موسوعة
الفقه الإسلامي 2 - القواعد الفرعية
1 - قواعد العبادات
1 - الأصل في العبادات الحظر إلا ما شرعه الله ورسوله.
فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
فكل واجب أو مستحب شرعه الله ورسوله فهو عبادة نعبد الله بها، فمن أوجب
شيئاً .. أو استحب شيئاً .. أو حرم شيئاً .. أو كره شيئاً .. أو أباح شيئاً
.. لم يدل عليه الكتاب والسنة .. فقد ابتدع ديناً لم يأذن به الله.
- والبدع في العبادات قسمان:
1 - إما أن يبتدع عبادة لم يشرع الله ولا رسوله جنسها أصلاً.
2 - وإما أن يبتدع في العبادة ما يغير به ما شرعه الله ورسوله.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
[النساء:115].
2 - وقال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
[الكهف:110].
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالتْ: قال رَسُولُ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ
فَهُوَ رَدٌّ». متفق عليه (1).
2 - المكلف هو البالغ العاقل.
فالعقل شرط لوجوب العبادات.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697) , واللفظ له، ومسلم برقم (1718).
(2/298)
والتمييز شرط لصحة العبادات إلا الحج
والعمرة .. والزكاة والكفارة.
والتكليف والرشد شرط لصحة التصرف.
والتكليف والرشد والملك شرط لصحة التبرع.
3 - من ترك المأمور به لم يبرأ إلا بفعله، ومن فعل المنهي عنه جاهلاً أو
ناسياً فهو معذور ولا يلزمه شيء، وعبادته تامة.
فمن صلى وهو محدث، أو ترك ركناً أو شرطاً من شروط الصلاة لغير عذر، فعليه
الإعادة ولو كان جاهلاً أو ناسياً، ومن نسي النجاسة في بدنه، أو ثوبه، أو
جهلها فلا إعادة عليه؛ لأن الأول مِنْ ترك المأمور .. والثاني مِنْ فعل
المحظور.
ومن ترك نية الصيام لم يصح صومه، ومن فعل مفطراً جاهلاً، أو ناسياً فصومه
صحيح.
ومن ترك الطواف أو السعي في الحج والعمرة فعليه الإتيان به، ومن فعل
محظوراً من محظورات الإحرام كتغطية الرأس، ولبس المخيط ونحوهما وهو جاهل،
أو ناسي فلا شيء عليه.
4 - إذا خُيِّر العبد بين أمرين فأكثر قَدّم الأصلح.
1 - فإن كان التخيير لمصلحة العبد نفسه اختار ما يناسبه.
ومثاله: التخيير في كفارة اليمين بين إطعام عشرة مساكين .. أو كسوتهم .. أو
تحرير رقبة.
والتخيير في فدية الأذى للمحرم بين صيام ثلاثة أيام .. أو إطعام ستة
مساكين .. أو ذبح شاة .. وهكذا.
(2/299)
2 - وإن كان التخيير لمصلحة الغير فهو
تخيير يلزمه فيه الاجتهاد في الأصلح.
ومثاله: تخيير الإمام في أسرى الحرب بين قتلهم .. أو استرقاقهم .. أو أخذ
الفدية منهم .. أو المنّ عليهم.
فيلزمه في هذا الأصلح للدين والأمة.
وناظر الوقف، وولي اليتيم، والوصي ونحوهم إذا تعارضت التصرفات، لزمه التصرف
بأحسن ما يراه يحقق المصلحة.
5 - إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أو شرطها فسدت، وإن عاد إلى أمر خارج
لم تفسد، وإنما ينقص ثوابها.
فمن توضأ بماء محرم كمغصوب، أوصلى في ثوب محرم، وهو عالم ذاكر متعمد، فهذا
بطلت طهارته وصلاته.
وإن كان الماء مباحاً، والإناء مغصوباً، حرم ذلك الفعل، وصحت الطهارة.
وإذا صلى رجل وعليه خاتم ذهب، حرم ذلك الفعل، والصلاة صحيحة، لأن التحريم
في المسألتين عاد إلى أمر خارج.
والصائم إذا تناول شيئاً من المفطرات عالماً ذاكراً متعمداً فسد صومه، وإن
فعل شيئاً من المحرمات في حق الصائم وغيره كالغيبة، والنميمة صح صومه مع
الإثم.
6 - يجب فعل المأمور به كله، واجتناب المنهي عنه كله.
فإن قدر على المأمور به فَعَله، وإن قدر على بعضه وعجز عن باقيه فعل ما قدر
عليه، ويجتنب المنهي عنه كله.
1 - قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا
(2/300)
لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن:16].
2 - وَعن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ،
فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ
بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». متفق عليه (1).
7 - إذا تعارض مندوبان، فيقدم المندوب المهجور على المندوب المشتهر، وذلك
لسببين: فعله، وإحياؤه.
ويقدم المندوب المتعدي نفعه كطلب العلم وتعليمه، على المندوب القاصر نفعه
على فاعله كصلاة النفل، وتلاوة القرآن ونحو ذلك.
وإذا تعارض محرمان أو مكروهان لا بد من أحدهما، كقتل النفس، وشرب الخمر،
فَعَل الإنسان الأخف منهما، وقدم ما هو ضرره على نفسه، واجتنب ما يتعدى
ضرره إلى غيره.
8 - كل عبادة مركبة من أجزاء لا بد فيها من أمرين:
الترتيب .. والموالاة.
مثل الوضوء .. والصلاة .. والحج ونحوها.
9 - إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد تداخلت أفعالهما، واكتفى عنهما بفعل
واحد.
فمن دخل المسجد وصلى ركعتين، ونوى بهما ركعتي الوضوء، وتحية المسجد، والسنة
الراتبة، وصلاة الاستخارة، حصل له أجر ذلك كله.
ومن حلف عدة أيمان على شيء واحد، وحنث فيه عدة مرات ولم يكفِّر،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288) , واللفظ له، ومسلم برقم (1337).
(2/301)
أجزأه كفارة واحدة عن الجميع.
10 - والواجب بالنذر كالواجب بالشرع.
فإذا نذر صلاة وأطلق فأقلها ركعتان، ويلزمه أن يصليها بشروطها وأركانها
كالفرض.
ومن عليه صوم نذر لم يكن له أن يصوم نفلاً قبل أداء نذره.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم
- قال: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ
يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ». أخرجه البخاري (1).
11 - الأحكام لا تتم ولا يترتب عليها مقتضاها حتى تتم شروطها، وتنتفي
موانعها.
فالتوحيد مثمر لكل خير في الدنيا والآخرة، ودافع لكل شر في الدنيا والآخرة.
ولكن لا تحصل هذه الأمور إلا باجتماع شروطه، وانتفاء موانعه.
فأما شروطه:
فهي نطق اللسان بالتوحيد .. وإقرار القلب بالتوحيد .. وتصديقه ومحبته
للتوحيد .. وبغضه للشرك .. وانقياد الجوارح للعمل بالتوحيد بالأعمال
الصالحة الظاهرة والباطنة .. فهذه شروطه.
وأما موانعه ومفسداته فهي ضد هذه الشروط.
وجماع الموانع:
إما شرك .. وإما بدعة .. وإما معصية.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6696).
(2/302)
فالشرك نوعان:
شرك أكبر يبطل التوحيد والأعمال بالكلية.
وشرك أصغر ينقص التوحيد ولا يزيله بالكلية، وكذلك البدع والمعاصي تنقصه
بحسبها ولا تزيله بالكلية.
وكذلك الوضوء لا يتم إلا باجتماع شروطه وفروضه، وانتفاء موانعه ونواقضه.
وكذلك الصلاة لا تتم حتى توجد أركانها وشروطها، وتنتفي موانعها ومبطلاتها.
وكذا الزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال لا تتم إلا بوجود الشروط، وانتفاء
الموانع.
ودخول الجنة شرطه الإيمان والأعمال الصالحة، وموانعه الردة ومبطلات
الأعمال، فلا بد من حصول الشرط، وانتفاء المانع.
ودخول النار سببه الكفر والمعاصي، وموانعه الإيمان والتوبة.
فإذا حصل السبب، وانتفى المانع ثبت الحكم.
فكل عبادة، أو معاملة، أو عقد من العقود إذا فسدت، فسبب ذلك أحدأمرين:
إما لفقد أحد شروطها ولوازمها .. أو لوجود مانع يبطلها.
12 - يقوم البدل مقام المبدَل إذا تعذر الأصل.
فالتيمم يقوم مقام الوضوء عند فقد الماء أو التضرر باستعماله، ويؤدَّى به
ما
يؤدَّى بالوضوء من فرض ونفل ونحوهما.
(2/303)
وكذلك الهدي والأضحية إذا فقدت تبدل بخير
منها أو مثلها.
وكذلك الوقف إذا جاز بيعه أبدله بما يحقق المصلحة من جنسه.
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء:43].
13 - الفعل ينبني بعضه على بعض مع الاتصال المعتاد.
فالانقطاع اليسير بين مفردات الفعل الواحد لا يقطع الاتصال.
فإذا غسل بعض أعضاء الوضوء، وانفصل غسل الباقي عن الأول، فإن كان الفصل
قصيراً لم يضر، وإن طال الفصل أعاده من أوله .. وهكذا في كل فعل تعتبر له
الموالاة.
وإذا ترك شيئاً من صلاته وسلم قبل إتمامها، ثم ذكر ولم يطل الفصل، أتى بما
تركه وسجد للسهو، ولو طال الفصل عرفاً أعادها كلها.
وإذا ألحق بكلامه استثناءاً أو شرطاً أو وصفاً، فإن طال الفصل عرفاً لم
ينفعه، وإن اتصل لفظاً أو حكماً كانقطاعه بعطاس وشبهه لم يضر .. وهكذا في
كل قول يعتبر اتصال بعضه ببعض.
(2/304)
2 - قواعد المعاملات
1 - الأصل في المعاملات والعادات الحل والإباحة.
فلا يحرم من المعاملات والعادات إلا ما حرمه الله ورسوله.
فالعادات كلها كالمآكل والمشارب، والملابس والمراكب، والمساكن والمصانع،
الأصل فيها الإباحة والإطلاق.
والمعاملات كلها كالبيوع، والإجارات وسائر العقود، الأصل فيها الإباحة.
فمن حرم شيئاً منها لم يحرمه الله ولا رسوله فهو مبتدع في الدين ما لم يأذن
به الله، كمن حرم بعض أنواع اللباس، أو الأجهزة، أو المصنوعات بغير دليل
شرعي يحرمه .. والمحرَّم من هذه الأشياء كل خبيث وضار.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا
يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}
[النحل:116 - 117].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف:32].
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ
فَهُوَ رَدٌّ». متفق عليه (1).
2 - الصلح جائز بين المسلمين إلا ما خالف الشرع.
فالصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697) , واللفظ له، ومسلم برقم (1718).
(2/305)
والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً
أو حرم حلالاً.
وجميع أنواع الصلح الجارية بين المسلمين جائزة ما لم تُدخلهم في حرام، أو
تخرجهم من واجب.
فيصح الصلح مع الإقرار بالحق ومع إنكاره .. ويصح الصلح عن الحقوق الثابتة
ليسقطها مَنْ هي له كخيار العيب، أو الغبن أو نحوهما .. ويصح الصلح عن دم
العمد في النفس بمال ونحوه.
وكذا لو صالح غيره عن المجهول من الديون والحقوق بشيء معلوم جاز، وكذا لو
صالحه عن الدين المؤجل ببعضه حالاً جاز.
فهذا وأمثاله من الصلح كله جائز بشرطه.
قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا (114)} [النساء:114].
3 - إذا عاد التحريم إلى نفس السلعة أو شرطها فسد البيع، وإن عاد إلى أمر
خارج لم يفسد، وللآخر الخيار.
فإذا باع الإنسان ما لا يملك، أو بغير رضى معتبر، أو كان بيع رباً أو غرر
ونحو ذلك فسد البيع؛ لأنه متعلق بذاته وشرطه.
وإن تلقى الجلَب، أو باع معيباً يعلمه، أو دلّس في البيع، فالعقد صحيح/
والفعل محرم، وللآخر الخيار.
4 - ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله
خيراً منه.
فمن طلق زوجته في مرض موته المخوف، ترث منه ولو خرجت من العدة.
(2/306)
ومن قتل مورِّثه حُرم من الميراث، سواء كان
القتل عمداً، أو خطأً، إذا كان بغير حق.
وإذا قتل الموصى له الموصي بطلت الوصية .. ومن تعجل شهواته المحرمة في
الدنيا عوقب بالحرمان منها في الآخرة إن لم يتب .. ومن شرب الخمر في الدنيا
لم يشربها في الآخرة إن لم يتب.
5 - البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
فكل من ادعى عيناً عند غيره، أو ديناً على غيره، أو حقاً من الحقوق، فعليه
البينة.
فإن لم يأت ببينة تشهد بصحة دعواه، فعلى الآخر اليمين التي تنفي ما ادعاه
المدعي.
6 - وجوب التراضي بين الطرفين في جميع العقود.
فيجب التراضي بين الطرفين في جميع عقود المعاوضات، والتبرعات، والفسوخ
الاختيارية.
فالبيوع والإجارات والمشاركات ونحوها لا بد فيها من رضى المتعاقدين.
وكذلك النكاح وغيره من العقود والفسوخ لا تصح إلا برضى المتصرف فيها.
فمن أُكره على عقد أو فسخٍ بغير حق فعقده وفسخه لاغ.
ومن امتنع من واجب عليه وأكره فإنّ إكراهه بحق، ولا يشترط رضاه، فمن أُكره
على بيع ماله وحلاله لوفاء دينه، أو شراء ما يجب عليه من نفقة، فهو إكراه
بحق.
(2/307)
ومن وجب عليه طلاق زوجته لسبب فامتنع أجبر
عليه بحق.
7 - الإتلاف مضمون على من أتلفه.
فمن أتلف شيئاً ضمنه، سواء كان متعمداً، أو جاهلاً، أو ناسياً، وسواء كان
صغيراً، أو كبيراً.
وهذا الضمان شامل لإتلاف النفوس المحترمة، والأموال، والحقوق، فمن أتلف
شيئاً من ذلك بغير حق فعليه ضمانه.
والفرق بين المتعمد وغيره من جهة الإثم، وعقوبة الدنيا والآخرة في حقه،
وعدمه في حق المعذور بخطأ، أو نسيان.
8 - التلف في يد الأمين غير مضمون، وفي يد الظالم مضمون.
والأمين كل من كان المال بيده برضى ربه.
فيدخل فيه المودع والوكيل، والأجير والمرتهن، والوصي والولي، والشريك
ونحوهم، فكل هؤلاء إذا تلف المال بأيديهم بغير تعد ولا تفريط لا يضمنون،
فإن تعدوا أو فرطوا ضمنوا.
والتعدي: فعل ما لا يجوز من التصرفات.
والتفريط: ترك ما يجب من الحفظ.
ومن كان المال بيده بغير حق فإنه ضامن لما في يده، سواء تلف بتعد، أو
تفريط، أو بدونهما؛ لأن يد الظالم متعدية، فيضمن مطلقاً، ويدخل في هذا
الغاصب، والخائن، والسارق، والجاحد ونحوهم، فهؤلاء ضامنون مطلقاً.
فأسباب الضمان ثلاثة:
اليد المتعدية .. ومباشرة الإتلاف بغير حق .. وفعل سبب يحصل به التلف.
(2/308)
9 - تُضمن المثليات بمثلها، والمتقوَّمات
بقيمتها.
فالمثليات: ما كان له مثل، أو مشابه، أو مقارن كالحيوانات، والآلات.
والمتقومات: ما ليس له مثل أو مشابه.
فكل من أتلف مالاً لغيره: فإن كان مثلياً ضمنه بمثله .. وإن كان متقوماً
ضمنه بقيمته يوم تلفه.
ومن استقرض مثلياً رد بدله .. وإن كان متقوماً رد قيمته.
عَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ
مِنْ إِبِلِ الصّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرّجُلَ
بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا
إِلاّ خِيَاراً رَبَاعِياً، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إيّاهُ، إنّ خِيَارَ
النّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً». أخرجه مسلم (1).
10 - إذا تعذر المسمى رجعنا إلى القيمة.
فمن باع شيئاً، أو أجّره بثمن معلوم، وتعذر معرفة الثمن المسمى في العقد،
نرجع إلى قيمة المبيع الذي وقع عليه العقد في وقته، وإذا تعذر معرفة الأجرة
المسماة، نرجع إلى أجرة المثل في وقته، وإذا تعذر معرفة مهر المرأة المسمى،
فإنه يجب لها مهر المثل.
وهكذا جميع العقود والمعاوضات، إذا تعذر معرفة المسمى رجعنا إلى القيمة.
11 - إذا تعذر معرفة من له الحق جُعل كالمعدوم.
فإذا علمنا أن هذا المال ملك للغير، وتعذر معرفة صاحبه، فيُجعل
_________
(1) أخرحه مسلم برقم (1600).
(2/309)
كالمعدوم، ويُصرف المال بأنفع الأبواب
لصاحبه، أو إلى أحق الناس بصرفه إليه من أقاربه.
فمن كان بيده ودائع، أو رهون، أو أمانات، أو غصوب، وجُهل ربها، وأيس من
معرفته: فإن شاء دفعها لولي بيت مال المسلمين ليصرفها في المصالح النافعة.
وإن شاء تصدق بها عن صاحبها، ونوى أنه إذا جاء خيَّره: بين إمضاء التصرف،
ويكون له الثواب، أو يضمنها له وله ثوابها.
ومن مات وليس له وارث معلوم، فميراثه لبيت المال، ليصرف في المصالح العامة
النافعة.
12 - الحق لصاحبه إذا عرفناه، وتستعمل القرعة عند التزاحم والاشتباه.
فإذا جهلنا من هو المستحق، أو تزاحم عدد على شيء لا يمكن اجتماعهم فيه، ولا
مميز لأحدهم، فهنا نُقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة استحق ذلك الحق.
فإذا تشاح اثنان في أذان، أو إقامة، أو سبق إلى مباح، أو سبق إلى جلوس في
مسجد، أو سوق، أو رباط ونحو ذلك، ولم يكن لأحدهما مرجِّح، أقرع بينهم، فمن
خرجت له القرعة قُدِّم .. وهكذا في كل أمر.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - قالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الاَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ
لاسْتَهَمُوا». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (615) , واللفظ له، ومسلم برقم (437).
(2/310)
13 - من سبق إلى المباحات فهو أحق بها من
غيره.
والمقصود بالمباحات هنا: ما ليس له مالك، ولا هو من الاختصاصات، فيدخل في
هذا:
السبق إلى إحياء الأرض الموات .. والسبق إلى صيد البر والبحر .. والسبق إلى
حطب، أو حشيش ونحوهما من المباحات .. والسبق على مكان في المسجد، أو السوق
ونحوهما.
فمن سبق إلى شيء من ذلك فهو أحق به من غيره.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم
- قالَ: «مَنْ أعْمَرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ». أخرجه
البخاري (1).
14 - من أتلف شيئاً لينتفع به ضمنه، وإن أتلفه لمضرته له فلا ضمان عليه.
فإذا صالت عليه بهيمة غيره فدفعها عن نفسه فأتلفها لم يضمنها.
وإن اضطُر إلى أكلها فذبحها لذلك فلا إثم عليه، لكن يضمنها؛ لأنه ذبحها
لنفعه.
15 - من سقطت عنه العقوبة لموجب ضوعف عليه الضمان.
فمن سرق مالاً، أو ثمراً، أو ماشية من غير حرز سقط عنه القطع، وضمن المسروق
بقيمته مرتين؛ لأن جنايته موجبة لعقوبته، ووجود المانع يمنع العقوبة، فيكون
مقابل ذلك زيادة الغُرم، وإذا قتل مسلم ذمياً عمداً لم يُقتص منه لعدم
المكافأة في الإسلام، ولكن تضاعف عليه الدية.
وإذا قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه لم يُقتص منه؛ لأنه بالقصاص
يذهب جميع بصره، ولكن يضاعف عليه الغُرم، فيلزمه دية نفس كاملة.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2335).
(2/311)
وإذا قلع صحيح العينين عين الأعور الصحيحة
وجب عليه دية كاملة، وهي دية ذهاب البصر كله .. وهكذا.
16 - من له حق ظاهر على الغير فله أخذه إذا منعه، وإن كان غير ظاهر فليس له
ذلك.
فمن كان له حق على الغير، وكان سبب الحق ظاهراً، فله الأخذ من ماله بقدر
حقه إذا امتنع، أو تعذر استئذانه، وإن كان السبب خفياً فليس له ذلك.
فإذا امتنع الزوج من النفقة الواجبة على زوجته، أو طالت غَيبته، فلها أن
تأخذ من ماله بمقدار ما يكفيها وأولادها الصغار بغير علمه؛ لأن سبب الأخذ
ظاهر.
وإذا امتنع الإنسان من قِرى الضيف الذي نزل به فله الأخذ من ماله بمقدار
حقه .. وهكذا.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ هِنْدٌ أمُّ مُعَاوِيَةَ
لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرّاً؟ قال:
«خُذِي أنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ». متفق عليه (1).
وأما من له دين أو غيره من الحقوق التي تخفى، فهذا إذا امتنع المطلوب من
الوفاء، فليس لصاحب الحق الأخذ من ماله بغير إذنه؛ لأنه وإن كان له الحق،
لكنه في هذه الحال ينسب إلى الخيانة.
17 - إذا أدى الإنسان ما عليه وجب له ما جعل عليه.
فالموظف والأجير إذا أكمل العمل استحق الأجرة كاملة في الحال، وإن لم
يُكمل العمل: فإن كان بعذر وجب له من الأجرة بقدر العمل، وإن ترك
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2211) , واللفظ له، ومسلم برقم (1714).
(2/312)
العمل من غير عذر لم يستحق شيئاً ... وهكذا
في سائر الأعمال والأعواض.
18 - الشركاء في الأملاك والحقوق والمنافع يلزم الممتنع منهم بما يعود على
الجميع بالمصلحة، فلا ضرر ولا ضرار.
فإذا احتاجت الدار، أو الأرض، أو النهر، أو البئر إلى تعمير، وامتنع أحد
الشركاء أجبر على التعمير معهم؛ لأنه حق تعلق به حق الغير فوجبت المعاونة،
كما يجب عليهم جميعاً الإنفاق على البهائم المشتركة بينهم، ويشتركون في
الزيادة، أو النقصان، أو الإنفاق بحسب أملاكهم.
19 - من لا يعتبر رضاه في عقد أو فسخ لا يعتبر علمه.
فمن له خيار شرط، أو عيب، أو غبن، أو تدليس ونحو ذلك فله الفسخ سواء رضي
الآخر أو لم يرض، وسواء علم أو لم يعلم.
ومن طلق زوجته لا يعتبر علمها كما لا يعتبر رضاها.
ومن أعتق مملوكاً فلا يشترط علمه كما لا يعتبر رضاه.
وللشريك أخذ نصيب شريكه بالشفعة ولو لم يرض المشتري ويعلم ... وهكذا.
20 - إذا تبين فساد العقد بطل ما بني عليه.
فإذا اشترى شيئاً أو استأجره ثم تصرف فيه، وبعد تصرفه بان أن العقد الأول
باطل، فتصرفه غير نافذ؛ لأنه تصرف في شيء لا يملكه شرعاً.
وأما إذا تصرف فيه، ثم فسخ العقد الأول بخيار ونحوه، فالعقد الثاني صحيح؛
لأنه تصرف فيما يملكه، لكن يضمن للأول المثليّ بمثله، والمتقوَّم
بقيمته ... وهكذا.
(2/313)
21 - العبرة في المعاملات بما في نفس
الأمر.
فإذا تصرف في شيء يظنه ملكه، أو يظنه وكيلاً، ثم بعد التصرف تبين أنه ليس
بمالك، وليس بوكيل فالتصرف غير صحيح.
وإن كان الأمر بالعكس بأن تصرف ظاناً أنه غير مالك ولا وكيل، ثم تبين أنه
مالك أو وكيل فالتصرف صحيح.
22 - إذا أقر العاقل المكلف على نفسه بحق تَرتَّب على إقراره مقتضاه.
فإذا أقر لغيره بثمن مبيع، أو بدين قرض، أو قيمة متلف، أو مغصوب أو غير ذلك
وجب عليه ما أقرّ به -ولو قال غلطت أو نسيت-؛ لأن الإقرار مقبول من العدل
وغيره.
23 - يقوم الوارث مقام مورِّثه في كل شيء يتعلق بتركته.
فيقضي الوارث ديون مورثه من التركة، وينفذ وصاياه إن لم يكن له وصي، ولا
يطالب الوارث بأكثر مما وصل إليه من التركة؛ لأنه لم يكن شريكاً للميت،
وإنما هو نائب عنه في أمواله وحقوقه.
24 - الحكم يدور مع علته ثبوتاً وعدماً.
فعلة الحكم هي الأمر به، أو النهي عنه، أو إباحته.
وقد ينص الشرع على الحكمة، وقد يكون للحُكم عدة علل، متى وجد واحدة منها
ثبت الحكم.
وقد تكون القاعدة هي العلة كقولنا:
لا ضرر ولا ضرار .. والمشقة تجلب التيسير .. والعبادت والمعاملات تفسد
بوجود موانعها، أو بفقد شيء من شروطها ..
(2/314)
والذي تجب عليه الأحكام هو البالغ العاقل
.. ونحو ذلك من الأصول التي إذا وُجدت وُجد الحكم.
والحِل دائر مع وصف الطَّيِّب، والتحريم مع وصف الخبيث. كما قال سبحانه:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
والعصير إذا تخمر صار خمراً محرماً نجساً، فإذا زال تخمره بنفسه عاد خلاً
طاهراً حلالاً.
25 - إذا اختلط المال الحلال بالحرام على وجه لا يتميز أَخرج الحرام منه
واحتاط، ويطيب له الباقي.
فهذا النوع خبثه لمكسبه، واشتباه الميتة بالمذكاة خبثه لذاته، والفرق
بينهما ظاهر.
26 - الجهل بالحكم عذر، والجهل بما يترتب على الحكم ليس بعذر.
فالجهل بالفعل هل هو حرام أو ليس بحرام هذا عذر.
فلو زنا وشرب الخمر أو أخذ الربا حديث عهد بالإسلام، معتقداً أن ذلك حلال،
فلا إثم عليه، ولا يُحد.
والجهل بما يترتب على الفعل المحرم ليس بعذر.
فإذا كان يعلم أن الزنا حرام، ولا يعلم أن حده الجلد للبكر، والرجم للثيب
فإنه يُحد؛ لانتهاك الحرمة، وهكذا في السرقة وشرب الخمر ونحو ذلك.
(2/315)
|