح، وَالْحوالَة، وَالضَّمان، وَالشَّرِكَة، وَالْوكَالَة، وَالْإِقْرَار، وَالْعَارِية، وَالْغَصْب، وَالْمُسَاقَاة، وإحياء الْموَات، وَالْوَقْف، وَالْهِبَة، واللقطة مِمَّا ورد فِيهِ خبر، أَو أثر

مَسْأَلَة (115) :

تَخْلِيل الْخمر لَا يجوز، وَلَا يحل تنَاوله، فَإِن صَار بِنَفسِهِ خلا، حِينَئِذٍ حل تنَاوله فِي ظَاهر الْمَذْهَب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تَخْلِيل الْخمر جَائِز، والخل الْمُتَّخذ مِنْهُ حَلَال تنَاوله ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخمر تتَّخذ خلا، قَالَ: لَا ".

(3/371)


رُوِيَ عَن أسلم مولى عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَن عمر أَتَى بالطلاء، وَهُوَ بالجابية، وَهُوَ يَوْمئِذٍ يطْبخ، وَهُوَ كعقيد الرب، فَقَالَ: إِن فِي هَذَا لشراباً مَا انتهينا إِلَيْهِ، وَلَا تشرب خل خمر أفسدت حَتَّى يُبْدِي الله فَسَادهَا، فَعِنْدَ ذَلِك يطيب الْخلّ، وَلَا باس على امْرِئ إِن ابْتَاعَ خلا وَحده مَعَ أهل الْكتاب مَا لم يعلم أَنهم تعمدوا إفسادها بعد مَا عَادَتْ خمرًا ".
قَوْله: " أفسدت " يَعْنِي، عولجت، وَلَا نعلم أحدا من الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - خَالفه.
استدلوا بِمَا روى الْفرج بن فضَالة عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا: _ " أَنَّهَا كَانَت لَهَا شَاة تحلبها، ففقدها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا فعلت شاتكم؟ فَقلت: مَاتَت، قَالَ: أَفلا انتفعتم بإهابها؟ قلت: إِنَّهَا ميتَة، قَالَ: فَإِن دباغها يحل كَمَا يحل الْخلّ الْخمر "، / قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " تفرد بِهِ الْفرج بن فضَالة عَن يحيى، والفرج مِمَّن لَا يحْتَج بحَديثه، وَلم يَصح تَحْلِيل خل الْخمر من وَجه ".
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن بكار عَن الْفرج بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ

(3/372)


فرج: " يَعْنِي أَن الْخمر إِذا تَغَيَّرت، فَصَارَت خلا حلت "، فعلى هَذَا التَّفْسِير الَّذِي فسره - وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث - يرْتَفع الْخلاف، ونقول بِهِ.
قَالَ عَمْرو بن عَليّ: " كَانَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي لَا يحدث عَن فرج بن فضَالة، وَيَقُول: حدث عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَحَادِيث مُنكرَة مَقْلُوبَة؛ فَقَالَ البُخَارِيّ: الْفرج بن فضَالة، أَبُو فضَالة مُنكر الحَدِيث ".
وَرُوِيَ عَن الْمُغيرَة بن زِيَاد عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أفقر بَيت من أَدَم فِيهِ خل، وَخير خلكم خل خمركم ".

(3/373)


قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث واه شَاذ، لَا أعلم أَنا كتبناه إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، والمغيرة بن زِيَاد الْموصِلِي يُقَال لَهُ: أَبُو هِشَام المكفوف صَاحب الْمَنَاكِير، وَيُقَال إِنَّه حدث عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَأبي الزبير بجملة من الْمَنَاكِير، وَقد حدث عَن عبَادَة بن نسي بِحَدِيث مَوْضُوع، فَكيف يُعَارض بِمثل هَذِه الرِّوَايَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المحفوظة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّهْي عَن تَخْلِيل الْخمر؟ وَلم يزل أهل حرم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنكرُونَ ذكر خل الْخمر، سَمِعت أَبَا الْحسن على بن عِيسَى الْحِيرِي يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْحَاق: أخبرنَا الْعَبَّاس يَقُول: سَمِعت قُتَيْبَة بن سعيد يَقُول: قدمت الْمَدِينَة أَيَّام مَالك، فتقدمت (الى فامي) ، فَقلت:
عنْدك خل خمر؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله فِي حرم رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثمَّ قدمت بعد موت مَالك، فَذكرت لَهُم، فَلم يُنكر عَليّ ".
وَرُوِيَ عَن أم حِرَاش قَالَت: " أتيت عليا - رَضِي الله عَنهُ - يصطبغ فِي خل خمر "، هَذَا وَإِن ثَبت فهم يسمون الْخلّ الْمُتَّخذ من الْعِنَب خل خمر، وَذَلِكَ شَائِع بَينهم.
وَرُوِيَ عَن مسربل الْعَبْدي عَن أمه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " لَا بَأْس بخل الْخمر "، وَإِسْنَاده مَجْهُول مظلم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (116) :

وزيادات الرَّهْن الْمُنْفَصِلَة الْحَادِثَة بعد عقد الرَّهْن تخلص

(3/374)


للرَّاهِن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا دَاخِلَة فِي عقد الرَّهْن ".
(عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يغلق الرَّهْن لَهُ غنمه، وَعَلِيهِ غرمه "، قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا إِسْنَاد حسن مُتَّصِل " وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ") .
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْن يركب ويحلب بعلفه "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرج أَيْضا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لبن الدّرّ يحلب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَالظّهْر يركب إِذا كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب ويحلب النَّفَقَة، كَذَلِك رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك، وَيحيى الْقطَّان عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ.
وَرَوَاهُ هشيم، وسُفْيَان (بن حبيب) عَن زَكَرِيَّا، وَزَاد فِي مَتنه " الْمُرْتَهن "، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ لوجوه.

(3/375)


أَحدهَا: أَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي رَوَاهُ عَن هشيم، وَلَفظ الحَدِيث: " إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الَّذِي رهن عَلفهَا، وَلبن الدّرّ يشرب، وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَته، ويركب "، وَلم يذكر الْمُرْتَهن فِيهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحفاظ كَابْن الْمُبَارك، وَأبي نعيم، وَيحيى الْقطَّان لم يذكرُوا هَذِه اللَّفْظَة، فتصويبهم أولى.
الثَّالِث: أَن الشّعبِيّ رَاوِي الحَدِيث، وَقد أفتى بِخِلَاف مذهبكم، حَيْثُ قَالَ: " لَا ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء "، فِيمَا يرويهِ الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ، وَفِيمَا يرويهِ الثَّوْريّ أَيْضا عَن زَكَرِيَّا عَنهُ أَنه قَالَ فِي رجل ارْتهن جَارِيَة، فأرضعت لَهُ، قَالَ: " يغرم لصَاحب الْجَارِيَة قيمَة (الرَّضَاع للبن) ".

(3/376)


وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْن مركوب ومحلوب "، قَالَ أَبُو عبد الله _ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، كَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة، / وَأَبُو عوَانَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. وَرَوَاهُ وَكِيع عَنهُ، فَوَقفهُ على أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: " كَانَ معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول فِي النّخل إِذا رَهنه، فَتخرج فِيهِ ثَمَرَة، فَهُوَ من الرَّهْن "، وَهَذَا مُنْقَطع بَين عَمْرو، ومعاذ، ثمَّ قد رُوِيَ عَن معمر عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَن معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِيمَن ارْتهن نخلا مثمراً، فليحتسب الْمُرْتَهن ثَمَرَتهَا من رَأس المَال "، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مطرف بن مَازِن عَن معمر. وَالله أعلم.

مَسْأَلَة (117) :

وَالرَّهْن أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن إِذا تلف لم يكن عَلَيْهِ ضَمَان , وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه مَضْمُون بِالدّينِ بِقدر قِيمَته ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يغلق الرَّهْن من صَاحبه الَّذِي رَهنه، لَهُ غنمه، وَعَلِيهِ غرمه "، قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " غنمه: زِيَادَته، وغرمه: هَلَاكه ونقصانه ".

(3/377)


رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن شَبابَة، وَعبد الحميد بن سُلَيْمَان أخي فليح، وَأبي قَتَادَة عبد الله بن وَافد الْحَرَّانِي، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ابْن أبي ذيب يذكر أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
وروى الشَّافِعِي عَن الثِّقَة عَن يحيى بن أبي أنيسَة - عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ 0 عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله، أَو مثل مَعْنَاهُ. وَقد روينَا من حَدِيث زِيَاد بن سعد عَن الزُّهْرِيّ مُتَّصِلا، وَهَذَا حَدِيث حسن، وَرُوِيَ عَن مَالك مَرْفُوعا مُتَّصِلا، وَالْمَحْفُوظ عَنهُ مَا فِي الْمُوَطَّأ.

(3/378)


استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْن بِمَا فِيهِ "، قَالَ أَبُو حَازِم الْحَافِظ: " تفرد بِهِ حسان بن إِبْرَاهِيم الْكرْمَانِي "، قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وَهُوَ مُنْقَطع بَين عَمْرو بن دِينَار، وَأبي هُرَيْرَة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا (بِمثلِهِ) ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " لَا يثبت هَذَا عَن حميد، وكل من بَينه وَبَين شَيخنَا ضعفاء، وهم أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب عَن عبد الْكَرِيم بن روح عَن هِشَام بن زِيَاد.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر واه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أُميَّة عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ. قَالَ عَليّ ابْن عمر: " إِسْمَاعِيل بن أبي أُميَّة هَذَا يصنع الحَدِيث، وَهَذَا بَاطِل عَن قَتَادَة عَن حَمَّاد. وَالله أعلم.
وأصل هَذِه الْمَسْأَلَة لَهُم حَدِيث مُرْسل، وَفِيه من الوهن مَا فِيهِ، رُوِيَ عَن مُصعب بن ثَابت قَالَ: " سَمِعت عَطاء يحدث أَن رجلا

(3/379)


رهن فرسا، فنفق فِي يَده، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْمُرْتَهن: ذهب حَقك "، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَنهُ مرّة، وَقيل عَنهُ عَن عَطاء عَن الْحسن عَن النَّبِي -.
(ومرسلات الْحسن ضَعِيفَة، وصحيح عَن عَطاء) أَنه قَالَ فِيمَا ظهر هَلَاكه أَمَانَة، وَهُوَ لَا يُخَالف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا يكون مثبتاً عِنْده، وَقيل عَن عَطاء: " يترادان الْفضل "، وكل ذَلِك يُخَالف مَا رُوِيَ عَنهُ فِي حَدِيث الْفرس (وَقد يكون الْفرس أقل قيمَة من الْحق، وَأكْثر مِنْهُ، وَمثله، وَلم يرو أَنه سَأَلَ عَن قيمَة الْفرس) . وَرُوِيَ فِي هَذِه الْقِصَّة أَنه قَالَ: " الرَّهْن بِمَا فِيهِ "، وهم يخالفون إِذا كَانَ فضل فِي الدّين على مَال الرَّهْن، فَلَا يجعلونه سَاقِطا.
وَرُوِيَ عَن أبي الْعَوام (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عبيد بن

(3/380)


عُمَيْر أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -) قَالَ فِي الرجل يرتهن الرَّهْن فيضيع، قَالَ: " إِن كَانَ أقل مِمَّا فِيهِ رد عَلَيْهِ تَمام حَقه، وَإِن كَانَ أَكثر فَهُوَ أَمِين "، وَأَبُو الْعَوام هُوَ عمرَان بن دَاوُد، وَهُوَ مُنْفَرد بِهِ، وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث لَا يحتجون بِهِ، لسوء حفظه.
وَرُوِيَ عَن الثَّوْريّ عَن لَيْث، أَو مَنْصُور عَن الحكم عَن عَليّ أَنه قَالَ فِي الرَّهْن: " يترادان الْفضل "، وَهَذَا مُرْسل مَوْقُوف، وَرُوِيَ ذَلِك عَنهُ من وُجُوه أخر، وَرُوِيَ عَنهُ: " إِذا كَانَ فِي الرَّهْن فضل فَإِن أَصَابَته جَائِحَة، فالرهن بِمَا فِيهِ، وَإِن لم تصبه جَائِحَة، فَإِنَّهُ يرد الْفضل ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (118) :

وَإِذا أفلس المُشْتَرِي بِالثّمن، وَوجد البَائِع / عين مَاله فِي يَده، كَانَ أَحَق بِهِ من سَائِر غُرَمَائه، وَله أَن يرتجعه، وينقض البيع فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " البَائِع أُسْوَة الْغُرَمَاء، لَيْسَ لَهُ نقض البيع، وَلَا ارتجاع الْمَبِيع ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل قد أفلس، أَو

(3/381)


إِنْسَان قد أفلس، فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره " اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أفلس الرجل، فَوجدَ غَرِيمه مَتَاعه بِعَيْنِه، فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء ".
وَفِي أُخْرَى عِنْده أَيْضا عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرجل الَّذِي يعْدم إِذا وجد عِنْده الْمَتَاع، وَلم يفرقه: " أَنه لصَاحبه الَّذِي بَايعه ".
وَفِي أُخْرَى عِنْده أَيْضا عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا أفلس الرجل، فَوجدَ الرجل عِنْده سلْعَته بِعَينهَا، فَهُوَ أَحَق بهَا ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْمُعْتَمِر عَن عَمْرو بن خلدَة الزرقي. وَكَانَ قَاضِي الْمَدِينَة حينا - قَالَ: " جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَاحب لنا قد أفلس فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قضى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا رجل مَاتَ، أَو أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا وجده بِعَيْنِه "، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح "، وروى سعيد بن الْمسيب عَن عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قضى بذلك.

(3/382)


وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا، قَالَ: " لَا نعلم أحدا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالف عُثْمَان، وعلياً - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي ذَلِك ".
وروى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ابْن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيّمَا رجل بَاعَ سلْعَة، فَأدْرك سلْعَته بِعَينهَا عِنْد رجل قد أفلس، وَلم يقبض من ثمنهَا شَيْئا، فَهِيَ لَهُ، فَإِن كَانَ قَضَاهُ من ثمنهَا شَيْئا، فَمَا بقى فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء "، تفرد بوصله إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، قَالَ عَليّ بن عمر: " إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش مُضْطَرب الحَدِيث، وَلَا يثبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ مُسْندًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسل ".
وَرَوَاهُ الْيَمَان بن عدي عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا، واليمان ضَعِيف الحَدِيث جدا.
وَرُوِيَ عَن خلاس عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " هُوَ أُسْوَة

(3/383)


الْغُرَمَاء "، خلاس عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - لَيْسَ بِسَمَاع، وَإِنَّمَا أَخذه من صحيفَة، فَهُوَ مُنْقَطع.
وَلَا حَاصِل لقَوْل من يَقُول " لِتَفَرُّد أبي هُرَيْرَة بروايته " لَا أَقُول بِهِ، فكم من حكم فِي الشَّرْع لم يثبت إِلَّا بروايته، وقبلوه مِنْهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَلَا خَالَتهَا "، فأخذنا جَمِيعًا بِهِ، وَلم يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رِوَايَة غَيره. وَلَا يَصح قَوْلهم: " إِنَّا بِالْإِجْمَاع فِي النِّكَاح بِهَذَا الحكم "، بل هُوَ وَاجِب بِالْحجَّةِ عَلَيْهِم، أَن يجْتَمع النَّاس على حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَحده، وَلَا يذهبون فِيهِ إِلَى توهِينه بِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} إِلَى قَوْله {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} ، وَنِكَاح الْمَرْأَة على الْعمة، وَالْخَالَة مِمَّا وَرَاء ذَلِك، هَذَا معنى كَلَام الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَبَعض لَفظه. وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (119) :

وَإِذا امْتنع الْمُوسر من قَضَاء مَا عَلَيْهِ من الدُّيُون فللحاكم أَن يَبِيع

(3/384)


من مَاله مَا يقدر عَلَيْهِ، وَيَقْضِي من ثمنه دُيُون غُرَمَائه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ للْحَاكِم أَن يَبِيع عَلَيْهِ عروضه، وعقاره، وَلكنه يحْبسهُ حَتَّى يَبِيع بِنَفسِهِ ".
رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه، قَالَ: حجر رَسُول الله -
- على معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - مَاله، وَبَاعه فِي دين كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة قَالَ: " كَانَ معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - شَابًّا، حَلِيمًا، سَمحا، من أفضل / شباب قومه، وَلم يكن يمسك شَيْئا، فَلم يزل يدان حَتَّى أغرقه مَاله كُله فِي الدّين، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكلم غرماءه، فَلَو تركُوا أحدا من أجل أحد لتركوا معَاذًا من أجل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَاعَ لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي مَاله - حَتَّى قَامَ معَاذ بِغَيْر شَيْء ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن كَعْب مُرْسلا دون ذكر أَبِيه، وانضم إِلَيْهِ مُرْسل أبي مجلز " أَن غلامين من جُهَيْنَة كَانَ بَينهمَا غُلَام، فَأعتق

(3/385)


أَحدهمَا نصِيبه، فحبسه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَاعَ فِيهِ غنيمَة لَهُ ".
وروى مَالك عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن (بن دلاف) عَن أَبِيه " أَن رجلا من جُهَيْنَة كَانَ يَشْتَرِي الرَّوَاحِل، فيغال بهَا، ثمَّ يسْرع السّير، فَيَسْبق الْحَاج، فأفلس، فَرفع أمره إِلَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " أما بعد، أَيهَا النَّاس، فَإِن الأسيفع أسيفع جُهَيْنَة رَضِي من دينة، وأمانته أَن يُقَال: سبق الْحَاج، إِلَّا أَنه قد دَان معرضًا فَأصْبح قد دين بِهِ، فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين، فليأتنا بِالْغَدَاةِ، نقسم مَاله بَين غُرَمَائه، وَإِيَّاكُم وَالدّين، فَإِن أَوله هم، وَآخره حَرْب ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (120) :

يجوز الْحجر على الْبَالِغ الْعَاقِل بالسفه، وبالدين مَعَ التَّفْلِيس

(3/386)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} ، وَقَالَ: {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن أنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} ، وَقَالَ: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ}
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {وابتلوا الْيَتَامَى} يَعْنِي: اختبروهم، وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} يَعْنِي إِن ءانستم مِنْهُم إصلاحاً فِي أَمْوَالهم فادفعوها إِلَيْهِم، قَالَ: " يَقُول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: اختبروا الْيَتَامَى عِنْد الْحلم، فَإِن عَرَفْتُمْ مِنْهُم الرشد فِي حَالهم، والإصلاح فِي أَمْوَالهم فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم، وَأشْهدُوا عَلَيْهِم ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن يزِيد بن هُرْمُز أَن نجدة كتب إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يسْأَله عَن خلال، فَذكر الحَدِيث، قَالَ: " وكتبت مَتى يَنْقَضِي يتم الْيَتِيم، ولعمري، إِن الرجل لتشيب لحيته، وَإنَّهُ لضعيف الْأَخْذ، ضَعِيف الأعطاء، فَإِذا أَخذ لنَفسِهِ من صَالح مَا يَأْخُذ النَّاس فقد ذهب عَنهُ اسْم الْيَتِيم ".

(3/387)


وَعَن الْمُغيرَة قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن الله تبَارك وَتَعَالَى حرم عَلَيْكُم عقوق الْأُمَّهَات، ووأد الْبَنَات، ومنعاً وهات، وَكره لكم قيل وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال، وإضاعة المَال "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن كَعْب بن مَالك "، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجر على معَاذ - رَضِي الله عَنهُ - مَاله، وَبَاعه فِي دين عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن ابْن الزبير قَالَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " لأحجرن عَلَيْهَا "، الحَدِيث بِطُولِهِ فِي هجرها إِيَّاه لذَلِك، ثمَّ رِضَاهَا عَنهُ.
وروى أَبُو يُوسُف القَاضِي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه أَن عبد الله بن جَعْفَر أَتَى الزبير - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " إِنِّي اشْتريت بيع كَذَا وَكَذَا، (وَإِن عليا - رَضِي الله عَنهُ - يُرِيد أَن يَأْتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فيسأله أَن يحْجر عَليّ فِيهِ "، فَقَالَ الزبير: " أَنا شريكك فِي البيع "، وأتى على عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: إِن ابْن جَعْفَر اشْترى بيع كَذَا وَكَذَا) فاحجر عَلَيْهِ "، فَقَالَ الزبير: " وَأَنا شَرِيكه فِي البيع "، فَقَالَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: " كَيفَ أحجر على رجل فِي بيع شَرِيكه فِيهِ الزبير؟ "، قيل: تفرد بِهِ أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَقد تَابعه أَبُو الزبير

(3/388)


الْمَدِينِيّ قاضيهم عَن هِشَام بِبَعْض مَعْنَاهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - /: " فعلي - رَضِي الله عَنهُ - لَو كَانَ الْحجر بَاطِلا قَالَ: لَا يحْجر على بَالغ حر، وَكَذَلِكَ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - لَا يطْلب الْحجر إِلَّا وَهُوَ يرَاهُ، وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنهُ - بل كلهم يعرف الْحجر فِي حَدِيث صَاحبك ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا عَائِشَة، وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَمَا سبق ذكره. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (121) :

سنّ الْبلُوغ خمس عشرَة سنة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِي الْغُلَام سبع عشرَة، وَفِي الْجَارِيَة ثَمَانِي عشرَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى نَافِع، قَالَ: " حَدثنِي ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عرضه يَوْم أحد لِلْقِتَالِ، قَالَ: وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة، فَلم يجزني، ثمَّ قَالَ: عرضني يَوْم الخَنْدَق، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة، فأجازني، قَالَ نَافِع: " فَقدمت على عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ إِذْ ذَاك خَليفَة، فَحَدَّثته هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن هَذَا الْحَد بَين الصَّغِير وَالْكَبِير، ثمَّ كتب إِلَى عماله أَن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرَة سنة، وَمَا كَانَ دون ذَلِك أَن يَجْعَلُوهُ مَعَ الْعِيَال "، اتفقَا على صِحَّته.

(3/389)


وَلَا يجوز رد حَدِيث ابْن عمر بِأَن يُقَال: إِن بَين أحد وَالْخَنْدَق أَكثر من سنة وَاحِدَة، فَكيف يَصح أَن يَقُول ابْن عمر مَا رويتم؟ فَإِن أهل الْمَغَازِي اخْتلفُوا فِي قدر مَا بَينهمَا، فَقَوْل عُرْوَة بن الزبير، وَالزهْرِيّ فِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَنهُ، وَمَالك بن أنس يدل على أَن غَزْوَة الخَنْدَق كَانَت سنة أَربع، فَيكون بَينهَا وَبَين أحد سنة وَاحِدَة كَمَا روينَا، فبالإجماع كَانَت غَزْوَة أحد سنة ثَلَاث، وَإِن أَخذنَا بقول من يَقُول إِن غَزْوَة الخَنْدَق كَانَت سنة خمس، فَمَعْنَى قَول ابْن عمر: " عرضت يَوْم أحد، وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة "، أَي طعنت فِيهَا، وَيَوْم الخَنْدَق عرضت عَلَيْهِ، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة، أَي: استكملتها، وزدت عَلَيْهَا، غير أَنه لم ينْقل الزِّيَادَة لعلمه بتعلق الحكم بالخمس عشرَة دون مَا زَاد عَلَيْهِ، وَهَذَا جَائِز فِي الْعرف أَن يعبر عَنهُ بِهِ، فَلَا حَاجَة لرد الحَدِيث بأمثاله، وَهُوَ مستقصى فِي السّنَن.
وَمَا رُوِيَ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مرفوعأً: " الصَّبِي يكْتب لَهُ حَسَنَاته، وَلَا يكْتب عَلَيْهِ سيآته، حَتَّى إِذا بلغ ثَلَاث عشرَة سنة كتب لَهُ وَعَلِيهِ، فَإِذا بلغ خمس عشرَة أُقِيمَت عَلَيْهِ الْحُدُود، أَو أخذت مِنْهُ الْحُدُود "، فإسناده ضَعِيف، لَا يثبت مثله.
وَمَا روى عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " يثغر الصَّبِي فِي سبع سِنِين، ويحتلم لخمس عشرَة، وَيتم طوله فِي إِحْدَى

(3/390)


وَعشْرين سنة، وَيتم عقله فِي ثَمَان وَعشْرين، ثمَّ التجارب "، فَلَيْسَ بِثَابِت، وَإِن ثَبت فكلامنا فِي غير الِاحْتِلَام.
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْقَاسِم الطابكاني بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن الْغُلَام حَتَّى يَحْتَلِم، فَإِن لم يَحْتَلِم حَتَّى يكون ابْن ثَمَان عشرَة، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَإِن يَعْنِي طلق فِي مَنَامه لم يَقع الطَّلَاق، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يَصح، قيل: وَمن الْمَجْنُون؟ قَالَ: من أبلى شبابه فِي مَعْصِيّة الله "، فَإِنَّهُ مَوْضُوع، فَإِن مُحَمَّد بن الْقَاسِم هَذَا كَانَ يضع الحَدِيث.
ثمَّ ثَمَانِيَة عشرَة حَدهمْ فِي (الْجَارِيَة، لَا) الْغُلَام، فَلَا يَقُولُونَ بِهِ. وَرُوِيَ عَن عمر، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا اعتبرا الإنبات فِي إِقَامَة الْحُدُود. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (122) :

والإنبات عَلامَة على الْبلُوغ فِي الْكفَّار، أَو هُوَ بُلُوغ

(3/391)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَيْسَ ببلوغ ".
وَدَلِيلنَا مَا روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَن أهل قُرَيْظَة لما نزلُوا على حكم سعد أرسل إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء على حمَار، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قومُوا إِلَى سيدكم، أَو قَالَ: خَيركُمْ، قَالَ: إِن هَؤُلَاءِ قد نزلُوا على حكمك، قَالَ: إِنِّي أحكم أَن يقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ، قَالَ: لقد حكمت فيهم بِحكم الْملك "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَطِيَّة الْقرظِيّ، قَالَ: " كنت من سبي قُرَيْظَة، فَكَانُوا ينظرُونَ، فَمن أنبت الشّعْر قتل، وَمن لم ينْبت لم يقتل، فَكنت فِيمَن لم ينْبت "، وَفِي رِوَايَة بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: " فكشفوا عانتي، فوجدوها لم تنْبت، فجعلوني فِي السَّبي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (123) :

وَالصُّلْح على الْإِنْكَار غير جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه جَائِز ".

(3/392)


روى / أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّلْح بَين الْمُسلمين جَائِز، إِلَّا صلحا حرم حَلَالا، أَو أحل حَرَامًا ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسلمُونَ على شروطهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا -، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ.

(3/393)


وروى عبد الحميد بن الْحسن الْهِلَالِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل مَعْرُوف صَدَقَة، وَمَا أنْفق الرجل على أَهله وَنَفسه كتب لَهُ صَدَقَة، وَمَا وقى بِهِ الْمَرْء عرضه كتب لَهُ بِهِ صدقه، وَمَا أنْفق الْمُؤمن من نَفَقَة فَإِن خلفهَا على الله - وَالله ضَامِن - إِلَّا مَا كَانَ فِي بُنيان، أَو مَعْصِيّة "، فَقلت لمُحَمد بن الْمُنْكَدر: " وَمَا وقى بِهِ الرجل عرضه؟ " قَالَ: " مَا يُعْطي الشَّاعِر، وَذَا الْبَيَان المتقي ".
وَعبد الحميد هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَرَوَاهُ الْمسور بن الصَّلْت عَن ابْن الْمُنْكَدر أَيْضا، وَهُوَ ضَعِيف، ضعفه أجمد، وَالْبُخَارِيّ، وَالنَّسَائِيّ.
وَرَوَاهُ أَبُو عصمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن بديل عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَصرا، وَأَبُو عصمَة مَتْرُوك.
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " ردوا الْخُصُوم،

(3/394)


لَعَلَّهُم أَن يصطلحوا، فَإِنَّهُ أَبْرَأ للصدق، وَأَقل للخباث ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (124) :

وَإِذا تداعى رجلَانِ جداراً بَين داريهما، لأَحَدهمَا عَلَيْهِ جُذُوع، لم يحكم بالجدار لصَاحب الْجُذُوع. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن كَانَت جذوعه عَلَيْهِ أَكثر من ثَلَاثَة حكم لَهُ بالجدار ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي "، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم بن خَالِد عَنهُ.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يمْنَع أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى -

(3/395)


رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَيْء لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فَقضى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ "، وَفِي رِوَايَة خلاس عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ، وَقد ذَكرنَاهَا فِي السّنَن.
وروى دهثم بن قرَان - بأسانيد مُخْتَلفَة - " أَن قوما اخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حظار بَينهم، فَأرْسل حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - يقْضِي بَينهم، فَقضى للَّذي وجد معاقد القمط تليه، ثمَّ رَجَعَ، فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أصبت، أَو قَالَ: أَحْسَنت "، قَالَ على بن عمر: لم يروه غير دهثم، وَهُوَ ضَعِيف. سُئِلَ يحيى بن معِين عَن حَدِيثه، فَقَالَ: " دهثم كَانَ كوفياً، لَا يكْتب حَدِيثه ".

(3/396)


وَرُوِيَ عَن سماك عَن رجل من أهل الْبَصْرَة " أَن قوما اخْتَصَمُوا فِي خص لَهُم إِلَى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فَقضى بَينهم أَن ينظر أَيهمْ كَانَ أقرب من القماط، فَهُوَ أَحَق بِهِ "، وَهَذَا مُنْقَطع، وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن أبي ثَوْر عَن منهال عَن الْحسن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (125) :

الْمحَال عَلَيْهِ إِذا مَاتَ مُفلسًا، أَو جحد الْحق، وَلم يكن للمحتال بَيِّنَة، لم يكن لَهُ أَن يرجع على الْمُحِيل بِحقِّهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: " لَهُ أَن يرجع عَلَيْهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أُتبع أحدكُم على مليءٍ، فَليتبعْ، اتفقَا على صِحَّته.

(3/397)


استدلوا بِحَدِيث خُلَيْد بن جَعْفَر: سَمِعت أَبَا إِيَاس عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَيْسَ على مَال الْمُسلم توى "، يَعْنِي حِوَالَة، وروى مُطلقًا لَيْسَ فِيهِ - يَعْنِي - حِوَالَة، وَذكره مُحَمَّد بن الْحسن، وَقَالَ: " فِي حِوَالَة وكفالة ".
وخليد بن جَعْفَر بَصرِي، لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ جدا، وَلِهَذَا لم يحْتَج بِهِ البُخَارِيّ، وَلَا مُسلم، وَلَكِن قرنه مُسلم مَعَ غَيره فِي مَوضِع، وَاسْتشْهدَ بِهِ أَيْضا.
(وَإيَاس هُوَ أَبُو مُعَاوِيَة) ، وَأَبُو إِيَاس هُوَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ، من الطَّبَقَة الثَّالِثَة من تَابِعِيّ أهل الْبَصْرَة، فَهُوَ لم يدْرك عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَلَا كَانَ فِي زَمَانه / وَلَو كَانَ ثَابتا عَن عُثْمَان، لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أقَال فِي الْحِوَالَة، أَو الْكفَالَة، أَو

(3/398)


غَيرهمَا، وَغلط بعض الْمُحدثين، وَقَالَ: " خُلَيْد بن دعْلج "، وَهُوَ وهم. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (126) :

الضَّمَان عَن الْمَيِّت صَحِيح خلف وَفَاء، أَو لم يخلف. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - وَحده: " إِن لم يخلف وَفَاء لم يَصح ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِجنَازَة رجل من الْأَنْصَار؛ ليُصَلِّي عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا لَا، قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا، فصلى عَلَيْهِ، وَأتي بِجنَازَة، فَقَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: صلوا على صَاحبكُم، قَالَ أَبُو قَتَادَة: هُوَ عَليّ يَا رَسُول الله "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على

(3/399)


جَنَازَة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: أههنا من آل فلَان أحد؟ ، فَقَالَ ذَاك مرَارًا، فَقَامَ رجل يجر إزَاره (من مُؤخر النَّاس) ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أما إِنِّي لم أنوه بِاسْمِك إِلَّا لخير، إِن فلَانا لرجل مِنْهُم مأسور بِدِينِهِ، فَلَو رَأَيْت أَهله، وَمن يتحرون بأَمْره قَامُوا، فقضوا عَنهُ ".
وَفِي هذَيْن الْحَدِيثين بَيَان جَوَاز إنْشَاء الضَّمَان على الْمَيِّت بعد مَوته، وَإِن لم يضمنهُ الضَّامِن عَنهُ فِي حَال حَيَاته، بِخِلَاف مَذْهَب الْعِرَاقِيّين. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (127) :

شركَة الْمُفَاوضَة بَاطِلَة - وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا جَائِزَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي حَدِيث بَرِيرَة - الْمُتَّفق على صِحَّته - عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " ثمَّ قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّاس، فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل، وَإِن كَانَ مائَة شَرط ".

(3/400)


وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - بِإِسْنَادِهِ حَدِيث أبي رمثة حِين دخل مَعَ أَبِيه على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من هَذَا مَعَك؟ " قَالَ: " ابْني "، قَالَ: " أما إِنَّه لَا يجني عَلَيْك، وَلَا تجني عَلَيْهِ "، وَرُوِيَ من وَجه آخر، وَفِيه: " وَقَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ، وهم فِي شركَة الْمُفَاوضَة يؤاخذون الشَّرِيك بِجِنَايَة شَرِيكه.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله قَالَ: " اشتركت أَنا وعمار وَسعد فِيمَا نصيب يَوْم بدر، قَالَ: فجَاء سعد بأسيرين، وَلم أجئ أَنا وعمار بِشَيْء ".
هَذَا مُرْسل؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه إِلَّا أَنه حسن، وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لمن أجَاز شركَة الْأَبدَان؛ لِأَن الْغَنِيمَة شركَة لمن شهد الْوَقْعَة وَأهل الْخمس، دون عقد الشّركَة، وَلَا تَأْثِير للْعقد فِي كَون الْغَنِيمَة بَينهمَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (128) :

وَالْكَفَالَة ببدن من عَلَيْهِ المَال صَحِيحَة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَحمَه الله، وباطلة فِي القَوْل الآخر،

(3/401)


وَهُوَ الْقيَاس. وَأما فِي الْحُدُود فَلَا تجوز بِالْإِجْمَاع.
وَالْأَحَادِيث فِيهَا وَردت، فَلَا معنى فِي مَوْضُوع الْخلاف، إِلَّا أَنَّهَا تدل على اشتهار الْكفَالَة بِالْبدنِ فِيمَا بَينهم.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مصرف فَذكر قصَّة فِي عبد الله بن النواحة، وَأَصْحَابه أَصْحَاب مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَأَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَمر بِابْن النواحة، فَضرب رَأسه، ثمَّ إِن ابْن مَسْعُود اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَقَامَ عدي بن حَاتِم، فَقَالَ: قولا، ثمَّ قَامَ جرير، والأشعث، فقلا: بل استتبهم، وكفلهم عَشَائِرهمْ، فاستتابهم، فتابوا، فكفلهم عَشَائِرهمْ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (129) :

التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ صَحِيح دون رضى الْخصم بِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - وَحده: " رضى الْخصم شَرط فِي صِحَة التَّوْكِيل مَعَ حُضُور الْمُوكل وسلامته ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ قَالَ:

(3/402)


" سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَي الْعَمَل أفضل، فَقَالَ: إِيمَان بِاللَّه، وَجِهَاد فِي سَبيله، قلت: أَي الرّقاب أفضل، قَالَ: أغلاها ثمنا، وأنفسها عِنْد أَهلهَا، قَالَ: قلت: فَإِن لم أفعل، قَالَ: تعين صانعا، أَو تصنع لأخرق قَالَ: قلت: فَإِن لم أفعل، قَالَ: تدع النَّاس من الشَّرّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَة، تصدق بهَا على نَفسك "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - /: انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَذَا ينصره مَظْلُوما، كَيفَ ينصره ظَالِما، قَالَ: يَأْخُذ فَوق يَدَيْهِ "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن سهل بن أبي خَيْثَمَة، وَرَافِع بن خديج - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن عبد الله بن سهل (ومحيصة بن مَسْعُود أَتَيَا خَيْبَر فِي حَاجَة، فتفرقا فِي النّخل، فَقتل عبد الله بن سهل، فجَاء أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل) ، وَأَبْنَاء عَمه محيصة، وحويصة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/403)


فذكرا أَمر صَاحبهمَا، فَبَدَأَ عبد الرَّحْمَن فَتكلم، وَكَانَ أقرب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْكبر، فتكلما فِي أَمر صَاحبهمَا " وَذكر الحَدِيث، اتفقَا على صِحَّته.
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن جهم بن أبي جهم عَن عبد الله بن جَعْفَر، قَالَ: " كَانَ عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - يكره الْخُصُومَة، وَكَانَ إِذا كَانَت الْخُصُومَة وكل فِيهَا) عقيل بن أبي طَالب، فَلَمَّا كبر وكلني "، وَالله أعلم.

(3/404)


مَسْأَلَة (130) :

وَإِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه بِالدّينِ فِي مرض مَوته فِي ظَاهر الْمَذْهَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه مَرْدُود ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق وليتق الله ربه وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا} ، فَأمر الله تَعَالَى الْإِقْرَار، وَنهى عَن الكتمان، وَلم يخص.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إيَّاكُمْ وَالظَّن؛ فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث، وَلَا تجسسوا، وَلَا تحسسوا، وَلَا تناجشوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تباغضوا، وَلَا تدابروا، وَكُونُوا عبدا الله إخْوَانًا " - اتفقَا على صِحَّته عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى نوح بن دراج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله
" لَا وَصِيَّة لوَارث، وَلَا إِقْرَار بدين ".

(3/405)


وَهَذَا مُرْسل، ونوح بن دراج ضَعِيف الحَدِيث جدا، قَالَ يحيى بن معِين: " نوح بن دراج كَذَّاب خَبِيث، لم يكن يدْرِي مَا الحَدِيث، كَانَ يقْضِي وَهُوَ أعمى ثَلَاث سِنِين، وَلَا يخبر النَّاس أَنه أعمى، من خبثه ".
وَرَوَاهُ نوح مرّة، فَزَاد فِيهِ: " عَن جَابر ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (131) :

وَإِذا أقرّ جَمِيع الْوَرَثَة بوارث ثَبت نسبه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يشاركهم فِي الْمِيرَاث، وَلَا يثبت نسبه ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن عبد بن زَمعَة وسعداً - رَضِي الله عَنْهُمَا - اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ابْن أمة زَمعَة، فَقَالَ سعد: " يَا رَسُول الله، أَوْصَانِي أخي: إِذا قدمت مَكَّة أَن أنظر إِلَى ابْن أمة زَمعَة فاقبضه، فَإِنَّهُ ابْني "، فَقَالَ عبد بن زَمعَة: " أخي، وَابْن أمة أبي، ولد على فرَاش أبي "، فَرَأى شبهاًَ بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش، واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة " - اتفقَا على صِحَّته.

(3/406)


وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بِمَعْنَاهُ، وَزَاد فَقَالَ: " هُوَ أَخُوك يَا عبد ".
ومسدد حَافظ ثِقَة، وَالزِّيَادَة من مثله مَقْبُولَة.
وَرَوَاهُ يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، وَفِيه: " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ لَك، وَهُوَ أَخُوك، يَا عبد بن زَمعَة "، وَفِيه: ثمَّ قَالَ: واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة لما رأى من شبه عتبَة بن أبي وَقاص "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح فَقَالَ: " وَقَالَ لَيْث: حَدثنِي يُونُس "، فَذكر مَعْنَاهُ، فَذكر هَذِه اللَّفْظَة.
استدلوا بِمَا روى جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن يُوسُف بن الزبير مولى الزبير عَن عبد الله بن الزبير - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " كَانَت لزمعة جَارِيَة يَطَؤُهَا، وَكَانَت تظن بِرَجُل آخر أَنه يَقع عَلَيْهَا، فَمَاتَ زَمعَة وَهِي حُبْلَى، فَولدت غُلَاما يسبه الرجل الَّذِي كَانَت تظن بِهِ، فَذَكرته سَوْدَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أما الْمِيرَاث فَلهُ، وَأما أَنْت فاحتجبي مِنْهُ ".

(3/407)


هَذَا حَدِيث فِي رُوَاته من نسب فِي آخر عمره إِلَى سوء الْحِفْظ، وَهُوَ جرير ابْن عبد الحميد، وَفِيهِمْ من لَا يعرف بِمَا يثبت بِهِ حَدِيثه، وَهُوَ يُوسُف بن الزبير، أَو الزبير بن يُوسُف، مولى لآل الزبير، وَعبد الله بن الزبير - رَضِي الله عَنهُ - كَأَنَّهُ لم يشْهد الْقِصَّة لصغره. وَأما حديثنا فرواته مَشْهُورُونَ بِالْحِفْظِ وَالْفِقْه وَالْأَمَانَة. وَعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - تخبر عَن الْقِصَّة كَأَنَّهَا شهدتها.
ثمَّ إِن ثَبت يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله: لَيْسَ لَك بِأَخ شبها، وَإِن كَانَ لَك بِحكم الْفراش أَخا؛ فَلَا يكون لقَوْله: " هُوَ أَخُوك يَا عبد (بن زَمعَة) " مُخَالفا، فقد ألحقهُ بالفراش، حَتَّى حكم لَهُ بِالْمِيرَاثِ. (وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ) .

مَسْأَلَة (132) :

الْعَارِية مَضْمُونَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا أَمَانَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا عِنْد / أبي دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " على الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤدِّي "، ثمَّ إِن

(3/408)


الْحسن نسى فَقَالَ: " هُوَ أمينك لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
وَرُوِيَ عَن أُميَّة بن صَفْوَان بن أُميَّة عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار مِنْهُ أدراعاً يَوْم حنين، فَقَالَ: " أغصب يَا مُحَمَّد؟ " قَالَ: لَا، بل عَارِية مَضْمُونَة ".
وَكَذَا رَوَاهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن صَفْوَان بن أُميَّة أعَار ...
وَرَوَاهُ عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن جَابر عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن بِالْإِسْنَادِ.

(3/409)


وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن ابْن رفيع عَن أنَاس من آل عبد الله بن صَفْوَان أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا صَفْوَان، هَل عنْدك سلَاح؟ " قَالَ: " عَارِية أم غصبا؟ " قل: " لَا، بل عَارِية "، فأعاره بَين الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين درعاً، وغزا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حنيناً. فَلَمَّا هزم الله الْمُشْركين جمعت دروع صَفْوَان ففقد مِنْهَا أدراعاً، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِصَفْوَان: " إِنَّا قد فَقدنَا من أدراعك أدراعاً، فَهَل نغرم لَك؟ " قَالَ: " لَا، يَا رَسُول الله، لِأَن فِي قلبِي الْيَوْم مَا لم يَك يَوْمئِذٍ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن رفيع عَن عَطاء عَن أنَاس من آل صَفْوَان، فَذكره بِمَعْنَاهُ.

(3/410)


وَرُوِيَ عَن سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز الدِّمَشْقِي عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن بعض أهل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار قَصْعَة فَضَاعَت فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يغرموها، وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتعَار قَصْعَة فَضَاعَت، فضمنها لَهُم.
سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز رُبمَا يهم فِي الشَّيْء، وَمَا سبق أصح. وَالصَّحِيح رِوَايَة يحيى ين سعيد، وَابْن عَلَيْهِ عَن حميد، أخرجهَا البُخَارِيّ - رَحمَه الله - وفيهَا بَيَان أَن الْقِصَّة فِي غير الْعَارِية.
وَرُوِيَ ضَمَان الْعَارِية عَن ابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَعَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " كَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يضمن الْعَارِية، وَكتب إِلَيّ أَن أضمنها
وَقُرِئَ على الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبد الرَّحْمَن - قَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ ابْن السَّائِب: أَن رجلا اسْتعَار بَعِيرًا من رجل فَعَطب، فَأتى بِهِ مَرْوَان بن الحكم، فَأرْسل مَرْوَان إِلَى أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - فأوقفوه بَين السماطين فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: " يغرم ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن عبد الْجَبَّار عَن عُبَيْدَة بن

(3/411)


حسان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ على المستعبر غير الْمغل ضَمَان، وَلَا على الْمُسْتَوْدع غير الْمغل ضَمَان ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " عَمْرو، وَعبيدَة ضعيفان. وَإِنَّمَا يروي ذَلِك عَن شُرَيْح القَاضِي غير مَرْفُوع. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (133) :

وَالْقطع وَالضَّمان يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا قطع السَّارِق لم يضمن، وَإِذا ضمن أَولا لم يقطع ".
قَالَ الله - عز وَجل: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} . وَقَالَ الله - عز وَجل: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} .
فالقطع حق الله عز وَجل، والاعتداء عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم حق الْمَسْرُوق مِنْهُ.

(3/412)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - حَدِيث المخزومية الَّتِي سرقت، وكلم فِيهَا أُسَامَة - رَضِي الله عَنهُ - رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا أُسَامَة، تشفع فِي حد من حُدُود الله "، ثمَّ قَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطِيبًا فَقَالَ: " إِنَّمَا أهلك الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ، وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وأيم الله، لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا ".
فَلَو كَانَ رد الْمَسْرُوق أَو تَضْمِينه يُوجب سُقُوط الْقطع عَن السَّارِق لضمنوه؛ لِئَلَّا يقطعهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكنهُمْ لما لم يَجدوا لَهَا عَنهُ محيصاً بتشفيع أُسَامَة / بن زيد، فَلم يَنْفَعهُمْ ذَلِك أَيْضا.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن صَفْوَان بن عبد الله أَن صَفْوَان بن أُميَّة - رَضِي الله عَنهُ - قيل لَهُ: " من لم يُهَاجر هلك "، فَقدم صَفْوَان الْمَدِينَة، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، فتوسد رِدَاءَهُ، فجَاء سَارِق فَأخذ رِدَاءَهُ من تَحت رَأسه، فَأخذ صَفْوَان السَّارِق فجَاء بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقطع يَده، فَقَالَ صَفْوَان: " إِنِّي لم أرد هَذَا، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَة "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَهَلا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ". ثمَّ قَالَ: " وَحدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن طَاوُوس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل حَدِيث مَالك ".

(3/413)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقطع الْيَد فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب أَن رَقِيقا ً لحاطب سرقوا نَاقَة لرجل من مزينة وانتحروها، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَأمر كثير بن الصَّلْت أَن يقطع أَيْديهم، (ثمَّ قَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " إِنِّي أَرَاك تجيعهم، وَالله لأغرمنك غرماً يشق عَلَيْك) ، ثمَّ قَالَ للمزني: " كم ثمن نَاقَتك؟ " قَالَ: " أَربع مائَة دِرْهَم "، قَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أعْطه ثَمَان مائَة دِرْهَم ".
وَرُوِيَ عَن هشيم عَن أبي حنيفَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يَقُول: " يضمن السّرقَة استهلكها أَو لم يستهلكها، وَعَلِيهِ الْقطع ".

(3/414)


استدلوا بِمَا روى الْمفضل بن فضَالة عَن يُونُس بن يزِيد عَن سعيد بن إِبْرَاهِيم عَن أَخِيه الْمسور عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا غرم على السَّارِق إِذا أقيم عَلَيْهِ الْحَد ".
قَالَ: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ الْمفضل، وَهُوَ مُرْسل؛ الْمسور أَخُو سعيد بن إِبْرَاهِيم لم يدْرك جده عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَالَ أَبُو صَالح عبد الْغفار بن دَاوُد: " قلت للمفضل: يَا أَبَا مُعَاوِيَة، إِنَّمَا هُوَ

(3/415)


سعد بن إِبْرَاهِيم "، فَقَالَ " هَكَذَا فِي كتابي "، أَو " هَكَذَا "، الشَّك مَعَ أبي صَالح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى: " وَإِن كَانَ هَذَا سعيد بن إِبْرَاهِيم - كَمَا فِي كتاب الْمفضل - فَهُوَ مَجْهُول، وَأَخُوهُ الْمسور مَجْهُول. وَإِن كَانَ (سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن) بن عَوْف فقد قَالَ أهل الْعلم بالتواريخ: لَا نَعْرِف لسعد أَخا مَعْرُوفا بالرواية يُقَال لَهُ الْمسور. وَقد رَأَيْت حَدِيثا لسَعِيد بن مُحَمَّد بن الْمسور بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن، كَانَ فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب صَبيا صَغِيرا، وَمَات أَبوهُ فِي خلَافَة عُثْمَان، فَكَانَ إِدْرَاك أَوْلَاده بعد موت أَبِيه، وَإِنَّمَا رِوَايَة ابنيه المعروفين صَالح وَسعد عَن أَبِيهِمَا إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن. فَهَذَا الَّذِي عَرفْنَاهُ بحفيديه، وَفِيه نظر، لَا يعر لَهُ رُؤْيَة، وَلَا رِوَايَة عَن جده، وَلَا عَن غَيره من الصَّحَابَة، فَهُوَ مَعَ الْجَهَالَة مُنْقَطع. وبمثل هَذِه الرِّوَايَة لَا تتْرك أَمْوَال الْمُسلمين تذْهب بَاطِلا ".

(3/416)


قَالَ أَبُو بكر بن الْمُنْذر: " لَا يثبت خبر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي هَذَا الْبَاب ". وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (134) :

والأراضي عندنَا تضمن بِالْغَصْبِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا لَا تضمن، وَلَا يتَصَوَّر فِيهَا الْغَصْب ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَنه دخل على عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - وَهُوَ يُخَاصم فِي أَرض، فَقَالَت: " يَا أَبَا سَلمَة، اجْتنب الأَرْض، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من ظلم قيد شبر من أَرض طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين "، اتفقَا على صِحَّته ".
وَعَن عُرْوَة بن الزبير أَن أروى ادَّعَت على سعد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أَخذ شَيْئا من أرْضهَا فَخَاصَمته إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ سعيد: " أَنا كنت آخذ من أرْضهَا شَيْئا بعد الَّذِي سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، فَقَالَ: " وماذا سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / يَقُول: من أَخذ شبْرًا من الأَرْض طوقه إِلَى سبع أَرضين "، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: " لَا أَسأَلك بَيِّنَة بعد هَذَا "، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِن كَانَت كَاذِبَة فأعم بصرها، واقتلها فِي أرْضهَا "، فَمَا مَاتَت حَتَّى ذهب بصرها، فَبَيْنَمَا هِيَ تمشي فِي أرْضهَا إِذْ وَقعت فِي حُفْرَة

(3/417)


فَمَاتَتْ. اتفقَا على صِحَّته. وَقَوله فِي هَذِه الرِّوَايَة: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض " صَرِيح فِي الْمَسْأَلَة.
وَكَذَلِكَ (فِي صَحِيح) حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عِنْد مُسلم، عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه طوقه من سبع أَرضين ".
وَفِي الْبَاب عَن سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - أَيْضا مَرْفُوعا، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا -: " لعن الله من غير منار الأَرْض ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (135) :

وَإِذا غصب ساحة (من الأَرْض) (فَبنى عَلَيْهَا) أَخذ بِنَقْض

(3/418)


الْبناء ورد مَا غصب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْزمه قيمَة الساحة، وَلَا يلْزمه ردهَا ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحل لامرئ أَن يَأْخُذ عَصا أَخِيه بِغَيْر طيب نَفسه. وَذَلِكَ لشدَّة مَا حرم الله - عز وَجل - مَال الْمُسلم على الْمُسلم ". وَهُوَ فِي السّنَن أتم.
وَفِي حَدِيث عبد الله بن السَّائِب بن يزِيد عَن أَبِيه عَن جده - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ ". وَهُوَ فِي السّنَن، و (إِسْنَاده) حسن إِلَيْهِ.

(3/419)


وَحَدِيث عَم أبي حرَّة الرقاشِي - رَضِي الله عَنهُ -: " لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نفس مِنْهُ "، يضم إِلَيْهِ حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -، وخطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِوَايَة عَمْرو بن يثربي، فيقوى.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَن مَالِكًا - رَحمَه الله - أخبرهُ عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا ضَرَر، وَلَا ضرار ".

(3/420)


وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا ضَرَر، وَلَا ضرار؛ من ضار ضره الله، وَمن شاق شقّ الله عَلَيْهِ "، ثمَّ يَقُول: " الْمَغْصُوب مِنْهُ يستضر بذلك، وَهُوَ أولى بِأَن ينظر لَهُ ".
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لعرق ظَالِم حق ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
قَالَ مَالك بن أنس - رَحمَه الله -: " الْعرق الظَّالِم (كل مَا) أَخذ واحتفر وغرس بِغَيْر حق ".

(3/421)


وَعِنْده عَن يحيى بن عُرْوَة عَن أَبِيه، فَذكر مَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَلَقَد خبرني ... . ".
مَسْأَلَة (136) :

وَإِذا غصب جَارِيَة فَزعم أَنَّهَا مَاتَت فَقضى بِقِيمَة الْجَارِيَة الْميتَة، ثمَّ وجدهَا صَاحبهَا فَهِيَ لَهُ، وَترد الْقيمَة، وَلَا تكون الْقيمَة ثمنا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن أَخذ الْقيمَة الَّذِي ادَّعَاهَا الْمَغْصُوب مِنْهُ لم ترد، وَصَارَت الْجَارِيَة ملكا للْغَاصِب لأَخذه الْقيمَة ".
وَفِي هَذَا احتيال لمن أَرَادَ جَارِيَة رجل لَا يَبِيعهَا، فيغصبها، ويعتل بِأَنَّهَا مَاتَت، حَتَّى يَأْخُذ رَبهَا قيمتهَا، فينسب للْغَاصِب جَارِيَة غيرَة.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْوَالكُم عَلَيْكُم حرَام، وَلكُل غادر لِوَاء يَوْم

(3/422)


الْقِيَامَة "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا.
واتفقا على حَدِيث أبي بكرَة فِي خطة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى، وفيهَا: " فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ وأنسابكم عَلَيْكُم حرَام، كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا، (فِي شهركم) هَذَا، فِي بلدكم هَذَا، أَلا هَل بلغت؟ " قُلْنَا " نعم "، قَالَ: " اللَّهُمَّ أشهد، فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، فَإِنَّهُ رب مبلغ يبلغهُ من هُوَ أوعى لَهُ ".
واتفقا على حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَنا بشر، (وَإِنَّكُمْ) تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ / على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ، فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه بِشَيْء فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، فَإِنَّمَا هِيَ لَهُ قِطْعَة من نَار ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (137) :

من أراق على ذمِّي خمرًا لم يكن عَلَيْهِ ضَمَان، وَلَا يجوز لمُسلم

(3/423)


تَوْكِيل الذِّمِّيّ فِي بيع الْخمر. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " عَلَيْهِ الضَّمَان، وَيجوز تَوْكِيل الذِّمِّيّ فِي بَيْعه ".
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " لما نزلت الْآيَات الْأَوَاخِر من سُورَة الْبَقَرَة خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقرأهن علينا وَقَالَ: حرمت التِّجَارَة فِي الْخمر) ، اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْخمر: " إِن الَّذِي حرم شربهَا حرم بيعهَا ".
وروينا فِي مَسْأَلَة تَخْلِيل الْخمر عَن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر بإراقة خمر الْيَتَامَى، وَلم يَأْذَن فِي تخليلها، وَلَو كَانَ إِلَى بيعهَا سَبِيل بِوَجْه لم يَأْمر بإهلاك مَال الْيَتِيم.
وَإِذا لم يجز بيعهَا لم يجز تضمينها.
وَأما مَا رُوِيَ عَن سُفْيَان عَمَّن سمع ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - يَقُول: " دخلت على عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ يقلب يَده، فَقلت لَهُ: مَا لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: عويمل لنا بالعراق خلط

(3/424)


فِي الْمُسلمين أَثمَان الْخمر وأثمان الْخَنَازِير، ألم يعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لعن الله الْيَهُود؛ حرمت عَلَيْهِم الشحوم أَن يأكلوها، فجملوها فَبَاعُوهَا، فَأَكَلُوا أثمانها ". قَالَ سُفْيَان: " يَقُول: لَا تَأْخُذ فِي ضريبتهم الْخمر وَلَا الْخِنْزِير، وَلَكِن خلوا بَينهم وَبَين بيعهَا، فَخُذُوا أثمانها فِي جزيتهم ".
فَهَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وَلَيْسَ فِيهِ - إِن كَانَ ثَابتا - أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - ولأهم بيعهَا، بَعْدَمَا دخلت فِي يَده، وَإِنَّمَا فِيهِ قَول سُفْيَان: " خلوا بَينهم وَبَين بيعهَا "، يَعْنِي: لَا يتَعَرَّض الْمُسلمُونَ لَهُم فِيمَا يَعْتَقِدُونَ جَوَاز بَيْعه، فَإِذا باعوها بِأَنْفسِهِم أخذُوا مِنْهُم حِينَئِذٍ مَا كَانَ للْمُسلمين عَلَيْهِم. وَنحن نقُول بِجَمِيعِ ذَلِك. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (138) :

إِذا غصب شَيْئا فَغَيره، أَو طَعَاما فَأَكله لم يملكهُ، وَعَلِيهِ رد مَا بقى مِنْهُ نَاقِصا، وَيغرم قيمَة النُّقْصَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " (يملكهُ) - على تَفْصِيل يذكرهُ فِي مذْهبه - وَيغرم قِيمَته ".

(3/425)


رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب النَّاس فِي حجَّة الْوَدَاع، وَذكر الحَدِيث، وَفِيه: " وَلَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه إِلَّا مَا أعطَاهُ عَن طيب نفس، وَلَا تظالموا، وَلَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض ".
وروينا فِي حَدِيث عَمْرو بن يثربي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " شهِدت خطْبَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى، وَكَانَ فِيمَا خطب بِهِ أَن قَالَ: وَلَا يحل لأحد من مَال أَخِيه إِلَّا مَا طابت بِهِ نَفسه "، وَذكر الحَدِيث.
وَذكر حَدِيثا عَن رجل من مزينة قَالَ: " صنعت امْرَأَة

(3/426)


لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَعَاما، فدعته وَأَصْحَابه، قَالَ: فَذهب بِي أبي مَعَه، فَلم يَأْكُلُوا حَتَّى رَأَوْا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل، فَلَمَّا أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - 0 لقمته رمى بهَا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأجد طعم لحم شَاة ذبحت بِغَيْر إِذن صَاحبهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أخي، وَأَنا من أعز النَّاس عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ خيرا مِنْهَا لم يُغير عَليّ، وَعلي أَن أرضيه بِأَفْضَل مِنْهَا، فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهَا، وَأمر بِالطَّعَامِ للأسارى ".
فَهَذِهِ الْمَرْأَة ذبحتها، وشوت لَحمهَا، فَلَو كَانَت ملكتها بِالذبْحِ والشي لم يمْتَنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أكل مَا قَدمته إِلَيْهِ بعد مَا ملكته، وَإِنَّمَا أَمر بِهِ للأسارى لغيبة صَاحبه، وَخَوف الْفساد عَلَيْهِ بالإمساك على صَاحبه، ثمَّ يغرمه لَهُ، كَمَا يغرم أَمْثَال ذَلِك لأربابه. وَالله أعلم.
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عِنْد البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كَانَ لأبي غُلَام يخرج لَهُ الْخراج، وَكَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَأْكُل من خراجه، فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: تَدْرِي مَا هَذَا؟ قَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا هُوَ؟ قَالَ كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة - وَمَا أحسن الكهانة إِلَّا أَنِّي خدعته - فَلَقِيت فَأَعْطَانِي بذلك، فَهَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ، فَأدْخل أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَده فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه ".

(3/427)


مَسْأَلَة (139) :

وَفِي معنى هَذِه الْمَسْأَلَة - لَا يملك الْغَاصِب الْمَغْصُوب / بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، سَوَاء بلغ أرش الْجِنَايَة قِيمَته أَو لم يبلغ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا بلغ أرش الْجِنَايَة قِيمَته فصاحبه بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ الْمَغْصُوب بِلَا أرش، أَو يَأْخُذ الْأَرْش دون الْمَغْصُوب "
وروينا نَحْو مَذْهَبنَا عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة، فِيمَا يرويهِ ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَنْهُم.
مَسْأَلَة (140) :

وَعِنْدنَا إِذا غصب دَابَّة ففقأ عينهَا وَجب عَلَيْهِ أَرْشهَا، وَهُوَ مَا نقص من قيمتهَا. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " يضمن ربع قِيمَته ".

(3/428)


وروينا نَحْو مَذْهَبنَا عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين.
وَالَّذِي رُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي تضمينها بِربع ثمنهَا إِنَّمَا رُوِيَ بأسانيد مَرَاسِيل وضعيفة. فَمِنْهَا رِوَايَة النَّخعِيّ وَأبي قلَابَة عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْقَطع.
وَمِنْهَا رِوَايَة جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن شُرَيْح عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، والجعفي ضَعِيف، وَرِوَايَة مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ ومجالد غير مُحْتَج بِهِ، وَالشعْبِيّ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - مُنْقَطع. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (141) :

(3/429)


صفحة فارغة.

(3/430)


الشُّفْعَة لَا تثبت بالجوار. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تثبت بالجوار ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " إِنَّمَا جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشُّفْعَة فِي كل مَا لم يقسم، فَإِذا وَقعت الْحُدُود، (وطرقت) الطّرق فَلَا شُفْعَة "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَأخرج مُسلم عَنهُ قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالشُّفْعَة فِي كل شرك لم يقسم ربعَة، أَو حَائِط (فَلَا) يحل لَهُ أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه، فَإِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك. فَإِن بَاعَ وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق ".

(3/431)


قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يقل: " يقسم " فِي هَذَا الحَدِيث إِلَّا ابْن إِدْرِيس، وَهُوَ من الثِّقَات الْحفاظ ".
وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَن عمر، وَعُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث عمر بن الشريد، قَالَ: " وقف على سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - فجَاء الْمسور بن مخرمَة - رَضِي الله عَنهُ - فَوضع يَده على أحد مَنْكِبي، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافع - رَضِي الله عَنهُ - مولى (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا سعد، ابتع مني بَيْتِي فِي دَارك. فَقَالَ سعد: وَالله، لَا ابتاعهما. فَقَالَ الْمسور: وَالله، لتبتاعنهما، فَقَالَ سعد: (لَا أَزِيد) على أَرْبَعَة آلَاف منجمة، أَو (قَالَ) : مقطعَة، فَقَالَ أَبُو رَافع: وَالله، لقد أَعْطَيْت بهَا خَمْسمِائَة دِينَار، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعت (رَسُول الله) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " الْجَار أَحَق بصقبه " مَا أعطيتكها

(3/432)


بأَرْبعَة آلَاف، وَأَنا أعْطى بهَا خمس مائَة دِينَار، فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعند أبي دَاوُد عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَار الدَّار أَحَق بدار الْجَار (أَو الأَرْض) ".
وَالْمرَاد - وَالله أعلم بذلك - أَن الْجَار الشَّرِيك الَّذِي لم يقاسم؛ بِدَلِيل حَدِيث أبي سَلمَة، وَأبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ جمع فِي حَدِيثه بَين من يسْتَحق الشُّفْعَة، وَمن لَا يَسْتَحِقهَا، فَهُوَ أولى بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل: حَدثنَا هشيم: أخبرنَا عبد الْملك - هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان - عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْجَار أَحَق بشفعة جَاره، ينْتَظر بهَا وَإِن كَانَ غَائِبا، إِذا كَانَ طريقهما وَاحِدًا ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَا أعلم أحد رَوَاهُ عَن عَطاء غير عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان، وَهُوَ حَدِيث عبد الْملك الَّذِي تفرد بِهِ. ويروى عَن جَابر - رَضِي الله

(3/433)


عَنهُ - خلاف هَذَا "، قَالَ أَبُو عِيسَى: " وَإِنَّمَا ترك شُعْبَة حَدِيث عبد الْملك لحَال هَذَا الحَدِيث ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الخليط أَحَق من الشَّفِيع، وَالشَّفِيع أَحَق من غَيره ".
ويروى حَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَون حق الشُّفْعَة على الْفَوْر، وَلَيْسَ بِثَابِت.
وَرُوِيَ عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن أَبِيه عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا: " لَا شُفْعَة لِشَرِيك على شَرِيكه إِذا سبقه بِالشِّرَاءِ، وَالشُّفْعَة كحل العقال ". وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف جدا، وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِت.
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الصَّبِي على شفعته حَتَّى يدْرك، فَإِذا أدْرك فَإِن شَاءَ أَخذ، وَإِن شَاءَ ترك ". وَالله أعلم.

(3/434)


مَسْأَلَة (142) :

كل عَرصَة لَا تحْتَمل الْقِسْمَة الشَّرْعِيَّة فَلَا شُفْعَة فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فِيهَا الشُّفْعَة ".
وروى أَبُو عبيد / عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد بن عمَارَة عَن أبي بكر بن حزم (أَو عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم) - الشَّك من أبي عبيد - عَن أبان بن عُثْمَان عَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا شُفْعَة فِي بِئْر، وَلَا (فَحل) ، والأرف تقطع كل شُفْعَة ".
قَالَ ابْن إِدْرِيس: " الأرف: المعالم " وَقَالَ الْأَصْمَعِي: " هِيَ المعالم وَالْحُدُود، هَذَا كَلَام أهل الْحجاز، يُقَال مِنْهُ: أرفت الدَّار وَالْأَرْض تأريفاً، إِذا قسمتهَا وحددتها ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (143) :

الْمُسَاقَاة جَائِزَة على النّخل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -

(3/435)


وَحده: " إِنَّهَا غير جَائِزَة ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث نَافِع عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامل أهل خَيْبَر على شطر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر وَزرع "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفع إِلَى يهود خَيْبَر نخل خَيْبَر وأرضها على أَن يعتملوها من أَمْوَالهم، وَأَن لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شطر ثَمَرهَا ".
وَعِنْده أَيْضا عَنهُ، قَالَ: " لما فتحت خَيْبَر سَأَلت يهود رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقرهم فِيهَا، على أَن يعملوا على النّصْف مِمَّا خرج مِنْهَا من الثَّمر وَالزَّرْع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نقركم فِيهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا. فَكَانُوا فِيهَا كَذَلِك على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَطَائِفَة من إِمَارَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَكَانَ التَّمْر يقسم على السهْمَان بِالنِّصْفِ، وَيَأْخُذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخمس ". (وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أعلم) .

(3/436)


مَسْأَلَة (144) :

وَفِي تضمين الْأَجِير الْمُشْتَرك مَا تلف فِي يَده من غير تَعديَة قَولَانِ. وَقَالَ (أَبُو حنيفَة) - رَحمَه الله -: " مَا تلف بِفِعْلِهِ ضمنه وَإِن لم يكن مفرطاً فِيهِ، وَمَا تلف بِغَيْر فعله فَلَا يضمنهُ ".
رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يضمن الصناع، وَقَالَ: " لَا يصلح النَّاس إِلَّا ذَاك ".
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي عَنهُ - تضمين بعض الصناع، من وَجه فِيهِ نظر.
وَقضى شُرَيْح على قصار أَو صباغ بِالضَّمَانِ.
وَعَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: " الغسال، والصواغ، والخياط، وَأَصْحَاب الصناعات كلهم ضامنون لكل مَا وَقع إِلَيْهِم ".
وَمِمَّنْ قَالَ: " لَا يضمن " عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: " لَا ضَمَان على صانع، وَلَا على أجِير "، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن.
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ، من وَجه لَا يثبت مثله - أَنه كَانَ لَا يضمن أحدا من الأجراء، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن.

(3/437)


وروى حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن النَّخعِيّ أَنه قَالَ: " لَا يضمن ".
وَقَالَ سُلَيْمَان بن مهْرَان: " سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقصار فَقَالَ: يضمن ".
فَهَذِهِ أخبارهم فِي الضَّمَان، وَلم يحك عَن أحد مِنْهُم التَّفْصِيل بَين مَا يكون بِفِعْلِهِ وَغَيره، وَمَا ثَبت فِيهِ الْأَثر، فَهُوَ أولى الْقَوْلَيْنِ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (145) :

دفع الْأجر بِدفع الشَّيْء فِيهِ الْمَنْفَعَة إِذا لم يشترطا فِي الْأُجْرَة أَََجَلًا. وَعند أبي حنيفَة - رَحمَه الله - يجب بِقدر مَا يمْضِي.
احْتج الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي ذَلِك بِجَوَاز أَخذهَا من جِهَة الصّرْف، قَالَ: " وهم يَرْوُونَهُ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يكاري من رجل بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ صارفه قبل أَن يركب "، قَالَ

(3/438)


" وَإِن كَانَ ثَابتا فَهُوَ مُوَافق لنا وَحجَّة عَلَيْهِم ".
رُوِيَ عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " أَيّمَا رجل أكرى كِرَاء فجاوز صَاحبه ذَا الحليفة قد وَجب (كراؤه، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، يَعْنِي - وَالله أعلم - قبض الْمُكْتَرِي مَا اكترى، وَجَاوَزَ ذَا الحليفة فقد وَجب) عَلَيْهِ جَمِيع الْكِرَاء إِذا لم يشْتَرط فِي الْأُجْرَة أَََجَلًا، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِذا لم يَتَعَدَّ ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (146) :

إِذا أَحييت أَرض ميتَة مرّة، ثمَّ ذهبت آثَار الْإِحْيَاء، وأحياها آخر لم يملكهَا. وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين: " يملكهَا ".
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من عمر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق بهَا ". قَالَ عُرْوَة: " قضى بذلك عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فِي خِلَافَته "، رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (147) :

وَمن أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، أذن لَهُ الإِمَام فِي إحيائها أَو لم يَأْذَن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يملكهَا إِلَّا بِإِذن الإِمَام ".

(3/439)


دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن سعيد بن زيد - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / قَالَ: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
وَعَن عُرْوَة قَالَ: " أشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن الأَرْض أَرض الله، وَأَن الْعباد عباد الله، وَمن أَحْيَا مواتاً فَهُوَ أَحَق بهَا، جَاءَنَا بِهَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذين جاؤونا بالصلوات عَنهُ ".
وروى عَنهُ عَن عَائِشَة مَرْفُوعا.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أحَاط على أَرض فَهِيَ لَهُ ".
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي عَن مَالك (عَن هِشَام) عَن أَبِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق ".
قَالَ: " وَأخْبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر -

(3/440)


رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ".
وَرُوِيَ عَن أبي خرَاش عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبع غزوات، أَو ثَلَاث غزوات، فَسَمعته يَقُول: الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث، فِي المَاء، والكلأ، وَالنَّار ".
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل النَّاس شُرَكَاء فِيمَا لم يكن ملكا لأحد، وَلم يشْتَرط فِي الِانْتِفَاع بهَا إِذن السُّلْطَان، وَكَذَلِكَ إحْيَاء الْموَات الَّذِي لَيْسَ بِملك لأحد يجوز (دون) إِذن السُّلْطَان، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَالله أعلم. .
مَسْأَلَة (148) :

لَيْسَ للذِّمِّيّ أَن يحيي الْموَات فِي دَار الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك إِذا أذن لَهُ الإِمَام ".
" (موتان) الأَرْض لله، وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ لكم من بعد ". وَالله تَعَالَى أعلم.

(3/441)


مَسْأَلَة (149) :

وَلَيْسَ للسُّلْطَان أَن يحمي، فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَله أَن يحمي لغيره فِي القَوْل الثَّانِي.
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الصعب بن جثامة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ "، قَالَ - يَعْنِي ابْن شهَاب -: " وبلغنا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمى البقيع، وَأَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حمى سرف،

(3/442)


والربذة "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: " سَمِعت عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَاسْتعْمل مولى لَهُ على الْحمى يُقَال لَهُ: هنى، أَو هنى، فَقَالَ: ياهنى، ضم جناحيك عَن النَّاس، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم؛ فَإِن دَعْوَة الْمَظْلُوم مجابة، أَدخل رب الصريمة وَالْغنيمَة، وَدعنِي من نعم ابْن عَفَّان، وَابْن عَوْف، فَإِنَّهُمَا إِن تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى نخل وَزرع، وَإِن هَذَا الْمِسْكِين إِن تهْلك مَاشِيَته جَاءَنِي يَصِيح: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فالماء والكلأ أَهْون عَليّ من أَن أغرم لَهُم ذَهَبا وورقاً، وَالله إِنَّهَا لبلادهم الَّتِي قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام، وَلَوْلَا مَا أحمل عَلَيْهِ من هَذِه النعم فِي سَبِيل الله مَا حميت (من بِلَاد الْمُسلمين شَيْئا) ، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.

(3/443)


وَفِي حمى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - مِمَّا حماه لمنافع الْمُسلمين، وسكوت الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عَن الْإِنْكَار عَلَيْهِ كالإجماع مِنْهُم على جَوَازه على مثل مَا حماه. وَفِي ذَلِك كالدلالة على أَن معنى قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حمى إِلَّا لله (وَلِرَسُولِهِ) " أَي على مثل مَا حمى عَلَيْهِ رَسُوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (150) :
وَيتم الْحَبْس فِي الْمشَاع والمقسوم والمنقولات، وَإِن لم يقبض. وَعند مُحَمَّد بن الْحسن وَحده لَا يتم فِيمَا يجوز فِيهِ الْوَقْف عِنْده، وَهُوَ الْعقار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْوَقْف لَا يلْزم، وَإِن قبض ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أصَاب عمر أَرضًا بِخَيْبَر، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت أَرضًا بِخَيْبَر لم أصب مَالا قطّ أنفس مِنْهُ، فَكيف تَأمر (ني) بِهِ؟ قَالَ: إِن شِئْت حبست أَصْلهَا وتصدقت بهَا، فَتصدق بهَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن لَا يُبَاع أَصْلهَا، وَلَا يُوهب، وَلَا يُورث، فِي الْفُقَرَاء والقربى والرقاب (وَفِي سَبِيل الله، والضيف) وَابْن السَّبِيل، لَا جنَاح على من

(3/444)


وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ / (أَو) يطعم صديقا، غير مُتَمَوّل فِيهِ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعَن ابْن عمر (أَن عمر) - رَضِي الله عَنْهُمَا - اسْتَشَارَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَن يتَصَدَّق بِمَالِه الَّذِي بثمغ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تصدق بثمره، واحبس أَصله، لَا يُبَاع، وَلَا يُورث ".
وَفِي رِوَايَة أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - تصدق بِمَال لَهُ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تصدق بِأَصْلِهِ لَا يُبَاع، (وَلَا يُورث، وَلَا يُوهب) ، وَلَكِن ينْفق ثمره "، وَمن ذَلِك الْوَجْه أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَنهُ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت مَالا لم أصب قطّ مثله، تخلصت الْمِائَة الَّتِي بِخَيْبَر، وَإِنِّي قد أردْت أَن أَتَقَرَّب بهَا إِلَى الله "، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حبس الأَصْل، وسبل الثَّمَرَة ".

(3/445)


وَفِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة على وقف الْمشَاع.
قَالَ أَبُو يحيى السَّاجِي: " وَرُوِيَ أَن (الْحُسَيْن وَالْحسن) رَضِي الله عَنْهُمَا - وقف أَحدهمَا أشقاصاً من دوره، فَأجَاز ذَلِك الْعلمَاء ".
وَتصدق ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِالسَّهْمِ بِالْغَابَةِ الَّتِي وهبت لَهُ حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد عَن صَدَقَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: نسخهَا لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا كتب عبد الله بن عمر (بن الْخطاب) فِي ثمغ) أَنه إِلَى حَفْصَة مَا عاشت

(3/446)


تنْفق ثمره حَيْثُ أَرَاهَا الله، فَإِن توفيت فَإِنَّهُ إِلَى ذِي الرَّأْي من أَهلهَا لَا يَشْتَرِي أَصله أبدا، وَلَا يُوهب. وَمن وليه فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي ثمره إِن أكل، أَو آكل صديقا غير متأثل مَالا، فَمَا عَفا عَنهُ من ثمره فَهُوَ للسَّائِل، والمحروم، والضيف، وَذَوي الْقُرْبَى، وَابْن السَّبِيل، وَفِي سَبِيل الله، تنفقه حَيْثُ أَرَاهَا الله من ذَلِك. فَإِن توفيت فَإلَى ذِي الرَّأْي من وَلَدي.
وَالْمِائَة الوسق الَّذِي أَطْعمنِي مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالواد بيَدي لم أهلكها فَإِنَّهُ مَعَ ثمغ، على سنته الَّتِي أمرت بهَا. وَإِن شَاءَ ولي ثمغ اشْترى من ثمره رَقِيقا لعمله.
كتب معيقيب، وَشهد عبد الله بن الأرقم: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أوصى بِهِ عبد الله عمر، أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أحدث بِهِ، حدث أَن ثمغ، وصرمة ابْن الْأَكْوَع، وَالْعَبْد الَّذِي فِيهِ و (الْمِائَة السهْم) الَّذِي بِخَيْبَر، ورقيقه الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَة الوسق الَّذِي أطْعمهُ مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تليه مَا عاشت - يَعْنِي حَفْصَة - ثمَّ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْي من أَهلهَا، لَا يُبَاع، وَلَا يشترى، يُنْفِقهُ حَيْثُ رأى، من السَّائِل والمحروم، وَذَوي الْقُرْبَى، وَلَا حرج على من وليه إِن

(3/447)


أكل، أَو آكل، أَو اشْترى بِهِ رَقِيقا مِنْهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - ر ضي الله عَنهُ - قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - على الصَّدَقَة، وَذكر الحَدِيث ... " وَأما خَالِد فَإِنَّكُم تظْلمُونَ خَالِدا، وَقد احْتبسَ أدراعه، وأعتده فِي سَبِيل الله ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على جَوَاز وقف المنقولات، خلاف قَول مُحَمَّد بن الْحسن إِنَّه لَا يجوز.
قَالَ أَبُو بكر عبد الله بن الزبير الْحميدِي: " وَتصدق أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - بداره بِمَكَّة على وَلَده، فَهِيَ إِلَى الْيَوْم، (وَتصدق عمر (بن الْخطاب) - رَضِي الله عَنهُ - بربعه عِنْد الْمَرْوَة وبالثنية على وَلَده فَهِيَ إِلَى الْيَوْم) ، وَتصدق عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - بأرضه وداره بِمصْر وبأمواله بِالْمَدِينَةِ على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم

(3/448)


وَتصدق سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - بداره بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمصْر على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - برومة فَهِيَ إِلَى (الْيَوْم) ، / وَعَمْرو بن الْعَاصِ - رَضِي الله عَنهُ - بالوهط من الطَّائِف وداره بِمَكَّة على وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم، وَحَكِيم بن حزَام بداره بِمَكَّة وَالْمَدينَة على وَلَده (فَذَلِك إِلَى الْيَوْم) " قَالَ: " وَمَا لَا يحضرني ذكره كثير، يجْرِي مِنْهُ أقل مِمَّا ذكرت من صدقَات من تصدق بداره بِمَكَّة، وَحجَّة لأهل مَكَّة فِي ملك بيوتها، وَكَذَلِكَ منازلها، لِأَنَّهُ لَا يعمد أَبُو بكر، وَعمر، وَالزُّبَيْر، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَحَكِيم بن حزَام - رَضِي الله عَنْهُم - إِلَى شَيْء النَّاس فِيهِ شرع سَوَاء، فيتصدقون بِهِ على أَوْلَادهم دون مالكيه مَعَهم ".
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه تصدق بِأَرْض لَهُ بينبع على الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل، للقريب والبعيد، وَفِي السّلم وَفِي الْحَرْب، ليَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه ليصرف الله بهَا وَجْهي عَن النَّار، وَيصرف النَّار عَن وَجْهي ".
وَرُوِيَ عَنهُ أَن عمر وعلياً - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقفا أَرضًا لَهما (بتابتلا) ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَخْبرنِي مُحَمَّد بن شَافِع: أَخْبرنِي

(3/449)


عبد الله بن حسن عَن غير وَاحِد من أهل بَيته - وَأَحْسبهُ قَالَ: زيد بن عَليّ - أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَضِي الله عَنْهَا، تَصَدَّقت بمالها على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَأَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - تصدق عَلَيْهِم، وَأدْخل مَعَهم غَيرهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي بكر بن حزم أَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن حائطي هَذَا صَدَقَة، وَهُوَ إِلَى الله، وَإِلَى رَسُوله فجَاء أَبَوَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُول الله، كَانَ قوام عيشنا فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِمَا، فورثه ابنهما بعدهمَا ".

(3/450)


وَعنهُ عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه - وَهُوَ الَّذِي أرِي النداء _ أَنه الَّذِي تصدق على أَبَوَيْهِ ثمَّ توفيا، فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاثا.
قَالَ على بن عمر: " هَذَا مُرْسل؛ لِأَن عبد الله بن زيد عبد ربه توفّي فِي خلَافَة عُثْمَان، وَلم يُدْرِكهُ أَبُو بكر بن حزم ".
وَرَوَاهُ بشير بن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد، وَهَذَا أَيْضا مُرْسل؛ بشير لم يدْرك جده عبد الله بن زيد، قَالَه لي أَبُو عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ بن عمر الْحَافِظ.
وَرَوَاهُ عَمْرو بن سليم عَن عبد الله بن زيد، وَهُوَ أَيْضا مُرْسل، قَالَه لي عَنهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو أُميَّة بن يعلى عَن مُوسَى بن عقبَة عَن إِسْحَاق بن يحيى عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن عبد الله بن فلَان. . وَهُوَ أَيْضا مُرْسل؛ إِسْحَاق بن يحيى ضَعِيف، وَلم يدْرك عبَادَة، وَأَبُو أُميَّة مَتْرُوك، قَالَه لي عَنهُ.

(3/451)


ثمَّ إِن صَحَّ شَيْء من ذَلِك فَإِنَّمَا ورد فِي الصَّدَقَة غير الْمُحرمَة، وَنحن نقُول بذلك.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَاحْتج مُحْتَج بِحَدِيث شُرَيْح أَن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَ بِإِطْلَاق الْحَبْس "، (قَالَ مَالك) : " الَّذِي جَاءَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِهِ هُوَ الَّذِي فِي كتاب الله - عز وَجل - {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام} ".

(3/452)


قَالَ ابْن عبد الحكم: " كلم بِهِ مَالك أَبَا يُوسُف عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ، فاحتج مُحْتَج بقول شُرَيْح (لَا حبس عَن فَرَائض الله) ، فَكَذَلِك من مَاله، فَلَيْسَ بِحَبْس عَن فَرَائض الله ".
ويروون هَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يَصح. قَالَ عَليّ بن عمر: " لم يسْندهُ غير ابْن لَهِيعَة عَن أَخِيه، وهما ضعيفان ".
وَالْمَشْهُور عَن شُرَيْح قَوْله: " لَا حبس عَن فَرَائض الله ". فَإِن استدلوا بِهِ من وَجه آخر، وَقَالُوا: حكم شُرَيْح فِيمَا بَين الصَّحَابَة وسكوتهم على ذَلِك دَلِيل على موافقتهم إِيَّاه على ذَلِك، قُلْنَا: إِنَّمَا حمله عَطاء بن السَّائِب مستفتياً فِي زمن بشر بن مَرْوَان، حِين لم يبْق من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أحد، وَلَو ظهر قَوْله لمن بَقِي من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - لم يعجز عَن منكرين إِيَّاه، وعملهم بالتحبيس وَاحِد بعد آخر، كَمَا / حَكَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
وَعنهُ: يُؤَدِّي معنى الْإِنْكَار إِلَى من غفل عَنْهُم وَخلف هَوَاهُ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، (وَهُوَ) أعلم بِالصَّوَابِ.

(3/453)


مَسْأَلَة (151) :

وَيجوز وقف الْحَيَوَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ". وَقَالَ مُحَمَّد: " يجوز وقف الْخَيل دون غَيرهَا ". وَالله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) - أعلم.
مَسْأَلَة (152) :

وَحكم الرقبى حكم الْعُمْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:

(3/454)


الرقبى لَا تلْزم، فللمرقب الرُّجُوع فِيهَا مَتى شَاءَ ".
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تعمروا، وَلَا ترقبوا، فَمن أعمر شَيْئا أَو أرقبه فَهُوَ فِي سَبِيل الْمِيرَاث ".
وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أعمر شَيْئا فَهُوَ لمعمره محياه ومماته، وَلَا ترقبوا، فَمن أرقب شَيْئا فَهُوَ (سَبِيل الْمِيرَاث)
"
وَرُوِيَ عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى جَائِزَة لمن أعمرها، والرقبى جَائِزَة لمن أرقبها ".
وَالله تَعَالَى (أعلم) .
مَسْأَلَة (153) :

وَلَيْسَ لأحد أَن يرجع فِيمَا وهب (وأقبضه إِلَّا الْوَالِد) فِيمَا

(3/455)


وهب من وَلَده. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز إِلَّا للوالد فِيمَا وهب لوَلَده وكل ذِي رحم محرم ".
وَدَلِيلنَا مَا أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد، وَذكر إِسْنَاده عَن عَامر، قَالَ: " سَمِعت النُّعْمَان بن بشير - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول - وَهُوَ على الْمِنْبَر - أَعْطَانِي أبي عَطِيَّة فَقَالَت لَهُ عمْرَة بنت رَوَاحَة؛ لَا أرْضى حَتَّى تشهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْت (ابْن عمْرَة) بنت رَوَاحَة عَطِيَّة وأمرتني أَن أشهدك، يَا رَسُول الله، قَالَ أَعْطَيْت سَائِر ولدك مثل هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا الله، واعدلوا بَين أَوْلَادكُم. وَقَالَ: فَرجع فَرد عطيته "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَعَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن النُّعْمَان بن بشير عَنهُ

(3/456)


أَن أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنِّي نحلت ابْني هَذَا غُلَاما كَانَ لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أكل ولدك نحلته مثل هَذَا؟ " فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فارجعه ". اتفقَا على صِحَّته.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى -: " حَدِيث النُّعْمَان حَدِيث ثَابت، وَبِه نَأْخُذ، وَفِيه دلَالَة على أُمُور، مِنْهَا: حسن الْأَدَب فِي أَن لَا يفضل رجل أحدا من وَلَده على أحد فِي نحل، فَيعرض فِي قلب الْمفضل عَلَيْهِ شَيْء يمنعهُ من بره، لِأَن كثيرا من قُلُوب الْآدَمِيّين جبل على الإقصار عَن بعض الْبر إِذا أوثر عَلَيْهِ، وَدلَالَة على أَن نحل الْوَالِد بعض وَلَده دون بعض جَائِز؛ من قبل أَنه لَو كَانَ لَا يجوز - فَذكر كلَاما لَا أثْبته، مَعْنَاهُ: لما قَالَ: ارجعه، ثمَّ أثْبته - وَقَالَ: وَقَوله: (فارجعه) دَلِيل على أَن للوالد رد مَا أعْطى الْوَلَد، وَأَنه لَا يخرج بارتجاعه ".
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " أشهد غَيْرِي "، وَهَذَا يدل على أَنه اخْتِيَار ".
وروى عَن النَّبِي عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْبَغِي - وَفِي رِوَايَة: لَا يحل لأحد أَن يُعْطي عَطِيَّة فَيرجع فِيهَا إِلَّا

(3/457)


الْوَالِد فِيمَا يُعْطي وَلَده، وَمثل الَّذِي يُعْطي الْعَطِيَّة، ثمَّ يرجع فِيهَا كَالْكَلْبِ يَأْكُل، حَتَّى إِذا شبع تقيأ، ثمَّ عَاد فَرجع فِي قيئه ".
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة قَالَ: " كتب عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - بِقَبض الرجل من وَلَده مَا أعطَاهُ مَا لم يمت، أَو يستهلكه، أَو يَقع فِيهِ دين ".
وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ولد الرجل من كَسبه "، وَقَالَ: " أَنْت وَمَالك لأَبِيك "، فَهُوَ من عُمُومه إِلَّا مَا قَامَ دَلِيله.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، إِن لي مَالا وَولدا وَإِن وَالِدي يحْتَاج مَالِي "، قَالَ: " أَنْت وَمَالك لوالدك؛ إِن أَوْلَادكُم من أطيب كسبكم، فَكُلُوا من كسب أَوْلَادكُم ".

(3/458)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - / قَالَ: " الْعَائِد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد لَا تقوم بِهِ حجَّة عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا قَالَ: " إِذا كَانَت الْهِبَة لذِي رحم محرم لم يرجع فِيهَا ".
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " من وهب هبة لوجه الله فَذَلِك لَهُ، وَمن وهب هبة يُرِيد ثَوَابهَا فَإِنَّهُ يرجع فِيهَا (إِن لم يرض مِنْهَا) "، وَالصَّوَاب فِيهِ: عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا، وَمن أسْندهُ فقد وهم.
وَرُوِيَ بِأَلْفَاظ أخر.
وَالْمَقْصُود مِمَّا عساه يَصح مِنْهُ جَوَاز الرُّجُوع فِيمَا وهب للثَّواب، فَأَما إِذا كَانَت هِبته لصلة رحم أَو نَحوه فَإِنَّهُ لَا يقْصد بهَا ثَوابًا من

(3/459)


الْمَوْهُوب لَهُ، فَلَا يرجع فِيهَا، إِلَّا من اسْتَثْنَاهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الحَدِيث الَّذِي قدمنَا ذكره، وَهُوَ الْوَالِد وَمن فِي مَعْنَاهُ.
وروى جَابر الْجعْفِيّ - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " من وهب هبة لغير ذِي رحم فَلم يثب فِيهَا فَهُوَ أَحَق بهَا ".
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَة (154) :

وَيصِح هبة الْمشَاع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يَصح هبة مَا يَنْقَسِم ... . ".
عَن حابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ لي: صله، أَو صل رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَكَانَ لي عَلَيْهِ دين فقضاني وَزَادَنِي "، رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَأَخْرَجَا عَنهُ قَالَ: " بِعْت بَعِيرًا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَأمر بِلَالًا أَن يزِيد لَهُ) ، فوزن فأرجح، فَمَا زَالَ بعض تِلْكَ الدَّرَاهِم معي حَتَّى أصبت يَوْم الْحرَّة ".

(3/460)


وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن طَلْحَة عَن عُمَيْر بن سَلمَة الضمرِي (أَنه أخبر) عَن الْبَهْزِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج يُرِيد مَكَّة، وَهُوَ محرم، حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذا حمَار وَحشِي عقير، فَذكر لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " دَعوه، فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِي صَاحبه "، فجَاء الْبَهْزِي - وَهُوَ صَاحبه - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحمار "، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَسمهُ بَين الرفاق، ثمَّ مضى، حَتَّى إِذا كَانَ بالأثاية بَين الرُّوَيْثَة وَالْعَرج إِذا

(3/461)


ظَبْي حَاقِف فِي ظلّ، وَفِيه سهم، فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر رجلا يثبت عِنْده، لَا يرِيبهُ أحد من النَّاس حَتَّى يُجَاوِزهُ.
وروى مُسلم البطين أَن حُسَيْن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - ورث مَوَارِيث فَتصدق بهَا قبل أَن يقسم، فأجيزت.
وروى عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس قَالَ: " نَحَلَنِي أنس نصف دَاره، فَقَالَ أَبُو بردة: إِن سرك يجوز لَك، فاقبضه، فَإِن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِي الأنحال أَن مَا قبض مِنْهُ فَهُوَ جَائِز، وَمَا لم يقبض مِنْهُ فَهُوَ مِيرَاث "، قَالَ: فدعوت يزِيد الرشك فَقَسمهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (155) :

للغني أكل اللّقطَة بعد حول التَّعْرِيف. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ:

(3/462)


" لَيْسَ لَهُ أكلهَا، وَعَلِيهِ أَن يتَصَدَّق بهَا ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْأَله عَن اللّقطَة، فَقَالَ: أعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فشأنك بهَا "، اتفقَا على صِحَّته.
وَعنهُ قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن اللّقطَة، فَقَالَ: عرفهَا سنة فَإِن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ كلهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فارددها إِلَيْهِ. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأَخْرَجَا حَدِيث سُوَيْد بن غَفلَة عَن أبي بن كَعْب: " وجدت صرة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مائَة دِينَار فَأتيت بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ لي: عرفهَا ... " وَذكر الحَدِيث.

(3/463)


وَقَالَ فِي آخِره - فِي رِوَايَة البُخَارِيّ -: " احفظ وعاءها، وعددها، ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فاستمتع بهَا ".
وَفِي رِوَايَة مُسلم زَاد: " فاستمتعت بهَا ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " اعرف عَددهَا، ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عَددهَا ووكاءها فادفعها إِلَيْهِ ".
وَمن حَدِيثه أَيْضا عَن عبد الله بن عَمْرو عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْنى حَدِيث زيد / ابْن خَالِد، وَزَاد فِيهِ: " فَإِن جَاءَ باغيها فَعرف عفاصها، وعددها فادفعها إِلَيْهِ ". قَالَ أَبُو دَاوُد: " هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي زَاد حَمَّاد لَيست بمحفوظة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن بِلَال بن يحيى الْعَبْسِي عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ 0 أَنه الْتقط ديناراًُ فَاشْترى بِهِ دَقِيقًا، فَعرفهُ صَاحب

(3/464)


الدَّقِيق، فَرد عَلَيْهِ الدِّينَار، فَقطع مِنْهُ قيراطين، فَاشْترى بِهِ لَحْمًا.
(وَعِنْده) عَن ابْن مقسم عَن رجل عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - وجد دِينَارا، فَأتى فَاطِمَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَسَأَلَ عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ رزق الله؛ فَأكل مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأكل عَليّ وَفَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهُمَا - فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك أَتَت امْرَأَة تنشد الدِّينَار، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا عَليّ، أد الدِّينَار ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء بن يسَار أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - وجد دِينَارا فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يعرفهُ، فَعرفهُ فَلم يجد لَهُ بَاغِيا، فأنفقه، ثمَّ وجد باغيه، فغرمه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا، رَضِي الله عَنهُ ".
فأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مِمَّن لَا تحل لَهُ الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ من صليبة بني هَاشم، فحين وجد لقطَة أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بتعريفها، ثمَّ إِنَّه احْتَاجَ إِلَيْهَا، فلشدة حَاجته إِلَيْهَا أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإنفاقها، فَاشْترى بِهِ دَقِيقًا، فحين عرف صَاحب الدَّقِيق عليا - رَضِي الله عَنهُ - رد عَلَيْهِ الدِّينَار، فَاشْترى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِبَعْضِه لَحْمًا، وَلَعَلَّه أنْفق الْبَاقِي أَيْضا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ باغيه غرمه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدله، وَإِنَّمَا أذن لَهُ فِي إِنْفَاقه قبل مُضِيّ سنة التَّعْرِيف لشدَّة حَاجته إِلَيْهِ، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن يكون

(3/465)


عرفه سنة، فَلم ينْقل الرَّاوِي، أَو مَا كَانَ شرع تَعْرِيف السّنة جَاءَ بعد. وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن بدر أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه نزل منزلا بطرِيق الشَّام، فَوجدَ صرة فِيهَا ثَمَانُون دِينَارا، فَذكر ذَلِك لعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " عرفهَا على أَبْوَاب الْمَسَاجِد واذكرها لمن تقدم من الشَّام سنة، فَإِذا مَضَت السّنة فشأنك بهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - حِكَايَة عَن رجل عَن شُعْبَة عَن أبي قيس قَالَ: " سَمِعت هزيلاً يَقُول: " رَأَيْت عبد الله - يَعْنِي ابْن

(3/466)


مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ - أَتَاهُ رجل بصرة مختومة، فَقَالَ: قد عرفتها وَلم أجد من يعرفهَا، قَالَ: استمتع بهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَهَكَذَا السّنة الثَّابِتَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِن عارضوا بروايتهم عَن عَامر عَن أَبِيه عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - أَنه اشْترى جَارِيَة فَذهب صَاحبهَا، فَتصدق بِثمنِهَا وَقَالَ: " اللَّهُمَّ، عَن صَاحبهَا، فَإِن كره فلي، وَعلي الْغرم "، ثمَّ قَالَ: " هَكَذَا نَفْعل باللقطة "، قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فخالفوا السّنة فِي اللّقطَة الَّتِي لَا حجَّة مَعهَا، وخالفوا حَدِيث عبد الله الَّذِي يُوَافق السّنة، وَهُوَ عِنْدهم ثَابت، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث، وهم يخالفونه فِيمَا هُوَ فِيهِ بِعَيْنِه، لأَنهم لَا يَقُولُونَ كَمَا رووا عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله أَن المُشْتَرِي يتَصَدَّق بِثمن الْمَبِيع إِذا فقد البَائِع ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى يُوسُف بن خَالِد السَّمْتِي عَن زِيَاد عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسُئِلَ عَن اللّقطَة، قَالَ: " لَا تحل اللّقطَة، من الْتقط شَيْئا فليعرفه سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليردها إِلَيْهِ، وَإِن لم يَأْتِ صَاحبهَا فليتصدق بهَا، وَإِن جَاءَ فليخيره بَين الْأجر وَبَين الَّذِي لَهُ ".

(3/467)


قَالَ يحيى بن معِين: " كَانَ يُوسُف السَّمْتِي يكذب ".
وَرُوِيَ ذَلِك من حَدِيث مَالك عَن سمي، وَهُوَ خطأ؛ وَالصَّحِيح من حَدِيث مَالك مَا رُوِيَ عَنهُ عَن ربيعَة عَن يزِيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، الحَدِيث الَّذِي تقدم، الْمُتَّفق على صِحَّته، / وَالْحمل فِي هَذَا الحَدِيث على مُحَمَّد بن مَعْرُوف بن مُوسَى الْأَبْهَرِيّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْرُوف.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه أفتى بذلك، وَعَاصِم ضَعِيف.
وَقد روينَا جَوَاز الْأكل عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا، ومذهبه أَيْضا، وبأسانيد صِحَاح مَوْصُولَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بالاتباع، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

(3/468)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع أَن رجلا وجد لقطَة فجَاء إِلَى عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " إِنِّي وجدت لقطَة فَمَاذَا ترى؟ " فَقَالَ لَهُ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " عرفهَا "، قَالَ: " قد فعلت "، قَالَ " زد "، قَالَ: " قد فعلت "، قَالَ: " لَا آمُرك أَن تأكلها، وَلَو شِئْت لم تأخذها ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى -: " ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يُوَقت فِي التَّعْرِيف وقتا، وَأَنْتُم توقتون، وَابْن عمر كره أكلهَا غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا، وَأَنْتُم لَيْسَ هَكَذَا تَقولُونَ، وَابْن عمر يكره لَهُ أَخذهَا، وَيكرهُ لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا، وَأَنْتُم لَا تَكْرَهُونَ، بل تستحبون، وتقولون: لَو تَركهَا ضَاعَت. وَلَعَلَّ ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - لم يسمع الحَدِيث فِي اللّقطَة ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (156) :

وَلَيْسَ لَهُ أَخذ الْإِبِل فِي الصَّحرَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ ذَلِك ".
لنا حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " ... . وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَك وَلها؟ دعها، فَإِن مَعهَا حذاءها

(3/469)


وسقاءها، ترد المَاء وتأكل الشّجر؛ حَتَّى يجِئ رَبهَا، وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة، فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب "، اتفقَا على صِحَّته.
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا فِي الصَّحِيح أَيْضا عَنهُ الحَدِيث، وَفِيه: " قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُول الله، فضَالة الْإِبِل؟ فَغَضب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه، أَو احمر وَجهه، وَقَالَ: مَا لَك وَلها؟ مَعهَا حذاؤها وسقاؤها حَتَّى يَأْتِيهَا رَبهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن الْمُنْذر بن جرير، (قلا " كنت مَعَ جرير بالبوازيج، فجَاء الرَّاعِي بالبقر، وفيهَا بقرة لَيست مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ جرير) : مَا هَذِه؟ قَالَ: لحقت بالبقر، لَا يدْرِي لمن هِيَ، فَقَالَ جرير: أخرجوها، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا يأوي الضَّالة إِلَّا الضال ".

(3/470)


وَرُوِيَ عَن الْجَارُود بن الْمُعَلَّى أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنَّا نصيب فِي أسفارنا إبِلا هوامل، فَهَل علينا بَأْس أَن نركبها، وننتفع بهَا؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إياك وضالة الْمُسلم، فَإِنَّهَا حرق النَّار ".
مَسْأَلَة (157) :

وَلَا يسْتَحق الْجعل فِي رد الْآبِق من العبيد وَالْإِمَاء، والضوال من الْبَهَائِم إِلَّا بِالشّرطِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن رد العَبْد من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَت قِيمَته أَرْبَعِينَ أَو اكثر اسْتحق أَرْبَعِينَ ".
رُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي جعل الْآبِق دِينَار قَرِيبا أَخذ أَو بَعيدا.
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن سعيد بن الْمسيب كَانَ يَقُول ذَلِك.
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يَقُول: " إِذا خرج من الْمصر فَجعله أَرْبَعُونَ درهما ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي العَبْد الْآبِق يُؤْخَذ فِي الْحرم بِعشْرَة دَرَاهِم ".

(3/471)


وَلَا حجَّة لَهُم فِيمَا روينَا عَن عَليّ، (وَابْن عمر) - رَضِي الله عَنْهُم - لِأَن مَذْهَبهم بِخِلَاف ذَلِك.
وَلَا نقُول بِهِ؛ لضعف بعض رُوَاة الْحَدِيثين. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ مُنْقَطع من هَذَا الْوَجْه، وأمثل مَا رُوِيَ فِيهِ عَن ابْن مَسْعُود (مَا روينَا فِيهِ عَن أبي عمر الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: " أصبت غلماناً إباقاً بالغين، فَأتيت ابْن مَسْعُود) فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: الْأجر وَالْغنيمَة. قلت: هَذَا الْأجر، فَمَا الْغَنِيمَة؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ درهما من كل رَأس ".
وَلَعَلَّ ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - عرف شَرط مالكهم لمن ردهم، فَأخْبرهُ بذلك. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (158) :

(3/472)


(صفحة فارغة)

(3/473)


(صفحة فارغة)

(3/474)


لَا يَصح إِسْلَام الصَّبِي بِنَفسِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يَصح إِذا كَانَ مُمَيّزا ".
رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يفِيق، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ ".
ورويناه عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".

(3/475)


استدلوا بِحَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن غُلَاما / من الْيَهُود كَانَ يخْدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَرض، فَأَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعودهُ، فَقعدَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد رَأسه، (فَقَالَ أسلم) ، فَنظر الْغُلَام إِلَى أَبِيه (- وَهُوَ عِنْده -) ، فَقَالَ أطع أَبَا الْقَاسِم، فَأسلم، فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَقُول: " الْحَمد لله الَّذِي أنقذه (بِي من النَّار) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
قُلْنَا: يحْتَمل أَنه كَانَ بَالغا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ غُلَاما لعدم نَبَات لحيته، وَيحْتَمل أَن تكون صِحَة إِسْلَامه لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاطبه بِالْإِسْلَامِ. أَلا ترى أَن أَبَاهُ قَالَ: أطع أَبَا الْقَاسِم؟ وَإِذا كَانَ مَخْصُوصًا بِالْإِسْلَامِ كَانَ مَخْصُوصًا بِصِحَّتِهِ، نَحْو مَا نقُول فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَإِن احْتج مُحْتَج بِأَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أسلم فِي حَال من لم يبلغ، فعد ذَلِك إسلاماً، وَقيل: " كَانَ أول من أسلم "، فَقَالَ: " إِنَّمَا قَالَ النَّاس: أول من صلى عَليّ، رَضِي الله عَنهُ "، رُوِيَ ذَلِك عَن زيد بن أَرقم.
فَإِن قيل: " إِذا كَانَ هُوَ أول من صلى دلّ ذَلِك على صِحَة

(3/476)


إِسْلَامه حِينَئِذٍ " فَجَوَابه مَا ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله - من أَن الصَّلَاة قد تكون من الصَّغِير، وَالْحج. وَقد أشرفت امْرَأَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بصبي من هودج، فَقَالَت: " أَلِهَذَا حج؟ " قَالَ: " نعم، وَلَك أجر ".
وَقد رَأينَا الصَّغِير يرى الصَّلَاة فَيصَلي، وَهُوَ غير عَالم بِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَهُوَ غير عَارِف بِالْإِيمَان، فعلى ذَلِك كَانَ أَمر عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ أول من صلى، وَذَلِكَ أَنه رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَدِيجَة - رَضِي الله عَنْهَا - يصليان، فَفعل فعلهمَا، كَمَا يرى الصَّبِي أَبَوَيْهِ يصليان فَيصَلي بصلاتهما، وَلَيْسَ مِمَّن يعقل تَكْلِيف الصَّلَاة، وَلَا الْإِيمَان.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد اخْتلف النَّاس فِي سنّ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - يَوْم أسلم، فَذهب مُجَاهِد وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن يسَار إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن عشر سِنِين، وَذهب شريك القَاضِي إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة، (وَذهب أَبُو الْأسود وَغَيره إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْ عشرَة سنة) ، وَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة إِلَى أَنه أسلم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة أَو سِتّ عشرَة.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْحسن وَغَيره فِي سنّ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -

(3/477)


صَحِيح على قَول من زعم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكث بِمَكَّة خمس عشرَة سنة، وَأَن عليا - رَضِي الله عَنهُ قتل وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ (سنة) .
روى ذَلِك مُسلم فِي الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة خمس عشرَة سنة يسمع الصَّوْت. وَيرى الضَّوْء سبع سِنِين، وَلَا يرى شَيْئا، وثمان سِنِين يُوحى إِلَيْهِ، وَأقَام بِالْمَدِينَةِ عشرا ".
فعلى هَذَا التَّفْصِيل يكون إِسْلَام عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بعد السنين السَّبع، وَهُوَ بعد مَا أُوحِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيكون مقَامه بِمَكَّة بعد الْوَحْي ثَمَان سِنِين، فَيكون عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي قَول من قَالَ: " قتل وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة " على رَأس أَرْبَعِينَ من مهَاجر النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقد رُوِيَ تَارِيخ قَتله - رَضِي الله عَنهُ - هَكَذَا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى.
فَإِن كَانَ الصَّحِيح من هَذِه الرِّوَايَات قَول من زعم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أسلم وَهُوَ صبي لم يَحْتَلِم فقد قَالَ

(3/478)


أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ - رَحمَه الله -: " لما أمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاة فَهُوَ أحد شَيْئَيْنِ:
إِمَّا أَن يكون خصّه بِالْخِطَابِ لما صَار من أهل التَّمْيِيز والمعرفة دون سَائِر الصغار، ليَكُون ذَلِك كَرَامَة لَهُ ومنقبة، فَلَمَّا توجه عَلَيْهِ الْخطاب والدعوة صحت مِنْهُ الْإِجَابَة، وَسَائِر الصغار لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِم الْخطاب والدعوة فَلَا يَصح مِنْهُم الْإِسْلَام.
اَوْ يكون خطاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام وَالصَّلَاة يَوْمئِذٍ على أَنه بَالغ عِنْده؛ لِأَن الْبلُوغ بِالسِّنِينَ لَيْسَ مِمَّا شرع فِي أول الْإِسْلَام، بل لَيْسَ يحفظ قبل قصَّة ابْن عمر فِي أحد وَالْخَنْدَق فِي ذَلِك شَيْء، فَالظَّاهِر أَن النَّاس كَانُوا يجرونَ فِي ذَلِك على رَأْيهمْ وَمَا تعارفوه من أَن الصَّبِي من لَا يُمكن أَن يُولد لَهُ، وَالرجل من يُمكن أَن يُولد لَهُ، وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - ابْن عشر سِنِين لما أسلم، وَظَاهر من يُقَال إِنَّه ابْن عشر أَنه اسْتكْمل عشرا، أَو دخل فِي الْحَادِي عشر. وَمن بلغ هَذِه السن فقد يُمكن من أَن يُولد بِهِ. فَلَمَّا شرع الْبلُوغ بعد ذَلِك السنين، وَنظر إِلَى السن الَّتِي كل من بلغَهَا جَازَ أَن يُولد لَهُ دون السن الَّتِي ينْدر مِمَّن بلغَهَا الإيلاد، وَكَانَ من قصرت سنوه عَن ذَلِك الْحَد صَغِيرا فِي الحكم، وَلم يجز أَن يَصح إِسْلَامه، وَالله أعلم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: فعلى قَول من قَالَ: " أسلم عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة " صَحَّ إِسْلَامه. (وعَلى قَول من زعم أَنه أسلم وسنه دون ذَلِك صَحَّ إِسْلَامه) أَيْضا على الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْحَلِيمِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.

(3/479)


وَصَحَّ أَيْضا على قَول من زعم أَن إِسْلَام الصَّبِي مَوْقُوف على بُلُوغه، ومكثه عَلَيْهِ، فقد بلغ، وَمكث عَلَيْهِ، رضوَان الله عَلَيْهِ وَسَلَامه. وَهَذِه طَريقَة بعض أَصْحَابنَا.
فَإِن رجحوا قَول من قَالَ: " أسلم وَهُوَ صَغِير غير بَالغ " بِمَا نروي عَنهُ - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله: " سبقتهم إِلَى الْإِسْلَام قدما ً غُلَاما مَا بلغت أَوَان حلمي "، فَهَذَا وَإِن كَانَ شَائِعا بَين النَّاس، إِلَّا أَنه لم يَقع إِلَيْنَا بِإِسْنَاد إِلَيْهِ - رَضِي الله عَنهُ - يحْتَج بِمثلِهِ، ثمَّ يحْتَمل أَن يكون قد بلغ الْحلم؛ قَوْله: " مَا بلغت أَوَان حلمي " أَي: أَوَان احْتِلَام أمثالي، أَو كَانَ قد بلغ بِالسِّنِّ، على مَا قَالَه الْحسن وَغَيره، دون الِاحْتِلَام، وَالله أعلم.
وَأما الزبير بن الْعَوام - رَضِي الله عَنهُ - فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن عُرْوَة فِي مبلغ سنه يَوْم أسلم؛ فَروِيَ عَن أبي الْأسود عَنهُ قَالَ: " أسلم الزبير وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين ".
وَرُوِيَ عَن هِشَام ابْنه عَنهُ أَن الزبير - رَضِي الله عَنهُ - أسلم يَوْم أسلم وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، فَمَا تخلف عَن غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطّ، وَقتل وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة ".
وَهَذِه الرِّوَايَة أولى؛ فولد الرجل أعرف بِهِ. وَالله أعلم.

(3/480)