موسوعة
الفقه الإسلامي الباب الثامن عشر
كتاب الحدود
ويشتمل على ما يلي:
1 - أحكام الحدود.
2 - أقسام الحدود: وتشمل:
1 - حد الزنا.
2 - حد القذف.
3 - حد الخمر.
4 - حد السرقة.
5 - حد قطاع الطريق.
6 - حد البغاة.
3 - حكم المرتد.
4 - حكم التعزير.
(5/91)
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ:
أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا أَخَذَ عَلَى
النّسَاءِ: أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِالله شَيْئاً، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ
نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا، وَلاَ يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضاً.
«فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ
حَدّاً فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ
عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى الله، إنْ شَاءَ عَذّبَهُ، وَإنْ شَاءَ غَفَرَ
لَهُ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3893) , ومسلم برقم (1709)، واللفظ له.
(5/92)
كتاب الحدود
1 - أحكام الحدود
- الحدود: جمع حد.
والحد: عقوبة مقدرة شرعاً على معصية لأجل حق الله تعالى، لتمنع من الوقوع
في مثلها.
- أقسام الذنوب من حيث الكفارة وعدمها:
الذنوب ثلاثة أقسام:
1 - قسم فيه الحد فقط بلا كفارة:
فهذا لم تشرع فيه الكفارة؛ اكتفاء بالحد الشرعي وهي الحدود كحد الزنا،
والسرقة ونحوهما.
2 - قسم فيه الكفارة ولا حد فيه:
كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام، وقتل الخطأ، والحنث في اليمين
ونحو ذلك.
3 - قسم لم يرتب عليه حد ولا كفارة، وهو نوعان:
أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعياً كأكل العذرة، وشرب البول ونحوهما.
الثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رُتب عليه الحد كالنظر، والقبلة،
واللمس، والمحادثة المُريبة للمرأة الأجنبية ونحو ذلك، فهذا فيه التعزير.
(5/93)
- أنواع الكفارات:
شرع الله الكفارات في ثلاثة أنواع:
الأول: ما كان مباح الأصل، ثم فُرض تحريمه بسبب، فَفَعله في الحالة التي
عَرَض فيها التحريم كالوطء في الإحرام والصيام، والوطء حال الحيض والنفاس.
الثاني: ما عقد لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرمه الله ثم أراد حله،
فشرع الله حله بالكفارة، وسماها تَحِلّة.
الثالث: ما تكون فيه الكفارة جابرة لما فات ككفارة قتل الخطأ، وإن لم يكن
هناك إثم، وكفارة قتل الصيد.
فالأول من باب الزواجر، والثالث من باب الجوابر، والأوسط من باب التحِلَّة
لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حد اكتفي به، وإلا اكتفي
بالتعزير.
ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية، بل كل معصية فيها حد، فلا كفارة فيها،
وما فهي كفارة لا حد فيه.
- أقسام العقوبات:
تنقسم العقوبات على الذنوب إلى قسمين:
عقوبات قدرية .. وعقوبات شرعية.
1 - العقوبات القدرية: هي الآثار المذمومة والمؤلمة التي تحصل للعبد بسبب
انتهاك حرمات الله، وارتكاب معاصيه، والعقوبات القدرية نوعان:
(5/94)
الأول: عقوبات على القلوب والنفوس، كظلمة
القلب وضعفه وضيقه وحزنه، وزوال أنسه بالله، والوحشة منه، والطبع والرَّيْن
على قلبه، وحرمان حلاوة الطاعة، وبغض وكره الله وملائكته وعباده له،
والغفلة عن الله والآخرة ونحو ذلك، وهذا أشد العقوبات.
الثاني: عقوبات على الأبدان والأموال، كنقصان الرزق، وارتفاع النعم، وحلول
النقم، وحدوث الآفات والأمراض في الأبدان والثمار، وتسلط الرعاة والظلمة
على الناس ونحو ذلك، وهذه العقوبات تصيب العاصي وحده إذا لم يجاهر بها.
فإذا جاهر المذنبون بمعاصيهم، ولم ينكر المسلمون عليهم، عمت العقوبة العاصي
وغيره.
وعقوبة القلب أشد العقوبتين، وهي أصل عقوبة الأبدان.
وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والغرق على الماء،
وفساد البدن على السموم.
والعقوبة قد تقارن الذنب .. وقد تتأخر عنه إما يسيراً أو مدة، كما يتأخر
المرض عن سببه أو يقارنه.
2 - العقوبات الشرعية، وهي نوعان:
1 - عقوبات مقدرة: وهي القصاص .. والديات .. والحدود .. والكفارات التي نص
عليها الشرع.
2 - عقوبات غير مقدرة: وهي التعازير التي يقدرها القاضي في كل جناية لا
قصاص فيها ولا حد.
1 - قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا
(5/95)
يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
2 - وقال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38].
- أقسام الحدود:
تنقسم الحدود في الإسلام إلى ستة أقسام هي:
حد الزنا .. حد القذف .. حد الخمر .. حد السرقة .. حد قطاع الطريق .. حد
البغاة.
ولكل جريمة من هذه الجرائم عقوبة مقدرة شرعاً.
- حكمة مشروعية الحدود:
أمر الله عز وجل بعبادته وطاعته، وفِعْل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه،
وحد حدوداً لمصالح عباده، ووعد من أطاعه السعادة في الدنيا، والجنة في
الآخرة.
وتوعد من عصاه بالشقاء في الدنيا، والنار في الآخرة.
فمن قارف الذنب فقد فتح الله له باب التوبة والاستغفار، فإن أصر على معصية
الله، وأبى إلا أن يغشى حماه، ويتجاوز حدوده بالتعدي على أعراض الناس
وأموالهم وأنفسهم، فهذا لا بد من كبح جماحه بإقامة حدود الله التي تردعه
وتردع غيره، وتحفظ الأمة من الشر والفساد في الأرض.
والحدود كلها رحمة من الله، ونعمة على الجميع.
فهي للمحدود طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له
ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على
(5/96)
دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح
الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
1 - قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ
نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 123 - 127].
2 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ
عَلَيْنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا أَخَذَ عَلَى
النّسَاءِ: أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئاً، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ
نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا، وَلاَ يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضاً.
«فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ
حَدّاً فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ
عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى اللهِ، إنْ شَاءَ عَذّبَهُ، وَإنْ شَاءَ غَفَرَ
لَهُ». متفق عليه (1).
- أنواع حدود الله:
حدود الله تعالى ثلاثة أنواع:
الأول: حدود الله التي نهى عن تعديها.
وهي كل ما أذن الله تعالى بفعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة،
والاعتداء فيها يكون بتجاوزها ومخالفتها، وهي التي أشار الله إليها بقوله
سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
[البقرة: 229].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3893) , ومسلم برقم (1709)، واللفظ له.
(5/97)
الثاني: المحارم التي نهى الله عنها وهي
المحرمات التي نهى الله عن فعلها كالزنا وهي التي أشار الله إليه بقوله
سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن محارم الله كعقوبة الرجم والجلد والقطع
ونحوها.
فهذه يجب الوقوف عندما قدر فيها بلا زيادة ولا نقصان، وهي المقصودة هنا.
- الفرق بين القصاص والحدود:
1 - جرائم القصاص الحق فيها لأولياء القتيل، أو المجني عليه إن كان حياً ..
وذلك من حيث استيفاء القصاص، والحاكم منفذ لطلبهم.
أما الحدود فأمرها إلى الحاكم، فلا يجوز إسقاطها بعد أن تصل إليه.
2 - جرائم القصاص قد يُعفى عنها إلى بدل كالدية، أو يعفى عنها بلا مقابل؛
لأنها حق آدمي.
أما الحدود فلا يجوز العفو عنها، ولا الشفاعة فيها مطلقاً، بعوض أو بدون
عوض؛ لأنها حق لله تعالى.
- الفرق بين الحدود والتعازير:
1 - عقوبات جرائم القصاص والحدود مقدرة ابتداء في الشرع.
أما عقوبات التعزير فيقدرها القاضي بما يحقق المصلحة حسب حجم الجريمة
ونوعها.
2 - يجب على الإمام تنفيذ الحدود، والقصاص إذا لم يكن عفو من ولي الدم.
أما التعزير فإن كان حقاً لله تعالى وجب تنفيذه، ويجوز العفو والشفاعة إن
(5/98)
رُئي في ذلك مصلحة، وإن كان حقاً للأفراد
فلصاحب الحق أن يتركه بعفو أو غيره.
3 - عقوبة القصاص والحدود محددة معينة، أما التعزير فيختلف بحسب اختلاف
الجريمة، واختلاف الجاني والمجني عليه.
- أهداف العقوبة في الإسلام:
العقوبات على الجرائم في الإسلام شرعت لتحقق ما يلي:
1 - زجر الناس وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها.
2 - صيانة المجتمع من الفساد، ومنع وقوع الجريمة أو تكرارها.
3 - زجر المتهم عن الوقوع في الجريمة مرة أخرى.
4 - إصلاح الجاني وتهذيبه لا تعذيبه.
5 - قطع دابر الجريمة، وعدم إشاعة الفاحشة.
6 - منع عادة الأخذ بالثأر التي تُوسِّع رقعة انتشار الجريمة.
7 - إطفاء نار الحقد والغيظ المضطرمة لدى المعتدى عليه أو أقاربه.
8 - حصول الأمن وتحقيق العدل في شعب الحياة كلها.
1 - قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي
الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} ... [البقرة: 179].
2 - وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
[المائدة: 15 - 16].
(5/99)
- مبادئ العقاب في الإسلام:
اشتملت الشريعة الإسلامية على أحسن المبادئ والعقوبات التي تكفل سعادة
الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي:
رحمة الجاني والمجتمع الذي يعيش فيه .. والعدل بين الناس حتى لا تضطرب
الأمور .. وحماية الكرامة الإنسانية .. ورعاية المصالح العامة والخاصة
حفظاً للأمن .. والمساواة بين الجريمة والعقوبة .. ولا يعاقب أحد بجرم لم
يصدر منه .. وعدم الحرص على إيقاع العقوبة؛ ليتمكن المخطئ من إصلاح عيوب
نفسه .. والستر على المخطئ غير المجاهر ونصحه .. وتجوز الشفاعة في الحدود
قبل بلوغها الحاكم، وتحرم الشفاعة وقبولها بعد بلوغها الحاكم .. ولا تُوْقع
عقوبة إلا بعد انتفاء الشبهات .. ولصاحب الحق الخاص كالقصاص العفو عن
القاتل أو المخطئ .. والعفو يكون بالاختيار والرضا لا بالإكراه.
1 - قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ
مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} ... [الأنعام: 54].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} ... [النحل: 90].
3 - وقال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ
عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (40)} ... [الشوى: 40].
- حفظ الضرورات الخمس:
مقاصد الإسلام الكبرى محصورة في خمسة أمور هي:
(5/100)
حفظ الدين .. وحفظ النفوس .. وحفظ النسل ..
وحفظ المال .. وحفظ العقل.
فإذا حفظت الأمة هذه الأصول سعدت في الدنيا والآخرة، وإذا ضيعت هذه الأصول
شقيت في الدنيا والآخرة.
وبإقامة الحدود والقصاص يتم حفظ هذه الضرورات وحمايتها، فبالقصاص تصان
الأنفس .. وبإقامة حد الزنا والقذف تصان الأعراض .. وبإقامة حد السرقة تصان
الأموال .. وبإقامة حد الخمر تصان العقول .. وبإقامة حد الحرابة يصان
الأمن.
وبإقامة الحدود كلها يصان الدين كله، والحياة كلها.
- كيفية حفظ الضرورات الخمس:
حفظ الضرورات الخمس هي مقومات بقاء وسعادة الأمم وهي:
1 - حفظ الدين: فالدين عماد صلاح أمر الدنيا والآخرة.
والدين مبني على أمرين:
فعل الأوامر .. واجتناب المناهي.
2 - حفظ النفوس: وحفظ النفس أمر مقصود لذاته؛ لأن الله خلق الإنسان لعبادته
سبحانه، فيجب المحافظة على هذه النفس التي تعبد الله، وتقوم بالخلافة في
الأرض.
3 - حفظ النسل: وحفظ النسل من أعظم أسباب البقاء، ومن أسباب عمارة
الأرض.
وحفظ النسل يتم بأمرين:
(5/101)
الأول: وجودي: وذلك بالترغيب بما يحصل به
استمرار النسل وبقاؤه، وهو النكاح الشرعي.
الثاني: عدمي: وذلك بتحريم الزنا والمعاقبة عليه، وتحريم مقدماته من النظر
والخلوة، وتحريم القذف بالزنا أو فاحشة اللواط، والمعاقبة على ذلك، وتحريم
السفور والتبرج، وعدم سفر المرأة بلا محرم، وعدم اختلاطها بالرجال الأجانب،
والأمر للرجال والنساء بغض البصر صيانة للعرض.
4 - حفظ العقل: العقل من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، فلولا
العقل لصار الإنسان كالبهيمة.
والعقل مناط التكليف؛ لأن الإنسان يميز به بين المصالح والمفاسد، لذلك كله
حرم الله كل ما يفسد العقل أو يضره.
ومفسدات العقل نوعان:
الأول: مفسدات حسية: كالخمور والمخدرات التي هي مفتاح كل شر وبلاء.
الثاني: مفسدات معنوية: كالأفكار والتصورات والمبادئ الفاسدة التي تجر
الإنسان إلى المعاصي والردة والكفر.
5 - حفظ المال: المال من الضروريات التي لا تتم مصالح الناس إلا بها، فقد
جعله الله سبباً لحصول المنافع للعباد.
وحفظ المال في الإسلام بأمرين:
الأول: وجودي: وذلك بالحث على الكسب الحلال، والإنفاق في الوجه
الحلال.
الثاني: عدمي: وذلك بتحريم الاعتداء على المال أو إضاعته، ومعاقبة سارقه،
(5/102)
وتحريم الغش والظلم والخيانة في كل معاملة.
1 - قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
2 - وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104].
- فقه اجتناب المحرمات:
الكف عن المحرمات، واجتناب قربها، ينشأ من أمور هي:
علم العبد بأن الله يراه .. وأنه يعلم نيته وأفعاله .. وعلم العبد بقبح
المحرمات .. وأن الله حرمها صيانة للعبد من الرذائل .. والعلم بعقوبتها
القاسية.
ومنها الحياء ممن تتقلب في نعمه .. والخوف من العزيز الجبار الذي لا يعجزه
شيء.
ومنها محبة الله، فالمحب يصبِّر نفسه على مراد محبوبه ونحو ذلك مما يحمل
العاقل على تركها ولو لم يَرِد على فعلها وعيد.
- فضل الستر على النفس والغير:
يستحب لمن أتى ذنباً، أو اقترف إثماً، أن يستر نفسه، ويتوب إلى الله.
ويستحب لمن علم به أن يستر عليه ما لم يعلن بفجوره، حتى لا تشيع الفاحشة في
الأمة، وعليه أن ينصحه ويرغبه في التوبة.
1 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا
المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ
بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ
(5/103)
يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ،
فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ
يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ». متفق عليه
(1).
2 - وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ
الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ
فِي عَوْنِ أَخِيهِ». أخرجه مسلم (2).
- حكم التثبت في الأمور:
يجب على الإنسان أن يحسن الظن، ولا يصدق بكل ما يسمع حتى يثبت؛ لئلا يضر
نفسه، ويضر غيره، ويتعرض لسخط الله.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا
مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ... [الحجرات: 12].
- ما يفعله المسلم عند سماع الشائعات:
يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، ويستر زلاتهم، ويقيل
عثراتهم، فإذا رُميت أمامه عفيفة بالزنا، أو أمين بالسرقة، أو تقي بفجور،
أو عالم بمسبة، أو عادل بمظلمة، ونحو ذلك من قالة السوء.
فإذا سمع بذلك أحسن الظن بإخوانه وستر عليهم.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) , واللفظ له، ومسلم برقم (2990).
(2) أخرجه مسلم برقم (2699).
(5/104)
1 - قال الله تعالى: {لَوْلَا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ
خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ
لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}
[النور: 16].
3 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور:
19].
- حكم من آوى محدثاً:
من آوى قاتلاً أو سارقاً أو محارباً أو غيرهم ممن وجب عليه حد أو حق لله
تعالى أو لآدمي، ومَنَعه أن يستوفى منه الواجب، فهو شريكه في الجرم والإثم،
وقد لعنه الله ور سوله، وللإمام عقوبته بما يردعه.
أما لو كان الإنسان أو المال مطلوباً بباطل فإنه لا يجوز الإعلام به.
بل يجب الدفاع عنه، ونصره على من ظلمه.
1 - عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ،
وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَىَ
مُحْدِثاً، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيّرَ مَنَارَ الأَرْضِ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «انْصُرْ أخَاكَ ظَالِمًا أوْ مَظْلُومًا». فقال رَجُلٌ: يَا
رَسُولَ اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أفَرَأيْتَ إِذَا كَانَ
ظَالِمًا كَيْفَ أنْصُرُهُ؟ قال: «تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ مِنَ
الظُّلمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ».
أخرجه البخاري (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1978).
(2) أخرجه البخاري برقم (6952).
(5/105)
- حكم لعن الإنسان:
لا يجوز للمسلم لعن أحد بعينه، مسلماً كان أو كافراً أو دابة، إلا من علمنا
بنص شرعي أنه مات على الكفر، كفرعون، أو يموت عليه كإبليس.
أما اللعن بالوصف فجائز، كلعن آكل الربا، والمصورين، والظالمين، والكافرين
ونحو ذلك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّاناً».
أخرجه مسلم (1).
- حكم التحايل على حدود الله:
يحرم التحايل على حدود الله كما يحرم انتهاك حدود الله، والتحايل أعظم، فإن
بني إسرائيل لما فعلوا الحرام لم يقع عليهم المسخ، وإنما العقوبات الحسية
والمعنوية، كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيرًا (160)} ... [النساء: 160].
ولما وقع منهم التحايل على صيد السمك يوم السبت مسخهم الجبار جل جلاله قردة
وخنازير، كما قال سبحانه في عقوبة احتيالهم على ما حرم الله: {فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ (166)} ... [الأعراف: 166].
- حكم إقامة الحدود:
يجب إقامة الحد إذا ثبت على من اقترفه؛ صيانة للأمن، ودفعاً للفساد،
وحماية للحقوق، وزجراً للمجرمين.
1 - قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2597).
(5/106)
اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
... [المائدة: 38].
2 - وقال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].
3 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
- شروط من يقام عليه الحد:
يقام الحد إذا ثبت على كل بالغ، عاقل، متعمد، ذاكر، عالم بالتحريم، ملتزم
لأحكام الإسلام، من مسلم وذمي.
1 - عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم
- قَالَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاَثةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ المَجْنُونِ
حَتَّى يَعْقِلَ». أخرجه أحمد وأبو داود (1).
2 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: لَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، قال: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ
يَدْخُل قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم
-: «قُولُوا، سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وَسَلَّمْنَا».
قال، فَألقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} (قال: قَدْ فَعَلتُ) {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا
إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (940) , وأخرجه أبو داود برقم (4403)، وهذا
لفظه.
(5/107)
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (قال: قَدْ
فَعَلتُ) {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} (قال: قَدْ
فَعَلتُ). أخرجه مسلم (1).
- من يتولى إقامة الحدود:
يتولى إقامة الحد إمام المسلمين، أو من ينيبه، بحضرة طائفة من المؤمنين،
فلا يجوز لفرد أن يتولى إقامة الحد بنفسه، إلا السيد فيجوز له أن يقيم حد
الجلد على مملوكه.
1 - عَنْ ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ
الخَطّابِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم -: إنّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمّداً - صلى الله عليه وسلم -
بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمّا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةُ الرّجْمِ. قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلنَاهَا،
فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ،
فَأَخْشَى إنْ طَالَ بِالنّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ
الرّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا
اللهُ، وَإنّ الرّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا
أَحْصَنَ، مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ، إذَا قَامَتِ البَيّنَةُ، أَوْ
كَانَ الحَبَلُ أَوْ الإِعْتِرَافُ. متفق عليه (2).
2 - وعن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى
الله عليه وسلم -: «إِذَا زَنَتِ الأمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا
فَليَجْلِدْهَا وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَليَجْلِدْهَا وَلا
يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ
فَليَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ». متفق عليه (3).
- آداب إقامة الحد:
ينوي الإمام بإقامة الحد ثلاثة أمور هي:
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (126).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2462) , ومسلم برقم (1691)، واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2152) , واللفظ له، ومسلم برقم (1703).
(5/108)
1 - امتثال أمر الله في إقامة الحدود، لا
التشفي والانتقام.
2 - دفع الفساد عن الخلق.
3 - إصلاح الخلق.
- مكان إقامة الحدود:
يجوز إقامة الحد في أي مكان إلا المسجد؛ لئلا يتقذر.
فيقام حسب المصلحة في مكان عام، أو في مكان العمل ونحو ذلك بشرط أن يحضره
طائفة من المؤمنين، ويقام في بلده سواء كانت مكة أو غيرها.
ولكن الأفضل والأولى أن تقام الحدود في الأماكن العامة التي يأتي إليها كل
أحد، ليحضرها أكبر عدد من المؤمنين، وبذلك يحصل الردع للجاني وغيره.
قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} ... [النور:
2].
- أنواع الجلد في الحدود:
أكثر الجلد في الحدود جلد الزنا .. ثم جلد القذف .. ثم جلد السكر .. ثم
التعزير.
- صفة الجلد في الحدود:
1 - يُضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خَلِق، ولا يمد على
الأرض، ولا يربط على جدار أو عامود، ولا يجرد من ثيابه، ويفرَّق الضرب على
بدنه كالظهر والأليتين والفخذين والساقين، ولا يبالغ في الضرب بحيث
(5/109)
يشق الجلد.
ويتقي أثناء الجلد أربعة أشياء:
الرأس .. والوجه .. والفرج .. والمقاتل.
2 - المرأة كالرجل في الجلد، إلا أنها تُضرب جالسة، وتشد عليها ثيابها،
وتُمسَك يداها عند الحاجة؛ لئلا تنكشف.
- حكم من اجتمعت عليه حدود:
إذا اجتمعت على الجاني حدود لله تعالى فلها ثلاث حالات:
1 - إذا اجتمعت عليه حدود من جنس واحد، بأن زنا مراراً، أو سرق مراراً
ونحوهما، فهذه تتداخل فلا يُحدّ إلا مرة واحدة.
2 - إن وجبت عليه حدود لله من أجناس مختلفة كبكر زنا وسرق وشرب الخمر فلا
تتداخل، فتقام عليه كلها.
يُبدأ بالأخف، فيُجلد للشرب، ثم يُجلد للزنا، ثم يُقطع للسرقة.
3 - إن وجبت عليه حدود لله، وحدود خالصة للآدمي كما لو قذف وسرق وقتل.
فهذه تستوفى كلها، ويُبدأ بالأخف فالأخف، فيُحد للقذف، ثم يُقطع، ثم يُقتل؛
لأنها حقوق لله وللآدميين فلا بد من استيفائها.
- حكم تأخير إقامة الحدود:
يجوز تأخير إقامة الحدود لعارض يترتب عليه مصلحة الإسلام كما في الغزو.
أو لعارض يترتب عليه مصلحة المحدود ذاته كما في شدة حر أو برد أو مرض، أو
لمصلحةِ مَنْ تعلَّق به كالحمل والرضاع ونحوهما.
(5/110)
عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
قَالَ: جَاءَتِ الغَامِدِيّةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنّي قَدْ
زَنَيْتُ فَطَهّرْنِي. وَإِنّهُ رَدّهَا. فَلَمّا كَانَ الغَدُ قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تَرُدَّنِي؟ لَعَلّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا
رَدَدْتَ مَاعِزاً، فَوَاللهِ إِنّي لَحُبْلَى. قَالَ: «إِمّا لاَ،
فَاذْهَبِي حَتّى تَلِدِي» فَلَمّا وَلَدَتْه أَتَتْهُ بِالصّبِيّ فِي
خِرْقَةٍ. قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدَتْ. قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ
حَتّى تَفْطِميهِ». فَلَمّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصّبِيّ وفي يَدِهِ
كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا، يَا نَبِيّ الله قَدْ فَطَمْتُهُ،
وأَكَلَ الطّعَامَ. فَدَفَعَ الصّبِيّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ،
ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النّاسَ
فَرَجَمُوهَا. أخرجه مسلم (1).
- حكم الشفاعة في الحدود:
يجب على الحاكم إقامة الحد على من وجب عليه، سواء كان رجلاً أو امرأة،
وسواء كان شريفاً أو وضيعاً، وسواء كان قريباً أو بعيداً.
وإذا بلغت الحدود الحاكم حَرُم أن يشفع في إسقاطها أحد، أو يعمل على
تعطيلها.
ويحرم على الحاكم قبول الشفاعة إذا بلغه الحد، ولا يجوز له أخذ المال من
الجاني ليُسقط عنه الحد.
ومن أخذ المال من الزاني أو السارق أو شارب الخمر ونحوهم ليعطل حدود الله
فقد جمع بين فسادين عظيمين:
أكل السحت .. وتعطيل الحد .. وترك الواجب .. وفعل المحرم.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّتْهُمُ
المَرْأةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ،
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1695).
(5/111)
فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم -، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أسَامَةُ، حِبُّ
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -، فقال: «أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ». ثُمَّ قَامَ
فَخَطَبَ، قال: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ،
أنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ
الضَّعِيفُ فِيهِمْ أقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ أنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا». متفق
عليه (1).
- حكم توبة الجاني:
إذا تاب الجاني قبل القدرة عليه، وقبل بلوغ الحاكم الأمر، سقط عنه الحد
الواجب لله، ولزمه الحق الواجب للآدمي من قصاص أو مال مسروق، أو قذف، أو
دية ونحو ذلك؛ لأن التوبة تَجُبّ ما قبلها من حقوق واجبة لله تعالى.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(34)} ... [المائدة: 33 - 34].
2 - وعَنْ عَمْرو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ لهُ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا
كَانَ قَبْلِهَا؟ وَأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟». أخرجه
مسلم (2).
- حكم الصلاة على المقتول:
المقتول قصاصاً، أو حداً، أو تعزيراً إن كان مسلماً يغسَّل، ويكفَّن،
ويُصلى
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6788) , واللفظ له، ومسلم برقم (1688).
(2) أخرجه مسلم برقم (121).
(5/112)
عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه
مسلم، وإقامة الحد كفارة لذنبه.
وإن كان المقتول كافراً كالمرتد والذمي فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه،
بل يلف بثيابه، ويحفر له حفرة في الأرض ويوارى فيها؛ لأنه كافر.
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ امْرَأَةً مِنْ
جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهِيَ حُبْلَى
مِنَ الزّنَى. فَقَالَتْ: يَا نَبِيّ الله أَصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْهُ
عَلَيّ. فَدَعَا نَبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلِيّهَا، فَقَالَ:
«أَحْسِنْ إلَيْهَا. فَإذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا» فَفَعَلَ. فَأَمَرَ
بِهَا نَبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم -. فَشُكّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا،
ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمّ صَلّىَ عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: تُصَلّي عَلَيْهَا يَا نَبِيّ الله وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ:
«لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ
المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ
جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تَعَالَىَ؟». أخرجه مسلم (1).
- حكم من مات في الحد:
من مات في حد الجلد أو القطع ونحوهما فالحق قتله؛ لأن كل ما ترتب على الحق
المأذون فيه فليس بمضمون، لكن بشرط عدم التعدي في إقامة الحد على الجاني
بزيادة في الكم أو الكيف.
- الفرق بين حق الله وحق الآدمي:
1 - حق الله: هو كل ما ليس للعبد إسقاطه كحد الزنا والسرقة ونحوهما.
وحق العبد: هو كل ما للعبد إسقاطه كالقصاص والدية.
2 - حق الله: أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه وتكاليفه.
وما من حق للعبد إلى وفيه حق لله تعالى.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1696).
(5/113)
والحقوق في الشرع ثلاثة أنواع:
1 - حق الله تعالى فقط كالإيمان والتوحيد والعبادة.
2 - حق العباد فقط كالديون وأثمان الأشياء ونحو ذلك.
3 - حق مشترك لله وللعبد كحد القذف.
وهذا أوان البدء في بيان أقسام الحدود وأحكامها.
(5/114)
2 - أقسام الحدود
1 - حد الزنا
- الزنا: هو فعل الفاحشة في قبل امرأة لا تحل له.
- حكم الزنا:
الزنا حرام، وفاحشة عظيمة، وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، وقتل
النفس بغير حق.
والزنا درجات متفاوتة في الشناعة والقبح.
فالزنا بامرأة عفيفة ذات زوج من أعظم الفواحش .. والزنا بحليلة الجار أعظم
.. والزنا بذات محرم كالأم والأخت أشد وأعظم.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].
2 - وقال الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3].
3 - وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
(69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (70)} ... [الفرقان: 68 - 70].
(5/115)
4 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ الذَّنْبِ
أعْظَمُ؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلتُ: ثُمَّ
أيٌّ؟ قال: «أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْلِ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ».
قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ». متفق عليه
(1).
- فضل ترك الفواحش:
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} ... [الشورى:
37].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا
ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ
رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ
تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ
طَلَبَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال إنِّي أخَافُ اللهَ،
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ
يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». متفق
عليه (2).
3 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ
وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ». أخرجه البخاري (3).
- مفاسد وأضرار الزنا:
مفاسد الزنا من أعظم المفاسد وأشدها وأخطرها.
فالزنا مناقض لصلاح العالم في حفظ الأنساب والأعراض والفروج.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6811) , واللفظ له، ومسلم برقم (86).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (660) , واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(3) أخرجه البخاري برقم (6474).
(5/116)
والزنا يجمع خلال الشر كلها، ويفتح على
العبد أبواب المعاصي كلها، من ظلم الخلق، وإضاعة أهله وأمواله، وقطيعة
الأرحام، وكسب الحرام، ويولِّد الأمراض النفسية والقلبية، ويورث الفقر
والمسكنة.
والزنا يولِّد سيماء السواد والفساد في وجه فاعله، ويورث نفرة الناس
ووحشتهم منه، وسقوطه من أعينهم.
والزنا يسبب ظلمة القلب، ويولد رائحة كريهة بغيضة في البدن.
وللزنا عقوبات شديدة:
أما في الدنيا فبالرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن، مع العار والفضيحة.
وأما في الآخرة فالزاني إن لم يتب يُجمع في تنور في نار جهنم مع الزناة
والزواني عراة.
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
(69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (70)} ... [الفرقان: 68 - 70].
2 - وَعَنْ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إِنَّهُ أتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ،
وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي» -وفيه: أنَّهُمَا قَالا- «وَأمَّا الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ،
فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7047) , واللفظ له، ومسلم برقم (2275).
(5/117)
- سبل الوقاية من الزنا:
دعا الإسلام إلى الزواج، ورغَّب فيه الرجال والنساء.
ونظم الإسلام بالنكاح الشرعي وملك اليمين أسلم طريقة لتصريف الغريزة
الجنسية، وحِفظ النسل.
ومَنَع الإسلام أي تصرف في غير هذا الطريق المشروع.
فأمر بالحجاب، وغض البصر عن الحرام، ومداومة الطاعات.
ونهى عن التبرج، والسفور، والاختلاط .. وخلو الرجل بالمرأة الأجنبية ..
وسفر المرأة بلا محرم .. وضرب النساء الأرض بالأرجل .. ومصافحة الرجال ..
والخضوع بالقول .. وإظهار الزينة .. والرقص والصور والغناء .. ونحو ذلك من
كل ما من شأنه أن يثير الغريزة، أو يدعو إلى الفحش.
وذلك كله من أجل ألا يقع الرجل والمرأة في فاحشة الزنا.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} ... [الأحزاب: 59].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ
أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ
أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ
الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
(5/118)
مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ
جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} ...
[النور: 30 - 31].
3 - وقال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ
النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 32 - 33].
4 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ
الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَالعَيْنَانِ زِنَاهُمَا
النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ
الكَلاَمُ، وَاليَدُ زِنَاهَا البَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الخُطَا،
وَالقَلبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الفَرْجُ
وَيُكَذِّبُهُ». متفق عليه (1).
- أقسام الزناة:
الزاني إما أن يكون محصَناً، أو غير محصَن.
والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة أو الكتابية في نكاح صحيح، وهما بالغان،
عاقلان، حران، مختاران.
وغير المحصن: من فقد أحد هذه الشروط الستة.
- خصائص حد الزنا:
خص الله سبحانه حد الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص:
الأولى: القتل فيه بأبشع القتلات، وهي الرجم بالحجارة للمحصن.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6243) , ومسلم برقم (2657)، واللفظ له.
(5/119)
وحيث خففه كما في حد غير المحصن جمع فيه
بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
الثانية: نهي المؤمنين أن تأخذهم رأفة بالزناة تمنعهم من إقامة الحد عليهم؛
لأن الله أرحم بعباده حيث شرع هذه العقوبة.
الثالثة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ليحصل الردع والزجر.
قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].
- الشبهات الدارئة لحد الزنا:
الشبهة التي تدرأ الحد ثلاثة أنواع:
1 - شبهة في الفاعل: كأن يطأ مطلقته ثلاثاً ما دامت في العدة ظاناً بقاء
حلها، وكأن يطأ المطلقة البائن على مال أو المختلعة ما دامت في العدة ظاناً
حلها.
2 - شبهة في الموطوءة: كوطء الشركاء الجارية المشتركة.
3 - شبهة في السبب المبيح للوطء: كالنكاح بلا ولي، ونكاح الأخت في عدة
أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة المرأة الرابعة البائن.
- حكم من أقر بالحد ولم يبينه:
من أقر بحد عند الإمام ولم يبينه، فالسنة للإمام أن يستر عليه ولا يسأله
عنه، وإن صرح به عرَّض له بما يدرؤه عنه.
1 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ فقال:
يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْهُ عَلَيَّ، قال: وَلَمْ
يَسْألهُ عَنْهُ، قال:
(5/120)
وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى مَعَ
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم - الصَّلاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ،
إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْ فِيَّ كتاب اللهِ، قال: «ألَيْسَ قَدْ
صَلَّيْتَ مَعَنَا». قال: نَعَمْ، قال: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ
ذَنْبَكَ، أوْ قال: حَدَّكَ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: لَمَّا أتَى
مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لَهُ:
«لَعَلَّكَ قَبَّلتَ، أو ْغَمَزْتَ، أوْ نَظَرْتَ». قال: لا يَا رَسُولَ
اللهِ، قال: «أنِكْتَهَا». لا يَكْنِي، قال: فَعِنْدَ ذَلِكَ أمَرَ
بِرَجْمِهِ. متفق عليه (2).
- عقوبة الزاني:
1 - عقوبة الزاني المحصن: هي أن يُرجم بالحجارة حتى يموت، رجلاً كان أو
امرأة، مسلماً كان أو كافراً، ولا جلد مع الرجم؛ لأنه منسوخ.
2 - عقوبة الزاني غير المحصن: هي أن يُجلد الحر مائة جلدة، ويغرَّب سنة،
رجلاً كان أو امرأة، ولا تغرَّب المرأة إلا إذا وُجِد لها مَحْرم متبرع
بالسفر معها، فإذا لم يوجد حُبست سنة في مكان آمن في بلدها.
3 - الرقيق حده أن يجلد خمسين جلدة، رجلاً كان أو امرأة، ويغرَّب نصف سنة.
1 - قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].
2 - وقال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ... [النساء: 25].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6823) , واللفظ له، ومسلم برقم (2764).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6824) , واللفظ له، ومسلم برقم (1693).
(5/121)
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ قَالَ: أتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ
فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ،
فَأعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا
شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم - فقال: «أبِكَ جُنُونٌ». قال: لا، قال: «فَهَل أحْصَنْتَ». قال:
نَعَمْ، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ
فَارْجُمُوهُ». متفق عليه (1).
4 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا عَنّي، خُذُوا عَنّي، قَدْ
جَعَلَ الله لَهُنّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ
سَنَةٍ وَالثّيِّبُ بِالثّيِّبِ، جَلدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ». أخرجه مسلم
(2).
4 - إذا مات الزاني ولم يتب حشر في جهنم في تنور الزناة مع أمثاله.
عَنْ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -في حديث الرؤيا مع
الملكين، وفيه فقال الملكان-: «وَأمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ
الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ
وَالزَّوَانِي». متفق عليه (3).
- شروط ثبوت حد الزنا:
يشترط لثبوت حد الزنا ما يلي:
1 - أن يكون الزاني بالمرأة بالغاً، عاقلاً، حراً، مختاراً، عالماً
بالتحريم، مع انتفاء الشبهة.
2 - تغييب حشفته الأصلية كلها في قبل امرأة.
3 - انتفاء الشبهة، فلا حد على من وطئ امرأة ظنها زوجته.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6815) , واللفظ له، ومسلم برقم (2691).
(2) أخرجه مسلم برقم (1690).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7047) , واللفظ له، ومسلم برقم (2275).
(5/122)
4 - ثبوت الزنا، ويثبت الزنا بما يلي:
1 - الإقرار: بأن يقر بالزنا من عُرف بالعقل مرة واحدة، ويقرّ به أربع مرات
مَنْ كان متَّهماً في ضعف عقله.
وفي كليهما يصرح بحقيقة الوطء، ويستمر في إقراره إلى إقامة الحد عليه.
2 - الشهادة: بأن يشهد عليه بالزنا أربعة رجال مسلمين عدول.
3 - الحمل: بأن تحمل من لا زوج لها ولا سيد.
1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قالَ: قالَ عُمَرُ: لَقَدْ
خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لا
نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كتاب اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ
أنْزَلَهَا اللهُ، ألا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ
أحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أوْ كَانَ الحَبَلُ أوِ الاعْتِرَافُ
ألا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا
بَعْدَهُ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلا مِنْ أسْلَمَ جَاءَ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأعْرَضَ
عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
أرْبَعَ مَرَّاتٍ، قالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أبِكَ
جُنُونٌ». قال: لا، قال: «آحْصَنْتَ». قال: نَعَمْ، فَأمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ
فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. فقال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
خَيْراً، وَصَلَّى عَلَيْهِ. أخرجه البخاري (2).
- حكم الرجوع عن الإقرار:
إذا اعترف الزاني بالزنا عند القاضي، ثم رجع عن إقراره بعد الحكم بالحد، أو
بعد إقامة بعض الحد، أو هرب، فإنه يسقط عنه الحد؛ لأن الرجوع شبهة،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6829) , واللفظ له، ومسلم برقم (1691).
(2) أخرجه البخاري برقم (6820).
(5/123)
والحدود تُدرأ بالشبهات.
- من يقام عليه حد الزنا:
1 - يقام حد الزنا على الزاني إذا كان مكلفاً، مختاراً، عالماً بالتحريم،
بعد ثبوته عند الحاكم بإقرار، أو شهادة، أو حمل، مع انتفاء الشبهة.
2 - إذا زنا المحصن بغير المحصنة فلكلٍ حده من رجم، أو جلد وتغريب.
3 - إذا زنا الحر بأمة، أو عكسه بأن زنت حرة بعبد فلكل واحد حكمه في الحد.
4 - يقام حد الزنا على الزاني، سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لأنه حد ترتب
على وصف، فثبت على من قام به.
1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قالَ: لَمَّا أتَى مَاعِزُ
بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لَهُ: «لَعَلَّكَ
قَبَّلتَ، أو ْغَمَزْتَ، أوْ نَظَرْتَ». قال: لا يَا رَسُولَ اللهِ، قال:
«أنِكْتَهَا». لا يَكْنِي، قال: فَعِنْدَ ذَلِكَ أمَرَ بِرَجْمِهِ. متفق
عليه (1).
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أَنَّ اليَهُودَ
جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ مِنْهُمْ
وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا، قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ
الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ. متفق عليه (2).
- حكم الزوجية بعد الزنا:
إذا زنا رجل متزوج فلا تَحرُم عليه زوجته، وإذا زنت امرأة متزوجة فلا
تَحرُم
على زوجها، لكنهما ارتكبا إثماً عظيماً، فعليهما التوبة والاستغفار.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6824) , واللفظ له، ومسلم برقم (1693).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1329) , واللفظ له، ومسلم برقم (1699).
(5/124)
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)}
[الفرقان: 68 - 70].
- أشد أنواع الزنا:
مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه الزاني من الحق.
فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها؛ لما
فيه من انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسبٍ إليه لم يكن منه.
فإن كان زوجها جاراً له فذلك أشد وأعظم البوائق.
فإن كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه اجتمع مع ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف
الإثم عليه.
فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كطلب العلم، أو الحج، أو الدعوة، أو
الجهاد، تضاعف له الإثم.
فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً منه، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها.
فإن كانت خالته أو عمته، أو أخته أو بنته، فذلك أشد وأعظم وأقبح، نسأل الله
السلامة والعافية.
فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً كان الإثم والعقوبة أعظم.
فإن كان الزاني شيخاً كبيراً كان أعظم إثماً.
فإن اقترن بذلك أن يكون الزنا في شهر حرام، أو بلد حرام، أو وقت حرام
كالصيام والحج، أو وقت معظم كأوقات الصلوات الخمس والجمعة تضاعف الإثم.
(5/125)
ولهذه المفاسد الكبرى وأمثالها حرَّم الله
الزنا، وأغلق جميع الأبواب الموصلة إليه، ونفى كمال الإيمان عمن فعله.
1 - قال الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].
3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلتُ
يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ للهِ
نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ
مِنْ أجْلِ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «أنْ تُزَانِيَ
حَلِيلَةَ جَارِكَ» .. متفق عليه (1).
4 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ
حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ».
متفق عليه (2).
- حكم من زنا بذات محرم:
من زنا بذات محرم كأخته، وبنته، وامرأة أبيه، وهو عالم بتحريم ذلك، وجب
قتله محصناً كان أو غير محصن.
عَن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - بَعَثَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ
أَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَهُ. أخرجه أحمد وأبو داود (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6811) , ومسلم برقم (86)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6810) , واللفظ له، ومسلم برقم (57).
(3) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (18620) وهذا لفظه، وأخرجه أبو داود برقم
(4456).
(5/126)
- حكم من أُكره على الزنا:
من أَكره امرأة على الزنا فزنا بها وجب عليه الحد، والمرأة ليس عليها حد؛
لأنها مكرهة.
ومن أَكره رجلاً على الزنا بامرأة فزنا بها فلا حد عليه؛ لأنه مكره، لكن
يعزَّر من أكرهه ولا يُحد؛ لأنه لم يزن.
- صفة إقامة حد الرجم على الزاني:
يقيم حد الرجم على الزاني الإمام أو نائبه في أي مكان عام إلا المسجد،
بحضور طائفة من المؤمنين.
أما الحفر للمرجوم فهو راجع إلى الإمام، إن شاء حفر له، وإن شاء ترك، لكن
المرأة تشد عليها ثيابها؛ لئلا تنكشف، ومن وجب عليه حد الرجم فلا جلد عليه.
يرجم الرجل قائماً، وترجم المرأة قاعدة، المسلم والكافر في ذلك سواء.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ قالَ:
إِنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،
فَذَكَرُوا لَهُ أنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ وَامْرَأةً زَنَيَا، فقال لَهُمْ
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ
فِي شَأْنِ الرَّجْمِ». فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، قال
عَبْدُاللهِ ابْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأتَوْا
بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ
الرَّجْمِ، فَقَرَأ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فقال لَهُ عَبْدُاللهِ
بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ
الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا
آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
فَرُجِمَا، فَرَأيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى المَرْأةِ،
(5/127)
يَقِيهَا الحِجَارَةَ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا قَالا: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه
وسلم - فقال: أنْشُدُكَ اللهَ إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ،
فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أفْقَهَ مِنْهُ، فقال: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا
بِكِتَابِ اللهِ، وَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى
الله عليه وسلم -: «قُل». فقال: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أهْلِ
هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ
وَخَادِمٍ، وَإِنِّي سَألتُ رِجَالاً مِنْ أهْلِ العِلمِ، فَأخْبَرُونِي
أنَّ عَلَى ابْنِي جَلدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأنَّ عَلَى امْرَأةِ
هَذَا الرَّجْمَ، فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، المِائَةُ وَالخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ،
وَعَلَى ابْنِكَ جَلدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَيَا أنَيْسُ اغْدُ
عَلَى امْرَأةِ هَذَا فَسَلهَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا».
فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. متفق عليه (2).
- ما يُرجم به الزاني:
يقام حد الرجم على الزاني المحصن بالضرب بالحجارة المعتدلة بملء الكف، لا
بحصيات خفيفة؛ لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات كبيرة تقضي عليه بسرعة؛ لئلا
يفوت التنكيل المقصود.
عَنْ شَدّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ثِنْتَانِ
حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إنّ
اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ، فَإذَا قَتَلتُمْ
فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذّبْحَ،
وَليُحِدّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». أخرجه
مسلم (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6841) , واللفظ له، ومسلم برقم (1699).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6859) , واللفظ له، ومسلم برقم (1697).
(3) أخرجه مسلم برقم (1955).
(5/128)
- ما يُفعل بالمرجوم إذا مات:
إذا مات المرجوم بعد الرجم: فإن كان مسلماً يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن
مع المسلمين.
وإن كان كافراً يلف في ثيابه، ويوارى بالتراب في مكان من الأرض.
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلا مِنْ أسْلَمَ، جَاءَ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأعْرَضَ
عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
أرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أبِكَ
جُنُونٌ». قال: لا، قال: «آحْصَنْتَ». قال: نَعَمْ، فَأمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ
فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. فقال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ. متفق عليه (1).
- حكم تشبه الرجال بالنساء وعكسه:
المخنثون من الرجال هم الذين يتشبهون بالنساء في حركاتهم ومشيهم ولباسهم
وكلامهم ونحو ذلك.
والمترجلات من النساء هن المتشبهات بالرجال في كلامهن وحركاتهن ولباسهن
ونحو ذلك.
وقد برزت هذه الظاهرة من مزاحمة النساء للرجال في المكاتب والشركات.
وهذا التشبه من المحرمات، ومن كبائر الذنوب؛ لأن اللعنة لا تلحق إلا صاحب
كبيرة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ - صلى
الله عليه وسلم - المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6820) , واللفظ له، ومسلم برقم (1691).
(5/129)
وَالمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ،
وَقَالَ: «أخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ». أخرجه البخاري (1).
- حكم عمل قوم لوط:
عمل قوم لوط: هو فعل الفاحشة في الدبر، والاستغناء بالرجال عن النساء.
وعمل قوم لوط من أكبر الجرائم المفسدة للخُلُق والفطرة، وعقوبته أغلظ من
عقوبة الزنا؛ لغلظ حرمته، وشناعته، وقبحه.
وهو شذوذ جنسي خطير، حرمه الإسلام لما يسببه من الأمراض والأضرار النفسية
والبدنية الخطيرة.
وقد خسف الله بمن فعله وهم قوم لوط، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، وطمس
أعينهم، ولهم النار يوم القيامة.
1 - قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} ... [الأعراف: 80 - 81].
2 - وقال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا
سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
(82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
(83)} ... [هود: 82 - 83].
3 - وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا
أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)} ... [القمر: 37].
- عقوبة عمل قوم لوط:
عمل قوم لوط من كبائر الذنوب.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (5886).
(5/130)
وعقوبته: أن يُقتل الفاعل والمفعول به،
محصناً كان أو غير محصن، مسلماً كان أو كافراً، إذا كان بالغاً، عاقلاً،
مختاراً، عالماً بالتحريم.
فيقتله الإمام بما يراه رادعاً له ولغيره من قتلٍ بالسيف، أو رجم بالحجارة،
بمحضر من المؤمنين.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ
فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بهِ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
- مفاسد فاحشة عمل قوم لوط:
فاحشة عمل قوم لوط لها آثار سيئة على الأمة كلها.
فهو من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم.
وهو موجب للعنة الله ومقته وعقوبته، وجناية شنيعة على المفعول به وأسرته،
بل على المجتمع كله.
وهو يُحدث الهم والغم وسواد الوجه في الفاعل والمفعول به، ومُذهب للغيرة
والحياء، مولِّد للنفرة والبغض الشديد بين الفاعل والمفعول به، مسبب لنفرة
الناس منهما.
وعمل قوم لوط يحيل الطباع عما ركبها الله إلى طبع منكوس لا يشتهيه حتى
الحيوان، وإذا انتكس الطبع انتكس القلب، فاستطاب كل شر وخبيث، ويورث من
المهانة والحقارة والسفال ما لا يورثه غيره، ويكسو العبد حلة المقت
والبغضاء، واحتقار الناس له.
وهذا الفعل القبيح يفسد حال الفاعل والمفعول به، ويَذهب بمحاسنهما
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4462) , وأخرجه الترمذي برقم (1456).
(5/131)
ومودتهما، ويبدلها تباغضاً وتلاعناً.
وعمل قوم لوط يسبب الإصابة بالأمراض الخطيرة كالإيدز المهلك، ويقطع النسل،
ويفوِّت حق المرأة في الوطء الحلال.
وإذا كان الله قد حرم الوطء في الفرج من أجل الحيض العارض، فكيف بالحش الذي
هو محل الأذى اللازم.
فالدبر محل الأذى والقذر والنجو، فكيف يشتهيه الإنسان مع نفرة الحيوان منه.
فليس من المعاصي أعظم من هذه المفسدة التي تلي مفسدة الكفر.
ولم يسبق قوم لوط في فعلها أحد من العالمين.
قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} ... [الأعراف: 80 - 81].
- حكم الاستمناء:
الاستمناء: هو إنزال المني بشهوة من غير جماع، بيد أو نحوها، من رجل أو
امرأة.
والاستمناء محرم؛ لما فيه من التعدي، وصرف الشيء في غير موضعه، وفي الصوم
وقاية منه لمن لم يستطع الزواج.
وقد أمر الله بحفظ الفروج إلا في الزواج وملك اليمين، فبقي ما سواهما
محرماً.
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
(5/132)
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ (7)} ... [المؤمنون: 5 - 7].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ
مِنْكُمُ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأحْصَنُ
لِلفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ
لَهُ وِجَاءٌ». متفق عليه (1).
- حكم السحاق:
السحاق: هو إتيان المرأة المرأة.
وحكم السحاق محرم، ولا حد فيه، وإنما فيه التعزير.
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ
الرَّجُلِ، وَلا المَرْأةُ إِلَى عَوْرَةِ المَرْأةِ، وَلا يُفْضِي
الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلا تُفْضِي المَرْأةُ
إِلَى المَرْأةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ». أخرجه مسلم (2).
- حكم إتيان البهيمة:
إتيان البهيمة: هو فعل الفاحشة في فرج البهيمة.
ووطء البهيمة محرم، وهو جناية قبيحة؛ لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء.
وعقوبة هذا الوطء أن يعزَّر فاعله بما يراه الإمام رادعاً من ضربٍ، أو
قتلٍ، أو سجن ونحوها.
وأما البهيمة الموطوءة فتذبح ولا تؤكل، وإن كانت لغيره ضمن قيمتها
لصاحبها.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5066) , ومسلم برقم (1400)، واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (338).
(5/133)
2 - حد القذف
- القذف: هو الرمي بزنا أو لواط، أو نفي نسب، موجب للحد فيهما.
- أنواع القذف:
القذف نوعان:
الأول: قذف يُحد عليه القاذف، وهو رمي المحصن بالزنا أو اللواط، أو نفي
نسبه.
الثاني: قذف يعاقب عليه بالتعزير، وهو الرمي بما ليس صريحاً في ذلك.
- حكم القذف:
القذف محرم، وهو من الكبائر الموبقة الموجبة للعقوبة في الدنيا والآخرة.
فيحرم القذف إن كان كاذباً.
ويجب القذف إذا رأى امرأته تزني في طهر لم يجامعها فيه، ثم تلد ما يمكن أن
يكون من الزنا، فيجب قذفها، ونفي ولدها.
والقذف مباح إذا رأى زوجته تزني، ولم تلد ما يلزمه نفيه، فهذا مخير بين
فراقها وقذفها، وفراقها أولى من قذفها؛ لأنه أستر لها.
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور: 4 - 5].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} ... [النور: 23].
(5/134)
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا
السَّبْعَ المُوبِقَاتِ». قالوا: يَا رَسُولَ ا?، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ:
«الشِّرْكُ بِا?، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ
إِلا بِالحَقِّ، وَأكْلُ الرِّبَا، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي
يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ».
متفق عليه (1).
- مقدار حد القذف:
مقدار حد القذف ثمانون جلدة، سواء كان القاذف حراً أو عبداً، وسواء كان
رجلاً أو امرأة، وسواء كان مسلماً أو كافراً.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}
... [النور: 4].
- حكمة مشروعية حد القذف:
حث الإسلام على حفظ الأعراض عما يدنِّسها ويَشِينها، وأمر بالكف عن أعراض
الأبرياء، وحرَّم الوقوع في أعراضهم بغير حق؛ وذلك صيانة للأعراض من الدنس،
وحماية لها من التلوث.
وبعض النفوس تُقْدم على ما حرم الله من قذفٍ وتدنيسٍ لأعراض المسلمين
لنوايا مختلفة.
ولما كانت النوايا من الأمور الخفية كُلِّف القاذف أن يأتي بما يثبت قوله
بأربعة شهداء، فإن لم يفعل أقيم عليه حد القذف ثمانين جلدة.
- ألفاظ القذف:
تنقسم ألفاظ القذف إلى قسمين:
الأول: القذف الصريح، وهو كل لفظ لا يحتمل غير معناه كأن يقول لغيره يا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2766) , واللفظ له، ومسلم برقم (89).
(5/135)
زاني، يا لوطي ونحوهما، أو يصرح بنفي نسبه.
الثاني: القذف بلفظ الكناية بما يحتمل هذا وهذا، القذف وغيره، كأن يقول يا
قَحْبة، يا فاجرة، يا خبيثة ونحو ذلك.
فإن قصد الرمي بالزنا حُدّ للقذف وإن لم يأت ببينة.
وإن لم يقصده لم يُحدّ وعُزِّر.
وكذلك التعريض كأن يقول له عند المنازعة: لست بزان ولا أمي زانية ونحو ذلك.
- شروط وجوب حد القذف:
يشترط لوجوب حد القذف ما يلي:
1 - شروط القاذف:
أن يكون القاذف بالغاً، عاقلاً، مختاراً، عالماً بالتحريم، ملتزماً بأحكام
الإسلام، ولم يثبت قذفه.
2 - شروط المقذوف:
أن يكون المقذوف محصناً، وأن يكون معلوماً، وأن يطالب بالحد.
والمحصن هنا: هو الحر، المسلم، العاقل، العفيف، الذي يجامع مثله، ولا يشترط
بلوغه.
3 - شروط القذف:
أن يقذفه بالزنا أو اللواط، أو بنفي نسبه.
- ثبوت حد القذف:
يثبت حد القذف بواحد مما يلي:
(5/136)
إذا أقر القاذف على نفسه بالقذف .. أو شهد
عليه رجلان عدلان بالقذف.
- الآثار المترتبة على حد القذف:
إذا ثبت حد القذف ترتب عليه ما يلي:
1 - جلد القاذف ثمانين جلدة.
2 - عدم قبول شهادته بعد جلده حتى يتوب.
3 - الحكم عليه بأنه فاسق إلا إذا تاب.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور: 4 - 5].
- حكم من قذف غيره بغير الزنا أو اللواط:
إذا قذف الإنسان غيره بغير الزنا أو اللواط وهو كاذب فقد ارتكب محرماً،
ويعزر بما يراه الحاكم رادعاً له ولغيره، ولا يُحد حد القذف كأن يرمي شخص
أحداً بالكفر أو النفاق أو السرقة أو السكر أو الخيانة ونحو ذلك.
- من يملك حد القذف:
حد القذف حق للعبيد، وفيه حق لله تعالى؛ لأن القذف جناية على عِرض المقذوف،
وعِرضه حقه، وعقوبة القذف يملكها المقذوف كالقصاص.
وكذلك القذف جريمة تمس الأعراض، وفي إقامة الحد على القاذف تصان مصالح
العباد، ويُدفع عنهم الفساد.
إلا أن حق المقذوف أقوى، فيصح للمقذوف ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم
إسقاط الحد، والعفو عن القاذف، والصلح بعوض أو بدون عوض؛ لأنه
(5/137)
حقه فيملك التصرف فيه، فيجب على المسلم حفظ
لسانه عما يضره.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولًا (36)} ... [الإسراء: 36].
- حكم قذف الواحد للجماعة:
إذا قذف الإنسان جماعة من الناس: فإن قذفهم بكلمة واحدة كأن يقول: يا زناة،
فيُحد للقذف مرة واحدة.
وإن قذف كل واحد بكلمة، كأن يقول لكل واحد: يا زاني، فهذا عليه حد لكل واحد
منهم بعدد ما قذف؛ لأن الحد يتعدد بتعدد القذف، ومن أسقط حقه منهم سقط.
- حكم تكرار القذف:
إذا قذف الإنسان أحداً أكثر من مرة فعليه حد واحد إذا لم يُحد لواحد منها،
فإن كان قد حُدّ وعاد إلى القذف حُدّ مرة ثانية؛ لأن الحد يتعدد بتعدد
القذف.
- حكم تحليف القاذف:
إذا لم يأت المقذوف ببينة على القذف، وطلب المقذوف من القاضي أن يستحلف
القاذف أنه لم يقذفه، فللقاضي أن يُحلفه، ولا ترد اليمين إذا نكل على
المقذوف.
- ما يفعله القاضي لإثبات القذف:
إذا رُفعت دعوى القذف إلى القاضي فإما أن ينكر القاذف أو يقر، فإن أقر
القاذف، أو أقام المقذوف البينة على صدور القذف منه أقام حد القذف على
(5/138)
القاذف.
وإن أنكر القاذف طلب من المقذوف أن يُحضر البينة على صحة القذف وصدوره منه،
ويمهله ثلاثة أيام، فإن أحضرها أقام حد القذف على القاذف.
وإن لم يأت ببينة سقط الحد عن القاذف.
- ما يُسقط حد القذف:
يَسقط حد القذف بأحد أربعة أمور:
الأول: إثبات الزنا على المقذوف بالبينة أو بإقراره به.
الثاني: عفو المقذوف عن القاذف.
الثالث: اللعان بين الزوجين.
الرابع: تصديق المقذوف للقاذف فيما رماه به.
- صفة توبة القاذف:
من قذف غيره بالزنا أو اللواط كذباً وأقيم عليه حد القذف:
فهذا القذف يتعلق به حقان:
الأول: حق الله، وتوبته منه باستغفاره من ذنبه، وندمه على ما فعل، وعزمه
ألا يعود إليه.
الثاني: حق العبد، وتوبته منه أن يكذِّب نفسه فيما رمى به غيره.
فإذا تاب من هذا وهذا قُبلت شهادته وتوبته.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} ... [النور: 4 - 5].
(5/139)
3 - حد الخمر
- الخمر: اسم لكل ما خامر العقل وغطاه من مأكول أو مشروب ونحوهما.
- حقيقة السكر:
السكر الذي يجب به الحد هو اللذة والنشوة التي يغيب معها العقل الذي يحصل
به التمييز، فلا يعلم صاحبه ما يقول، فإذا علم ما يقول خرج عن حد السكر.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
- سبب تسمية المسكر خمراً:
سمي المسكر خمراً لأنها تُغطَّى حتى تدرك وتغلي .. ولأنها تستر العقل
وتغطيه .. ولأنها تخامر العقل وتخالطه.
فالخمر تركت، وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته وسترته وغطته.
- أسباب السكر:
قد يكون سبب السكر تناول الخمر، وقد يكون سببه ألم شديد يغيب معه العقل،
وقد يكون سببه أمر مَخُوف عظيم هجم عليه فغاب عقله، وقد يكون سببه فرح
شديد، أو غضب شديد، أو عشق، أو يأس، أو سماع شيطاني ونحو ذلك مما يغيب به
العقل.
(5/140)
- أنواع الخمر:
الخمر هي كل ما خامر العقل وغطاه من مأكول أو مشروب أو مشموم، سواء اتُّخذ
من التمر أو العنب أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو غيرها من النباتات
والمركبات الكيميائية المخدرة.
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى
المِنْبَرِ، فَقَالَ: أمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنْ
خَمْسَةٍ: العِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالعَسَلِ وَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ،
وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم - عَنِ البِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وَكَانَ
أهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم
-: «كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ». متفق عليه (2).
- سد الذرائع الموصلة إلى تناول الخمر:
سد الإسلام كل ذريعة توصل إلى الخمر، ومن ذلك:
تحريم القطرة من الخمر .. وإمساكها لاتخاذها خلاً .. النهي عن الانتباذ فوق
ثلاث .. النهي عن شرب العصير بعد ثلاث .. النهي عن الخليطين .. النهي عن
الانتباذ في بعض الأوعية كالقرع ونحوه.
1 - عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عَنْ أبيهِ عَنْ جدِّه عَنِ النَّبيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ».
أخرجه أحمد والنسائي (3).
2 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم
- سُئِلَ عَنِ الخَمْرِ تُتّخَذُ خَلاّ؟ فَقَالَ:
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5581) , واللفظ له، ومسلم برقم (3032).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5586) , واللفظ له، ومسلم برقم (2001).
(3) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (6674) , والنسائي برقم (5607).
(5/141)
«لاَ». أخرجه مسلم (1).
3 - وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، ثُمّ رَجَعَ وَقَدْ نَبَذَ نَاسٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَنَاتِمَ وَنَقِيرٍ وَدُبّاءٍ، فَأَمَرَ بِهِ
فَأُهَرِيقَ، ثُمّ أَمَرَ بِسِقَاءٍ فَجُعِلَ فِيهِ زَبِيبٌ وَمَاءٌ،
فَجُعِلَ مِنَ اللّيْلِ فَأَصْبَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ
وَلَيْلَتَهُ المُسْتَقْبِلَةَ، وَمِنَ الغَدِ حَتّىَ أَمْسَى، فَشَرِبَ
وَسَقَى، فَلَمّا أَصْبَحَ أَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فَأُهَرِيقَ. أخرجه
مسلم (2).
4 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدالله رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ النّبِيّ -
صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُخْلَطَ الزّبِيبُ وَالتّمْرُ،
وَالبُسْرُ وَالتّمْرُ. متفق عليه (3).
5 - وَعَنْ زَاذَان قَالَ: قُلتُ لاِبْنِ عُمَرَ: حَدِّثنِي بِمَا نَهَى
عَنْهُ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأَشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ،
وَفَسّرْهُ لِي بِلُغَتِنَا، فَإِنّ لَكُمْ لُغَةً سِوَى لُغَتِنَا،
فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الحَنْتَمِ،
وَهِيَ الجَرّةُ، وَعَنِ الدّبّاءِ، وَهِيَ القَرْعَةُ، وعَنِ المُزَفّتِ،
وَهُوَ المُقَيّرُ، وَعَنِ النّقِيرِ، وَهِيَ النّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحاً،
وَتُنْقَرُ نَقْراً، وَأَمَرَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِي الأَسْقِيَةِ. أخرجه
مسلم (4).
- حكم شرب الخمر للدواء:
يحرم التداوي بشرب الخمر؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها،
فهي داء وليست بدواء.
عَنْ وَائِلٍ الحَضْرَمِيّ أَنّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الجُعَفِيّ سَأَلَ
النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَمْرِ؟
فَنَهَاهُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنّمَا أَصْنَعُهَا
لِلدّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ،
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1983).
(2) أخرجه مسلم برقم (2004).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5601) , ومسلم برقم (1986)، واللفظ له.
(4) أخرجه مسلم برقم (1997).
(5/142)
وَلَكِنّهُ دَاءٌ». أخرجه مسلم (1).
- حكم الخمر:
الخمر كله قليله وكثيره محرم، والخمر أم الخبائث، وهو من الكبائر الموجبة
للعقاب في الدنيا والآخرة.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} ... [المائدة: 90 - 91].
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولُ الله - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
أخرجه مسلم (2).
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا
يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ
نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ، وَهُوَ
مُؤْمِنٌ». متفق عليه (3).
- حكمة تحريم الخمر:
الخمر أم الخبائث، وقد حرم الإسلام قليلها وكثيرها.
وتحريم المحرمات على هذه الأمة هو تحريم حفظٍ وصيانة، لا تحريم
عقوبة وحرمان.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1984).
(2) أخرجه مسلم برقم (2003).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6772) , واللفظ له، ومسلم برقم (57).
(5/143)
ولمَّا كانت الخمر تغطي عقل شاربها، فيتصرف
تصرفات تضر البدن والروح، والمال والولد، والعرض والشرف، والفرد والمجتمع
ونحو ذلك من المفاسد المترتبة على زوال العقل، ولِمَا تسببه من الأمراض
والضغط والبَلَه والجنون، ولِمَا تسببه من العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر
الله والصلاة، وتعطيل العمل، وانتهاك الحرمات والمحرمات.
ولِمَا في تناولها من الجناية على العقل الذي شرَّف الله به الإنسان على
غيره، ولِمَا فيها من الخبث والضرر على القلب والعقل والدماغ والكبد.
فلهذه الأسباب وغيرها حرم الله الخمر من كل وجه تناولاً، أو تجارة فيها، أو
زراعة لها، صيانة للعقول من الفساد، وحفظاً للأموال والأعراض والنفوس
والأخلاق من التلف والهلاك.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} ... [المائدة: 90 - 91].
- ثبوت حد الخمر:
يثبت حد الخمر بأحد أمرين:
الأول: إقرار الإنسان بأنه شرب الخمر.
الثاني: شهادة شاهدين عدلين.
- مقدار حد الخمر:
حد الخمر أربعون جلدة، وللإمام أن يبلغ به الثمانين تعزيراً إن رأى انهماك
(5/144)
الناس في الشراب.
1 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى
الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ
بِجَرِيدَتَيْنِ، نَحْوَ أَرْبَعِينَ. أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِىَّ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - جَلَدَ فِى الخَمْرِ بِالجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو
بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ
وَالقُرَى، قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِى جَلدِ الخَمْرِ؟ فَقَالَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ
الحُدُودِ. قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ. متفق عليه (2).
- شروط إقامة حد الخمر:
يشترط لإقامة حد الخمر ما يلي:
البلوغ .. والعقل .. والاختيار .. والعلم بأنه خمر.
ويُجلد شاربها مسلماً كان أو كافراً، حراً أو عبداً.
- عقوبة شارب الخمر:
1 - إذا شرب الإنسان الخمر فحده أربعون جلدة، وللإمام أن يزيده إلى ثمانين
جلدة إن رأى المصلحة.
2 - من أصر على شرب الخمر جُلد في المرة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة،
فإن شرب رابعة فللإمام حبسه أو قتله تعزيراً؛ قطعاً لدابر الشر وأهله.
3 - من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها لم يشربها في الآخر.
ولا يدخل الجنة مدمن خمر، ومن شربها وسكر لم تقبل له صلاة أربعين
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1706).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6776)، ومسلم برقم (1706)، واللفظ له.
(5/145)
يوماً، ومن كرر شربها سقاه الله يوم
القيامة من عصارة أهل النار، ومن تاب تاب الله عليه.
4 - للإمام كسر أواني الخمر، وتحريق أماكن الخمَّارين، بحسب المصلحة التي
تردع عن شربها.
1 - قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} ... [الزمر:
53].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي
الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ». متفق
عليه (1).
3 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ
جَيْشَانَ (وَجَيْشَانُ مِنَ اليَمَنِ) فَسَأَلَ النّبِيّ - صلى الله عليه
وسلم - عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذّرَةِ يُقَالُ
لَهُ المِزْرُ؟ فَقَالَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ مُسْكِرٌ
هُوَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلّ
مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنّ عَلَى الله، عَزّ وَجَلّ عَهْداً لِمَنْ يَشْرَبُ
المُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ
الله وَمَا طِينَةُ الخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النّارِ، أَوْ
عُصَارَةُ أَهْلِ النّارِ». أخرجه مسلم (2).
4 - وَعَنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّه أمَرَ عَبدَاللهِ بن جَعفَرٍ
أنْ يَجْلِدَ الوَليد بن عُقبةَ فِي الخَمرِ، فلمَّا جَلدَهُ أرْبَعِينَ،
قَالَ عَلِيٌ: أمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم
- أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ،
وَكُلٌّ سُنّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ.
أخرجه مسلم (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5575) , واللفظ له، ومسلم برقم (2003).
(2) أخرجه مسلم برقم (2002).
(3) أخرجه مسلم برقم (1707).
(5/146)
5 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا وَنَفَرٍ مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -
قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَرِبَ
الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثمَّ إِنْ شَرِبَ
فَاجْلِدُوهُ ثمَّ إِنْ شَرِبَ فَاقْتُلُوهُ». أخرجه النسائي (1).
6 - وَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ
صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ
عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ تَابَ
تَابَ اللهُ عَلَيْهِ». أخرجه أحمد والترمذي (2).
- أنواع العقوبات التعزيرية لشارب الخمر:
يجوز للإمام أن يزيد في حد الخمر تعزيراً إذا رأى تهالك الناس، واستهانتهم
بحدها.
ومن تلك العقوبات التعزيرية:
1 - مضاعفة الحد من أربعين إلى ثمانين تعزيراً.
2 - القتل لمدمن الخمر المصر عليها.
3 - التعزير بالنفي.
4 - التعزير بالحبس.
5 - التعزير بالتشهير.
6 - تكسير دِنَان الخمر.
7 - إحراق محلات بيع الخمر.
ونحو ذلك مما يراه الإمام محققاً للمصلحة، ودافعاً للمفسدة، وذلك
_________
(1) صحيح/ أخرجه النسائي برقم (5661).
(2) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (4917) , والترمذي برقم (1862)، وهذا لفظه.
(5/147)
يختلف في كل زمان ومكان، ويختلف بحسب أرباب
الجرائم.
- حكم الدعاء على من أقيم عليه حد الخمر:
لا يجوز الدعاء على من أقيم عليه حد الخمر، وإنما يناصح ويدعى له بالهداية.
1 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلاً عَلَى
عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللهِ،
وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِي
الشَّرَابِ، فَأتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِنَ
القَوْمِ: اللهُمَّ العَنْهُ، مَا أكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فقال
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَلعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا
عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: أتِيَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ، فَأمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ
يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ
يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قال رَجُلٌ: مَا لَهُ أخْزَاهُ
اللهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَكُونُوا عَوْنَ
الشَّيْطَانِ عَلَى أخِيكُمْ». أخرجه البخاري (2).
- حكم إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة:
لا يقام حد الخمر بالرائحة إلا إذا انضم إليها ما ينفي الشبهة، فيقام الحد
بالرائحة والقيء في الأحوال الآتية:
1 - أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهوراً بإدمان شرب الخمر.
2 - أن يوجد مع الرائحة عوارض السكر والقيء.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6780).
(2) أخرجه البخاري برقم (6781).
(5/148)
3 - أن يوجد جماعة بعضهم قد سكر، وبعضهم
تنبعث منه الرائحة ونحو ذلك.
- الأحكام المتعلقة بالخمر:
يتعلق بالخمر الأحكام الآتية:
1 - يحرم شرب قليل الخمر وكثيرها إلا عند الضرورة لزوال عطش وغصة.
2 - لا يجوز التداوي بالخمر؛ لأنها داء.
3 - يحرم بيعها وشراؤها والتجارة فيها.
4 - يجب على ولي الأمر إتلافها.
5 - يُحد شاربها حَد الخمر.
- حكم المخدرات:
المخدرات: مواد مركبة تفسد الجسم، وتورثه الخدر والفتور، وتؤثر على العقل
بالتغطية أو الإزالة.
والمخدرات داء عضال تسبب الشرور والأمراض المهلكة، فيحرم تعاطيها،
وتهريبها، وترويجها، والتجارة فيها؛ لعظيم ضررها وإثمها.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2].
- عقوبة أهل المخدرات:
يجب على إمام المسلمين عقوبة كل من يتعاطى أو يتاجر في المخدرات بما
يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة من سجن، أو جلد، أو قتل، أو غرامة.
وذلك لخطرها العظيم، وشرها المستطير، قطعاً لدابر الشر والفساد، وحفظاً
للأنفس والأموال والأعراض والعقول.
(5/149)
وتختلف عقوبة أهل المخدرات بحسب شدة جرمهم
كما يلي:
1 - مهرب المخدرات عقوبته القتل؛ لعظيم شره وضرره.
2 - مروِّج المخدرات بالبيع والشراء، أو الإهداء، أو التصنيع، أو
الاستيراد:
في المرة الأولى يعزر تعزيراً بليغاً بالحبس، أو الجلد، أو الغرامة
المالية، أو بها كلها حسب رأي الحاكم بما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة.
وإن تكرر منه ذلك يعزر بما يقطع شره عن الأمة، حتى ولو كان ذلك بالقتل؛
لأنه بفعله هذا من المفسدين في الأرض.
- أنواع المخدرات:
المخدرات والمسكرات أنواع متعددة، وكلها تغطي العقل، وتفسد الجسم.
وكلها محرمة؛ لما فيها من الضرر المؤكد الحصول.
ومن أشهر أنواع المخدرات:
الحشيش، والأفيون، والكوكايين، والمورفين، والبرش، ونحو ذلك مما يغطي
العقل، ويخدر البدن، ويورث الفتور والكسل، ويفسد الجسم.
1 - عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ
فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مُخْمِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ
مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِراً بُخِسَتْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ
صَبَاحاً فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ الرَّابعَةَ
كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ». قِيلَ:
وَمَا طِينَةُ الخَبَالِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «صَدِيدُ أَهْلِ
النَّارِ وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيراً لاَ
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3681) , والترمذي برقم (1865).
(5/150)
يَعْرِفُ حَلاَلَهُ مِنْ حَرَامِهِ كَانَ
حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ». أخرجه أبو
داود (1).
- حكم المفتِّرات:
المفترات: هي كل ما يورث الفتور في البدن، والخدر في الأطراف.
والمفترات سواء كانت نباتية كالقات، أو مصنَّعة كالجراك ونحو ذلك مما لا
يصل إلى حد الإسكار، ولا يغيب العقل، كل ذلك محرم، ولا يجوز تعاطيه ولا
شربه، لعظيم ضرره.
فالمسكرت والمخدرات والمفترات كلها محرمة؛ لمخامرتها العقل، وتغطيتها له.
وفي المخدرات والمفترات مفاسد الخمر ومضاره، بل هي أكثر ضرراً، وأعظم
فساداً من الخمر؛ لأنها تضر الأمة ضرراً بليغاً، أفراداً وجماعات، وتضر
دينهم وأبدانهم وصحتهم وعقولهم، وتعطل أعمالهم، وتفسد أموالهم، وتمزق
شملهم، وتأكل أوقاتهم، وتفسد حياتهم.
وكل ما يزعمونه في تلك المحرمات من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة.
والإسلام يحرم المفاسد والمضار، ويبيح المصالح والمنافع.
1 - قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
[الأعراف: 157].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163].
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3680)، انظر الصحيحة رقم (2039).
(5/151)
- عقوبة المفترات:
المفترات بأنواعها كلها ضارة ومفترة، وكثيرها مخدر.
فيحرم تناولها أو التجارة فيها؛ لأن كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وكل
ما يؤدي إلى المعصية فهو معصية، والوسائل لها أحكام المقاصد.
والمفترات كالمخدرات لها عقوبات تعزيرية يقدرها الإمام بما يحقق المصلحة،
ويقطع دابر الشر والفساد.
- حكم الدخان:
التبغ: شجرة خبيثة يدخنها الإنسان زاعماً أنها تريح بدنه وأعصابه.
وحكم الدخان محرم؛ لأنه من الخبائث الضارة .. مضر بالأبدان .. مؤذ برائحته
المدخن ومن حوله من الملائكة والناس .. مضر بالمال لما فيه من التبذير ..
مفسد لأعضاء الإنسان كالقلب والحلق والفم .. مفسد لطبيعة الإنسان ومزاجه.
وأعظم من ذلك أنه مضر بدين صاحبه، قاطع له عن الطاعات، محرك له إلى
المعاصي، مفسد لأخلاقه، موجب لسخط الله، وبغض عباده وكراهيتهم له.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
(5/152)
4 - حد السرقة
- السرقة: هي أخذ مال محترم لغيره، لا شبهة فيه، من موضع مخصوص، بقدر
مخصوص، على وجه الخفية.
- أنواع الاعتداء على الأموال:
الاعتداء على الأموال له حالات هي:
السرقة .. أو الغصب .. أو الاختلاس .. أو النهب .. أو الطَّر .. أو الخيانة
.. أو الجحد.
فالسرقة: أخذ مال الغير المحترم خفية من حرزه.
والغصب: أخذ المال علانية قهراً بغير حق.
والاختلاس: أخذ المال بصفة لا يشعر بها المسروق منه.
والنهب: أخذ المال مغالبة والناس ينظرون.
والطَّرَّار: هو النَّشَّال الذي يسرق من جيب الإنسان أو كمه.
والنَّبَّاش: هو من ينبش القبر لأخذ ما فيه.
والخائن: هو الغادر الجاحد للمال.
والجاحد: هو المنكِر ما عنده لغيره.
1 - قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38].
2 - وَعَنْ جَابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ
(5/153)
مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ». أخرجه أبو داود
والترمذي (1).
- أنواع السرقة:
السرقة نوعان هي:
1 - ما يوجب الحد: وهي السرقة التي توفرت لها شروط إقامة الحد.
2 - ما يوجب التعزير: وهي كل سرقة لم تكتمل فيها شروط إقامة الحد.
والسرقة التي عقوبتها الحد نوعان:
الأول: سرقة كبرى: وهي أخذ المال على سبيل المغالبة وتسمى الحِرَابة، ويجب
فيها قطع اليد والرجل من خِلاَف.
الثاني: سرقة صغرى: وهي السرقة التي يجب فيها قطع اليد، وهذه هي المقصودة
في هذا الباب.
- صفة العمل مع المتهمين في السرقة:
المتهمون في السرقة أو غيرها ثلاثة أصناف:
الأول: معروف بالدين والورع، وليس من أهل التهم، فهذا يخلَّى سبيله.
الثاني: مجهول الحال، فهذا يحبس حتى ينكشف أمره.
الثالث: معروف بالفجور والفسق، فهذا يُمتحن بالضرب حتى يقر بالجناية.
- حكم السرقة:
السرقة محرمة، وهي من كبائر الذنوب؛ لأنها أكل لأموال الناس بالباطل،
واعتداء على أموالهم بغير حق.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4391) , وأخرجه الترمذي برقم (1448)، وهذا
لفظه.
(5/154)
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (188)} ... [البقرة: 188].
2 - وَعَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأعْرَاضَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،
فِي شَهْرِكُمْ هَذَا». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا
يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً
يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ». متفق عليه (2).
- عقوبة السارق:
1 - إذا ثبتت السرقة على أحد قُطعت يده اليمنى من مفصل الكف، فإن سرق ثانية
قُطعت رجله اليسرى.
فإن سرق بعد ذلك فلا قطع، بل يكون التعزير والنكال بما يراه الحاكم رادعاً
لعدوانه من حبسٍ، أو جلدٍ، أو بهما معاً.
2 - السارق آخذ لمال غيره بغير حق، ولهذا لعنه الله، وتوعده بالنار يوم
القيامة إن لم يتب ويردّ ما أخذ.
1 - قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}
[المائدة: 38 - 39].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4406) , واللفظ له، ومسلم برقم (1679).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2475) , واللفظ له، ومسلم برقم (57).
(5/155)
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} ... [النساء: 14].
3 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللهِ -
صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ
فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». متفق عليه
(1).
- حكمة مشروعية حد السرقة:
صان الله الأموال بإيجاب قطع يد السارق، فإن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض
يجب بتره ليسلم الجسم.
وفي قطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة عبرة لمن تحدثه نفسه
بسرقة أموال الناس، وتطهير للسارق من ذنبه، وحفظ لأموال الأمة، وإرساء
لقواعد الأمن والطمأنينة في المجتمع.
وقطع يد السارق كفيل بقطع دابر السرقة وتقليلها، وحفظ للسارق أن ينال كسبه
من السحت الحرام، ورسالة مكشوفة تردع الصائل، وتكف الباغي.
والسارق هو الذي جلب الشر لنفسه، فقُطع لمصلحة نفسه ومصلحة غيره.
- شروط إقامة حد السرقة:
يجب القطع في حد السرقة إذا توفرت الشروط الآتية:
1 - أن يكون السارق بالغاً، عاقلاً، مختاراً، مسلماً كان أو كافراً.
2 - أن يكون المسروق مالاً محترماً، فلا قطع بسرقة آلة لهو، أو خمر
ونحوهما.
3 - أن يبلغ المال المسروق نصاباً، وهو ربع دينار من الذهب فصاعداً.
4 - أن يأخذ المال على وجه الخفية، فإن لم يكن كذلك فلا قطع كالاغتصاب،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6799) , واللفظ له، ومسلم برقم (1687).
(5/156)
والاختلاس، والانتهاب ونحوها، وإنما فيها
التعزير.
5 - أن يأخذ المال من حرزه كالدكان والدار ونحوهما.
6 - انتفاء الشبهة، فلا قطع على الأب والأم، والابن والبنت، ولا على من
وجبت عليه نفقته، ولا على من سرق في المجاعة.
7 - ثبوت السرقة.
وتثبت السرقة بأحد أمرين:
1 - الإقرار: بأن يقر السارق على نفسه بالسرقة.
2 - الشهادة: بأن يشهد عليه رجلان عدلان بأنه سرق، ولا تقبل شهادة النساء
في الحدود.
فإذا تمت هذه الشروط وجب القطع، وإن اختل شرط منها سقط القطع، وللإمام
التعزير بما يراه مناسباً.
- من لا قطع عليه في السرقة:
1 - الأصول كالأب والأم، والفروع كالابن والبنت؛ لشبهة الإنفاق والتبسط.
2 - لا يُقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر؛ لشبهة النفقة والتبسط.
3 - سرقة العبد من مال سيده، والسيد من مال مالكه؛ لشبهة النفقة والتبسط.
4 - السرقة من بيت المال؛ لشبهة حقه في بيت المال.
5 - الفقير إذا سرق من غَلَّة وقفٍ على الفقراء؛ لشبهة استحقاقه منها.
6 - السرقة من مال له فيه شراكة؛ لأن له نصيباً فيه.
وللإمام أن يعزر من شاء بما يكف شر هذه الجريمة، ويردع السارق وغيره.
(5/157)
- مقدار نصاب السرقة:
نصاب السرقة الذي تقطع فيه اليد ربع دينار من الذهب فصاعداً، أو عرض
يساويه.
والدينار يساوي مثقال، والمثقال يساوي أربعة غرامات تقريباً، فيكون ربع
الدينار يساوي غراماً واحداً.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: قالَ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم -: «تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا». متفق عليه
(1).
- حِرْز الأموال والأشياء:
حرز المال: هو المكان الذي يُحفظ فيه عادة بقفل ونحوه.
والحرز يختلف باختلاف الأموال، والأشياء، والبلدان، وعدل السلطان وجوره،
وقوته وضعفه.
فحرز الأموال والجواهر في المصارف، والدكاكين، والبيوت، والصناديق ونحو ذلك
مما جرى به العرف.
وحرز الأقمشة والأواني والآلات في الدكاكين، والمستودعات، والبيوت، وراء
الأبواب والأغلاق الوثيقة.
وحرز ما يباع في السوق من الفواكه والخضار ونحوها وراء الشبك أو القماش إذا
كان للسوق حارس.
وحرز الخشب والحطب في الحظائر والمستودعات.
وحرز البهائم والمواشي والطيور في أماكن تربيتها في البيوت أو المشاريع،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6789) , واللفظ له، ومسلم برقم (1684).
(5/158)
وحرزها في المرعى بالراعي المكلف، ونظره
إليها غالباً ونحو ذلك مما جرت به عادة الناس.
فمن سرق من هذه الحروز قطع، ومن سرق من غير حرز لم يقطع، ويعزر ويرد ما أخذ
أو قيمته أو بدله.
- صفة حد السرقة:
حد السرقة حق خالص لله تعالى.
فإذا ثبت الحد عند الحاكم لم يجز العفو عنه، ولا الإبراء منه، ولا الشفاعة
فيه؛ لأنه حق لله، فيجب تنفيذه على من سرق.
1 - قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} ...
[المائدة: 38 - 39].
2 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ
نَائِماً فِي المَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ لِي ثمَنُ ثلاَثِينَ دِرْهَماً
فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي فَأُخِذ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بهِ
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ بهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ فَقُلتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثلاَثِينَ دِرْهَماً أَنَا
أَبيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثمَنَهَا. قَالَ: «فَهَلاَّ كَانَ هَذا قَبْلَ أَنْ
تَأْتِيَنِي بهِ». أخرجه أبو داود والنسائي (1).
- مكان القطع في حد السرقة:
مكان القطع في حد السرقة في اليد اليمنى إن وجدت، من مفصل الكف،
من الكوع الذي يلي إبهام اليد؛ لأنها آلة الأخذ غالباً.
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4394) , وهذا لفظه، وأخرجه النسائي برقم
(4884).
(5/159)
وإن تكررت منه السرقة قُطع من مفصل القدم
اليسرى، من مفصل العقب، ويبقى العقب وهو العرقوب مؤخر القدم الذي تحت
الكعب.
ولا يجوز أن يُخَدَّر مكان القطع؛ لأن تأديبه وإيلامه مطلوب.
فإذا تم القطع وجب حسم مكان القطع؛ لئلا ينزف الدم فيموت.
ويكون الحسم بما يوقف الدم بغمسها بزيت يغلي، أو جراحة، أو كيّ بنار ونحو
ذلك مما يوقف نزيف الدم.
ويجوز للإمام أن يعلق يده على صدره، أو على خشبة؛ تعزيراً، حسب حجم السرقة،
وجناية السارق، وردعاً لغيره.
- ما يترتب على ثبوت السرقة:
يترتب على ثبوت السرقة ما يلي:
1 - رد المسروق إن وُجد، أو مثله إن فُقد، أو قيمته إن كان تالفاً.
2 - قطع اليد اليمنى من مفصل الكف وحسمها.
3 - إذا عاد السارق مرة أخرى قُطعت رجله اليسرى من مفصل القدم.
4 - إن عاد مرة ثالثة حُبس وعُزِّر ولا يُقطع.
- حكم إعادة العضو المقطوع:
1 - يجوز إعادة العضو المقطوع في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو التنفيذ.
2 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع حداً؛ لأن في بقاء أثر الحد تحقيقاً
للعقوبة المقررة، وزجراً عن الجريمة، وحذراً من مصادمة حكم الشرع في
الظاهر.
(5/160)
- حكم المال المسروق:
إذا كان المال المسروق موجوداً رده السارق لصاحبه، وإن كان تالفاً ضمن
بدله، فإن لم يوجد ضمن قيمته، فإن كان معسراً فنظرة إلى ميسرة.
وقَطْع اليد لا يمنع ضمان رد المسروق؛ لأن الضمان حق الآدمي، والقطع يجب
لحق الله، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدية والكفارة.
- حكم من سرق من بيت المال:
بيت المال فيه حق لعموم المسلمين، والسرقة منه أعظم إثماً من غيره.
والسارق من بيت المال يعزر بما يراه الإمام، ويُلزم برد ما أخذه، ولا
يُقطع؛ لأن له نصيباً منه، ومثله في الحكم من سرق من الغنيمة أو الخمس.
- حكم أخذ الثمر من مال الغير:
أخذ الثمر من ملك الغير له ثلاث حالات:
الأولى: أن يمر الإنسان المحتاج بالثمر على رؤوس النخل، أو الثمر في الشجر،
أو بماشية فيها لبن، فهذا له أن يأكل ويشرب بقدر حاجته فقط بعد أن يستأذن
صاحبه، فإن لم يجده أكل حاجته من غير أن يحمل شيئاً.
الثانية: أن يأخذ من ذلك ويذهب به معه من دون إذن، فهذا محرم؛ لأنه أخذ مال
غيره بدون إذنه ولا رضاه، فعليه الغرامة بالمثل أو القيمة، وعليه التعزير
بدون قطع؛ لأنه لم يأخذ مالاً من حرزه.
الثالثة: أن يأخذ الطعام من الجَرِين أو البَيْدر أو مستودع الطعام.
فهذا إن بلغ ما أخذ نصاباً فعليه حد القطع؛ لأنه أخذ المال من حرزه.
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا
(5/161)
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(38)} [المائدة: 38].
- حكم الاشتراك في السرقة:
إذا اشترك جماعة في سرقة، فإن بلغ لكل واحد منهم نصاب، فعلى كل واحد منهم
القطع.
وإن كان المسروق كله نصاباً، واشترك جماعة في سرقته، فلا يُقطع كل واحد
منهم، لكن يعزرهم الحاكم، لأن كل واحد منهم لم يسرق نصاباً يوجب القطع.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى
الله عليه وسلم - يَقْطَعُ السّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً. متفق
عليه (1).
- حكم جاحد العارية:
العارية: أن تعطي أحداً شيئاً لينتفع به لمدة شهر أو سنة مثلاً ثم يرده لك.
والوديعة: أن تعطي أحداً مالاً ليحفظه لك مدة معلومة وليست الخيانة في
العارية كالخيانة في الوديعة.
فيُقطع جاحد العارية؛ لأنه قبضها لمصلحة نفسه، ولا يُقطع جاحد الوديعة؛
لأنه قبضها لمصلحة مالكها.
وإذا قُطع جاحد العارية امتنع الناس من جحدها، وإذا لم تقطع تجرأ الناس على
جحدها، وفي هذا سد لباب المعروف بين الناس.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنّ قُرَيْشاً أَهَمّهُمْ شَأْنُ
المَرْأَةِ المَخْزُومِيّةِ الّتِي
سَرَقَتْ. فَقَالُوا: مَنْ يُكَلّمُ فِيهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه
وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَيْهِ إلاّ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6789) , ومسلم برقم (1684)، واللفظ له.
(5/162)
أُسَامَةُ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -؟ فَكَلّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه
وسلم -: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُود اللهِ؟». ثُمّ قَامَ
فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النّاسُ إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ
قَبْلَكُمْ، أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ،
وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ
اللهِ لَوْ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
متفق عليه (1).
- حكم توبة السارق:
لتوبة السارق ثلاث حالات:
1 - أن يتوب مَنْ عليه حد السرقة أو غيرها قبل القدرة عليه.
فهذا يسقط عنه الحد، ولا يشرع له كشف نفسه بعد أن ستره الله، لكن يجب عليه
رد ما أخذ من مال، وضمانه إن كان تالفاً.
2 - أن يتوب بعد القدرة عليه.
فهذا لا يسقط عنه الحد بالتوبة؛ لأن الحد تجب إقامته بعد بلوغه الإمام.
3 - أن يتوب بعد إقامة حد القطع عليه.
فهذا من شرط صحة توبته رد ما سرق إن كان موجوداً، وضمانه لربه إن كان
تالفاً.
والله عز وجل يقبل التوبة النصوح، لكن لا بد من إقامة الحدود إذا بلغت
الحاكم، ورد ما أخذ لمالكه.
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3475) , ومسلم برقم (1688)، واللفظ له.
(5/163)
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(39)} ... [المائدة: 38 - 39].
- ما يسقط به حد السرقة بعد وجوبه:
يسقط الحد بعد وجوبه بواحد مما يلي:
تكذيب المسروق منه السارق .. تكذيب المسروق منه من شهد معه .. رجوع السارق
عن الإقرار بالسرقة؛ لأن الرجوع عن الإقرار يُقبل في الحدود، ولا يُقبل في
المال؛ لأن الحد يسقط بالشبهة.
(5/164)
5 - حد قطاع الطريق
- قطاع الطريق: هم الذين يَعْرِضون للناس بالسلاح، ويقطعون الطريق عليهم
جهراً بنهب أو قتل.
وقطاع الطريق يسمون مُحَارِبين؛ لأنهم محاربون للناس والدين.
- أقسام قطاع الطريق:
قطاع الطريق: هم كل من أشهر السلاح، وأخاف الطريق، وله قوة بنفسه أو بغيره.
وقطاع الطرق عصابات مختلفة كعصابة القتل .. وعصابة خطف الطائرات .. وعصابة
اللصوص التي تسطو على البيوت والمتاجر والبنوك .. وعصابة خطف البنات للفجور
بهن .. وعصابة خطف الأطفال لبيعهم أو فعل الفاحشة بهم .. وعصابة قتل الدواب
والمواشي أو أخذها .. وعصابة خطف الوجهاء والأغنياء. فهؤلاء وأمثالهم يسمون
قطاع الطريق؛ لإخافتهم الناس في طرقهم جهاراً بالسلاح.
- صفة قطاع الطريق:
1 - قطاع الطريق يشبهون البغاة، فقطاع الطريق محاربون بغير تأويل، والبغاة
محاربون بتأويل.
2 - قطع الطريق يشبه السرقة، فقطع الطريق أخذ المال جهراً من الناس، سراً
عن الإمام، ويسمى سرقة كبرى؛ لأن فيه ضرراً على أصحاب الأموال والناس،
ولهذا غُلِّظ فيه الحد.
(5/165)
والسرقة أخذ المال خفية، وتسمى سرقة صغرى؛
لأن ضررها يخص أهل الأموال، ولهذا كانت عقوبتها أخف، وقطع الطريق أخذ المال
أو غيره جهراً بتهديد، والسرقة أخذ المال خفية بلا تهديد.
- حكم قطع الطريق:
الحرابة: هي التعرض للناس وتهديدهم بالسلاح في الصحراء أو البنيان، في
البيوت أو وسائل النقل، من أجل سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو غصب
أموالهم ونحو ذلك.
ويدخل في حكم الحرابة كل ما يقع من ذلك في الطرق والمنازل، والسيارات
والقطارات، والسفن والطائرات، سواء كان تهديداً بالسلاح، أو زرعاً
للمتفجرات، أو نسفاً للمباني، أو حرقاً بالنار، أو أخذاً لرهائن.
وكل ذلك محرم، ومن أعظم الجرائم؛ لما فيه من ترويع الناس، والاعتداء على
أنفسهم وأعراضهم وأموالهم بغير حق.
ولهذا كانت عقوبتها من أقسى العقوبات.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
2 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ، فَأسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا
المَدِينَةَ، فَأمَرَهُمْ أنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا
مِنْ أبْوَالِهَا وَألبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا
وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ،
فَأتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ
أعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى
(5/166)
مَاتُوا. متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا
السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا». متفق عليه (2).
- شروط وجوب الحد على قطاع الطريق:
1 - أن يكون قاطع الطريق بالغاً عاقلاً، سواء كان مسلماً أو كافراً، ذكراً
أو أنثى.
2 - أن يكون المال المأخوذ محترماً مملوكاً لغيره.
3 - أن يأخذ المال من حرز، قليلاً كان أو كثيراً.
4 - ثبوت قطع الطريق بإقرار أو شهادة رجلين عدلين.
5 - انتفاء الشبهة كما ذكر في السرقة.
6 - التهديد بالسلاح جهراً في الصحراء أو العمران.
فإذا تمت هذه الشروط أقيم عليه حد الحرابة.
وإن اختل شرط منها عزرهم الإمام بما شاء مما يحقق المصلحة، ويدفع شرهم عن
الناس.
- عقوبة قطاع الطريق:
عقوبة قطاع الطريق لها أربع حالات:
1 - إذا قَتلوا وأخذوا المال، قُتلوا وصُلبوا.
2 - إذا قَتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلبوا.
3 - إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قُطع من كل واحد يده اليمنى من مفصل الكف،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6802) , واللفظ له، ومسلم برقم (1671).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6874) , ومسلم برقم (98).
(5/167)
ورجله اليسرى من مفصل العقب.
4 - إذا لم يقتلوا ولم يأخذوا المال، لكن أخافوا السبيل، فهؤلاء يُنفون من
الأرض. وللإمام أن يجتهد في شأنهم بما يراه رادعاً لهم ولغيرهم؛ قطعاً
لدابر الشر والفساد.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(34)} ... [المائدة: 33 - 34].
2 - وعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ، فَأسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا
المَدِينَةَ، فَأمَرَهُمْ أنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا
مِنْ أبْوَالِهَا وَألبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا
وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ،
فَأتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ
أعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. متفق عليه (1).
- ما يُفعل بقطاع الطريق بعد القتل:
إذا جمع قطاع الطريق بين القتل وأَخْذ المال قُتلوا ثم صُلبوا على جدار أو
عامود، وللإمام إن رأى المصلحة صَلْب قاطع الطريق، ثم قَتْله وهو مصلوب.
وكيفية الصلب: أن يعلَّق الجاني، وتربط يديه بالعامود من أعلى، ويترك بقدر
ما يشتهر أمره.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6802) , واللفظ له، ومسلم برقم (1671).
(5/168)
والقتل يكون بالسيف ونحوه مما يسرع في
إزهاق الروح.
وقطاع الطريق إذا قتلوا يُغسَّلون، ويكفنون، ويصلى عليهم، ويدفنون مع
المسلمين؛ لأنهم مسلمون.
أما الكافر فلا يغسل، ولا يصلى عليه، فيوارى بثيابه في حفرة من الأرض.
- كيفية نفي قطاع الطريق:
قطاع الطريق إذا أخافوا الناس ولم يقتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يُنفون من
الأرض؛ إتقاء لشرهم، حتى تظهر توبتهم، فإن لم يندفع شرهم حبسهم الإمام؛ لأن
هذا أقرب إلى دفع شرهم، لأن الحبس هو سجن الدنيا، فالمسجون ليس في الدنيا
مع الناس، وليس في الآخرة مع الأموات، فهو منفي من الأرض.
- حكم حد قطاع الطريق:
حد قطاع الطريق من حقوق الله الخالصة له، فإذا بلغ الحاكم أمرهم وجب تنفيذ
الحد فيهم، ولا يجوز العفو عنهم ولا الإبراء، ولا الصلح ولا الشفاعة لإسقاط
الحد عنهم.
وما أخذوه من المال إن كان موجوداً رُدَّ إلى مالكه، وإن كان مفقوداً رُدَّ
مثله، فإن لم يوجد مثله رد قيمته إن كان موسراً، فإن كان معسراً فنظرة إلى
ميسرة.
لأن الحد والغُرْم حقان واجبان، الحد لله، والغُرْم للآدمي، فيجب أداؤهما
معاً كالصيد المملوك في الحرم يجب فيه الجزاء للفقراء، والقيمة لمالكه.
- حكم توبة قطاع الطريق:
التوبة: هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته.
(5/169)
1 - من تاب من قطاع الطريق قبل القدرة عليه
فإن الله يغفر له ما قد سلف، ويسقط عنه ما وجب لله من نفي، وقطع، وصلب،
وتحتم قتل.
ويؤخذ بما للآدميين من قتل نفس، أو قطع طرف، أو أخْذ مال، إلا أن يُعفى له
عنها؛ لأن هذا من باب القصاص، لا من باب الحرابة، وللمجني عليه حق في
القصاص أو الدية أو العفو.
2 - إن قُبض على قطاع الطريق قبل التوبة أقيم عليهم حد قطاع الطريق، ووجب
عليهم رد ما أخذوه لمالكه؛ لئلا تُتخذ التوبة ذريعة لتعطيل حدود الله، ولأن
توبتهم بعد القدرة عليهم خوفاً من النكال والعقوبة، فلهذا لا تقبل توبتهم.
3 - أما الكافر فتقبل توبته وإسلامه ولو بعد القدرة عليه، فيُرفع عنه
القتل، ويلزمه رد ما أخذ لغيره من مال.
4 - جميع الحدود إذا تاب الإنسان منها قبل القدرة عليه سقطت عنه؛ لأن جميع
حقوق الله مبنية على المسامحة، فتسقط بالتوبة، فإن طالب الجاني بإقامتها
عليه، فللإمام أن يقيمها عليه، وإن رجع عن طلب الإقامة بالقول أو الفعل
ارتفعت عنه العقوبة.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(34)} ... [المائدة: 33 - 34].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ
لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ
يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: 38].
(5/170)
3 - وَعَنْ أسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ
اللهُ عَنهُمَا قالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أنَا
وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قال: لا
إِلَهَ إِلا اللهُ، فَكَفَّ الأنْصَارِيُّ عنه، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي
حَتَّى قَتَلتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه
وسلم - فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أقَتَلتَهُ بَعْدَ مَا قال: لا إِلَهَ
إِلا اللهُ». قُلتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى
تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. متفق عليه
(1).
- صفة توبة قطاع الطريق:
تقوم توبة قطاع الطريق على أمرين:
الأول: أن يتوبوا توبة نصوحاً فيما بينهم وبين الله عز وجل.
بأن تكون توبتهم خالصة لله تعالى .. وأن يندم الواحد على ما فعل .. ويقلع
عن الذنب بتركه .. ورد ما أخذ لصاحبه أو استحلاله .. والعزم على ألا يعود
إلى ذلك الذنب .. وأن تكون التوبة قبل حضور الأجل .. وقبل طلوع الشمس من
مغربها، فهذه الخمسة شروط التوبة النصوح.
الثاني: أن يُلقي قطاع الطريق السلاح، ويجيئوا إلى الإمام تائبين معتذرين،
إما جميعاً، أو يرسلوا رسولاً منهم معه تعهد منهم بتوبتهم، وندمهم على ما
فعلوا.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
(17)} [النساء: 17].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4269) , واللفظ له، ومسلم برقم (96).
(5/171)
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ
الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 18].
3 - وقال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
[غافر: 84 - 85].
- ما يسقط به حد قطاع الطريق:
يسقط حد قطاع الطريق بعد وجوبه بواحد مما يلي:
1 - تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره.
2 - رجوع القاطع عن إقراره.
3 - تكذيب المقطوع عليه البينة.
4 - توبة القاطع قبل القدرة عليه.
- ما يترتب على سقوط الحد:
إذا سقط حد قطاع الطريق بتوبة أو فوات شرط:
فإن كان ما أخذوه من مال موجوداً وجب رده إلى صاحبه، وإن كان تالفاً وجب
ضمانه.
وإن قتلوا أحداً بسلاح وجب القصاص إلا أن يعفوا أولياء القتيل، أو يأخذوا
الدية.
وإن جرحوا وجب القصاص في الطرف إلا أن يعفو المجني عليه، أو يأخذ الدية.
- حكم توبة الزنديق:
الزنديق: هو من يظهر الإسلام، ويبطن الكفر.
(5/172)
والزنديق محارب لله ورسوله ودينه، ومحاربة
الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه، فإن فتنة
هذا في الأموال والأبدان، وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان؛ لأنه منافق.
فإن تاب الزنديق قبل القدرة عليه فتُقبل توبته، ويُحقن دمه، وأما بعد
القدرة عليه فلا تقبل توبته، بل يقتل حداً من غير استتابة، إلا إن علمنا
صدق توبته فتقبل توبته ولا نقتله.
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 145 - 146].
- حكم الصائل:
الصائل: هو من وثب على غيره واستطال عليه بغير حق في نفسه، أو عرضه، أو
ماله.
والصائل معتد على غيره بغير حق، والاعتداء على الغير بغير حق محرم.
فيجب دفع الصائل حفظاً للنفوس من الهلاك، والأعراض من الانتهاك، والأموال
من التلف.
1 - قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (190)} ... [البقرة: 190].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
(5/173)
- كيفية دفع الصائل:
من صال على نفسه وأهله أو ماله آدمي أو بهيمة دَفَعه بأسهل ما يغلب على
الظن اندفاعه به.
فإن كان يندفع بالتهديد فلا يضربه .. وإن لم يندفع إلا بالضرب باليد
فليضربه .. وإن لم يندفع إلا بالضرب بالعصا فليضربه بالعصا .. يضربه
بالأسهل فالأسهل.
وإن لم يندفع إلا بالقتل فليقتله، ولا ضمان عليه؛ لأنه مأذون له بذلك، وكل
ما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وإن كان يمكنه دفعه بلا قتل فقتله فإنه يضمنه؛ لأنه دفعه بأكثر مما يجب.
وكذلك يجب دفع الصائل على غيره مع ظن السلامة.
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ!
أرَأيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي؟ قال: «فَلا تُعْطِهِ
مَالَكَ». قال: أرَأيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قال: «قَاتِلهُ». قال: أرَأيْتَ
إنْ قَتَلَنِي؟ قال: «فَأنْتَ شَهِيدٌ». قال: أرَأيْتَ إنْ قَتَلتُهُ؟ قال:
«هُوَ فِي النَّارِ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «انْصُرْ أخَاكَ ظَالِمًا أوْ مَظْلُومًا». فقال رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أفَرَأيْتَ إِذَا
كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أنْصُرُهُ؟ قال: «تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ مِنَ
الظُّلمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ».
أخرجه البخاري (2).
- حكم قتل الصائل:
إذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل فللمجني عليه قتله، فإن طالب أولياء
المقتول
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (140).
(2) أخرجه البخاري برقم (6952).
(5/174)
بالقصاص نظرنا في الأمر والقرائن:
فإن كان المقتول معروفاً بالشر والفساد، والقاتل معروفاً بالخير والصلاح،
فالقول قول القاتل، ولا ضمان عليه، ولكن لا بد أن يحلف؛ لأن اليمين تكون في
جانب أقوى المدَّعين، ولا يصلح أمر الناس إلا بهذا؛ لأن إقامة البينة متعسر
بل متعذر.
وأما إذا كان المصول عليه غير معروف بالصلاح فقتله فعليه القصاص إن لم يُقم
البينة على أن المقتول صال عليه.
أما البهيمة كجمل أو أسد أو ذئب: فإذا صال عليه، ولم يندفع إلا بالقتل فله
قتله، ولا ضمان عليه؛ لأن الصائل مؤذ لا حرمة له.
والمؤذي إن كانت طبيعته الأذى قُتل وإن لم يَصُلْ كالحية والأسد، وإن لم
تكن طبيعته الأذى قُتل حال أذىته كالجمل والفرس ونحوهما.
1 - قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
(5/175)
6 - حد البغاة
- البغاة: هم قوم لهم شوكة ومَنَعة يخرجون على إمام المسلمين بتأويل سائغ،
فيشقون عصا الطاعة له.
- أصناف البغاة:
البغاة هم كل طائفة منعت الحق الذي عليها .. أو تميزت عن إمام المسلمين
بحال أو مكان .. أو خلعت طاعته .. أو خرجت عليه تريد خلعه .. ولهم شوكة
ومنعة.
فهؤلاء وأمثالهم بغاة ظلمة.
والخارجون عن طاعة إمام المسلمين ثلاثة أصناف:
إما أن يكونوا قطاع طريق .. أو يكونوا بغاة .. أو يكونوا خوارج.
فهؤلاء من مات منهم فحكمه حكم عصاة الموحدين.
- صفة الخوارج:
الخوارج قوم خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه، واستحلوا دمه ودماء
المسلمين وأموالهم، وسبيَ نسائهم، وكفَّروا أصحاب رسول اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -.
وهؤلاء يكفِّرون مرتكب الكبيرة، ويرون أنه مخلد في النار.
ويسمّون الحَرُوريّة، وقد ظهروا بالعراق، وكانوا متشددين في الدين بلا فقه،
فقاتلهم الإمام علي رضي الله عنه.
1 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلأنْ أخِرَّ مِنَ
السَّمَاءِ، أحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُل،
وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي
(5/176)
وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ فِي
آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ،
يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ،
فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ
القِيَامَةِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَخْرُجُ فِيكُمْ
قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ
صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا،
وَيَنْظُرُ فِي القِدْحِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ
فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الفُوقِ». متفق عليه (2).
- حكم الخروج على إمام المسلمين:
نَصْب الإمام من أعظم واجبات الدين، وبوجوده يتحقق الأمن، وتأمن السبل،
ويطمئن الناس على أنفسهم وأموالهم.
فتحرم معصيته والخروج عليه ولو جار وظلم، ما لم يرتكب كفراً بواحاً عندنا
من الله فيه برهان، سواء ثبتت إمامته بإجماع المسلمين .. أو بعهدٍ من
الإمام الذي قبله، أو باجتهاد أهل الحل والعقد .. أو بقهره للناس حتى
أذعنوا له ودَعَوه إماماً.
ولا يُعزل بفسقه حتى يرتكب كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان، ومن خرج
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5057) , ومسلم برقم (1066)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5058) , واللفظ له، ومسلم برقم (1064).
(5/177)
عليه فيجب قتاله.
عَنْ عَرْفَجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُفَرّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمّةِ، وَهِيَ جَمِيعٌ،
فَاضْرِبُوهُ بِالسّيْفِ، كَائِناً مَنْ كَانَ». أخرجه مسلم (1).
- ما يجب على إمام المسلمين:
إمام المسلمين يجب أن يكون رجلاً مسلماً.
ويلزم الإمام الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وحفظ
الدين .. وتنفيذ أحكام الله .. وإقامة الحدود .. وجباية الصدقات .. والحكم
بالعدل .. وحماية بلاد الإسلام .. وتحصين الثغور .. وجهاد الأعداء ..
وتعليم أحكام الإسلام .. والدعوة إلى الله .. ونشر الإسلام .. والنصح
للرعية .. والرفق بهم .. وعدم غشهم.
1 - قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص:
26].
2 - وَعن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ
يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ
لِرَعِيَّتِهِ، إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ». متفق عليه (2).
3 - وَعن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1852).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7151) , ومسلم برقم (142)، واللفظ له.
(5/178)
اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ
يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ». متفق عليه
(1).
- ما يجب على الأمة:
يجب على الأمة أن تطيع إمام المسلمين في غير معصية الله، ولا تنزع يداً من
طاعة، وتناصحه بالمعروف، وتصبر على جَوره.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا (59)} ... [النساء: 59].
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النّبِيّ - صلى الله
عليه وسلم - أَنّهُ قَالَ: «عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ السّمْعُ
وَالطّاعَةُ، فِيمَا أَحَبّ وَكَرِهَ، إلاّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ،
فَإنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ». متفق عليه (2).
3 - وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلنَا: لِمَنْ؟ قال:
«للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ
وَعَامَّتِهِمْ». أخرجه مسلم (3).
- موانع التكفير:
لا يجوز لأحد أن يكفِّر أحداً قام به مانع من موانع التكفير.
وموانع التكفير أربعة، وهي:
1 - الجهل: كحديث عهد بالإسلام، أو كان في مكان يُعذر فيه كبعض الأماكن
النائية في البر والبحر.
2 - الخطأ: كمن حكم بغير ما أنزل الله وهو لا يدري، أو فعل شيئاً من الشرك
أو
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7150) , واللفظ له، ومسلم برقم (142).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2955) , ومسلم برقم (1839)، واللفظ له.
(3) أخرجه مسلم برقم (55).
(5/179)
المحرمات يظنه جائزاً.
فهذا مخطئ لا يكفر حتى تقام عليه الحجة، ويصر على فعله.
3 - التأويل المعتبر: وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالفه لدليل منفصل
عنه، وهو كل ما كان مبنياً على شبهة، وخلصت نية صاحبه لله.
4 - الإكراه: من أُكره على الكفر، بأن ضُرب وعُذب ليرتد عن الإسلام، أو يسب
الإسلام.
فهذا لا يكفر إذا فعل ذلك؛ لأنه مكره.
1 - قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
2 - وقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].
- كيفية معاملة البغاة:
1 - إذا لم يكن للبغاة منعة فللإمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يتوبوا.
2 - إن تأهب البغاة للقتال، وكان لهم شوكة ومنعة، فعلى الإمام أن يراسلهم،
ويسألهم ما ينقمون منه، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادعوا شبهة كشفها، وإن
طالبوا بحق أعطاهم إياه.
3 - ثم يدعوهم إلى التزام الطاعة، ولزوم جماعة المسلمين، فإن رجعوا وتابوا
فقد انتهى الأمر.
4 - إن لم يرجعوا وعظهم وخوَّفهم القتال، فإن أصروا استعان بالله وقاتلهم،
وعلى الرعية أن يعينوا الإمام عليهم حتى يندفع شرهم، وتطفأ فتنتهم.
(5/180)
5 - إذا قاتلهم الإمام فلا يقتلهم بما يعمّ
كالقذائف المدمرة، والقنابل المحرقة.
ولا يجوز قتل مُدْبرهم، وذريتهم، ومن ترك القتال منهم، ولا الإجهاز على
جريحهم، ومن أُسر منهم حُبس حتى تخمد الفتنة، ولا تُغنم أموالهم، ولا تُسبى
ذراريهم؛ لأنهم مسلمون.
6 - بعد انقضاء القتال، وخمود الفتنة، ما تلف من أموالهم حال الحرب فهو
هدر، ومن قُتل منهم فهو غير مضمون، وهم لا يضمنون أنفساً ولاأموالاً تلفت
حال الحرب.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ
بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(153)} [الأعراف: 153].
- ما يجب فعله عند اقتتال طائفتين من المؤمنين:
إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان، وتضمن كل
واحدة ما أتلفت على الأخرى.
ولا تكفران بهذا القتال؛ لأن قتال المؤمن أو قتله ليس كفراً مخرجاً من
الملة.
ويجب الإصلاح بينهم؛ حقناً لدمائهم، وحفظاً لأموالهم وذرياتهم، مع مراعاة
العدل والإحسان في الصلح.
فإن لم يستجيبوا قاتل الإمام الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله؛ قطعاً
لدابر الشر، وإخماداً لنار الفتنة.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
(5/181)
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} ... [الحجرات: 9].
2 - وَعَنْ عَرْفَجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ،
عَلَىَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرّقَ
جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ». أخرجه مسلم (1).
- الحكم إذا لم يستجب الإمام لمطالب البغاة:
للبغاة مع الإمام ثلاث حالات:
1 - أن يكف البغاة عن القتال إذا بيَّن لهم الإمام الأمر، فنكف عنهم.
2 - أن يستمروا في القتال والخروج بعد بيان الأمر لهم.
فهؤلاء يجب قتالهم؛ لإخماد فتنتهم.
3 - إذا لم يكشف لهم الإمام الشبهة، ولم يُزل المظلمة، فليس لهم الخروج
عليه، ولا يجوز لهم قتاله، وعليهم أن يصبروا.
1 - عن حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قُلتُ: يَا
رَسُولَ الله إِنّا كُنّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ
فِيهِ، فَهَل مِنْ وَرَاءِ هَذَا الخَيْر شَرّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلتُ: هَل
وَرَاءَ ذَلِكَ الشّرّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلتُ: فَهَل وَرَاءَ
ذَلِكَ الخَيْرِ شَرّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «يَكُونُ
بَعْدِي أَئِمّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلاَ يَسْتَنّونَ بِسُنّتِي،
وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشّيَاطِينِ فِي
جُثْمَانِ إنْسٍ» قَالَ قُلتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ يَا رَسُولَ الله إِنْ
أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ
ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطعْ». أخرجه مسلم (2).
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أمِيرِهِ شَيْئًا
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1852).
(2) أخرجه مسلم برقم (1847).
(5/182)
فَليَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ
السُّلطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». متفق عليه (1).
- الفرق بين البغاة والمحاربين:
1 - المحارب أو قاطع الطريق يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل، بل فساداً
في الأرض.
أما الباغي فهو الذي يحارب على تأويل فيَقتل ويأخذ المال.
2 - إذا أُخذ قاطع الطريق ولم يتب فإنه يقام عليه حد الحرابة، ويَرد ما
أَخذ من مال.
أما الباغي إذا أُخذ ولم يتب فلا يقام عليه حد الحرابة، ولا يؤخذ منه ما
أَخذ من مال إلا إن كان موجوداً بعينه فيرده إلى صاحبه.
3 - البغاة جماعة لهم شوكة ومنعة، وأما قطاع الطريق فليس لهم شوكة فقد
يكونوا واحداً أو أكثر.
- الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين:
أن يقصد الإمام بقتال البغاة ردعهم لا قتلهم .. ويكف عن مُدْبرهم .. ولا
يُجْهز على جريحهم .. ولا يقتل أسراهم .. ولا يَغْنم أموالهم .. ولا تُسْبى
ذراريهم .. ولا يُقذفون بما يهلكهم .. ولا تُحرق بيوتهم ومزارعهم إلا إن
فعلوا ذلك بالمسلمين.
أما المشركون فللإمام أن يقاتلهم بمثل ما قاتلوه به؛ لأن البغاة مسلمون
بخلاف الكفار.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7053) , واللفظ له، ومسلم برقم (1849).
(5/183)
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} ...
[البقرة: 190].
- حكم الصلاة على مَنْ قُتل من البغاة:
البغاة من المسلمين خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، فمن قُتل منهم فهو مسلم،
يغسّل، ويكفّن، ويصلى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين.
(5/184)
3 - حكم المرتد
- الردة: هي الرجوع من الإسلام إلى الكفر.
والمرتد: هو من كفر بعد إسلامه طوعاً.
- أقسام الردة:
الردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام.
وتنقسم الردة إلى أربعة أقسام، وهي:
ردة بالاعتقاد .. وردة بالشك .. وردة بالقول .. وردة بالفعل.
1 - الردة بالاعتقاد:
كأن يعتقد الإنسان وجود شريك مع الله في ربوبيته، أو ألوهيته، أو يجحد
ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته.
أو يعتقد تكذيب رسل الله، أو جحد كتب الله المنزلة، أو ينكر البعث، أو
الجنة، أو النار، أو يبغض شيئاً من الدين ولو عمل به.
أو يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتقد أن الربا والزنا ونحوهما
من محرمات الدين الظاهرة حلال، أو يعتقد أن الصلاة والزكاة ونحوهما من
واجبات الدين الظاهر غير واجبة ونحو ذلك مما ثبت وجوبه أو حِلّه أو حُرْمته
قطعياً، ومثله لا يجهله، فإنْ جَهِله فلا يكفر، وإن كان يجهله وعرَّفناه
حكمه وأصر على اعتقاده كَفَر.
2 - الردة بالشك:
وتكون بالشك فيما سبق، كمن شك في تحريم الكفر والشرك، أو شك في
(5/185)
تحريم الربا والزنا، أو شك في حل الماء
والخبز، أو شك في الرسل، أو الكتب، أو دين الإسلام ونحو ذلك.
3 - الردة بالقول:
كأن يسب الله، أو رسله، أو ملائكته، أو كتبه المنزلة.
وكأن يدعي النبوة، أو يدعو مع الله غيره، أو قال إن لله زوجة وولداً.
وكأن ينكر تحريم شيء من المحرمات الظاهرة كالزنا وشرب الخمر ونحوهما.
وكأن ينكر وجوب الصلاة والزكاة ونحوهما من الواجبات الظاهرة.
أو يستهزئ بالدين أو شيء منه كوعد الله ووعيده والجنة والنار.
أو يسب الصحابة رضي الله عنهم أو أحداً منهم من أجل دينهم، أو قَذَف أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كذَّب بصريح القرآن.
4 - الردة بالفعل:
كأن يسجد لصنم من شجر أو حجر، أو يسجد لغير الله، أو يسجد على القبور، أو
يذبح لأهلها.
أو يُعرض عن دين الإسلام لا يتعلمه، ولا يعلِّمه، ولا يعمل به، أو يحكم
بغير ما أنزل الله، أو يتعلم السحر ويعلِّمه، أو يظاهر المشركين ويعاونهم
على المسلمين ونحو ذلك.
- أسباب الردة:
يمكن حصر أسباب الردة في ثلاثة أمور:
الأول: الكفر بالله والتحلل من الإسلام بسب الله، أو سب نبي، أو سب كتب
الله،
(5/186)
أو سب الدين، أو الاستهزاء بشيء من ذلك.
الثاني: إنكار حكم مجمع عليه في الإسلام، كإنكار وجوب الصلاة والزكاة
والصوم والحج ونحو ذلك، وإنكار تحريم الخمر والربا ونحوهما.
الثالث: فعل بعض أفعال الكفر كإلقاء مصحف في القاذورات، وكالسجود لصنم ونحو
ذلك.
- حكم المرتد:
الردة كفر مخرج من الإسلام، وموجب للخلود في النار إن مات ولم يتب منها.
والمرتد أغلظ كفراً من الكافر الأصلي؛ لأن الكافر لم يعرف الحق، والمرتد
عرف الحق وخرج عنه إلى الباطل.
وإذا قُتل المرتد أو مات قبل أن يتوب فهو كافر لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى
عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
فالردة أفحش الكفر، وأغلظه حكماً، ومحبطة للعمل إن مات ولم يتب منها.
1 - قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة:
217].
2 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». أخرجه
البخاري (1).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (3017).
(5/187)
- حكمة مشروعية قتل المرتد:
الإسلام هو الدين الكامل، والنظام الشامل لكل ما يحتاجه البشر، موافق
للفطرة والعقل، قائم على الدليل والبرهان.
والإسلام من أكبر نعم الله على خلقه، وبه تحقق سعادة الدنيا والآخرة.
ومن دخل فيه ثم ارتد عنه فقد انحط إلى أسفل الدركات، وردّ ما رضيه الله لنا
من الدين، وخان الله ورسوله.
فهذا يجب قتله؛ لأنه أنكر الحق الذي لا تستقيم الدنيا والآخرة إلا به، وصرف
غيره عن الدخول فيه.
1 - قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ... [المائدة:
3].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل
عمران: 85].
- ما يُفعل بالمرتد:
من ارتد عن الإسلام وهو بالغ عاقل مختار دُعي إليه، ورُغِّب فيه، وعُرضت
عليه التوبة لعله يتوب، فإن تاب فهو مسلم، وإن لم يتب وأصر على ردته قُتل
بالسيف كفراً لا حداً.
عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلاً أسْلَمَ ثُمَّ
تَهَوَّدَ، فَأتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ عِنْدَ أبِي مُوسَى،
فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قالَ: أسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قالَ: لا أجْلِسُ
حَتَّى أقْتُلَهُ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. متفق
عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7157) , واللفظ له، ومسلم برقم (1824)
كتاب الإمارة.
(5/188)
- أحكام المرتد:
1 - المرتد عن الإسلام يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب قُبل منه، وإن أبى وجب
على إمام المسلمين قتله.
2 - يُمنع المرتد من التصرف في ماله في مدة استتابته، فإن أسلم فهو له، وإن
أصر على ردته فماله فيء لبيت مال المسلمين.
3 - يُفرّق بين المرتد وزوجته المسلمة؛ لأنها لا تحل لكافر.
4 - المرتد كافر لا يرث أقاربه المسلمين ولا يرثونه.
5 - المرتد كافر، إذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في
مقابر المسلمين، فيوارى في التراب في أي مكان.
- حكم زوجة المرتد:
إذا ارتد الزوج فلا تحل له زوجته المسلمة، ويجوز له مراجعتها بعد التوبة
مادامت في العدة، فإن خرجت من العدة ولم يراجعها مَلَكت نفسها، فإن رضيت به
تزوجها بعقد ومهر جديدين، وإن شاءت تزوجت غيره.
وإن ارتدت الزوجة، فإن تابت فهي زوجته، وإن أصرت على ردتها فهي كافرة لا
تحل له.
- صفة توبة المرتد:
توبة المرتد وكل كافر هي أن يسلم، والإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله،
وأن محمداً رسول الله، نطقاً باللسان، واعترافاً بالقلب، وعملاً بالجوارح.
ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به.
(5/189)
فالكافر الأصلي إسلامه يكون بالشهادتين.
والمرتد إسلامه بالشهادتين، وأن يتوب مما كان سبباً في الحكم عليه بالردة،
سواء كان جحد فرض، أو جحد محرم مجمع على تحريمه، أو جحد مُحَلَّل مجمع على
حله ونحو ذلك.
1 - قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} ...
[التوبة: 5].
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم - قالَ: «أُمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا
أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا
الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الإسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى
اللهِ». متفق عليه (1).
- حكم توبة من سب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -:
من سب الله بأن طعن في حكمته، أو في صفة من صفاته، أو في شرعه، أو قال إن
الله مفتقر للزوجة والولد ونحو ذلك من النقائص التي ينزَّه الله عنها فهو
مرتد يجب قتله إن لم يتب، فإن تاب قُبلت توبته، وحكمنا بإسلامه.
ومن سب رسول اللهِ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأن وصفه بما هو نقص في
حقه بأن قال إنه كاذب، أو ساحر، أو يخدع الناس ونحو ذلك، فهو مرتد يجب قتله
إن لم يتب، فإن تاب قُبلت توبته، وحكمنا بإسلامه.
وكذا من سب الصحابة أو أحداً منهم طاعناً في إيمانهم، فإنه يجب قتله إن لم
يتب، فإن تاب قُبلت توبته وحكمنا بإسلامه.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (25) , واللفظ له، ومسلم برقم (22).
(5/190)
1 - قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].
2 - وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66].
3 - وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(100)} ... [التوبة: 100].
4 - وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَلَوْ أنَّ
أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلا
نَصِيفَهُ». متفق عليه (1).
- حكم من تكررت ردته:
من تكررت ردته إذا علمنا صدق توبته قبلناها ولو تكررت؛ لأن الله يقبل
التوبة من كل تائب.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم -، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «أَذْنَبَ
عَبْدٌ ذَنْباً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ
رَبّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ
فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ،
وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ
اغْفِرْ لِي ذَنْبِي
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً فَعَلِمَ أَنَّ
لَهُ رَبّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673) , واللفظ له، ومسلم برقم (2541).
(5/191)
بِالذَّنْبِ اعْمَل مَا شِئْتَ فَقَدْ
غَفَرْتُ لَكَ». متفق عليه (1).
- حكم السحر:
السحر: عُقد ورقى يُتوصل بها إلى إيقاع الضرر بالمسحور.
ويحرم تعلم السحر، وتعليمه، وفعله، والدلالة عليه.
والسحر من الكبائر، ولا يمكن أن يحصل إلا بمعونة الشياطين، فإن الساحر
يطيعهم في الكفر، فيقضون حاجته، والساحر كافر مرتد، فيستتاب، فإن تاب وإلا
قُتل مرتداً؛ قطعاً لدابر الشر والمشعوذين والدجالين.
قال الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ
أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة:
102].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7507) , ومسلم برقم (2758)، واللفظ له.
(5/192)
4 - حكم التعزير
- التعزير: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا قصاص ولا كفارة.
فالتعزير كل ما يحصل به الأدب، والأدب هو تقويم الأخلاق، أو فِعل ما يحصل
به التقويم.
- الفرق بين الحد والتعزير:
1 - الحد يختص بما يلي:
أنه مقدر .. والناس فيه سواء .. وإقامته واجبة .. وتنفيذه مختص بالإمام ..
ويُدرأ بالشبهة .. ولا تجوز الشفاعة فيه بعد بلوغه الإمام.
2 - التعزير يختص بما يلي:
أنه غير مقدر .. ويختلف باختلاف الفاعل .. ويقام مع وجود الشبهة .. ومقداره
ونوعه حسب اجتهاد الإمام .. ويقيمه الإمام أو غيره ممن له حق التأديب
كالوالد والزوج والمعلم .. وتجوز الشفاعة فيه ولو بلغ الإمام.
وكلٌّ من الحد والتعزير عقوبة على معصية أو جناية.
- أنواع العقوبات على المعاصي:
العقوبات على المعاصي ثلاثة أنواع:
الأول: ما فيه حد مقدر كالزنا والسرقة، فهذا لا كفارة فيه ولا تعزير.
الثاني: ما فيه كفارة ولا حد فيه كالجماع حال الإحرام، وفي نهار رمضان،
والقتل خطأ.
الثالث: ما ليس فيه حد ولا كفارة، فهذا فيه التعزير.
(5/193)
- حكم التعزير:
التعزير يكون على كل معصية لا حد فيها ولا قصاص ولا كفارة.
ويقام بحسب اجتهاد الإمام بما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة، سواء كان على
ترك الطاعات، أو على فعل المحرمات، وسواء كان حقاً لله كاستمتاع لا حد فيه،
وسرقة لا قطع فيها، أو كان حقاً للآدمي كجناية لا قود فيها، لكن ما ورد به
النص من التعزير فلا بد من تنفيذه، ومن ارتكب جناية لا حد فيها، ثم جاء
تائباً نادماً فإنه لا يعزر.
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا
مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(153)} ... [الأعراف: 153].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بالصَّلاَةِ
وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ
أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ». أخرجه أبو داود
والترمذي (1).
3 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - قَالَ: «ضَالَّةُ الإبلِ المَكْتُومَةُ غَرَامَتُهَا
وَمِثلُهَا مَعَهَا». أخرجه أبو داود (2).
4 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنِ
امْرَأةٍ قُبْلَةً، فَأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ
فَأنْزَلَ اللهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَقَالَ
الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألِي هَذَا؟ قال: «لِجَمِيعِ أمَّتِي
كُلِّهِمْ». متفق عليه (3).
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (495) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم
(407).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (1718).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (526) , واللفظ له، ومسلم برقم (2763).
(5/194)
- حكمة مشروعية التعزير:
شرع الله عز وجل عقوبات مقدرة لا يزاد عليها ولا يُنقص منها، على جميع
الجرائم المخلة بمقومات الأمة من حفظ الدين، والنفس، والعِرض، والعقل،
والمال.
وشَرع من أجل حِفظ ذلك عقوبات وحدوداً زاجرة لتنعم الأمة بالأمن
والطمأنينة.
ولهذه الحدود شروط وضوابط قد لا يثبت بعضها، فتتحول العقوبة من عقوبة محددة
إلى عقوبة غير محددة يراها الإمام، تحقق المصلحة، وتدرأ المفسدة، وهي
التعزير.
- أقسام التعزير:
التعزير ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعزير التأديب والتربية، كتأديب الوالد لولده، وتأديب الزوج لزوجته،
وتأديب السيد لعبده، وتأديب المعلم لتلاميذه، فهذا لا يجوز أن يزيد على
عشرة أسواط.
عَنْ أبِي بُرْدَةَ الأنْصَارِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَجْلِدُوا فَوْقَ
عَشْرَةِ أسْوَاطٍ إِلا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ». متفق عليه (1).
الثاني: تعزير على المعاصي، إما ترك واجب، أو فعل محرم.
فهذا تجوز فيه الزيادة للحاكم بحسب المصلحة والحاجة، وبحسب حجم المعصية
وفحشها، وقلتها وكثرتها وضررها، وليس لها حد معين.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6850) , واللفظ له، ومسلم برقم (1708).
(5/195)
لكن إن كانت المعصية في عقوبتها مقدرة من
الشارع كالزنا والسرقة ونحوهما، فلا يبلغ بالتعزير الحد المقدر، وإن لم تكن
مقدرة اجتهد الحاكم في عقوبة تحقق المصلحة وتدفع المفسدة عن العباد
والبلاد.
- شروط وجوب التعزير:
من ارتكب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع فيعزر، ويشترط العقل فقط لوجوب
التعزير، فيعزر كل إنسان عاقل، ذكراً كان أو أنثى، مسلماً كان أو كافراً،
بالغاً أو صبياً عاقلاً، لأن هؤلاء غير الصبي من أهل العقوبة، أما الصبي
فيعزر تأديباً لا عقوبة بما يصلحه.
فكل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة فللإمام
تعزيره بما يصلحه ويردع غيره.
- صفة التعزير:
التعزير حق واجب لله تعالى إذا رآه الإمام؛ لأنه زاجر عن المعاصي.
فإن تعلق به حق لآدمي وجب على الإمام إقامته؛ لأن حقوق العباد ليس للحاكم
إسقاطها إلا عند العفو، وإن كان حقاً لله تعالى فهو موكول إلى اجتهاد
الإمام، إن ظهرت له المصلحة أقامه، وإن ظهر له عدم المصلحة تركه.
1 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَبْتُ حَدّاً
فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ،
قَالَ: «هَل حَضَرْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا؟». قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «قَدْ
غُفِرَ لَكَ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6823) , واللفظ له، ومسلم برقم (2764).
(5/196)
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أثْقَلَ
صَلاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الفَجْرِ، وَلَوْ
يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ
أنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، ثُمَّ أنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ،
إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ
بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ». متفق عليه (1).
- أنواع العقوبات التعزيرية:
التعزير عقوبة تختلف باختلاف الناس، واختلاف المعصية، واختلاف الزمان،
واختلاف المكان.
والعقوبات التعزيرية أنواع منها:
1 - ما يتعلق بالجاه كالتوبيخ، والتشهير، والعزل عن المنصب.
2 - ما يتعلق بتقييد الإرادة كالحبس والنفي.
3 - ما يتعلق بالأموال كالإتلاف والغرامة ومنع التصرف.
4 - ما يتعلق بالأبدان كالقيد والجلد والقتل.
5 - ما يتعلق بالأبدان والأموال كجلد السارق من غير حرز مع إضعاف الغُرْم
عليه.
والتعزير يكون بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، ولكل شخص تعزير يؤدبه
ويردعه.
ويجوز التعزير بالقتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به، مثل قَتْل المفرِّق
لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير الكتاب والسنة، والداعي للبدعة، والجاسوس
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (644) , ومسلم برقم (651)، واللفظ له.
(5/197)
مسلماً كان أو كافراً.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: أتَى النَّبِيَّ -
صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ،
فَجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقال
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ». فَقَتَلَهُ
فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. متفق عليه (1).
- اختيار العقوبة التعزيرية:
التعزير مجموعة من العقوبات تختلف باختلاف الأشخاص، وجنس المعصية، وحجمها،
وتكرارها.
وهي على وجه العموم تبدأ بالنصح، والوعظ، والهجر، والتوبيخ، والتهديد،
والإنذار، والعزل عن العمل، والتشهير، والغرامة، والنفي ونحو ذلك.
وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد، وقد تصل إلى حد القتل إذا رأى الإمام
ذلك كأصحاب الجرائم الخطيرة.
- مقدار عقوبة التعزير:
عقوبة التعزير غير مقدرة.
وللحاكم أن يختار العقوبة التي تناسب الجاني وحجم الجناية، بشرط ألا تخرج
عما أمر الله به، أو نهى الله عنه، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والجرائم
والأماكن والأزمان.
ولا حد لأقل التعزير، ولا لأكثر التعزير، بل هو مفوَّض إلى رأي الحاكم
حسب المصلحة، وحسب حجم الجريمة.
لكن ما ورد به النص من التعزير يجب تنفيذه، ولا خيار للحاكم فيه كتحريق
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3051) , واللفظ له، ومسلم برقم (1754).
(5/198)
رحل الغال، وكتم الضالة ونحوهما.
- أسباب التعزير:
أسباب التعزير كثيرة، يجمعها فِعل كل معصية لا حد فيها ولا قصاص ولا كفارة.
وأسباب التعزير نوعان:
1 - أسباب التعزير على فعل المحرمات.
كالجناية التي لا قود فيها .. والسرقة التي لا قطع فيها .. واستمتاع محرم
لا حد فيه .. والغصب والانتهاب والاختلاس .. وبيع المحرمات كالخمور
والمخدرات ونحوهما .. والرشوة .. وشهادة الزور .. وتزوير الأوراق والصكوك
والوثائق والتوقيعات ونحوها .. وإتيان المرأة المرأة .. والقذف بغير الزنا
واللواط كقوله: ياحمار يا كلب ونحوهما .. ولعب الميسر والقمار .. ومشاهدة
وتداول الأشرطة والأفلام الخبيثة ونحو ذلك من منكرات الأقوال والأفعال
والأخلاق.
2 - أسباب التعزير على ترك الواجبات.
كالإخلال بالواجبات الشرعية .. والتهاون في أداء الصلاة .. وتأخير الصلاة
المفروضة عن وقتها .. وعدم سداد الغني الدَّين .. وترك الأمر بالمعروف ..
وترك النهي عن المنكر .. وحلق اللحى .. وعدم طاعة الوالدين .. وعدم طاعة
الزوجة لزوجها ونحو ذلك.
- من يملك حق التعزير:
التعزير كالحدود والقصاص منوط بالإمام أو نائبه، وليس لأحد حق التعزير
(5/199)
إلا لمن له ولاية التأديب مطلقاً كالأب ..
والزوج .. والسيد .. والحاكم .. والمعلم.
فالأب له تأديب ولده الصغير، وتعزيره للتعلم والتخلق بأحسن الأخلاق، وزجره
عن سيئها، وأمره بالصلاة، وضربه عند الحاجة، والأم كالأب في أثناء الحضانة.
وللزوج تأديب زوجته وتعزيرها في أمر النشوز وأداء حق الله تعالى كإقامة
الصلاة، وأداء الصيام، والبعد عن المحرمات، أداء لواجب القوامة عليها،
ونصحاً لها.
والسيد يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق الله تعالى مِنْ تركِ واجب، أو فِعل
محرم.
والمعلم يؤدب تلاميذه بما يصلح أحوالهم، ويحسِّن أخلاقهم.
1 - قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا (34)} [النساء: 34].
2 - وَعَنِ عَبْدَاللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ،
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». قال: وَحَسِبْتُ أنْ قَدْ قال:
«وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أبِيه وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
وَكُلُّكُمْ
(5/200)
رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». متفق
عليه (1).
- الأحوال التي يشرع فيها الحبس:
يشرع الحبس فيما يلي:
1 - حبس الجاني لغَيْبة المجني عليه حفظاً لمحل القصاص.
2 - حبس الممتنع عن دفع الحق إلجاءً إليه.
3 - حبس الآبق سَنَة رجاء أن يُعرف صاحبه.
4 - حبس من أشكل أمره في العسر واليسر ليتبين أمره.
5 - حسب الجاني تعزيراً وردعاً عن المعاصي.
6 - حبس من أقر بمجهول حتى يعيِّنه.
7 - حبس من امتنع من التصرف الواجب في حقوق العباد كحبس من أسلم وتحته
أختان، أو امرأة وابنتها، وامتنع من تعيين واحدة، ونحو ذلك من الحالات التي
فيها حفظ الحقوق.
1 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ
وَعُقُوبَتَهُ». أخرجه أبو داود والنسائي (2).
2 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِه أَنَّ النَّبيَّ -
صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ ثمَّ خَلَّى عَنْهُ.
أخرجه الترمذي والنسائي (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (893) , واللفظ له، ومسلم برقم (1829).
(2) حسن/ أخرجه أبو داود برقم (3628) , وأخرجه النسائي برقم (4689).
(3) حسن/ أخرجه الترمذي برقم (1417) , وأخرجه النسائي برقم (4876)، وهذا
لفظه.
(5/201)
- أقسام العقوبات المالية:
تنقسم العقوبات المالية إلى ثلاثة أقسام:
الإتلاف .. والتغيير .. والتمليك.
1 - الإتلاف: كإتلاف محل المنكرات، كتكسير الأصنام وتحريقها، وتحطيم آلات
اللهو، وتكسير وإحراق وإراقة أوعية الخمر، وإتلاف البضاعة المغشوشة من أي
نوع.
وهذا التعزير يقوم به الإمام؛ لأنه يحتاج إلى قوة وسلطة.
2 - التغيير: ويكون بتغيير صورة الشيء المحرم.
كقطع رأس التمثال حتى يكون كالشجرة، وقطع الستر الذي فيه صورة ليكون وسائد
توطأ، وفك آلات اللهو وما يستعمل في محرم لاستعماله في مباح بعد تغيير
صورته.
وهذا التعزير يقوم به الإمام أو نائبه.
3 - التمليك: كمن سرق من التمر المعلق، عليه جلدات نكال، وغُرْمه مرتين،
ومن سرق من الماشية قبل أن تُؤوى إلى المراح، عليه جلدات نكال، وغُرْمه
مرتين، ومصادرة الأموال المأخوذة من كسب غير مشروع، ويصرفها الإمام فيما
فيه مصلحة.
وهذا التعزير يقوم به الإمام أو نائبه.
1 - عَنْ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى
الله عليه وسلم - مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَحَوْلَ البَيْتِ
سِتُّونَ وَثَلاثُ مِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي
يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ
(5/202)
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}. {جَاءَ الْحَقُّ
وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}. متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ
فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ:
«يَا عَائِشَةُ أَشَدّ النّاسِ عَذَاباً عِنْد اللهِ يَوْمَ القيَامَةِ،
الّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلقِ اللهِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ
فَجَعَلنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ. متفق عليه (2).
- طرق إثبات جرائم التعزير:
تثبت الجريمة الموجبة للتعزير بواحد مما يلي:
الإقرار ... أو البينة.
فالإقرار أن يقر على نفسه بالجناية والمعصية.
والبينة أن يشهد عليه رجلان عدلان، وتُقبل فيه شهادة النساء مع الرجال.
- حكم من مات في التعزير:
إذا عزر الإمام أحداً أو حَدَّه فمات بسبب التعزير أو الحد فلا ضمان عليه؛
لأن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر والتأديب فلم يضمن مَنْ تلف بها
كالحد، ولأن الإمام مأذون له في التعزير، وما ترتب على المأذون فليس
بمضمون، لكن بشرط عدم التعدي.
- صفة الجلد في التعزير:
أشد الجلد جلد التعزير، ثم يليه جلد الزنا، ثم يليه جلد السكر، ثم يليه جلد
القذف.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4287) , واللفظ له، ومسلم برقم (1781).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5954) , ومسلم برقم (2107)، واللفظ له.
(5/203)
فالتعزير أشد الضرب؛ لأنه جرى فيه التخفيف
من حيث العدد، فلا يخفف من حيث الوصف، وذلك لئلا يؤدي إلى فوات المقصود منه
وهو التأديب والردع والزجر.
(5/204)
|