موسوعة الفقه الإسلامي

الباب الحادي عشر
كتاب المعاملات
ويشتمل على ما يلي:
1 - البيع.
2 - الخيار.
3 - السلم.
4 - الربا.
5 - القرض.
6 - الرهن.
7 - الضمان.
8 - الكفالة.
9 - الحوالة.
10 - الوكالة.
11 - الإجارة.
12 - الجعالة.
13 - الوديعة.
14 - العارية.
15 - الشركة.
16 - الشفعة.
17 - المساقاة والمزارعة.
18 - إحياء الموات.
19 - المسابقة.
20 - اللقطة.
21 - الغصب.
22 - الحجر.
23 - الصلح.
24 - القسمة.
25 - الهبة.
26 - الوصية.
27 - الوقف.
28 - العتق.

(3/359)


عَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (وَأَهْوَى النّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَىَ أُذُنَيْهِ) «إنّ الحَلاَلَ بَيّنٌ وَإنّ الحَرَامَ بَيّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، فَمَنِ اتّقَى الشّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإنّ لِكُلّ مَلِكٍ حِمىً، أَلاَ وَإِنّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ وَإذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) , ومسلم برقم (1599) , واللفظ له.

(3/360)


1 - كتاب البيع
- البيع: هو مبادلة مال بمال على سبيل التراضي.
- فقه المعاملات:
امتثال أوامر الله عز وجل كله عبادة، فالمسلم كما يعبد الله في مسجده، كذلك يعبده في سوقه، وفي بيعه وشرائه، وفي أخذه وعطائه، فأحكام الله عز وجل على الإنسان كاملة تستغرق جميع أوقاته وأحواله.
والمسلم يعمل في أي عمل كسبي مشروع لتنفيذ أمر الله في ذلك العمل .. وإرضاء ربه بامتثال أوامره .. وإحياء سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العمل .. وفعل الأسباب المأمور بها شرعاً .. والتوكل على الله وحده في جلب الرزق .. ثم الله بعد ذلك يرزقه رزقاً حسناً .. ويوفقه لأن يصرفه في مصرف حسن.
ومعرفة أحكام الحلال والحرام، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، تبصِّر الناس بمعرفة أحكام الله التي شرعها لعباده.
فيأخذون الحلال الطيب الذي أحله الله ورسوله، ويجتنبون المعاملات والأشياء المحرمة الخبيثة.
وفي ذلك نفع للمسلمين .. وتكميل لعبوديتهم لربهم .. وسلامة لهم من الوقوع في المحرمات والمشتبهات والعقوبات.
1 - قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ

(3/361)


وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف:96].
- الفرق بين الشعائر والشرائع:
الإسلام كله أعمال صادرة من المخلوق حسب أمر الخالق سبحانه، والمسلم يعبد الله بامتثال تلك الأوامر في جميع أحواله، ويؤجر على ذلك.
فالإسلام دين كامل جاء بما يسعد الناس في الدنيا والآخرة.
جاء بتنظيم المعاملات بين الخالق والمخلوق بالعبادات التي تزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتُعِدّها لطاعة الله في كل حال.
وجاء بتنظيم المعاملات بين المخلوق والمخلوق بالعدل والإحسان كالبيوع، والنكاح، والمواريث، والحدود وغيرها.
- أقسام العقود:
تنقسم العقود الشرعية إلى ما يلي:
1 - عقود المعاوضة: وهي كل عقد اشتمل على بذل عوض مقابل شيء كالبيع والإجارة ونحوهما.
2 - عقود التبرع: وهي كل عقد اشتمل على تبرع بلا عوض كالهبة والصدقة، والوقف والوصية.
3 - عقود الإرفاق: وهي التي يقصد بها الإرفاق دون مقابل كالقرض والعارية ونحوهما.
4 - عقود التوثيق: وهي التي يقصد بها توثيق الحق كالرهن والضمان والكفالة والنكاح.
5 - عقود الأمانات: وهي التي مبناها على الأمانة كالوديعة.

(3/362)


- حكمة مشروعية البيع:
لما كانت النقود والعروض والسلع موزعة بين الناس كلهم، وحاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وهو لا يبذله غالباً بغير عوض.
وفي إباحة البيع قضاء لحاجته، ووصول إلى غرضه، وإلا لجأ الناس إلى النهب والسرقة، والحيل والمقاتلة.
لهذا أحل الله البيع لتحقيق تلك المصالح، وإطفاء تلك الشرور.
- مصالح البيع والشراء:
أباح الله البيع والشراء لحكم عظيمة، وتحقيق مصالح كثيرة منها:
1 - أن المسلم إذا كسب المال الحلال أعف نفسه، واستغنى بذلك عن الناس، وعاش كريماً بعيداً عن الذل والمهانة.
2 - أن المسلم يستعين بالمال الحلال على طاعة الله، فينفق في سبيل الله، ويهدي ويتصدق ابتغاء مرضاة الله، فنعم المال الصالح للرجل الصالح.
3 - أن المسلم بالبيع والشراء يترفع عن البطالة والخمول، ويكسب الحلال بالوجه المباح، وإذا قعد الناس عن العمل تعطلت مصالح الناس، وحصل الضيق في المعيشة.
4 - أن الكسب يعين الناس على تحقيق مصالحهم في الطعام والدواء، والسكن والكساء وغيرها، وإذا احتسب التاجر نفع المسلمين، وسد حاجاتهم، ليحمدوا الله المنعم بها، أثابه الله، وبارك في رزقه.
5 - أن التاجر يستفيد من تجارته وأسفاره معرفة الأمصار والأشخاص، فيرى عجائب قدرة الله فيزيد إيمانه، ويرى الناس صفاته الطيبة، وحسن معاملته،

(3/363)


فيتأثرون به، ويحصل بذلك من المصالح له ولغيره ما لا يخفى.
1 - قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:10].
2 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لأنْ يَأخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ النَّاسَ، أعْطَوْهُ أوْ مَنَعُوهُ». أخرجه البخاري (1).
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالتْ: كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَّالَ أنْفُسِهِمْ، وَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: «لَوِ اغْتَسَلْتُمْ». متفق عليه (2).
- فضل الكسب الحلال:
1 - قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:10].
2 - وَعَنِ المِقْدَامِ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أكَلَ أحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». أخرجه البخاري (3).
3 - وَعَنْ حَكِيم بن حِزَامٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي ثُمَّ، قال: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى». قال:
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (1471).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2071) , واللفظ له، ومسلم برقم (847).
(3) أخرجه البخاري برقم (2072).

(3/364)


حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لا أرْزَأ أحَداً بَعْدَكَ شَيْئاً، حَتَّى أفَارِقَ الدُّنْيَا. متفق عليه (1).
4 - وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، إِنَّ نَاساً مِنَ الأَنْصار، سَألُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألُوهُ فَأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألُوهُ فَأعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ». متفق عليه (2).
5 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لانْ يَأخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأتِيَ رَجُلاً فَيَسْألَهُ، أعْطَاهُ أوْ مَنَعَهُ». متفق عليه (3).
- أفضل المكاسب:
المكاسب منها ما هو مباح، ومنها ما هو محرم.
والمكاسب تختلف باختلاف الناس، وكل إنسان مهيء لما يناسبه من الأعمال والحِرَف والصناعات، وأطيب المكاسب عمل الإنسان بيده والأفضل لكل أحد ما يناسب حاله من زراعة، أو صناعة، أو تجارة بشروطها الشرعية.
ولابد في جميع المكاسب من النصح، وعدم الغش، والقيام بالواجب، وإذا نصح المسلم في بيعه وشرائه، وفي عمله وحرفته، وفي أخذه وعطائه، فعمله
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1472) , واللفظ له، ومسلم برقم (1035).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1469) , واللفظ له، ومسلم برقم (1053).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1470) , واللفظ له، ومسلم برقم (1042).

(3/365)


هذا من البر والإحسان الذي يثاب عليه في الدنيا والآخرة.
والكسب المبرور عبادة، وهو كل كسب جمع الصدق والنصح والعدل، وخلا من الكذب والغش والخداع، واليمين الكاذبة.
1 - عَنِ المِقْدَامِ رَضيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أكَلَ أحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي المَرْءُ مَا أخَذَ مِنْهُ، أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرَامِ». أخرجه البخاري (2).
- فضل الورع في المعاملات:
يجب على المسلم أن يكون بيعه وشراؤه، وطعامه وشرابه، وسائر معاملاته على السنة، فيأخذ الحلال البيِّن ويتعامل به .. ويجتنب الحرام البيِّن ولا يتعامل به .. أما المشتبه فينبغي تركه؛ حماية لدينه وعرضه، ولئلا يقع في الحرام.
1 - قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة:216].
2 - وَعَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (وَأَهْوَى النّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَىَ أُذُنَيْهِ) «إنّ الحَلاَلَ بَيّنٌ وَإنّ الحَرَامَ بَيّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، فَمَنِ اتّقَى الشّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2072).
(2) أخرجه البخاري برقم (2059).

(3/366)


لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإنّ لِكُلّ مَلِكٍ حِمىً، أَلاَ وَإِنّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ وَإذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ». متفق عليه (1).
- كيفية صرف الأموال المشتبهة:
المشتبهات من الأموال ينبغي صرفها في المنافع، الأبعد فالأبعد، فأقربها ما دخل في البطن .. ثم ما وَلِيَ الظاهر من اللباس .. ثم ما عرض من المراكب كالسيارة والخيل ونحوهما .. ثم في الوقود والعلف .. وهكذا.
- حكم الكسب:
الأصل في المعاملات والعادات، والبيع والشراء، الحل والإباحة، أما المعاملات والعقود المحرمة فترجع إلى ظلم الطرفين أو أحدهما.
وذلك يرجع إلى ثلاث قواعد:
قاعدة الربا .. وقاعدة الغرر والجهالة .. وقاعدة الخداع.
فهذه أساس المعاملات المحرمة.
1 - قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
3 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أوْ قال: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) , ومسلم برقم (1599) , واللفظ له.

(3/367)


كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا». متفق عليه (1).
- ما يطيب به الكسب:
المكاسب لا تطيب إلا بأمرين:
الأول: أن يكون مشروعاً مأذوناً فيه من الله ورسوله.
الثاني: أن يؤدي المسلم العمل كاملاً على أتم الوجوه؛ ليسلم من الغش والتقصير في العمل.
1 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». أخرجه مسلم (3).
- حكم المكاسب الخبيثة:
تحرم جميع المكاسب الخبيثة كالربا والغش، والسرقة والنهب وغيرها، وهي شؤم على صاحبها، ويظهر أثرها في عبادته، فيُسلب الخشوع، ويُسلب قبول الدعاء، ويُسلب الطمأنينة.
وكل كسب خبيث سببه عدم الإيمان أو نقصه، ومن كان مكسبه خبيثاً سلط الله عليه من يسلبه منه، وعذبه به في الدنيا، وعاقبه عليه في الآخرة.
1 - قال الله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة:55].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2082) , واللفظ له، ومسلم برقم (1532).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (57) , واللفظ له، ومسلم برقم (56).
(3) أخرجه مسلم برقم (102).

(3/368)


2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟». أخرجه مسلم (1).
- أقسام الأموال:
الأموال ثلاثة أنواع:
الأول: الذهب والفضة: وهما قِيَم الأشياء.
الثاني: المنقولات: وهي كل شيء يمكن نقله من الأعيان مثل: الأطعمة، والملابس، والمراكب، والآلات، والأواني وغيرها.
الثالث: العقارات: وتشمل الأراضي، والدور، والمزارع.
- فضل السماحة في البيع والشراء:
ينبغي أن يكون الإنسان في معاملاته سهلاً سمحاً حتى ينال رحمة الله.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً، سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى». أخرجه البخاري (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1015).
(2) أخرجه البخاري برقم (2076).

(3/369)


- آداب البيع:
للبيع آداب كثيرة منها:
1 - صدق المعاملة: بأن يصدق في وصف البضاعة، ونوعها، وجنسها، ومصدرها، وجودتها.
2 - عدم المغالاة في الربح: فالغبن الفاحش محرم، والربح الطيب المبارك فيه ما كان يسيراً بقدر الثلث فأقل، ومن زاد فلا حرج.
3 - السماحة في المعاملة: بأن يكون كل من البائع والمشتري سهلاً سمحاً في البيع والقيمة والتسليم.
4 - تجنب كثرة الحلف ولو كان صادقاً: فينبغي الامتناع عن الحلف بالله مطلقاً في البيع؛ لأنه امتهان لاسم الله تعالى.
5 - كتابة الدَّين والإشهاد عليه: فينبغي كتابة عقد البيع والإجارة، ومقدار الدين المؤجل، ووقت حلوله؛ حفظاً للأموال، واحترازاً من النسيان.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282].
6 - الإكثار من الصدقات: يُندب للتاجر الإكثار من الصدقات؛ تكفيراً لما يقع في البيع من الحلف، أو الغش، أو كتمان عيب، أو غبن في السعر، أو سوء خلق ونحو ذلك.
7 - أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه في كل شيء.

(3/370)


- صور البيع:
للبيع تسع صور لا يخرج عنها أبداً وهي:
بيع عين بعين .. أو ذمة بذمة .. أوعين بذمة.
والبيع في هذه الصور الثلاث إما أن يكون ناجزاً من الطرفين، أو يكون نسيئة منهما، أو نسيئة من أحدهما ناجزاً من الآخر.
فهذه تسع صور تستغرق كل بيع على وجه الأرض.
وكلها جائزة إلا إذا كان البيع نسيئة من الطرفين معاً، فهنا يحرم البيع ولا يصح؛ لما فيه من الغرر والربا، سواء كان عيناً بعين، أو ذمة بذمة، أو ذمة بعين.
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
- أنواع البيع:
البيع على ثلاثة أوجه:
أحدها: ثَمَنان، وهذا هو الصرف كبيع الريال بالجنيه مثلاً.
الثاني: عِوَضان، وهذه هي المقايضة كبيع سلعة بأخرى.
الثالث: عوض وثمن، وهذا هو البيع المطلق المعروف.

(3/371)


مفاتيح الرزق الحلال
- أهم مفاتيح الرزق التي يُستنزل بها الرزق من الله عز وجل:
1 - تقوى الله عز وجل:
1 - قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف:96].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
2 - الاستغفار والتوبة إلى الله:
1 - قال الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح:10 - 12].
2 - وقال الله تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} [هود:52].
3 - التوكل على الله عز وجل:
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق:3].
2 - وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بطَاناً». أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
_________
(1) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (2344) , وأخرجه ابن ماجه برقم (4164) , وهذا لفظه.

(3/372)


4 - اجتناب المعاصي:
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم:41].
5 - الدعاء:
1 - قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة:186].
2 - وقال الله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة:114 - 115].
6 - الإنفاق في سبيل الله تعالى:
1 - قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ:39].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَاابْنَ آدَمَ! أنْفِقْ أنْفِقْ عَلَيْكَ». أخرجه مسلم (1).
7 - الإنفاق على أهل العلم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ فَشَكَا المُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
فَقَالَ: َ «لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بهِ». أخرجه الترمذي (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (993).
(2) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (2345).

(3/373)


8 - إكرام الضعفاء والإحسان إليهم:
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأى سَعْدٌ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ». أخرجه البخاري (1).
9 - صلة الرحم:
عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». متفق عليه (2).
10 - التبكير في طلب الرزق:
عَنْ صَخْرٍ الغَامِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لأمَّتِي فِي بُكُورِهَا». وَكَانَ إِذا بَعَث سَرِيَّةً أَوْ جَيْشاً بَعَثهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِراً وَكَانَ يَبْعَث تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثرَى وَكَثرَ مَالُهُ. أخرجه أبو داود والترمذي (3).
11 - الهجرة في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء:100].
12 - التفرغ لعبادة الله عز وجل:
ومعناه: حضور القلب وخشوعه وخضوعه للهِ أثناء العبادة.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2896).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2067) , واللفظ له، ومسلم برقم (2557).
(3) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (2606) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1212).

(3/374)


عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنىً، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقاً، يَا ابْنَ آدَمَ، لا تَبَاعَدْ مِنِّي، فَأَمْلأْ قَلْبَكَ فَقْراً، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ شُغْلاً». أخرجه الحاكم (1).
13 - الاستعاذة بالله من المأثم والمَغْرم:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ». قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأخْلَفَ». متفق عليه (2).
14 - المتابعة بين الحج والعمرة:
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَابعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَث الحَدِيدِ وَالذهَب وَالفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ». أخرجه الترمذي والنسائي (3).
- كيفية الحصول على الأموال:
يحصل الناس على الأموال من خمسة أبواب:
الأول: باب الإيمان والتقوى: كمن يحصل على رزقه بالإيمان والأعمال الصالحة كالاستغفار، والتقوى، وحسن الخلق، وصلة الرحم، والإحسان
_________
(1) صحيح/ أخرجه الحاكم برقم (7926) , انظر السلسلة الصحيحة رقم (1359).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6375) , ومسلم برقم (589) , واللفظ له.
(3) حسن/ أخرجه الترمذي برقم (810) , وهذا لفظه، وأخرجه النسائي برقم (2631).

(3/375)


إلى الخَلق، والهجرة والإنفاق في سبيل الله ونحو ذلك.
الثاني: باب المجاهدة والتعب، كالبيع والشراء، والتجارة والصناعة والزراعة ونحو ذلك مما أحل الله.
الثالث: باب الحقوق والواجبات والمستحبات.
فيأتيه المال بلا تعب عن طريق الوصية، أو الوقف، أو الميراث، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الهدية ونحو ذلك.
الرابع: باب المحرمات، كمن يأخذ المال بطريق الربا، أو السرقة، أو الغصب، أو الغش، أو الاحتكار، أو الميسر، أو القمار، أو الرشوة ونحو ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
الخامس: باب الذل والهوان، كمن يسأل الناس ويتذلل لهم ليعطوه.
فالأول أعلاها وأشرفها وأزكاها، وهو طريق الأنبياء والصالحين .. والثاني مباح مأمور به شرعاً .. والثالث مباح شرعاً .. والرابع أخطرها وأشدها إثماً .. والخامس أخسها وأدناها.
1 - قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف:96].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة:65 - 66].

(3/376)


- الأسباب التي يحصل بها الرزق:
الأسباب التي يحصل بها الرزق كثيرة، وهي من جملة ما قدره الله وكتبه.
فإذا قدَّر الله أنه يرزق العبد بسعيه وكسبه ألهمه السعي والاكتساب.
وما قدَّر الله له من الرزق بغير اكتساب يأتيه بغير اكتساب عن طريق الميراث، أو الوصية، أو الهدية ونحوها.
وأكثر الذين يعجزون عن الأسباب يُرزقون على أيدي من يعطيهم إما هدية، أو صدقة، أو نذر، أو كفارة أو غيرها.
والتاجر يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته.
وغاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها وعرضها.
أما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، ووقت البيع، فهذا كله بيد الله وحده، وليس مقدوراً للعبد.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود:6].
2 - وقال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزُّخرُف:32].
- فقه الرزق:
من جاءه المال عن طريق الكسب الحلال، أو الميراث، أو الهدية ونحو ذلك فهذا من الرزق الذي أباحه الله عز وجل.
ومن سرق وأكل الحرام فليس هذا من الرزق الذي أباحه الله له، ولكن هذا

(3/377)


الرزق الذي سبق به علم الله وقدره.
فكما أن الله كتب على العبد ما يعمله من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر، فكذلك كتب ما يرزقه العبد من حلال وحرام، وهو يثيبه على الحلال، ويعاقبه على الحرام، وكل ذلك واقع بمشيئة الله وقدره، ولا عذر لأحد بالقدر.
بل القدر نؤمن به، ولا نحتج به على ركوب المعاصي.
والرزق الحلال الذي ضمنه الله لعباده هو لمن يتقيه، بأن يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ومن ليس من المتقين ضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا، ثم يعاقبه في الآخرة.
والله عز وجل أباح الرزق لمن يستعين به على طاعة الله، ولم يبحه لمن يستعين به على معصيته.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق:2 - 3].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف:32].

(3/378)


- هل يزيد الرزق وينقص؟:
الرزق نوعان:
أحدهما: ما كتبه الله وعلمه وقدره أنه يرزقه عبده، فهذا لا يتغير.
الثاني: ما كتبه الله وأعلم به الملائكة.
فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب، فإن الله يأمر الملك أن يكتب رزق العبد وأجله، وإن وصل رحمه زاده الله.
1 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِى الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ. فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ. وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ». أخرجه مسلم (2).
- كيفية التصرف في المال:
المال نعمة من نِعم الله على عباده، جعله الله سبباً لقضاء حوائج الناس.
وقد انقسم الصحابة رضي الله عنهم بعد الفتوح إلى ثلاثة أقسام:
الأول: من أعرض عن المال، وواسى به المحاويج، وبقي على عيشة الكفاف.
وهؤلاء قليل، ومنهم أبو ذر رضي الله عنه.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (5985).
(2) أخرجه مسلم برقم (2644).

(3/379)


الثاني: من تَبَسَّطَ ببعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء، والخدم، والملابس ونحوها ولم يستكثر.
وهؤلاء كثير، ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
الثالث: من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها، مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة.
وهؤلاء كثير، ومنهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وفي كلٍّ خير، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له، واليد العليا خير من اليد السفلى.
1 - قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف:32].
2 - وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة:274].
3 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:9 - 10].
- أحوال الأغنياء يوم القيامة:
الأغنياء يوم القيامة نوعان:
1 - أغنياء متقون أنفقوا أموالهم في سبيل الله ومرضاته وفيما أحل الله.
فهؤلاء في الجنة، ودرجاتهم بحسب إيمانهم وأعمالهم وإنفاقهم.

(3/380)


قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة:262].
2 - أغنياء فجار أنفقوا أموالهم في معصية الله، وفيما حرم الله.
فهؤلاء في النار يوم القيامة، وعذابهم بقدر فجورهم وإنفاقهم.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال:36].
2 - وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَوَلَيْسَ قَدْ أَحَلّ اللهُ البَيْعَ؟ قال: «بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ وَيَأْثَمُونَ». أخرجه أحمد (1).
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (15530).

(3/381)


أركان البيع
- أركان البيع:
أركان البيع ثلاثة:
1 - العاقد: وهو البائع والمشتري.
2 - المعقود عليه: وهو السلعة والثمن.
3 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول حسب العرف.
- صور البيع:
للبيع ثلاث صور:
الأولى: بيع الثمن بالثمن، سواء كان مع اتحادهما كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، أو مع اختلافهما كبيع الذهب بالفضة أو العكس.
الثانية: بيع المثمن بالمثمن، كبيع الأرض بالأرض، والسيارة بالسيارة ونحو ذلك من العروض والسلع.
الثالثة: بيع المثمن بالثمن، وهو البيع الشائع المعروف، تدفع الذهب أو الفضة أو ما في حكمهما من الأوراق النقدية في مقابل السلعة سواء كانت عقاراً، أو منقولاً، أو غيرهما.
فالأول يسمى بيع الصرف، والثاني يسمى بيع المقايضة، والثالث هو البيع الشائع بين الناس تدفع النقد، وتأخذ السلعة، وكل ذلك جائز بشروطه الشرعية.

(3/382)


- أصناف المال:
يطلق المال على ثلاثة أشياء:
1 - الأعيان: كالدار، والسيارة، والجمل ونحوها.
2 - المنافع: كمنافع الدار، والسيارة، والآلة.
3 - النقد: وهو كل مال وضع بين الناس ليكون وسيطاً للتبادل والتداول كالدرهم والدينار، والجنيه والريال وغيرها من العملات التي يُقصد بها التوصل إلى السلع.
فإذا صارت النقود سلعة تُقصد لعينها فسد أمر الناس.
فالأعيان يُنتفع بها مباشرة .. والنقود لا يُنتفع بها مباشرة، بل هي واسطة في تحصيل سلعة أو منفعة .. والانتفاع بالسلعة دون ملكها هو المنافع كآجار الدور، والآلات وغيرها.
- الفرق بين المبيع والثمن:
المبيع: هو غالباً ما يتعين بالتعيين كالدار، والسيارة ونحوهما.
والثمن: هو غالباً ما لا يتعين بالتعيين كالدرهم، والجنيه مثلاً.
والمبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، ويتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء.
فتقول: بعتك هذا الثوب بدينار، فالثوب مبيع، والدينار ثمن.
والدَّين: كل ما ثبت في الذمة من الأموال بسبب بيع أو قرض أو كفالة أو غصب أو إتلاف ونحو ذلك.

(3/383)


- أنواع المثليات:
المثليات من الأشياء أربعة:
1 - المكيلات: وهي التي تباع بالكيل، وهي نوعان:
جامدة كالقمح والشعير مثلاً .. أو سائلة كالألبان والعصير والبنزين مثلاً.
2 - الموزونات: وهي التي تباع بالوزن، وهي نوعان:
جامدة كالسكر والأرز .. أو سائلة كالسمن والزيت مثلاً.
3 - المذروعات: وهي التي تباع بالذرع كالأراضي، والأقمشة ونحوهما.
4 - المعدودات: وهي التي تباع بالعدد كالمصنوعات المتماثلة من الأواني، والآلات، أو الأشياء المتقاربة كالبيض والتفاح مثلاً.
وإذا بيعت المثليات ببعضها صار كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر.
- أقسام الأثمان:
ينقسم البيع بالنسبة إلى الثمن إلى أربعة أقسام:
1 - بيع المساومة: وهو مبادلة المبيع بما يتراضى عليه الطرفان.
وهو أكثر البيوع شيوعاً؛ لأن البائع يرغب عادة بكتمان رأس المال.
2 - بيع المرابحة: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول، وزيادة ربح معين.
3 - بيع التولية: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان.
4 - بيع الوضيعة: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه.
وهذه البيوع كلها جائزة.

(3/384)


شروط البيع
- أنواع الشروط:
يجب أن يتوفر في عقد البيع أربعة أنواع من الشروط، حتى يكون العقد صحيحاً لازماً نافذاً.
شروط عقد البيع .. شروط صحة البيع .. شروط نفاذ البيع .. شروط لزوم البيع.
وهذه الشروط لازمة لمنع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية لمصالح المتعاقدين، ونفي الغرر والضرر، والبعد عن المخاطر بسبب الظلم والجهالة.
- شروط عقد البيع:
يشترط لصحة عقد البيع ما يلي:
1 - الشروط المتعلقة بالمتعاقدين ثلاثة:
1 - أن يكون كل من المتعاقدين جائز التصرف، وهو من جمع أربع صفات:
الحرية .. والبلوغ .. والعقل .. والرشد.
1 - قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
2 - وَعَنْ ابن عُمَر رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلا أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْداً وَلَهُ

(3/385)


مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلا أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاَثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ». أخرجه أبو داود والنسائي (2).
2 - حصول التراضي بين المتعاقدين إلا من أُكره بحق.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
3 - أن يكون كل من المتعاقدين مالكاً للمعقود عليه، أو قائماً مقام مالكه.
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنَ البَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ثمَّ أَبيعُهُ. قَالَ: «لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». أخرجه أبو داود والترمذي (3).
2 - الشروط المتعلقة بالمعقود عليه ستة:
1 - أن يكون المعقود عليه موجوداً؛ لأن بيع المعدوم لا ينعقد، لما فيه من الجهالة، فلا يجوز بيع حمل في بطن، ولا لبن في ضرع، ولا ثمر لم ينعقد على الشجر.
2 - أن يكون المعقود عليه مقدوراً على تسليمه؛ لأن ما لا يُقدر على تسليمه كالمعدوم لا يصح بيعه، فلا يصح بيع الطير في الهواء، ولا السمك في
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2379) , واللفظ له، ومسلم برقم (1543).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4398) , وأخرجه النسائي برقم (3432) , وهذا لفظه.
(3) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3503) , وأخرجه الترمذي برقم (1232) , وهذا لفظه.

(3/386)


البحر، ولا الحيوان الشارد في الأرض.
3 - أن يكون المعقود عليه مما يباح الانتفاع به مطلقاً من عقار ومنقول، فلا يصح بيع ما لا نفع فيه .. ولا يصح بيع ما يحرم الانتفاع به كالخمر والخنزير، والميتة، وآلات اللهو ونحو ذلك من المحرمات.
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3].
4 - أن يكون المعقود عليه معلوماً للمتعاقدين برؤية أو صفة.
5 - أن يكون المعقود عليه مقبوضاً عنده.
عَنْ ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». متفق عليه (1).
6 - أن يكون المعقود عليه خالياً من موانع الصحة كالبيوع الربوية، والجهالة، والغرر ونحو ذلك.
- شروط صحة البيع:
يكون البيع صحيحاً إذا خلا من ستة عيوب هي:
الجهالة .. والغرر .. والضرر .. والإكراه .. والتوقيت .. والشروط المفسدة.
1 - الجهالة: كجهالة وصف الثمن والمبيع، أو مقداره، أو أجله إن كان هناك أجل.
2 - الغرر: وهو ما كان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم كبيع نتاج النتاج، وبيع
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2133) , واللفظ له، ومسلم برقم (1526).

(3/387)


الحمل الموجود.
3 - الضرر: وهو ما كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، كما لو باع خشبة من سقف، أو ذراعاً من ثوب.
4 - الإكراه: وهو حمل المكره على أمر يفعله، وهو نوعان:
1 - إكراه ملجئ: كتهديد الإنسان بالقتل أو الضرب الشديد.
2 - إكراه غير ملجئ: كالتهديد بالحبس أو الضرب أو الحرمان.
5 - التوقيت: وهو أن يؤقت البيع بمدة معينة كما لو قال: بعتك هذه السيارة شهراً أو سنة، فلا يصح؛ لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت.
6 - الشروط المفسدة: وهي كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين إذا لم يكن قد ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، كأن يشترط المشتري على البائع في العقد أن يقرضه ألفاً مثلاً.
- شروط نفاذ البيع:
يشترط لنفاذ البيع شرطان:
1 - الملك أو الولاية، بأن يكون العاقد مالكاً للشيء، أو نائباً عن مالكه كالوكيل والولي.
2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع، فلا ينفذ بيع الراهن للمرهون.
- شروط لزوم البيع:
يشترط للزوم البيع خلوه من أحد الخيارات التي تسوِّغ لأحد العاقدين فسخ العقد مثل: خيار الشرط، والوصف، والغبن، والتعيين، والعيب، والرؤية ونحو ذلك.

(3/388)


فإذا وُجِد في البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق من له الخيار، فله أن يفسخ البيع أو يقبله.
- حكم الشرط في البيع:
كل بيع معلق على شرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فهو صحيح، كأن يشترط البائع سكنى الدار شهراً، أو يشترط المشتري حمل البضاعة إلى داره، أو حمل الحطب إلى منزله وتكسيره.
- الشرط اللغو أو الباطل:
وهو كل شرط فيه ضرر لأحد العاقدين كأن يبيعه سيارة بشرط ألا يبيعها أو لا يهبها أو لا يوقفها، فالبيع جائز، والشرط باطل.
أو يشترط عقداً في عقد، كأن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يسلفه، أو يؤجره، أو يزوجه، فالبيع فاسد؛ للنهي عن بيعتين في بيعة.
1 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. أخرجه أحمد والنسائي (1).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « ... فَمَا بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ». متفق عليه (2).
_________
(1) حسن/ أخرجه أحمد برقم (6628) , وهذا لفظه، وأخرجه النسائي برقم (4631).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (456) , ومسلم برقم (1504) , واللفظ له.

(3/389)


- بم ينعقد البيع:
ينعقد البيع إذا اكتملت شروطه بإحدى صفتين:
1 - قولية: بأن يقول البائع: بعتك، أو ملَّكتك، أو نحوهما مما جرى به العرف.
ويقول المشتري: اشتريت، أو قبلت ونحوهما مما جرى به العرف.
2 - فعلية: وهي المعاطاة: بأن يقول أعطني بعشرة ريالات لحماً فيعطيه بلا قول، أو يعطيه المشتري ريالاً، ثم يأخذ خبزاً أو لبناً ونحو ذلك مما جرى به العرف، وحصل به التراضي.
فالأولى تكون غالباً في الأشياء النفيسة والكبيرة كالأرض والسيارة.
والثانية تكون غالباً في الأشياء الصغيرة المتكررة من الحاجات اليومية.
- ما يتناوله البيع:
إذا باع شخص داراً تناول البيع أرضها وأسفلها وأعلاها، وكل ما فيها، وإن كانت المباعة أرضاً شمل البيع كل ما فيها ما لم يستثن منها.
وإن باعه سيارة أو آلة شملها كلها، وإن باعه شقة في عمارة ذات أدوار تناول البيع كامل الشقة وما فيها، وجزء من الأرض التي أسفلها بحسبها.
وإن باعه بستاناً أو مزرعة تناول البيع أرضها وما عليها من ثابت، ومنقول، ما لم يستثن منها.
- حكم الزيادة أو النقص في البيع:
إذا باع شخص داراً أو أرضاً على أنها مائة متر مثلاً، فبانت أقل أو أكثر، فالبيع صحيح، والزيادة للبائع، والنقص عليه، ولمن جهله منهما وفات غرضه الخيار.

(3/390)


- حكم التصرف في المبيع قبل القبض:
لا يجوز التصرف في المبيع قبل القبض سواء كان منقولاً طعاماً أو غيره، أو عقاراً كأرض ودار وبستان؛ وذلك لعدم القدرة على التسليم، ولوجود الغرر.
1 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: أمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ الطَّعَامُ أنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلا أحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلا مِثْلَهُ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ». زَادَ إِسْمَاعِيلُ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». متفق عليه (2).
- حكم استبدال الثمن:
يجوز استبدال ثمن المبيع بغيره من النقد إذا كان بسعر يومه، فيعطيه الدينار مكان الدرهم، أو الجنيه مكان الريال ونحو ذلك.
- صفة تسليم المبيع والثمن:
يسلِّم البائع السلعة إلى المشتري، ثم يقبض الثمن.
وإن اختلفا في التسليم أُجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أُجبر المشتري على تسليم الثمن.
وللبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وللمشتري حبس الثمن حتى يقبض المبيع إن خاف فوته.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2135) , واللفظ له، ومسلم برقم (1525).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2136) , واللفظ له، ومسلم برقم (1526).

(3/391)


- حكم هلاك المبيع:
المبيع إما أن يهلك كله أو بعضه، قبل القبض أو بعده.
1 - إذا هلك المبيع كله قبل القبض بآفة سماوية، أو بفعل المبيع نفسه كحيوان أكل ما يضره فمات، أو بفعل البائع، انفسخ عقد البيع.
وإن هلك بفعل المشتري فلا ينفسخ البيع، وعليه الثمن، أما إن هلك المبيع بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار، إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن, وطالب الأجنبي بالضمان.
2 - إذا هلك المبيع كله بعد القبض لم ينفسخ البيع، وتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي إن كان الهلاك بسببه.
3 - إن هلك بعض المبيع قبل القبض، فإن كان بآفة سماوية فهلك بعضه، وسلم بعضه، انفسخ العقد بقدر الهالك، وسقطت حصته من الثمن، وللمشتري الخيار في الباقي، إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع، لتفرق الصفقة عليه.
وإن كان النقصان نقصان وصف فلا ينفسخ البيع، ويلزم الثمن كله، ويكون المشتري بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه؛ لتعيُّب المبيع.
وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، وللمشتري الخيار إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد.
وإن كان الهلاك بفعل البائع بطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري ثمن الهالك، وللمشتري الخيار في الباقي بحصته من الثمن.
وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ويلزمه جميع الثمن.

(3/392)


4 - إذا هلك بعض المبيع بعد القبض بآفة سماوية، أو بفعل المشتري، أو المبيع نفسه، أو بفعل أجنبي، فالبيع لازم، والثمن لازم، ويرجع بالضمان على الأجنبي إن كان التلف بسببه.
وإن كان الهلاك بفعل البائع، وقد قبضه المشتري، ضمنه البائع كالأجنبي.
- حكم هلاك الثمن:
إذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض، فإن كان له مِثْل كالنقود فلا ينفسخ العقد؛ لأنه يمكن تسليم مثله، وإن هلك وليس له مِثْل في الحال فيخير البائع: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس؛ لأنها ثابتة في الذمة.
- صفة قبض السلع:
قبض المبيع يتم بعدة طرق:
الأولى: التخلية: وهي أن يتمكن المشتري من أخذ المبيع بلا مانع.
فإن كان عقاراً أو داراً أو مزرعة يكون القبض بتمكين المشتري من التصرف فيها، واستلام مفاتيحها، وصكوك الملكية.
وإن كان منقولاً كالآلات، والأمتعة، والحيوان ونحوها فيكون قبضها بحسب العرف في ذلك.
وإن كان المبيع طعاماً فقبضه يكون بكيله أو وزنه، ونقله من مكانه إن كان جزافاً، ويرجع إلى العرف فيما لا نص فيه.
الثانية: القبض السابق: بأن يكون المبيع عند المشتري بقبض سابق، ثم باعه المالك له كمؤجر، ومرهون، ومغصوب، ومودع، ومعار. فإذا كانت هذه

(3/393)


الأشياء موجودة في يد المشتري، ثم باعها صاحبها عليه، صار بذلك قابضاً لها.
الثالثة: الإتلاف: فلو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع، ولزمه ثمنه، لأن التخلية تمكين من التصرف.
- حكم تصرفات الصبي المميز:
تصرفات الصبي المميز ثلاثة أنواع:
الأول: التصرفات النافعة نفعاً محضاً كالاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد، ونحوها.
فهذه تصرفات تصح من الصبي المميز دون إذن الولي.
الثاني: التصرفات الضارة ضرراً محضاً كالطلاق، والإقراض، والهبة ونحوها.
فهذه لا تصح من الصبي المميز ولا تنفذ.
الثالث: التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء، والإيجار والاستئجار، والمشاركة ونحو ذلك.
فهذه التصرفات غير صحيحة، لكن إذا أذن له وليه بالتصرف، فالمعتبر هنا إذن الولي، لا مجرد تصرف الصبي؛ لعدم بلوغه، وقصور عقله، وهذا في الأمور الكبيرة، أما الأمور اليسيرة فيصح تصرفه بإذن وليه.
1 - قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
2 - وقال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282].

(3/394)


- حكم بيع السمسرة:
السمسرة: هي الوساطة بين البائع والمشتري لإجراء البيع.
ويسمى من يقوم بذلك السمسار، أو الدلال، أو الوسيط.
والسمسرة جائزة، والأجر الذي يأخذه السمسار حلال؛ لأنه أجر على عمل وجهد معقول، لكن بشرط أن يصدق وينصح للبائع والمشتري.
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». أخرجه مسلم (1).
- حكم الجمع بين البيع والإجارة:
يجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد.
فلو قال البائع للمشتري: بعتك هذا البيت بمائة ألف، وأجرتك هذه الدار بعشرة آلاف، فقال الآخر: قبلت، صح البيع والإجارة.
وكذا لو قال: بعتك هذا البيت، وأجرتك هذه المزرعة سنة بمائة ألف لهما، فقال الآخر: قبلت، صح العقد في الجميع.
- حكم بيع العربون:
بيع العربون: هو أن يشتري الإنسان شيئاً، ثم يدفع للبائع من قيمته خمسة مثلاً، فإن نفذ البيع احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم ينفذ فالمدفوع للبائع، فهو مبيع يثبت فيه الخيار للمشتري.
وهذا البيع صحيح، إذا قيدت فترة الخيار بمدة معلومة، دفعاً للضرر عن البائع.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (55).

(3/395)


- حكم الاستثناء في البيع:
يجوز أن يبيع الإنسان سلعة ويستثني منها شيئاً معلوماً، كأن يبيع الشجر ويستثني منها واحدة، أو يبيع بيوتاً ويستثني منها بيتاً، أو يبيع سيارات ويستثني منها واحدة.
فإن باع أكثر من واحد، واستثنى شيئاً مجهولاً غير معلوم، لم يصح البيع؛ لما فيه من الجهالة والضرر، كأن يبيعه قطيعاً من الغنم، ويستثني واحدة غير معلومة ونحو ذلك.
عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ وَالمُعَاوَمَةِ وَالمُخَابَرَةِ. قَالَ: أَحَدُهُمَا بَيْعُ السِّنِينَ هِيَ المُعَاوَمَةُ، وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي العَرَايَا. أخرجه مسلم (1).
- حكم الشروط في البيع:
الشروط في البيع نوعان:
الأول: صحيح لازم: وهو كل ما وافق مقتضى العقد.
وهو ثلاثة أنواع:
1 - شرط يقتضيه العقد كشرط التقابض، وحلول الثمن.
2 - ما يكون من مصلحة العقد، مثل شرط تأجيل الثمن أو بعضه، أو شرط صفة معينة في المبيع، فإن وجد الشرط لزم البيع، وإن لم يوجد الشرط فللمشتري فسخ العقد.
3 - ما فيه نفع معلوم للبائع أو المشتري، كما لو باع داراً واشترط أن يسكنها
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1536).

(3/396)


شهراً، أو باع دابة واشترط أن تحمله إلى مكان معين ونحو ذلك.
1 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» زَادَ أَحْمَدُ: «إِلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً». أخرجه أبوداود (1).
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: ... غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَاضِحٍ لَنَا فَأزْحَفَ الجَمَلُ، فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ، فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ خَلْفِهِ، قال: «بِعْنِيهِ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ». متفق عليه (2).
الثاني: شرط فاسد: وهو أنواع:
1 - ما يبطل العقد من أصله:
كأن يشترط على صاحبه عقداً آخر، مثل أن يقول: أبيعك هذه الدار على أن تبيعني سيارتك، أو تقرضني كذا ونحو ذلك.
أو يقول بعتك هذه الأرض على أن تزوجني ابنتك.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنَ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ». أخرجه أبو داود والترمذي (3).
2 - ما يصح معه البيع ويبطل الشرط: وهو الشرط المنافي لمقتضى العقد، كأن يبيعه أرضاً ويشترط عليه ألا يبيعها أو لايهبها، فالبيع صحيح، والشرط باطل.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « ... فَمَا بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ
_________
(1) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3594).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2406) , واللفظ له، ومسلم برقم (715).
(3) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3504) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1234).

(3/397)


شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ». متفق عليه (1).
3 - ما لا ينعقد معه البيع: مثل أن يقول: بعتك إن رضي فلان، أو إن حضر فلان أو نحو ذلك من كل بيع عُلِّق على شرط مستقبل، فهذا البيع لا ينعقد حتى يحصل الشرط.
- الآثار المترتبة على البيع:
يترتب على عقد البيع ثلاثة أمور:
1 - تسليم المبيع للمشتري.
2 - أداء الثمن الحال للبائع، فإن كان مؤجلاً فهو إلى أجله.
3 - انتقال الملك، فيملك المشتري المبيع، ويملك البائع الثمن.
- حكم الشرط الجزائي:
الشرط الجزائي شرط صحيح معتبر، فهو عقد جائز، يجب الأخذ به، لإتمام العقد في وقته، ولسد أبواب الفوضى والتلاعب بحقوق العباد، ما لم يكن هناك عذر شرعي، فيكون العذر مسقطاً لوجوبه.
وإن كان الشرط كثيراً عرفاً، فيجب الرجوع إلى العدل والإنصاف، حسب ما فات من منفعة، أو لحق من مضرة، يقدِّر ذلك الحاكم بواسطة أهل النظر والخبرة.
- مثال الشرط الجزائي:
أن يتفق إنسان مع آخر على أن يبني له بيتاً خلال سنة بمائة ألف ريال، وإذا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (456) , ومسلم برقم (1504) , واللفظ له.

(3/398)


تأخر عن السَّنَة بلا عذر فعليه أن يدفع عن كل شهر ألف ريال، فتأخر عن السنة أربعة أشهر بلا عذر، فهذا يلزمه أن يدفع أربعة آلاف ريال لصاحب الدار.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» زَادَ أَحْمَدُ: إِلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً. وَزَادَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ». أخرجه أبو داود (1).
- حكم بيع الفضولي:
الفضولي: هو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي، وهو كل من لم يكن أصيلاً، ولا ولياً، ولا وكيلاً.
وبيع الفضولي وشراؤه جائز إذا كان لمصلحة، مع وقوف نفاذه على إجازة المالك.
عَنْ عُرْوَةَ البَارقي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ دِينَاراً يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. أخرجه البخاري (2).
_________
(1) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3594).
(2) أخرجه البخاري برقم (3642).

(3/399)


البيوع المباحة
- البيوع المباحة أنواع كثيرة، وهذه أشهرها:
1 - بيع المساومة: وهو أن يسوم السلعة بثمن، ثم يشتريها إن رضي البائع بالسوم.
2 - بيع التولية: وهو أن يقول البائع: ولَّيتك السلعة بما اشتريتها به.
3 - بيع المرابحة: وهو أن يذكر السلعة وثمنها ثم يقول: بعتك إياها بربح خمسة أو عشرة مثلاً.
4 - بيع المخاسرة: وهو أن يذكر السلعة وثمنها ثم يقول: بعتك هذه السلعة بخسارة ثلاثة أو خمسة ريالات مثلاً.
5 - بيع الشركة: وهو أن يقول المشتري بعد قبض السلعة: أشركتك فيما اشتريت على ما سمي في النصف أو الربع مثلاً.
6 - بيع الإقالة: وهو أن يقول البائع للمشتري: أَقِلني بيعتي، فيقول: أَقَلْتك، أو يقول المشتري للبائع: أقِلْني، فيقول: أقلتك.
7 - بيع الهبة: إذا كان على شرط العوض.
8 - بيع الصرف: وهو بيع نقد بنقد.
9 - بيع الصلح: إذا كان الصلح على الإقرار.
10 - بيع المبادلة: وهو أن يبيع سلعة بسلعة أخرى، وتسمى المقايضة.
11 - بيع النسيئة: وهو أن يبيعه سلعة بثمن مؤجل بمدة معلومة.
12 - بيع المزايدة: وهو أن يبيع السلعة بين الناس بأعلى ثمن تصل إليه.

(3/400)


13 - بيع التراضي والتعاطي: بأن يعطيه السلعة، ويأخذ الثمن، من غير كلام.
14 - البيع الموقوف: وهو أن يبيع سلعة غيره بغير إذنه، فإن أجازه صح وإلا رده.
15 - بيع السلم: وهو بيع موصوف في الذمة بثمن مقبوض في مجلس العقد.
16 - بيع الخيار: وهو إعطاء الفرصة للبائع والمشتري أن يختار ما يناسبه من إمضاء البيع أو فسخه.
وغير ذلك من البيوع التي أباحها الله وشرعها لعباده.

(3/401)


البيوع المنهي عنها
- أنواع المحرمات:
المحرمات في الشرع نوعان:
1 - المحرمات من الأعيان: وهي كل محرم لذاته كالميتة .. والدم .. ولحم الخنزير .. والخبائث .. والنجاسات ونحوها.
2 - المحرمات من التصرفات: وهي كل معاملة تخالف الشرع كالربا .. والميسر .. والقمار .. والغش .. والاحتكار .. والغرر ونحو ذلك مما فيه ظلم للعباد، وأكل لأموال الناس بالباطل.
فالأول تعافه النفس بطبعها، والثاني تشتهيه النفس، فاحتاج إلى رادع وزاجر، وعقوبة تمنع من الوقوع فيه.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:90 - 91].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة:173].

(3/402)


- البيوع المنهي عنها:
البيوع المنهي عنها، أو المحرمة، أو الباطلة كثيرة، ويمكن حصرها في أربعة أقسام:
1 - البيوع الممنوعة بسبب العاقد.
2 - البيوع الممنوعة بسبب صيغة العقد.
3 - البيوع الممنوعة بسبب المعقود عليه.
4 - البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي.
وإليك بيان هذه الأقسام بالتفصيل.

(3/403)


1 - البيوع الممنوعة بسبب العاقد
البيع يصح من كل بالغ، عاقل، مختار، مطلق التصرف، مالك لما يبيع.
والبيوع الممنوعة بسبب العاقد هي:
1 - بيع المجنون أو السكران.
2 - بيع الصبي: مميزاً كان أو غير مميز حتى يبلغ.
1 - قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاَثٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ». أخرجه أبو داود والنسائي (1).
3 - بيع المكره: وهو من أُجبر على فعل شيء يكرهه.
والإكراه نوعان:
1 - إكراه بحق: كما لو أكرهه الحاكم على بيع أرضه لوفاء دينه، أو إجباره على بيع الدار لتوسعة المسجد، أو الطريق، أو المقبرة.
فهذا الإكراه لا يمنع صحة العقد؛ إقامة لرضا الشرع مقام رضاه.
2 - إكراه بغير حق: فهذا الإكراه لا ينعقد به البيع، سواء كان إكراهاً ملجئاً كما لو هدده بالقتل، أو كان غير ملجئ كما لو هدده بالضرب؛ لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة العقود.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4398) , وأخرجه النسائي برقم (3432).

(3/404)


قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
- حكم بيع المضطر:
المضطر: هو من اضطر إلى بيع شيء من ماله، ولم يجد من يشتريه منه إلا بأقل من ثمن المثل بغبن فاحش.
فالبيع صحيح؛ لأنه تصرَّفَ في ملكه برضاه، ولم يجبره أحد على البيع، لكن يكره للمشتري شراؤه على هذا الوجه بالغبن الفاحش.
4 - بيع المحجور عليه: المحجور عليه: هو الذي مُنِع من التصرف في ماله لحظ نفسه كالسفيه، أو لحظ غيره كالغارم.
فالسفيه المبذر لا يصح بيعه وشراؤه؛ لعدم أهليته، والمفلس الغارم تصرفه في ماله غير صحيح؛ لأنه حق الدائنين، والمريض مرض الموت لا ينفذ تصرفه بأكثر من الثلث إلا بإجازة الورثة.
5 - بيع التلجئة: هو أن يخاف الإنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه على ثالث فراراً منه؛ ليسلم ماله.
وهذا العقد باطل غير صحيح؛ لأن العاقِدَين لم يقصدا البيع، فلم يصح منهما كالهازل، والهلاك في الكذب، والنجاة في الصدق.

(3/405)


2 - البيوع الممنوعة بسبب صيغة العقد
- صحة البيع:
يصح البيع بتراضي العاقدين، وحصول الإيجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن وغيرهما.
ولا يصح البيع فيما يلي:
1 - عدم توافق الإيجاب والقبول، بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بمائة، فيقول المشتري: اشتريتها بتسعين، فإن أجازها البائع في الحال صح البيع.
2 - البيع بالمراسلة أو بواسطة رسول، وهذا البيع يصح ما داما في المجلس، فإذا تم القبول بعد التفرق من المجلس لم ينعقد العقد.
3 - البيع مع غائب عن مجلس العقد لا يصح؛ لأن اتحاد المجلس شرط لانعقاد البيع.
4 - البيع غير المنجَّز كالمعلق على شرط، أو المضاف لوقت في المستقبل، فهذا البيع لا ينعقد ولا يصح.
فالمعلق على شرط أن يقول: بعتك هذه الدار بكذا إن جاء والدي من السفر.
والبيع المضاف أن يقول: بعتك هذه السيارة من أول الشهر القادم.
وهذا وهذا فيه غرر، إذ لا يدري العاقدان هل يحصل الأمر المعلق عليه أم لا، ومتى يحصل، وفي المضاف لا يدريان كيف يكون المبيع في المستقبل.

(3/406)


3 - البيوع الممنوعة بسبب المعقود عليه
- المعقود عليه: هو السلعة المباعة، والثمن.
- البيوع المنهي عنها بسبب المعقود عليه خمسة أقسام:
الأول: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة.
الثاني: البيوع المحرمة بسبب الربا.
الثالث: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع.
الرابع: البيوع المحرمة لذاتها.
الخامس: البيوع المحرمة لغيرها.
وإليك بيان هذه الأقسام بالتفصيل.

(3/407)


1 - البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة
الغرر: هو كل ما كان مجهول العاقبة، لا يُدرى أيحصل أم لا يحصل.
الجهالة: هي الجهالة الفاحشة التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله كأن يبيع شاة من قطيع، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع؛ تحصيناً للأموال أن تضيع .. وقطعاً للخصومة والنزاع بين الناس .. وحفظاً للمودة والأخوة بين المسلمين.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم (1).
ومن البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة ما يلي:
1 - بيع الملامسة: وهو أن يلمس الإنسان الثوب ولا ينشره، أو يشتريه في الظلام ولا يعلم ما فيه، فهذا البيع لا يجوز؛ لوجود الجهالة والغرر.
2 - بيع المنابذة: وهو أن ينبذ كل واحد ثوبه إلى الآخر من غير تأمل، ويقول كل واحد هذا بهذا، أو يقول البائع أو المشتري: أي ثوب نبذته فهو بكذا، فهذا بيع محرم؛ للنهي عنه، ولوجود الجهالة والغرر.
عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ -وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أنْ يُقَلِّبَهُ أوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ- وَنَهَى عَنِ المُلامَسَةِ- وَالمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. متفق عليه (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1513).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2144) , واللفظ له، ومسلم برقم (1512).

(3/408)


3 - بيع الحصاة: وهو أن يقذف البائع أو المشتري بحصاة، فأي ثوب وقعت عليه كان هو المبيع بلا تأمل، ولا رويّة، ولا خيار، وهذا البيع باطل؛ لوجود الجهالة والغرر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم (1).
4 - بيع حَبَل الحَبَلَة: وهو بيع ولد ولد الناقة بثمن مؤجل، فإذا ولدت الناقة مولودة، انتظر حتى تحبل ثم تلد، وهذا البيع باطل؛ لأنه بيع معدوم ومجهول، وغير مملوك للبائع، وغير مقدور على تسليمه إلى أجل مجهول، وكل هذا غرر محرم.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الحَبَلَةِ. قال: وَحَبَلُ الحَبَلَةِ أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ. متفق عليه (2).
5 - بيع المضامين: وهو بيع ما في أصلاب الإناث من الأجنة.
6 - بيع الملاقيح: وهو بيع ما في أصلاب الفحول.
وبيع المضامين والملاقيح باطل؛ لأنه بيع معدوم ومجهول وغرر، وغير مقدور على تسليمه.
7 - بيع عَسْب الفحل: وهو بيع ضراب الذكر من كل حيوان فرساً أو جملاً أو تيساً أو غير ذلك.
فأخذ الأجرة على ضراب هذه الفحول محرم لا يجوز؛ لما فيه من الغرر،
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1513).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3843) , واللفظ له، ومسلم برقم (1514).

(3/409)


لأنه غير معلوم وغير مقدور على تسليمه، فقد تلقح منه الأنثى وقد لا تلقح.
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ. أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الجَمَلِ. أخرجه مسلم (2).
- حكم إعارة عَسْب الفحل:
إعارة عسب الفحل وإطراقه للناس جائزة بدون عوض، فإن أكرمه المستعير بشيء جاز له قبول كرامته.
1 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ، لا يُؤَدِّي حَقَّهَا، إِلا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَؤُهُ ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ القَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ وَلا مَكْسُورَةُ القَرْنِ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حَقُّهَا؟ قال: «إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى المَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ». أخرجه مسلم (3).
2 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْ كِلاَبٍ سَأَلَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَسْب الفَحْلِ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نُطْرِقُ الفَحْلَ فَنُكْرَمُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي الكَرَامَةِ. أخرجه الترمذي (4).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2284).
(2) أخرجه مسلم برقم (1565).
(3) أخرجه مسلم برقم (988).
(4) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (1274).

(3/410)


8 - بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وهي على وجهين:
1 - المخاضرة: هي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها.
2 - المعاومة: هي بيع الثمار سنين، بأن يبيع ثمر الشجر عامين أو أكثر في المستقبل.
وبيع المخاضرة والمعاومة كله باطل محرم؛ لأنه بيع غرر، والمعاومة بيع معدوم غير مقدور على تسليمه، وغير مملوك للعاقد.
وكلاهما بيع للثمرة قبل بدو صلاحها، وهو منهي عنه؛ لما فيه من الغرر.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُخَاضَرَةِ، وَالمُلامَسَةِ، وَالمُنَابَذَةِ، وَالمُزَابَنَةِ. أخرجه البخاري (2).
3 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأيْتَ إِذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مَالَ أخِيهِ». متفق عليه (3).
4 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ العَاهَةَ، نَهَى البَائِعَ وَالمُشْتَرِيَ. أخرجه مسلم (4).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2194) , واللفظ له، ومسلم برقم (1534).
(2) أخرجه البخاري برقم (2207).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2198) , واللفظ له، ومسلم برقم (1555).
(4) أخرجه مسلم برقم (1535).

(3/411)


- حكم بيع الثمار:
بيع الثمار والحبوب بعد بدو صلاحها جائز مطلقاً، وأما بيع الثمار قبل بدو صلاحها، والحبوب قبل اشتدادها فلا يجوز مطلقاً إلا في حالتين:
1 - أن يبيع الثمر مع الشجر، أو يبيع الثمر والحب مع الأرض.
2 - أن يبيع الثمر والحب بشرط القطع في الحال.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الآفَةُ». قَالَ: يَبْدُوَ صَلاحُهُ حُمْرَتُهُ وَصُفْرَتُهُ. متفق عليه (1).
9 - بيع المجهول: وهو كل بيع اشتمل على جهالة فاحشة في المبيع، أو الثمن، أو المقدار، أو الأجل، وكل ما تعذر تسليمه كالسمك في البحر، والطير في الهواء، والسمن في اللبن.
وكأن يقول: بعتك ما في جيبي، أو بعتك ثوباً من دكاني، أو بعتك خمساً من قطيع الغنم، أو يقول: بعتك بما يبيع به الناس، أو بما يقوله فلان، أو يقول: بعتك الدار إذا قدم فلان، أو مات فلان، فكل هذا بيع باطل؛ لوجود الجهالة والغرر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم (2).
10 - بيع الثنيا: وهي استثناء المجهول في البيع.
كأن يبيع طعاماً أو ثياباً ويستثني بعضها بلا تحديد، فهذا البيع باطل لا يجوز؛
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1486) , ومسلم برقم (1534) , واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1513).

(3/412)


لما فيه من الجهالة والغرر، وأكل أموال الناس بالباطل.
فإن كان الاستثناء معلوماً صح البيع، كأن يبيع الثياب ويستثني قميصاً معلوماً، أو يبيع أشجاراً ويستثني شجرة معلومة، فهذا البيع جائز؛ لانتفاء الجهالة والغرر.
عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ وَالمُعَاوَمَةِ وَالمُخَابَرَةِ. قَالَ: أَحَدُهُمَا بَيْعُ السِّنِينَ هِيَ المُعَاوَمَةُ، وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي العَرَايَا. متفق عليه (1).
11 - بيع ما ليس عنده: وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، مثل أن يبيع ما لا يملك، أو يبيع سلعة قبل أن يقبضها، أو يبيع العبد الآبق، أو الجمل الشارد ونحو ذلك مما لا يقدر على تسليمه، فهذا كله بيع باطل لا يصح؛ لما فيه من الجهالة والغرر والضرر، ولما يسببه من الخصومة والنزاع.
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنَ البَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ثمَّ أَبيعُهُ. قَالَ: «لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». أخرجه أبو داود والترمذي (2).
- مفاسد الغرر والميسر:
1 - الغرر: هو كل ما طوي عن الإنسان علمه، وخفي عليه باطنه من معدوم، أو مجهول، أو معجوز عنه، أو غير مقدور على تسليمه كما سبق.
2 - الميسر: هو القمار: وهو المال الذي يحصل عليه الإنسان بلا جهد، وقد
حرمه الله ورسوله، وهو من عمل الشيطان، ويسمى القمار.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2196) , ومسلم برقم (81) (1536) كتاب البيوع.
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3503) , وأخرجه الترمذي برقم (1232) , وهذا لفظه.

(3/413)


والقمار مؤسَّس لجلب الأموال من حلال أو حرام .. وقائم على أكل أموال الناس بالباطل .. واستنزاف الأموال بطرق ماكرة، وحيل ملتوية.
سبب ثراء قوم بلا جهد .. وفقر آخرين بالباطل .. وأفقر بيوتاً تجارية كبرى.
ومن أنواعه: اللعب بالنرد والشطرنج على عوض، والتأمين على النفس، والرخصة، والسيارة، والبضاعة ونحو ذلك، وجوائز السحب في المحلات التجارية، وكل ذلك محرم؛ لما فيه من الغرر، والمفاسد العظيمة.
وبيوع الغرر والميسر تجر مفسدتين كبيرتين:
الأولى: أكل أموال الناس بالباطل، فأحد الطرفين إما غارم بلا غُنْم، أو غانم بلا غُرْم؛ لأنها رهان ومقامرة، وذلك محرم ومدمر.
الثانية: وقوع العداوة والبغضاء بين المتبايعين، ثم حصول التناحر؛ لأن أحدهما غانم، والآخر غارم، وهذا كله محرم، ومن عمل الشيطان.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:90 - 91].

(3/414)


2 - البيوع المحرمة بسبب الربا
1 - بيع العينة:
وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها نقداً.
فاجتمع فيه بيعتان في بيعة، وهذا البيع حرام وباطل؛ لأنه ذريعة إلى الربا، ولأنه حيلة ظاهرة، فإن اشتراها البائع بعد قبض ثمنها، أو بعد تغير صفتها، أو من غير مشتريها، جاز البيع.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذا تَبَايَعْتُمْ بالعِينَةِ وَأَخَذتُمْ أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُمْ بالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». أخرجه أبو داود (1).
- أنواع بيع العينة:
من أنواع بيع العينة ما يلي:
1 - أن يحتاج رجل سيارة، فيقول للتاجر أنا أحتاج تلك السيارة في معرض فلان، فيذهب التاجر إليه، ويشتريها بعشرين ألفاً نقداً، ثم يبيعها عليه بثلاثين ألفاً مؤجلة، ثم يشتريها التاجر منه بعشرين ألفاً نقداً.
فهذه حيلة ظاهرة على أكل الربا.
2 - أن يحتاج فقير إلى ألف ريال، فيأتي إلى التاجر، ثم يذهب التاجر إلى صاحب دكان ويشتري منه أكياس أرز بألف ريال مثلاً، ثم يبيعها على الفقير وهي في مكانها بألف وثلاثمائة ريال مؤجلة، ولم يقبضها هذا ولا هذا، ثم
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3462).

(3/415)


يبيعها الفقير على صاحب الدكان بأقل مما اشتراها منه التاجر، أو هو من التاجر.
فيؤكل الفقير من جهتين:
من جانب التاجر الأول، ومن صاحب الدكان، وهذه حيلة ثلاثية ماكرة كادهم بها الشيطان.
3 - أن يقوم شخص ببناء بيت لفقير، فيكلفه مائة ألف، ثم يبدأ يقبض من صاحب البيت مائة وثلاثين ألف مؤجلة، فهذه كلها حيل باطلة محرمة.
وكلما احتال الإنسان على محرم لم يزدد إلا خبثاً، فالمحرم خبيث، فإذا احتلت عليه صار أخبث؛ لأنه جمع بين حقيقة المحرم، وبين خداع الرب عز وجل، وكلما احتال صارت الزيادة عليه أكثر.
2 - بيع المزابنة:
هو بيع كل شيء من الجزاف الذي لا يُعلم كيله ولا وزنه ولا عدده بشيء من الكيل أو الوزن أو العدد، ظناً وتقديراً.
كأن يقدر الرطب على النخل بألف كيلو، ثم يبيعه بقدره من التمر، وهذا البيع باطل ومحرم؛ لأنه ربا، فهو بيع مكيل بمكيل، أو موزون بموزون، أو معدود بمعدود، مع التفاضل وعدم المساواة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُزَابَنَةِ: أنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلا، وَإِنْ كَانَ كَرْماً أنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلا، وَإِنْ كَانَ زَرْعاً، أنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2205) , واللفظ له، ومسلم برقم (1542).

(3/416)


- حكم بيع العرايا:
العرايا: هي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض.
والعرايا جزء من المزابنة، إلا أنه رُخِّص فيها بالشيء اليسير للحاجة، كحاجة صاحب الحائط إلى البيع، أو حاجة المشتري إلى الرطب.
1 - عَنْ سَهْل بن أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ: «ذَلِكَ الرِّبَا، تِلْكَ المُزَابَنَةُ». إِلا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرِيَّةِ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ البَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْراً، يَأْكُلُونَهَا رُطَباً. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ. متفق عليه (2).
3 - بيع المحاقلة:
هو بيع حب في سنبله بحب صاف بالظن والتقدير، كأن يبيع حنطة في سنبلها بحنطة صافية مثلاً، وهذا البيع باطل، لأنه ربا، فهو بيع مكيل بمكيل من جنسه، مع عدم التساوي، فلا يجوز خرصاً.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ وَالمُخَابَرَةِ وَأَنْ تُشْتَرَى النَّخْلُ حَتَّى تُشْقِهَ -وَالإِشْقَاهُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَىْءٌ- وَالمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنَ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ وَالمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنَ التَّمْرِ وَالمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2383) , ومسلم برقم (1540) , واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2190) , ومسلم برقم (1541) , واللفظ له.

(3/417)


ذَلِكَ. متفق عليه (1).
4 - بيع اللحم بالحيوان:
فلا يجوز بيع اللحم بالحيوان؛ لما فيه من التفاضل، ولما فيه من الغرر، ولما فيه من المزابنة، ولما فيه من الربا.
وكذلك لا يجوز بيع اللحم باللحم متفاضلاً من جنس واحد.
5 - بيع الأشياء بجنسها مع التفاضل، أو بغير جنسها نسيئة:
كالبر مع زيادة أحدهما، أو الذهب بالفضة نسيئة، فهذا كله ربا محرم.
1 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذّهَبُ بِالذّهَبِ، وَالفِضّةُ بِالفِضّةِ، وَالبُرّ بِالبُرّ، وَالشّعِيرُ بِالشّعِيرِ، وَالتّمْرُ بِالتّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَداً بِيَدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ». أخرجه مسلم (2).
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدّينَارُ بِالدّينَارِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا، وَالدّرْهَمُ بِالدّرْهَمِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا». أخرجه مسلم (3).
6 - بيع الدين بالدين:
كأن يشتري الرجل شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول لصاحب الدين: بعنيه إلى أجل آخَر بزيادة مائة مثلاً، فيبيعه.
وهذا البيع باطل ومحرم؛ لأنه ربا مضاعف.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2381) , ومسلم برقم (1536) , واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1587).
(3) أخرجه مسلم برقم (1588).

(3/418)


- حكم بيع الدين على الغير:
الأصل عدم جواز بيع الدين في الصرف؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وأما في غير الصرف والسلم فبيع الدين على المدين نفسه جائز؛ لحصول القبض من قبل، وأن يبيعه بسعر وقته.
وإن باعه على غير المدين، فإن كان بثمن عين فيجوز إن كان الدين مستقراً، والمدين ملياً، ومقراً به؛ لعدم الغرر والضرر، وإمكان التسليم والقبض.
وأما بيع الدين لغير المدين بالدين، فإنه لا يجوز غالباً؛ لما فيه من الجهالة والغرر، وعدم القدرة على التسليم.
7 - بيع بيعتين في بيعة:
وصورته: أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، ثم يفترقان وهو لم يختر أحدهما، أو يبيعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين حالة.
فهذه صورة البيعتان في بيعة.
فهذا البيع باطل؛ لما فيه من الربا، وحيلة الربا، والجهالة والغرر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. أخرجه أحمد والترمذي (1).
- بيع التقسيط:
بيع التقسيط: هو أن يبيعه سلعة حاضرة بثمن مؤجل يدفعه المشتري على دفعات معلومة المقدار والوقت.
_________
(1) حسن/ أخرجه أحمد برقم (9584) , وأخرجه الترمذي برقم (1231).

(3/419)


- حكم بيع التقسيط:
1 - بيع التقسيط صورة من بيع النسيئة، وهو عقد جائز.
فبيع النسيئة مؤجل لأجل واحد، وبيع التقسيط مؤجل لآجال متعددة.
2 - تجوز الزيادة في ثمن السلعة لأجل التأجيل أو التقسيط، كأن يبيعه سلعة قيمتها مائة حالَّة بمائة وعشرين مؤجلة لأجل واحد، أو آجال محددة، بشرط ألا تكون الزيادة فاحشة، أو يستغل حاجة المضطرين.
3 - البيع إلى أجل، أو بالتقسيط، يكون مستحباً إذا قصد به الرفق بالمشتري، والإحسان إليه، وبذلك يثاب فيه البائع على إحسانه، إذا لم يزد في الثمن من أجْل الأجَل.
ويكون مباحاً إذا قصد به الربح والمعاوضة، فيزيد في الثمن لأجْل الأجَل، ليسدد له المشتري بالتقسيط المؤجل.
4 - لا يجوز للبائع أن يأخذ من المشتري زيادة على الدين إذا تأخر في دفع الأقساط؛ لأن ذلك ربا محرم، لكن له رهن المبيع حتى يستوفي دينه من المشتري.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» زَادَ أَحْمَدُ: إِلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، وَزَادَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ». أخرجه أبو داود (1).
_________
(1) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3594).

(3/420)


3 - البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع
1 - بيع النجش:
وهو أن يزيد الإنسان في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، بل ليوقع غيره فيها، أو يمدح المبيع بما ليس فيه ليروِّجه.
ويقع ذلك غالباً بمواطأة مع البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك أحياناً بغير علم البائع فيأثم الناجش وحده.
وبيع النجش باطل وحرام؛ لما فيه من خديعة المسلم، وأكل المال بالباطل.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّجْشِ. متفق عليه (1).
2 - بيع الرجل على بيع أخيه:
وهو أن يقول الإنسان لمن اشترى سلعة في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله أو أجود منه بأرخص من ثمنه.
أو يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، أو يسوم بأكثر بعد استقرار البيع.
وهذا البيع والشراء باطل وحرام؛ لما فيه من الضرر والإفساد على المسلم، ولما يسببه من التدابر والتحاسد.
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ، وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ، إِلا أنْ يَأْذَنَ لَهُ». متفق عليه (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2142) , واللفظ له، ومسلم برقم (1516).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2139) , ومسلم برقم (1412) , واللفظ له.

(3/421)


2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَسُمِ المُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ». متفق عليه (1).
3 - بيع الصفقة:
هو البيع المشتمل على حلال وحرام، أو معلوم ومجهول، أو مملوك وغير مملوك، أو صحيح وفاسد، أو طيب وخبيث.
وهذا البيع باطل ومحرم؛ لما فيه من الضرر والخداع، وأكل أموال الناس بالباطل.
4 - بيع الاحتكار:
وهو أن يشتري ما يحتاجه الناس كالطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه أكثر ثم يبيعه، فهذا الاحتكار محرم؛ دفعاً للضرر عن الناس.
عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْداللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَحْتَكِرُ إلاّ خَاطِىءٌ». أخرجه مسلم (2).
5 - بيع تَلَقِّي الجَلَب أو الركبان أو السلع:
وهو أن يقوم بعض الناس بالخروج لتَلَقِّي السلع قبل ورودها إلى السوق، وقبل أن يعرف أصحابها الأسعار، فيخبروهم أن السعر ساقط، والسوق كاسدة، فيخدعونهم ويشترون بضاعتهم بأقل مما تستحق.
وهذا البيع باطل ومحرم؛ لما فيه من الضرر والخداع لأصحاب السلع.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2727) , ومسلم برقم (1515) , واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1605).

(3/422)


عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلا تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ». متفق عليه (1).
6 - بيع الحاضر للباد:
هو أن يخرج السمسار -وهو متولي البيع والشراء لغيره- إلى جالب السلعة، ويقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، فيضر بالناس، ويستغل حاجتهم.
وهذا البيع محرم وباطل؛ للنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، ولما فيه من الإضرار بالمسلمين.
1 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ». أخرجه مسلم (2).
2 - وعَنْ طَاوس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ». قالَ: فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: «لا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ». قال: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً. متفق عليه (3).
7 - بيع فضل الماء:
وهو أن يكون للإنسان بئر في الفلاة، وفيها ماء فاضل عن حاجته، فيمنعه من احتاج إليه من الناس والمواشي إلا بعوض، ولا يكون هناك سوى هذه البئر، أو يمنع الناس من ماء العين أو النهر من الشرب إلا بعوض.
فهذا البيع محرم؛ لما فيه من الضرر على الناس والمواشي.
1 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2165) , واللفظ له، ومسلم برقم (1412).
(2) أخرجه مسلم برقم (1522).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2158) , واللفظ له، ومسلم برقم (1521).

(3/423)


إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَا، فَإِنْ أعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ العَصْرِ فَقال: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ أعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ». ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. متفق عليه (1).
8 - بيع الغش والمكر والكذب:
وهذا النوع يكون بالقول والفعل، وله صور كثيرة:
1 - إخفاء العيب عن الناس:
بوضع الجيد في الأعلى والرديء في الأسفل، وطلاء الأثاث والآلات القديمة لتظهر أنها حديثة، وتغيير عدّاد السيارة ليظهر أنها قليلة الاستعمال، وبيع المصراة بحبس لبنها في ضرعها ليوهم المشتري أنها غزيرة اللبن ونحو ذلك.
وكل هذا البيع باطل ومحرم؛ لأنه غش وخداع وإضرار بالناس.
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أصَابِعُهُ بَلَلا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قال: أصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». أخرجه مسلم (2).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلا
يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلا تُصَرُّوا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2358) , واللفظ له، ومسلم برقم (108).
(2) أخرجه مسلم برقم (102).

(3/424)


الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ». متفق عليه (1).
2 - كتمان الحقيقة والكذب:
كأن يمدح السلعة بما ليس فيها، ويكتم البائع ما فيها من عيب، كتصدع في جدران المنزل، وكسر في محرك الآلة، ومرض في الدابة المباعة ونحو ذلك.
وكل ذلك محرم؛ لما فيه من الغش والكذب.
أو يمدح السلعة بما ليس فيها ليغري الناس بشرائها، كأن يقول: هذه السيارة أو الدار تساوي أكثر، أو لا مثيل لهذه البضاعة في السوق، أو دُفِع لي بها أكثر فلم أقبل ونحو ذلك من المغريات الكاذبة.
وكل ذلك محرم؛ لما فيه من الكذب والغش وأكل أموال الناس بالباطل.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
9 - بيع الإكراه والاضطرار:
كأن يهدده شخص بقتله، أو قطع أحد أعضائه، أو ضربه إذا لم يفعل ما يطلبه منه، أو يضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم يريد أخذها، أو يكتب عقداً ويتظاهر بالبيع كذباً من غير نية.
فهذا البيع كله باطل لا يصح؛ لوجود الإكراه، وفقد التراضي والكذب، وهو
محرم.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2150) , واللفظ له، ومسلم برقم (1515).

(3/425)


أما الإكراه بحق فجائز كما لو أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه.
قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة:188].

(3/426)


4 - البيوع المحرمة لذاتها
1 - بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
1 - قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة:90].
3 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأصْنَامِ». فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أرَأيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقال: «لا هُوَ حَرَامٌ». ثُمَّ قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأكَلُوا ثَمَنَهُ». متفق عليه (1).
2 - بيع الدم والسِّنَّوْر والكلب:
1 - عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: رَأيْتُ أبِي اشْتَرَى حَجَّاماً فَأمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، فَسَألْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، قال إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ الأمَةِ، وَلَعَنَ الوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ. أخرجه البخاري (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2236) , واللفظ له، ومسلم برقم (1581).
(2) أخرجه البخاري برقم (2238).

(3/427)


2 - وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِراً عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ؟ قَالَ زَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ. أخرجه مسلم (1).
- حكم اقتناء الكلاب:
يحرم اتخاذ الكلاب واقتناؤها إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع.
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ، كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ». متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ ابنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا أَهْلِ دَارٍ اتَّخَذُوا كَلْباً إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ كَلْبَ صَائِدٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِمْ، كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ». متفق عليه (3).
3 - بيع الصور:
يحرم تصوير كل ذي روح، ويحرم بيع تلك الصور، وشراؤها واقتناؤها، واهداؤها، وإعارتها؛ لما فيها من مضاهاة خلق الله، وحصول الفتن، ومنع دخول الملائكة، ونشر الفساد، سواءكانت في ثوب، أو بساط، أو إناء، أو درهم أو غير ذلك، وسواء كان لها ظل أو لا ظل لها.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ». متفق عليه (4).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالتْ: حَشَوْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وِسَادَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ،
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1569).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2322)، ومسلم برقم (1575) واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5482) , ومسلم برقم (1574) , واللفظ له.
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5950) , واللفظ له، ومسلم برقم (2109).

(3/428)


كَأنَّهَا نُمْرُقَةٌ، فَجَاءَ فَقَامَ بَيْنَ البَابَيْنِ، وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «مَا بَالُ هَذِهِ الوِسَادَةِ». قالتْ: وِسَادَةٌ جَعَلْتُهَا لَكَ لِتَضْطَجِعَ عَلَيْهَا، قال: «أمَا عَلِمْتِ أنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ صُورَةٌ، وَأنَّ مَنْ صَنَعَ الصُّورَةَ يُعَذَّبُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ: أحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي الحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ، فَقَالَ: إِنّي رَجُلٌ أُصَوّرُ هََذِهِ الصّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمّ قَالَ: ادْنُ مِنّي، فَدَنَا حَتّىَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَىَ رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلّ مُصَوّرٍ فِي النّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلّ صُورَةٍ صَوّرَهَا نَفْساً فَتُعَذّبُهُ فِي جَهَنّمَ». متفق عليه (2).
4 - بيع آلات اللهو والعزف والطرب:
يحرم استعمال آلات اللهو والمعازف والطرب، ويحرم بيعها وشراؤها ولا يصح؛ لما فيها من الضرر على الأمة، وإفساد أحوالهم، والغفلة عن الله وشرعه، والصد عن سبيل الله، فإذا صاحَبَها الغناء كانت حرمتها أشد، وعقوبتها أعظم.
1 - قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان:6 - 7].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3224) , واللفظ له، ومسلم برقم (2107).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2225) , ومسلم برقم (2110)، واللفظ له.

(3/429)


2 - وَعَنْ أبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفَقِيرَ- لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ». أخرجه البخاري معلقاً ووصله أبو داود (1).
5 - بيع الدخان والمخدرات:
الدخان والمخدرات كلها محرمة بجميع أنواعها، والتجارة فيها محرمة، وزراعتها، واستعمالها، وتصنيعها، كل ذلك محرم؛ لما فيها من الخبث، والأضرار الكثيرة، وإضاعة الأموال والأوقات، وتعطيل الأعمال، وإفساد الأبدان، والله عز وجل إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه.
فعلى من وقع في شيء من ذلك التوبة إلى الله، وحفظ أمواله وأوقاته فيما يعود عليه بالنفع في الدين والدنيا.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ يَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأكَلُوا أثْمَانَهَا». متفق عليه (2).
- حكم المحرم لذاته:
يحرم البيع والشراء والانتفاع بالمحرم لذاته كالخمر والخنزير ونحوهما، ويجوز الانتفاع بالمحرم للحاجة كلبس الحرير لمن به حكة، أو لضرورة كشرب الخمر لدفع الغصة، وأكل الميتة للمضطر.
_________
(1) أخرجه البخاري معلقاً برقم (5590) واللفظ له، وأخرجه أبو داود موصولاً برقم (4039)، انظر الصحيحة رقم (91).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2224) , واللفظ له، ومسلم برقم (1583).

(3/430)


قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} [المائدة:3].

(3/431)


5 - البيوع المحرمة لغيرها
1 - البيع عند أذان الجمعة الثاني:
يحرم على من تلزمه الجمعة البيع والشراء عند أذان الجمعة الثاني؛ لما في ذلك من التشاغل عن الخطبة والصلاة.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:9 - 10].
2 - البيع في المسجد:
يحرم البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد، وكل أمر لم تُبْن له المساجد؛ لأنها بيوت الله، بنيت لعبادته، وتعلم شرعه، ولم تبن للبيع والشراء وما يلهي.
1 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ». أخرجه الترمذي والنسائي في الكبرى (1).
2 - وَعَنْ عَبدِاللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ فِي المَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ، وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ
_________
(1) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (1321) , وهذا لفظه، وأخرجه النسائي في «الكبرى» برقم (10004).

(3/432)


الصَّلاَةِ. أخرجه أبو داود والترمذي (1).
3 - بيع السلاح في الفتنة:
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
4 - بيع العصير ممن يتخذه خمراً:
بيع السلاح في فتنة بين المسلمين محرم؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، وزيادة ضرر الفتنة.
وبيع العصير ممن يتخذه خمراً يحرم؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، وغش المسلم، وكذلك أواني الخمر.
وكل بيع أعان على معصية الله فهو باطل ومحرم؛ لأن فيه تعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
5 - بيع المصحف للكافر:
لا يجوز بيع ولا إهداء المصحف للكافر؛ خشية إهانته له، وانتهاكه لحرمته.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَر َرَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُسَافَرَ بِالقُرْآنِ إِلَى أرْضِ العَدُوِّ. متفق عليه (2).
_________
(1) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (1079) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (322).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2990) , واللفظ له، ومسلم برقم (1869).

(3/433)


4 - البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي شرعي
1 - بيع الربا:
1 - قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ». أخرجه مسلم (1).
2 - البيع بثمن محرم:
لا يجوز ولا يصح البيع بثمن محرم كالخمر والخنزير ونحوهما.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكّةَ: «إنّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ». متفق عليه (2).
وغير ذلك مما سبق من البيوع المحرمة.
- حكم القات:
القات شجرة من الأشجار المتوسطة، تمضغ أوراقها اللينة التي في أطرافها، فتسبب الفتور أحياناً، والنشاط أحياناً.
وفي أكلها إضاعة للأوقات التي هي أهم رأس مال المسلم، وإضاعة الأموال فيما لا نفع فيه، وتعطيل المسلم عن أداء الصلوات في أوقاتها، وإهدار للطاقات والأوقات والأموال، وذلك كله من التبذير الذي نهى الله ورسوله عنه.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1598).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4296) , ومسلم برقم (1581) , واللفظ له.

(3/434)


لهذا يحرم على المسلم إضاعة أمواله وأوقاته في تعاطيها.
1 - قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف:31].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء:26 - 27].
- حكم التجارة في الأجهزة المحرمة:
أجهزة التلفزيون ونحوها يعرض فيها الخير والشر، وأغلب ما تنقله للناس كله شر، وكل ما يغلب شره خيره فحرام على المسلم بيعه وشراؤه واقتناؤه، والنظر إليه، ولا ينخدع المسلم بما فيه من الخير؛ فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، كيف وقد تضاعفت آثاره السيئة على الدين والأخلاق، وعلى الرجال والنساء والأولاد، ولا ينكر ذلك إلا مكابر معاند، مريض القلب والعقل، بل فاقد الإحساس والمروءة والغيرة.
فعلى من يملك أجهزة التلفزيون والفيديو إتلافها والتوبة إلى الله؛ ولا يبيعها على الناس، لما في ذلك من غش المسلم، وإفساد الناس.
1 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أصَابِعُهُ بَلَلا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قال: أصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ
فَلَيْسَ مِنِّي». أخرجه مسلم (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (57) , واللفظ له، ومسلم برقم (56).
(2) أخرجه مسلم برقم (102).

(3/435)


أحكام البيع
- حكم التسعير:
التسعير: هو وضع ثمن محدد للسلع.
والتسعير نوعان:
الأول: تسعير جائز: وهو أن يسعِّر التاجر معروضاته؛ ليسهل على المشتري معرفة القيمة بسهولة.
فهذا جائز إذا سعَّرها بربح يسير ينفع البائع، ولا يرهق المشتري.
الثاني: التسعير من الحاكم، وهذا له حكمان:
1 - تسعير محرم: وهو الذي يتضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق، ومنعهم مما أباح الله لهم.
وهذا التسعير محرم؛ لأنه يؤدي إلى اختفاء السلع، وذلك يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، وارتفاع الأسعار يضر بالأغنياء والفقراء، ويسبب الضيق والجرائم.
2 - تسعير جائز: وهو الذي لا يُظلم فيه البائع، ولا يُرهَق فيه المشتري، فيرخَّص فيه عند الحاجة فقط كأن يمتنع أصحاب السلع من بيعها إلا بزيادة فاحشة، مع حاجة الناس إليها، أو عند الكوارث والنكبات، فتضطرب الأسعار، ويتضرر الناس.
فهنا يجب على الحاكم التسعير بالمثل، صيانة لحقوق الناس، ومنعاً للاحتكار، ودفعاً لجشع التجار.

(3/436)


1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
- أسباب الغلاء والرُّخْص:
الغلاء: هو ارتفاع أسعار السلع، والرخص: انخفاضها. وكل ذلك من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله، ولا يكون منها شيء إلا بمشيئة الله، لكن الله عز وجل قد جعل بعض أفعال العباد سبباً في بعض الحوادث.
فارتفاع الأسعار قد يكون ابتلاءً .. وقد يكون بسبب ظلم بعض العباد .. وقد يكون بسبب كثرة المعاصي.
كما أن انخفاض الأسعار قد يكون ابتلاءً .. وقد يكون بسبب طاعات العباد .. وقد يكون بسبب إحسان بعض الناس.
وقد يكون الغلاء والرخص بسبب قلة أو كثرة الأموال والأشياء .. وقد يكون بسبب الرغبة في الشيء أو عدم الرغبة.
فإذا زادت الرغبة في شيء، وقَلَّ المرغوب فيه، ارتفع سعره، وإذا كثر وقَلَّت الرغبة فيه انخفض سعره.
ولله في ذلك حِكَم ومنافع للعباد تعجز العقول عن إدراكها.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3451) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1314).

(3/437)


قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف:96].
- حكم الاحتكار:
الاحتكار: هو شراء السلع التي يحتاجها الناس، وحبسها لتقل بين الناس، فإذا تضاعف سعرها باعها.
والاحتكار محرم؛ لما فيه من الجشع والطمع، والتضييق على الناس في حاجاتهم، والتحكم في أرزاقهم بغير حق.
عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَحْتَكِرُ إلاّ خَاطِىءٌ». أخرجه مسلم (1).
- حكم المزايدة:
عقد المزايدة: هو عقد معاوضة يُدعى الناس للمشاركة فيه، ثم تباع السلع بأعلى سعر وصلت إليه برضا البائع.
وبيع المزايد جائز بشروط البيع المعلومة، سواء كان المالك فرداً، أو جهة حكومية، أو شركة معتبرة.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَجُلاً أعْتَقَ غُلاماً لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَأخَذَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي». فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. متفق عليه (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1605).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2141) , واللفظ له، ومسلم برقم (997).

(3/438)


- حكم بيع التورق:
التورق: هو أن يحتاج الإنسان إلى نقد، ولا يجد من يقرضه، فيشتري سلعة إلى أجل، ثم يبيعها نقداً على غير بائعها، ثم ينتفع بثمنها.
وبيع التورق يجوز بثلاثة شروط:
الأول: أن يتعذر عليه الحصول على المال بطريق مباح كالقرض أو السلم.
الثاني: أن يكون محتاجاً للمال حاجة ماسة.
الثالث: أن تكون السلعة عند البائع.
- حكم الإقالة:
الإقالة: هي فسخ العقد ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له.
وتجوز الإقالة للنادم من بائع ومشتر، بعوض وبدون عوض، وهي مستحبة في حق المُقيل، مباحة في حق المستقيل.
وتشرع إذا ندم أحد الطرفين، أو زالت حاجته، أو لم يقدر على الثمن ونحو ذلك.
والإقالة مستحبة، وهي من معروف المسلم على أخيه عند الحاجة إليها.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَهُ اللهُ عَثرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
- حكم بيع المرابحة:
بيع المرابحة: هو أن يشتري الإنسان سلعة بمائة مثلاً، ثم يقول للمشتري: أنا
اشتريتها بمائة فكم تربحني؟ أو من يربحني فيها خمسة أو أقل أو أكثر.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3460) , وأخرجه ابن ماجه برقم (2199) , وهذا لفظه.

(3/439)


فهذا البيع جائز وينفذ إذا صدق البائع، وحصل التراضي.
- حكم بيع الميتة:
الميت: كل من فارق الحياة من إنسان أو حيوان.
والميت من الحيوان: من مات حنف نفسه، أو بغير ذكاة شرعية.
1 - ميتة الحيوان نوعان:
1 - ميتة البحر: كالسمك والحوت وغيرهما مما في البحر.
فهذه يجوز أكلها وبيعها وشراؤها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ المَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بمَاءِ البَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
2 - ميتة البر: كالدواب والحيوانات والطيور وغيرها.
فهذه لا يجوز بيع الميت منها، سواء كانت محنطة أو غير محنطة.
ويستثنى من ميتة البر الجراد، فيجوز أكله وبيعه وشراؤه.
2 - ميتة الإنسان:
ميتة الآدمي سواء كان مسلماً أم كافراً، لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وكذلك أعضاؤه؛ لأن الإنسان كله ملك لله عز وجل، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكرمه على غيره.
ولذلك إذا مات الإنسان، يُدفن المسلم في القبر، ويوارى الكافر بالتراب؛
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (83) , وأخرجه الترمذي برقم (69).

(3/440)


تكريماً لجثته.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء:70].
- حكم بيع أعضاء الإنسان:
1 - لا يجوز بيع العضو أو الجزء من الإنسان قبل الموت أو بعده، وإذا لم يحصل عليه المضطر إلا بثمن جاز الدفع للضرورة، وحَرُم على الآخذ.
وإن وهب العضو أو الجزء بعد الموت لأي مضطر، وأُعطي مكافأة عليها قبل الموت جاز له أخذها.
ولا يجوز للإنسان حال الحياة أن يبيع أو يهب عضواً من أعضائه لغيره؛ لما في ذلك من إفساد البدن، وتعطيله عن القيام بما فرض الله عليه، وتصرفه في ملك الغير بغير إذنه.
- حكم بيع الدم:
لا يجوز بيع الدم لعلاج ولا غيره، ويستحب للإنسان إسعاف أخيه بالدم إن احتاج إليه.
وإن احتاج المريض للدم، ولم يتمكن من الحصول عليه إلا بثمن، جاز له أخذه بثمن، وحَرُم أخذ العوض على من باعه.
أما دم الحيوان فكله نجس لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به، ويُغتفر لليسير منه كالدم الباقي في الذبيحة بعد تذكيتها.
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ} [المائدة:3].

(3/441)


- حكم بيع المشاع:
إذا باع مشاعاً بينه وبين غيره، فإن باعه على هذا الغير فالبيع صحيح، وإن باعه على غيره صح في نصيبه بقسطه، وللمشتري الخيار إن جهل الحال.
- حكم فسخ العقد:
البيع عقد لازم لا يجوز فسخه إلا برضا الطرفين.
والبيع الباطل ملك غير لازم، فيجب على المتعاقدين فسخه ولو من غير رضا الآخر إذا كان قبل القبض، وإن كان بعد القبض، فإن كان الفساد راجعاً إلى العوض كأن يكون الثمن خمراً، أو خنزيراً، فيحق لكل منهما الفسخ.
وإن كان الفساد راجعاً إلى شرط منفعة زائدة، أو إلى أجل مجهول ونحو ذلك، فالعقد غير لازم، ولكل منهما الفسخ.
- ما يُبطل حق الفسخ:
إذا قبض المشتري السلعة، ثم تصرف فيها، ثم تبين أن البيع باطل، فإن كان التصرف مزيلاً للملك كالبيع والهبة، فهنا يبطل حق الفسخ، وعلى المشتري القيمة أو المثل للأول.
وإن كان التصرف بما لا يزيل الملك كالإجارة، فله حق الفسخ، فللمالك الأول فسخ الإجارة، ثم فسخ البيع بسبب الفساد، فكل ما بني على الباطل فهو باطل.
وحق الفسخ يورث؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ.
- حكم الزيادة في المبيع الفاسد:
إذا حصلت زيادة في المبيع بيعاً فاسداً فله حالتان:

(3/442)


1 - إن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل كالسِّمَن فلا تمنع الفسخ؛ لأنها تابعة للأصل، وإن كانت الزيادة غير متولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، فإنها تمنع الفسخ؛ لأنه لا يمكن فصلهما، فيدفع للبائع قيمته أو المثل.
2 - إن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة ونحو ذلك فلا تمنع الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة؛ لأنها متولدة منه، والأصل مضمون، فكذلك الزيادة، وإن كانت غير متولدة منه كالهبة والصدقة والكسب، فإنها لا تمنع الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة، ويدفع للمشتري قدر ما أنفق في الحالتين.
- حكم بيع السلع المسروقة:
السلع المسروقة يتعلق بها حقان:
الأول: حق الله: بتعدي حدوده بشراء أو بيع السلع المسروقة، وذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الإثم العظيم لا يرتفع إلا بالتوبة.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء:14].
الثاني: حق المخلوق: فالبيع فاسد؛ لأن من شروط صحة البيع أن يكون البائع مالكاً للسلعة، وأن يكون المشتري مالكاً للثمن، أو مأذوناً لهما بالتصرف، وبناءً على ذلك لا يجوز بيع أو شراء السلع المسروقة.
- حكم السلعة المسروقة:
السلعة ملك لصاحبها، ومن اشترى سلعة مسروقة فعليه أن يرد السلعة على

(3/443)


من سُرقت منه إن عرفه؛ لتبرأ ذمته، ثم يرجع بالثمن على من اشتراها منه.
وإن تعذر العلم بصاحب السلعة المسروقة فيبيعها من اشتراها، ويتصدق بثمنها على نية صاحبها، أو يتصدق بها، وبهذا تبرأ ذمته، والله يعوضه خيراً منها ومن ثمنها، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
- حكم التجارة في المحرمات:
التجارة في المحرمات كالخمور والمخدرات والدخان .. والصحف والمجلات والأشرطة التي تحمل الأفكار السيئة، والصور الماجنة، والأفلام الساقطة، وأصوات المعازف .. وكل ما يدعو إلى الفاحشة والرذيلة .. كل ذلك يحرم بيعه وشراؤه .. ورؤيته وسماعه .. والتجارة فيه .. وإهداؤه .. وتأجير أصحابه، والمال الذي يحصل من ذلك كله سحت وحرام لا يحل لصاحبه.
1 - قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطفِّفين:14].
2 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: «إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الحَرَامِ كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ أَلاَ وَإِنَّ فِى الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ
القَلْبُ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) , ومسلم برقم (1599)، واللفظ له.

(3/444)


- حكم ترويج السلع بالهدايا:
الهدايا والجوائز المقدمة من الأسواق والمحلات التجارية لمن يشتري من بضائعهم محرمة، وهي من القمار -الذي هو الميسر- الذي حرمه الله؛ لما فيه من المفاسد العظيمة.
ففي تلك الهدايا المغرية أكل لأموال الناس بالباطل بجر الناس لشراء ما لا يحتاجون من محرم أو حلال .. وإغراء للناس بالشراء منهم دون غيرهم .. وقطع لأرزاق الآخرين .. وكسر للتجار الصغار.
والجائزة التي يأخذها المشتري منهم محرمة؛ لكونها من الميسر الذي حرمه الله عز وجل، وحذرنا منه.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:90 - 91].
- حكم بيع الاسم التجاري:
الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف، والاختراع، حقوق خاصة لأصحابها، ولها قيمة مالية معتبرة، فلا يجوز الاعتداء عليها، أو التصرف فيها إلا بإذن أهلها.
ويجوز نقل أيّ منها بعوض مالي يُدفع لأصحابها إذا انتفى الغرر والتدليس والغش.

(3/445)


- حكم بيع أو تأجير أرض المشاعر:
أرض منى ومزدلفة وعرفات مشاعر كالمساجد لعموم المسلمين، فلا يجوز بيعها أو تأجيرها، ومن فعل ذلك فهو عاص آثم ظالم، والأجرة عليه حرام، ومن دفعها محتاجاً فلا إثم عليه.
- حكم التعامل مع البنوك الربوية:
1 - إن كان البيع والشراء على وفق الشرع فهذا جائز؛ لتعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود وهم أكلة الربا.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ. متفق عليه (1).
2 - إن كان البيع والشراء بمعاملات ربوية فهذا محرم.
3 - إذا لم يجد المسلم مصرفاً إسلامياً، وخاف على نفسه وماله، فيجوز له الإيداع عند البنوك الربوية مؤقتاً من دون أخذ الربا.
- حكم التأمين:
التأمين قسمان:
الأول: التأمين التعاوني:
وهو أن يتفق مجموعة من الأقارب، أو الأصدقاء، أو الزملاء على أن يدفع
كل منهم اشتراكاً معيناً، لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تعرض لخطر معين من مرض، أو خسارة، أو احتراق.
فهذا جائز؛ لأنه من عقود التبرعات، ومن التعاون على البر، إذا حصل
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2068) , واللفظ له، ومسلم برقم (1603).

(3/446)


التراضي، وطابت به النفوس.
1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى». متفق عليه (1).
الثاني: التأمين التجاري:
وهو عقد يُلزَم فيه المؤمِّن أن يدفع للمؤمَّن له عوضاً مادياً يُتفق عليه عند وقوع خطر أو خسارة، مقابل رسم مالي يؤديه المؤمَّن له.
وهذا التأمين بجميع أنواعه محرم؛ لما فيه من الغرر والجهالة، والغبن والربا، وهو ضرب من الميسر، وأكل لأموال الناس بالباطل.
والغرر في التأمين كثير؛ لأن من أركان التأمين الخطر، والخطر حادث محتمل الوقوع، لا محقق الوقوع، وغير معروف وقوعه.
ويمكن الاستغناء عنه بالتأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعى إلى الربح.
فلا يجوز هذا التأمين بكل أنواعه، سواء كان على النفس، أو على البضائع،
أو الآلات، أو غيرها، ومن ألزم الناس به فعليه وزره.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6011) , ومسلم برقم (2586) , واللفظ له.

(3/447)


2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم (1).
- حكم بيع الأصول والثمار:
المراد بالأصول: الأراضي .. والدور .. والبساتين .. والحيوانات .. والآلات.
فمن باع أرضاً دخل فيها كل ما اتصل بها من غراس، وبناء ونحوهما.
ومن باع داراً دخل في البيع بناؤها وفناؤها، وما فيها من شجر مغروس، ولا يتناول ما فيها من كنز مدفون، ولا منفصل عنها كحبل، ودلو، وخشب ونحو ذلك.
ومن باع حيواناً شمل جميع أجزائه، ومن باع آلة شمل جميع محركاتها وما اتصل بها لمصلحتها، ولا يشمل ما على ظهرها إلا أن يشترطه المشتري.
- حكم بيع البساتين:
1 - إذا باع الإنسان أرضاً فيها نخل أو شجر:
فإن كان النخل قد أُبِّر -أي لُقِّح-، والشجر ثمره باد، فهو للبائع إلا أن يشترطه المشتري فهو له.
وإن كان النخل لم يؤبَّر، أو الشجر لم يظهر طلعه فهو للمشتري.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ
أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلا أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ». متفق عليه (2).
2 - لا يجوز ولا يصح بيع ثمر النخيل أو غيرها من الأشجار حتى يبدو صلاحها
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1513).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2204) , واللفظ له، ومسلم برقم (1543).

(3/448)


بأن تحمر، أو تصفر، أو تلين، أو تظهر حلاوتها، أو يبدو نضجها، ولا يصح بيع الزرع قبل اشتداد حبه.
3 - لا يجوز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا يجوز بيعها بعد ظهورها قبل بدو الصلاح.
ويجوز بيعها بعد بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، أو باع الثمار مع الأصل، أو باع الزرع والشجر مع الأرض.
4 - إذا اشترى أحد ثمرة وتركها إلى الجذاذ أو الحصاد بلا تأخير ولا تفريط، ثم أصابتها آفة سماوية كالريح والبرد فأتلفها، فللمشتري أن يرجع بالثمن على البائع، وإن أتلفها المشتري لزمته.
وإن أتلفها آدمي خُيِّر المشتري بين الفسخ، أو الإمضاء ومطالبة من أتلفها بالبدل أو الثمن.
1 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ العَاهَةَ، نَهَى البَائِعَ وَالمُشْتَرِيَ. أخرجه مسلم (2).
3 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى
تُزْهِيَ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي؟ قال: حَتَّى تَحْمَرَّ. فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأيْتَ إِذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مَالَ أخِيهِ». متفق عليه (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2194) , واللفظ له، ومسلم برقم (1534).
(2) أخرجه مسلم برقم (1535).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2198) , واللفظ له، ومسلم برقم (1555).

(3/449)


- حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح:
من اشترى ثماراً بعد بدو الصلاح، وتركها أكثر من العادة، فإن كان الترك بإذن البائع جاز وطاب له الفضل، وإن كان بغير إذنه تحمل الضرر المشتري، ودفع ما زاد للبائع إلا أن يسامحه البائع فيحل له.
وإن أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى فهي للبائع؛ لأنها نماء ملك البائع.
- حكم بيع الثمار المتلاحقة:
إذا باع ثمراً وزرعاً بعد بدو صلاحه، وكان يغلب تلاحقه وتكاثره كتين، وقِثّاء، وبطيخ وبقول، فالبيع صحيح في الكل؛ عملاً بحسن الظن بالله تعالى، ولأن ذلك يشق تمييزه، فيُجعل ما لم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن ما لم يبد صلاحه تبعاً لما بدا.
- حكم الجوائح:
الجائحة: هي كل آفة لا صنع للآدمي فيها كالريح الشديدة، والبرد القارس، والحر الشديد، والجراد ونحو ذلك من الآفات السماوية، وما حصل بفعل الآدمي لا يسمى جائحة.
ومحل الجوائح هو البقول والثمار، ولا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها.
- حكم وضع الجوائح:
الجوائح لها حالتان:
الأولى: إن وقعت الجائحة قبل القبض فهو من ضمان البائع:
1 - عَنْ جَابِر بن عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ بِعْتَ مِنْ

(3/450)


أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِوَضْعِ الجَوَائِحِ. أخرجه مسلم (2).
الثانية: إذا وقعت الجائحة بعد القبض:
إذا هلك المبيع بعد القبض سواء كان ذلك بآفة سماوية، أو بفعل المشتري، أو بفعل البائع، أو بفعل أجنبي، فإن البيع لا ينفسخ، ويكون هلاكه على ضمان المشتري؛ لأنه خرج من عهدة البائع بقبض المشتري له، ويرجع المشتري بالضمان على الأجنبي إن كان التلف بسببه.
وإن باعها البائع مع أصلها، ثم تلفت بجائحة فهي من ضمان المشتري، والبيع نافذ، سواء كان قبل القبض أو بعده.
- حكم بيع الصفقة:
الصفقة: هي أن يبيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه، في صفقة واحدة، بثمن واحد.
وبيع الصفقة له ثلاث صور:
الأولى: أن يبيع معلوماً ومجهولاً:
كأن يقول بعتك هذا الجمل، وما في بطن هذه الناقة بكذا، فهذا البيع باطل.
الثانية: أن يبيع حلالاً وحراماً:
كأن يقول بعتك هذا الخل والخمر بكذا، فهذا البيع باطل.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1554).
(2) أخرجه مسلم برقم (1554).

(3/451)


الثالثة: أن يبيع مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه:
فيصح البيع في نصيبه بقسطه، وللمشتري الخيار إن جهل الحال.
- صاحب السلعة أحق بالسوم:
إذا أراد الإنسان شراء شيء طلب من صاحبه بيان قيمته.
عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ». متفق عليه (1).
- صفة تسليم السلعة والثمن:
الأصل أن البائع يسلِّم المشتري السلعة، ثم يقبض منه الثمن، وإن قال البائع لا أسلِّم السلعة حتى أقبض ثمنها، وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أقبض السلعة، فهذا يُجعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلِّم إليهما.
فإن أبيا ذلك أجبر الحاكم البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن.
- مقدار الربح في التجارة:
ليست الأرباح في التجارة محددة، بل تتبع أحوال العرض والطلب كثرة وقلة، ونوعية المبيع وجودته، وقلته وكثرته، لكن يحسن بالمسلم أن يكون سهلاً سمحاً في جميع معاملاته، وفي بيعه وشرائه، يحب لأخيه ما يحب
لنفسه، ويتخلق بخلق السماحة والقناعة، ولا يتمادى في الجشع والطمع، ويجتنب الكذب والغرر والضرر.
1 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2106) , واللفظ له، ومسلم برقم (524).

(3/452)


سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفق عليه (2).
- حكم البيع والشراء من الكفار:
الأصل جواز شراء المسلم ما يحتاجه مما أحل الله من المسلم أو الكافر، وقد اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أهل الكتاب.
فإن عدل المسلم عن الشراء من المسلم من غير سبب من غش، أو رفع سعر، أو رداءة سلعة، إلى محبة الشراء من كافر، وإيثاره من دون مبرر.
فهذا الفعل محرم لا يجوز؛ لما فيه من موالاة الكفار، وإيثارهم بالمنافع على إخوانه المسلمين.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
2 - وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ، بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْعاً أمْ عَطِيَّةً؟ أوْ قال: أمْ هِبَةً». قال: لا، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً. متفق عليه (3).
- حكم مزاولة النساء التجارة:
المرأة كالرجل في حق التملك والتجارة، والأصل إباحة الاكتساب والتجارة للرجال والنساء في كل مال حلال.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2076).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (57) , واللفظ له، ومسلم برقم (56).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2216) , واللفظ له، ومسلم برقم (2056).

(3/453)


ويجب على المرأة حسن الاحتشام، وعدم إبداء زينتها أمام الرجال، وعدم الخلوة مع أحدهم.
فإن كانت مزاولة التجارة تُعَرِّض المرأة لكشف زينتها، أو سفرها بدون محرم، أو خلوتها بأحد الرجال، فالواجب منعها؛ لارتكابها محرماً في سبيل تحصيل مباح، ولما يحصل بسبب ذلك من الفتنة، وفساد الدين، والخلق، لها ولغيرها.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
- شراء الإنسان حوائجه بنفسه:
الأحسن للإنسان أن يشتري حوائجه بنفسه إلا لعذر، فلا يمنعه منصبه أو جاهه أو إمارته من مخالطة الناس، ومعرفة ما يجري وما يباع، ورؤية الفقراء ومواساتهم، وإفشاء السلام، ونصح المسلمين.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالت: اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَاماً بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. متفق عليه (1).
- فضل الاستقامة مع التجارة:
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:9 - 10].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2096) , واللفظ له، ومسلم برقم (1603).

(3/454)


2 - وقال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور:36 - 38].
3 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قال: أقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إِلا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2064) , واللفظ له، ومسلم برقم (863).

(3/455)


2 - الخيار
- أقسام البيوع:
تنقسم البيوع إلى قسمين:
بيوع مباحة .. وبيوع محرمة.
فالبيوع المباحة تنقسم إلى أقسام كثيرة كبيع الخيار، والسَّلَم، والصرف، والأصول، والثمار وغير ذلك من البيوع التي شرعها الله لعباده.
والبيوع المحرمة تنقسم كذلك إلى أقسام كثيرة كبيع الربا، وبيوع الغرر وغير ذلك من البيوع التي حرمها الله ورسوله؛ لما فيها من الضرر والغرر والجهالة والظلم.
- الخيار: هو طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الإلغاء.
والأصل في البيع اللزوم؛ لأن القصد منه نقل الملك، إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقاً بالمتعاقدين.
- حكمة مشروعية الخيار:
الخيار في البيع من محاسن الإسلام، إذ قد يقع البيع بغتة من غير تفكير ولا تأمل، ولا نظر في القيمة والسلعة، فيندم أحد المتبايعين أو كلاهما.
من أجل ذلك أعطى الإسلام فرصة للتروِّي تسمى الخيار، يتمكن المتبايعان أثناءها من اختيار ما يصلح وما يناسب من إمضاء البيع أو فسخه.
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أوْ قال: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا،

(3/456)


وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا». متفق عليه (1).
- أقسام الخيار:
ينقسم الخيار إلى أقسام كثيرة وأشهرها عشرة وهي:
خيار المجلس .. والشرط .. والغبن .. والتدليس .. والعيب .. والخيانة .. وخيار الاختلاف في الثمن .. وخيار تفرق الصفقة .. وخيار الإعسار .. وخيار الرؤية.
1 - خيار المجلس:
وهو حق للمتبايعين معاً، فإذا تفرقا لزم البيع، وإن أسقطاه سقط، وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر.
ومدته: من حين العقد إلى التفرق بالأبدان، وتحرم الفرقة من المجلس خشية أن يستقيله.
ويثبت خيار المجلس في البيع، والصلح، والإجارة، وغيرها من العقود التي يُقصد منها المال، أما العقود اللازمة التي لا يُقصد منها المال مثل عقد الزواج والخلع فلا يثبت فيها خيار المجلس، وكذلك لا يثبت في العقود غير اللازمة كالوكالة، والشركة، والمضاربة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعاً، أوْ يُخَيِّرُ أحَدُهُمَا الآخر، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ
يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ». متفق عليه (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2079) , واللفظ له، ومسلم برقم (1532).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2112) , واللفظ له، ومسلم برقم (1531).

(3/457)


2 - خيار الشرط:
وهو أن يشترط المتبايعان أو أحدهما الخيار إلى مدة معلومة.
فيصح هذا الخيار ولو طالت.
ومدته: من حين العقد إلى أن تنتهي المدة المشروطة، ومتى انقضت المدة المعلومة ولم يفسخ العقد لزم البيع.
ويسقط الخيار بإسقاطهما له بعد العقد، وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر، وينقطع بموت أحدهما، ويسقط الخيار بالقول، كما يسقط بتصرف المشتري في المبيع ببيع، أو وقف، أو هبة؛ لأن ذلك دليل رضاه.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أوْ يَكُونُ البَيْعُ خِيَاراً». متفق عليه (1).
3 - خيار الغبن:
وهو أن يُغبن البائع أو المشتري في السلعة غبناً يخرج عن العادة، وهذا الغبن محرم؛ لما فيه من الغش والجشع والظلم.
فإذا غُبن أحدهما فهو بالخيار بين الإمساك أو الفسخ، كمن انخدع بمن يتلقى الركبان، أو بزيادة الناجش الذي لا يريد الشراء، أو كان يجهل القيمة، أو لا يحسن المماكسة في البيع.
فيثبت الخيار لكل مغبون في مثل هذه الصور، وهو مخير بين أن يُمضي البيع
ويفوض أمره إلى الله، وأن يرد المبيع ويأخذ قيمته، وأن يأخذ قدر ما غُبن به.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2107) , واللفظ له، ومسلم برقم (1531).

(3/458)


4 - خيار التدليس:
وهو أن يُظهر البائع السلعة بمظهر مرغوب فيه وهي خالية منه، مثل إبقاء اللبن في الضرع عند البيع ليوهم المشتري بكثرة اللبن ونحو ذلك.
وهذا الفعل محرم؛ لما فيه من الغش والكذب والخداع، فإذا وقع ذلك فهو بالخيار بين الإمساك أو الفسخ، وإذا حلبها ثم ردها، رد معها صاعاً من تمر عوضاً عن اللبن.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلا تُصَرُّوا الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ». متفق عليه (1).
5 - خيار العيب:
والعيب كل ما يُنقص قيمة المبيع، فإذا اشترى الإنسان سلعة، ثم وجد بها عيباً فهو بالخيار:
إما أن يردها ويأخذ الثمن، أو يمسكها ويأخذ أرش العيب، فتقوَّم السلعة سليمة، ثم تقوَّم معيبة، ثم يأخذ الفرق بينهما.
وإن اختلفا عند من حدث العيب كعرج وفساد طعام ونحوهما، فقول بائع مع يمينه إن لم تكن بينة لأحدهما.
ويحرم على البائع أن يبيع سلعة بها عيب دون بيانه للمشتري؛ لما في ذلك من الغش لأخيه المسلم.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2150) , واللفظ له، ومسلم برقم (1515).

(3/459)


عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». أخرجه مسلم (1).
6 - خيار الخيانة:
وهو أن يخبر بالثمن بخلاف الواقع، أو ظهر أنه أقل مما أخبر به، كما لو باعه ساعة بمائة، فجاءه رجل وقال: بعنيه برأس ماله، فقال له: رأس ماله مائة وخمسون، فباعه عليه بذلك، ثم تبين كذب البائع، فللمشتري الخيار بين الإمساك وأخذ الفرق، أو الفسخ وأخذ القيمة.
ويثبت هذا الخيار في بيع التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة.
ولا بد في جميعها من معرفة البائع والمشتري رأس المال.
وهذا البيع محرم؛ لما فيه من الخيانة والكذب.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال:27 - 28].
7 - خيار الخلاف في السلعة أو الثمن:
وهو أن يختلف المتبايعان في قدر الثمن، أو عين المبيع، أو صفته، أو مقداره، ولم تكن بينة لأحدهما، فالقول قول البائع مع يمينه، ويخير المشتري بين القبول أو الفسخ.
8 - خيار تفرق الصفقة:
كأن يبيع مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، فيصح البيع في نصيبه بقسطه، وللمشتري الخيار إن جهل الحال.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (101).

(3/460)


9 - خيار الإعسار:
وهو أن يظهر للبائع أن المشتري معسر أو مماطل، فللبائع الخيار بين إمضاء البيع، أو الفسخ حفاظاً على ماله.
10 - خيار الرؤية:
وهو أن يشتري شيئاً لم يره وله الخيار إذا رآه، فإذا رآه فهو بالخيار إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده.
وكذا لو باع البائع ما لم يره، ووصفه للبائع، فله الخيار إذا رآه، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخ البيع.
- خطر الغش:
الغش محرم في كل شيء، ومع كل أحد، وفي كل معاملة.
فهو محرم في المعاملات كلها، ومحرم في الأعمال المهنية، ومحرم في الصناعات، ومحرم في العقود والبيوع وغير ذلك؛ وذلك لما فيه من الكذب والخداع، ولما يسببه من الخصام والعداوة والبغضاء، فلا يليق بالإنسان فضلاً عن المسلم فعله.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». أخرجه مسلم (1).
- أنواع العيوب في البيع:
العيوب في البيع تنقسم إلى قسمين:
عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعيوب مؤثرة في كمال المبيع.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (102).

(3/461)


1 - العيوب المؤثرة في ذات المبيع:
هي العيوب التي تمنع من المنافع الموجودة في السلعة كأن يبيعه بقرة مريضة، أو سيارة بها عطل، ولا يخبره بالعيب، أو يبيعه أرضاً على أن لها وثيقة معتبرة، ثم يظهر أن الوثيقة مزورة، فللمشتري في مثل هذه الصور الحق في إبطال البيع، ورد السلعة، وأخذ الثمن؛ لأنه عيب يمنع الانتفاع.
2 - عيوب الكمالات:
فالكمالات هي الأوصاف التي تزيد في قيمة السلعة وجمالها كأن يشترط عليه سيارة على صفة كذا، أو لونها كذا، فإذا لم توجد المواصفات، فللمشتري الخيار في إمضاء البيع، أو فسخه ورد السلعة، وأخذ الثمن.
- حكم البيع المطلق:
إذا أعطى أحد سلعة لرجل وقال له: بعها بألف مثلاً، والزائد لك، فباعها بألفين، فهذا بيع محرم؛ لأنه إجارة بالمجهول، وإضرار بالسوق.
ولو قال لصاحبها: أُصَرِّفها لك بما تيسر وآخذ مائة ريال جاز؛ لأن الأجرة معلومة، وكذا لو قال له صاحبها: بع هذه السلعة بألف ولك مائة ريال جاز.
- حكم البيع بعد التفرق:
يقع البيع لازماً بالتفرق بالأبدان إلا في حالتين:
الأولى: أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة ألف ريال، وليس لك خيار، ثم يقبل ذلك المشتري، فحينئذ يلزم البيع، ويسقط خيار المجلس.
الثانية: أن يقول المشتري: قَبلت شراء هذه الدار بكذا على أن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقبل ذلك البائع، فيبقى البيع معلقاً، فإذا تمت المدة فللمشتري أن

(3/462)


يمضي البيع أو يفسخه.
- حكم تلف المبيع في مدة الخيار:
إذا تلف المبيع في مدة الخيار فإن كان التلف قبل القبض انفسخ البيع، وضمنه البائع، وإن أتلفه المشتري كان من ضمانه، وإن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري.
- طرق إسقاط الخيار:
طرق إسقاط الخيار ثلاثة:
1 - الإسقاط الصريح: وهو أن يقول أحدهما: أسقطت الخيار أو أبطلته، أو رضيت بالبيع وقبلته، فهذا يُبطل الخيار، ويلزم البيع.
2 - الإسقاط دلالة: وهو أن يوجد ممن له الخيار تصرف يدل على إجازة البيع، وإثبات الملك. كالتصرف فيه بالبيع أو الهبة، أو الوقف، أو يسكن المشتري الدار المبيعة، أو يُحدث فيها بناءً؛ لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك.
3 - إسقاط الخيار بطريق الضرورة:
فيسقط الخيار، ويصبح البيع لازماً بأمور:
1 - مضي مدة الخيار المتفق عليها، ولم يفسخ أحدهما العقد.
2 - هلاك المبيع في مدة الخيار قبل القبض يُبطل البيع، ويُسقط الخيار، وإن هلك بعد القبض لزم البيع، وضمنه المشتري.
3 - إذا أصاب من له الخيار جنون أو إغماء ونحوهما مما يزول به العقل.
- شروط ثبوت خيار العيب:
يشترط لثبوت خيار العيب ما يلي:

(3/463)


ثبوت العيب قبل التسليم .. جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض .. عدم اشتراط البراءة من العيب في البيع .. ألا يزول العيب قبل الفسخ .. ألا يكون العيب طفيفاً تمكن إزالته دون مشقة.
- أوجه الرد بالعيب:
الرد بالعيب على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يرد المشتري السلعة على البائع، ويأخذ الثمن كله.
وهذا إذا كانت السلعة على حالها، ولم يحدث بها عيب عند المشتري، ولم يعلم بالعيب، ولم يرض به، فهذا له الخيار بأخذها أو ردها.
الثاني: ليس له أن يردها، ولكن له أن يرجع بنقصان العيب، وهذا فيما إذا حدث فيها عيب آخر عنده.
الثالث: ليس له أن يردها، ولا يرجع بنقصان العيب، وهذا إذا كان قد علم بالعيب وقت الشراء، أو رضي به بعده.
وإذا أراد المشتري رد السلعة على البائع بسبب العيب حلف بالله أنه لم يعلم بالعيب وقت الشراء، ولم يرض به حين علم.
- الفرق بين السلم والاستصناع:
السلم أو السلف: هو بيع آجل بعاجل، يُقدّم فيه الثمن، ويؤخر المبيع.
وعقد الاستصناع: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين.
وتكون مادة الصنع من الصانع كالاتفاق على صنع أواني، أو أحذية
ونحوهما.

(3/464)


فإن كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعاً.
وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول بين الطرفين.
وهو عقد لازم يشبه السلم؛ لأنه بيع معدوم، لكن أجيز للحاجة إليه، ويفترق عنه من حيث أنه لا يجب فيه تعجيل الثمن، فيكفي فيه العربون.
والباعث على عقد السلم شدة حاجة البائع إلى نقود، والباعث على عقد الاستصناع رغبة وحاجة المستصنع.
- شروط عقد الاستصناع:
1 - العلم بالثمن جنساً، ونوعاً، وقدراً، وصفة.
2 - العلم بالمصنوع جنسه، ونوعه، وقدره، وصفته.
والاستصناع كالسلم في ذلك؛ لأن كلاًّ منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلوماً غير مجهول.
3 - أن يكون المصنوع مباحاً مما يجري فيه تعامل الناس كالثياب والأحذية والآلات؛ لأن العبرة في العقود المقاصد النافعة.

(3/465)


3 - السَّلَم
- السلم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد.
فهو بيع عُجِّل ثمنه، وأُجِّل مثمنه، وبيع آجل بعاجل.
كأن يعطيه ألف ريال على أن يسلمه مائة كيلو من تمر العجوة بعد سنة.
ويسمى السلف تارة .. والسلم تارة.
- أحوال البيع والشراء:
البيع له ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يدفع البائع السلعة للمشتري، ويأخذ الثمن، وهو البيع الحال.
الثانية: أن يقدم البائع السلعة، ويؤخر المشتري الثمن، وهو بيع الأجل.
الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن، ويؤخر البائع السلعة، وهو بيع السلم.
وقد أباح الله عز وجل هذه الصور الثلاث رفقاً بالناس، وتيسيراً عليهم في معاملاتهم، البائع والمشتري على حد سواء.
- حكم السلم:
السلم عقد جائز، وإذا تم بشروطه لزم البائع والمشتري.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282].
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ
بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ، فَقال: «مَنْ أسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ

(3/466)


مَعْلُومٍ، إِلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ». متفق عليه (1).
- حكمة مشروعية السلم:
أباح الله السلم رحمة بالناس، وتيسيراً على المحتاجين، فكما يجوز تأجيل الثمن في البيع، يجوز تأجيل المبيع في السلم، ومتى كان المبيع معلوماً وموصوفاً ومضموناً، وكان المشتري على ثقة من توفية البائع المبيع عند حلول الأجل، كان المبيع ديناً من الديون التي يجوز تأجيلها؛ لانتفاء الغرر والجهالة.
- أقسام البيع:
ينقسم البيع بالنسبة للبدلين إلى أربعة أقسام:
الأول: البيع المطلق: وهو بيع السلع بالدراهم والدنانير ونحوهما.
الثاني: بيع المقايضة: وهو بيع العين بالعين نحو بيع الجمل بالسيارة، وبيع الثوب بالحنطة.
الثالث: بيع الصرف: وهو بيع النقد بالنقد، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق، وهو الدراهم والدنانير، والريالات والدولارات ونحو ذلك من العملات المتداولة.
الرابع: بيع السلم: وهو بيع الدين بالعين.
فإن المُسْلَم فيه بمثابة المبيع وهو دين، ورأس المال بمثابة الثمن المسلم فهو عين.
ولا يشترط القبض في النوعين الأولين، ويشترط القبض في النوعين
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2240) , واللفظ له، ومسلم برقم (1604).

(3/467)


الأخيرين.
ففي الصرف يشترط قبض البدلين، وفي السلم يشترط قبض أحد البدلين وهو ثمن السلعة المؤجلة.
- شروط صحة السلم:
يشترط في صحة السلم ما يشترط في البيع.
ويشترط للسلم شروط زائدة على شروط البيع لضبطه، وهي نوعان:
شروط في الثمن .. وشروط في المسلم فيه.
أما شروط الثمن فهي:
أن يكون معلوم الجنس .. معلوم المقدار .. وأن يسلم في مجلس العقد.
وأما شروط المسلم فيه فهي:
أن يكون المبيع في الذمة .. وأن تُعلم صفته ومقداره .. وأن يكون الأجل معلوماً.
ولا يشترط في السلم أن يكون المسلم إليه مالكاً للمسلم فيه، بل يراعي وجوده عند حلول الأجل.
ويجوز أخذ غير المسلم فيه عوضاً عنه مع بقاء عقد السلم؛ لأنه عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عنه كسائر الديون من قرض وغيره.
- ما يجوز فيه السلم:
يجوز السلم في أربعة أشياء:
المكيلات .. والموزونات .. والمعدودات .. والمذروعات.

(3/468)


فالمكيلات: كالحبوب من بر وأرز ونحوهما.
والموزونات: هي كل ما يُضبط بالوزن كالثمار والزيوت ونحوها.
والمعدودات: هي كل سلعة تضبط بالعدد مع التساوي، كالسيارات، والآلات، والمصنوعات، والحيوانات، والجوز ونحو ذلك.
والمذروعات: كالأقمشة، والأراضي ونحو ذلك.
1 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثّمَارِ، السّنَةَ وَالسّنَتَيْنِ فَقَالَ: «مَنْ أسْلَفَ فِي تَمْرٍ، فَليُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاّ خِيَاراً رَبَاعِياً، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إيّاهُ، إنّ خِيَارَ النّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً». أخرجه مسلم (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2239) , ومسلم برقم (1604).
(2) أخرجه مسلم برقم (1600).

(3/469)


4 - الربا
- أصول البيوع المحرمة:
أصول البيوع التي حرمها الله ورسوله هي:
1 - أن يكون المبيع محرم العين كالخمر، والخنزير، والأصنام.
2 - أن يكون البيع من بيوع الربا.
3 - أن يكون البيع من بيوع الغرر.
4 - أن يشتمل البيع على شرط يؤول إلى الربا، أو إلى الغرر، أو إليهما معاً.
5 - أن يكون الشرط مناقضاً لمقتضى العقد.
فهذه الأصول تجمع البيوع المحرمة.
- الربا: هو الزيادة في بيع شيئين يجري فيهما الربا.
- أحكام المعاملات المالية:
المعاملات المالية لها ثلاثة أحكام:
عدل .. وفضل .. وظلم.
فالعدل هو البيع، والفضل هو الإحسان والصدقة، والظلم هو الربا ونحوه.
1 - قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
2 - وقال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة:261].

(3/470)


- أقسام المحرمات:
المحرمات في الشرع قسمان:
الأول: محرم لعينه كالنجاسات من الدم، والميتة، والخنزير ونحوها.
الثاني: محرم لحق الغير: وهو ما جنسه مباح من المطاعم والمشارب، والمساكن والملابس، والمراكب والأموال ونحوها.
وهذه إنما تَحْرم لأمرين:
أحدهما: أَخْذها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع فيها، بطريق السرقة أو الغضب أو الخيانة، وهذا هو الظلم المحض.
الثاني: أَخْذها بغير إذن الشارع -وإنْ أذن صاحبها-، وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحوهما.
والواجب على من حصلت بيده هذه الأموال ردها إلى أصحابها.
فإن لم يعلم صاحبها فإتلافها إضاعة لها، وهو محرم، وحبسها مع أنه لا يرجى معرفة صاحبها أشد حرمة من إتلافها.
فتعين إنفاقها في جهات البر والخير التي تنفع الناس، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق الأموال ليستعينوا بها على طاعته.
- حكم الربا:
الربا من كبائر الذنوب، وهو محرم في جميع الأديان السماوية؛ لما فيه من عظيم الأضرار، وكثير الأخطار.
1 - قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً

(3/471)


وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران:130].
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قال: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ، وَأكْلُ الرِّبَا، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ». متفق عليه (1).
- أنواع الربا:
الربا المحرم في الإسلام نوعان:
الأول: ربا النسيئة: وهو أصل الربا، ولم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو الذي كانوا يأخذونه بسبب تأخير قضاء دين مستحَق إلى أجل جديد، وقد ثبت تحريمه بالقرآن والسنة.
وهو الذي حذرهم الله منه بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران:130].
الثاني: ربا البيوع: ويسمى ربا الفضل، وقد حُرِّم سداً للذرائع؛ لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، لاشتماله على زيادة بدون عوض.
وهو بيع النقود بالنقود مع الزيادة، أو الطعام بالطعام مع الزيادة، وقد ثبت تحريمه بالسنة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الذّهَبَ بِالذّهَبِ وَلاَ الوَرِقَ بِالوَرِقِ، إلاّ وَزْناً بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ».
متفق عليه (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2766) , واللفظ له، ومسلم برقم (89).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2176) , ومسلم برقم (1584) , واللفظ له.

(3/472)


- حكم عقد الربا:
عقد الربا سواء كان ربا النسيئة، أو ربا الفضل، كل ذلك محرم وباطل، وكل ما بني على الباطل فهو باطل.
فيجب على المسلم الحذر منه؛ لئلا يتعرض لسخط الله ولعنته وعقوبته، وتتعرض أمواله للمحق والدمار.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:278 - 279].
2 - وقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة:276].
3 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ». أخرجه مسلم (1).
- حكم العقود الفاسدة والمحرمة:
جميع العقود الباطلة والفاسدة منهي عنها، ويحرم تعاطيها والتعامل بها، ولا ينتقل المُلك فيها ولو تراضيا؛ لأن ما بني على الباطل فهو باطل.
ومن فعل ذلك فهو آثم؛ لأنه فَعَل ما لا يجوز له فعله، ويجب رد كل مال إلى مالكه ولو قبض، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه،
وللمشتري أجرة مثله مدة مكثه عنده، ويضمنه إن تلف أو نقص كغيره.
وإن باع السلعة المملوكة بعقد فاسد لم يصح البيع؛ لأنه باع ملك غيره بغير
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1598).

(3/473)


إذنه، وعلى المشتري رده.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
- حكم عقود الجاهلية:
كل عقد وافق الشرع فهو صحيح، والعقود الفاسدة والمحرمة لها حالتان:
1 - ما مضى منها في حال الكفر، وقَبَضه المتعاقدان قبل الإسلام.
فهذا يُقرّان على ما مضى منه؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة:275].
2 - ما مضى من الربا حال الكفر ولم يقبضه، فلا يحل له أخذه بعد الإسلام.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:278 - 279].
- حكمة تحريم الربا:
الربا من كبائر الذنوب، وقد حرمه الله ورسوله لما فيه من الأضرار العظيمة
على الناس، فهو يسبب العداوة بين الناس .. ويقتل مشاعر الشفقة والرحمة في الإنسان .. وينزع فضيلة التعاون والتناصر بين الناس .. ويؤدي إلى تضخم

(3/474)


أموال الأغنياء على حساب سلب مال الفقير.
وفيه ظلم للمحتاج .. واستغلال لحاجته، وتسلط الغني على الفقير .. وإغلاق باب الصدقة والإحسان بين الناس.
والربا أكل لأموال الناس بالباطل .. ونصب وظلم واحتيال على الخلق.
وفيه تعطيل للمكاسب، والتجارة، والصناعة، وما يحتاجه الناس.
فالمرابي بالربا يزيد ماله بدون تعب، فيترك التجارة والمصالح التي ينتفع بها الناس، فتفسد الحياة، ويضطرب الأمن، وترتفع الأسعار، وما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم:39].
2 - وقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة:276].
- أقسام الربا:
الربا ينقسم إلى قسمين:
ربا النسيئة .. وربا الفضل.
القسم الأول: ربا النسيئة: وهو الزيادة التي يأخذها البائع من المشتري مقابل التأجيل.
كأن يعطيه مائة ألف جنيه نقداً، على أن يردها عليه مائة وعشرة آلاف بعد
سنة.
ومن صور ربا النسيئة:

(3/475)


1 - قلب الدين على المعسر:
بأن يكون له مال مؤجل على رجل ببيع أو قرض، فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟
فإن وفّاه ماله، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد ذاك في المال، فيتضاعف المال على المدين، ويتراكم حتى يرهقه.
وهذا هو أصل الربا في الجاهلية، فحرمه الله عز وجل، وأوجب إنظار المعسر، ورغَّب في الإحسان إليه، وهو أخطر أنواع الربا؛ لعظيم ضرره، وشدة عقوبته.
وقد اجتمع فيه الربا بأنواعه:
ربا النسيئة .. وربا القرض .. وربا الفضل.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:278 - 280].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران:130].
2 - ربا القرض:
وهو أن يقرض البنك أو الشخص أحداً مبلغاً من المال بزيادة معلومة مقابل
التأجيل، كأن يقرضه ألف ريال على أن يرده عليه بعد سنة ألفاً ومائة ريال مثلاً، أو على أقساط شهرية بفائدة معلومة.

(3/476)


وهذا النوع هو الشائع الآن في العالم، وهو حرام، وعقد باطل، وفاعله آثم.
- حكم القروض المصرفية:
أهم العمليات التي تجري في المصارف عمليتان، كلاهما محرم:
الأولى: الإقراض بفائدة: بأن يعطي الإنسان ماله للمصرف ليأخذ عليه فائدة سنوية 5% مثلاً.
وتسمى هذه العملية (الإيداع إلى أجل) وهي عملية ربوية محرمة.
الثانية: الاقتراض بفائدة: بأن يقترض الشخص أو الشركة من المصرف مبلغاً من المال، على أن يرده بعد سنة بفائدة مقدارها 7% مثلاً.
وهذه كذلك عملية ربوية محرمة.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة:275 - 276].
- حكم الزيادة على القرض:
إذا أقرض الإنسان غيره شيئاً، واشترط عليه أن يرد أفضل منه، أو اشترط نفعاً على المستقرض كأن يسكنه داره شهراً مثلاً.
فهذا الفعل محرم؛ لأنه قرض جر نفعاً فهو ربا، فإن لم يشترط المقرض،
وبذل المستقرض النفع أو الزيادة بنفسه جاز وأُجِر على شكره المعروف من أخيه.

(3/477)


عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقال: «أعْطُوهُ». فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلا سِنّاً فَوْقَهَا، فَقال: «أعْطُوهُ». فَقال: أوْفَيْتَنِي أوْفَى اللهُ بِكَ. قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً». متفق عليه (1).
3 - ربا التأجيل:
وهو بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، مع تأخير قبضهما، أو قبض أحدهما، كبيع الذهب بالذهب مؤجلاً، والبر بالبر مؤجلاً.
وكذا بيع جنس بآخر من هذه الأجناس مؤجلاً كالذهب بالفضة، أو البر بالشعير مؤجلاً.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذّهَبُ بِالذّهَبِ، وَالفِضّةُ بِالفِضّةِ، وَالبُرّ بِالبُرّ، وَالشّعِيرُ بِالشّعِيرِ، وَالتّمْرُ بِالتّمْرِ، وَالمِلحُ بِالمِلحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَداً بِيَدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ». أخرجه مسلم (2).
القسم الثاني: ربا الفضل:
وهو بيع النقود بالنقود مع الزيادة، أو الطعام بالطعام مع الزيادة.
فهو بيع ربوي بمثله مع زيادة في أحد المثلين.
وربا الفضل محرم؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة، بل هو رباً حقيقي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه يعتمد تارة على جهل الناس بأصناف الأنواع، وتارة يعتمد على استغلال حاجتهم إلى نوع معين.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2305) , واللفظ له، ومسلم برقم (1601).
(2) أخرجه مسلم برقم (1587).

(3/478)


عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ بِلالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أيْنَ هَذَا». قال بِلالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «أوَّهْ أوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَل، وَلَكِنْ إِذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ به». متفق عليه (1).
- ما يقع فيه الربا:
الربا نوعان:
الربا في الديون .. والربا في البيوع.
1 - الربا في الديون له صورتان:
الأولى: أن يكون للإنسان مال مؤجل على آخر، فإذا حل الأجل ولم يتمكن من السداد، قلب الدين على المعسر مقابل زيادة الأجل.
وهذا هو ربا النسيئة، وهو أصل ربا الجاهلية، وهو أخطر أنواع الربا؛ لعظيم ضرره، حيث اجتمع فيه الربا بأنواعه: ربا النسيئة، وربا الفضل، وربا القرض.
ولهذا حرمه الله عز وجل، وأعلن الحرب على آكله.
الثانية: أن يقرض الإنسان غيره مبلغاً من المال إلى أجل، على أن يرد عليه أكثر منه بعد حلول الأجل، كأن يقرضه ألف ريال على أن يرده عليه بعد سنة
ألفاً وخمسمائة مثلاً.
فهذا القرض محرم؛ لأن كل قرض جر منفعة فهو محرم، وإن بذل له المقترض زيادة بدون شرط فذلك مشروع؛ لأنه من حسن القضاء.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2312) , واللفظ له، ومسلم برقم (1594).

(3/479)


2 - الربا في البيوع: وهو قسمان:
1 - ربا الفضل: وهو بيع المال الربوي بجنسه متفاضلاً كأن يبيعه جراماً من الذهب بجرامين منه مع التسليم في الحال.
وهذا البيع محرم؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة.
2 - ربا النسيئة: وهو الزيادة التي يأخذها البائع من المشتري مقابل التأجيل.
كأن يعطيه ألفاً نقداً على أن يرده بعد سنة ألفاً وخمسمائة مثلاً، أو يقلب الدين على المعسر مقابل التأجيل.
وهذا أخطر وأعظم أنواع الربا.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران:130].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:278 - 279].
3 - وَعَنْ أسَامَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا رِباً إِلا فِي النَّسِيئَةِ». متفق عليه (1).
- علة الأموال الربوية:
1 - أصول الأموال الربوية ستة:
الأول: الأثمان: وهما الذهب والفضة.
الثاني: المطعومات: وهي: البر، والتمر، والشعير، والملح.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2179) , واللفظ له، ومسلم برقم (1596).

(3/480)


فالذهب والفضة أصول لغير المطعومات من الموزونات مثل الحديد، والنحاس، والرصاص وغيرها من الموزونات.
والبر والشعير أصول للحبوب كالعدس، والفول، والأرز ونحوها من المطعومات من البقول والحبوب.
والملح أصل للمطعومات المالحة .. والتمر أصل للمطعومات الحلوة.
فكل شيء بِيع بمثله متفاضلاً من غير المطعومات إن كان يباع بالوزن فلا يجوز إلا مِثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن حوَّلته الصنعة فصار يباع بالعد لا بالوزن جاز بيعه متفاضلاً.
2 - يقاس على هذه الأصناف الستة كل ما وافقها في العلة، وهي:
الثمنية: في الذهب والفضة، وفي الأربعة الباقية الكيل والطعم، أو الوزن والطعم.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذّهَبُ بِالذّهَبِ، وَالفِضّةُ بِالفِضّةِ، وَالبُرّ بِالبُرّ، وَالشّعِيرُ بِالشّعِيرِ، وَالتّمْرُ بِالتّمْرِ، وَالمِلحُ بِالمِلحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَداً بِيَدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ». أخرجه مسلم (1).
- أحكام ربا الفضل:
1 - إذا كان البيع في جنس واحد ربوي فإنه يحرم فيه التفاضل والنسأ كأن يبيع الإنسان ذهباً بذهب، أو براً ببر ونحوهما.
فيشترط لصحة هذا البيع التساوي في الكمية، والقبض في الحال؛ لاتفاق
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1587).

(3/481)


البدلين في الجنس والعلة.
2 - إذا كان البيع في جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، واختلفا في الجنس، فإنه يجوز التفاضل، ويحرم النساء كأن يبيع ذهباً بفضة، أو براً بشعير ونحوهما، فيجوز التفاضل، لكن بشرط القبض في الحال؛ لأنهما اختلفا في الجنس، واتحدا في العلة.
1 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ». متفق عليه (1).
2 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الفِضّةِ بِالفِضّةِ، وَالذّهَبِ بِالذّهَبِ، إلاّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الفِضّةَ بِالذّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا، وَنَشْتَرِيَ الذّهَبَ بِالفِضّةِ كَيْفَ شِئْنَا، قَالَ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَداً بِيَدٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ. متفق عليه (2).
3 - إذا كان البيع بين جنسين ربويين لم يتفقا في العلة جاز الفضل والنسأ كأن يبيعه طعاماً بذهب، أو براً بفضة ونحو ذلك، فيجوز التفاضل والتأجيل؛ لاختلاف البدلين في الجنس والعلة.
4 - إذا كان البيع بين جنسين ليسا ربويين جاز الفضل والنسأ فيجوز في كل شيء إلا الأموال الربوية كأن يبيع بعيراً ببعيرين، أو ثوباً بثوبين ونحو ذلك، فيجوز التفاضل والتأجيل، ونقداً ونسيئة.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2177) , واللفظ له، ومسلم برقم (1584).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2175) , ومسلم برقم (1590) , واللفظ له.

(3/482)


5 - لا يجوز بيع أحد نوعي جنس بالآخر إلا أن يكونا في مستوى واحد في الصفة، فلا يباع الرطب بالتمر مثلاً؛ لأن الرطب ينقص إذا جف، فيحصل التفاضل المحرم، ويستثنى من ذلك بيع العرايا للحاجة.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ. وَالمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالكَرْمِ كَيْلا. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ. متفق عليه (2).
- حكم بيع الذهب المصوغ:
يباع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد.
ولا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه متفاضلاً لأجل جودة الصنعة في أحدهما، لكن يبيع ما معه بمثله، أو يبيعه بالدراهم، ثم يشتري المصوغ.
عَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالفِضَّةَ بِالفِضَّةِ إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالفِضَّةِ، وَالفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، كَيْفَ شِئْتُمْ». متفق عليه (3).
- حكم بيع الذهب بذهب مخلوط مع غيره:
لا يجوز بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كبيع الذهب بالذهب مع وجود الألماس في أحدهما، حتى يُفصل ويُعلم وزن الألماس
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2171) , واللفظ له، ومسلم برقم (1542).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2173) , ومسلم برقم (1539) , واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2175) , واللفظ له، ومسلم برقم (1590).

(3/483)


والذهب.
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتْرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلاَدَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِيناراً، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصّلتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَاراً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لاَ تُبَاعُ حَتّى تُفَصّلَ». أخرجه مسلم (1).
- حكم أخذ الذهب للمشاورة عليه:
من أخذ ذهباً من بائع ليريه أهله فله حالتان:
1 - إما أن يقول: آخذ هذا الذهب بمائة ريال، فإن أعجب الأهل رجعت وأعطيتك الثمن، فهذا ربا النسيئة، فيحرم.
2 - وإن أخذ الذهب، وأراه أهله فأعجبهم، فرجع ثانية إلى البائع، فساومه ثم نقده الثمن، فهذا البيع والشراء بهذه الصورة جائز لا حرج فيه.
- العلة في المطعومات:
العلة في المطعومات: الطعم مع الكيل أو الوزن.
فلا يجوز بيع كيلو من السكر بكيلوين، لأنه مطعوم موزون، ولا يجوز بيع كيس من الأرز بكيسين؛ لأنه مطعوم موزون، وهكذا في كل مطعوم يكال أو يوزن لا يباع متفاضلاً مع اتحاد الجنس.
لكن لو كان الطعام يباع بالعدد كالبطيخ فلا يجري فيه الربا، فيجوز بيعه مع
التفاضل مع القبض في الحال كأن يبيعه بطيخة ببطيختين مع القبض في الحال، فإذا جرى العرف ببيعه بالوزن فلا يجوز بيعه إلا مثلاً بمثل بلا تفاضل، وكذلك لا يجوز بيع كرتون من البرتقال بكرتونين مثله؛ لأنه مطعوم
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1591).

(3/484)


موزون، لكن لو بيع بالعدد جاز التفاضل بشرط القبض في الحال.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا التّمْرُ مِنْ تَمْرِنَا». فَقَالَ الرّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِعْنَا تَمْرَنَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا الرّبَا، فَرُدّوهُ. ثُمّ بِيعُوا تَمْرَنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا». متفق عليه (1).
- حكم بيع المعدود:
1 - كل ما يباع بالعدد، ولا يراعى فيه الوزن، يجوز بيعه متفاضلاً كالإبل، والسيارات، والآلات، والثياب، والأحذية وغير ذلك من المعدودات، لأن علة الربا في غير المطعومات إما الوزن والكيل، أو الثمنية.
وهذه ليست موزونة، ولا مكيلة، ولا أثماناً للأشياء، فيجوز بيعها بجنسها أو بغيره، متفاضلة أو متساوية، بثمن عاجل أو آجل.
2 - إذا كان الشيء موزوناً من غير المطعومات كالحديد والنحاس ونحوهما، فلا يجوز بيعه إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
ولو أن هذا الموزون أخرجَته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً غير الأثمان كالذهب والفضة، وذلك كالحديد إذا صُنع منه آلة، أو سيارة، أو أبواب، فهذا يجوز بيعه متفاضلاً، فيجوز بيع سيارة بسيارتين، وبيع باب
ببابين، وبيع سيارة بثلاجة .. وهكذا في كل معدود غير الأثمان كالذهب والفضة.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2312) , ومسلم برقم (1594) , واللفظ له.

(3/485)


- حكم بيع الحيوان باللحم:
1 - يجوز بيع الحيوان بالحيوان ما دام حياً، متساوياً أو متفاضلاً، سواء اتحد الجنس أو اختلف، كبيع شاة بشاة، أو بيع بعير ببعيرين، سواء كان البيع بثمن عاجل أو آجل؛ لأن الحيوان مال غير ربوي.
2 - إذا صار الحيوان المأكول موزوناً أو مكيلاً جرى فيه الربا، فيجوز بيع لحم الجنس الواحد ببعضه، بشرط التماثل، والحلول، والتقابض.
ولا يجوز بيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم الغنم؛ لاتحاد الجنس والعلة، ويجوز بيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم البقر، لاختلاف الجنس، لكن مع القبض في الحال .. وهكذا.
3 - لا يجوز بيع الحيوان باللحم إذا كان من جنسه؛ لوجود الجهالة والغرر في أحد البدلين، كبيع شاة حية بشاة مذبوحة.
- شروط مبادلة الأموال الربوية:
1 - يحل التبادل عند اتحاد الجنس كذهب بذهب، أو حنطة بحنطة.
وذلك بثلاثة شروط:
التماثل في البدلين .. والحلول .. والتقابض.
فإن اختل شرط حرم التبادل.
أما بيع الرطب بالتمر، والحب الجديد بالقديم، فهو ممنوع شرعاً؛ لعدم
تحقق المماثلة بين البدلين.
2 - يحل التبادل عند اختلاف الجنس، واتحاد العلة، كذهب بفضة، أو حنطة بشعير، متساوياً أو متفاضلاً.

(3/486)


وذلك بشرطين:
الحلول بأن يكون العقد حالاً .. والتقابض في مجلس العقد.
فإن اختل شرط حرم التبادل.
3 - يحل التبادل إذا اختلف الجنس والعلة:
بأن يكون أحد البدلين من الأثمان كالذهب أو الفضة أو النقود الورقية، والآخر من المطعومات كالتمر أو الشعير أو البر ونحو ذلك.
فهنا يجوز التبادل، والتفاضل، والتأجيل، كبيع صاع حنطة بعشر غرامات من الذهب، أو بدينار .. وهكذا.
هذا حكم الأموال الربوية مع بعضها.
4 - أما إذا أُبدلت الأموال الربوية بغيرها كبيع معادن بذهب، وطعام بثياب، وسكر بنقود ورقية، ونحو ذلك.
فهذا يجوز البيع مطلقاً، ولا يشترط التماثل، ولا التقابض، ولا الحلول؛ لأن العقد غير ربوي، لأن أحد العوضين مال غير ربوي، ولأن الجنس مختلف، والعلة مختلفة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «التّمْرُ بِالتّمْرِ، وَالحِنْطَةُ بِالحِنْطَةِ، وَالشّعِيرُ بِالشّعِيرِ، وَالمِلحُ بِالمِلحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ. يَداً بِيَدٍ،
فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، إلاّ مَا اخْتَلَفَتْ أَلوَانُهُ». أخرجه مسلم (1).
- العلة في النقدين:
العلة في جريان الربا في النقدين: الذهب والفضة، هي مطلق الثمنية، فكل ما
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1588).

(3/487)


يقوم مقامهما من العملات يأخذ حكمها، كالأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس، وتقوَّم بها الأشياء كالريال والجنيه ونحوهما.
فالعملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة؛ لأنه ثمن معتبر مثلهما، فتجب الزكاة فيه، ويجري فيه الربا بنوعيه النسيئة والفضل.
1 - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدّينَارَ بِالدّينَارَيْنِ وَلاَ الدّرْهَمَ بِالدّرْهَمَيْنِ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الذّهَبُ بِالذّهَبِ، وَالفِضّةُ بِالفِضّةِ، وَالبُرّ بِالبُرّ، وَالشّعِيرُ بِالشّعِيرِ، وَالتّمْرُ بِالتّمْرِ، وَالمِلحُ بِالمِلحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَداً بِيَدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ». أخرجه مسلم (2).
- حكم بيع الأوراق النقدية:
الورق النقدي: نقد قائم بذاته، له حكم الذهب والفضة.
والنقود المالية أجناس مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار كالريال، والجنيه، والدولار، والليرة، واليَنّ، والرُّبِّيَّة، واليورو، والدرهم، وغير ذلك
من عملات الدول، وكل عملة من هذه العملات جنس مستقل بذاته، تجب فيه الزكاة، ويجري فيه الربا بنوعيه النسيئة والفضل كما يلي:
1 - إذا باع نقداً بجنسه كذهب بذهب، أو ورق نقدي بجنسه كريال بريال، وجب التساوي في المقدار، والقبض في الحال.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1585).
(2) أخرجه مسلم برقم (1587).

(3/488)


2 - إذا باع نقداً بنقد من غير جنسه كذهب بفضة، أو ريال سعودي بجنيه مصري، أو دولار أمريكي بِيَنٍّ ياباني ونحو ذلك، فهنا يجوز التفاضل في المقدار، ويجب التقابض في المجلس.
3 - إذا افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض، صح العقد فيما قُبض، وبطل فيما لم يُقبض كأن يعطيه ديناراً كويتياً ليصرفه بعشرة دراهم إماراتية، فلم يجد إلا خمسة دراهم، فيصح العقد في نصف الدينار، ويبقى نصفه أمانة عند البائع.
4 - من صرف عشرة ريالات من الورق بتسعة من المعدن فهو مرابي، والإثنان شريكان في الإثم.
- معنى الصرف:
الصرف: هو بيع نقد بنقد، وهو جائز، سواء اتحد الجنس كصرف مائة ريال سعودي بمائة ريال مفرقة، أو اختلف الجنس كصرف دينار كويتي بريال قطري، أو دولار أمريكي بدرهم إماراتي.
وسواء كان النقد من الذهب أو الفضة، أو من الأوراق النقدية المتعامل بها.
- حكم التفرق قبل القبض في الصرف:
لا يجوز للمتصارفين أن يتفرقا إلا بعد استلام كل منهما كامل المبلغ الذي
يستحقه.
فمن أراد صرف مائة ريال، ولم يجد في المحل أو المصرف إلا سبعين ريالاً، لا يجوز له أن يأخذ الموجود، ويترك الباقي ليستلمه فيما بعد؛ لأن هذا ربا، لأن بيع العملات وصرفها لا بد فيه من التقابض في مجلس العقد.

(3/489)


- حكم بطاقة الائتمان:
يجوز إصدار بطاقة الائتمان المغطاة والتعامل بها إذا لم تتضمن شروطها دفع الفائدة الربوية عند التأخر في السداد، ويجوز البيع والشراء بها في السلع والذهب والعملات، ولا مانع من منح حاملها امتيازات غير محرمة كالتخفيض في الأسعار، وأخذ التاجر على مُصدِرها نسبة معينة مقابل تلك الخدمة.
- حكم البيع والشراء من المرابي:
البيع والشراء من المسلم قربة وطاعة لله؛ لأن فيها إعانة على البر والتقوى.
ويجوز البيع والشراء من الكفار والمرابين إذا لم يتعارض مع الشرع، فلا حرج على الإنسان أن يتعامل مع الغير كالمرابي في السلع المنفكة، كما لو باع على المرابي سيارة أو طعاماً، فله أخذ القيمة؛ لأنها في مقابل عين مباحة يملكها.
وكون المشتري يتعامل بالربا، لا يوجب سريان التحريم عليه، بل إثمه على كاسبه.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتِ: اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ
بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعاً لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. متفق عليه (1).
- مميزات المصارف الإسلامية:
المصرف الإسلامي: مؤسسة مالية تقوم بجمع المال، وتنميته لصالح المشتركين، وفق الأصول الشرعية.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2251) , واللفظ له، ومسلم برقم (1603).

(3/490)


وأهم تلك الأصول الشرعية:
اتباع قواعد الحلال والحرام في الإسلام .. واجتناب المعاملات الربوية .. والعقود المحظورة .. وتوزيع الأرباح حسب الاتفاق .. والتجارة في الأشياء المباحة .. ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن .. وإمهال الغريم عند العسر .. وصرف الزكاة على من أصابه عسر أو ضيق من الأسر الفقيرة .. والتعاون بدعم الأعمال الخيرية التي تنفع المسلمين .. وتيسير فرص العمل للأمة .. وبناء المساكن وبيعها بأقل تكلفة .. والعدل في توزيع الأرباح.
- حكم التعامل مع المصارف الإسلامية:
المصرف الإسلامي يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته، ويجتنب الحرام فيما يقوم به من عقود ومشاركة واستثمار، فالأجدر بالمسلم أن يودع فيه، ويقترض منه عند الحاجة، ويحوِّل بواسطته، ويشارك في مرابحاته؛ ليستفيد ويفيد، ويشجع إخوانه الصادقين.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
- حكم التعامل مع البنوك الربوية:
1 - يجب على المسلمين إذا احتاجوا إلى الإيداع والتحويل والاستثمار أن يكون بواسطة المصارف الإسلامية، فإن لم توجد جاز للضرورة الإيداع في غيرها، لكن بدون فائدة ربوية.
2 - يحرم على المسلم العمل في أي بنك أو مؤسسة تأخذ أو تعطي الربا؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، والمال الذي يأخذه العامل من البنك أو المؤسسة الذي يعمل فيه سحت وحرام يعاقب عليه إن لم يتب منه.

(3/491)


عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ». أخرجه مسلم (1).
- حكم الأموال الربوية بعد التوبة:
إذا منَّ الله عز وجل على المرابي، وتاب إلى الله عز وجل، وله وعنده أموال مجتمعة من الربا، ويريد التخلص مها فلا يخلو من حالين:
1 - أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه، فهذا يأخذ رأس ماله، ويترك ما زاد عليه من الربا.
2 - أن تكون أموال الربا مقبوضة عنده، فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: بالنسبة لمن دفع له الربا من مصرف ربوي أو غيره، فهذا لا يرد إليه المال، ولا يأكله؛ لأنه كسب خبيث، ولكن يتخلص منه بالتبرع به، أو جَعْله في مشاريع عامة نافعة كتعبيد الطرق، وبناء السدود، وحفر الآبار ونحو ذلك.
الثاني: بالنسبة لمن قبض الأموال الربوية، فهذا له حالتان:
1 - أن يكون جاهلاً بأن هذه المعاملة محرمة، فتكون الأموال له، ولا شيء عليه
كحديث عهد بالإسلام، ومن عاش في بادية بعيدة.
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة:275].
2 - أن يكون عالماً بحرمة المعاملة الربوية، ثم تاب منها صادقاً فهي له؛ لأن الله لم يأمر برد الربا، وإنما أمر بعدم أخذه مستقبلاً.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1598).

(3/492)


قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:278 - 279].
- عقوبة آكل الربا:
الربا من الذنوب العظيمة التي حذرنا الله ورسوله منها، وقد أعلن جل جلاله الحرب على آكله وموكله من بين سائر الذنوب.
فالمرابي جان على نفسه وعلى الأمة، فعقوبته غليظة في الدنيا والآخرة فهو معاقب بحرب من الله ورسوله .. ولعنِ الله له .. ومحق أمواله الربوية .. ونقصان أمواله .. والعذاب في الآخرة.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:278 - 279].
2 - وقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة:276].
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قال: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ، وَأكْلُ الرِّبَا، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ». متفق عليه (1).
4 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2766) , واللفظ له، ومسلم برقم (89).

(3/493)


وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ». أخرجه مسلم (1).
- فضل التوبة إلى الله:
1 - قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزُّمَر:53 - 55].
2 - وقال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة:39].
3 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء:17 - 18].
4 - وعَنْ أنَسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ». متفق عليه (2).
_________
(1) أخرجه مسلم قم (1598).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309) , واللفظ له، ومسلم برقم (2747).

(3/494)


5 - القرض
- القرض: هو دَفْع مال لمن ينتفع به ويرد بدله؛ ابتغاء وجه الله.
أو يقرضه مالاً، ولا يطلب منه رده؛ ابتغاء وجه الله تعالى.
- حكمة مشروعية القرض:
القرض الحسن قربة يتقرب بها المسلم إلى ربه؛ لما فيه من الرفق بالناس، ومواساة المحتاجين، وتيسير أمور الناس، وتفريج كُرَبهم، وكلما كانت الحاجة أشد كان الثواب أعظم.
- فضل القرض:
1 - قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة:245].
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ». أخرجه مسلم (1).
- حكم القرض:
1 - القرض مستحب للمقرِض، ومباح للمقترض.
وإذا كان الإسلام قد رغَّب فيه المقرِض، وندبه إليه، فإنه أباحه للمقترض، ولم يجعله من باب المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ المال لينتفع به في قضاء
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).

(3/495)


حوائجه، ثم يرد بدله.
2 - كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم كأن يقرضه مالاً، ويشترط عليه أن يسكن داره، أو يقرضه مالاً بفائدة، كأن يقرضه ألف ريال بألف ومائتين بعد سنة.
عَنْ أَبِي برْدَة قَالَ: أَتَيْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْداللهِ بن سَلامٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ، فَقال: ألا تَجِيءُ فَأطْعِمَكَ سَوِيقاً وَتَمْراً وَتَدْخُلَ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ قال: إِنَّكَ بِأرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَأهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أوْ حِمْلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِباً. أخرجه البخاري (1).
- حكم من اقترض المال وهو لا يريد رده:
يجب على من اقترض مالاً من غيره أن يعزم على أدائه.
ويحرم على الإنسان أن يأخذ أموال الناس وهو لا ينوي ردها إليهم، ومن فعل ذلك أتلفه الله عز وجل.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أخَذَ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أتْلَفَهُ اللهُ». أخرجه البخاري (2).
- حكم كتابة عقد القرض:
يستحب توثيق القرض بالكتابة له، والإشهاد عليه.
فيكتب مقداره، ونوعه، وأجله؛ لأجل حفظ القرض، وليطمئن المقرض، حتى لا يضيع حقه إما بموت المقترض، أو نسيانه، أو جحده ونحو ذلك، فيكتبه صغيراً كان أو كبيراً.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (3814).
(2) أخرجه البخاري برقم (3287).

(3/496)


قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].
- صفة كتابة العقود:
العقود سواء كانت بيعاً، أو قرضاً، أو إجارة أو غيرها فتكتب كما يلي:
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} [البقرة:282].
- شروط صحة القرض:
يشترط لصحة القرض ما يلي:
1 - أن يتم القرض بالصيغة، وهي الإيجاب والقبول، أو ما يقوم مقامهما.
2 - أن يكون العاقد -مقرضاً أو مقترضاً- بالغاً، عاقلاً، رشيداً، مختاراً، أهلاً للتبرع.
3 - أن يكون مال القرض مباحاً في الشرع.

(3/497)


4 - أن يكون مال القرض معلوم المقدار، ليتمكن المقترض من رده.
- حكم عقد القرض:
القرض عقد جائز بشرطين:
الأول: ألا يجر نفعاً لدافع المال.
الثاني: ألا ينضم إلى القرض عقد آخر كالبيع وغيره، فلا يحل سلف وبيع.
- حكم السّفْتَجة:
السفتجة: معاملة مالية يعطي فيها الإنسان غيره مالاً في بلد ليوفيه ذلك الغير مثل ماله في بلد آخر معين، فيستفيد أمن الطريق، وهي جائزة؛ لما فيها من منفعة الطرفين، ولا بأس من أخذ مبلغ يسير مقابل تلك الخدمة.
- ما يصح فيه القرض:
يجوز قرض كل شيء مباح كالحيوان، والآلات، والثياب ونحو ذلك من الأموال، غير محرم كخمر وخنزير ونحوهما، وكل ما صح بيعه صح قرضه.
- ما يجب على المقترض رده:
يجب على المقترض أن يرد إلى المقرض مثل المال الذي اقترضه نقداً أو عيناً، المثل في المثليات، والقيمة في غيرها.
- حكم أداء الدين:
يجب على المدين أداء الدين وقت حلوله.
وللمدين أربع حالات:
1 - ألا يكون عنده شيء مطلقاً، فهذا يجب إنظاره لإعساره.
2 - أن يكون ماله أكثر من دينه، فهذا يلزمه قضاء دينه.

(3/498)


3 - أن يكون ماله بقدر دينه، فهذا يلزمه وفاء الدين.
4 - أن يكون ماله أقل من دينه، فهذا مفلس يُحجر عليه بطلب الغرماء أو بعضهم، ويقسم ماله بينهم حسب دينه.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
- فضل الإحسان عند رد القرض:
الإحسان في أداء القرض مستحب إن لم يكن شرطاً؛ لأن هذا من حسن القضاء، ومكارم الأخلاق، فإن كان مشروطاً فهو رباً محرم، كأن يقرضه شيئاً فيرد أحسن منه، أو أكبر منه، أو أكثر منه.
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالا»، فَقَالَ لَهُمُ: «اشْتَرُوا لَهُ سِنّاً فَأَعْطُوهُ إيّاهُ» فَقَالُوا: إنّا لاَ نَجِدُ إِلاّ سِنّاً هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنّهِ، قَالَ: «فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إيّاهُ، فَإنّ مِنْ خَيْرِكُمْ -أَوْ خَيْرَكُمْ- أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاّ خِيَاراً رَبَاعِياً، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إيّاهُ، إنّ خِيَارَ النّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً». أخرجه مسلم (2).
3 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2305) , ومسلم برقم (1601) , واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1600).

(3/499)


قال مِسْعَرٌ: أرَاهُ قال: ضُحىً، فَقال: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ». وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي. متفق عليه (1).
- فضل حسن المطالبة:
1 - قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور:22].
2 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى». أخرجه البخاري (2).
- حكم مطل الغني:
يحرم على الغني المدين تأخير السداد عن وقت حلوله.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ». متفق عليه (3).
- فضل إنظار المعسر والتجاوز عنه:
إنظار المعسر من مكارم الأخلاق، وأفضل منه التجاوز عنه.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:280].
2 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، قال: كُنْتُ أبَايِعُ النَّاسَ، فَأتَجَوَّزُ عَنِ المُوسِرِ، وَأخَفِّفُ عَنِ المُعْسِرِ، فَغُفِرَ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2394) , واللفظ له، ومسلم برقم (715).
(2) أخرجه البخاري برقم (2076).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2400) , ومسلم برقم (1564).

(3/500)


لَهُ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ أَبِي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ». أخرجه مسلم (2).
- حكم من مات وعليه دين:
يجب على المسلم قضاء الديون التي عليه متى حل أجلها، ومن أخر حقوق العباد ثم مات أُخذت من حسناته.
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟» قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». أخرجه مسلم (3).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأحد مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَليَتَحَلَّلهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ». أخرجه البخاري (4).
- حكم الحط من الدين من أجل تعجيله:
يجوز الحط من الدين المؤجل من أجل تعجيله، سواء كان بطلبٍ من
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2391) , واللفظ له، ومسلم برقم (1560).
(2) أخرجه مسلم برقم (3006).
(3) أخرجه مسلم برقم (2581).
(4) أخرجه البخاري برقم (2449).

(3/501)


صاحب الدين أو المدين؛ لما فيه من مصلحة الطرفين.
ومن أدى عن غيره واجباً عليه من دين، أو نفقة، رجع عليه به إن شاء.
- حكم الودائع في المصارف:
إذا أودع الإنسان ماله في المصرف فله حالتان:
1 - إما أن يودع ماله في المصرف لحفظه والاستفادة منه وقت الحاجة بلا فائدة، فهذا جائز.
2 - أن يودعه في المصرف ويأخذ عليه فائدة، فهذا هو القرض الربوي المحرم.
وإذا تأخر المدين عن السداد في الوقت المحدد فليس للمصرف الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية بسبب التأخير، بل هذا شرط باطل، لا يجوز الوفاء به؛ لأن هذا هو الربا المضاعف المحرم.
- فضل الشفاعة في وضع الدين:
1 - قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} [النساء:85].
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أصِيبَ عَبْدُاللهِ وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْناً، فَطَلَبْتُ إِلَى أصْحَابِ الدَّيْنِ أنْ يَضَعُوا بَعْضاً مِنْ دَيْنِهِ فَأبَوْا، فَأتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأبَوْا، فَقال: «صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ». فَفَعَلتُ، ثُمَّ جَاءَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى،
وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ، كَأنَّهُ لَمْ يُمَسَّ. أخرجه البخاري (1).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2405).

(3/502)


6 - الرهن
- الرهن: هو توثقة دين بعين، يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها، إن تعذر الاستيفاء من المدين.
مثاله: أن يبيعه سيارة بمائة ألف إلى نهاية العام، ويرهن داره.
- أقسام العقود:
العقود ثلاثة أقسام:
1 - عقود لازمة من الطرفين كالبيع والإجارة ونحوهما.
2 - عقود جائزة من الطرفين، ولكل منهما فسخها كالوكالة ونحوها.
3 - عقود جائزة من أحدهما دون الآخر كالرهن، جائز من قبل المرتهن، لازم من قبل الراهن، ونحو ذلك مما يكون فيه الحق لواحد على الآخر.
- حكمة مشروعية الرهن:
قد يبيع الإنسان على غيره شيئاً ثميناً، ويكون محتاجاً إليه، لكنه لا يتمكن من دفع قيمته نقداً، فأباح الله البيع إلى أجل، وأجاز للبائع أن يتوثق لدينه برهن عين من قِبل المشتري، يستوفي منها إن عجز المدين عن السداد في وقته.
فالرهن مشروع لحفظ المال، لئلا يضيع حق الدائن.
- حكم الرهن:
الرهن عقد جائز، وهو من عقود التبرع، ومن العقود العينية التي لا تعتبر تامة الإلتزام إلا بالتسليم، وهي خمسة:

(3/503)


الهبة، والقرض، والوديعة، والعارية، والرهن.
والرهن مشروع في الحضر والسفر، والأصل في الرهون أن تكون بالأعيان، سواء كانت ثابتة كالعقار، والدور، والمزارع .. أو منقولة كالآلات، والسيارات.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة:283].
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ. متفق عليه (1).
- أطراف الرهن:
الرهن يتم بأربعة أشياء:
الراهن: وهو معطي الرهن.
والمرتهن: وهو آخذ الرهن.
والمرهون أو الرهن: وهو ما أعطي من المال العيني وثيقة للدين.
والمرهون به: وهو الدين.
- شروط الرهن:
يشترط لصحة الرهن ما يلي:
1 - أن يكون الراهن جائز التصرف.
2 - الإيجاب والقبول من الطرفين.
3 - معرفة قدر الرهن وصفته وجنسه.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2386) , واللفظ له، ومسلم برقم (1603).

(3/504)


4 - وجود العين المرهونة عند عقد الرهن ولو مشاعة.
5 - مُلك المرهون، أو الإذن له في رهنه.
6 - قبض المرتهن للعين المرهونة.
فإذا تمت هذه الشروط صح الرهن ولزم.
- ما يصح رهنه:
كل ما يصح بيعه يصح رهنه من ثابت كالأراضي، أو منقول كالحيوان، والسيارات ونحو ذلك، فلا يصح رهن المجهول، ولا محرم كالخمر، ولا مغصوب ومسروق؛ لأنه لا يصح بيعه، ولا يصح رهن البطاقة الشخصية، أو الجواز، أو رخصة القيادة، أو الوقف ونحو ذلك؛ لأنه لا يجوز بيعها، ولا يمكن ولا يصح استيفاء قيمة الرهن من ثمنها.
- صفة قبض الرهن:
يجب على الراهن تسليم الشيء المرهون للمرتهن حسب العرف.
وللمرتهن حبس المرهون حتى يستوفي دينه، وللمرتهن كذلك المطالبة بدينه عند حلول الأجل، مع بقاء الرهن تحت يده.
والقبض حسب العرف .. تارة بتسليم مفاتيح الدار .. أو التأشير على صك الأرض بالرهن .. أو تسليم المنقول من نبات أو جماد أو حيوان.
ولا يصح ولا يجوز استلام الرهن إلا بإذن الراهن أو وكيله.
- ضمان الرهن:
يد المرتهن على الرهن يد أمانة، فلا يضمن المرهون إلا بالتعدي أو التفريط،
ولا يسقط شيء من الدين بهلاك الرهن.

(3/505)


- مؤنة الرهن:
مؤنة الرهن على الراهن، وأجرة حفظه، ومنافعه، ونماؤه. وما يحتاج إلى مؤنة كالحيوان، فللمرتهن أن يركب ما يركب غير مضار، ويحلب ما يحلب بقدر نفقته.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ». أخرجه البخاري (1).
- حكم نماء الرهن:
نماء العين المرهونة ملك للراهن؛ لأنه مالك للأصل، وهذا نماء ملكه، فهو له، سواء كان متصلاً كالسمن في الحيوان، أو منفصلاً كنتاج الحيوان، وفسائل النخيل ونحوهما.
- حكم انتفاع المرتهن بالرهن:
الرهن أمانة في يد المرتهن، فلا يجوز له الانتفاع به؛ لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، فلا ينتفع به إلا إذا أذن له الراهن، فإن كان المرهون مركوباً أو محلوباً فيجوز للمرتهن أن يَركب ما يُركب، ويَحلب ما يُحلب، وينفق عليه، ليكون الانتفاع به مقابل النفقة عليه.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ
وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ». أخرجه البخاري (2).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2512).
(2) أخرجه البخاري برقم (2512).

(3/506)


- الآثار المترتبة على عقد الرهن:
إذا تم عقد الرهن، واستلم المرتهن العين المرهونة ترتب على ذلك ما يلي:
تعلق الدين بالمرهون .. حق حبس الرهن حتى يسدد الراهن .. منع الراهن من التصرف في الرهن .. عدم انتفاع المرتهن بالرهن إلا مركوباً أو محلوباً بنفقته .. ضمان الرهن بالتعدي أو التفريط .. بيع الرهن أو المطالبة ببيعه عند العجز عن السداد .. امتياز الدائن المرتهن عن سائر الغرماء .. تسليم الرهن عند انتهاء الدين.
- حكم بيع الرهن:
الرهن ملك للراهن بعد تسلمه للمرتهن، فتكون ولاية بيع الرهن للراهن لا لغيره، لكن لتعلق حق المرتهن به، وثبوت حق حبسه عنده حتى يستوفي حقه، يتوقف بيع الراهن للرهن على رضا المرتهن وإذنه ما دام حقه قائماً.
وإذا حل الدين وامتنع الراهن وفاءه لعسر، أو غَيبة: فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين، وإن لم يأذن له في البيع رفع أمره إلى الحاكم، فيجبره على وفاء الدين، أو بيع الرهن.
فإن لم يفعل باعه الحاكم، وقضى ما عليه من دين، ورد الباقي له.
- انتهاء عقد الرهن:
ينتهي عقد الرهن بما يلي:
1 - تسديد كل الدين للمرتهن.
2 - تسليم المرهون لصاحبه.

(3/507)


3 - البيع الجبري الصادر من الراهن بأمر القاضي، أو من القاضي إذا أبى الراهن البيع باعه القاضي، وسدد الدين، وزال الرهن.
4 - فسخ الرهن من قبل الراهن.
5 - البراءة من الدين بأي وجه.
6 - هلاك العين المرهونة.
7 - التصرف في المرهون ببيع، أو إجارة، أو هبة برضا الطرفين فإذا حصل واحد من هذه الأمور انفك الرهن وانتهى.

(3/508)


7 - الضمان
- الضمان: هو التزام المكلف بأداء ما وجب على غيره من مال.
- حكم الضمان:
الضمان عقد جائز، والمصلحة تقتضيه، بل قد تدعو الحاجة إليه، وهو من التعاون على البر والتقوى؛ لما فيه من قضاء حاجة المسلم، وتنفيس كربته، ويصح عن الحي أو الميت.
1 - قال الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف:72].
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الُمَتَوفَّى، عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْألُ: «هَل تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً». فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإلَّا قالَ لِلمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ، قالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفّىَ مِنَ المُؤمِنِيَن فَتَرَكَ دَيْناً فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ». متفق عليه (1).
- شروط صحة الضمان:
يشترط لصحة الضمان ما يلي:
أن يكون الضامن جائز التصرف .. وأن يكون راضياً غير مكره.
ويصح الضمان بكل لفظ يدل عليه كضمنته، أو تحملت عنه ونحو ذلك.
- ما يصح ضمانه:
يصح الضمان لكل مال معلوم محترم كألف ريال مثلاً، أو مال مجهول كأن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2298) , واللفظ له، ومسلم برقم (1619).

(3/509)


يقول: أنا ضامن لك ما لك على فلان، أو ما يُقضى به عليه، حياً كان المضمون عنه أو ميتاً.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقالَ: «هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟». قالوا: لا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أتِيَ بِجَنَازَةٍ أخْرَى، فَقال: «هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟». قالوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». قال أبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. أخرجه البخاري (1).
- الآثار المترتبة على عقد الضمان:
إذا ضمن الدين ضامن فهو مأجور، لكن المدين لا يبرأ من الدين، وإنما يكون الدين عليهما جميعاً.
وللدائن مطالبة المدين أولاً، فإن لم يسدد، أو لم يستجب، أو مات طالب الضامن عنه.
- درجات الضمان:
الضمان يكون برد العين .. فإن تعذر ردها فبالمثل .. فإن تعذر المثل فبالقيمة.
مثال ذلك: لو أن إنساناً استأجر سيارة، فإذا انتهت مدة الإجارة وجب عليه ردها إلى صاحبها، فإن تلفت وجب عليه رد مثلها من السيارات، فإن تعذر وجود مثلها وجب عليه رد قيمة مثلها.
- متى يبرأ الضامن والمضمون عنه:
يبرأ المضمون عنه في حالتين:
إذا أدى الحق لصاحبه .. أو إذا أبرأه صاحب الدين.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2295).

(3/510)


ويبرأ الضامن في حالتين:
إذا أبرأه صاحب الحق .. أو إذا برئ المضمون عنه بما سبق.
ويجب على المضمون عنه أن يبادر بأداء ما عليه من الحق لأهله، ولا يُعرِّض الضامن للمطالبة من قِبَل المضمون له.
فالضامن محسن إلى المضمون عنه، فلا يقابل إحسانه إليه بالإساءة إليه.
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة:91].
- حكم خطاب الضمان:
خطاب الضمان الذي تصدره البنوك إن كان له غطاء كامل في المصرف فيجوز أخذ الأجرة عليه مقابل الخدمة، وإن كان خطاب الضمان غير مغطى فلا يجوز للبنك إصداره، ولا أخذ الأجرة عليه؛ لما فيه من الغرر والكذب.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].

(3/511)


8 - الكفالة
- الكفالة: هي التزام رشيد برضاه إحضار مَنْ عليه حق مالي لربه.
- حكمة مشروعية الكفالة:
النفوس مجبولة على الشح وحب المال، فإذا لم يكن ترغيب في الدَّين، ولم يكن استيثاق في قضائه، لم يكن هناك من يُقرض، وتعطلت مصالح البشر.
لهذا شرع الله ما ييسر على الناس حفظ حقوقهم، وقضاء مصالحهم بالضمان والكفالة ونحوهما.
وهي عقد تبرع وإحسان، وفيها أجر للكفيل، وفرحة للمكفول، وطمأنينة للمكفول له.
- وسائل التوثيق في الشرع:
وسائل التوثيق في الشرع كثيرة أهمها:
الضمان .. والكفالة .. والرهن .. والشهادة.
فالضمان: كفالة الدين، والكفالة: كفالة المدين، والرهن: وثيقة يطمئن به صاحبه على ماله. والشهادة: يثبت بها الحق في الذمة، وتقطع النزاع بين الناس.
- الفرق بين الضمان والكفالة:
1 - الضمان التزام بالدين .. والكفالة التزام بإحضار المدين.
2 - يجوز في الضمان مطالبة الضامن مع حضور المضمون عنه، ولا يجوز في الكفالة مطالبة الكفيل مع حضور المكفول.

(3/512)


- حكم الكفالة:
الكفالة مستحبة؛ لما فيها من الإحسان إلى المكفول، والتعاون على البر والتقوى.
والكفالة عقد جائز، فمن لا يستطيع أن يضمن الأموال كفل النفوس.
1 - قال الله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)} [يوسف:66].
2 - وقال الله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف:72].
3 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقالَ: «هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟». قالوا: لا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أتِيَ بِجَنَازَةٍ أخْرَى، فَقال: «هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟». قالوا: نَعَمْ، قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». قال أبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. أخرجه البخاري (1).
- صفة عقد الكفالة:
الكفالة عقد تبرع، تنعقد برضا الكفيل والتزامه، ولا تحتاج إلى قبول المكفول له، أو المكفول عنه، ولا يشترط علم الكفيل بالمكفول له.
- أقسام الكفالة:
الكفالة تنقسم إلى قسمين:
1 - كفالة النفس: وهي التزام إحضار مَنْ عليه حق مالي إلى ربه.
2 - كفالة المال: وهي التزام الكفيل بأداء ما على المكفول من حق.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2295).

(3/513)


والكفالة بالنفس الأصل فيها هو المال، فهي الالتزام بإحضار شخص ليؤدي ما عليه من حق للمكفول له.
- أركان الكفالة:
أركان الكفالة خمسة:
الصيغة .. الكفيل .. المكفول له .. المكفول عنه .. المكفول به.
1 - الصيغة: تصح الكفالة بكل لفظ فُهم منه الضمان عرفاً كأن يقول شخص لآخر: كفلت لك دينك الذي على فلان، أو تحمّلته، أو التزمته.
أو يقول: أنا كفيل، أو زعيم، أو حميل.
أو يقول علي ما على فلان ونحو ذلك.
2 - الكفيل: هو الذي يتكفل بإحضار المكفول ليؤدي ما عليه، ولا بد أن يكون من أهل التبرع، بأن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً رشيداً.
3 - المكفول له: هو صاحب الدين.
4 - المكفول عنه: هو المدين الذي قام الكفيل بضمان دينه.
5 - المكفول به: هو الدين أو العين.
ويشترط فيه أن يكون مما يمكن استيفاؤه من الضامن، وأن يكون معلوماً.
- ما يترتب على الكفالة:
إذا كفل الإنسان غيره، لزمه تسليمه إلى المكفول له، فإن تعذر عليه ذلك، أو امتنع من إحضاره، لزمه أن يؤدي لصاحب الحق جميع ما كفله عنه؛ لأن الزعيم غارم.

(3/514)


- سقوط الكفالة:
تسقط الكفالة ويبرأ الكفيل بما يلي:
1 - إذا مات المكفول.
2 - إذا سلم الكفيل المكفول لصاحب الحق.
3 - إذا سلم المكفول نفسه.
4 - إذا أدى المكفول ما عليه من الدين.
5 - إذا أبرأ صاحب الدين المكفول.
6 - إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من الكفالة.
- من يطالِب المكفول له:
يحق للمكفول له مطالبة الكفيل بدين المكفول عنه إذا تعذر استيفاؤه منه؛ لأن الزعيم غارم، وأما قبل تعذر الاستيفاء فالمكفول له مخير في المطالبة:
إن شاء طالب الكفيل؛ لأنه غارم وضامن.
وإن شاء طالب المكفول عنه؛ لأنه هو الأصيل.
وإذا تعدد الكفلاء فإن كل كفيل يكون ضامناً بمقدار حصته من الدين إن لم يكن شرط، فيطلب حقه بموجبه منهم.

(3/515)


9 - الحوالة
- الحوالة: هي نقل الدين من ذمة المُحيل إلى ذمة المحال عليه.
- حكمة مشروعية الحوالة:
شرع الله عز وجل الحوالة تأميناً للأموال، وقضاءً لحاجة الإنسان، فقد يحتاج الإنسان إلى إبراء ذمته من حق الغريم، أو استيفاء حقه من مدين له، وقد يحتاج لنقل ماله من بلد إلى بلد، ويكون نقل هذا المال غير متيسر، إما لمشقة حمله، أو لبعد المسافة، أو لكون الطريق غير مأمون.
فشرع الله الحوالة لتحقيق هذه المصالح، وتسهيل الوفاء والاستيفاء بين الناس.
- حكم الحوالة:
الحوالة عقد جائز يقتضي نقل دين من ذمة إلى أخرى، وإذا أحال المدين دائنه على مليء لزمه أن يحتال، وإن أحاله على مفلس ولم يعلم رجع بحقه على المحيل، وإن علم ورضي بالحوالة عليه فلا رجوع له.
ومماطلة الغني حرام؛ لما فيها من الظلم، ومنع الحق.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَليَتْبَعْ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2287) , واللفظ له، ومسلم برقم (1564).

(3/516)


- أركان الحوالة:
أركان الحوالة خمسة، وهي:
المحيل: وهو المدين .. والمحال: وهو رب الدين .. والمحال عليه: وهوا لذي عليه دين للمحيل .. والمحال به: وهو الدين الذي للمحيل على المحال عليه .. والصيغة: وهي الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال.
- شروط الحوالة:
1 - أن يكون كل من المحيل والمحال والمحال عليه من أهل التصرف، بأن يكون كل واحد منهم بالغاً عاقلاً رشيداً، غير محجور عليه.
2 - أن يكون المحال عليه مديناً للمحيل.
3 - أن يكون الدين المحال به قد حلَّ على المحال عليه.
4 - أن يكون الدين المحال مساوياً للمحال عليه في الصفة، والجنس، والمقدار.
5 - الإيجاب والقبول بين المحيل والمحال حسب العرف.
- ما يترتب على الحوالة:
1 - إذا تحققت شروط الحوالة، صحت الحوالة، وبرأت ذمة المحيل.
2 - ثبوت حق مطالبة المحال للمحال عليه بحقه.
3 - ملازمة المحال للمحال عليه حتى يوفيه دينه.
- فضل التجاوز عن المعسر:
إذا تمت الحوالة فيجب على المحال عليه أن يوفي المحال حقه بلا مماطلة، وإن أفلس المحال عليه بعد عقد الحوالة استحب إنظاره، وأفضل منه
التجاوز عنه.

(3/517)


1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:280].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأى مُعْسِراً قال لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ». متفق عليه (1).
- انتهاء الحوالة:
تنتهي الحوالة بأحد الأمور الآتية:
1 - فسخ الحوالة برضا المحيل والمحال.
2 - أداء المحال عليه المال إلى المحال.
3 - أن يهب المحال المال للمحال عليه، أو يتصدق به عليه.
4 - أن يبرئ المحال المحال عليه من الدين.
- حكم التحويل البنكي:
التحويل البنكي: أن يسلم الإنسان لبنك البلد الذي هو فيه نقوداً، ثم يأخذ من البنك شيكاً أو حوالة ليقبض نقوده في بلد آخر أو مكان آخر.
فهذه المعاملة جائزة؛ لما فيها من تسهيل قضاء حوائج الناس، سواء كانت النقود المحولة من جنس النقود المدفوعة أو من غير جنسها، ويقوم تسليم الشيك مقام القبض في مسألة صرف النقود بالتحويل.
ويعتبر القيد في سجلات المصرف بمثابة القبض لمن يريد استبدال عملة
بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2078) , واللفظ له، ومسلم برقم (1562).

(3/518)


مودعة فيه.
- حكم التحويل من البنوك:
يجب على المسلم الإيداع والتحويل بواسطة المصارف الإسلامية، فإن دعت الضرورة إلى الإيداع والتحويل من البنوك الربوية فلا حرج في ذلك.
ويجوز الإيداع للضرورة في البنوك الربوية بدون اشتراط الفائدة.
فإن دفع البنك الفائدة بدون شرط فلا بأس من أخذها، لكن لا ينتفع بها، بل يتخلص منها بصرفها في الأعمال الخيرية كمساعدة الفقراء، ومن عليهم ديون، وتعبيد الطرق ونحو ذلك.
- فضل حسن القضاء:
من حسن المعاملة مع الناس أنه إذا كان للإنسان على غيره حق، أو اقترض المسلم من أخيه، وملك السداد قبل الأجل، أن يبادر المدين بالسداد، ويزيد على ما وجب عليه.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِنٌّ مِنَ الابِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقال: «أعْطُوهُ». فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلا سِنّاً فَوْقَهَا، فَقال: «أعْطُوهُ». فَقال: أوْفَيْتَنِي أوْفَى اللهُ بِكَ. قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2305) , واللفظ له، ومسلم برقم (1601).

(3/519)


10 - الوكالة
- الوكالة: هي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
- حكمة مشروعية الوكالة:
الوكالة من محاسن الإسلام، ففيها رعاية مصالح الناس، وسد حاجاتهم، ودفع الحرج عنهم، فقد تتوفر القدرة والخبرة والكفاءة عند إنسان دون غيره.
وكل إنسان بحكم ارتباطه بغيره قد تكون له حقوق، أو تكون عليه حقوق، فإما أن يباشرها بنفسه أخذاً وعطاءً، أو يتولاها عنه غيره.
وليس كل أحد قادراً على مباشرة أموره بنفسه لعجزه، أو مرضه، أو شغله، أو غيبته ونحو ذلك من الأعذار.
وقد يكون الإنسان محقاً، لكنه عاجز عن تقديم الحجة والبيان.
لأجل هذه الأمور وغيرها شرع الله الوكالة، وأباح للإنسان توكيل غيره في أموره، ليقوم بها نيابة عنه.
- حكم الوكالة:
الوكالة: عقد جائز، وتجوز بأجر وبدون أجر.
وتستحب بدون أجر؛ لأنها نوع من التعاون على البر والتقوى، وفيها أجر وثواب؛ لما فيها من إعانة المسلم، وقضاء حاجته.
1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وقال الله تعالى: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ

(3/520)


هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)} [الكهف:19].
3 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتَصَدَّقَ بِجِلالِ البُدْنِ الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا. متفق عليه (1).
- أركان الوكالة:
أركان الوكالة أربعة هي:
الموكِّل .. والوكيل .. والموكَّل فيه .. والصيغة.
فالموكِّل: صاحب الحق .. والوكيل: النائب عن الموكل .. والموكَّل فيه: هو الحق أو السلعة .. والصيغة: هي الإيجاب والقبول من الطرفين، وتصح بكل لفظ يدل عليها مثل: وكّلتك، أو فوضتك بكذا.
- شروط الوكالة:
1 - يشترط في الموكل أن يكون أهلاً للتصرف، وأن يكون مالكاً لما يوكل فيه.
2 - يشترط في الوكيل أن يكون أهلاً للتصرف.
3 - يشترط في الموكَّل فيه أن يكون معلوماً للوكيل، أو مجهولاً جهالة غير فاحشة، وأن يكون قابلاً للنيابة كالبيع والشراء ونحوهما، وأن يكون مباحاً، فلا يجوز التوكيل في محرم كصنع خمر، أو كسب محرم.
- ما تصح فيه الوكالة:
كل عقد جاز أن يعقده الإنسان لنفسه جاز أن يوكل به غيره.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1707) , واللفظ له، ومسلم برقم (1317).

(3/521)


والحقوق ثلاثة أنواع:
1 - نوع تصح الوكالة فيه مطلقاً، وهو كل ما تدخله النيابة من العقود، والفسوخ، والحدود ونحو ذلك.
2 - ونوع لا تصح الوكالة فيه مطلقاً، وهو العبادات البدنية المحضة كالطهارة، والصلاة، والصيام.
3 - ونوع تصح الوكالة فيه مع العجز كفرض حج أو عمرة.
فيصح التوكيل في كل ما تدخله النيابة من العقود كالبيع والشراء، والإجارة والإعارة ونحو ذلك، ومن الفسوخ كالطلاق، والعتق، والإقالة ونحو ذلك، ومن الحدود في إثباتها واستيفائها.
- أحوال الوكالة:
الوكالة عقد جائز، فيجوز لكل من الموكِّل والوكيل فسخها في أي وقت، ويصح قبولها على الفور، وعلى التراخي، وتصح بأجرة، وبدون أجرة، وتصح مطلقة كقوله: وكلتك في شراء هذه الدار، وتصح مقيدة كقوله: وكلتك في بيع هذه الأرض في مدة شهر، وتصح منجّزة كقوله: أنت وكيلي الآن، وتصح معلقة بشرط كقوله: إذا أجّرت داري فبعها.
- حكم توكيل الوكيل:
لا يجوز للوكيل أن يوكِّل فيما وُكِّل فيه إلا إن أذن له الموكِّل.
ويستثنى من ذلك ما يلي:
1 - أن يكون الموكَّل فيه مما لا يليق بمرؤة الوكيل كبيع دابة في السوق.
2 - أن يكون الموكَّل فيه كثيراً لا يمكنه القيام به بنفسه.

(3/522)


3 - أن يكون الموكَّل فيه مما يحتاج إلى مهارة خاصة كقياس مساحة، وصلاحية الأجهزة ونحو ذلك.
4 - أن يعجز الوكيل عن القيام بالعمل.
فله في هذه الحالات وأمثالها أن يوكل غيره.
- ضمان الوكيل:
الوكيل أمين فيما وُكِّل فيه، فلا يضمن ما تلف بيده بلا تعد ولا تفريط، فإن تعدى أو فرط ضمن، ويقبل قوله في نفي التفريط مع يمينه.
- حكم طلب التوكيل:
1 - من علم من نفسه الكفاءة والقدرة والأمانة، ولم يخش من نفسه الخيانة، ولم تشغله الوكالة عما هو أهم منها، فهي مستحبة في حقه؛ لما فيها من الأجر، وقضاء حاجة أخيه المسلم، حتى لو كانت بأجرة، إذا توفر حسن النية، وإتمام العمل.
2 - من علم من نفسه عدم القدرة عليها، أو خشي الخيانة من نفسه، أو علم أنها تشغله عما هو أهم منها، فالبعد عنها أسلم.
- فضل وكالة الأمين:
عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الخَازِنُ المُسْلِمُ الأمِينُ، الَّذِي يُنْفِذُ -وَرُبَّمَا قال: يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ، كَامِلاً مُوَفَّراً، طَيِّباً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1438) , واللفظ له، ومسلم برقم (1023).

(3/523)


- حكم التوكيل بالبيع والشراء:
يجب على الموكل الذي يوكل غيره ببيع شيء أو شرائه أن يسميه، ويذكر صفته، وجنسه، ومقدار ثمنه، فإن كانت الوكالة مطلقة فيراعى فيها الإطلاق كأن يقول: بع لي هذه الدار وما فيها، أو يقول: اشتر لي هذا المصنع بما فيه.
وإن كانت الوكالة مقيدة بجنس أو نوع أو ثمن لزمه التقيد بذلك.
والوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكِّل توقف بيعه على إجازة الموكِّل، والوكيل بالشراء إذا خالف أمر الموكِّل يكون مشترياً لنفسه، إلا إذا كان خلافاً إلى خير فيُلزم به الموكِّل.
1 - عَنْ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ دِينَاراً يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. أخرجه البخاري (1).
- حكم الوكالة في الديون:
يجوز التوكيل في قضاء الديون، وقسمة الأموال، وغيرها من الحقوق.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَجُلا أتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ فَأغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقالا». ثُمَّ قَالَ: «أعْطُوهُ سِنّاً مِثْلَ سِنِّهِ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِلا أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقالَ: «أعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنَكُمْ قَضَاءً». متفق عليه (2).
- حكم الوكالة في الحدود:
تجوز الوكالة في إثبات الحقوق، واستيفاء الحدود.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (3642).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2306) , واللفظ له، ومسلم برقم (1601).

(3/524)


عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». متفق عليه (1).
- حكم توكيل المرأة الإمام في نكاحها:
إذا لم يكن للمرأة ولي من الأقارب فوليها الإمام، ولها أن توكله في نكاحها أو فسخها.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي. فَقال رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: «قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». متفق عليه (2).
- حكم التصرف الفاسد من الوكيل:
إذا تصرف الوكيل تصرفاً محرماً أو فاسداً فتصرفه مردود.
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ بِلالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أيْنَ هَذَا؟». قالَ بِلالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «أوَّهْ أوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَل، وَلَكِنْ إِذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ به». متفق عليه (3).
- ما يترتب على الوكالة:
إن كانت الوكالة مطلقة فالوكيل قائم مقام الموكِّل فيما وكله فيه من العقود، أو الفسوخ، أو الحدود، أو الحقوق، وإن كانت الوكالة خاصة فليس للوكيل
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2315) , واللفظ له، ومسلم برقم (1632).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2310) , واللفظ له، ومسلم برقم (1425).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2312) , واللفظ له، ومسلم برقم (1594).

(3/525)


أن يتصرف فيما لم يدخل في الوكالة.
- انتهاء الوكالة:
تنتهي الوكالة بأمور:
موت الوكيل أو الموكِّل أو جنونه .. فسخ أحدهما للوكالة .. عزل الموكِّل للوكيل .. حَجْر السَّفَه على أحدهما .. انتهاء العمل المقصود من الوكالة .. خروج الموكَّل فيه عن ملك الموكِّل .. تصرف الموكِّل فيما وكَّل به .. هلاك الموكَّل فيه .. مضي الوقت المحدد إن كانت مقيدة بزمن.

(3/526)


11 - الإجارة
- الإجارة: عقد على منفعة مباحة معلومة، مدة معلومة، بعوض معلوم، كأن يؤجره داره بألف ريال لمدة سنة.
- حكمة مشروعية الإجارة:
أباح الله الإجارة لما فيها من تبادل المنافع بين الناس، فالناس يحتاجون البيوت للسكن، والدواب والسيارات للركوب والحمل، والآلات للمنافع، وأرباب الحِرَف للعمل.
وأرباب الحرف يكسبون رزقهم، ويعفُّون أنفسهم بالعمل عند غيرهم.
ولكثرة الحاجات، وكثرة المهن، وكون الإنسان غير قادر على معرفتها وتنفيذها، والناس في حاجة إلى المنافع كما هم في حاجة إلى شراء الأعيان، لهذه الأمور وغيرها أباح الله الإجارة؛ تيسيراً على الناس، وقضاءً لحاجاتهم، بيسير من المال، مع انتفاع الطرفين، فلله الحمد والمنة.
- حكم الإجارة:
الإجارة جائزة، وهي عقد لازم من الطرفين إذا تمت.
وتنعقد بكل لفظ يدل عليها كأجرتك، وأكْرَيتك ونحو ذلك مما جرى به العرف.
1 - قال الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص:26].
2 - وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ

(3/527)


لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)} [الطلاق:6].
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِياً خِرِّيتاً، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فأتاهما بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاثٍ. أخرجه البخاري (1).
4 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً إِلا رَعَى الغَنَمَ». فَقال أصْحَابُهُ: وَأنْتَ؟ فَقالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأهْلِ مَكَّةَ». أخرجه البخاري (2).
- أقسام العقود:
العقود ثلاثة أقسام:
الأول: عقود جائزة لكل من الطرفين فسخها كالوكالة، والجعالة، والشركة.
الثاني: عقود لازمة، وهي نوعان:
1 - عقد يلزم بمجرد العقد فلا خيار فيه كالوقف، والنكاح ونحوهما.
2 - عقد لازم، لكن يثبت فيه خيار مجلس، وخيار شرط كالبيع، والإجارة، والصلح ونحو ذلك.
الثالث: عقد لازم من أحد الطرفين، جائز في حق الآخر.
وضابطه: أن يكون الحق لواحد على الآخر كالراهن، والضامن، والكافل.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2264).
(2) أخرجه البخاري برقم (2262).

(3/528)


فهذا لازم في حق هؤلاء، جائز في حق المضمون عنه، والمكفول له، والمرتهن.
- أنواع الإجارة:
الإجارة نوعان:
1 - إجارة على منفعة عين معلومة كأجرتك هذه الدار بكذا.
2 - إجارة على عمل معلوم كأن يستأجر شخصاً لبناء جدار، أو حرث أرض، أو حمل متاع.
والمنفعة قد تكون منفعة عين كسكنى الدار، وركوب السيارة، وقد تكون منفعة عمل، مثل عمل البناء، والحداد، والخياط ونحوهم، وقد تكون منفعة الشخص الذي يبذل جهده كالخادم والعامل.
- أركان الإجارة:
أركان الإجارة خمسة، وهي:
المؤجر: وهو الذي يؤجر المنفعة .. والمستأجر: الذي يبذل الأجرة .. والأجرة: وهي المال المبذول مقابل المنفعة .. والمنفعة: وهي الشيء المعقود عليه .. والصيغة: وهي الإيجاب والقبول من الطرفين.
وإذا صح عقد الإجارة ثبت للمستأجر ملك المنفعة، وثبت للمؤجر ملك الأجرة.
- شروط الإجارة:
يشترط لصحة الإجارة ما يلي:
1 - أن يكون كل من العاقدين جائز التصرف.

(3/529)


2 - معرفة المنفعة كسكنى الدار، أو خدمة الآدمي.
3 - معرفة الأجرة.
4 - أن تكون المنفعة مباحة لا محرمة كدار للسكن.
فلا تصح الإجارة على نفع محرم كالغناء، وجعل داره كنيسة، أو لبيع الخمر.
5 - معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة، وأن يعقد على نفعها دون أجزائها، وأن تكون مقدوراً على تسليمها، وأن تشتمل على المنفعة المباحة، وأن تكون مملوكة للمؤجر، أو مأذوناً له فيها.
6 - أن تكون الإجارة برضا الطرفين إلا من أكره بحق.
7 - حصول الإيجاب والقبول بين الطرفين.
8 - معرفة مدة الإجارة كشهر، أو سنة ونحوهما.
- وقت وجوب الأجرة:
تجب الأجرة بالعقد، ويجب تسليم الأجرة بعد مضي مدة الإجارة.
وإن تراضيا على التعجيل، أو التأجيل، أو التقسيط جاز، ويستحق الأجير أجرته إذا أتم عمله متقناً، فيعطى أجرته قبل أن يجف عرقه.
وإذا كانت الإجارة على عين مستأجَرة فتستحق الأجرة بعد استيفاء المنفعة.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قالَ اللهُ: ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أجْرَهُ». أخرجه البخاري (1).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2227).

(3/530)


- ما يجوز إجارته:
كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه تصح إجارته، وكل ما يصح بيعه تصح إجارته ما لم يمنع من ذلك مانع شرعي.
وكل ما حَرُم بيعه حَرُمت إجارته إلا الوقف، والحر، وأم الولد.
- حكم تأجير العين المؤجرة:
يجوز للمستأجر أن ينتفع بالعين المؤجرة بنفسه، وله إجارتها لمن يقوم مقامه بما شاء إن كان مثله، أو أقل منه، لا بأكثر منه ضرراً.
- حكم بيع العين المؤجرة:
يجوز للمؤجر بيع العين المستأجرة كالدار والسيارة ونحوهما، ويأخذها المشتري بعد اسيتفاء المستأجر منفعته، وانتهاء مدة إجارته.
ويجوز للمستأجر أن يتنازل عن العين المستأجرة قبل تمام المدة، بأجر أو بدون أجر.
- حكم ضمان العين المؤجرة:
يد مستأجر العين يد أمانة، فلا يضمن ما تلف بيده إلا بالتعدي أو التفريط، ومخالفة شروط العقد.
- حكم ضمان الأجير:
1 - الأجير الخاص كالخادم في المنزل، والأجير في المحل أو البستان يده يد أمانة كالوكيل، فلا يكون ضامناً للعين التي تُسلّم إليه للعمل فيها ما لم يحصل منه تعد أو تفريط فيضمن، سواء تلف الشيء في يده، أو أثناء عمله.
2 - الأجير المشترك كالحداد والصباغ والخياط ونحوهم، وهو الذي يستحق

(3/531)


الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس، فهذا يده يد ضمان، فهو ضامن لما يهلك في يده، إلا إذا حصل الهلاك بحريق، أو غرق عام، وذلك احتياطاً لأموال الناس، لأن الأجير المشترك يقبض العين لمصلحته، فيضمن كالمستعير.
- أنواع الأجير:
الأجير نوعان:
1 - الأجير الخاص: وهو من يستأجره الإنسان مدة معلومة ليعمل عنده، فهذا لا يحل له العمل عند غير مستأجره، فإن عمل عند غيره في المدة نَقَص من أجره بقدر عمله.
ويستحق الأجرة إذا سلَّم نفسه، وقام بالعمل، وله كامل الأجرة إذا فسخ المؤجر الإجارة قبل تمام المدة، ما لم يكن هناك عذر من مرض أو عجز، فله أجرة المدة التي عمل فيها فقط.
2 - الأجير المشترك: وهو من يشترك في نفعه أكثر من واحد كالحداد، والسَّبَّاك، والصباغ، والخياط ونحوهم، فهذا ليس لمن استأجره أن يمنعه من العمل لغيره، ولا يستحق الأجرة إلا بالعمل.
- حكم استئجار الكفار:
يجوز استئجار الكفار في المصالح العامة والخاصة التي تعود على المسلمين بالنفع.
فإذا حصلت مفسدة في استئجارهم، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، كما رأى عمر رضي الله عنه المفسدة في بقاء يهود خيبر بين المسلمين فأجلاهم عنها.

(3/532)


1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِياً خِرِّيتاً، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فأتاهما بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاثٍ. أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْض حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا للهِ وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِلمُسْلِمِينَ، وَأرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا، فَسَألَتِ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقال لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا». فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أجْلاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأرِيحَاءَ. متفق عليه (2).
- حكم عمل المسلم عند الكافر:
يجوز للمسلم العمل عند الكافر بثلاثة شروط:
1 - أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله كبناء منزل، وتوصيل متاع ونحوهما.
2 - ألا يعينهم فيما يعود ضرره على المسلمين.
3 - ألا يكون في العمل إذلال للمسلم.
فلا يجوز للمسلم إجارة نفسه في خدمة الكافر؛ لما فيه من إذلال المسلم، وسيطرة الكافر على المسلم، ويجوز للمسلم العمل عند الكافر في غير خدمته كما سبق.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2264).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2338) , واللفظ له، ومسلم برقم (1551).

(3/533)


قال الله تعالى عن يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف:54 - 55].
- حكم عمل المرأة خارج المنزل:
الأصل أن عمل المرأة في بيتها؛ رعاية لأطفالها، وصيانة لحقوق زوجها، ولا يجوز للمرأة الخروج من بيتها إلا بإذن زوجها.
وإذا احتاجت الأمة إلى عمل المرأة في الطب أو التعليم ونحوهما مما له ضرورة، أو اضطرت هي للعمل خارج بيتها لكسب العيش، فإن ذلك يجوز بشروط:
1 - أن تخرج باللباس الشرعي المحتشم، غير متبرجة ولا متعطرة.
2 - أن تدعو الحاجة إلى عملها.
3 - عدم الاختلاط بالرجال سواء كان في المواصلات، أو في العمل.
4 - أن تعمل في عمل يناسب النساء من تعليم وتمريض ونحوهما.
5 - ألا تضيِّع من تعول من أولادها، ولا تقصِّر في حقوق زوجها ووالديها.
6 - أن تأمن على نفسها في الطريق ومكان العمل.
فإذا تحققت هذه الشروط جاز لها العمل خارج بيتها.
- حكم مَنْ مَنَع الأجير أجرته:
يجب على من استأجر أحداً أن يعطيه أجرته إذا أدى عمله من غير مماطلة؛ لأنه أدى العمل، فوجب تسليمه أجرته.
ويحرم منع الأجير أجرته، ومن منعها أو أكلها فالله خصمه يوم القيامة.

(3/534)


عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قالَ اللهُ: ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أجْرَهُ». أخرجه البخاري (1).
- حكم أخذ الرَّزْق على القُرَب:
لا يجوز للمسلم أخذ الأجرة على الطاعات كالأذان والصلاة ونحوهما، ويجوز للإمام والمؤذن والمعلم للقرآن أن يأخذ رَزْقاً من بيت المال، ومَنْ عمل من هؤلاء لله تعالى أثيب ولو أخذ رَزْقاً، وما يأخذه من بيت المال إعانة على التفرغ للطاعات والقيام بها، لا عوضاً أو أجرة على عمله، ومثله الموقوف على أعمال البر.
1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقالَ: هَل فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلاً لَدِيغاً أَوْ سَلِيماً، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْراً، حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْراً، فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللهِ». أخرجه البخاري (2).
2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَل مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْرَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلا نَفْعَلُ
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2227).
(2) أخرجه البخاري برقم (5737).

(3/535)


حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقال: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ». متفق عليه (1).
- حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن:
1 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَسْجِدَ، فَإِذَا فِيهِ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، قالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ وَابْتَغُوا بِهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ القِدْحِ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ». أخرجه أحمد وأبو داود (2).
2 - وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَءُوا القُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ». أخرجه أحمد (3).
- ما يترتب على عقد الإجارة:
إذا تم عقد الإجارة ترتب عليه ما يلي:
لزوم بذل المؤجر العين المستأجرة .. ولزوم بذل المستأجر الأجرة .. مُلك المستأجر منفعة العين المؤجرة مدة الإجارة .. مُلك المؤجر كامل الأجرة.
- حكم الحسم من الأجرة:
من استأجر أجيراً فعليه أن يعطيه حقه كاملاً إذا أدى عمله كاملاً.
ومن استأجر عاملاً لمدة شهر مثلاً، فليس له أن يحسم عليه من راتبه اليوم
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5736) , واللفظ له، ومسلم برقم (2201).
(2) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (14855) , وهذا لفظه، وأبو داود برقم (830).
(3) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (15529).

(3/536)


بيومين، إذا غاب بدون عذر؛ لأن أموال الناس محترمة، والتعزير بالمال لا يجوز إلا لولي الأمر، والأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، فلا يَظلم ولا يُظلم.
فإذا غاب يوماً يُحسم من راتبه يوم، والزيادة على ذلك أكل لأموال الناس بالباطل.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ». أخرجه البخاري (1).
- حكم الإيجار المنتهي بالتمليك:
صفته: أن يشتري الإنسان من شركة مثلاً سيارة بمائة ألف ريال مؤجلة، على أن يسددها أقساطاً شهرية في موعدها، فإن سددها في موعدها صارت ملكاً له.
وإن لم يتمكن من إكمال سدادها صار ما دفعه من أقساط مجرد أجرة مقابل انتفاعه بالسيارة تلك المدة.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2270).

(3/537)


وحكم هذا العقد: أنه غير جائز؛ لاشتماله على عقدين في سلعة واحدة، وهما البيع والإجارة، وقد نهى الشرع عن بيعتين في بيعة؛ لما فيهما من الضرر والغرر.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. أخرجه الترمذي (1).
- حكم دفع بدل الخلو:
إذا كان السكن أو الدكان في مكان مرغوب مطلوب، فيجوز دفع بدل الخلو للمستأجر أثناء مدة الإجارة، مقابل تخلِّيه عن بقية مدة الإجارة، ويُحسب هذا البدل من الأجرة، أما إذا انقضت مدة الإجارة فليس للمستأجر أخذ بدل الخلو من المالك أو المستأجر الجديد؛ لأن العين المستأجرة انتقلت إلى المالك، ولا حق للمستأجر فيها.
- حكم تأجير أهل المحرمات:
لا يجوز تأجير البيوت والمحلات على من يبيع المحرمات كآلات اللهو المحرمة .. والأفلام والصور .. وأشرطة الفيديو والغناء .. والخمور والمخدرات .. والدخان والجراك.
وكذا من يتعاطى المعاملات المحرمة كالبنوك الربوية .. ومن يتخذ المحل معملاً للخمر .. أو مأوى لأهل الملاهي والزنا .. أو مكاناً لعرض أزياء التبرج وبيعها .. أو محلاً لبيع أواني الذهب والفضة .. أو محلاً لحلق اللحى ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الإعانة على المحرم، وغش المسلمين،
والتعرض لعقوبة الله، وحصول الفتنة.
_________
(1) حسن/ أخرجه الترمذي برقم (1231).

(3/538)


1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج:10].
- زيادة الأجرة:
يلزم المستأجر دفع الأجرة المتفق عليها، وإذا ارتفعت الأجور فليس للمؤجر فسخ الإجارة، أو إلزام المستأجر أثناء مدة العقد بزيادة الأجرة، أو ترك المحل المستأجر.
وإذا انخفضت الإجارات فليس للمستأجر فسخ الإجارة، أو إلزام المؤجر بتخيفض الأجرة أثناء مدة العقد.
ومن طابت نفسه لأخيه أن يأخذ أو يعطي أجرة المثل فهو أفضل؛ لما في ذلك من الإحسان الموجب للمحبة.
عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». متفق عليه (1).
- حكم إعانة المضطر:
إذا اضطر إنسان مكروب، أو مفجوع، أو مغلوب، فيجب على من رآه أن ينقذه ويعينه، وأن يفرج كربته، وأن يقف معه، ما دام قادراً على ذلك.
بإنقاذ الغريق والحريق .. وإسعاف المرأة في طلقها .. ومن نزف دمه بحيث
لو تُرك مات .. ونقل الجريح والكسير إلى المستشفى ونحو ذلك من حالات
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13) , واللفظ له، ومسلم برقم (45).

(3/539)


الضرورة الحرجة.
ومن أمكنه إعانة أخيه المضطر، وتوقفت نجاته على إسعافه فلم يفعل فهو آثم؛ لأن إنقاذ النفس واجب شرعاً، يأثم بتركه من قدر عليه.
عَنْ عَبدِاللهِ بنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً، مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». متفق عليه (1).
- انتهاء عقد الإجارة:
ينتهي عقد الإجارة بواحد مما يلي:
1 - هلاك العين المؤجرة المعينة كالدار، أو السيارة ونحوهما.
2 - انقضاء مدة الإجارة.
3 - الإقالة، بأن يطلب أحد الطرفين من الآخر أن يقيله.
4 - حدوث عيب في العين المستأجرة كتهدم البيت، وخراب الآلة بسببٍ من غير المستأجر ونحو ذلك.
5 - إفلاس المستأجر، أو لحوق المؤجر دين لا يمكن استيفاؤه إلا من العين المؤجرة.
ولا تنفسخ الإجارة بموت أحد الطرفين، ولا ببيع العين المستأجرة، ومن استؤجر لعمل خاص ثم مات فإن الإجارة تنفسخ.
ومتى انقضت مدة الإجارة رفع المستأجر يده، وسلَّم العين المستأجرة إلى
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2442) , ومسلم برقم (2580) , واللفظ له.

(3/540)


المؤجر إن كانت منقولة.
- حكم اختلاف المتعاقدين في الإجارة:
إذا صح عقد الإجارة، ثم اختلف المتعاقدان، فإما أن يكون الخلاف قبل استيفاء المنافع أو بعدها، فإن اختلفا قبل استيفاء المنافع تحالفا وترادا، وانفسخت الإجارة، وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه ما ادعى به صاحبه.
وإن كان الاختلاف بعد استيفاء المستأجر بعض المنفعة بأن سكن الدار مدة مثلاً، فالقول قول المستأجر مع يمينه، ويتحالفان، وتنفسخ الإجارة فيما بقي.
وإن كان الاختلاف بعد انتهاء مدة الإجارة، فالقول قول المستأجر في مقدار البدل مع يمينه، ولا يمين على المؤجر.
وإن كان الاختلاف في دعوى التلف أو التعيُّب، فالقول قول المستأجر؛ لأنه أمين، فيصدّق بيمينه، ما لم تكن للمؤجر بينة.
وإن كان الاختلاف في دعوى الرد، بأن ادعى المستأجر أنه رد العين إلى المؤجر، وأنكر المؤجر، فالقول قول المؤجر بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، والقول قول المنكر بيمينه إن لم تكن للمستأجر بينة.
- حكم كسب الحجام:
كسب الحجام حلال، لكنه من المهن الدنيئة، وخُبْث كسب الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل، هذا خبيث الرائحة، وذاك خبيث الكسب.
ولو كان كسب الحجام محرماً لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاجم أجرته على
الحجامة، ولكن لدناءة هذا الكسب أمر الحاجم أن يعلفه ناضحه أو رقيقه.

(3/541)


وتستحب الحجامة بعد أيام البيض؛ لما فيها من الرفق بالبدن، لأن الدم يسكن بعد فَوَرانه في أيام البيض.
1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأعْطَى الحَجَّامَ أجره. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ رَافِع بن خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَمَنُ الكَلبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ البَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ». أخرجه مسلم (2).
- حكم التأجير بالنسبة:
1 - مَنْ ملك سيارة وأجّرها على غيره بنصف الدخل الذي يأتي منها، فيجوز ذلك كالمضاربة، فمن الأول العين، ومن الثاني العمل، والربح بينهما حسب الاتفاق.
2 - إذا أعطى صاحب المحل التجاري، أو المصنع، أو المزرعة، غيره ليتقبله ويعطيه كل شهر ثلاثة آلاف مثلاً، وما زاد فهو له، فهذا النوع من الإجارة محرم؛ لما فيه من الجهالة والغرر، فإن اتفقا على نسبة من الربح كالربع مثلاً صح.
3 - إذا تعطلت بعض منافع العين المؤجرة كالمزرعة والدار، سقط من الأجرة بقدر ما تعطل من المنفعة المستحَقَّة بالعقد.
4 - يجوز استئجار الأجير بنسبة معلومة من عمله، كما لو استأجره على طحن كيس قمح بعشرة مثلاً.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2278) , واللفظ له، ومسلم برقم (1202).
(2) أخرجه مسلم برقم (1567).

(3/542)


- حكم عقد الصيانة:
عقد الصيانة: هو عقد معاوضة مستقل، يلتزم فيه الإنسان أو الشركة بصيانة وإصلاح ما تحتاجه آلة أو غيرها لمدة معلومة، بعوض معلوم، وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده، أو بالعمل وقطع الصيانة، فإن كان العقد غير مقترن بعقد آخر فهو عقد إجارة جائز.
وإن كانت الصيانة مشروطة على البائع في عقد البيع لمدة معلومة. فهذا عقد اجتمع فيه بيع وشرط وهو جائز.
وإن كانت الصيانة مشروطة في عقد الإجارة على أحد الطرفين، فإن توقفت على استيفاء المنفعة فهي على مالك العين المؤجرة، وما لا يتوقف عليه استيفاء المنفعة يجوز اشتراطه على المؤجر والمستأجر.
ويشترط في جميع الصور تعيين الصيانة، وتبيين المواد إذا كانت على الصائن، وتحديد الأجرة؛ لقطع النزاع، ودفع الجهالة.

(3/543)


12 - الجعالة
- الجعالة: هي جَعْل مال معلوم لمن يعمل له عملاً مباحاً.
مثل أن يقول: من رد ضالتي فله مائة ريال، أو من بنى هذا الجدار فله خمسون ريالاً.
والجعالة التزام من جانب واحد، فهي عقد جائز.
- حكمة مشروعية الجعالة:
قد يفقد الإنسان ماله أو دابته أو سيارته، ويكون عاجزاً عن معرفة مكانها، أو البحث عنها، فأباح الشرع له أن يبذل شيئاً من المال لمن يرد عليه ضالته، أو يقضي له حاجته.
- حكم الجعالة:
الجعالة من العقود الجائزة التي يجوز لأحد المتعاقدين فسخها، ويجوز أن تكون على عمل معلوم كبناء حائط، أو مجهول كحفر بئر ماء ونحو ذلك، وتجوز في مدة معلومة، أو مجهولة.
1 - قال الله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف:72].
2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَل مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْرَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ،

(3/544)


وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ». متفق عليه (1).
- الفرق بين الجعالة والإجارة:
الجعالة تشبه الإجارة في بذل المال، وحصول المنفعة.
وتختلف الجعالة عن الإجارة في أمور:
1 - تصح الجعالة مع معين وغير معين، ولا تصح الإجارة إلا مع شخص أو جهة معينة.
2 - تصح الجعالة على عمل معلوم أو مجهول، ولا تصح الإجارة إلا على عمل معلوم.
3 - لا يشترط في الجعالة قبول العامل، أما الإجارة فلا بد فيها من إيجاب المؤجر، وقبول المستأجر.
4 - الجعالة عقد جائز غير لازم، أما الإجارة فهي عقد لازم لا تفسخ إلا برضا الطرفين.
5 - الجُعْل يُستحق في الجعالة بعد تمام العمل، أما الإجارة فيجوز تعجيل الأجرة وتأجيلها حسب الاتفاق.
6 - الجعالة أوسع من الإجارة؛ لأنها تجوز على أعمال القرب، بخلاف الإجارة فلا تجوز.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5736) , واللفظ له، ومسلم برقم (2201).

(3/545)


- شروط الجعالة:
يشترط في الجعالة ما يلي:
1 - أن يكون الجاعل أهلاً للتصرف غير محجور عليه.
2 - أن يكون الجُعْل معلوماً.
3 - أن يكون الجُعْل حلالاً، فلا يصح الجُعْل بخمر، أو مسروق، أو مغصوب.
4 - أن تكون المنفعة معلومة كحفر، أو بناء، أو خياطة، أو نقل ونحو ذلك.
- حكم من بذل منفعة:
1 - من بذل منفعة من غير جُعْل، كمن رد لقطة، أو ضالة أو نحوهما لم يستحق عوضاً، ويستحب إكرامه بما يعطى مثله.
2 - من استنقذ مال غيره من هلكة، ورده إلى صاحبه، استحق أجرة المثل، ولو بغير شرط.
- صفة الجعالة:
أن يقول الإنسان مثلاً: من بنى لي هذا الجدار، أو خاط هذا الثوب، أو رد هذا الفرس، أو نقل هذا الأثاث، فله مائة ريال.
فإذا قام بهذا العمل أحد من الناس استحق الجُعْل.
- حكم فسخ الجعالة:
الجعالة عقد جائز، فيجوز لكل من الطرفين فسخها، فإن كان الفسخ من العامل لم يستحق شيئاً، وإن كان الفسخ من الجاعل: فإن كان الفسخ قبل الشروع في العمل لم يستحق العامل شيئاًَ، وإن كان الفسخ بعد الشروع في العمل فللعامل أجرة ما عمل.

(3/546)


- حكم اختلاف المالك والعامل:
إذا اختلف المالك والعامل في أصل الجُعْل، ولم تكن بينة، فيصدَّق المنكر مع يمينه، كأن يقول العامل: شرطتَ لي جُعلاً، فينكر المالك، فيصدَّق المالك مع يمينه؛ لأن الأصل عدم اشتراط الجُعْل، وإن اختلفا في نوع العمل كرد الجمل الضائع، أو المتاع الضائع، أو اختلفا فيمن قام بالعمل، فيصدَّق صاحب العمل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العمل، وإن اختلفا في رد الضال، فيصدَّق المالك؛ لأن الأصل عدم الرد، وإن اختلفا في قدر الجُعْل، أو قدر المسافة، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الزائد، أو يتحالفان فينفسخ العقد، وتجب أجرة المثل.

(3/547)


13 - الوديعة
- الوديعة: هي المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض كأن يودع عند غيره ساعة، أو سيارة، أو نقوداً.
- حكمة مشروعية الوديعة:
قد تطرأ على الإنسان أحوال يكون فيها غير قادر على حفظ ماله: إما لفقد المكان، أو لعدم الإمكان لعجز، أو مرض، أو خوف، ويكون عند غيره القدرة على حفظ ماله.
لهذا أباح الله الوديعة لحفظ المال من جهة، وكسب الأجر من جهة المودَع، وحاجة الناس إلى ذلك.
- حكم الوديعة:
الوديعة عقد جائز، ولكل واحد من العاقدين فسخ الإيداع متى شاء.
وإن طلبها صاحبها وجب ردها إليه، وإن ردها المودَع لزم صاحبها قبولها، وهي من التعاون على البر والتقوى.
1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
3 - وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ

(3/548)


يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة:283].
- حكم قبول الوديعة:
يستحب قبول الوديعة لمن علم أنه قادر على حفظها؛ لما فيها من التعاون على البر والتقوى، وحصول الأجر والثواب في حفظها، وتكون من جائز التصرف لمثله، في مال معلوم يمكن استلامه.
- أركان الوديعة:
أركان الوديعة أربعة:
المودِع: وهو صاحب الوديعة .. والمستودَع: وهو حافظ الوديعة .. والوديعة: وهي الشيء المودع .. والصيغة: وهي الإيجاب والقبول من الطرفين حسب العرف.
- طريقة حفظ الوديعة:
يجب على من أُودع مالاً أن يحفظه في حرز مثله كما يحفظ ماله، كل مال بحسبه، وعليه أن يحفظ الوديعة بنفسه؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولا يجوز حفظ الأمانة عند غير المودَع إلا بإذن من صاحب الوديعة إلا لعذر كأن يقع حريق في داره، فيسلِّمها إلى جاره.
فإن خالف الوديع طريق الحفظ فتلفت ضمن، إلا إذا كان الإيداع لعذر من مرض، أو سفر، أو خوف غرق فإنه لا يضمن.
- ضمان الوديعة:
الوديعة أمانة من الأمانات، والأمانة لا يضمنها المؤتمن عليها إلا بالتعدي عليها، أو التفريط فيها.

(3/549)


والتعدي: فعل ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب، والوديعة: أمانة محضة لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط، ولو شرط عليه الضمان فإنه لا يضمن، فإن تعدى أو فرط ضمن؛ لأن يده يد متعدية.
- حالات ضمان الوديعة:
يتغير حال الوديعة من الأمانة إلى الضمان فيما يلي:
1 - ترك الوديع حفظ الوديعة.
2 - إيداعها عند غيره بلا عذر ولا إذن.
3 - استعمال الوديعة، أو التصرف فيها.
4 - خلطها بغيرها خلطاً لا يتميز.
5 - المخالفة في كيفية حفظ الوديعة.
6 - نقلها إلى دون حرز مثلها.
- حكم رد الوديعة:
الوديعة أمانة عند المودَع، يجب ردها عندما يطلبها صاحبها، فإن لم يردها بعد طلب صاحبها من غير عذر فتلفت ضمنها.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
- الحكم إذا اختلف المودِع مع الوديع:
إذا اختلف المودِع مع الوديع فقال الوديع: تلفت الوديعة عندي، وأنكر المودِع، أو قال الوديع: رددتها إليك، فالقول قول الوديع مع يمينه؛ لأنه أمين في الحفظ.

(3/550)


فإن أقام المودِع بينة على الإتلاف ضمن الوديع.
وإن أقام كل منهما بينة فبينة المودِع أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً، لأن فيها إثبات الهلاك وزيادة وهو التعدي.
- حكم طلب الأجرة على الوديعة:
حفظ الوديعة قربة إلى الله عز وجل، فلا يأخذ عليها أجرة، إلا أن تكون مما يشغل منزله فله كراؤه، وإن احتاجت إلى غلق أو نقل فهو على صاحبها.
- انتهاء عقد الوديعة:
ينتهي عقد الإيداع بما يلي:
استرداد الوديعة أو ردها .. نقل ملكية الوديعة لغير المالك ببيع أو هبة .. الحجر على المودِع للسفه .. الحجر على الوديع للسفه .. موت المودِع أو الوديع أو جنونه.

(3/551)


14 - العارية
- العارية: هي إباحة نفع عين بلا عوض؛ سميت بذلك لتعرِّيها عن العوض.
- حكمة مشروعية العارية:
قد يحتاج الإنسان إلى الانتفاع بعين من الأعيان، وهو لا يستطيع أن يتملكها، ولا يملك مالاً ليدفع أجرتها، وبعض الناس قد لا تقوى نفسه على الهدية أو الصدقة.
لهذا شرع الله العارية قضاءً لحاجة المستعير، مع حصول الأجر للمعير ببذل المنفعة لأخيه مع بقاء العين له.
- حكم العارية:
العارية عقد جائز، فيجوز لكل واحد من الطرفين فسخها، وهي قربة مستحبة؛ لما فيها من الإحسان، وقضاء الحاجات، وجلب المودة والمحبة.
وتنعقد بكل قول أو لفظ يدل عليها، وتتأكد مع استغناء المالك عنها، وحاجة الإنسان لها، وهي من التعاون على البر والتقوى.
1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ». أخرجه البخاري (1).
3 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ فَزَعٌ بِالمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6021).

(3/552)


فَرَساً مِنْ أَبِي طَلحَةَ، يُقَالُ لَهُ: المَنْدُوْبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: «مَا رَأيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً». متفق عليه (1).
- أركان العارية:
أركان العارية أربعة:
المعير: وهو صاحب العين .. والمستعير: وهو الذي ينتفع بالعين .. والعارية: وهي العين المعارة من دابة أو آلة .. والصيغة: وهي الإيجاب والقبول بين الطرفين حسب العرف.
- متى تجب العارية؟:
إذا كان المستعير مضطراً إلى العارية، ولم يكن في إعارتها ضرر على المعير، فيجب بذلها له، كما لو وُجد عريان في وقت برد شديد، ومالك الثوب غير محتاج إليه، فيجب إعارته للعريان؛ حفظاً له من الهلاك.
قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون:4 - 7].
- شروط العارية:
يشترط لصحة العارية ما يلي:
1 - أن تكون العين منتفعاً بها مع بقائها.
2 - أن يكون النفع مباحاً.
3 - أن يكون المعير أهلاً للتبرع.
4 - أن يكون المعير مالكاً لما يعيره، أو مأذوناً له فيه.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2627) , واللفظ له، ومسلم برقم (2307).

(3/553)


5 - أن يكون المستعير أهلاً للتصرف.
- ما تحرم إعارته:
تجوز إعارة كل عين يُنتفع بها مع بقائها كالدور، والآلات، والدواب ونحوها مما منفعته مباحة الاستعمال، فلا تجوز إعارة الأواني لشرب الخمر .. ولا الأجهزة لسماع الغناء .. ولا الدور للبغاء .. ولا الجواري للاستمتاع .. ولا المصحف للكافر .. ولا المحل لبيع المحرمات؛ لما في ذلك وغيره من التعاون على الإثم والعدوان.
- حفظ العارية:
يجب على المستعير حفظ العارية، والعناية بها، واستعمالها استعمالاً حسناً، وردها سليمة إلى صاحبها.
- ضمان العارية:
يجب على المستعير حفظ العارية، وحسن استعمالها.
وإذا تلفت العارية بيد المستعير ضمنها مطلقاً، سواء فرط أو لم يفرط؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، والمستعير استعارها لمصلحته، ولأنها مال يجب رده لمالكه، فيضمن عند تلفه بقيمته يوم التلف، وهذا فيما لو تلفت بدون الاستعمال. أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه فلا ضمان إلا إن تعدى المستعير أو فرط.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
2 - وَعَنْ يَعْلَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذا أَتَتْكَ رُسُلِي

(3/554)


فَأَعْطِهِمْ ثلاَثِينَ دِرْعاً وَثلاَثِينَ بَعِيراً» قَالَ: فَقُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَعَوَرٌ مَضْمُونَةٌ أَوْ عَوَرٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ: «بَل مُؤَدَّاةٌ». أخرجه أبو داود (1).
- الفرق بين العارية والوديعة:
1 - العارية مضمونة فرط المستعير أو لم يفرط، أما الوديعة فلا تضمن إلا إن تعدى أو فرط.
2 - جاحد العارية كالسارق تقطع يده، أما الوديعة فلا.
3 - العارية يأخذها الإنسان لحاجته فيضمنها، أما الوديعة فيأخذها الإنسان عنده قربة إلى الله فهو أمين لا ضمان عليه إلا إن تعدى أو فرط.
- حكم إعارة العارية:
يجوز للمستعير الانتفاع بالعارية بنفسه أو بمن يقوم مقامه، ولا يجوز له أن يؤجرها أو يعيرها إلا بإذن المالك، فإن أعارها بدون إذن المالك فتلفت عند الثاني ضمنها الثاني؛ لأنه قبضها على أنه ضامن لها، وتلفت في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب من الغاصب.
وللمالك مطالبة من شاء منهما ليعود إليه حقه.
- حكم الظَّفَر بالمال:
من له حق على غيره فله حالتان:
1 - إن كان سبب الحق ظاهراً كالنكاح، والنفقة، وحق الضيف، فهذا يجوز له الأخذ بالمعروف، وصاحب الحق يأخذ بقدر حقه، ويرد ما زاد عليه لصاحبه.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3566).

(3/555)


عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قالتْ هِنْدٌ أمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرّاً؟ قال: «خُذِي أنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ». متفق عليه (1).
2 - إن كان سبب الحق خفياً، ويُنسب الآخذ إلى خيانة أمانته فلا يأخذ؛ لئلا يُعرِّض نفسه للتهمة والخيانة.
- حكم رد العارية:
المعير محسن إلى المستعير، فيجب على المستعير أن يرد العارية التي استعارها إذا قضى حاجته، وأن يردها سليمة كما استلمها، ولا يجوز له حبسها أو جحدها، فإن فعل فهو خائن آثم.
وللمعير أن يسترد العارية متى شاء ما لم يسبب ضرراً للمستعير، فإن كان في استردادها ضرراً بالمستعير أَجَّل قبضها حتى يزول الضرر كمن أعار أرضاً ثم زرعها المستعير، فليس للمعير استردادها حتى يحصدها المستعير.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء:58].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال:27].
- الحكم إذا اختلف المعير والمستعير:
1 - إذا اختلفا في أصل العقد كما إذا ادعى أحدهما الإعارة، وادعى الآخر الإجارة، ولم تكن بينة، فالقول قول المالك مع يمينه، لأن الأصل عدم الإذن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2211) , واللفظ له، ومسلم برقم (1714).

(3/556)


بالانتفاع.
2 - إن اختلفا في التلف، ولم تكن بينة، فيصدَّق المستعير مع يمينه؛ لأنه مؤتمن.
3 - إن اختلفا في الرد، فادعى المستعير أنه ردها، وأنكر المعير ذلك، ولم تكن بينة، فيصدَّق المعير مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرد حتى يثبت، والمستعير مدّع، فعليه البينة، والمعير منكر، واليمين على من أنكر.
- انتهاء العارية:
ينتهي عقد العارية بما يلي:
1 - طلب المعير العارية.
2 - رد المستعير العارية.
3 - موت أحد العاقدين أو جنونه.
4 - الحجر على المعير بسبب الإفلاس.
5 - الحجر على أحد العاقدين بالسفه.

(3/557)


15 - الشركة
- الشركة: هي اجتماع في استحقاق، أو تصرف بين اثنين فأكثر كأن يشترك اثنان في استحقاق مالي كالإرث والعطية، أو تصرف كالبيع والشراء.
- حكمة مشروعية الشركة:
يحتاج الإنسان إلى تنمية أمواله، وقد لا يستطيع الإنسان القيام بذلك إما لعدم قدرته، أو لعدم وجود رأس المال.
ولحاجة الأمة إلى المشاريع التي لا يستطيعها الإنسان بمفرده كالمشاريع الصناعية، والتجارية، والعمرانية، والزراعية ونحوها.
لهذا أباح الله الشركة لتمكين الناس من سد حاجتهم، وتنمية أموالهم، خاصة في المشاريع الكبرى التي يتعذر على الإنسان أن يقوم بها بمفرده.
والشركة سبب لحصول البركة، ونماء المال، إذا قامت على الصدق، والأمانة، والسماحة، والتراضي، والكسب الحلال.
- حكم الشركة:
الشركة عقد جائز، أباحها الله تيسيراً على العباد في تحصيل الأرزاق، وتصح مع المسلم وغيره، فتجوز مشاركة الكافر بشرط ألا ينفرد الكافر بالتصرف من دون المسلم، فيتعامل بما حرم الله كالربا والغش، والتجارة فيما حرم الله من خمر وخنزير، وصور وأصنام ونحو ذلك.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].

(3/558)


2 - وقال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12].
3 - وَعَنِ السَّائِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كُنْتَ شَرِيكِي فِي الجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لاَ تُدَارِينِي وَلاَ تُمَارِينِي. أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
- أنواع الشركة:
تنقسم الشركة إلى قسمين:
الأول: شركة أملاك:
وهي أن يشترك اثنان فأكثر في استحقاق مالي كالاشتراك في تملك عقار، أو مصنع، أو سيارة ونحو ذلك.
وهذا القسم نوعان:
1 - شركة اختيار: وهي التي تنشأ بفعل الشريكين، مثل أن يشتريا شيئاً من عقار أو منقول، فيكون مشتركاً بينهما شركة ملك.
2 - شركة جبر: وهي التي تثبت لشخصين فأكثر بغير فعلهما، كأن يرث اثنان شيئاً، فيكون الموروث مشتركاً بينهما شركة ملك.
وحكم هذه الشركة بنوعيها:
أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، فإن تصرف نفذ في نصيبه فقط، إلا أن يجيزه صاحبه فينفذ في الكل.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4836) وأخرجه ابن ماجه برقم (2287) وهذا لفظه.

(3/559)


الثاني: شركة عقود:
وهي اجتماع في التصرف كالاجتماع في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك.
وهذا القسم هو المراد هنا.
وفي شركة العقود ينفذ تصرف كل واحد من الشريكين بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه.
وتنقسم شركة العقود إلى خمسة أقسام:
شركة المضاربة .. وشركة الوجوه .. وشركة العِنان .. وشركة الأبدان .. وشركة المفاوضة.
1 - شركة المضاربة:
هي أن يدفع أحد الشريكين مالاً للآخر فيتَّجر به بجزء معلوم مشاع من ربحه كالربع، أو الثلث ونحوهما، والباقي لصاحب المال، وإن خسر المال بعد التصرف جُبر من الربح، وليس على العامل شيء، وإن تلف المال بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه العامل المضارب.
والمضارب أمين في قبض المال .. ووكيل في التصرف .. وأجير في العمل .. وشريك في الربح.
- حكمة مشروعية المضاربة:
أباح الله عز وجل المضاربة تيسيراً على الناس في كسب الرزق، فقد يملك الإنسان المال، ولا يملك القدرة على تنميته، ويملك غيره القدرة على الاستثمار، ولكنه لا يملك المال.
من أجل هذا أباح الإسلام هذه المعاملة، ليستفيد كل واحد منهما، فرب

(3/560)


المال ينتفع بخبرة المضارب، والمضارب ينتفع بالمال، ويحصل لهما الربح معاً، هذا بماله، وهذا بجهده.
- حكم المضاربة:
المضاربة عقد جائز، وتسمى قراضاً ومعاملة.
وقد ضارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة رضي الله عنها بمالها، وسافر به إلى الشام قبل أن يبعث، وربح فيه.
وقد كان معمولاً بها في الجاهلية، ولما جاء الإسلام أقرها.
- شروط المضاربة:
يشترط لصحة المضاربة ما يلي:
1 - أن يكون كلٌّ من رب المال والمضارب أهلاً للتصرف.
2 - أن يكون رأس المال معلوم المقدار.
3 - أن يكون رأس المال عيناً حاضرة لا ديناً.
4 - أن يسلم رأس المال إلى العامل المضارب.
5 - أن يكون الربح لكل منهما معلوم المقدار.
6 - أن يكون الربح جزءاً مشاعاً من المال كالربع أو النصف مثلاً.
- حكم فسخ المضاربة:
تنفسخ المضاربة بما يلي:
1 - إذا فقدت المضاربة شرطاً من شروط الصحة، فإن اتجر المضارب بالمال، فالربح للمالك، وللمضارب أجرة مثله، وما كان من خسارة فهي على
المالك.

(3/561)


2 - موت العامل أو رب المال أو جنونه، فإن تصرف العامل المضارب بعد علمه بموت المالك، وبغير إذن الورثة، فهو غاصب، وعليه الضمان، وإن ربح المال فالربح بينهما.
3 - أن يتعدى المضارب أو يقصر في حفظ المال، أو يفعل شيئاً يتنافى مع العقد.
4 - الحجر على أحدهما لسفه أو إفلاس.
- أركان المضاربة:
أركان المضاربة أربعة:
رب المال، المضارب -وهو العامل-، المال، الصيغة -وهي الإيجاب والقبول حسب العرف-.
- حكم اختلاف المالك والمضارب:
1 - إذا اختلف المالك والمضارب في التصرفات، ولم تكن بينة فيُقبل قول من يدعي العموم؛ لأنه الذي يتفق مع عقد المضاربة.
2 - إن اختلفا في تلف المال، ولم تكن بينة، فادعاه المضارب، وأنكره رب المال، فالقول قول المضارب؛ لأنه أمين.
3 - إن اختلفا في رد المال، فادعاه المضارب، وأنكره رب المال، ولم تكن بينة، فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل عدم الرد، ولأن المضارب قبض المال لنفع نفسه كالمستعير.
4 - إن اختلفا في قدر رأس المال، ولم تكن بينة، فيقبل قول المضارب؛ لأنه القابض.
5 - إن اختلفا في مقدار الربح، ولم تكن بيبنة، فيقبل قول المضارب؛ لأنه أمين،

(3/562)


وإن اختلفا في أصل الربح، ولم تكن بينة صُدِّق المضارب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الربح.
6 - إن اختلفا في صفة رأس المال هل هو مضاربة، أو وديعة، أو بضاعة، ولم تكن بينة، فالقول قول رب المال؛ لأن الشيء المدفوع ملكه، وهو أعلم بصفة خروجه منه.
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنّ اليَمِينَ عَلَى المُدّعَى عَلَيْهِ». متفق عليه (1).
2 - شركة الوجوه:
وهي أن يشترك وجيهان عند الناس، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن يشتريا بالنسيئة، ويبيعا بالنقد، بمالهما من وجاهةٍ عند الناس، وما رَزَق الله من ربح فهو بينهما، وما حصل من خسارة فهو عليهما.
وكل واحد منهما وكيل صاحبه، وكفيل عنه في البيع والشراء والتصرف.
وسميت بشركة الوجوه؛ لأنه لا يباع بالنسيئة إلا لوجيه من الناس، وتسمى شركة الذمم، وهي مباحة.
3 - شركة العِنَان:
هي أن يشترك اثنان فأكثر ببدنيهما وماليهما المعلوم، ولو متفاوتاً، ليعملا فيه ببدنيهما، أو يعمل فيه أحدهما، ويكون له من الربح أكثر من الآخر حسب
الاتفاق بينهما.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2514) , ومسلم برقم (1711) , واللفظ له.

(3/563)


ويشترط أن يكون رأس المال معلوماً من كلٍّ منهما، ويكون الربح والخسارة على قدر مال كل واحد منهما حسب الاشتراط والتراضي.
وهذا النوع من الشركات هو السائد بين الناس؛ لأن شركة العِنان لا يشترط فيها التساوي في المال، ولا في التصرف، وهي مباحة.
4 - شركة الأبدان:
هي أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بأبدانهما، سواء كان الاشتراك في الحِرَف والمهن كالحدادة، والنجارة ونحوهما.
أو كان في المباح كالاحتطاب والاحتشاش، وما رَزَق الله فهو بينهما حسب الاتفاق والتراضي.
وتسمى شركة الأعمال، وشركة الصنايع، وشركة التقبل.
وهي جائزة؛ لأن المقصود منها التعاون في تحصيل الربح والرزق.
والشركة تكون بالمال أو بالعمل كما في المضاربة، وهي هنا بالعمل.
5 - شركة المفاوضة:
هي أن يفوض كل واحد من الشركاء إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني في الشركة بالبيع والشراء والتأجير ونحو ذلك.
فكل شريك في المفاوضة مطلق التصرف في رأس المال في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والضمان والتوكيل، والقرض والتبرع ونحو ذلك مما تحتاج إليه التجارة من تصرف، وتسمى الشركة المختلطة.
ويُلزم كل شريك بما يعمله شريكه، وتكون فيما تم عليه العقد من أموالهم.
والربح بينهما حسب الشرط، والخسارة على قدر ملك كل واحد منهم من

(3/564)


الشركة.
وهذه الشركة جائزة، وهي تجمع بين الشركات الأربع السابقة، وكلها جائزة؛ لما فيها من التعاون في كسب الرزق، وقضاء حوائج الناس، وتحقق العدل والمصلحة.
- فوائد الشركات الحلال:
للشركة الحلال منافع تعود على الشريكين معاً:
1 - أن شركة المضاربة والعنان والوجوه والأبدان خير وسيلة لتنمية الأموال، ونفع الأمة، وبسط الرزق، وتحقيق العدل.
فالعِنان مال وعمل من الطرفين .. والمضاربة مال من أحدهما، وعمل من الآخر .. والأبدان عمل منهما معاً .. والوجوه بما يأخذان بجاههما من الناس.
2 - بمثل هذه الشركات الحلال، والمعاملات المشروعة، يُستغنى عن الكسب الحرام كالربا الذي هو ظلم وأكل لأموال الناس بالباطل.
3 - بقيام مثل هذه الشركات تتسع دائرة الاكتساب في حدود المباح.
فقد أباح الإسلام للإنسان الاكتساب منفرداً، أو مشتركاً مع غيره، حسب ما ورد في الشرع.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
2 - وقال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ

(3/565)


فَضْلِ اللَّهِ} [المزَّمل:20].
- فقه إباحة الشركات:
أباح الشرع أنواع الشركات توسيعاً على الناس في معاملاتهم، وتنويعاً لطرق الكسب الحلال، وتحريكاً للأموال الراكدة، وتنمية لأموال العاجزين عن العمل، وتهيئة الفرصة للعاطلين عن العمل، وتحقيق مصالح الفرد والأمة، وسد أبواب الكسب المحرم.
- مبطلات عقد الشركات:
تبطل عقود الشركات بما يلي:
فسخ الشركة من أحد الشريكين .. موت أحد الشريكين .. جنون أحد الشريكين .. فقد أحد الشريكين وغَيبته مدة طويلة؛ لأن ذلك بمنزلة الموت.
- أركان الشركة:
أركان الشركة أربعة:
الشريكان، والمعقود عليه -وهو المال أو العمل-، والصيغة -وهي الإيجاب والقبول بحسب العرف-.
- شروط الشركات الحلال:
الشركات التي أباحها الشرع يشترط فيها ما يلي:
1 - أن يكون رأس المال معلوماً من كل شريك.
2 - أن يكون الربح مقسوماً قسمة مشاعة بين الشركاء حسب أموالهم إما بالنسبة 20%، 30% أو أقل أو أكثر، أو لأحدهما الربع أو الثلث، وللآخر الباقي
ونحو ذلك.

(3/566)


3 - أن يكون عمل الشركة في الأمور والأشياء المباحة شرعاً، فلا يجوز للمسلم المشاركة في شركة تزاول أعمالاً محرمة كتصنيع الدخان، أو المخدرات، أو الخمور، أو تتاجر فيها، أو دور القمار، أو شركات الأغاني، وإنتاج الأفلام الخبيثة، أو المصارف الربوية ونحو ذلك مما حرمه الله ورسوله.
- حكم استخدام اسم الشخص في التجارة:
إذا اتفقت إحدى الشركات مع شخص تستخدم اسمه ووجاهته، ولا تطالبه بمال ولا عمل، وتعطيه مقابل ذلك مبلغاً معيناً من المال، أو نسبة معينة من الربح مثلاً.
فهذا العمل غير جائز، والعقد غير صحيح؛ لما فيه من الكذب، والخداع، والغرر، والضرر، وفي الشركات السابقة غنية عنه.
- حكم مشاركة الكفار:
تجوز مشاركة المسلم أو الكافر في كل عمل مباح شرعاً، وتجوز مشاركة الكافر في تجارة أو عمل وإن كان يرابي في غيره.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَى خَيْبَرَ اليَهُودَ، عَلَى أنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2331) , واللفظ له، ومسلم برقم (1551).

(3/567)


الشركات المعاصرة
- أقسام الشركات المعاصرة:
تنقسم الشركات المعاصرة إلى قسمين:
شركات أشخاص .. وشركات أموال.
1 - شركات الأشخاص:
وهي الشركات التي تقوم على شخصية الشركاء، بصرف النظر عن المال الذي يقدمه كل شريك.
وهي ثلاثة أنواع:
1 - شركة التضامن:
وهي التي يعقدها اثنان فأكثر بقصد التجارة ويكون الشركاء فيها متضامنون في جميع أعمال الشركة على حد سواء.
وهي جائزة؛ لأنها تشبه شركة المفاوضة.
2 - شركة التوصية البسيطة:
وهي التي تُعقد بين شركاء بعضهم متضامنون، وبعضهم موصون، فجميعهم يقدمون المال، لكن المتضامنين يقومون بأعمال إدارة الشركة، والموصون ليس لهم علاقة بأعمال الشركة.
وهي جائزة؛ لأنها تشبه شركة العِنان والمضاربة.
3 - شركة المحاصة:
هي عقد يلتزم فيه شخصان فأكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي،

(3/568)


بتقديم حصة من المال أو العمل، ويقتسمان الربح، ويتحملان الخسارة على حسب ماليهما كالمشاركة في مزاد، أو صفقة وقتية، تُصفّى الأرباح في الحال وتنتهي.
وهذه جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من أنواع شركة العنان.
2 - شركات الأموال:
وهي الشركات التي تعتمد في تكوينها على عنصر المال، بقطع النظر عن شخصية الشريك.
وهي ثلاثة أنواع:
1 - شركة المساهمة:
وهي أهم أنواع شركات الأموال في هذا العصر.
والشركة المساهمة: هي التي يُقسم فيها رأس المال إلى أجزاء صغيرة متساوية، يطلق على كل منها سهم، يكون قابلاً للتداول، غير قابل للتجزئة كالشركات الصناعية والتجارية والزراعية ونحوها.
ويعتبر مدير الشركة وعمالها أُجَراء عند المساهمين، وتوزع الأرباح على الأسهم حسب رأس المال.
وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها شركة عِنان، لقيامها على أساس التراضي، ومجلس الإدارة وكيل عن الشركاء في التصرف.
2 - شركة التوصية بالأسهم:
وهي التي تضم نوعين من الشركاء: متضامنين، ومساهمين، والمساهمون
كالشركاء الموصين في شركة التوصية البسيطة، ويختلف المساهم عن

(3/569)


الموصي في أن الأول يملك أسهماً قابلة للتداول على عكس الثاني.
وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من شركات العنان، وعمل المتضامنين فيها خاضع لأحكام شركة المضاربة.
3 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة:
وهي شركة تجارية كباقي شركات الأموال، تجمع بين شركات الأموال والأشخاص، ففيها من شركات الأموال أن مسؤولية الشريك محدودة بمقدار حصته، ومن يديرها كالأجير.
وفيها من شركات الأشخاص أن الشريك يكون صاحب حصة في الشركة وليس مساهماً، ولا تكون حصص الشركاء قابلة للتداول كالأسهم، وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها تعتبر من شركة العِنان، وفيها بعض خصائص المضاربة.
- أنواع شركات الأموال:
الشركات التي طرحت أسهمها في الأسواق ثلاثة أنواع:
شركات حلال .. وشركات محرمة .. وشركات مختلطة.
1 - الشركات الحلال:
هي الشركات التي أصل نشاطها مباح، ولا تبيع أو تشتري المحرمات، ولا تتعامل بالربا كالشركات الزراعية، والصناعية، والتجارية ونحوها من الشركات المجازة شرعاً، فهذه تجوز المساهمة فيها، وبيع وشراء أسهمها، والاستثمار فيها.

(3/570)


2 - الشركات المحرمة:
وهي الشركات التي أصل نشاطها محرم، كالبنوك الربوية، والشركات التي تبيع الخمور والدخان أو تصنعها، أو التي تبيع وتشتري السلع المحرمة كالأفلام والصور ونحوها، فهذه الشركات لا تجوز المساهمة فيها، ولا البيع والشراء في أسهمها، ولا الاستثمار فيها.
3 - الشركات المختلطة:
وهي الشركات التي أصل نشاطها مباح، لكنها قد تمارس بعض الأنشطة المحرمة.
كالاقتراض من البنوك بالربا، أو إقراض البنوك بالربا ونحو ذلك، فهذه الشركات فيها حلال وحرام، فيجب اجتنابها؛ سلامة للكسب، وتشجيعاً للشركات الحلال، وهجراً للشركات المحرمة لتعود إلى الكسب الحلال.
1 - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
2 - وَعَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (وَأَهْوَى النّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَىَ أُذُنَيْهِ): «إنّ الحَلاَلَ بَيّنٌ وَإنّ الحَرَامَ بَيّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، فَمَنِ اتّقَى الشّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإنّ لِكُلّ مَلِكٍ حِمىً، أَلاَ وَإِنّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ وَإذَا
فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلبُ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) , ومسلم برقم (1599) , واللفظ له.

(3/571)


- حكم شراء الشركات المحرمة:
لا يجوز للمسلم شراء الأشياء المحرمة من شركات وغيرها؛ لما في ذلك من تعدي حدود الله، وتجاوز الحلال إلى الحرام.
أما شراء الشركات المحرمة بغرض تحويلها إلى شركات إسلامية مباحة، بتنقيتها من شوائب الربا، والعقود المحرمة والأشياء المحرمة لتكون الشركة أداة استثمارية مشروعة، فهذا جائز إذا أمكن التحويل في وقت قصير؛ لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، لما فيه من تحويل الحرام إلى حلال، ولما فيه من جلب المصالح، ودفع المفاسد.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].
- أنواع الأوراق التي يتعامل بها الناس:
الأوراق التي يتعامل بها الناس اليوم ثلاثة أنواع:
الأوراق النقدية .. الأوراق التجارية .. الأوراق المالية.
1 - الأوراق النقدية:
هي كل مال وُضع بين الناس ليكون وسيطاً للتبادل في السلع كالريال، والدرهم، والدينار، والجنيه، والدولار وغيرها من العملات النقدية.
2 - الأوراق التجارية:
وهي صكوك ثابتة قابلة للتداول بين الناس، وهي تمثل حقاً شخصياً
موضوعه: دفع مبلغ معين من النقود بموجبها لحاملها.
وهي نوعان: الشيكات .. والكمبيالات.

(3/572)


فالشيك: أمر مكتوب يطلب به صاحبه من البنك أن يدفع مبلغاً من المال لفرد أو شركة أو جهة ونحو ذلك.
والكمبيالة: صك محرر يتضمن أمراً من الساحب إلى المسحوب عليه بدفع مبلغ مسمى لحامل الصك في وقت محدد، ويسمى السند الإذني.
3 - الأوراق المالية: وهي نوعان:
1 - الأسهم:
وهي صكوك قابلة للتداول، تمثل الحصص التي يملكها الإنسان في الشركة، ويتكون رأس المال من هذه الأسهم، سواء كانت نقدية أو عينية.
2 - السندات:
وهي صكوك قابلة للتداول، تمثل قرضاً، تصدرها الحكومات والشركات عندما تستدين من الناس، ويعتبر حامله دائناً للشركة، ولا يعد شريكاً فيها، وهي محرمة؛ لما فيها من الربا.
وهذه الأوراق الثلاث كثيرة الشيوع والاستعمال في عصرنا الحاضر، وهي من فقه النوازل المستجدة، فلا بد من كشف أحوالها، وبيان أحكامها، ليكون المسلم على بينة منها؛ لئلا يقع في الحرام أو المشتبه وهو لا يعلم.
- الأسواق المالية (البورصة):
هي سوق منظمة للتعامل في الأوراق المالية من أسهم وسندات الحكومات والشركات، القابلة للتداول في البورصة، وفق ضوابط محددة.
وتعقد في مكان معين .. في أوقات دورية .. للتعامل بيعاً وشراءً بمختلف الأوراق المالية.

(3/573)


- أنواع البورصات:
1 - بورصة الأوراق المالية:
وهي التي تباع فيها الأسهم والسندات بسعر باتّ، أو بسعر البورصة.
2 - بورصة البضاعة الحاضرة:
وهي التي يتم التعامل فيها بناء على عيِّنة من البضاعة كالسيارات، والسجاد، والآلات ونحو ذلك، ثم يُدفع غالب الثمن عند العقد، والباقي عند التسليم.
أو يجري البيع فيها على سلع حاضرة بثمن مؤجل على سعر بات أو معلق، خلال فترة معينة.
3 - بورصة العقود:
وهي التي يتم فيها البيع لسلع غائبة بسعر بات مقرر، أو بسعر معلق على سعر البورصة، وهي بيع مقدور التسليم في المستقبل لا في الحال.
- مكان بيع الأوراق المالية:
بورصة الأوراق المالية ليست هي المكان الوحيد الذي تباع وتشترى فيه الأسهم والسندات، فقد تمت الآن مزاولة هذه التجارة من خلال شبكات الحاسب الآلي، على المستوى الإقليمي والعالمي.
- الفرق بين الأسهم والسندات:
1 - السهم نصيب من رأس مال الشركة، والسند دين على الشركة.
2 - حامل السهم شريك في الشركة التي أصدرته، وحامل السند دائن على
الشركة التي أصدرته.
3 - حامل السهم يحصل على ربح بحسب نسبة أرباح الشركة، ويخسر بحسب

(3/574)


خسارتها، وحامل السند يحصل على ربح ثابت في الموعد المحدد، سواء ربحت الشركة أو خسرت.
- أوجه التشابه بين الأسهم والسندات:
كل من السهم والسند يصدر بقيم متساوية .. ولا يقبل التجزئة .. ويمثل حقاً بموجب الصك .. ويمكن تداوله في السوق .. وكل منهما يدرّ دخلاً على صاحبه .. ويصدران عن طريق الاكتتاب العام .. ولكلٍّ منهما قيمة اسمية .. وسعر في السوق اليومي.
- أنواع بيع الأوراق المالية:
العمليات التي تتم في سوق الأوراق المالية نوعان:
العمليات العاجلة الفورية .. والعمليات الآجلة.
1 - العمليات الفورية:
يتم فيها بيع السهم وقبض قيمته فوراً، وهو كالبيع المعروف لغير السهم من السلع، يجوز بيعه وشراؤه في العمليات العادية والفورية كعروض التجارة؛ لأن الأصل جواز بيع الشريك حصته لشريكه أو لآخر، وهو حاصل في بيع الأسهم.
2 - العمليات الآجلة:
يتم فيها عقد الصفقة الآن، ولكن الدفع والتسليم يتمان فيما بعد في وقت معلوم.
فهذا البيع لا يجوز؛ لأنه من بيع الدين بالدين، لأن البائع للأسهم لا يسلمها للمشتري، والمشتري لا يدفع له الثمن، فقد تأجل الثمن والمثمن.

(3/575)


وهم غالباً لا يريدون البيع والشراء حقيقة، بل المراد المضاربة على ارتفاع الأسعار وانخفاضها فقط، وذلك من الميسر الذي حرمه الله عز وجل.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة:90].
- حكم التعامل المالي بالأسهم:
1 - القرض: يجوز إقراض كل عين يجوز بيعها، والأسهم عين يجوز إقراضها؛ لأنه يجوز بيعها، فإذا اقترض الإنسان خمسين سهماً من أي شركة، فعليه أن يرد خمسين سهماً من أسهم هذه الشركة، فيكون قد رد مثل ما أخذ تماماً.
2 - الرهن: يجوز رهن الأسهم؛ لأنه يجوز بيعها، فكل ما جاز بيعه جاز رهنه.
3 - الحوالة: تجوز الحوالة في الأسهم، فيحيل من عليه الدين من له الدين بالأسهم التي له على المحال عليه.
4 - المضاربة بالأسهم: الأسهم بذاتها عروض تجارة، والمضاربة بالنقد أو العروض جائزة، فيأخذ المضارب الأسهم من رب المال، ويبيع ويشتري بها بقصد الربح، والربح بينهما حسب الاتفاق، والخسارة على مالك الأسهم وهكذا في باقي المعاملات المالية الأخرى.
- خصائص الأسهم:
الأسهم صكوك مالية كالعروض قابلة للتداول والمتاجرة، فهي كعروض التجارة تزيد وتنقص حسب العرض والطلب.
وأسهم كل شركة متساوية القيمة، والمساهم لا يشارك الشركة في أنشطتها، وملكية السهم غير ملكية الشركة، فقد يرتفع نشاط الشركة وينزل سعر

(3/576)


السهم، ولذلك رِبْح السهم لا يعود للشركة، بل يعود لمشتري السهم، والسهم يمثل حقاً في الشركة، فمن ملكه فله أرباح من الشركة.
- حكم بيع وشراء الأسهم:
الأسهم من حيث الأصل جائزة، فهي نوع من الشركات والعروض والبيوع التي الأصل فيها الحل إذا توفرت فيها شروط البيع.
وما يجري في سوق الأسهم من البيع والشراء، والربح والخسارة بشكل سريع، فيه مخاطرة لا مقامرة، والمخاطرة من أجل الكسب جائزة، وهذا جار في جميع السلع، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنعها.
- حكم مزاولة البيع والشراء في الأسهم:
1 - يجوز لمالك الأسهم إذا كانت حلالاً أن يبيع ويشتري بها بنفسه، ويجوز له أن يوكل غيره بنسبة معلومة من الربح كالربع مثلاً، ويجوز أن يضارب بها مع غيره، بأن تكون الأسهم باسم شخص، والبيع والشراء بيد الآخر على نسبة معلومة من الربح كالربع أو النصف، أو بما تراضيا عليه.
2 - لا يجوز للإنسان أن يشتري أسهماً من شركة باسم غيره، سواء كان ذلك بعوض أو بدون عوض؛ لما في ذلك من الكذب والحيلة، ولما يسببه من النزاع في حال الربح أو الخسارة.
3 - يجوز أخذ المال للمتاجرة فيه بنسبة معينة من الربح كالثلث مثلاً، ولا يجوز أن يحدد مبلغاً مقطوعاً معيناً لمن أخذ منه المال، كأن يأخذ منه مائة ألف
ريال ويقول: أتاجر فيها وأعطيك كل شهر خمسة آلاف؛ لما فيه من الغرر، لأنه قد يربح وقد يخسر.

(3/577)


4 - إذا كانت الأسهم التي اشتراها محرمة وهو لا يعلم: فإن زادت فله أخذها؛ لأنه لا يعلم، لكن يبيعها فوراً، وإن نقصت انتظر حتى يعود إليه رأس ماله، ثم يخرج منها.
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة:279].
- حكم وقف الأسهم:
يجوز وقف الأسهم؛ لأنها أجزاء مشاعة من موجودات الشركة، مع ما تمثله من القيمة السوقية.
عَنْ كَعْب بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: «أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلتُ: فَإِنِّي أمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. متفق عليه (1).
- حكم الوصية بالأسهم:
الأسهم من الأموال، ويجوز للإنسان أن يوصي بثلث ماله فأقل، فإن كانت قيمة الأسهم حين موت الموصي أكثر من ثلث ماله توقف ما زاد على الثلث على إجازة الورثة، فإن أجازوه وإلا بطل ما زاد على الثلث.
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو
مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ». فَقُلتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ». ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ، أَوْ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2757) , واللفظ له، ومسلم برقم (2769).

(3/578)


أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ». متفق عليه (1).
- كيفية زكاة الأسهم:
1 - إذا تملك الإنسان أسهماً في شركة حلال للحصول على الأرباح السنوية، ويقصد الاستمرار فيها، ولا يقصد بتملكها المتاجرة فيها بيعاً وشراءً في سوق المال، فهذا يزكي بحسب مال الشركة من حيث الحول، والنصاب، ومقدار الواجب، ففي عروض التجارة ربع العشر من المال، وفي الزراعة العشر أو نصف العشر، وفي المواشي زكاة بهيمة الأنعام.
وإن كانت الشركات الزراعية والحيوانية تبيع السلع كعروض تجارة ففيها زكاة عروض التجارة ربع العشر من رأس المال السائل وأرباحه.
2 - إن كان المساهم اشترى الأسهم بقصد المتاجرة فيها بيعاً وشراءً في الأسواق المالية كالبضائع، فهذه فيها زكاة عروض التجارة ربع العشر من رأس المال والأرباح، والمعتبر في زكاة الأسهم هو قيمة السهم السوقية؛ لأنها عروض تجارة فتقوَّم بسعرها الحالي.
فإذا بلغت النصاب، وحال عليه الحول، أخرج زكاتها.
- حكم السندات:
السند: صك قابل للتداول، تصدره الحكومات أو الشركات عندما تستدين
من الناس، وتدفع بموجبه فائدة لمن أقرضها، مع بقاء رأس المال كاملاً، وصاحب السند يأخذ عليه فائدة معينة ثابتة كل سنة مثلاً، وهذا هو الربا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1295) , واللفظ له، ومسلم برقم (1628).

(3/579)


المحرم، بل قد جمع أنواع الربا الثلاثة: ربا الفضل .. وربا النسيئة .. وربا القرض.
فهو في أصله قرض جر نفعاً، وهذا هو ربا القروض.
وبناءً على ذلك:
تحرم جميع السندات مهما اختلفت مسمياتها، ما دامت سنداً يلتزم المُصدر له بموجبه أن يدفع لحامله القيمة الإسمية كاملة، مع فائدة ربوية متفق عليها.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران:130 - 132].
- حكم التعامل بالسندات:
السندات سلع ربوية محرمة، لا يجوز بيعها .. ولا شراؤها .. ولا المضاربة فيها .. ولا رهنها .. ولا وقفها .. ولا الوصية بها؛ وذلك لاشتمالها على عقد ربوي محرم جر نفعاً وهو الفائدة، ولا زكاة فيها؛ لأنها كسب خبيث، لكن تجب الزكاة في أصل الدين بدون الفائدة.

(3/580)


16 - الشفعة
- الشفعة: هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها بالثمن الذي استقر عليه العقد.
- حكمة مشروعية الشفعة:
الشفعة من محاسن الإسلام، شرعت لنفع الشريك، ودفع الضرر عنه؛ لأنه ربما يشتري نصيب شريكه عدو له، أو ذو أخلاق سيئة، أو ممن لا يرغب في جواره، فيحدث بسبب ذلك التباغض والتقاطع، ويتأذى الجار، وتزيد الفرقة والخلاف.
لهذا شرع الله الشفعة دفعاً للأذى والضرر.
- حكم الشفعة:
تجوز الشفعة للشريك في كل ما لم يُقسم من أرض، أو دار، أو حائط.
والشفعة حق للشريك، سواء كان مسلماً أو كافراً.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلا شُفْعَةَ. متفق عليه (1).
- محل الشفعة:
تثبت الشفعة للشريك في كل شيء لم يُقسم من أرض، أو دار، أو حائط، أو بئر، ويأخذ الشفيع المبيع بكل الثمن، فإن عجز عنه سقطت.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2257) , واللفظ له، ومسلم برقم (1608).

(3/581)


- أركان الشفعة:
أركان الشفعة أربعة:
شافع: وهو الآخذ .. ومشفوع عليه: وهو المأخوذ منه .. ومشفوع فيه: وهو العين المباعة .. والصيغة: وهي ما يدل من الشفيع على الأخذ.
- وقت الشفعة:
الشفعة حق للشريك تثبت له متى علم بالبيع، فإن أخرها بعد علمه بطلت شفعته؛ إلا أن يكون غائباً أو معذوراً فيكون على شفعته متى قدر عليها، وإن أمكنه الإشهاد على المطالبة بها ولم يشهد بطلت شفعته، وإذا مات الشفيع ثبتت الشفعة لورثته.
- شروط الشفعة:
يشترط لصحة الشفعة ما يلي:
1 - أن يكون المشفوع فيه لم يُقسم.
2 - أن يكون الشفيع شريكاً في المشفوع فيه.
3 - أن يُخرِج المشفوع فيه من ملك صاحبه بعوض مالي كالبيع.
4 - أن يطلب الشفيع الشفعة متى علم على الفور.
5 - أن يأخذ الشفيع جميع الصفقة بثمنها كله.
- حكم الحيلة لإسقاط الشفعة:
يحسن بالشريك إذا أراد بيع نصيبه أن يعرضه على شريكه.
ولا تجوز الحيلة لإسقاط الشفعة، كأن يقر لإنسان ببعض الملك، ثم يبيعه
الباقي.

(3/582)


ومن أسقط الشفعة بطرق كاذبة، وتمويهات باطلة فقد ظلم نفسه بارتكاب المعصية، وظلم الشفيع لحرمانه من حقه الذي أوجبه الله له، سواء كان ذلك قبل حصول البيع أو بعده.
ولو احتال لم تسقط؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، وإذا أسقطها بالاحتيال حصل الضرر.
- ما تسقط به الشفعة:
تسقط الشفعة بواحد مما يلي:
إذا عجز الشفيع عن دفع الثمن كله أو بعضه .. إذا تأخر الشفيع عن المطالبة بالشفعة بلا عذر .. بيع الشفيع ما يشفع به قبل العلم بالشفعة .. إذا انتقل نصيب الشريك إلى غيره بغير عوض كالإرث والهبة ونحوهما .. إذا مات الشفيع قبل أن يطلب الشفعة .. إذا أسقط الشفيع حقه في الشفعة.
- الحكم عند تزاحم الشفعاء:
إذا كان الشفعاء أكثر من واحد، وكل منهم يطلب الشفعة:
فإن كانوا من مرتبة واحدة كالشركاء في المبيع، يقسم العقار المشفوع فيه بين الشفعاء على قدر حصصهم منه؛ لأن الضرر داخل على كل واحد من الشركاء بحسب ما يملكه.
وإن لم يكن الشفعاء من مرتبة واحدة، فيقدم الشريك في المبيع أولاً، ثم الشريك في حق الارتفاق، ثم الجار الملاصق.
- حكم شفعة الجار:
الجار أحق بشفعة جاره، فإذا كان بين الجارين حق مشترك من طريق، أو ماء،

(3/583)


أو مسيل، تثبت الشفعة لكل منهما.
فلا يبيع أحدهما حتى يستأذن جاره، وإن باع من غير إذنه كان أولى بالمبيع من المشتري؛ لدفع الضرر والمفسدة.
1 - عَنْ أبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الجَارُ أحَقُّ بِسَقَبِهِ». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الجَارُ أَحَقُّ بشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً إِذا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِداً». أخرجه أبو داود وابن ماجه (2).
- حكم اختلاف الشفيع والمشتري:
إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، ولم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعلم بما اشتراه من الشفيع، وإن اختلفا في صفة الثمن، بأن قال المشتري: اشتريته بثمن معجل، وقال الشفيع: بل بثمن مؤجل، ولم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الحلول في الثمن أصل، ولأن العاقد أعرف بصفة الثمن من غيره، فكان القول قوله.
- حكم ما يطرأ على المشفوع فيه:
قد يطرأ على المشفوع فيه وهو في يد المشتري قبل القضاء بالشفعة للشفيع بعض التغيرات، كعقودٍ وتصرفاتٍ ناقلة للملكية كالبيع والهبة، أو مرتبة لحق انتفاع كالإجارة والإعارة ونحوهما، أو حصول زيادة كالبناء في الأرض
والغرس، أو حصول نقص كهلاك، وهدم، واحتراق.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2258).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3518) , وأخرجه ابن ماجه برقم (2494).

(3/584)


فكل العقود والتصرفات بعد طلب الشفيع الشفعة لا تصح؛ لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب، ولتعلق حق الغير بالمبيع.
وإذا نما المبيع عند المشتري، كأن أثمر الشجر، فإن كان النماء متصلاً كالشجر يكبر، فهو للشفيع؛ لأنه تبع للأصل.
وإن كان النماء منفصلاً كالثمرة، والأجرة، فهي للمشتري؛ لأنها حدثت في ملك المشتري، وإن كانت الزيادة محدَثة كالغرس، أو الزرع، أو البناء، ففي حالة الزرع تثبت الشفعة للشفيع، والزرع للمشتري، وعليه أجرة المثل إن تصرف بعد طلب الشفيع الشفعة، وأما في حالة البناء والغرس فللشفيع الأخذ بالشفعة، وللمشتري الحق في قلع الغرس، ونقض البناء.
وإن لم يختر المشتري القلع فالشفيع بالخيار بين ترك الشفعة، وبين دفع قيمة البناء والغرس وأخذ المشفوع فيه.
وإن نقص المشفوع فيه، فإن كان النقص جزءاً من توابع الأرض كقطف الثمرة، وهلاك الآلة، فإنه يُسقط من الثمن قيمة ما نقص، وإن كان النقص متصلاً بالأرض مثل يبس الشجر واحتراقه، وتهدم البناء، فإن كان بصنع المشتري نقص من الثمن بقيمة ما زال.
وإن حصل الضرر بآفة سماوية، فعلى الشفيع دفع الثمن كله؛ لأن النقص ليس بجناية أحد، وإن كان النقص في الأرض نفسها كأن أغرقها السيل، فللشفيع الخيار بين ترك الشفعة، وبين أخذ الباقي بحصته من الثمن.

(3/585)


- حكم الشفاعة:
الشفاعة: هي سؤال العون للغير، وتستعمل غالباً في سؤال الخير للغير.
- أقسام الشفاعة:
تنقسم الشفاعة إلى قسمين:
1 - الشفاعة الحسنة: وهي ما كانت في كل ما استحسنه الشرع.
كأن يشفع الإنسان لإزالة ضرر، أو تحصيل منفعة لمستحق، أو رفع مظلمة عن مظلوم ونحو ذلك.
فهذه الشفاعة محمودة، وصاحبها مأجور.
2 - الشفاعة السيئة: وهي ما كانت فيما حرمه الشرع.
كأن يشفع الإنسان في إسقاط حد شرعي، أو هضم حق لأحد، أو إعطاء حق لغير مستحقه ونحو ذلك.
فهذه مذمومة، وصاحبها آثم.
1 - قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} [النساء:85].
2 - وَعَنْ أبِي مُوسَى رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، قال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1432) , واللفظ له، ومسلم برقم (2627).

(3/586)


17 - المساقاة والمزارعة
- المساقاة: هي دفع شجر له ثمر إلى آخر ليقوم بسقيه بجزء معلوم مشاع من ثمره كالربع أو النصف ونحوهما، والباقي للمالك.
- المزارعة: هي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مشاع مما يخرج منها كالنصف أو الربع ونحوهما، والباقي لمالك الأرض.
- فضل المساقاة والمزارعة:
عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أوْ إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ». متفق عليه (1).
- حكمة مشروعية المساقاة والمزارعة:
الله عز وجل قسّم الأرزاق والطاقات بين الناس، فمن الناس من يملك الأرض والشجر، أو يملك الأرض والحب، ولكنه لا يستطيع سقيها والعناية بها، إما لعدم معرفته، أو لانشغاله، أو لعدم قدرته، ومن الناس من يملك القدرة على العمل، لكنه لا يملك الأرض والشجر.
فلمصلحة الطرفين أباح الإسلام المساقاة والمزارعة؛ عمارة للأرض، وتنمية للثروة، وتشغيلاً للأيدي العاملة التي تملك القدرة على العمل، ولا تملك المال والشجر.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2320) , ومسلم برقم (1553).

(3/587)


- حكم المساقاة والمزارعة:
1 - تجوز المساقاة والمزارعة بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الزرع والثمر كالنصف أو الربع ونحوهما.
والمساقاة والمزارعة عقد لازم، لا يجوز فسخهما إلا برضاهما.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. متفق عليه (1).
2 - لا تجوز المساقاة والمزارعة إذا كان النصيب معيناً من الثمر أو الزرع كالذي على الجداول أو السواقي، أو يحدد بقعة معينة من الزرع، أو نخلاً أو شجراً معيناً، أو يقول المالك هذه الجهة لي، وهذه الجهة لك، فهذه مزارعة ومساقاة مجهولة؛ لأنه لا يعلم عاقبة الأمر، فربما صح هذا، وتلف هذا، فمُنع من أجل جهالته وخطره، وهذه المزارعة تسمى المخابرة.
عَنْ حَنْظَلَة بن قَيْسٍ الأَنْصَارِيّ قَالَ: سَأَلتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بَأْسَ بِهِ. أخرجه مسلم (2).
وهذه المزارعة فاسدة ممنوعة، منهي عنها.
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُزَارَعَةِ.
أخرجه مسلم (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2328) , ومسلم برقم (1551) , واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1547).
(3) أخرجه مسلم برقم (1549).

(3/588)


- حكم الجمع بين المساقاة والمزارعة:
يجوز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستان واحد، بأن يساقيه على الشجر بجزء معلوم مشاع من الثمرة، ويزرعه الأرض بجزء معلوم مشاع من المزروع.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: عَامَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أوْ زَرْعٍ. متفق عليه (1).
- شروط المزارعة:
يشترط لصحة المزارعة ما يلي:
1 - أهلية العاقدين ورضاهما.
2 - صلاحية الأرض للزراعة.
3 - تسليم الأرض للعامل.
4 - بيان مَنْ عليه البذر منعاً للنزاع.
5 - بيان نصيب كل من العاقدين بجزء مشاع كالنصف أو الربع ونحوهما.
6 - معرفة جنس البذر وقدره.
- أحوال المزارعة:
للمزارعة أربعة أحوال هي:
1 - أن تكون الأرض والبذر من واحد، والعمل وآلة العمل من واحد.
2 - أن تكون الأرض لواحد، والبذر والعمل وآلة العمل من واحد.
3 - أن تكون الأرض والبذر وآلة العمل لواحد، والعمل من واحد.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2329) , واللفظ له، ومسلم برقم (1551).

(3/589)


4 - أن تكون الأرض وآلة العمل كالحراثة لواحد، والعمل والبذر من واحد.
وكل هذه الصور جائزة بين الطرفين متى حصل التراضي، وانتفى الجهل والغرر والضرر.
- ما يجوز به إجارة الأرض:
تجوز إجارة الأرض بالنقود .. وبالذهب والفضة .. وبجزء معلوم مشاع مما يخرج منها من ثمر، أو زرع كالنصف، أو الربع ونحوهما .. وبكل ما يعد مالاً.
1 - عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ؟ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، ِ قَالَ: فَقُلتُ أَبِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ؟ فَقَالَ: أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ فَلا بَأْسَ بِهِ. أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَى خَيْبَرَ اليَهُودَ، عَلَى أنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا. متفق عليه (2).
- حكم المساقاة والمزارعة مع الكفار:
المساقاة والمزارعة من عقود المعاوضة التي تجوز مع المسلم والكافر بشروطها الشرعية المعتبرة.
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
شَطْرُ ثَمَرِهَا. متفق عليه (3).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1547).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2331) , واللفظ له، ومسلم برقم (1551).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2285) , ومسلم برقم (1551) , واللفظ له.

(3/590)


- عقوبة التوسع في الأعمال:
عَنْ أبِي أمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -وَرَأى سِكَّةً وَشَيْئاً مِنْ آلَةِ الحَرْثِ- فَقالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلا أدْخَلَهُ اللهُ الذُّلَّ». أخرجه البخاري (1).
- فضل المواساة في المزارعة:
الأفضل للمسلم مواساة أخيه المحتاج، فإذا ملك أرضاً وهو لا يريد أن يزرعها فالأحسن أن يعطيها لأخيه ليزرعها وله أجرها وثوابها.
1 - عَنْ جَابِرٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أرْضٌ فَليَزْرَعْهَا، أوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَليُمْسِكْ أرْضَهُ». متفق عليه (2).
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُما أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى أرْضٍ تَهْتَزُّ زَرْعاً، فَقال: «لِمَنْ هَذِهِ؟». فَقالوا: اكْتَرَاهَا فُلانٌ، فَقال: «أمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ، كَانَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أجْراً مَعْلُوماً». متفق عليه (3).
- صفة الزراعة في الجنة:
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَوْماً يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ البَادِيَةِ: «أنَّ رَجُلا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقال لَهُ: ألَسْتَ
فِيمَا شِئْتَ؟ قال: بَلَى، وَلَكِنِّي أحِبُّ أنْ أزْرَعَ، قال: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ،
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2321).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2340) , واللفظ له، ومسلم برقم (1536).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2634) , واللفظ له، ومسلم برقم (1550).

(3/591)


فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ». أخرجه البخاري (1).
- حكم المغارسة:
المغارسة: هي أن يدفع الرجل أرضه لمن يغرس فيها شجراً أو نخلاً، ويكون للعامل نصيب مقدر من الأرض والشجر كالربع والنصف ونحوهما.
وهي جائزة إذا حصل التراضي، وانتفى الجهل والغرر.
- حكم بيع المحاقلة والمخاضرة والمخابرة:
1 - المحاقلة: بيع الحب بعد اشتداده في سنبله بحب من جنسه مُصفى.
وهذه الصورة محرمة؛ لما فيها من الجهالة والربا.
2 - المخاضرة: هي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها مع عدم القطع في الحال.
وهذه الصورة محرمة؛ لما فيها من الجهالة والغرر.
3 - المخابرة: هي أن يكري الأرض، ويكون لصاحب الأرض جانب معين من الزرع، وللمزارع الجانب الآخر.
وهذه هي المزارعة الفاسدة، وهي محرمة؛ لما فيها من الجهالة والضرر.
1 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُخَابَرَةِ وَالمُحَاقَلَةِ، وَعَنِ المُزَابَنَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَأنْ لا تُبَاعَ
إِلا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلا العَرَايَا. متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّهُ قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُحَاقَلَةِ،
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2348).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2381) , واللفظ له، ومسلم برقم (1536).

(3/592)


وَالمُخَاضَرَةِ، وَالمُلامَسَةِ، وَالمُنَابَذَةِ، وَالمُزَابَنَةِ. أخرجه البخاري (1).
- حكم منع فضل الماء:
يجب على المسلم إذا استغنى عن بعض الماء أن يعطيه لأخيه المحتاج.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلأ». متفق عليه (2).
- فضل سقي الماء:
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْراً فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلبٍ يَلهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقال: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأ خُفَّهُ ثُمَّ أمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الكَلبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أجْراً؟ قال: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ». متفق عليه (3).
- حكم من منع ابن السبيل الماء:
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَا، فَإِنْ
أعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أقَامَ سِلعَتَهُ بَعْدَ العَصْرِ فَقال: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ أعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ». ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. متفق عليه (4).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2207).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2354) , واللفظ له، ومسلم برقم (1566).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2363) , واللفظ له، ومسلم برقم (2244).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2358) , واللفظ له، ومسلم برقم (108).

(3/593)


18 - إحياء الموات
- الأرض الموات: هي الأرض التي لا مالك لها، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم.
فالاختصاصات كالطرق، والمقابر، والحدائق، ومسايل المياه ونحو ذلك من المرافق العامة.
والإنسان المعصوم: هو المسلم أو الكافر المالك للأرض بسبب شرعي من شراء، أو إرث ونحوهما.
- أقسام الملك:
ينقسم الملك إلى قسمين:
الأول: الملك التام: وهو ملك رقبة الشيء ومنفعته كملك الأرض، ولصاحبه مطلق التصرف فيه بالبيع، أو الهبة، أو الوقف ونحو ذلك.
الثاني: الملك الناقص: وهو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها.
- أقسام الملك الناقص:
الملك الناقص ثلاثة أنواع:
1 - ملك العين فقط: وهو أن تكون العين مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر كأن يوصي أحد لآخر بسكنى داره مدة حياته، أو مدة خمس سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي عادت الدار للورثة بعد انتهاء المدة.
2 - ملك المنفعة الشخصية: كالإعارة .. والإجارة .. والوقف .. والوصية .. والإباحة.

(3/594)


وحق الانتفاع حق مؤقت ينتهي بانتهاء مدة الانتفاع، أو هلاك العين المنتفع بها، أو تعيبها بعيب يعطل المنفعة منها.
3 - ملك المنفعة العيني: وهو حق مقرر لمنفعة عقار آخر مملوك لغير مالك العقار الأول، وهو حق دائم ما بقي العقاران مثل: حق الشرب .. وحق المجرى .. وحق المسيل .. وحق المرور .. وحق الجوار .. وحق العلو.
وهذه الحقوق تبقى ما لم يترتب على بقائها ضرر بالغير، فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها.
- أسباب الملك التام:
مصادر التملك في الإسلام أربعة، وهي:
تملك المباح .. والعقود الناقلة للملكية .. والخلفية كالإرث والتضمين .. والتولد من الشيء المملوك كالثمر في الشجر، والزرع في الأرض، وتكاثر الأشجار.
- صور تملُّك المباح:
تملُّك المباح له أربع حالات هي:
1 - إحياء الموات:
الموات: كل ما ليس بمملوك من الأرض لا يُنتفع به، وإحياء الأرض الموات بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء، والغرس، والزرع ونحو ذلك.
2 - الاصطياد:
الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد، بصيد الطيور، أو الحيوانات، أو السمك.

(3/595)


3 - الاستيلاء على الكلأ والأشجار:
الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في الأرض بغير زرع ترعاه البهائم، والكلأ لا يُملك وإن نبت في أرض مملوكة، والناس شركاء فيه.
وأما الأشجار الكثيفة فإن كانت في أرض غير مملوكة فلا يجوز لأحد منع الناس منها، وإن كانت في أرض مملوكة فهي ملك لصاحب الأرض.
4 - الاستيلاء على المعادن والكنوز:
المعادن: هي ما خلقه الله في باطن الأرض كالحديد والنحاس، والذهب والفضة وغير ذلك من المعادن.
والمعادن تُملك بملك الأرض، فمن ملك أرضاً فله جميع ما فيها وما عليها.
والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الأرض من الأموال، سواء كان في الجاهلية أو في الإسلام، ويسمى الركاز.
فالكنز الإسلامي: يجوز تملُّكه، فإن ظهر صاحبه وجب ضمانه.
والكنز الجاهلي: خُمسه لبيت المال، والباقي لواجده.
- العقود الناقلة للْمِلْكِيَّة:
أهم أسباب التملك: هي العقود الناقلة للملكية كالبيع، والهبة، والوصية.
وهذه أهم مصادر التملك، وأكثرها وقوعاً في التعامل بين الناس.
- أنواع التملك الخلفية:
الخلفية: هي أن يَخْلف الإنسان غيره فيما كان يملكه، وهي نوعان:
1 - الإرث: وهو ما يتركه الميت من أموال لورثته.
2 - التضمين: وهو ما يجب على من أتلف شيئاً لغيره كمن غصب شيئاً فتلف، أو

(3/596)


ألحق ضرراً بغيره كالدية في النفس والأعضاء، فيضمن ذلك كله، ويتملكه من له الحق.
- أقسام الأرض الموات:
الأرض الموات قسمان:
الأول: ما كان من الأرض من المرافق العامة تستعمل مرعى للمواشي .. أو محتطباً لأهل البلد .. أو مقبرة لموتاهم .. أو مصلى لعيدهم .. أو مكاناً لنزهتهم .. أو مكان الملح، أو القار، أو الطين ونحو ذلك مما لا يستغني عنه المسلمون في كل بلد، فهذه المرافق لا يجوز لأحد تملكها، ولا يجوز إقطاعها؛ لما يترتب على ذلك من الإضرار بالمسلمين.
الثاني: ما لا يملكه أحد ولا ينتفع به من الأراضي البور، فهذه يجوز إحياؤها ببناء، أو غرس، أو زرع، أو حفر بئر، أو تفجير ماء، لتكون صالحة ينتفع بها الناس.
- فضل إحياء الموات:
عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أوْ إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ». متفق عليه (1).
- حكمة مشروعية إحياء الموات:
إحياء الموات فيه مصالح كثيرة.
فيه تتسع دائرة الرزق .. وينتفع المسلمون بما يخرج منه من طعام وغيره ..
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2320) , واللفظ له، ومسلم برقم (1553).

(3/597)


ومن زكاة تفرق على المساكين.
والله عز وجل يحب من عباده أن يتوسعوا في العمران، وينتشروا في الأرض، ويُحيوا مواتها، ويستثمروا خيراتها، وينتفعوا ببركاتها، وبذلك تكثر ثرواتهم، ويستغنوا عما سواهم، وتسهل عليهم مواساة فقرائهم، والإنفاق على أعمال البر.
قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة:10].
- ما يصح إحياؤه:
يباح إحياء كل موات ليس لأحد قليلاً كان أو كثيراً، ويباح إحياء موات الحرم المكي، كما يملك عامره بالبيع وغيره، لكن لا يجوز إحياء مشاعر الحج منى ومزدلفة وعرفات؛ لأنها مشاعر كالمساجد لا يجوز تملكها.
- حكم إحياء الموات:
يجوز إحياء الأرض الميتة التي ليست لأحد، ولا ينتفع بها أحد.
فمن أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد فهي له، سواء كان مسلماً أو ذمياً، وسواء كان بإذن الإمام أو عدمه، وسواء كانت في دار الإسلام أو غيرها، وسواء كانت كبيرة أو صغيرة، ما لم تتعلق بمصالح المسلمين كمكان الرعي والاحتطاب، والمقبرة ونحو ذلك فلا تملك بالإحياء.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أعْمَرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ». أخرجه البخاري (1).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2335).

(3/598)


2 - وَعَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحْيَى أَرْضاً مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ». أخرجه أحمد والترمذي (1).
- شروط إحياء الموات:
يشترط لصحة إحياء الموات ما يلي:
1 - أن يكون الموات ليس ملكاً لأحد، وليس من اختصاص أحد.
2 - ألا تكون أرض الموات مرتفقاً لأهل البلد كمرعى، ومحتطب، ومناخ إبل، ومطرح رماد، فلا يجوز إحياؤها.
- كيفية إحياء الأرض الموات:
الإحياء الذي يملك به الإنسان الأرض يختلف بحسب المقصود من الأرض، وبحسب اختلاف أعراف البلدان، فيرجع فيه إلى العرف والمقصود، فإحياء كل شيء بحسبه وعرف بلده.
فإحياء الموات للسكن يكون بتحويط البقعة باللبِن، وسقف بعض الأرض، وإكمال ما يلزم للسكن عادة.
وإحياء الموات مزرعة يكون بتحويط الأرض، وتسويتها، وإيجاد الماء، والغرس ونحو ذلك، ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس، وإحياء الموات المغمور بالماء بكون بحبسه ونزحه، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة.
وإحياء الموات المملوء بالحجارة أو الحفر يكون بنقل الحجارة منه، وتسوية الأرض، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (14271) , والترمذي برقم (1379) , وهذا لفظه.

(3/599)


ومن حفر بئراً، فوصل ماءها فقد أحياها، وله حماها ومرافقها المعتادة إذا كان ما حولها مواتاً .. وهكذا.
ويُرجع في ذلك كله إلى العرف، فما عده الناس إحياءً فإنه تُملك به الأرض الموات، فمن أحياها إحياءً شرعياً ملكها بجميع ما فيها، كبيرة كانت أو صغيرة.
وإن عجز عن إحيائها فللإمام أخذها وإعطاؤها لمن يقدر على إحيائها، واستثمار منافعها.
- حكم استئذان الإمام في الإحياء:
يجوز تملُّك الأرض الموات بالإحياء وإن لم يأذن فيه الإمام؛ لأن إحياء الأرض مباح كالصيد والكلأ والماء، فلا يشترط فيه إذن الإمام، لكن إن كثر النهب وخُشي الفساد والنزاع فللإمام تنظيمه بما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة، فلا ضرر ولا ضرار.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أعْمَرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ». أخرجه البخاري (1).
- حكم من أحيا أرض غيره دون علمه:
إذا أحيا الإنسان أرضاً فبان أنها مملوكة لأحد خُيِّر مالكها، فإما أن يسترد ممن أحياها أرضه، بعد أن يؤدي إليه أجرة عمله، وإما أن يحيل إليه حق الملكية بعد أخذ ثمنها منه.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2335).

(3/600)


- حكم تحجير الأرض الموات:
التحجر لا يفيد التملك، وإنما يفيد الاختصاص والأحقية من غيره كأن يحيط الأرض بأحجار، أو شبك، أو خندق، أو بحاجز ترابي، أو بجدار ليس بمنيع .. أو يحفر بئراً ولا يصل إلى الماء .. أو يبني الجدار من جهة دون الجهات الأخرى ونحو ذلك، فهذه التحجرات لا تفيد التملك، وإنما تفيد اختصاصه بها دون غيره؛ لأن الملك بالإحياء، وهذا ليس بإحياء، لكن يصير أحق الناس به، فمن فعل ذلك ضرب له ولي الأمر مدة لإحيائها، فإن أحياها إحياءً شرعياً وإلا نزعها من يده، وسلمها لمتشوِّف لإحيائها.
- حكم ما ينحدر سيله إلى أرض مملوكة:
الأرض الموات التي ينحدر سيلها إلى أرض مملوكة هي تبع لها على وجه الاختصاص، لا يسوغ إحياؤها ولا إقطاعها لغير أهل الأرض المملوكة إلا بإذنهم؛ رعاية للمصلحة، ودفعاً للضرر.
- ما لا يصح إحياؤه:
يشترط لصحة إحياء الموات أن تكون الأرض مواتاً، لم يجر عليها ملك معصوم، ومنفكة عن الاختصاصات.
فلا يصح إحياء الأرض المملوكة .. ولا الأرض المختصة بتحجير .. ولا مصالح ومرافق المكان العامر المجاور .. ولا ما يتعلق بمصالح البلد من طرق وشوارع، وحدائق ومقابر، ومسايل المياه ونحو ذلك.
فلا يصح إحياء ذلك كله، قَلَّ أو كثر؛ لفقده شرط الإحياء.

(3/601)


- ما لا يصح الاختصاص به:
الماء والكلأ والنار من الأشياء الضرورية للناس، فيجب أن تبقى مشاعة مباحة مبذولة لعامة المنتفعين منها، ولا يجوز لأحد أن يختص بها، ويَمنع منها المحتاج إليها.
1 - الماء: فلا يصح تملك ماء السماء، وماء العيون، وماء الأنهار، ولا يجوز ولا يصح بيعه؛ لأن الناس شركاء فيه.
فإذا حازه الإنسان في بِرْكته، أو قِرْبته، أو في خزان، أو إناء، فيجوز بيعه.
2 - الكلأ: وهو الحشيش، سواء كان رطباً أو يابساً، وهو نبات البر، وعلف البهائم، فلا يصح بيعه، ولا يجوز منع الناس منه؛ لأن الناس شركاء فيه.
فإذا جمعه وحصده تملَّكه، وجاز بيعه.
3 - النار: وهي من الأشياء المشاعة بين الناس، فلا يجوز بيعها، وإنما يجب بذلها لمحتاجها، سواء في ذلك وقودها كالحطب، أو جذوتها كالقَبَس.
فهذه الثلاثة من المرافق العامة التي يجب بذلها، ويحرم منعها؛ لأن الله أشاعها بين خلقه، والضرورة تدعو إليها.
- حكم التعدي على حق الغير:
يحرم على الإنسان الاعتداء على حق غيره بأي وجه.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أرَضِينَ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ عَبداللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أخَذَ مِنَ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2453) , واللفظ له، ومسلم برقم (1612).

(3/602)


الأَرْضِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أرَضِينَ». أخرجه البخاري (1).
- حكم الإقطاع:
الإقطاع: هو إعطاء الإمام أرضاً مواتاً لمن يراه أهلاً لذلك.
والإقطاع ثلاثة أقسام:
1 - إقطاع يُقصد به تمليك الشخص أرضاً، أو عيناً، أو معدناً.
2 - إقطاع استغلال بأن يُقطِع الإمام من يرى في إقطاعه مصلحة لمدة معلومة.
3 - إقطاع إرفاق، كأن يُقطِع الإمام الباعة الجلوس في الطرق الواسعة، والأسواق المزدحمة بأهل البيع والشراء.
فكل هذه الأقسام جائزة، ولا يُقطِع الإمام كل فرد إلا الشيء الذي يقدر على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم، ولا يُقطِع ما تعلقت به مصالح المسلمين كالملح، والنهر ونحوهما.
1 - عَنْ وَائِلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَهُ أَرْضاً بحَضْرَمُوتَ. أخرجه أبو داود والترمذي (2).
2 - وَعَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: كُنْتُ أنْقُلُ النَّوَى مِنْ أرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. وَقال أبُو ضَمْرَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أبِيهِ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ الزُّبَيْرَ أرْضاً مِنْ أمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. متفق عليه (3).
_________
(1) أخرجه البخاري (2454).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3058) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1381).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3151) , واللفظ له، ومسلم برقم (2182).

(3/603)


- حكم الحِمَى:
الحمى: أن يحمي الإمام مكاناً خاصاً لمصلحة المسلمين.
كأن يحمي مرعىً لخيل المجاهدين، وإبل الصدقة، والماشية الضعيفة، ومكان الملح، ويجوز للإمام حمى ما فيه مصلحة المسلمين، ولا يجوز الحمى لأحد سواه، ولا حمى الإمام لنفسه.
وما حماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس لأحد نقضه، ولا تغييره، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه، وما حماه غيره من الأئمة لمصلحة المسلمين فلا يجوز نقضه إلا إذا زالت الحاجة إليه.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب:36].
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا حِمَى إِلا للهِ وَلِرَسُولِهِ». وَقال: بَلَغَنَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَى النَّقِيعَ، وَأنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ. أخرجه البخاري (1).
- حكم الحريم:
الحريم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور من الأرض. وهو كل ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق.
كحريم البئر، وفناء الدار، والطريق، ومسيل الماء، والمحتطب، والمرعى، ومطرح الرماد ونحو ذلك من المرافق.
ومقدار الحريم: يكون بحسب العرف والحاجة، وذلك يختلف باختلاف
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2370).

(3/604)


العين المملوكة من أرض، أو بئر، أو شجر، أو نهر أو سوق ونحو ذلك.
- حكم إحياء الحريم:
لا يجوز إحياء حريم الأرض العامرة قبل الإحياء؛ لأنه تابع للعامر فلا يُملك، وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه، ولصاحب العامر أن يمنع غيره من إحياء حريم ملكه، فإن كانت الأرض المملوكة محاطة من جميع الجوانب بأملاك وطرق فهذه ليس لها حريم، بل كلٌّ يتصرف بملكه فقط.
وإن كان ما حول ملكه موات فله إحياء حريم أرضه، وهو أحق به من غيره؛ لتعلق مصالح أرضه به.
- حق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو حق عيني في عقار لمنفعة عقار آخر لغيره كإجراء الماء مع أرض الجار، أو المرور في أرض الغير ونحو ذلك، ويجب ألا يؤدي استعمال حق الارتفاق إلى الإضرار بالغير، فلا يجوز للمار بأرض غيره إلحاق الأذى به.
وحقوق الارتفاق نوعان:
1 - الأملاك العامة كالأنهار، والطرق، والجسور ونحوها مما لا يختص به أحد، فحق الارتفاق ثابت للناس جميعاً.
2 - الأملاك الخاصة بفرد لا يثبت حق الارتفاق عليها إلا بإذن المالك.

(3/605)


- أنواع حقوق الارتفاق:
حقوق الارتفاق تختلف بحسب حاجات الناس، وأشهرها:
حق الشرب، حق الطريق، حق المسيل، حق التعلي، حق الجوار، حق المجرى، فهذه الأشياء يثبت لكل أحد حق الارتفاق بها كل بحسبه.
ويجب على الإمام الإنفاق على المرافق العامة من خزانة الدولة، تحقيقاً لمصلحة الناس، ودفعاً للضرر عنهم.
فإن لم يكن في بيت المال ما يُصلح به ما فسد منها أجبر الإمام الناس على إصلاحها؛ دفعاً للضرر، على القادرين النفقة، وعلى غير القادرين العمل بأنفسهم، ونفقتهم على الأغنياء.
وتجب نفقات إصلاح المسيل والمجرى على المنتفع به إذا كان في ملكه أو ملك غيره، فإن كان في أرض عامة فإصلاحه من بيت المال.
والمجرى مكان جلب الماء الصالح، والمسيل مكان تصريف الماء غير الصالح.
- مقدار الطريق عند الاختلاف:
تختلف سعة الطرق بحسب الحاجة إليها، ومن يمر بها من الناس، والسيارات، والبهائم، وإذا اختلف الناس في الطريق فأقله سبعة أذرع.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أذْرُعٍ. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2473) , واللفظ له، ومسلم برقم (1613).

(3/606)


19 - المسابقة
- المسابقة: هي السباق بين اثنين أو أكثر.
والسَّبْق: بلوغ الغاية قبل غيره.
- حكمة مشروعية المسابقة:
شرع الإسلام المسابقة لما فيها من المرونة، والتدرب على الكر والفر، وتقوية الأجسام، والصبر والجلد، وتهيئة الأبدان والأعضاء للجهاد في سبيل الله.
- حكم المسابقة:
المسابقات ثلاثة أقسام:
1 - المسابقة في الإبل والخيل والرمي.
فهذه تجوز بعوض؛ لما فيها من مصلحة الاستعداد للجهاد في سبيل الله.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
2 - المسابقة بالمحرمات كالقمار والنرد والشطرنج ونحوها.
وهذه لا تجوز سواء كانت بعوض، أو بغير عوض.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة:90].
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (2574) , وأخرجه الترمذي برقم (1700) , وهذا لفظه.

(3/607)


2 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ». أخرجه مسلم (1).
3 - المسابقة على الأقدام والدراجات ونحوها.
كالمصارعة والسباحة وغيرها مما لا يشغل عن طاعة، ولا يجر إلى مفسدة، ولا يترتب عليه ضرر، فهذه جائزة بلا عوض؛ ترويحاً للنفس.
ويجوز أن يعطى الفائز جائزة أو عوضاً غير محدد ولا مسمى؛ تشجيعاً له.
- شروط المسابقة:
1 - أن تكون الوسيلة التي يسابق عليها من نوع واحد.
2 - أن تكون المسافة معلومة.
3 - أن يكون العوض مباحاً معلوماً.
- حكم المصارعة والسباحة:
1 - تباح المصارعة والسباحة، وكل ما يقوي الجسم ويبعث على القوة والصبر، ويروِّح عن النفس وذلك إذا لم يشغل عن واجب، أو عن ما هو أهم منه، أو يؤدي إلى ارتكاب محظور.
2 - المصارعة والملاكمة التي تمارس اليوم في حلبات الرياضة محرمة؛ لما فيها من الخطر والضرر، وكشف العورات، وإهدار الكرامات، وتحكيم القوانين، وارتكاب المحرمات.
- حكم التحريش بين الحيوانات:
لا يجوز التحريش بين الحيوانات والطيور، وإغراء بعضها ببعض، وتسليط
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2260).

(3/608)


بعضها على بعض في مكان مغلق، فكل هذا محرم؛ لأن الحيوانات لم تخلق لهذا، وإنما خُلقت للأكل والركوب والانتفاع.
- أنواع المسابقات:
المسابقات ثلاثة أنواع:
1 - المسابقة في الأعمال الصالحة، الواجبة والمستحبة، للحصول على مرضاة الله، والفوز بالجنة، وهذه هي المسابقة العالية التي أمر الله بها.
قال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد:21].
2 - المسابقة في الأمور المباحة:
كالسباق على الخيل والإبل، والسباق على الأقدام، والرمي، والسباحة والمصارعة المباحة.
فهذه كلها جائزة، وقد تكون مستحبة بحسب نية من يسابق.
1 - قال الله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [يوسف:17].
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَابَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ، فَأَرْسَلَهَا مِنَ الحَفْيَاءِ، وَكَانَ أمَدُهَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ وَسَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ، فَأرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَكَانَ أمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَقَ فِيهَا. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2870) , واللفظ له، ومسلم برقم (1870).

(3/609)


3 - المسابقة في الأمور المحرمة:
كالمسابقة في النرد والشطرنج، ومسابقات الميسر والقمار، ومسابقات الجمال، ومسابقات عرض الأزياء وغيرها من المسابقات المحرمة التي يحصل بها الصد عن ذكر الله، وترك الواجبات، واقتراف المحرمات، وإضاعة الأوقات.
1 - قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم:59].
2 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ». أخرجه مسلم (1).
- صور من القمار والميسر:
القمار: هو الميسر، وهو كل معاملة مالية يحصل بها الغُنْم أو الغُرْم بلا جهد.
ومن صور الميسر:
1 - البيع عن طريق سحب الأرقام:
بأن تكون البضاعة مرقّمة، فيدفع المشتري مبلغاً محدداً، أو يأخذ رقماً يستلم به بضاعة أعلى مما دفع أو أقل مما دفع، كأن يدفع عشرة، ويأخذ سلعة بمائة، أو بريال.
2 - بيع اليانصيب:
وهو أن تباع أوراق كثيرة، وكل واحدة تحمل رقماً، فتباع بثمن قليل كريال مثلاً، وفي يوم السحب يختار البائع بعض الأوراق عشوائياً، فيفوز من اختير
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2260).

(3/610)


رقمه، ويخسر الباقون، وبذلك يكسب البائع أو الشركة الملايين، ويدفع جوائز بمائة ألف مثلاً.
3 - كسب المراهنة:
كأن يقول إنسان: إن فاز الفريق الفلاني فَعَلَيَّ كذا، ويقول الآخر: إن فاز الفريق الآخر فَعَلَيَّ كذا.
4 - أن يلعب أو يتسابق اثنان فأكثر، ويدفعون مالاً على أن من فاز أخذ المال.
5 - كل بيع مجهول العاقبة كبيع الطير في السماء، والسمك في البحر، فهذه الصور من الميسر، وكلها محرمة؛ لما فيها من الغرر والجهالة، وأكل أموال الناس بالباطل.
- حكم الجوائز التي تقدمها الأسواق:
الهدايا والجوائز التي تقدم في الأسواق التجارية على كمية المبيعات .. وفي المسابقات والعروض .. وفي المهرجانات التجارية والرياضية والفنية .. ومسابقات الرسم والتصوير لذوات الأرواح .. ومسابقات عرض الأزياء .. ومسابقات ملكات الجمال ونحو ذلك مما يوقع فيما حرم الله ورسوله، كل ذلك من اللعب بعقول الأمة .. وأكل أموال الناس بالباطل .. وإضاعة الأوقات .. وإفساد الدين والأخلاق .. وإشغال الناس بذلك عما خُلقوا من أجله.
فيحرم ذلك كله، على البائع بذلاً، وعلى المشتري أخذاً.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا (29)} [النساء:29].

(3/611)


- حكم المسابقات الرياضية:
1 - اللعب بالكرة إذا لم يكن على عوض، ولم يشغل عن واجب، ولم يؤد إلى ارتكاب محرم، أو حصول ضرر فهو جائز.
2 - لعب الفرق الرياضية بالكرة المعاصرة مهما اختلف اللعب بها من اللهو الباطل الذي لا يجوز لما يلي:
ما فيه من التشبه بالكفار .. والتحاكم إلى الطاغوت .. وإضاعة الأوقات والأموال .. وكشف العورات .. والصد عن ذكر الله وطلب العلم وإضاعة الصلوات أو تأخيرها .. وحصول العداوة بين اللاعبين والمشجعين .. وإثارة الفتن .. ونشأة التحزبات .. وحصول السب والشتم .. وحدوث الكسور والتصادم بين اللاعبين.
ويحصل ذلك جلياً في المباريات الرياضية على طول العام، فهي من اللهو الباطل الذي شغل به الأعداء الناس عما خُلقوا من أجله، وهو عبادة الله عز وجل، والدعوة إليه، وتعليم شرعه.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الأعراف:51 - 52].

(3/612)


20 - اللقطة
- اللقطة: هي كل مال ضل عنه ربه والتقطه غيره.
والشيء الذي لا يُعرف صاحبه إن كان آدمياً فهو لقيط، وإن كان حيواناً فهو ضالة .. وإن كان غير ذلك فهو لقطة.
- حكمة مشروعية اللقطة:
التقاط اللقطة وتعريفها قربة وطاعة؛ لما يحصل بها من الأجر، ولما فيها من حفظ مال الغير، والإحسان إليه.
- أقسام اللقطة:
المال الضائع ثلاثة أقسام:
الأول: ما لا تَتْبعه همة أوساط الناس كالسوط، والعصا، والرغيف، والثمرة ونحوها.
فهذا يملكه من أخذه إن لم يجد صاحبه، ولا يجب تعريفه، والأَوْلى لمن استغنى عنه أن يتصدق به.
الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع كالإبل، والبقر، والخيل، والغزال من الحيوان، والطيور في السماء، فهذه لا تُلتقط، ومن أخذها لزمه ضمانها، وتعريفها أبداً.
الثالث: سائر الأموال كالنقود، والأمتعة، والحقائب، والحيوانات التي لا تمتنع من السباع كالغنم والفصلان ونحو ذلك.
فهذه يجوز أخذها إن أمن نفسه عليها، وقوي على تعريفها.

(3/613)


- حكم اللقطة:
1 - يستحب لمن أمن نفسه على اللقطة، وقوي على تعريفها، أن يأخذها ويعرِّفها؛ لما في ذلك من حصول الأجر بحفظ مال الغير من الضياع، وحفظه ممن لا يؤمن عليه إن وقع في يده.
2 - يحرم أخذها على من عرف من نفسه الطمع فيها، وعدم أداء الأمانة، والعجز عن التعريف؛ لأنه يعرِّض نفسه لأكل الحرام، ويَحْرم صاحبها من العثور عليها.
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَألَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقال: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلا فَشَأْنَكَ بِهَا». قال: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قال: «هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ». قَالَ: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ قال: «مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلقَاهَا رَبُّهَا». متفق عليه (1).
- أنواع اللقطة:
اللقطة نوعان:
أحدها: ما يجوز التقاطه لحفظه لصاحبه، وتملّكه إن لم يعرف صاحبه، وهي غالب الأموال من النقد، والمتاع، والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع.
الثاني: ما لا يجوز التقاطه لعدم حاجته إلى الحفظ كالإبل، ويقاس عليها البقر لقوتها، والغزلان لِعَدْوها، والطير لطيرانها.
فهذه الأموال الممتنعة من السباع تُترك ولا تُلتقط حتى يجدها ربها، ومن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2372) , واللفظ له، ومسلم برقم (1722).

(3/614)


أخذها فيجب عليه تعريفها أبداً.
- شروط أخذ اللقطة:
يجوز أخذ اللقطة بشرطين هما:
الأمانة في حفظها .. والقوة على تعريفها.
- حكم الإشهاد على اللقطة:
اللقطة أمانةٌ في يد الملتقط، لا يضمنها إلا بالتعدي عليها، أو بمنع تسليمها لصاحبها إذا طلبها.
ويستحب الإشهاد على اللقطة؛ لئلا تضيع في ماله، فيجحدها وارثه، أو ينساها، أو ينسى أوصافها.
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَليُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَليَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلاَ يَكْتُمْ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَإِنَّهُ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ». أخرجه أحمد والنسائي في «الكبرى» (1).
- ما يفعل باللقطة:
1 - إذا أخذ الإنسان اللقطة حفظ عفاصها -وهو الوعاء- ووكاءها، ويسن أن يُشهد عليها عدلين، ثم يعرِّفها سنة كاملة، والسفيه والصغير يُعرِّف لقطتهما وليهما، فإن وجد صاحبها سلمها إليه، وإن لم يجده تملَّكها، ومتى جاء صاحبها فوصفها دفعها إليه، أو مثلها إن كانت قد نفقت.
2 - إن كانت اللقطة من الحيوان كالشاة والفصيل ونحوهما، أو مما يخشى
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (17481) , وهذا لفظه، وأخرجه النسائي في «الكبرى» برقم (5808).

(3/615)


فساده، فللملتقط أن يفعل الأحظ لمالكه، من أكله وعليه قيمته، أو بيعه وحفظ ثمنه، أو حفظه مدة التعريف، ويرجع بما أنفق عليه على مالكه.
3 - إن هلكت اللقطة أو تلفت في حول التعريف بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه، فإن تعدى أو فرط ضمن اللقطة.
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: «عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمّ اسْتَنْفِقْ بِهَا. فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَضَالّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: «خُذْهَا، فَإنّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذّئْبِ». متفق عليه (1).
- كيفية تعريف اللقطة:
تعريف اللقطة هو المناداة عليها في المجامع العامة حول مكانها كالأسواق، وأبواب المساجد، والمدارس ونحو ذلك، أو الإعلان عنها في وسائل الإعلام المباحة.
وللملتقط أن يعرِّفها بنفسه، أو ينيب غيره مكانه.
- مدة تعريف اللقطة:
1 - ما كان له قيمة وشأن من اللقطة يعرِّفه سنة، وأما الشيء اليسير القليل فلواجده الانتفاع به من غير تعريف كالسوط والعصا، والكسرة والثمرة ونحو ذلك مما لا تُقطع به يد السارق.
عَنْ أنَسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: «لَوْلا أنِّي
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (91) , ومسلم برقم (1722) , واللفظ له.

(3/616)


أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلتُهَا». متفق عليه (1).
2 - ومن وجد ضالة الغنم في مكان قفر بعيد عن العمران فله أن يأكلها، ويضمن قيمتها إن وجد صاحبها، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.
- حكم إنشاد الضالة في المسجد:
لا يجوز لأحد أن ينشد الضالة في المسجد.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي المَسْجِدِ، فَليَقُل: لا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا». أخرجه مسلم (2).
- حكم اللقطة بعد التعريف:
يجب على من التقط لقطة أن يعرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها سلمها له، وإن لم يأت أو لم يُعْرَف حلّ للملتقط أن ينتفع بها أو يتصدق بها، ويضمنها إن جاء صاحبها.
وإن كانت اللقطة مما يتسارع إليها الفساد، فله أن يبيعها ويمتلك ثمنها بعد التعريف، أو يمتلكها في الحال ويأكلها ويغرم قيمتها.
- حكم النفقة على اللقطة:
ما أنفقه الملتقط على اللقطة أو الضالة فإنه يسترده من صاحبها، فإن كانت النفقة نظير الانتفاع بالركوب أو الدر فهي على الملتقط، وإن كان يمكن تأجيرها أجَّرها، وأنفق عليها من أجرتها، وإن كانت البهيمة أو الآلة لا منفعة
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2431) , واللفظ له، ومسلم برقم (1071).
(2) أخرجه مسلم برقم (568).

(3/617)


لها بطريق الإجارة، وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وحفظ ثمنها.
- شرط رد اللقطة:
يجب على الملتقط رد اللقطة إلى صاحبها إذا ذكر علامة تميزها عن غيرها، أو يُثبت أنها له بالبينة، وهي شهادة عدلين.
ومتى وصفها له بما يؤكد أنها له حسب وصفه سلَّمها له بلا يمين ولا بينة؛ لأن إقامة البينة على اللقطة غالباً متعذر لطول العهد.
- حكمة لقطة الحرم:
لقطة الحرم لا يجوز لأحد أخذها، إلا إذا خاف عليها التلف، أو خاف أن يأخذها من يجحدها ويأكلها، فله أخذها وتعريفها أبداً.
ولقطة الحرم لا تحل لأحد أبداً، ولا يجوز تملُّكها بحال، ويجب على من أخذها تعريفها ما دام في مكة، وإذا أراد الخروج سلّمها للحاكم، أو نائبه، أو الجهة المكلفة بذلك.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ». متفق عليه (1).
- حكم لقطة الحاج:
يحرم على كل أحد أن يأخذ لقطة الحجاج، وإن أخذها لزمه تعريفها، وإن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2434) , واللفظ له، ومسلم برقم (1355).

(3/618)


خشي عليها أخذها وعرَّفها، وإذا أراد الخروج من مكة سلَّمها للحاكم أو نائبه.
وتُميز لقطة الحاج عن غيره بقرينة الزمان والمكان:
فالزمان: أن تكون في أيام الحج، والمكان: أن تكون في أماكن تجمُّع الحجاج وازدحامهم.
ولقطة الحرم تكون في الحرم، أما لقطة الحاج فتكون في الحرم وتكون في الحل كعرفات وغيرها من الحل حول مكة.
عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التّيْمِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجّ. أخرجه مسلم (1).
- حكم من آوى الضالة:
لا يجوز لأحد التقاط ضوال الإبل والخيل ونحوهما مما يمتنع بنفسه؛ لأن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها.
ومن التقطها وتلفت معه ضمنها؛ لأن يده يد غاصب اعتدى على مال غيره ظلماً.
ومن التقطها فهو ضال؛ لأن ترك الضوال في مكانها أقرب لأن يجدها صاحبها، فمن أخذها فقد أخفاها وأضلها عن صاحبها.
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ قَالَ: «مَنْ آوَى ضَالّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا». أخرجه مسلم (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1724).
(2) أخرجه مسلم برقم (1725).

(3/619)


- معنى اللقيط:
اللقيط: هو طفل لا يُعرف نسبه ولا رقه، نُبذ في مكان، أو ضل الطريق.
ينبذ عادة خوفاً من مسؤولية إعالته .. أو فراراً من تهمة الزنا .. أو ينساه أهله .. أو يضل هو عنهم، فلا يُعرف نسبه ولا رقه .. ولا أبوه ولا أمه.
- حكم التقاط اللقيط:
التقاط اللقيط مستحب، وهو من أفضل الأعمال؛ لأنه يترتب عليه إحياء نفس من الهلاك، ولمن أخذه ورباه أجر عظيم.
وحكم التقاطه فرض كفاية، فإن خاف هلاكه كمن وُجد في مغارة فأَخْذه فرض عين على من علم به؛ لوجوب حفظ الأنفس من الهلاك.
قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة:32].
- أحكام اللقيط:
1 - اللقيط أمانة في يد الملتقط، وهو أولى من غيره بتربيته والإنفاق عليه، فإن كان مع اللقيط مال أنفق عليه منه حتى ينتهي، وإذا لم يوجد معه مال أنفق عليه من التقطه إن شاء، وإن عجز سلمه للحاكم، ليتولى تربيته والإنفاق عليه؛ لأن له حظاً في بيت المال.
2 - ميراث اللقيط وديته لوارثه، فإن لم يخلِّف وارثاً فيرد ذلك لبيت مال المسلمين.

(3/620)


3 - حضانة اللقيط لواجده إن كان مكلفاً أميناً عدلاً، ووليه في قتل العمد الإمام، يخير فيه بين القصاص والدية لبيت المال.
4 - تكون ولاية التزويج للقيط، والتصرف في ماله للسلطان، فالسلطان وليّ من لا وليّ له، وإذا زوجه الحاكم دفع المهر من ماله، فإن لم يكن للقيط مال دفع الحاكم مهره من بيت المال.
5 - اللقيط حر مسلم إن وجد في دار الإسلام، ويُحكم بحريته أينما وُجد؛ لأنها الأصل ما لم يتبين خلاف ذلك.
6 - اللقيط يعتبر مجهول النسب.
وإن أقر أحد أنه ولده لحق به، وإن ادعاه جماعة قُدِّم ذو البينة، فإن لم تكن بينة فمن ألحقته القافة به لَحِقه.

(3/621)


21 - الغصب
- الغصب: هو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق.
- أقسام الظلم:
ينقسم الظلم إلى ثلاثة أقسام:
1 - ظلم لا يغفره الله وهو الشرك.
2 - ظلم يغفره الله وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه.
3 - ظلم لا يتركه الله وهو ظلم الخلق بعضهم لبعض.
- أنواع الجناية:
الجناية في الأصل نوعان:
الأول: الجناية على الآدمي.
الثاني: جناية على البهائم والجمادات من عقار ومنقول.
- الأيدي التي تضمن النفوس والأموال:
الأيدي التي تضمن النفوس والأموال ثلاث:
الأولى: اليد المتعدية: وهي كل من وضع يده على مال غيره ظلماً.
الثانية: اليد المباشرة: فكل من أتلف لغيره نفساً أو مالاً بغير حق عمداً أو سهواً أو جهلاً فعليه ضمانه.
الثالثة: اليد المتسببة: فكل مَنْ فعل ما ليس له فِعْله في ملك غيره، أو في الطرق، أو تسبب لإتلافه بفعلٍ غير مأذون فيه، فتلف بسبب فعله ضمنه.

(3/622)


وإذا اجتمع مباشر ومتسبب، فالضمان على المباشر، فإن تعذر تضمينه ضمن المتسبب.
- أنواع التعدي على الأموال:
ينقسم التعدي على الأموال إلى أربعة أقسام:
الأول: أخذ الرقبة -أي ذات الشيء-، وهو الغصب.
الثاني: أخذ المنفعة دون الرقبة، وهو نوع من الغصب.
الثالث: إتلاف الشيء كقتل الحيوان، أو قطع الشجر، أو حرق الشيء.
الرابع: التسبب في التلف كمن فتح حانوتاً لغيره فسُرق، أو حل رباط دابة فهربت، أو استعمل آلة لغيره بلا إذنه فاحترقت ونحو ذلك.
فكل من فعل شيئاً من ذلك فهو ضامن لِمَا أخذه، أو أتلفه، أو تسبب في إتلافه، سواء تم الفعل عمداً أو خطأً.
- حكم الغصب:
الغصب حرام؛ لأنه اعتداء على حق غيره ظلماً وقهراً.
والغاصب عاص وآثم، ومعتد، وظالم.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة:188].
3 - وَعَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأمْسَكَ

(3/623)


إنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أوْ بِزِمَامِهِ- قال: «أيُّ يَوْمٍ هَذَا». فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قال: «ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ». قُلنَا: بَلَى، قال: «فَأيُّ شَهْرٍ هَذَا». فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «ألَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ». قُلنَا: بَلَى، قال: «فَإنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ، وَأعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ». متفق عليه (1).
4 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ». متفق عليه (2).
- حكم أرباح المال المغصوب:
من غصب مالاً وتاجر به وربح ونما ماله، ثم تاب:
فهذا يجب عليه رد رأس المال المغصوب لصاحبه مع نصف الأرباح، والباقي له كأنهم شركاء، هذا منه المال، وهذا منه العمل، وإن خسر فيجب على الغاصب ضمان رأس المال كله؛ لأن يده يد متعدية فيضمنه.
- حكم رد المال المغصوب:
يجب على الغاصب رد المال المغصوب لصاحبه، سواء كان مالاً، أو عيناً، أو عقاراً، وإن سامحه صاحبه برأت ذمته، وإذا لم يسامحه صاحبه، أو كان ميتاً، فيجب على الغاصب رد الشيء المغصوب بعينه، فإن لم يوجد رد عليه
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67) , واللفظ له، ومسلم برقم (1679).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2475) , واللفظ له، ومسلم برقم (57).

(3/624)


مثله، فإن تعذر وجود المثل وجب عليه دفع قيمة الشيء الذي اغتصبه وقت تعذر المثل.
- حكم التجارة في المغصوب:
يجب على الغاصب رد ما غصبه على صاحبه ولو غَرِم أضعافه؛ لأنه حق غيره فوجب رده، وإن اتجر في المغصوب فهو ظالم؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، فإن تاب فالزائد على رأس المال بينهما مناصفة.
وإن كان للمغصوب أجرة، فعلى الغاصب رده وأجرة مثله مدة بقائه في يده.
- حكم التصرف في المغصوب:
1 - إذا غصب الإنسان أرضاً فغرسها، أو بنى فيها، لزمه القلع، وإزالة البناء، وضمان النقص، وتسوية الأرض، وإن تراضيا على القيمة جاز.
2 - إذا زرع الغاصب الأرض، ثم ردها بعد أخذ الزرع، فهو للغاصب، وعليه أجرة المثل لصاحبها، وإن كان الزرع قائماً خُيِّر رب الأرض بين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله، وبين أخذه بنفقته.
3 - إذا نسج الغاصب الغزل، أو خاط القماش، أو نجر الخشب، أو قطع الحديد ونحو ذلك، لزمه رده لمالكه، وأرش نقصه، ولا شيء للغاصب.
4 - ما تلف أو تعيَّب من مغصوب مثلي غرم مثله، وإلا يكن مثلي فقيمته يوم تعذر المثل.
5 - إذا فتح قفصاً أو باباً، أو حل وكاءً أو رباطاً أو قيداً، فذهب ما فيه أو تلف ضمنه، سواء كان مكلفاً أو غير مكلف؛ لأنه فوَّته عليه.
6 - جميع تصرفات الغاصب من بيع وتأجير وغير ذلك، كله موقوف على إجازة

(3/625)


المالك، فإن أجازه وإلا بطل؛ لأن ما بني على الباطل فهو باطل.
- حكم المغصوب إذا خلطه بغيره:
خلط المغصوب له حالتان:
الأولى: أن يخلط المغصوب بما يتميز كالحيوان، والآلات، وقِطع الغيار, فهذا يجب عليه عزله ورده لصاحبه.
الثانية: أن يخلط المغصوب بما لا يتميز كزيت بمثله، أو أرز بمثله ونحوهما، فهذا إن لم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما، وإن نقصت ضمنها الغاصب، وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه.
- صفة رد المغصوب:
1 - يجب رد المغصوب لصاحبه، فإن لم يجده سلم المغصوب للحاكم إن كان عدلاً، أو تصدق به عنه، ويضمنه إن لم يُجزه صاحبه فيما بعد.
2 - إذا كانت بيد الغاصب أموال مغصوبة، وسرقات، وأمانات، وودائع، ورهون ونحو ذلك، ولم يتمكن من معرفة أصحابها، فله الصدقة بها، وله صرفها في مصالح المسلمين، ويبرأ من عهدتها.
3 - يجب رد المغصوب لمالكه بعينه، فإن تعذر فمثله، فإن تعذر فقيمته.
- حكم الكسب الحرام:
من كسب مالاً حراماً كربا أو ثمن خمر وخنزير ونحو ذلك: فإن كان لم يعلم بالتحريم ثم علم فهذا يجوز له أكله، وإن كان يعلم بالتحريم ثم تاب، فهذا لا يحل له أكله، ويتخلص منه بصرفه في وجوه البر.

(3/626)


- عقوبة المظالم:
يجب على الغاصب والسارق وكل مقترف للحرام التوبة إلى الله، ورد ما أخذ لصاحبه، والتحلل منه، ويحرم عليه الانتفاع به.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأحد مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَليَتَحَلَّلهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ». أخرجه البخاري (1).
- عقوبة غصب الأرض:
1 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ خَاصَمَتْهُ أرْوَى -فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا -إِلَى مَرْوَانَ، فَقالَ سَعِيدٌ: أنَا أنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئاً، أشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أخَذَ شِبْراً مِنَ الأرْضِ ظُلماً، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أرَضِينَ». متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أرَضِينَ». أخرجه البخاري (3).
- حكم الدفاع عن النفس والمال:
يجوز للإنسان أن يدافع عن نفسه ممن أراد قتله، ويجوز له أن يدافع عن ماله ممن أراد أن ينتهبه، ويكون الدفع بالأخف، فإن لم ينفع الأخف دفع بالأشد، ولو أدى ذلك إلى المقاتلة.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2449).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3198) , واللفظ له، ومسلم برقم (1610).
(3) أخرجه البخاري برقم (2454).

(3/627)


عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أرَأيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي؟ قال: «فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ». قال: أرَأيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قال: «قَاتِلهُ». قال: أرَأيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قال: «فَأنْتَ شَهِيدٌ». قال: أرَأيْتَ إنْ قَتَلتُهُ؟ قال: «هُوَ فِي النَّارِ». أخرجه مسلم (1).
- أحكام الغصب:
للغصب ثلاثة أحكام:
الأول: الإثم لمن علم أنه مال الغير؛ لأن ذلك معصية، وفعل المعصية عمداً موجب للعقوبة، ويؤدبه الحاكم لدفع الفساد، وإصلاح حاله، وزجره هو وأمثاله.
فإنْ غَصَب الشيء ظاناً أنه ملكه فلا إثم ولا مؤاخذة عليه؛ لأنه مخطئ، فعليه رد ما غصب.
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
الثاني: رد العين المغصوبة ما دامت قائمة.
الثالث: ضمان المال المغصوب إذا هلك عند الغاصب، فيضمنه بمثله، فإن تعذر وجود المثل وجبت القيمة يوم تعذر المثل.
- ما يسقط به الضمان عن الغاصب:
يخرج الغاصب عن عهدة الضمان بأحد أربعة أمور:
رد العين المغصوبة لصاحبها .. أداء الضمان إلى المالك من مثل أو قيمة .. إبراء صاحبها للغاصب من الضمان .. إطعام الغاصب المغصوب لمالكه أو
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (140).

(3/628)


دابته وهو يعلم أنه ملكه.
- حكم زوائد المغصوب:
يلزم الغاصب ضمان زوائد المغصوب إذا هلكت أو تلفت في يده، سواء كانت متصلة كالسمن ونحوه، أو منفصلة كولد الحيوان، وثمرة الشجرة؛ لتولدها من عين مملوكة لغيره، ويد الغاصب متعدية ضامنة، فيضمن الكل -الأصل والفرع- الذي تولدت منه.
أما البناء على الأرض المغصوبة، أو زراعتها، أو غرسها، فيُلزم الغاصب بإزالته، وتسليم الأرض كما اغتصبها، فليس لِعِرْقٍ ظالمٍ حق، فإن تراضيا على تعويضٍ جاز.
- حكم نقص المغصوب:
يجب على الغاصب ضمان النقص الحاصل في ذات المغصوب أو صفته كضعف الحيوان، ونسيان الحرفة، وتهدم البناء ونحو ذلك، سواء حصل النقص بآفة سماوية، أو بفعل الغاصب، أو بفعل غيره.
وإذا وجب ضمان النقصان قُوِّمت العين صحيحة يوم غصبها، ثم تُقوَّم ناقصة، ثم يدفع الغاصب الفرق بينهما.
ولا يضمن الغاصب نقص المغصوب ولا زيادته بسبب هبوط الأسعار؛ لأن المغصوب لم تنقص عينه ولا صفته، وإنما نقصت رغبات الناس فيه.
ويضمن الغاصب منفعة المغصوب كدار أغلقها، ودابة حبسها، وعليه أجرة المثل؛ لأن المنفعة مال متقوّم، فوجب ضمانه كالعين المغصوبة, سواء استوفى المنافع كأجرة الدار، أو الآلة، أو تَرَكها.

(3/629)


- حكم تغير المغصوب:
قد يتغير المغصوب عند الغاصب بنفسه، أو بفعل الغاصب:
1 - إذا تغير المغصوب بنفسه كما لو كان عنباً فأصبح زبيباً، أو كان رُطباً فأصبح تمراً، فللمالك الخيار: إن شاء أَخَذ عين المغصوب، وإن شاء ضمَّن الغاصب قيمته.
2 - إن تغير المغصوب بفعل الغاصب بإضافة أو زيادة كما لو صبغ الثوب، أو خلط الدقيق بسمن، أو خلط الأرز بالأرز المغصوب، فهنا إن حدث نقص ضمن الغاصب النقص؛ لأنه حصل بفعله، وإن حدثت زيادة فالمالك والغاصب شريكان فيها بقدر ملكيهما.
3 - إن تغير المغصوب واسمه بفعل الغاصب كما لو غصب شاة فذبحها وطبخها، أو حنطة فطحنها، أو حديداً فاتخذه سيفاً، أو نحاساً فجعله آنية.
فهذا للمالك الخيار أن يأخذه وأرش نقصه إن نقص، وإن شاء ضمَّن الغاصب مثله، أو قيمته قبل تغيره، ولا شيء للغاصب في الزيادة.
- حكم نفقة المغصوب:
تكون نفقة المغصوب على الغاصب بسبب ظلمه وتعديه، فيتحمل علف الدابة، وسقي الزرع، فتكون النفقة مقابل ما يستفيده الغاصب من المغصوب؛ لأنه وإن ظَلم لا يُظلم.
- الحكم إذا اختلف الغاصب والمالك:
1 - إذا اختلفا في رد المغصوب، ولم تكن بينة، فالقول قول المالك بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، وإن اختلفا في عيب المغصوب بعد تلفه فالقول قول

(3/630)


المالك؛ لأن الأصل السلامة من العيوب.
2 - إن اختلفا في صفة المغصوب وقدره وقيمته، ولم تكن بينة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة الذمة من الزيادة، ولأنه منكِر لما يدعيه المالك من الزيادة.
وإن اختلفا في تلف المغصوب، ولم تكن بينة لأحدهما، فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف.
- حكم غاصب الغاصب:
من غصب شيئاً، ثم جاء آخر فغصبه منه، ثم هلك في يده:
فالمالك بالخيار: إن شاء ضمَّن الغاصب الأول؛ لوجود أصل الغصب منه.
وإن شاء ضمَّن الغاصب الثاني أو المتلِف؛ لأنه أزال يد الغاصب الأول، ولأنه المتلِف فيضمن.
فإن اختار المالك تضمين الأول، رجع الغاصب الأول بالضمان على الثاني الذي هلك في يده المغصوب، وإن اختار تضمين الثاني أو المتلِف فهذا يستقر الضمان في ذمته، ولا يرجع بالضمان على أحد؛ لأنه ضمن فعل نفسه.
وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الأول برئ من الضمان، وإذا رده إلى المالك برئ الإثنان.
وجميع الأيدي المترتبة على الغصب كالبيع والإجارة ونحوهما أيدي ضمان وإن جهل صاحبها الغصب؛ لأن الجهل يُسقط الإثم لا الغُرْم.

(3/631)


- حكم الانتفاع بمال الغير:
لا يجوز لأحد أن يأخذ من مال أخيه إلا بإذنه، لكن من مر ببستان وهو محتاج، ولم يجد صاحبه، فله أن يأكل منه بقدر حاجته غير متمول، ومن مر بإبل أو غنم وهو محتاج، ولم يجد صاحبها، فله أن يحتلب منها بقدر حاجته وهكذا ..
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29].
2 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعِي إِبِلٍ فَنَادِ: يَا رَاعِيَ الإِْبِلِ ثَلاَثاً، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلاَّ فَاحْلُبْ وَاشْرَبْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ فَنَادِ: يَا صَاحِبَ الحَائِطِ ثَلاَثاً، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلاَّ فَكُل». أخرجه أحمد (1).
- حكم الظَّفَر بالمال:
من عمل عند إنسان ولم يعطه حقه، أو اغتصب منه مالاً ظلماً، أو جحد حقاً له عنده، ثم ظفر هذا المظلوم بمال من ظلمه، فلا يجوز للمظلوم أن يأخذ من مال الظالم خفية دون علم الظالم.
فلو أن عاملاً ظفر براتبه مِنْ مال مَنْ يعمل عنده وأخذه، فقد خان الأمانة؛ لأنه مؤتمن على حفظ هذا المال، ولأنه يترتب على هذا الأخذ من التهمة والضرر ما لا يخفى، ولأن الخيانة لا تقابل بمثلها.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (11159).

(3/632)


قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال:27].
- حكم الغلول:
كل من أخذ ما لا يستحقه من المال فهو غال، سواء كان من الملوك أو الرؤساء، أو من الأمراء والوزراء، أو من الموظفين والعمال، أو من المجاهدين والغزاة.
والغلول من الكبائر التي حرمها الله ورسوله.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)} [آل عمران:161].
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أرَضِينَ». متفق عليه (1).
- حكم التأمين على السيارة والرخصة:
التأمين على النفس والسيارة والرخصة محرم من جهتين:
الأولى: اغتصاب أموال الناس، وأخذ أموالهم بدون رضى منهم.
الثانية: أن هذا التأمين مبني على أكل أموال الناس بالباطل، ومفاسده كثيرة، فهو سبب لشيوع النصب، والاحتيال، والكذب، والتزوير، وكثرة الجرائم والحوادث.
وأصل هذا التأمين قائم على الميسر والغرر، ونهب أموال الناس، ومن أَكره الناس عليه، وألزمهم به فهو ظالم لهم، ومن أُكره عليه، وهو مضطر إليه، فله
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2453) , واللفظ له، ومسلم برقم (1612).

(3/633)


الدفع ولا إثم عليه، وإن صبر واحتسب، وضن عليهم بالمال، فهذا أزكى عند الله وأبر.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق:4].
- حكم الإتلاف:
الإتلاف: هو كل نقص أو فساد يدخل على الأعيان.
والإتلاف سبب موجب للضمان؛ لأنه اعتداء وإضرار، ولا فرق في ضمان الإتلاف بين العمد والخطأ، ولا بين الكبير والصغير، فالكل ضامن لما أتلفه من نفس أو مال.
- أسباب الضمان بالإتلاف:
1 - فَتَح باب الحانوت فسُرق .. فتح قفص الطائر فطار .. حلّ رباط الدابة فهربت .. إطلاق رباط سفينة فغرقت.
فيضمن المتسبب في هذه الأحوال وأمثالها.
2 - الترويع: فإذا بعث الحاكم إلى امرأة يستدعيها لمجلس القضاء فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها، ضمن الحاكم الدية.
3 - الحبس: فمن حبس المالك عن ماله حتى تلف، أو عن ماشيته حتى تلفت، فإنه يضمن ما تلف به؛ لأنه سبب هلاكه.
4 - الحيلولة بين المالك وملكه حتى تلف، فيضمن؛ لأنه سبب هلاكه.
- شروط وجوب الضمان بالإتلاف:
1 - أن يكون الشيء المتلَف مالاً متقوّماً.
فلا ضمان بإتلاف الميتة والتراب ونحوها، ولا ضمان في إتلاف الخمر

(3/634)


والخنزير لمسلم، ولا ضمان بإتلاف الأصنام وآلات اللهو، وكل ما حَرُم الانتفاع به لم يُضمن.
2 - أن يكون المتلِف أهلاً لوجوب الضمان وهو الآدمي.
- كيفية ضمان المتلَف:
الواجب بالإتلاف هو الواجب بالغصب، وهو ضمان المثل إن كان المتلَف مثلياً، وضمان القيمة يوم الإتلاف فيما لا مثل له.
- حكم دفع الصائل:
إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أو صال عليه يريد ماله أو نفسه ظلماً، أو صالت عليه بهيمة، فيجوز له ولغيره أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفعه، يبدأ بالأخف فالأخف إن أمكن .. فإن أمكن دفع المعتدي بالكلام لم يستعمل الضرب .. وإن أمكن الدفع بالضرب باليد لم يستعمل السوط .. وإن أمكن الدفع بالسوط لم يستعمل العصا .. وإن أمكن الدفع بقطع عضو حَرُم القتل .. وإن لم يمكن الدفع إلا بالقتل جاز للمدافع القتل ولا ضمان عليه.
وإن تمكن المصول عليه من الهرب وجب عليه ذلك؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأسهل والأهون.
1 - قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة:194].
2 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ

(3/635)


شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
- حكم الدفاع عن الغير:
يجوز للمسلم أن يدافع عن غيره، فلولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم.
عَنْ أنَسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «انْصُرْ أخَاكَ ظَالِماً أوْ مَظْلُوماً». فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُوماً، أفَرَأيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِماً كَيْفَ أنْصُرُهُ؟ قال: «تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ». أخرجه البخاري (2).
- شروط دفع الصائل:
يشترط لجواز دفع الصائل ما يلي:
أن يكون هناك اعتداء .. وأن يقع الاعتداء بالفعل .. ألا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر كرجال الأمن .. أن يدفع الاعتداء بالأخف فالأخف.
- حكم ما أتلفته البهائم:
إذا أتلفت البهائم شيئاً من الزروع ونحوها ليلاً ضمنه صاحبها؛ لأن عليه حفظها ليلاً، وما أتلفته نهاراً لم يضمنه؛ لأن على أهل المزارع حفظها نهاراً، فإن فرط صاحبها ضمن ما أتلفته ليلاً أو نهاراً.
- حكم ما أتلفته السباع والنار:
1 - من اقتنى كلباً عقوراً، أو أسداً، أو ذئباً، أو طيراً جارحاً، ثم أطلقه فأتلف شيئاً ضمنه.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4772) , وأخرجه الترمذي برقم (1421) , وهذا لفظه.
(2) أخرجه البخاري برقم (6952).

(3/636)


2 - من أجّج ناراً بملكه، فتعدت إلى ملك غيره بتفريطه، فأتلفت شيئاً ضمنه، لا إنْ طرأت ريح فسيَّرتها فلا ضمان عليه؛ لأنه ليس بفعله ولا تفريطه.
- حكم دهس الحيوانات في الطرق:
يجب حفظ الحيوانات عن الطرق؛ لئلا تعترض السيارات فتَهلك وتُهلك الناس، وتسبب الحوادث المفجعة.
والحيوانات إذا اعترضت الطرق العامة المسفلتة فضربتها سيارة فهلكت فهي هدر لا ضمان على من أتلفها إذا لم يتعد ولم يفرط، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها.
- حكم إتلاف المحرمات:
لا ضمان في إتلاف آلات اللهو، وأواني الخمر, والصلبان، والأصنام، وكتب الضلال والمجون، وآلات السحر والشعوذة؛ لأنها محرمة، لا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها، لكن يكون إتلافها بأمر الحاكم ورقابته؛ ضماناً للمصلحة، ودفعاً للمفسدة.
ومن أتلفها من دون أمر الإمام عُزِّر؛ لافتياته عليه.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].

(3/637)


22 - الحَجْر
- الحَجْر: هو منع الإنسان من تصرفه في ماله لسبب شرعي.
- حكمة مشروعية الحجر:
أمر الله عز وجل بحفظ الأموال، وجعل من وسائل ذلك الحجر على من لا يحسن التصرف في ماله كالمجنون، أو في تصرفه وجه إضاعة كالصبي، أو في تصرفه وجه تبذير كالسفيه، أو في تصرفه إضرار بحق الغير كالمفلس الذي أثقلته الديون.
فشرع الله الحجر حفظاً لأموال هؤلاء، ورعاية لمصلحة المحجور عليه بحفظ ماله وحقوقه، ودفعاً للضرر عن الآخرين، وحفظاً لحقوقهم.
- أقسام الحجر:
ينقسم الحجر إلى قسمين:
الأول: حجر لحظ النفس: كالحجر على الصغير والسفيه، والمبذر، والمجنون، من أجل حفظ ماله.
الثاني: حجر لحظ الغير: كالحجر على المفلس من أجل حظ الغرماء، وكالحجر على مريض مَرَض الموت لحظ الورثة.
- حكم الحجر على المفلس:
المفلس: هو مَنْ دَينه أكثر من ماله.
ويجوز للحاكم أن يحجر عليه بطلبٍ من غرمائه، أو بعضهم، ويحرم عليه التصرف في ماله بما يضر غرماءه، ولا ينفذ تصرفه ذلك ولو لم يحجر عليه.

(3/638)


- أحكام المفلس:
1 - من كان ماله قدر دينه أو أكثر لم يُحجر عليه، ويؤمر بوفائه، فإن أبى حُبس بطلبٍ من صاحبه، فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه.
2 - من كان ماله أقل مما عليه من الدين الحال فهو مفلس يجب الحجر عليه، وإعلام الناس به؛ لئلا يغتروا به ويحجر عليه الحاكم بطلب غرمائه أو بعضهم.
3 - إذا تم الحجر على المفلس انقطع الطلب عنه، وليس له التصرف بماله، فيبيع الحاكم ماله، ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالة، فإن لم يبق عليه شيء انفك الحجر عنه؛ لزوال موجبه.
4 - إذا قسم الحاكم مال المفلس بين غرمائه، انقطعت المطالبة عنه، ولا تجوز ملازمته، ولا يجوز حبسه بهذا الدين؛ بل يُخلَّى سبيله ويُمْهَل إلى أن يرزقه الله، ويسدد ما بقي لغرمائه.
- حكم من وجد متاعه عند المفلس:
من أدرك متاعه بعينه عند إنسان مفلس فهو أحق به.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ، أوْ إِنْسَانٍ، قَدْ أفْلَسَ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ». متفق عليه (1).
- ما يُبقي الحاكم للمفلس:
إذا باع الحاكم أموال المفلس من أجل الغرماء، فيجب أن يترك له ما يقوم به معاشه، وما لا غنى له عنه، من بيت يسكنه، ومركوب يركبه في حوائجه،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2402) , واللفظ له، ومسلم برقم (1559).

(3/639)


ومال يطعم منه، وإن كان تاجراً تَرك له ما يَتَّجر به .. وإن كان محترفاً ترك له آلة الحرفة.
- الأحكام المترتبة على مال المحجور عليه:
إذا تم الحجر على أحد بسبب الدَّين ترتب على ذلك أربعة أحكام:
أحدها: تعلق حقوق الغرماء بعين ماله.
الثاني: منعه من التصرف في عين ماله.
الثالث: من وجد عين ماله عنده فهو أحق به من غيره.
الرابع: بيع الحاكم ماله، وإيفاء الغرماء حقوقهم.
- حكم حبس المعسر:
من لم يقدر على وفاء دينه لم يطالب به، ويحرم حبسه؛ لأنه معسر، ويجب إنظاره إلى أن يوسر، وإبراؤه مستحب.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:280].
2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ». أخرجه مسلم (1).
- فضل إنظار المعسر:
عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1556).

(3/640)


فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ»، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»، قُلتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ»، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»، قَالَ: «لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ». أخرجه أحمد (1).
- حكم حبس المدين:
يجب على المدين الموسر وفاء دينه الحالّ، فإن كان معسراً أُمهل إلى وقت اليسار، وإن كان موسراً مماطلاً حبسه الحاكم، فَلَيّ الواجد ظُلم، يُحِلّ عِرضه وعقوبته.
فيشرع حبس المدين الموسر المماطل تأديباً له، ليسارع في وفاء ما عليه من الدين الحال، أما المعسر فله حق الإنظار، والعفو خير وأحسن.
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَليَتْبَعْ». متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ الشَّرِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ». أخرجه أبو داود والنسائي (3).
- شروط حبس المدين:
يشترط لحبس المدين ما يلي:
أن يكون الدين حالاًّ .. وأن يكون المدين قادراً على الوفاء .. وأن يكون
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (23046) , انظر «إرواء الغليل» رقم (1438).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2287) , واللفظ له، ومسلم برقم (1564).
(3) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3628) , والنسائي برقم (4689).

(3/641)


مماطلاً .. وأن يكون المدين غير الوالدين .. وأن يطلب صاحب الدين من الحاكم حبس المدين.
- متى يخرج المدين من الحبس:
يخرج المدين من الحبس بواحد مما يلي:
الإعسار .. إبراء الغريم المدين .. وفاء الدين .. رضا الغريم بخروجه من السجن.
وإذا أصر المدين الموسر على الحبس، ولم يوف الدين، باع الحاكم ماله، وقضى دينه، وأخرجه من الحبس.
- حكم سؤال الناس:
يحرم على الإنسان سؤال الناس أموالهم من غير حاجة، ويجوز السؤال عند الحاجة الملجئة إلى السؤال، ومنها:
1 - أن يقوم الإنسان لإصلاح ذات البين بين قبائل أو عشائر أو قرى، فيصلح بينهم، ويلتزم في ذمته مالاً عوضاً عما بينهم من دماء، أو خسائر، ليطفئ نار الفتنة.
فهذا قد فعل معروفاً عظيماً، فيباح له السؤال والأخذ بقدر ما غَرِم.
2 - من أصابت أمواله آفة سماوية من برد شديد، أو حر شديد، أو غرق، أو حرق ونحو ذلك مما لا صُنع للآدمي فيه.
فهذا تحل له المسألة بقدر كفايته وكفاية من يمونه.
3 - من كان غنياً، ثم أصابه الفقر والحاجة.
فهذا تحل له المسألة بقدر كفايته وكفاية من يمونه.

(3/642)


عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الهِلالِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تَحَمَّلتُ حَمَالَةً، فَأتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسْألُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «أقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا». قال: ثُمَّ قال: «يَا قَبِيصَةُ! إِنَّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ). وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلاناً فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ) فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْألَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتاً يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً». أخرجه مسلم (1).
- المفلس يوم القيامة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟» قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». أخرجه مسلم (2).
- تعلق الدين بالتركة:
الديون المؤجلة تحل بالموت، ويتعلق الدين بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، وتعلق الدين بالتركة لا يمنع الإرث، فيصح
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1044).
(2) أخرجه مسلم برقم (2581).

(3/643)


تصرف الورثة ببيع ونحوه، ويلزمهم أداء الدين منه.
- حكم الحجر على المريض مرض الموت:
مرض الموت: هو الذي يغلب بسببه الموت.
ويجوز الحجر على مريض الموت لحق الورثة، فيُحجر على تبرعات المريض فيما زاد عن ثلث التركة كهبة، وصدقة، ووصية، ووقف، وبيع محاباة ونحوه.
وحكم تبرعاته كحكم وصيته، تنفذ من الثلث، وتكون موقوفة على إجازة الورثة في الزائد عن الثلث، وإذا استغرقت الديون جميع تركته حُجر عليه جميع تصرفاته، دون نظر إلى الثلث؛ رعاية لحقوق الغرماء.
- حكم الحجر للمصلحة العامة:
يجوز الحجر للمصلحة العامة؛ لأنه يدفع الضرر الأعلى بالأدنى، ويتحمل الضرر الخاص، لدفع الضرر العام.
فيُحجر على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمكاري المفلس، لأن الطبيب الجاهل يفسد أبدان الناس، والمفتي الماجن يعلم العوام الحيل الباطلة، ويفتي بجهل، والمكاري الذي يؤجر وسائل النقل وليست عنده، فيأخذ أموال الناس، وإذا جاء موعد النقل اختفى، فهو محتال نصاب.
والحجر عليهم يكون بمنعهم عن العمل حساً؛ لئلا يضروا الناس.
- حكم الحجر على السفيه والصغير والمجنون:
يجوز الحجر على السفيه والمبذر، والصغير والمجنون، ولا يحتاج الحجر عليهم للحاكم، ووليهم الأب إن كان عدلاً رشيداً، ثم الوصي، ثم الحاكم،

(3/644)


وعلى الولي التصرف بالأحظ لهم.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء:5].
2 - وقال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
3 - وقال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282].
- متى يزول الحجر عن الصغير:
يزول الحجر عن الصغير بأمرين:
البلوغ .. والرشد.
فالبلوغ يحصل بعلامات ست:
منها ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وهو الاحتلام، ونبات شعر العانة، وبلوغ خمس عشرة سنة.
ومنها ما هو خاص بالرجل وهو نبات شعر اللحية.
ومنها ما هو خاص بالمرأة وهو الحيض والحَبْل.
فمن وُجدت فيه واحدة من هذه العلامات فهو بالغ.
والرشد: هو حسن التصرف في المال، بأن يعطى مالاً ويُمتحن بالبيع والشراء حتى يُعلم حسن تصرفه.
1 - قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].

(3/645)


2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاَثٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ». أخرجه أبو داود والنسائي (1).
- متى يزول الحجر عن السفيه والمجنون:
السفيه: هو من يبذِّر ماله، ويصرفه في غير موضعه.
والمجنون: هو من زال عقله.
فإذا عقل المجنون، ورشد السفيه، بأن صار يحسن التصرف في المال فلا يُغبن، ولا يصرفه في حرام، أو في غير منفعة، زال الحجر عنهما، وردت إليهما أموالهما.
وإن استمر الجنون والسفه استمر الحجر عليهما؛ رعاية لمصلحتهما، ودفعاً للضرر عنهما.
قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء:5].
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4398) , وأخرجه النسائي برقم (3432)، وهذا لفظه.

(3/646)


23 - الصلح
- الصلح: هو عقد يحصل به قطع النزاع بين المتخاصمين.
- حكمة مشروعية الصلح:
شرع الله الصلح ورغَّب فيه للحفاظ على المودة والإلفة بين المسلمين، والتوفيق بين المتخاصمين، وإزالة الشقاق بينهما، ونبذ الفرقة، واستئصال أسبابها المؤدية إليها.
وبذلك تصفو النفوس، وتزول الأحقاد، وتجتمع القلوب.
- فضل الإصلاح بين الناس:
الإصلاح بين الناس من أجلِّ القربات، وأعظم الطاعات، إذا قام به المسلم ابتغاء مرضاة الله تعالى.
1 - قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء:114].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ». متفق عليه (1).
- حكم الصلح:
الإصلاح بين الناس مستحب، بل هو من أعظم القربات؛ لما فيه من
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2707) , واللفظ له، ومسلم برقم (1009).

(3/647)


المحافظة على المودة والمحبة، وقطع النزاع والشقاق.
والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فهو باطل ومحرم.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [النساء:128].
2 - وَعَنْ أمِّ كُلثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْراً أوْ يَقُولُ خَيْراً». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّلحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» زَادَ أَحْمَدُ: «إِلاَّ صُلحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً». وَزَادَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ». أخرجه أبو داود (2).
4 - وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ أُخْبرُكُمْ بأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «صَلاَحُ ذاتِ البَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ». أخرجه أبو داود والترمذي (3).
- جهات الصلح:
الصلح مشروع بين المسلمين .. وبين المسلمين والكفار .. وبين أهل العدل والبغي .. وبين الزوجين عند الشقاق والعضل .. وبين الجيران .. وبين
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2692) , واللفظ له، ومسلم برقم (2605).
(2) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3594).
(3) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4919) , والترمذي برقم (2509) , وهذا لفظه.

(3/648)


الأقارب .. وبين الأصدقاء .. وبين المتخاصمين في المال .. وبين المتخاصمين في غير مال.
قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء:114].
- الصلح الجائز:
الصلح الجائز هو ما وافق الشرع، وهو كل صلح لم يحل حراماً، ولم يحرم حلالاً، ولم يكن فيه جور على أحد، وهو العادل الذي أمر الله ورسوله به، ويُقصد به رضا الله تعالى.
- شروط الصلح الجائز:
يشترط لصحة الصلح ما يلي:
1 - أهلية المتصالحين، بأن تصح منهما التصرفات الشرعية.
2 - ألا يشتمل الصلح على تحريم حلال، أو تحليل حرام.
3 - ألا يكون أحد المتصالحين كاذباً في دعواه.
4 - أن يكون المصلح تقياً، عالماً بالوقائع، عارفاً بالواجب، قاصداً العدل.
5 - أن يكون الصلح على مال متقوَّم معلوم، أو منفعة مباحة معلومة.
6 - أن يكون الصلح في حقوق العباد لا في حق الله.
فيصح الصلح في الحقوق المالية، ولا يصح في العبادات والحدود؛ لأن حقوق العباد يجوز الاعتياض عنها بمال أو غيره بخلاف حقوق الله.

(3/649)


- أقسام الصلح:
ينقسم الصلح إلى قسمين:
صلح على مال .. وصلح على غير مال.
فالصلح على غير المال: أن يتم الصلح بين المختلفين بلا عوض.
والصلح على المال ينقسم إلى قسمين:
الأول: الصلح على إقرار، وهو نوعان:
1 - الصلح على جنس الحق، بأن يقر الإنسان لخصمه بدين أو عين فيُسقط عنه بعضه، فيصح ذلك؛ لأنه ملكه، وقد أسقط بعضه برضاه.
2 - الصلح عن الحق بغير جنسه، بأن يقر لخصمه بمال، أو دار، أو بستان، ثم يصطلحان على عوض ببيع أو إجارة ونحوهما، فيصح ذلك.
الثاني: صلح على إنكار:
بأن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه فينكره، فإذا اصطلحا على شيء صح الصلح، ومن كذب لم يصح الصلح في حقه باطناً، وما أخذه حرام.
وهذا الصلح يكون في حق المدعي معاوضة عن حقه، وفي حق المدعى عليه افتداء ليمينه، وقطعاً للنزاع والخصومة عن نفسه.
- حكم الصلح عن الدَّين المؤجل ببعضه حالاًّ:
من كان له على غيره دين أو عين لا يعلم مقداره، ثم تصالحا على شيء صح الصلح، ومن كان له على غيره دين حال، فوضع بعضه، وأجّل باقيه، صح الإسقاط والتأجيل، وإن صالح عن الدين المؤجل ببعضه حالاًّ صح.

(3/650)


عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْناً كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: «يَا كَعْبُ». قال: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا». وَأوْمَأ إلَيْهِ: أيِ الشَّطْرَ، قال: لَقَدْ فَعَلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «قُمْ فَاقْضِهِ». متفق عليه (1).
- ما يبطل به الصلح:
يبطل الصلح بما يلي:
الإقالة في غير القصاص .. الرد بخيار العيب أو الرؤية .. وإذا بطل الصلح رجع المدعي إلى أصل دعواه.
- حكم الإبراء:
الإبراء: إسقاط شخص حقاً له في ذمة غيره أو هبته له.
والإبراء مستحب، وهو نوع من الإحسان والبر، لتضمنه إسقاط الحق عن المدين ولو لم يكن معسراً.
قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة:280].
- شروط الإبراء:
يشترط لصحة الإبراء ما يلي:
أن يكون المبرئ من أهل التبرع .. وأن يكون مالكاً للحق المبرأ منه، أو وكيلاً عنه، أو وصياً .. وأن يتم الإبراء عن رضا .. وأن يكون المبرأ معلوماً
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (457) , واللفظ له، ومسلم برقم (1558).

(3/651)


معيناً .. وأن يكون الإبراء بعد وجوب الحق المبرأ منه.
- حكم المقاصة:
المقاصة: سقوط أحد الدينين بمثله جنساً وصفة.
كأن يكون لعلي ألف عند محمد، ولمحمد عند علي ألف، فيتلاقى الدينان قصاصاً، ويسقط حق أحدهما في مطالبة الآخر.
وتجوز المقاصة بين دين ودين، وبين دين وعين .. وبين نقد ونقد.
- حكم الإكراه:
الإكراه: هو حمل الغير على فعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو تُرك ونفسه.
- شروط الإكراه:
يشترط لتحقق الإكراه ما يلي:
أن يكون الإكراه بغير حق .. قدرة المُكرِه على تنفيذ ما هَدَّد به .. عجز المستكره عن دفع الإكراه بهرب أو غيره .. أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه .. أن يكون التهديد مما يستضر به كثيراً كالقتل، والحبس الطويل، وإتلاف المال .. أن يترتب على فعل المُكرَه به الخلاص من المهدَّد به.
- أنواع الإكراه:
الإكراه على فعلٍ أو تركٍ إما أن يكون على الأمور الحسية، أو على الأمور الشرعية:
1 - الإكراه على الأمور الحسية له ثلاثة أحوال:

(3/652)


1 - فعل مباح: فمن أُكره على أكل الميتة أو الدم، أو شرب الخمر، وخُوِّف بالقتل أو قطع العضو ونحو ذلك، فيباح له فعل ذلك؛ لأن الله أباحها عند الضرورة، ولا إثم ولا حد على من فعل ذلك.
قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].
2 - فعل مرخَّص: كإجراء كلمة الكفر على اللسان، مع اطمئنان القلب بالإيمان، وكَسَبّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الصلاة إلى الصليب، أو إتلاف مال المسلم ونحو ذلك فهو مسلم مضطر للنجاة من القتل، فهذه الأمور لا تباح، وإنما يرخص في فعلها عند الإكراه التام، ومن امتنع عن فعلها حتى قُتل فهو شهيد.
قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل:106].
3 - فعل محرم: كمن أُكره على قتل مسلم بغير حق، أو قطع عضو من أعضائه، أو أُكره على الزنا، أو ضرب الوالدين، فلا يجوز فعل ذلك مع الإكراه؛ لأن القتل والاعتداء حرام محض.
ومن أَكره أحداً على القتل فقَتل: فإن كان المكرَه كالآلة فالقصاص على المكرِه وحده، وإلا فعليهما معاً؛ لأنهما شريكان في الجريمة.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء:32 - 33].

(3/653)


2 - الإكراه على التصرفات الشرعية، وهو نوعان:
1 - نوع لا يحتمل الفسخ كالإكراه على النكاح، أو الطلاق، أو الظهار، أو العفو عن القصاص ونحو ذلك.
2 - نوع يحتمل الفسخ كالإكراه على البيع، أو الشراء، أو الإجارة ونحوها من العقود المالية.
فجميع هذه التصرفات مع الإكراه باطلة غير صحيحة، سواء كانت إنشاءً، أو إقراراً؛ لأن المستكره مسلوب الإرادة، ولا نية له ولا قصد فيما فعل.

(3/654)


24 - القسمة
- القسمة: هي تعيين الحصة الشائعة.
- حكمة مشروعية القسمة:
يشترك الناس في تجارة أو عقارات أو أملاك، ويرغب بعض الناس في التصرف في أمواله بنفسه، والتخلص من سوء المشاركة، وكثرة الأيدي والآراء.
فأباح الله القسمة تحقيقاً لهذه المقاصد، ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف المستقل في أمواله بنفسه.
- حكم القسمة:
القسمة جائزة، سواء كانت في الأعيان أو المنافع.
1 - قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} [النساء:8].
2 - وقال الله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} [القمر:28].
- أنواع القسمة:
المقسوم نوعان:
قسمة الأعيان .. وقسمة المنافع.
فالأعيان كالأموال، والعقارات، والآلات، والمزارع ونحو ذلك.
والمنافع كالمياه.

(3/655)


والقسمة نوعان:
الأول: قسمة تراض: وهي التي فيها ضرر، ورد عوض من أحدهما على الآخر كالأرض الصغيرة، والدار الصغيرة ونحوهما.
فهذه لا تجوز إلا برضا الشركاء كلهم، فكل ما لا يمكن قسمته بالأجزاء أو التعديل لا يقسم بغير رضا الشركاء كلهم كالبيع.
الثاني: قسمة إجبار: وهي التي لا ضرر فيها على الشريكين، ولا على أحدهما، ولا رد عوض كالأرض الواسعة، والمحلات التجارية، والمزارع الكبيرة، والمعدودات، والموزونات ونحو ذلك، فإذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما ذُكر وأبى الشريك الآخر، أُجبر الممتنع؛ لعدم الضرر، ولحصول النفع لكل واحد.
- شروط القسمة:
يشترط لصحة قسمة التراضي ما يلي:
أهلية المتقاسمين .. مُلك ما يُقسم .. حضور الشركاء .. رضا الشركاء بالقسمة.
ويشترط لصحة قسمة الإجبار ما يلي:
طلب الشركاء أو أحدهم من القاضي قسمة ما بينهم .. ألا يترتب على القسمة ضرر .. أن تكون القسمة عادلة غير جائرة.
- نقض القسمة:
تنقض القسمة بالإقالة .. أو بالتراضي على فسخها.

(3/656)


ويجب نقض القسمة فيما يلي:
ظهور غبن فاحش في القسمة .. وجود خطأ في المال المقسوم .. ظهور شريك آخر في المال .. ظهور دين على الميت يحيط بالتركة المقسومة.
- حكم قسمة المنافع:
قسمة المنافع جائزة كقسمة الأعيان، وقسمة الأعيان أقوى من قسمة المنافع؛ لأن الأُوْلى جمع المنافع في زمان واحد على الدوام، والثانية جمع المنافع على التعاقب بصفة وقتية، وقد ذكر الله قسمة المنافع في ناقة صالح - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء:155].
- أنواع قسمة المنافع:
قسمة المنافع نوعان:
1 - قسمة بالتراضي: وهي أن يتفق شريكان على كيفية الانتفاع من الدار أو الماء عن طريق التعاقب زماناً أو مكاناً.
2 - قسمة بالتقاضي: وهي أن يطلب الشركاء أو أحدهم القسمة من القاضي قسمة المنفعة:
إما بالمناوبة الزمانية مدة معينة لكل واحد كأن يزرع أحدهما هذه الأرض سنة، ويزرعها الآخر سنة أخرى، أو على سكنى الدار، هذا سنة، والآخر سنة أخرى، فهذه لا بد من تعيين المدة.
أو المناوبة المكانية أن يتم انتفاع الشريكين معاً في وقت واحد، كدار تجمع منافع، أحدهما في جزء من الدار، والآخر في جزء آخر، أو أحدهما في

(3/657)


العلو، والآخر في الأسفل.
- محل قسمة المنافع:
تصح قسمة المنافع المكانية في المال المشترك الذي يقبل القسمة كالأرض الكبيرة، والدار الكبيرة، أمّا ما لا يقبل القسمة كالسيارة، والحيوان، والكتاب، فلا تمكن فيه القسمة المكانية؛ لأنه محل واحد، وإنما تتعين فيه القسمة الزمانية لهذا يوم، ولهذا يوم.

(3/658)


25 - الهبة
- الهبة: هي تمليك الإنسان ماله لغيره في الحياة بلا عوض.
- الهدية: هي ما يُهدي للإنسان من مال غيره في الحياة بلا عوض.
- العطية: هي التبرع بالمال بلا عوض.
- الوصية: هي التبرع بالمال بعد الوفاة.
- الصدقة: هي التبرع بالمال في الحياة طلباً للثواب من الله تعالى.
وتطلق الهبة على الهدية والعطية، والجميع داخل في باب البر والإحسان، والصلة والمعروف، فالهبة والصدقة والعطية من رأس المال، والوصية من الثلث فأقل لغير وارث، وما زاد على الثلث، وكان لوارث، فهو موقوف على إجازة الورثة بعد الموت.
- حكمة مشروعية الهبة:
شرع الله الهبة لما فيها من تأليف القلوب، وتوثيق عرى المحبة بين الناس، خاصة إذا كانت على قريب، أو جار، أو ذي عداوة، فقد تحصل الخصومات، ويقع التنافر والتدابر، وتنقطع صلة الأرحام، فشرع الله الهبة والهدية لتصفية القلوب، وإزالة كل ما يسبب الفرقة بين الناس، ويطهر النفوس من رذيلة البخل والشح والطمع، وتحصيل الأجر والثواب لمن فعلها ابتغاء وجه الله تعالى.
- حكم الهبة:
الهبة عبادة من العبادات، وهي مستحبة؛ لما فيها من تأليف القلوب،

(3/659)


وتحصيل الأجر والثواب، وحصول المحبة والمودة.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أيِّهِمَا أهْدِي؟ قال: «إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْكِ باباً». أخرجه البخاري (2).
- فضل الهبة:
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ». متفق عليه (3).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا أنَّهَا قالتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثَلاثَةَ أهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أوقِدَتْ فِي أبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ. فَقُلتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالتِ الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلا أنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ألبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا. متفق عليه (4).
- فقه الإنفاق الشرعي:
الله عز وجل كريم يحب الجود والكرم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها .. ويدعو إلى قبولها .. ويرغِّب فيها .. وكان أعظم الناس صدقة بما ملكت
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2585).
(2) أخرجه البخاري برقم (2595).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2566) , واللفظ له، ومسلم برقم (1030).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3567) , واللفظ له، ومسلم برقم (2972).

(3/660)


يده .. لا يسأله أحد شيئاً إلا أعطاه إياه قليلاً كان أو كثيراً .. يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان فرحه وسروره بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه منه، إذا عرض له محتاج آثره على نفسه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - ينوِّع في أصناف عطائه وصدقته:
تارة بالهبة .. وتارة بالصدقة .. وتارة بالهدية .. وتارة يشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه .. وتارة يقترض الشيء فيرد أكثر منه .. وتارة يشتري الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً.
وبذلك كان أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، فصلوات الله وسلامه عليه.
- كرم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإِسْلاَمِ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَاقَوْمِ! أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لاَ يَخْشَى الفَاقَةَ. أخرجه مسلم (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6) , واللفظ له، ومسلم برقم (2308).
(2) أخرجه مسلم برقم (2312).

(3/661)


- ما تنعقد به الهبة:
تنعقد الهبة بكل لفظ يفيد تمليك المال بلا عوض كوهبتك، أو أهديتك، أو أعطيتك، وتنعقد بكل معاطاة دالة عليها.
- ما يصح هبته:
كل ما يجوز بيعه تجوز هبته من الأموال، والعقار، والمنقول، قليلاً كان أو كثيراً، ويستحب قبولها، ويكره ردها وإن قلّت.
- شروط الهبة:
يشترط لصحة الهبة ما يلي:
أن يكون الواهب جائز التصرف .. وأن يكون مختاراً .. وأن يكون مالكاً للموهوب .. وأن يصدر منه ما يدل على الهبة.
ويشترط في الموهوب: أن يكون موجوداً حقيقة .. وأن يكون مالاً متقوّماً .. وأن يكون مملوكاً للواهب.
- أنواع الهبة:
الهبة إن كانت من الغني لمثله فهي للمودة والمحبة، وإن كانت من الغني إلى الفقير فهي للإحسان والمواساة، وإن كانت من الفقير إلى الغني فهي غالباً يراد بها المكافأة.
فالهبة نوعان:
1 - هبة مطلقة لا يُقصد بها العوض، وإنما يُقصد بها الأجر، وحصول المودة، سواء كانت لمن دونه، أو أعلى منه، أو مثله، وهذه هي الأصل، وهي مستحبة.

(3/662)


عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَل لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». متفق عليه (1).
2 - هبة مقيدة، وهي التي يُقصد بها ثواب الدنيا.
فهذه حكمها حكم البيع، والغالب أن المهدي يطلب بها أكثر مما أهدى، والأفضل أن يقنع بما يُعطى، ولا يجعل الهدية طريقاً لابتزاز أموال الناس.
- ما تُملك به الهبة:
الهبة والصدقة تُملك بالقبض، فإذا لم يقبض الإنسان الهبة أو الصدقة فمن حق الواهب أو المتصدق أن يرجع فيها عند وجود عارض يمنعه من الصدقة أو الهبة.
- مقدار الهبة:
من كان له صبر على الفاقة، وقلة ذات اليد، فله التصدق بكل ماله أو بأكثره.
ومن لا صبر له، ويتكفف الناس إذا احتاج، لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره.
- الأَوْلى بالهدية:
الأولى بالإهداء إليه الأقرب فالأقرب من الأهل، والأقارب، والجيران، والأصدقاء، من الأغنياء والفقراء.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أيِّهِمَا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1388) , واللفظ له، ومسلم برقم (1004).

(3/663)


أهْدِي؟ قال: «إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْكِ باباً». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا أعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «لَوْ أعْطَيْتِهَا أخْوَالَكِ كَانَ أعْظَمَ لأَجْرِكِ». متفق عليه (2).
- ما لا يرد من الهدايا:
1 - عَنْ أنَسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّهُ كَانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ. أخرجه البخاري (3).
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلاَ يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ». أخرجه مسلم (4).
- حكم قبول الهدية:
يستحب قبول الهدية، والإثابة عليها؛ مقابلةً للجميل بمثله أو أفضل منه، فإن لم يجد دعا له.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأقُولُ: أعْطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي. فَقال: «خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». متفق عليه (5).
2 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (2259).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2594) , ومسلم برقم (999) , واللفظ له.
(3) أخرجه البخاري برقم (5929).
(4) أخرجه مسلم برقم (2253).
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1473) , واللفظ له، ومسلم برقم (1045).

(3/664)


مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثنَاءِ». أخرجه الترمذي (1).
- حكم قبول الهدية من المشركين:
تجوز الهدية للمشرك، وقبولها منه؛ تأليفاً لقلبه، وطمعاً في إسلامه.
1 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أحْسَنُ مِنْ هَذَا». متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ يَهُودِيَّةً أتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا، فَقِيلَ: ألا نَقْتُلُهَا؟ قال: «لا». فَمَا زِلتُ أعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (3).
- ما يفعل بالهدية التي لا تليق به:
1 - عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: أهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةَ سِيَرَاءَ، فَلَبِسْتُهَا، فَرَأيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي. متفق عليه (4).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُل عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي رَأيْتُ عَلَى بابهَا سِتْراً مَوْشِيّاً». فَقال: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا». فَأتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقالت: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قال: «تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلانٍ، أهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ
حَاجَةٌ». أخرجه البخاري (5).
_________
(1) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (2035).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2615) , واللفظ له، ومسلم برقم (2469).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2617) , واللفظ له، ومسلم برقم (2190).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2614) , واللفظ له، ومسلم برقم (2071).
(5) أخرجه البخاري برقم (2613).

(3/665)


3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: رَأى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ باب المَسْجِدِ، فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلوَفْدِ، قال: «إِنَّمَا يَلبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ». ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأعْطَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقال: أكَسَوْتَنِيهَا، وَقُلتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلتَ؟ فَقال: «إِنِّي لَمْ أكْسُكَهَا لِتَلبَسَهَا». فَكَسَاهَا عُمَرُ أخاً لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكاً. متفق عليه (1).
- من أهدي له هدية في مجلس فهو أحق بها:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ لِعُمَرَ صَعْبٍ، فَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَقُولُ أبُوهُ: يَا عَبْدَاللهِ، لا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ. فَقال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بِعْنِيهِ». فَقال عُمَرُ: هُوَ لَكَ، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قال: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ». أخرجه البخاري (2).
- قبول الهدية وإن قلّت:
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ، أوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أوْ كُرَاعٌ لَقَبِلتُ». أخرجه البخاري (3).
2 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قال: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ، قال: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ». متفق عليه (4).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2612) , واللفظ له، ومسلم برقم (2068).
(2) أخرجه البخاري برقم (2610).
(3) أخرجه البخاري برقم (2568).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2577) , واللفظ له، ومسلم برقم (1074).

(3/666)


- حكم الهدية للمشرك:
1 - قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة:8].
2 - وقال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان:8 - 9].
3 - وَعَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عَنهَا قَالتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلتُ: إِنَّ أُمِّي قَدمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أفَأصِلُ أمِّي؟ قال: «نَعَمْ، صِلِي أمَّكِ». متفق عليه (1).
- حكم المكافأة على الهدية:
يستحب قبول الهدية، والمكافأة عليها بأحسن منها أو مثلها؛ مقابلة للجميل بمثله، ولئلا يكون لأحد عليه منَّة، فإن لم يجد دعا له.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. أخرجه البخاري (2).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ أخَذَ سِنّاً، فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقالَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقالا». ثُمَّ قَضَاهُ أفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، وَقال: «أفْضَلُكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً». متفق عليه (3).
- حكم الثناء على المهدي:
يستحب الثناء على المهدي, والدعاء له، شكراً لإحسانه وبذله.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2620) , واللفظ له، ومسلم برقم (1003).
(2) أخرجه البخاري برقم (2585).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2609) , واللفظ له، ومسلم برقم (1601).

(3/667)


1 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالََ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثنَاءِ». أخرجه الترمذي (1).
2 - وعَنْ أَنَسٍ َ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذلَ مِنْ كَثيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا المُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَإِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذهَبُوا بالأَجْرِ كُلِّهِ. فَقَالََ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا، مَا دَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ وَأَثنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ». أخرجه أحمد والترمذي (2).
- حكم الهدية لجلب مصلحة:
من أهدى هدية لولي أمر أو غيره ليفعل معه ما لا يجوز، كان حراماً على المهدي والمهدى إليه؛ لأن ذلك من الرشوة الملعون آخذها ومعطيها.
وإن أهداه هدية ليكف ظلمه عنه، أو ليعيطه حقه الواجب له، فهذه الهدية حرام على الآخذ، وجاز للدافع دفعها إليه دفعاً لشره، وحفظاً لحق الدافع.
1 - عَنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِي أسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأَتَبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أيُهْدَى لَهُ أمْ لا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ: إِنْ كَانَ بَعِيراً لَهُ رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً
تَيْعَرُ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: «ألا هَل بَلَّغْتُ». ثَلاثاً. متفق
_________
(1) صحيح/ أخرجه الترمذي برقم (2035).
(2) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (13075) , وأخرجه الترمذي برقم (2487) , وهذا لفظه.

(3/668)


عليه (1).
2 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ فِي الحُكْمِ. أخرجه أحمد والترمذي (2).
- الفرق بين الهدية والرشوة:
الراشي يقصد بالرشوة إبطال حق، أو إحقاق باطل، فهذا محرم، فإن رشا لدفع الظلم عن نفسه اختص المرتشي وحده باللعنة.
وأما المهدي فقصده استجلاب المودة والإحسان، فإنْ قَصَد المكافأة فهو معاوض، وإن قصد الربح فهو مكاثر.
- حكم العُمْرَى والرُّقْبَى:
العمرى: أن يهب الإنسان غيره شيئاً مدة عمره، فإذا مات عادت للواهب، كأن يقول: أعمرتك هذه الدار مدة عمرك، أو مدة عمري.
الرقبى: كأن يقول: أرقبتك داري مدة حياتك، فإن مت قبلي رَجَعَتْ إليّ، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك.
فالعمرى والرقبى نوع من الهبة، لكنه مؤقت بوقت.
وحكمها أنها جائزة، والتوقيت باطل، فتكون العمرى والرقبى لمن وهبت له حياته، ولورثته من بعده، ولا ترجع للواهب.
1 - عَنْ جَابِرِ بْن عَبْداللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمْسِكُوا
عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلاَ تُفْسِدُوهَا، فَإنّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلّذِي أُعْمِرَهَا، حَيّاً
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7174) , واللفظ له، ومسلم برقم (1832).
(2) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (9023)، وأخرجه الترمذي برقم (1336) وهذا لفظه.

(3/669)


وَمَيّتاً، وَلِعَقِبِهِ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالعُمْرَى، أنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. متفق عليه (2).
- حكم الهبة في مرض الموت:
المريض مرض الموت إذا وهب غيره هبة فحكم هبته كحكم الوصية، فلا تصح إلا إذا أجازها الورثة بعد الموت، ولا تصح لغير وارث بأكثر من الثلث إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت.
وإن وهب في مرض الموت ثم شفي فالهبة صحيحة.
- حكم الإشهاد على الهبة:
يستحب الإشهاد على الهبة قطعاً للنزاع والخلاف.
عَنِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أعْطَانِي أبِي عَطِيَّةً، فَقالتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: إِنِّي أعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأمَرَتْنِي أنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «أعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا». قال: لا، قال: «فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أوْلادِكُمْ». قالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. متفق عليه (3).
- حكم الرجوع في الهبة:
من وهب لغيره هبة فلا يجوز له الرجوع فيها، إلا الوالد إذا وهب ولده فله
الرجوع، ويجوز للأب أن يأخذ من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1625).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2625) , واللفظ له، ومسلم برقم (1625).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2587) , واللفظ له، ومسلم برقم (1623).

(3/670)


1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلبِ، يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَرْفَعَانِ الحَدِيث قَالَ: لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثمَّ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاَّ الوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. أخرجه أبو داود والترمذي (2).
- حكم رد الهدية:
يستحب قبول الهدية، ويجوز ردها لسبب كأن يعلم أن المهدي صاحب منّة، أو يعيّرك بها، أو يتحدث بها أمام الناس.
ويجب رد الهدية لمانع شرعي كأن تكون مسروقة، أو مغصوبة، أو محرمة.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ: أنَّهُ أهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيّاً، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ أوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأى مَا فِي وَجْهِهِ قال: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلا أنَّا حُرُمٌ». متفق عليه (3).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلامٌ، فَنَظَرَ إلَى أعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قال: «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلَى أبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأنْبِجَانِيَّةِ أبِي جَهْمٍ، فَإنَّهَا ألهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلاتِي». متفق عليه (4).
- كيف يعطي الإنسان أولاده؟:
1 - إذا أراد الإنسان أن يعطي أولاده من ماله فيجب عليه التسوية بينهم حسب
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2589) , واللفظ له، ومسلم برقم (1622).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3539) , وأخرجه الترمذي برقم (2132) , وهذا لفظه.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1825) , واللفظ له، ومسلم برقم (1193).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (373) , واللفظ له، ومسلم برقم (556).

(3/671)


ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن فضّل بعضهم على بعض سَوَّى برجوع أو زيادة.
2 - إذا أعطى الإنسان أحد أولاده لسبب خاص من حاجة، أو زَمَانة، أو مرض، أو عجز، أو كثرة أولاد، أو لانشغاله بالعلم ونحوه، فيجوز التخصيص من أجل ذلك، ويحرم ذلك على سبيل الأَثَرة، وكذلك يعطي الورثة حسب ميراثهم.
عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: أعْطَانِي أبِي عَطِيَّةً، فَقالتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: إِنِّي أعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأمَرَتْنِي أنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «أعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا». قال: لا، قال: «فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أوْلادِكُمْ». قال: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2587) , واللفظ له، ومسلم برقم (1622).

(3/672)


26 - الوصية
- الوصية: هي التبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعد الموت.
- الفرق بين الوصية والهبة:
الوصية: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع.
والهبة: تمليك المال لغيره في الحال.
وكلاهما يصح من مسلم وكافر.
- حكمة مشروعية الوصية:
قد يغفل الإنسان في حياته عن أعمال البر والخير، ومن رحمة الله بعباده أن شرع لهم الوصية؛ زيادة في القربات والحسنات، وتداركاً لما فرط فيه الإنسان في حياته من أعمال البر.
فجعل سبحانه للمسلم نصيباً من ماله يفرضه قبل مماته في أعمال البر التي تعود على الفقراء والمحتاجين بالخير والفضل، وتعود على الموصي بالثواب والأجر، والاستزادة من العمل الصالح، ومكافأة من أسدى للمرء معروفاً، وصلة للرحم والأقارب غير الوارثين، وسد خَلّة المحتاجين.
- حكم الوصية:
الوصية لها خمسة أحكام:
1 - واجبة: كالوصية برد الودائع والديون التي لا يعلمها إلا الموصي، والوصية بقضاء الحقوق الشرعية، سواء كانت لله كالزكاة والكفارات، أو كانت لآدمي كالديون والودائع ونحوهما، والوصية برد المغصوب أو المسروق

(3/673)


ونحوهما.
2 - مستحبة: كالوصية للأقارب غير الوارثين، والفقراء والمساكين، وجهات البر والخير.
3 - محرمة: كالوصية بمعصية كبناء كنيسة، أو مصنع خمر، أو دار لهو، أو نشر كتب الضلال، والوصية لأهل الفسوق والعصيان، أو كان فيها إضرار بالورثة، أو الوصية لوارث محاباة له.
4 - مكروهة: كالوصية من فقير وارثه محتاج.
5 - مباحة: كالوصية من غني للأغنياء من الأقارب والأجانب.
1 - قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة:180 - 182].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». متفق عليه (1).
- حكم تعجيل الوصية:
تنفيذ الوصية يكون بعد الموت، والأفضل تعجيل الوصايا لجهات البر في الحياة، وعدم تأخيرها لما بعد الموت؛ لأنه لا يأمن الموصي أن يُفرَّط بها بعد موته.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2738) , واللفظ له، ومسلم برقم (1627).

(3/674)


فالصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية؛ لأن المتصدق يجد ثواب عمله أمامه، ويصرفه حال حياته.
1 - قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} [المنافقون:10].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرًا؟ قال: «أنْ تَصَدَّقَ وَأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ وَتَأمُلُ الغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ». متفق عليه (1).
- أركان الوصية:
أركان الوصية أربعة:
الموصي: وهو من صدرت منه الوصية.
الموصى إليه: وهو محل الوصية.
والموصى فيه: وهو المال أو التصرف.
والصيغة: وهي الإيجاب من الموصي، والقبول من الموصى إليه.
- شروط الوصية:
يشترط لصحة الوصية ما يلي:
أن يكون الموصي أهلاً للتبرع .. وأن يكون راضياً مختاراً .. وأن يكون مالكاً لما يوصي فيه.
ويشترط في الموصى له: أن يكون موجوداً .. وأن يكون معلوماً بنفسه أو
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1419) , واللفظ له، ومسلم برقم (1032).

(3/675)


صفته .. وأن تكون الجهة الموصى لها جهة بر لا جهة معصية .. وأن يكون الموصى إليه في التصرف حسن التصرف .. وأن يكون الموصى له بالمال غير وارث.
ويشترط في الموصى به: أن يكون مالاً يباح الانتفاع به شرعاً .. وأن يكون مملوكاً للموصي .. وأن يكون مما يصح تملّكه شرعاً .. وألا يكون الموصى به معصية أو محرم شرعاً .. وألا يكون بأكثر من ثلث ماله إن كان له وارث .. حصول الإيجاب من الموصي بقول أو فعل أو كتابة قبل موته .. وقبول الموصى له.
- أنواع الوصايا:
الوصية المشروعة أنواع، ومنها:
الوصية بالدين .. والوصية بالمال .. والوصية على الأهل .. والوصية على الأولاد .. والوصية على الأيتام .. والوصية على الأموال .. والوصية على الإنفاق.
- أعظم الوصايا:
أعظم الوصايا وأعلاها وأهمها هي الوصية بالدِّين والإيمان والتقوى، وهي وصية الله للأولين والآخرين .. ووصية الأنبياء لأبنائهم وأتباعهم إلى يوم الدين.
1 - قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)} [النساء:131].

(3/676)


2 - وقال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة:132 - 133].
3 - وَعَنْ طَلْحَة بن مُصَرِّفٍ قَالَ: سَألْتُ عَبْدَاللهِ بْنَ أبِي أوْفَى رَضيَ اللهُ عَنهُ، هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أوْصَى؟ فَقال: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصِيَّةُ، أوْ أُمِرُوا بِالوَصِيَّةِ، قال: أوْصَى بِكِتَابِ اللهِ. متفق عليه (1).
- وجوه الوصية:
1 - تكون الوصية بالتبرع بالمال بعد الموت، كأن يوصي بخُمس ماله لمعين كفلان، أو لموصوف كالفقراء، أو طلبة العلم، أو المجاهدين في سبيل الله، أو لجهة كبناء مسجد، أو حفر بئر، أو جمعية خيرية ونحو ذلك.
2 - تكون الوصية بالتصرف المعلوم بعد الموت، كأن يوصيه بأن يزوج بناته، أو ينظر لصغاره، أو يفرق ثلثه ونحو ذلك، وهذه قربة يثاب عليها من قدر عليها.
ويصح قبول الموصى إليه الوصية في حياة الموصي وبعد موته، فإن ردها بطلت.
- حكم كتابة الوصية:
تصح الوصية بلفظ مسموع من الموصي أو خطه، ويستحب للإنسان أن يكتب وصيته قبل موته، ويُشهد عليها شاهدين؛ قطعاً للنزاع.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2740) , واللفظ له، ومسلم برقم (1634).

(3/677)


1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». متفق عليه (1).
- وقت ثبوت الوصية:
يستحق الموصى له الوصية بعد موت الموصي، وبعد سداد ديونه، فإذا استغرقت الديون التركة كلها فليس للموصى له شيء؛ لأن الإنسان إذا مات أُخرج من تركته الدَّين، ثم الوصية، ثم الميراث.
والاعتبار بصحة الوصية وعدم صحتها بحال الموت، فلو أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث، كأخ حُجب بابن تجدد صحت الوصية، ولو أوصى لغير وارث فصار عند الموت وارثاً، كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية، ثم مات ابنه، فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة.
قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12].
- ما يترتب على الوصية:
يترتب على ثبوت الوصية ثبوت الملك للموصى له من وقت وفاة الموصي.
وإن لم يقبل الموصى له لم يتملك الموصى به، وعاد الملك إلى الورثة.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2738) , واللفظ له، ومسلم برقم (1627).

(3/678)


وتنفذ وصية من لا دَيْن عليه ولا وارث له بكل ماله، من غير توقف على إجازة أحد.
- الحكم إذا تزاحمت الوصايا:
إذا تزاحمت الوصايا، وضاق عنها الثلث، ولم يُجز الورثة، أو أجازوها ولم تتسع التركة لتنفيذ جميع الوصايا فنعمل ما يلي:
1 - إن كان التزاحم في الوصايا بين الأشخاص، كما لو أوصى لزيد بخمسين، ولعمر بعشرين، ولخالد بثلاثين، فيُقسم الثلث بينهم حسب ما فرض لهم الموصي بحسب نسبته.
2 - إن كان التزاحم في حقوق الله تعالى كفرض الحج، والزكاة، وصدقة التطوع، فيقدم الفرض على التطوع، فينفِّذ الوصية بأداء الحج عنه، وإخراج الزكاة الواجبة عنه، فإن بقي من الثلث شيء أدى التطوع من صدقات، وحج تطوع ونحوهما.
3 - إذا تزاحمت في الوصية حقوق الله وحقوق العباد قُدِّم حق الله على غيره؛ لأن دَيْن الله أحق بالوفاء.
- أقسام الأوصياء:
ينقسم الأوصياء إلى ثلاثة أقسام:
1 - وصي الخليفة: وهو من يوصي له الخليفة بالبيعة من بعده.
2 - وصي القاضي: وهو الذي يعينه القاضي مشرفاً على أمور القصر والصغار المالية.
3 - الوصي المختار: وهو من يوصي إليه الإنسان في حياته للنظر في شئون أولاده أو أمواله بعد موته.

(3/679)


وقبول هذه الوصية للقادر قربة إلى الله؛ لأنها تعاون على البر والتقوى، ومن لا يقدر عليها فتركها أولى.
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} [البقرة:220].
- أنواع تصرفات الوصي:
البيع والشراء لمصلحة الموصى عليه .. التوكيل .. والإيصاء لغيره بإذن الموصي .. المضاربة بمال الموصى عليه .. وقضاء الدين .. والقسمة عن الموصى له .. دفع المال للمحجور عليه عند رشده .. الأكل من مال اليتيم وركوب دوابه بقدر الحاجة .. وإذا امتنع عن القيام بالوصية إلا بأجره .. فيجعل له القاضي أُجرة المثل.
قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء:6].
- مقدار الوصية المسنونة:
1 - من كان ماله يسيراً فالأفضل أن يتركه لورثته.
2 - من كان له مال كثير وله وارث فالأفضل أن يوصي بالخمس أو الربع، ويجوز له أن يوصي بالثلث من ماله، ولا تنفذ وصيته بأكثر من الثلث إلا بإجازة الورثة لها بعد موت الموصي، ومن كان له مال كثير، وليس له وارث، وليس
عليه دين, فيجوز له أن يوصي بجميع ماله في كل ما فيه منفعة ومصلحة؛

(3/680)


لأن المنع بأكثر من الثلث لحق الورثة، ولا وارث هنا.
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ». فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ». ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ، أَوْ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ». متفق عليه (1).
- حكم الوصية بأكثر من الثلث:
من كان له وارث فلا تجوز له الوصية لغير وارث بأكثر من الثلث، فإن أوصى له بالزيادة على الثلث فلا بد من إجازة الورثة لها بعد الموت وإلا بطلت.
ولا يجوز له الوصية لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة، فإن لم يجيزوا بطلت، وإن أجاز بعضهم دون بعض نَفَذَت في حق المجيز فقط، ولا تكون الإجازة مقبولة ولا ملزمة إلا بعد موت الموصي.
ويشترط فيمن يجيز أن يكون من أهل التبرع، وأن يكون عالماً بما يجيزه.
- نص الوصية:
يستحب للموصي إن كان له مال أن يبادر لكتابة وصيته، وأن يُشهد عليها شاهدين، وأن يبينها حتى يسهل تنفيذها والعمل بها، وأن يكتب في صدرها
الوصية العظمى، وهي الوصية بتقوى الله، ثم يذكر ما يريد.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1295) , واللفظ له، ومسلم برقم (1628).

(3/681)


عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِى صُدُورِ وَصَايَاهُمْ: هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلاَنُ ابْنُ فُلاَنٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِى القُبُورِ، وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبَ: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. أخرجه البيهقي والدارقطني (1).
- حكم تبديل الوصية:
يجب أن تكون الوصية بالمعروف، فإن قصد الموصي مضارة الوارث حرم عليه ذلك، وهو آثم، ويحرم على الموصى إليه وغيره تبديل الوصية العادلة.
وينبغي لمن علم أن في الوصية جَنَفاً أو إثماً أن ينصح الموصي ويشير عليه بالأحسن والأعدل، وينهاه عن الجور والظلم.
فإن لم يستجب أصلح بين الموصى إليهم؛ ليحصل العدل والتراضي، وبراءة ذمة الميت.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة:180 - 182].
_________
(1) صحيح/ أخرجه البيهقي برقم (12463) , وأخرجه الدارقطني برقم (4348) , انظر «إرواء الغليل» رقم (1647).

(3/682)


- حكم الوصية لغير وارث:
تستحب الوصية للوالدين الَّذَين لا يرثان كالوالدين من الرضاع، وللأقارب الفقراء الذين لا يرثون؛ لأنها عليهم صدقة وصلة.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة:180].
- حكم الرجوع في الوصية:
يجوز للموصي الرجوع في الوصية، ونقضها، وزيادتها، سواء كتبت أم لا، فإذا مات الموصي استقرت.
- ما تبطل به الوصية:
تبطل الوصية بأسباب:
إما من الموصي كرجوعه عن الوصية، وإما من الموصى له، وهو رد الوصية، أو موته قبل الموصي، أو قتل الموصي، أو جنون الموصي له بالتصرف، وإما من الموصى به، وهو هلاك العين الموصى بها، أو استحقاقها.
وإما بانتهاء مدة الوصية.
- حكم الوصية للوالدين بأعمال البر:
يستحب للمسلم أن يوصي لوالديه، أو أقاربه بحَجَّة أو أضحية ونحوها، وينفذها لهم في حياته؛ لأنه من باب البر والإحسان إليهم بالثواب، لا من باب الوصية التي يُقصد بها التمليك بعد الموت.

(3/683)


27 - الوقف
- الوقف: هو حبس أصل المال، وتسبيل منافعه، طلباً للثواب من الله عز وجل.
- حكمة مشروعية الوقف:
يرغب من وسَّع الله عليهم من أهل الغنى واليسار أن يتزودوا من الطاعات، ويُكثروا من القربات، وذلك بوقف شيء من أموالهم العينية مما يبقى أصله، وتستمر منفعته، خشية أن يؤول بعد الموت إلى من لا يحفظه ولا يصونه.
لذا شرع الله الوقف لما فيه من مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالعبد يعظم أجره بتوقيف ماله ابتغاء وجه الله، والموقوف عليه ينتفع بذلك المال، ويدعو لصاحب الوقف.
- حكم الوقف:
الوقف مستحب؛ لما فيه من بر الأحباب، ومواساة الفقراء في الدنيا، وتحصيل الثواب في الآخرة.
والوقف الشرعي الصحيح هو ما كان على جهة بر من قريب، أو فقير، أو جهة خيرية نافعة، فهو صدقة جارية دائمة.
وهو من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ورغَّب فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه صدقة دائمة ثابتة في وجوه البر والإحسان.
وهو من أجلِّ وأعظم أعمال القُرب التي لا تنقطع بعد الموت.
1 - قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} [آل عمران: 92].

(3/684)


2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». أخرجه مسلم (1).
3 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أرْضاً، فَأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أصَبْتُ أرْضًا، لَمْ أصِبْ مالاً قَطُّ أنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا». فَتَصَدَّقَ عُمَرُ: أنَّهُ لا يُبَاعُ أصْلُهَا، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. متفق عليه (2).
- أركان الوقف:
أركان الوقف أربعة:
الواقف .. والموقوف .. والموقوف عليه .. والصيغة: وهي إيجاب الواقف على نفسه الوقف بالقول أو الفعل حسب العرف.
- أقسام الوقف:
الوقف قسمان:
الأول: وقف على المصالح الدينية.
كأن يوقف الإنسان مسجداً، أو مدرسة لطلاب العلم، أو داراً للضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل ونحو ذلك.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1631).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2772) , واللفظ له، ومسلم برقم (1632).

(3/685)


الثاني: وقف على المصالح الدنيوية.
كأن يبني داراً ويجعلها وقفاً على ورثته، أو يوقف مزرعة ويجعل غَلَّتها لهم.
فهذا وذاك كلاهما صدقة جارية باقية للعبد بعد وفاته.
- شروط الوقف:
يشترط لصحة الوقف ما يلي:
1 - أن يكون الواقف أهلاً للتبرع، مالكاً لما سيقفه.
2 - أن يكون الموقوف مالاً متقوَّماً، معلوماً، مملوكاً للواقف.
3 - أن يكون الوقف عيناً معلومة يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.
4 - أن يكون الوقف على بر كالمساجد، والقناطر، والأقارب، والفقراء.
5 - أن يكون الوقف على معين من جهة كمسجد كذا، أو صنف كالفقراء، أو شخص كزيد مثلا.
6 - أن يكون الوقف مؤبداً غير مؤقت، منجّزاً غير معلق، إلا إذا علقه بموته فيصح ويكون وصية.
- ما ينعقد به الوقف:
ينعقد الوقف ويصح بأحد أمرين:
1 - القول: كأن يقول: وقّفت، أو حبّست، أو سبّلت ونحو ذلك.
2 - الفعل: كأن يبني مسجداً ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو يسوِّر مقبرة ويأذن للناس بالدفن فيها، أو يقيم مدرسة ويأذن للناس بالدراسة فيها، أو يحفر بئراً ويأذن للناس بالشرب منها.

(3/686)


- أنواع الوقف:
الوقف إما أن يكون على شخص كزيد مثلاً .. أو يكون على جهة خيرية كمسجد أو مدرسة أو مستشفى أو بئر ماء ونحو ذلك .. أو يكون على صنف معين كالفقراء، أو المعلمين، أو طلبة العلم ونحو ذلك.
- ما يصح وقفه:
يجوز وقف كل ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه من عقار، ومنقول.
فالعقار كالأرض، والدار، والدكان، والبستان ونحو ذلك.
والمنقول كالحيوان، والسيارة، والسلاح، والدروع، والآلات، والكتب، والحلي، والأثاث ونحو ذلك.
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَجَدَ مالاً بِخَيْبَرَ، فَأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا». فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ، وَذِي القُرْبَى، وَالضَّيْفِ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِالمُطَّلِبِ: فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أنَّهُ كَانَ فَقِيراً فَأغْنَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأمَّا خَالِدٌ: فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً، قَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَأعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأمَّا العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِالمُطَّلِبِ: فَعَمُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا». متفق عليه (2).
- مقدار الوقف:
ليس للوقف مقدار محدد، لكن الوقف يختلف باختلاف أحوال الناس في
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2773) , واللفظ له، ومسلم برقم (1632).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1468) , واللفظ له، ومسلم برقم (983).

(3/687)


الغنى والسعة، فمن كان غنياً لا وارث له، فله أن يوقف جميع ماله، ومن كان غنياً وله ورثة فله أن يوقف بعض المال، ويترك الباقي للورثة.
- مدة الوقف:
الوقف مطلق مؤبد لله عز وجل.
فمن أوقف أرضاً أو داراً أو مزرعة لله عز وجل فقد خرجت عن ملكه وتصرفه إلى ملك الله عز وجل، فلا تباع، ولا توهب، ولا تورث، ولا تسترد، وليس للورثة أن يبيعوها؛ لأنها خرجت عن ملكية المورِّث.
- ثبوت الوقف:
إذا نطق الإنسان بصيغة الوقف، أو فعل الواقف ما يدل على الوقف، فقد لزم الوقف، ولا يحتاج ثبوت الوقف إلى قبول الموقوف عليه، ولا يحتاج كذلك إلى إذن الحاكم، وإذا ثبت الوقف فإنه لا يجوز التصرف فيه بما يزيل وقْفِيَّته.
- اختيار الوقف:
الله تبارك وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا أراد المسلم أن يوقف شيئاً طلباً لمرضاة الله عز وجل، فيحسن به أن يختار أحسن أمواله، وأنفسها عنده، وأحبها إليه، وذلك من تمام البر والإحسان.
عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأَنْصار بِالمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أحَبُّ أمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قال أنَسٌ: فَلَمَّا
أُنْزِلَتْ هَذِهِ الايَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. قَامَ أبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وَإِنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ،

(3/688)


أرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أرَاكَ اللهُ. قال: فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ». فَقال أبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. متفق عليه (1).
- أفضل الأوقاف:
أفضل الأوقاف وأحبها إلى الله عز وجل هو كل ما عمّ نفعه لعموم الناس في كل زمان ومكان، كوقف الماء، وبناء المساجد، ودور العلم، وعلى المجاهدين في سبيل الله، وطلبة العلم، والأقارب، والفقراء، والبساتين التي يطعم منها الفقراء والمساكين.
وأفضل الأوقاف ما فيه إحياء النفوس والقلوب، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأموال، والأحوال، والأشخاص.
فإذا كان الإنسان في بلد يموت فيه الناس من الجوع والعطش فالأفضل الوقف على إنقاذ الأنفس من الموت والجوع والعطش، والصدقة على القريب الفقير أفضل؛ لأنها صدقة وصلة.
وإذا كان الإنسان في بلد فيه الأرزاق متيسرة، والناس محتاجون إلى العلم، فبناء المساجد ودور العلم أفضل وأعظم ثواباً .. وهكذا.
- أنواع الأوقاف في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
1 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ أمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، وَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا». قَالُوا: لا وَاللهِ، لا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1461) , واللفظ له، ومسلم برقم (998).

(3/689)


نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللهِ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أرْضاً، فَأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أصَبْتُ أرْضاً، لَمْ أصِبْ مالاً قَطُّ أنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا». فَتَصَدَّقَ عُمَرُ: أنَّهُ لا يُبَاعُ أصْلُهَا، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. متفق عليه (2).
3 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تُوُفِّيَتْ أمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أمِّي تُوُفِّيَتْ وَأنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا. أخرجه البخاري (3).
4 - وَعَنْ أبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ أنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حِينَ حُوصِرَ، أشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أنْشُدُكُمُ اللهَ، وَلا أنْشُدُ إِلا أصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَحَفَرْتُهَا، ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَجَهَّزْتُهُ، قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ.
أخرجه البخاري (4).
5 - وَعَنْ عُمَر بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأرَدْتُ أنْ أشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2774) , واللفظ له، ومسلم برقم (524).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2772) , واللفظ له، ومسلم برقم (1632).
(3) أخرجه البخاري برقم (2756).
(4) أخرجه البخاري برقم (2778).

(3/690)


فَسَألْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: «لا تَشْتَرِه، وَلا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ». متفق عليه (1).
- صفة قسمة ريع الوقف:
1 - إذا وقف الإنسان على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، فإن لم يمكن جاز التفضيل والاقتصار على أحوجهم.
2 - إذا وقف على أولاده ثم على المساكين، فهو لأولاده الذكور والإناث وإن نزلوا للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن كان لبعضهم عيال، أو به مرض، أو كان محتاجاً أو عاجزاً عن الكسب فخصه بشيء من الوقف فحسن.
3 - إذا قال هذا الوقف وقف على أبنائي أو بني فلان فهو للذكور دون الإناث إلا أن يكون على قبيلة كبني هاشم فيدخل النساء مع الرجال.
4 - يجب العمل بشرط الواقف في الجمع والتقديم والترتيب ما لم يخالف الشرع، فإن أطلق ولم يشترط عمل بالعادة والعرف ما لم يخالف الشرع.
- أحكام الوقف:
1 - يصح الوقف على كل بر، على الغني والفقير، والقريب والبعيد، والجهات
والأفراد.
2 - يجوز الوقف على أكثر من جهة كالفقراء، والعلماء، والأغنياء ونحو ذلك.
3 - لا يصح وقف ما يَتْلف بالانتفاع به كالنقود، والطعام، والشراب، ولا ما لا يجوز بيعه كالمرهون، والمغصوب.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1490) , واللفظ له، ومسلم برقم (1620).

(3/691)


4 - يصح وقف المعيَّن والمشاع.
5 - إذا وقف شيئاً ولم يبين المصرف فيُصرف في أفضل جهات البر والإحسان المتعدي نفعها كبناء المساجد، وحفر الآبار، والفقراء، وطلبة العلم وغيرها.
6 - ما فَضُل من رَيْع الوقف يُصرف في مثله كمسجد، أو مدرسة، أو مستشفى ونحو ذلك.
7 - إذا وقف على ما فيه معصية صح الوقف، لكن يصرفه القاضي إلى أقرب السبل خيراً من جهات البر والإحسان، كما لو وقف داراً لبناء كنيسة، أو مصنع خمر ونحو ذلك فتُصرف لبناء مسجد، أو سقي الماء ونحو ذلك.
8 - الوقف أصل ثابت يجوز دفعه إلى آخرَ يقوم بتعميره من ماله بنسبة معينة من ريعه.
- حكم بيع الوقف:
الوقف مال أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل، فلا يجوز التصرف فيه ببيع أو هبة ونحوهما؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مبنية على الولاية العامة للحاكم ببيع ما لا مالك له.
فإذا خرب الوقف، وتعطلت منافعه جاز بيعه واستبداله بمثله أو أفضل منه، كدار انهدمت، أو أرض خربت، أو مسجد انصرف أهل القرية عنه، أو ضاق
بأهله ولم يمكن توسيعه ونحو ذلك من الأسباب التي تُنقِص أو تَمنع الانتفاع به.
- حكم تغيير صورة الوقف:
الوقف ينفَّذ حسب أمر الواقف، ولا يجوز تبديل صورة الوقف سواء كان

(3/692)


أرضاً، أو مزرعة، أو مسجداً، أو داراً، إلا إذا تعطلت منافعه فيُصرف في مثله.
وتجوز مخالفة نص الواقف بنظر القاضي إلى ما هو أصلح وأنفع وأحب إلى الله تعالى.
ويجوز إبدال الموقوف بخير منه في حالتين:
إحداهما: أن يكون الإبدال للحاجة كمسجد رحل الناس عنه، أو دار انهدمت، أو فرس انكسرت، فيباع ويُشترى بثمنه ما يقوم مقامه من مثله.
الثانية: الإبدال لمصلحة راجحة كبستان تعطلت منافعه، وقَرُب منه العمران، يُقَطَّع أراضي، ويبنى عليها مسجد، أو مدرسة، أو مستشفى، أو بيوت لسكن الفقراء والأيتام والأرامل، أو محلات تجارية تبنى وتؤجر، وتؤخذ أجرتها وتصرف في وجوه البر والإحسان ونحو ذلك.
فمع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه؛ لظهور المصلحة، وعموم المنفعة.
- الناظر على الوقف:
يجب على الواقف أن يعين ناظراً على الوقف؛ لئلا يضيع، وإذا لم يعين الواقف ناظراً فالنظر يكون للموقوف عليه إن كان معيناً، ويجوز تعدد النظَّار عند الحاجة.
وإن كان على جهة كالمساجد، والجهات الخيرية، ومن لا يمكن حصرهم كالفقراء، وطلبة العلم، والمجاهدين ونحوهم فالنظر على الوقف يكون للحاكم.
ويشترط في الناظر العدالة والكفاية، فإن لم تتوفر العدالة والكفاية نزع

(3/693)


الحاكم الوقف منه، وأشرف عليه.
- وظيفة الناظر:
مهمة ناظر الوقف محصورة في أمرين:
الأول: المحافظة على الوقف، ورعايته، وصيانته، وتنميته.
الثاني: صرف الوقف في الجهة التي سمى الواقف، ولا يتصرف زيادة على ذلك إلا بإذن القاضي.
- عزل الناظر:
يجوز للواقف عزل الناظر متى شاء .. وللناظر عزل نفسه متى شاء بعلم القاضي.
ويجب على القاضي عزل الناظر إذا كان خائناً غير مأمون، أو كان عاجزاً، أو ظهر به فسق كشرب خمر ونحوه، أو كان يصرف مال الوقف في غير المفيد.
وإذا تم عزل الناظر عيَّن القاضي ناظراً غيره على الوقف، وتكون أجرته من ريع الوقف يقدِّرها القاضي حسب العرف.
- نفقة الوقف:
نفقة الوقف وعمارته وصيانته حيث شَرَطها الواقف إما من ماله، أو من مال الوقف، فإن لم يمكن معرفة ذلك فمن غَلَّة الوقف أو منافعه؛ لأن حفظ أصل
الوقف لا يمكن إلا بالإنفاق عليه من غَلَّته، فإن تعطلت منافع الوقف على جهة فنفقته من بيت المال؛ لأنه من المصالح العامة.
- حكم الوقف على الورثة:
يجب على الإنسان التسوية بين أولاده، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يجوز

(3/694)


تفضيل بعضهم على بعض بدون سبب ظاهر.
وإذا كان أحد أولاده مريضاً أو عاجزاً فيجوز أن يخصه بما يسد حاجته.
ويحرم على الإنسان أن يقف وقفاً يضارّ به الورثة، فإن فعل فالوقف باطل.
وإذا خاف الرجل على بناته أن تُطَلَّق من بعده، أو ترمل بناته من بعده، فلا حرج عليه أن يوقف عليهن الدور؛ شفقة عليهن، ورحمة بهن؛ لأن الذكر يستطيع أن يتكسب، بخلاف الأنثى، خاصة إذا طُلِّقت ربما لا تجد من يرفق بها، خاصة إذا لم يكن لها أبناء، أو من يقوم عليها.
- حكم وقف الكافر:
الوقف قربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل.
ويصح الوقف من الكافر، لكن يثاب على صدقاته في الدنيا، ولا حظ له من الثواب في الآخرة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا». أخرجه مسلم (1).
- حكم أوقاف الكفار:
أوقاف الكفار نوعان:
1 - الوقف على معين، أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كإطعام الفقراء، وإصلاح الطرق، وحفر الآبار، والمصالح العامة.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2808).

(3/695)


فهذا الوقف صحيح ينفع صاحبه الكافر في الدنيا لا في الآخرة.
2 - الوقف على الكنائس والبِيَع ومواطن الشرك ونحوها.
فهذا الوقف لا يصح من مسلم ولا كافر؛ لما فيه من الإعانة على الكفر وتقويته واستمراره.
وللإمام أن يستولي على كل ذلك، ويجعله في القربات التي شرعها الله ورسوله.
- زكاة الوقف:
الوقف له حالتان:
الأولى: أن يكون الوقف على جهة تستحق الزكاة، فهذا لا زكاة فيه.
الثانية: أن يكون الوقف على جهة لا تستحق الزكاة، فهذا بمجرد صرف الأموال لكل واحد من الموقوف عليهم يستقبل به الحول، ثم يزكيه إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب.
وزكاة الزروع والثمار تجب بعد جَنْيه وحصاده: العشر فيما سقي بلا مؤنة، ونصف العشر فيما سقي بمؤنة.
- مبطلات الوقف:
يبطل الوقف بما يلي:
الوقف على كنيسة .. الوقف على معصية .. الوقف على كافر حربي .. الجهل بسبق الوقف على الدين .. موت الواقف قبل تسليم الوقف.

(3/696)


28 - العتق
- العتق: هو فك رقبة الآدمي من الرق.
نشأة الرق:
الإنسان إذا كفر بالله نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، فإذا وقف في وجه الإسلام محارباً له ثم أُسِر، فالإمام مخير بين ضرب عنقه، أو استرقاقه، فإذا أسلم هذا الرقيق المملوك فتح الإسلام له أبواب العتق، ورغب في عتقه وتحريره من الرق.
- سبب الرق:
الناس كلهم أحرار، ولا يجوز استرقاق الآدميين إلا بسبب واحد، وهو أن يؤسروا وهم كفار مقاتلون.
وقد جعل الله عز وجل لتخليصهم من ذل الرق عدة أسباب، فقد جعل العتق الكفارة الأولى في قتل الخطأ، وفي الظهار، وفي الوطء في نهار رمضان، كما جعله من مكفرات اليمين، ومن أفضل القُرَب.
- حكمة مشروعية العتق:
العتق من أعظم القُرَب التي رغَّب فيها الإسلام؛ لما فيه من تخليص الآدمي من ذل الرق، وتمكينه من التصرف في نفسه وماله كيف شاء.
- حكم العتق:
عتق الرقاب من ذل الرق من أعظم القُرَب المستحبة.
1 - قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}

(3/697)


[البلد:11 - 13].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا رَجُلٍ أعْتَقَ امْرَأً مُسْلِماً، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ». متفق عليه (1).
- فضل العتق:
عَنْ أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأدَّبَهَا فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَأعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أجْرَانِ، وَأيُّمَا عَبْدٍ أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أجْرَانِ». متفق عليه (2).
- أفضل الرقاب:
عَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَألْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ». قُلْتُ: فَأيُّ الرِّقَابِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «أغْلاهَا ثَمَنًا، وَأنْفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا». متفق عليه (3).
- وقت العتق:
يستحب العتق في كل وقت، ويتأكد عند ظهور الآيات كالكسوف، والخسوف ونحوهما.
عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالتْ: أمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. متفق عليه (4).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2517) , واللفظ له، ومسلم برقم (1509).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2547) , واللفظ له، ومسلم برقم (154).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2518) , واللفظ له، ومسلم برقم (84).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2519) , واللفظ له، ومسلم برقم (905).

(3/698)


- ما يحصل به العتق:
يقع العتق من الجاد والهازل بكل لفظ يدل عليه كأنت حر أو عتيق ونحوهما.
ومن مَلَك ذا رحم محرم كأمه وأبيه ونحوهما عَتُق عليه بالملك.
وأيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته.
وإذا أُعتق بعض العبد عتق كله.
وإذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما، فإن كان موسراً قُوِّم عليه العبد كله، وإن لم يكن للمعتق مال فقد عتق من العبد ما عتق، وعلى العبد أن يسعى في عتق ما بقي منه.
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أعْتَقَ شَقِيصاً مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ». أخرجه أبو داود والترمذي (2).
- حكم عمل المشرك:
من تصدق وهو مشرك ثم أسلم كُتب له أجر ذلك العمل الصالح.
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أرَأيْتَ أشْيَاءَ كُنْتُ أتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أوْ عَتَاقَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2492) , واللفظ له، ومسلم برقم (1503).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3949) , وأخرجه الترمذي برقم (1365) , وهذا لفظه.

(3/699)


أجْرٍ؟ فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ». متفق عليه (1).
- صفة معاملة المملوك:
عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَألْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بِأمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأعِينُوهُمْ». متفق عليه (2).
- حكم بيع الولاء:
الولاء: عصوبة سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق.
والولاء لمن أعتق، فإذا مات ولم يكن له وارث من النسب ورثه من أعتقه.
ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته.
عَنِ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. متفق عليه (3).
- حكم المكاتبة:
المكاتبة: بيع السيد رقيقه لنفسه بمال في ذمته.
وتجب المكاتبة إذا علم السيد من عبده الخير، وسأله رقيقه المكاتبة، وعلم
قدرته على الكسب.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1436) , واللفظ له، ومسلم برقم (123).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (30) , واللفظ له، ومسلم برقم (1661).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2535) , واللفظ له، ومسلم برقم (1506).

(3/700)


قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
- حكم بيع المكاتب:
يستحب للسيد أن يعين المكاتب بشيء من قيمته كالربع مثلاً، أو يضع عنه قدره ونحوه، ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتبه.
والمكاتب إذا أدى ما عليه عتق، وإن عجز عاد رقيقاً.
عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ أنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أمَّ المُؤْمِنِينَ رَضِي الله عَنْهَا فَقالتْ لَهَا: إِنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً فَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لأَهْلِهَا، فَقالوا: لا، إِلا أنْ يَكُونَ وَلاؤُكِ لَنَا. فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: «اشْتَرِيهَا وَأعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». متفق عليه (1).
- حكم التدبير:
التدبير: هو تعليق العتق بالموت. كأن يقول لرقيقه: إن مت فأنت حر بعد موتي، فإذا مات عتق إن لم يزد عن ثلث المال.
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَزّأَهُمْ أَثْلاَثاً، ثُمّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيداً. أخرجه مسلم (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2564) , واللفظ له، ومسلم برقم (1075).
(2) أخرجه مسلم برقم (1668).

(3/701)


- حكم بيع المُدَبَّر:
يجوز بيع المُدَبَّر وهبته.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رَجُلاً مِنْ أصْحَابِهِ أعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمانِ مِائَةٍ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. متفق عليه (1).
اللهم أعتق رقابنا ورقاب المؤمنين من النار، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7186) , واللفظ له، ومسلم برقم (997).

(3/702)