موسوعة الفقه الإسلامي

الباب التاسع عشر
كتاب القضاء
ويشتمل على ما يلي:
1 - معنى القضاء وحكمه
2 - فضل القضاء
3 - خطر القضاء
4 - أحكام القضاء
5 - صفة الدعوى
6 - صفة الحكم
7 - طرق إثبات الدعوى
1 - الإقرار
2 - الشهادة
3 - اليمين

8 - الأيمان
1 - معنى اليمين وحكمها
2 - أقسام اليمين
3 - أحكام اليمين

9 - النذر
1 - معنى النذر وحكمه
2 - أقسام النذر
3 - أحكام النذر

(5/205)


كتاب القضاء

1 - معنى القضاء وحكمه
- القضاء: هو تبيين الحكم الشرعي الذي يفصل الخصومة، والإلزام به.
وسمي القضاء حكماً؛ لما فيه من الإحكام، ولما فيه من الحكمة لكونه يكف الظالم عن ظلمه.
- حكم القضاء:
القضاء فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
ولمّا كان الظلم متأصلاً في النفس البشرية، فلا بد من حاكم يُنصف المظلوم من الظالم.
لذا يجب على إمام المسلمين أن ينصب للناس قاضياً أو أكثر في كل إقليم أو بلد، حسب الحاجة، لفصل الخصومات، وإقامة الحدود، والحكم بالحق والعدل بين الناس.
1 - قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} ... [ص: 26].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].
3 - وقال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ

(5/207)


يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].
4 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ ا? - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ». متفق عليه (1).
- حكمة مشروعية القضاء:
شرع الله عز وجل القضاء لحفظ الحقوق، وإقامة العدل، وفصل الخصومات والمنازعات، وصيانة الأنفس والأعراض والأموال.
ولما كانت تجري بين الناس كثير من المعاملات كالبيع والشراء والإجارة ونحوها كالنكاح والطلاق ونحوها من العقود والحقوق، فقد وضع الشرع لذلك قواعد وشروطاً تحكم التعامل بين الناس؛ ليسود العدل والأمن بينهم.
ولكن قد تحدث بعض المخالفات لتلك الشروط والقواعد إما عمداً، أو جهلاً، أو نسياناً، أو إكراهاً، فتحدث المشاكل، ويحصل النزاع والشقاق والعداوة.
وقد تصل الحال إلى إزهاق الأرواح، ونهب الأموال، وتخريب الديار، واضطراب الأمن.
فشرع الله الحكيم العليم بمصالح عباده القضاء بشرع الله، لإزالة تلك الخصومات، وحل المشكلات، والقضاء بين العباد بالحق والعدل.
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7352) , واللفظ له، ومسلم برقم (1716).

(5/208)


- كمال الشريعة الإسلامية:
الله عز وجل أنزل إلينا الدين الكامل.
فأنزل الكتاب الذي فصّل فيه الأحكام والشرائع.
وأنزل الميزان وهو العدل الذي يمثل القوة القضائية.
وأنزل الحديد الذي يمثل القوة التنفيذية المؤيد للأحكام الشرعية.
قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25].

(5/209)


2 - فضل القضاء
- فضل القضاء:
القضاء بين الناس وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وحسن القضاء نعمة من الله، وله فضل عظيم لمن قوي عليه، وأمن على نفسه من الظلم والحَيف.
والقضاء عبادة لله عز وجل، وهو من أفضل القربات؛ لما فيه من الإصلاح بين الناس، وإنصاف المظلوم، ورد الظالم، وإقامة الحدود، وأداء الحقوق إلى أهلها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحكم بالقسط والعدل.
فلهذه الأمور العظيمة جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط إثم الخطأ إذا وقع باجتهاد، فإذا أصاب القاضي فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد، ولا إثم عليه.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} ... [المائدة: 42].
2 - وَعَنْ عَبْداللهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ عَبْداللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ المُقْسِطِينَ عِنْد اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزّ وَجَلّ، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816)، واللفظ له.

(5/210)


الّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». أخرجه مسلم (1).
4 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقالَ: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». متفق عليه (2).
5 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ». متفق عليه (3).
- منزلة القضاء:
القضاء بين الناس والحكم بينهم بالعدل منصب شريف، ومقام رفيع؛ لما فيه من النفع العام والخاص، والإحسان إلى الخلق، وإقامة الحق والعدل.
ولهذا تولاه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وأول من تولاه في الإسلام رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1827).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423) , واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7352) , ومسلم برقم (1716).

(5/211)


3 - خطر القضاء
- خطر القضاء:
1 - القضاء موضوعه الحكم بين الناس بالحق والعدل، فلذلك خطره عظيم جداً؛ لأنه يُخشى حصول ميل من القاضي على أحد الخصمين، فيحكم له بغير الحق، إما لكونه قريباً له، أو صديقاً له، أو صاحب جاه تُرجى منفعته، أو صاحب رئاسة تُخاف سلطته ونحو ذلك، فيجور في الحكم متأثراً بما سبق.
2 - القاضي يبذل جهداً كبيراً في معرفة الحكم الشرعي، والبحث في الأدلة، وهذا الجهد ينهك بدنه، ويرهقه، ويضعفه.
3 - القاضي بشر يضعف إيمانه فيجور إما لهوى، أو لعصبية، أو لعداوة، أو لمحبة، أو لانتقام، أو لطمع.
والله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وَكَلَه إلى نفسه، وعذبه في الدنيا والآخرة.
1 - قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26].
2 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ جُعِلَ قَاضِياً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبحَ بغَيْرِ سِكِّينٍ». أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3572) , وأخرجه ابن ماجه برقم (2308).

(5/212)


- أقسام القضاة:
القضاة ثلاثة أصناف:
الأول: قاض عرف الحق والحكم الشرعي فقضى به، فهذا من أهل الجنة.
الثاني: قاض عرف الحق، ولهواه حكم بغير الحق، فهذا في النار.
الثالث: قاض لم يعرف الحق، ولم يفهم الحكم الشرعي، فقضى بجهل، فهذا في النار، سواء أصاب في حكمه أو أخطأ.
عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «القُضَاةُ ثلاَثةٌ، اثنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الحَقَّ فَقَضَى بهِ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ». أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
- خطر الحكم بغير ما أنزل الله:
يجب على القاضي أن يحكم بين الناس بما أنزل الله من الشريعة.
والشريعة الإسلامية جاءت بتحقيق مصالح الخلق في الدنيا والآخرة، وهي كفيلة بإصلاح أحوال البشرية في جميع المجالات.
لهذا يجب على القاضي النظر في جميع ما يرد إليه من القضايا مهما كانت، والحكم فيها بما أنزل الله، فدين الله كامل كاف شاف.
ولا يجوز لأحد أن يحكم بغير ما أنزل الله مهما كانت الأحوال؛ لأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر وظلم وفسق.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3573) , وأخرجه ابن ماجه برقم (2315)، وهذا لفظه.

(5/213)


[المائدة: 44].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45].
3 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47].
- حكم طلب القضاء:
طلب الولايات من قضاء وغيره له حالتان:
الأولى: أن يطلب القضاء أو الولاية لأنها متعينة عليه، لكونه لا يوجد من هو أهل لها غيره، وإذا تركها تولاها من لا يحسن القيام بها، فيطلبها بهذه النية الحسنة، وفيه قوة وأمانة، كما طلبها يوسف - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مثاب مأجور معان عليها.
1 - قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 54 - 55].
2 - وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لا تَسْألِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْألَةٍ وُكِلتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وائْتِ الذي هوَ خَير». متفق عليه (1).
الثانية: أن يقصد من الحصول عليها الجاه، أو الرئاسة أو المال، أو يكون ضعيفاً
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7146) , واللفظ له، ومسلم برقم (1652).

(5/214)


لا يستطيع أن يقوم بحقها، أو ليس أهلاً لها، فهذا طلبه لها مذموم، ويجب منعه منها.
1 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». أخرجه البخاري (1).
2 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَر إنّكَ ضَعِيفٌ، وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». أخرجه مسلم (2).
3 - وَعَنْ أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: دَخَلتُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِى عَمِّى، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: «إِنَّا وَاللهِ لاَ نُوَلِّى عَلَى هَذَا العَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ». متفق عليه (3).
- حكم قبول القضاء:
إذا اختار إمام المسلمين أحداً للقضاء، ولم يكن في البلد أحد يصلح غيره، لزمه قبوله، فإن امتنع فهو عاص، وللحاكم إجباره؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه وحكمه ونظره.
وإن وُجد في البلد عدد يصلح للقضاء، فمن وجد في نفسه القدرة فالقبول
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (7148).
(2) أخرجه مسلم برقم (1825).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2261) , ومسلم برقم (1824)، واللفظ له.

(5/215)


أفضل، ومن يعرف من نفسه عدم القدرة فالترك أفضل؛ لما في القضاء من الخطورة.
ويستحب قبول وطلب القضاء لعالم يرجو به نشر علمه بين الناس، ولمن يرجو بعمله إحقاق الحق، ومنع ضياع الحقوق، وتدارك جور بعض القضاة، وعجزهم عن إيصال الحقوق لأهلها، ولمن يريد جزيل الثواب؛ لأن القضاء عبادة لمن حكم بالعدل.
ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه، أو لا يأمن على نفسه الحيف فيه، حتى لا يعرِّض نفسه للعقوبة.
عَنْ عَبْدالله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَىَ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزّ وَجَلّ، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». أخرجه مسلم (1).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1827).

(5/216)


4 - أحكام القضاء
- الفرق بين القاضي والمفتي:
1 - القاضي يبين الحكم الشرعي ويُلزِم به، والمفتي يبينه فقط.
2 - المفتي أوسع دائرة من القاضي؛ لأنه يفتي في الخصومات وغيرها، والقاضي يختص حكمه في الأمور المتنازَع عليها بين الناس.
3 - القاضي له ثلاث صفات:
فهو من جهة بيان الحكم مفت .. ومن جهة الإلزام بالحكم ذو سلطان .. ومن جهة الإثبات شاهد.
- محل القضاء:
القضاء يكون في جميع الحقوق والواجبات، سواء كانت حقوقاً لله كالحدود والفرائض الواجبة لله، أو كانت حقوقاً للبشر كالقصاص، والمعاملات كالبيع والإجارة والنكاح ونحو ذلك مما يجري بين الناس.
فالإسلام دين كامل شامل، وفيه وحده حل جميع المسائل والمشاكل في الدنيا والآخرة.
1 - قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ

(5/217)


يُوقِنُونَ (50)} ... [المائدة: 49 - 50].
- شروط القاضي:
يشترط في القاضي أن يكون رجلاً، مسلماً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، سميعاً، متكلماً، عالماً بما يقضي به.
والأفضل أن يكون القاضي مع هذا بصيراً، كاتباً، حراً ونحو ذلك من صفات الكمال.
وعلى إمام المسلمين أن يختار لمنصب القضاء الأفضل علماً، وورعاً، وإخلاصاً، وصدقاً، وأمانة، وتقوى.
وشروط القاضي حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل.
ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالماً بالكتاب والسنة، فقيهاً في دين الله، قادراً على معرفة الحق من الباطل، بريئاً من الجور والظلم، بعيداً عن الهوى والتعصب.
- آداب القاضي:
1 - يسن أن يكون القاضي قوياً من غير عنف؛ لئلا يطمع فيه الظالم، ليناً من غير ضعف؛ لئلا يهابه صاحب الحق.
2 - ينبغي أن يكون حليماً؛ لئلا يغضب من كلام الخصم، فتأخذه العجلة وعدم التثبت.
3 - ينبغي أن يكون ذا فطنة؛ لئلا يخدعه بعض الخصوم، وأن يكون بصيراً بأحكام القضاة قبله؛ ليسهل عليه الحكم.
4 - ينبغي أن يحضر مجلسه الفقهاء والعلماء، وأن يشاورهم فيما يشكل عليه.

(5/218)


5 - أن يكون عفيفاً نزيهاً في نفسه وماله عن الحرام، أميناً مخلصاً في عمله لله عز وجل، يبتغي بذلك الأجر والثواب، ولا يخاف في الله لومة لائم.
6 - أن يكون رحيماً؛ لئلا ينفر منه الناس.
7 - يجب على القاضي أن يسوِّي بين الخصوم في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهم، والاستماع لهم، والحكم بينهم بما أنزل الله.
8 - يجب أن يكون القاضي حين الدعوى مطمئناً هادئاً، فلا يقضي بين الخصوم وهو غضبان، أو حاقن، أو في شدة جوع أو عطش، أو هم، أو ملل، أو كسل، أو نعاس ونحو ذلك مما يشغل عن فهم الخصومة، ويصرفه عن إصابة الحق، فإن خالف وأصاب الحق نفذ حكمه.
9 - يسن للقاضي أن يتخذ كاتباً مسلماً، مكلفاً، عدلاً، يكتب له الوقائع والأحكام والوثائق ونحو ذلك.
10 - يحرم على القاضي كغيره قبول رشوة، كما لا يقبل هدية من أحد الخصوم؛ لأن هدايا العمال غلول.
1 - قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].
2 - وَعَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ». متفق عليه (1).
- ما يجب على القاضي معرفته:
القاضي يحتاج عند الحكم إلى معرفة ثلاثة أمور:
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7158) , واللفظ له، ومسلم برقم (1717).

(5/219)


معرفة الأدلة .. معرفة الأسباب .. معرفة البينات.
فالأدلة: معرفة الحكم الشرعي.
والأسباب: معرفة ثبوته في هذا المحل أو انتفاؤه عنه.
والبينات: معرفة طريق الحكم عند التنازع.
فمن أخطأ واحداً من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم.
- صفة حكم القاضي:
قضاء القاضي يَنْفذ ظاهراً لا باطناً، فحكم القاضي لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً، فمن كسب القضية بباطل كشهادة زور، لحقه الإثم والتبعة وإن حكم له القاضي.
والقاضي مجتهد في حكمه، إن أصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ الحق الذي هو مراد الله تعالى فهو مجتهد مخطئ، وله أجر واحد، لاجتهاده في معرفة الحق وحرصه عليه.
ولا إثم عليه، فله أجر اجتهاده؛ لأن الاجتهاد في طلب الحق عبادة، وفاته أجر الإصابة.
1 - عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «إنّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإنّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقّ مُسْلِمٍ فَإنّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ، فَليَحْمِلهَا أَوْ يَذَرْهَا». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2458) , ومسلم برقم (1713)، واللفظ له.

(5/220)


2 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ». متفق عليه (1).
- صلاحيات القاضي:
القاضي ينظر في جميع الأمور، والأحوال، والقضايا.
فيفصل بين المتخاصمين إما بصلح، أو حكم نافذ .. وقمع الظالمين والمعتدين .. ونصرة المظلومين .. وإيصال الحقوق إلى أهلها، والنظر في الدماء والجراح، والأوقاف والوصايا والمواريث، والأموال .. وإقامة الحدود .. والقيام بحقوق الله تعالى .. وعقود النكاح والفسوخ والطلاق ونحوها .. والنظر في مصالح المسلمين العامة .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا ازدحمت الدعاوي، وكثرت المشاكل، فلا مانع من التخصص، فيكون لكل قاض نوع من القضايا كالحدود وأمور النكاح، والمواريث ونحوها.
- واجبات القضاة:
يجب على القضاة ما يلي:
1 - القضاء في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى، إما بدليل قطعي من القرآن والسنة، أو بدليل ظاهر موجب للعمل منهما، أو بإجماع، أو قياس.
فإن لم يجد الحكم فيما سبق من المصادر اجتهد وعمل بما أدى إليه اجتهاده، وإن لم يكن مجتهداً اختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7352) , ومسلم برقم (1716).

(5/221)


2 - يجب على القاضي أن يحكم بما ثبت عنده بطرق الإثبات الشرعية، وهي: الإقرار، والبينة، واليمين.
3 - يجب على القاضي نحو المقضي له ألا يكون ممن لا تجوز شهادته لهم كالأبوين، وأولاده، وزوجته، وشريكه في المال؛ لوجود التهمة.
4 - يجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لَحْظه ولفظه ومجلسه والدخول عليه.
- حكم القضاء بين الكفار:
القاضي يحكم بين الناس بشرع الله عز وجل.
وإذا تحاكم الكفار إلى قضاة المسلمين جاز للقاضي أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبما يقضي به بين المسلمين.
قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42].
- حكم تولي المرأة القضاء:
الولايات العامة والقضاء من مناصب الرجال دون النساء، فالرجال قوامون على النساء بالرعاية والحماية والولاية والكفاية، والرجال أقدر على الكسب والتحمل والتصرف في الأمور، ولكمال استعداد الرجال في الخَلْق والفطرة كانت فيهم النبوة والإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان، والخطبة، وإمامة الصلاة وغيرها، فلا تصح ولاية المرأة في هذه الأمور، والأمة التي توليها لن تفلح في دينها ولا دنياها ولا أخراها؛

(5/222)


لمصادمتها الفطرة، ولكن للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل، وعليها من الواجبات مثل ما عليه، كل بحسبه وطاقته.
1 - قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
2 - وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].
3 - وَعَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيَّامَ الجَمَلِ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أنْ ألحَقَ بِأصْحَابِ الجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ، قال: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى، قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً». أخرجه البخاري (1).
- حكم شفاعة القاضي:
يستحب للقاضي أن يشفع الشفاعة الحسنة، فيطلب من المتخاصمين أن يصطلحوا، أو يتنازل أحدهم عن بعض حقه.
ويسن أن يرغِّبهم في الصلح والعفو والتسامح؛ لتدوم المودة بين الخصوم، وتصفو النفوس من الغل، وتسلم من التقاطع.
فإن اتضح الحكم الشرعي حكم به.
1 - قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114].
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (4425).

(5/223)


2 - وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22].
3 - وَعَنْ كَعْبٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: «يَا كَعْبُ». قالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا». وَأوْمَأ إلَيْهِ: أيِ الشَّطْرَ، قال: لَقَدْ فَعَلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «قُمْ فَاقْضِهِ». متفق عليه (1).
- وقت انتهاء ولاية القاضي:
كل ما تنتهي به الوكالة تنتهي به ولاية القضاء كالعزل، والموت، والجنون، وكل ما تزول به الأهلية.
ولا ينعزل القاضي بموت إمام المسلمين أو ترك منصبه، وللقاضي أن يعزل نفسه؛ لأنه كالوكيل عن الإمام.
- من يعزل القاضي:
يجوز لإمام المسلمين عزل القاضي فيما يلي:
إذا أخل القاضي بواجبه .. أو كثرت الشكاوي عليه أو منه .. أو وجد من هو أفضل منه .. أو كان في عزله مصلحة للمسلمين ونحو ذلك من الأسباب.
فإن لم يكن شيء مما سبق حرم عزله؛ لأنه عبث منهي عنه.
وينعزل القاضي بنفسه بأحد ثلاثة أسباب:
1 - الردة بخروجه عن الإسلام؛ لأنه يكون كافراً.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (457) , واللفظ له، ومسلم برقم (1558).

(5/224)


2 - الفسق وهو من يخل بأحكام الشريعة والآداب العامة.
3 - زوال الأهلية بجنون أو إغماء أو تخريف ونحو ذلك.
- حكم الشفاعة:
الشفاعة قسمان:
1 - الشفاعة الحسنة:
وهي الشفاعة والتوسط للناس ابتغاء مرضاة الله في جلب نفع لهم، أو دفع ضر عنهم، في غير معصية الله، ولا حد من حدود الله، ولا إبطال حق، ولا إحقاق باطل.
فهذه الشفاعة حسنة محمودة مندوب إليها، وفيها أجر عظيم.
ومن أمثلة الشفاعة الحسنة:
التوسط لقضاء حاجات الناس، وتفريج كربات المحتاجين، وقضاء حاجات الضعفاء والعاجزين، والتوسط في تخفيف الدين عن المدينين أو إسقاطه أو قضائه، والتوسط في فعل الخير.
1 - قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} ... [النساء: 85].
2 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: «اشْفَعُوا فَلتُؤْجَرُوا، وَليَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ». متفق عليه (1).
2 - الشفاعة السيئة:
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1432) , ومسلم برقم (2627)، واللفظ له.

(5/225)


وهي محرمة كالشفاعة مقابل رشوة، أو السعي في إسقاط حد، أو السعي في الإثم والعدوان، أو السعي في إحقاق باطل أو إبطال حق، أو تقديم من لا يستحق التقديم، أو الوساطة التي تؤدي إلى تأخير مستحق أو حرمانه ونحو ذلك مما يضر بمصلحة المسلمين.
- حكم الحِيَل:
الحيل: هي التحول من حال إلى حال بطرق خفية.
والحيل تنقسم إلى قسمين:
1 - حيل محمودة: وهي ما استُعمل للوصول إلى غرض محمود، أو النجاة من الهلاك، كمن احتال لصيد الطير أو النجاة من العدو، أو احتال لدفع مفسدة عظيمة، أو احتال لتحصيل مصلحة جائزة ونحو ذلك.
2 - حيل مذمومة: وهي ما استُعمل للوصول إلى غرض ممنوع شرعاً، كالحيل لإفساد البيع، أو إسقاط الميراث، أو إسقاط الحدود، أو إسقاط الحقوق، أو إسقاط الزكاة، أو تحليل ما حرم الله ونحو ذلك.
وهذه الحيل كلها محرمة، بل هي من كبائر الذنوب.
- حكم التورية:
التورية: أن يأتي الإنسان بكلام يحتمل معنيين، ويقصد المعنى الخفي.
والتورية جائزة؛ للمصلحة والحاجة كأن يسألك العدو: من أين أنت؟ فتقول: من ماء، وتقصد أنك مخلوق من ماء، وهو يظن أنك من موضع يقال له ماء ونحو ذلك.
ولا ينبغي الإكثار منها؛ لئلا يظن الناس به الكذب والاحتيال.

(5/226)


5 - صفة الدعوى
- الدعوى: هي طلب المدعي من القاضي حقاً عند غيره بقول أو كتابة.
- البينة: هي كل ما يُبِيْن الحق من شهود، أو يمين، أو قرائن الأحوال ونحوها.
- أركان الدعوى:
أركان الدعوى ثلاثة:
الأول: المدعي: وهو الذي يطالِب بالحق.
الثاني: المدعى عليه: وهو المطالَب بالحق.
الثالث: المدعى به: وهو الشيء أو الحق المطالَب به.
فالمدعي إذا سكت عن المطالبة بالحق تُرك، والمدعى عليه إذا سكت لم يُترك.
والمدعي هو الذي يُكلَّف بإقامة الدليل والبينة على صدق دعواه؛ لأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته.
- شروط صحة الدعوى:
يشترط لصحة الدعوى ما يلي:
1 - أن يكون كلٌّ من المدعي والمدعى عليه جائز التصرف، وهو الحر البالغ العاقل الرشيد؛ لأن الدعوى يترتب عليها حكم شرعي، فلم تصح من غير جائز التصرف.
2 - أن يبيِّن المدعي دعواه بالتفصيل أمام القاضي، ويحررها ذاكراً جنسها

(5/227)


وقَدْرها وصنفها وكل ما يميزها؛ لأن الحكم مرتَّب عليها.
3 - أن تكون معلومة المدعى به، وأن يصرح المدعي بطلب الحق أو العين.
4 - أن يكون المدعى به حالاًّ إن كان ديناً.
5 - أن يكون المدعى عليه معلوماً، حاضراً، أو غائباً، أو ميتاً.
- إقامة الدعوى:
تقام الدعوى في بلد المدعى عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته.
فإذا ماطل المدعى عليه، أو هرب، أو تأخر عن الحضور، من غير عذر، ألزمه القاضي بالحضور وأدبه.
- إثبات الدعوى:
لا تثبت دعوى أحد على غيره إلا بدليل يستبين به الحق ويظهر، ويحرم على الإنسان أن يدعي ما ليس له.
1 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنّ اليَمِينَ عَلَى المُدّعَى عَلَيْهِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنِ الأَشْعَث بْن قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أرْضٌ بِاليَمَنِ، فَخَاصَمْتُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «هَل لَكَ بَيِّنَةٌ؟». فَقُلتُ: لا، قال: «فَيَمِينُهُ». قُلتُ: إذَنْ يَحْلِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عِنْدَ ذَلِكَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}.
متفق
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4552) , ومسلم برقم (1711)، واللفظ له.

(5/228)


عليه (1).
- أحوال المدعى به:
إذا ادعى المدعي والمدعى عليه عيناً فلا تخلو من ست حالات:
الأولى: إن كانت العين في يد أحدهما فهي له مع يمينه إن لم يكن للخصم بينة، فإن أقام كلٌّ منهما بينة فهي لمن هي في يده مع يمينه.
الثانية: أن تكون العين في يديهما ولا بينة، فيتحالفان وتقسم بينهما.
الثالثة: أن تكون العين بيد غيرهما ولا بينة لهما، فيقترعان عليها، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها.
الرابعة: ألا تكون العين بيد أحد، ولا بينة لأحدهما، فيتحالفان ويتناصفاها.
الخامسة: أن يكون لكل واحد بينة، وليست في يد واحد منهما، فهي بينهما على السوية.
السادسة: إذا تنازعا دابة أو سيارة، وأحدهما راكب عليها، والآخر آخذ بزمامها، فهي للراكب بيمينه إن لم تكن بينة.
- حكم كتاب القاضي إلى القاضي:
يُقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق لآدمي في الأموال كالبيع، والإجارة، والوصية ونحوها عند الحاجة.
وفي الحقوق كالنكاح، والطلاق، والجنايات، والقصاص ونحوها.
ولا ينبغي أن يكتب القاضي إلى القاضي في الحدود الواجبة لله كحد الزنا، والسكر ونحوهما؛ لأنها مبنية على الستر، والدرء بالشبهات.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2356) , ومسلم برقم (138)، واللفظ له.

(5/229)


6 - صفة الحكم
- أقسام الناس في التهم:
الناس في التهم ثلاثة أصناف:
1 - أن يكون المتَّهَم معروفاً عند الناس بالدين والورع.
فهذا لا يحبس ولا يضرب، ويؤدب من يتهمه.
2 - أن يكون المتَّهَم مجهول الحال.
فهذا يحبس حتى تنكشف حاله، حفظاً للحقوق.
3 - أن يكون المتَّهَم معروفاً بالفجور والإجرام، ومثله يقع في الاتهام.
فهذا يُحبس ويُمتحن بالضرب إذا قامت القرائن حتى يقر؛ حفظاً لحقوق العباد.
- صفة الحكم:
1 - إذا حضر عند القاضي خصمان قال: أيكما المدعي؟
وللقاضي أن يسكت حتى يبدأ أحدهما، فمن سبق بالدعوى قدَّمه، فإن أقر له خصمه حكم له عليه، وإن أنكر الخصم قال القاضي للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها، فإن أحضرها سمعها وحكم بموجبها، ولا يحكم القاضي بعلمه إلا في حالات خاصة ستأتي إن شاء الله.
2 - إذا قال المدعي ليس لي بينة أَعْلمه القاضي أن له اليمين على خصمه، فإن طلب المدعي إحلاف خصمه أحلفه القاضي، وخلى سبيله.
3 - إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، وأبى أن يحلف، قضى عليه بالنكول وهو

(5/230)


الامتناع والسكوت؛ لأنه قرينة ظاهرة على صدق المدعي.
وللقاضي أن يرد اليمين على المدعي إذا امتنع عنها المدعى عليه، لا سيما إذا قوي جانب المدعي، فإذا حلف قضى له.
4 - إذا حلف المنكِر، وخلى القاضي سبيله، ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها القاضي؛ لأن يمين المنكِر مزيلة للخصومة، لا مزيلة للحق.
ولا يُنقض حكم القاضي إلا إذا خالف الكتاب أو السنة أو إجماعاً قطعياً.
- حكم وعظ الخصوم قبل الحكم:
يستحب للقاضي ترغيب الخصوم في الصلح والعفو.
ويستحب له كذلك وعظهم قبل الحكم، وبيان أن حكم القاضي لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 10].
2 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ ألحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». متفق عليه (1).
- متى يقضي القاضي بعلمه:
لا يقضي القاضي بعلمه في القضية؛ لأن ذلك يفضي إلى تهمته، بل يقضي على نحو ما يسمع من البينات.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7169) , واللفظ له، ومسلم برقم (1713).

(5/231)


ويجوز للقاضي أن يقضي بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهمة، أو يكون الأمر قد تواتر عنده وعند غيره، وتواترت به الأخبار، واشترك في العلم به هو وغيره كزواج فلان أو وفاته، أو احتراق دار فلان ونحو ذلك مما يشتهر عادة.
- حكم القضاء على الغائب:
يجوز للمدعي أن يدعي على الغائب الذي لا وكيل له.
ويجوز للقاضي أن يحكم عليه إذا ثبتت الدعوى؛ لأن الامتناع من القضاء عليه فيه إضاعة للحقوق، وتفويت للمصالح.
فإن حضر فحجته قائمة، ويُعمل بها ولو أدى إلى نقض الحكم الأول؛ لأن الحكم يزيل الخصومة، ولا يفوِّت الحق.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ، امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لاَ يُعْطِينِي مِنَ النّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلمِهِ، فَهَل عَلَيّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ، مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ». متفق عليه (1).
- حكم التناقض:
ينقسم التناقض إلى قسمين:
1 - تناقض الشهود:
فإذا أدى الشهود الشهادة ثم رجعوا عنها، أو تناقضوا فيها:
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2211)، ومسلم برقم (1714)، واللفظ له.

(5/232)


فإن كان ذلك قبل حكم القاضي تكون شهادتهم لاغية ويعزرون، وإن رجعوا عن الشهادة بعد الحكم فلا يُنقض الحكم، ويضمن الشهود ما يترتب على الحكم من ضرر؛ لأن شهادتهم شهادة زور.
2 - تناقض المدعي:
إذا سبق من المدعي كلام مناقض لدعواه بطلت الدعوى، كأن يقر بمال لغيره، ثم يدعي أنه له، فهذا الادعاء مبطل لدعواه، ومانع من قبولها.
- حكم نقض بينة المدعي:
يحق للمدعى عليه أن يقدِّم بينة يُثبت بها براءة ذمته، ويَدفع بها دعوى المدعي.
فإن لم تكن له بينة جاز له أن يقدِّم بينة تشهد بالطعن في عدالة الشهود، وتجرح بينة المدعي.
- حكم الإكراه:
الإكراه: هو حمل الغير على ما يكره بالقوة والتهديد.
وينقسم الإكراه إلى قسمين:
1 - إكراه على الكلام:
وهذا الإكراه لا يجب به شيء؛ لأن المكرَه غير مكلف، فإذا نطق بكلمة الكفر فإنه لا يؤاخذ، وإذا أقر بشيء فإنه لا يؤخذ بإقراره، وإذا عقَد عَقْد بيع أو زواج أو طلّق فإنه لا ينعقد.
قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ

(5/233)


عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} ... [النحل: 106].
2 - إكراه على الفعل:
الإكراه على الفعل قسمان:
1 - إكراه تبيحه الضرورة:
كالإكراه على أكل الميتة، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير ونحو ذلك كالإكراه على الإفطار في رمضان، أو السجود لصنم، أو أكل مال الغير.
فهذا إذا لم يكن له خلاص إلا به، ولا ضرر فيه على أحد، فله فعله ولا إثم عليه مادام مكرهاً عليه، وهو كاره له.
قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
2 - إكراه لا تبيحه الضرورة:
كالإكراه على القتل، والضرب، وإفساد المال، والزنا ونحوه.
فهذا لا يجوز له الإقدام على قتل غيره ولا انتهاك حرمته، ويصبر على البلاء، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره.
- حكم الحبس:
الحبس أو السجن جائز عند الحاجة والضرورة؛ لحفظ حقوق الناس، وحمايتهم من المجرمين، وحفظ الجناة المنتهكين للمحارم، ومنعهم من الإضرار بالناس.
ولا يجوز للإمام أن يحبس أحداً إلا بحق، وإذا حبسه بحق وجب عليه المسارعة بالنظر في أمره:

(5/234)


فإن كان مذنباً أُخذ بذنبه، وإن كان بريئاً أُطلق سراحه، ويحرم ضرب المتهم إلا إذا قامت القرائن على فجوره، فيُضرب ليقر بما فعل.
- أنواع الحبس:
الحبس نوعان:
حبس عقوبة .. وحبس استظهار.
فالعقوبة تكون في كل واجب من الحقوق مَنَعه.
والاستظهار ليستكشف به عما وراءه.
وينبغي أن يكون السجن واسعاً، وأن يعطى كل واحد من المساجين كفايته من الطعام واللباس، ويحرم إذلال السجين وإهانته بقول أو فعل؛ لما فيه من إهدار كرامته.
ومنع السجين ما يحتاج إليه من الطعام واللباس ونحوها من الحقوق جَور يعاقِب الله عليه مَنْ فَعَله حتى ولو كان حيواناً.
1 - عَنْ عَبْداللهِ بنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُذّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرّةٍ سَجَنَتْهَا حَتّىَ مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الاَْرْضِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: مَرَّ هِشَام بْن حَكِيم بْنِ حِزَام بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ، وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا». أخرجه مسلم (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2365) , ومسلم برقم (2242)، واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (118) (2613).

(5/235)


- حكم حبس المدين:
إذا ثبت الدين على أحد فله ثلاث حالات:
1 - أن يكون المدين معسراً أو معدماً لا مال له.
فهذا لا يحكم القاضي بحبسه؛ لأن حبسه ظلم لا فائدة منه، وإنما يُترك ليسعى في الأرض ويكتسب؛ ليتمكن من سداد الدين أو بعضه.
قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} ... [البقرة: 280].
2 - أن يكون مشكوكاً في أمر المدين، هل هو موسر أم معسر.
فهذا يحبسه القاضي لاختباره، بطلب غرمائه، ويفرج عنه إذا تبين عسره، أو سدد ما عليه.
3 - إذا ثبت يسار المدين، وامتنع عن وفاء الدين أو تأخر.
فهذا يأمره القاضي بأداء الدين أو الحق المستحق عليه لصاحبه، فإن أعطاه صاحبه خلى سبيله، وإن امتنع جاز حبسه مدة بحسب المصلحة حتى يسدد ما عليه؛ لأنه مماطل.
وإذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء بدينه حَجَر عليه القاضي، ويباع ماله جبراً، ثم يُقسم بين غرمائه.
عَنْ الشَّرِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ أَبيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ». أخرجه أبو داود والنسائي (1).
_________
(1) حسن، أخرجه أبو داود برقم (3628) , والنسائي برقم (4689).

(5/236)


7 - طرق إثبات الدعوى
تثبت الدعوى بواحد مما يلي:
الإقرار ... الشهادة ... اليمين.

1 - الإقرار
- الإقرار: هو إظهار مكلف مختار ما وجب عليه.
والإقرار سيد الأدلة، ويسمى بالشهادة على النفس.
وهو حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً، وهو من أقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعي عليه.
- حكم الإقرار:
الإقرار هو الاعتراف بالحق، والحكم به واجب، إذا كان المقر مكلفاً مختاراً.
والإقرار حجة قاصرة لا تتعدى غير المقر، فلو أقر على غيره لم يُقبل، بخلاف البينة فإنها حجة متعدية إلى الغير، والإقرار لا يلزم إلا من أقر، ويحكم به القاضي في الدماء، والحدود، والأموال، والحقوق.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} ... [النساء: 135].

(5/237)


2 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلاً مِنْ أسْلَمَ أتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أعْرَضَ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: «هَل بِكَ جُنُونٌ؟ هَل أحْصَنْتَ». قال: نَعَمْ، فَأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالحَرَّةِ فَقُتِلَ. متفق عليه (1).
- شروط صحة الإقرار:
يصح الإقرار من كل بالغ، عاقل، مختار، جائز التصرف.
فلا يصح إقرار الصغير، والمجنون، والمكره، والمحجور عليه، ولا يصح الإقرار بما يحيله العقل أو العادة؛ لأنه كذب، ولا يحل الحكم بالكذب.
- أحوال الإقرار:
إقرار الإنسان على نفسه له حالتان:
1 - إقرار واجب: وهو إذا كان في ذمة الإنسان حق لله كالزكاة ونحوها، أو حق لآدمي كالدَّين ونحوه.
2 - إقرار جائز: وهو إذا كان على المكلف حد من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة ونحوهما، والستر على نفسه والتوبة من ذلك أولى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحّىَ تِلقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ، فَلَمّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ الله
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5270) , واللفظ له، ومسلم برقم (1691).

(5/238)


- صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لاَ. قَالَ: «هَل أَحْصَنْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ». متفق عليه (1).
- حكم الرجوع عن الإقرار:
إذا صح الإقرار وثبت:
فإن كان متعلقاً بحق من حقوق الآدميين فلا يجوز الرجوع عنه، ولا يُقبل منه.
وإن كان متعلقاً بحق من حقوق الله كحد الزنا، أو الخمر، أو السرقة ونحوها، فإنه يجوز الرجوع عنه؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، وحقوق الله مبنية على التسامح والعفو.
- حكم الإقرار بالدين:
1 - إذا أقر الإنسان لأحد ورثته بدين، فإن كان في مرض موته فلا يصح الإقرار إلا إذا صدَّقه باقي الورثة؛ لاحتمال حرمان باقي الورثة، وإن كان الإقرار في حال الصحة جاز.
2 - إذا أقر الإنسان في مرض موته لأجنبي فإقراره صحيح، سواء أقر بدين أو عين.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5271) , ومسلم برقم (1691)، واللفظ له.

(5/239)


2 - الشهادة
- الشهادة: هي الإخبار بما علمه الإنسان بلفظ أشهد، أو رأيت، أو سمعت ونحو ذلك.
- حكم الشهادة:
الشهادة مشروعة لإثبات الحقوق وحفظها.
وتحمُّلها وأداؤها عبادة يؤجر عليها الشاهد؛ لما يضمنه من بيان الحق، وحفظ الحقوق.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} [الطلاق: 2].
3 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشّهَدَاءِ؛ الّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». أخرجه مسلم (1).
- شروط من تُقبل شهادته:
يشترط فيمن تُقبل شهادته ما يلي:
1 - أن يكون بالغاً عاقلاً، فلا تقبل شهادة الصبيان إلا فيما بينهم.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1719).

(5/240)


2 - الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس إلا إذا أداها بخطه.
3 - الإسلام، فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم إلا في الوصية أثناء السفر إذا لم يوجد مسلم.
4 - الحفظ، فلا تقبل الشهادة من مغفل.
5 - عدم التهمة، فلا تقبل شهادة من يجلب إلى المشهود له نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً، أو يجلب تهمةمن زوج، أو والد، أو ولد، أو شريك.
6 - العدالة، والعدالة في كل زمان ومكان بحسبها، ويُعتبر لها شرطان:
1 - الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض، واجتناب الكبائر.
2 - المروءة، وهي فعل ما يجمِّله كالكرم وحسن الخلق ونحوهما، واجتناب ما يدنِّسه من الرذائل والشعوذة ونحوهما.
1 - قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ... [البقرة: 282].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
3 - وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} ... [النور: 4].
4 - وقال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
- حكم أداء الشهادة:
1 - تحمل الشهادة فرض كفاية إذا كانت في حقوق الآدميين، وأداؤها فرض عين

(5/241)


على من تحمَّلها إن كانت في حقوق الآدميين، وخيف ضياع الحق بعدم أدائها، ولم يحصل بها ضرر للشهود.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} [البقرة: 282].
3 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشّهَدَاءِ؛ الّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». أخرجه مسلم (1).
2 - أداء الشهادة مباح إذا كان في حق الله تعالى كالحدود من زنا، أو سرقة ونحوهما، وتركها أفضل وأولى؛ لاستحباب الستر على المسلم.
فإن كان الجاني مجاهراً بالفسق، معروفاً بالفساد، فأداؤها أفضل؛ لقطع دابر الفساد والمفسدين.
عَنْ عَبْداللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ ن وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». متفق عليه (2).
3 - لا يجوز لأحد أن يشهد على شيء إلا بعلم، والعلم يحصل بالرؤية، أو السماع، أو الاستفاضة وهي الشهرة كزواج أحد أو موته ونحو ذلك.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1719).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2442) , واللفظ له، ومسلم برقم (2580).

(5/242)


قال الله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86].
- أحوال البينة:
1 - البينة هي الشهادة، وهي تارة تكون بشاهدين، وتارة بشهادة رجل وامرأتين، وتارة بثلاثة شهداء، وتارة بأربعة شهداء، وتارة بشاهد ويمين المدعي.
2 - يشترط في الشهادة عدالة البينة، ويحكم القاضي بموجبها، وإن علم خلاف ما شهدت به لم يجز له الحكم بها، ومن جُهلت عدالته يُسأل عنه.
وإن جرح الخصمُ الشهود كُلِّف البينة، وأُنظر مدة حسب الحال، فإن لم يأت ببينة حكم عليه القاضي.
3 - إذا جهل القاضي حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم بشاهدين عدلين.
- حكم قبول الشهادة على الشهادة:
تقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء إلا في الحدود؛ لأنها مبنية على الستر.
فإذا تعذرت شهادة الأصل بموت، أو مرض، أو غَيبة، قَبِل الحاكم والقاضي شهادة الفرع إذا أنابه بقوله: اشهد على شهادتي ونحوه.
- موانع الشهادة:
الموانع التي تمنع من قبول الشهادة هي:
1 - قرابة الولادة: وهم الآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا.
فلا تقبل شهادة بعضهم لبعض؛ للتهمة بقوة القرابة، وتُقبل عليهم، وأما بقية القرابة كالإخوة والأعمام ونحوهم فتقبل لهم وعليهم.

(5/243)


2 - الزوجية: فلا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر؛ للتهمة، وتُقبل عليه.
3 - من يجر إلى نفسه نفعاً كشهادته لشريكه، أو رفيقه ونحوهما.
4 - من يدفع عن نفسه ضرراً بتلك الشهادة.
5 - العداوة الدنيوية، فلا تقبل شهادته على من يضمر له عداوة وبغضاء؛ لوجود العداوة والتهمة.
6 - من شهد عند القاضي ثم ردت شهادته لخيانة ونحوها.
7 - العصبية، فلا تقبل شهادة من عُرف بالعصبية على غيره؛ للتهمة.
8 - المملوك والخادم، فلا تقبل شهادة المملوك لسيده، ولا الخادم لمن استخدمه؛ لوجود التهمة.
- أقسام الشهود:
ينقسم الشهود بالنسبة للمشهود به إلى قسمين:
الأول: الشهادة في حقوق الله تعالى، وهي ثلاثة أقسام:
1 - ما لا يُقبل فيه أقل من أربعة شهود عدول من الرجال، وهو الزنا.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4].
2 - ما يُقبل فيه اثنان من الرجال العدول، وهو كل ما سوى الزنا من الحدود.
3 - ما يُقبل فيه شاهد واحد، وهو هلال دخول رمضان أو غيره.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الهِلاَلَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بصِيَامِهِ. أخرجه أبو داود (1).
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (2342).

(5/244)


الثاني: الشهادة في حقوق الآدميين، وهي أربعة أقسام:
1 - إذا ادعى من عُرف بالغنى أنه فقير ليأخذ من الزكاة.
فهذا لا بد أن يأتي بثلاثة رجال عدول يشهدون بِصِدقه ليعطى.
عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الهِلالِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: تَحَمَّلتُ حَمَالَةً، فَأتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسْألُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «أقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا». قال: ثُمَّ قال: «يَا قَبِيصَةُ! إِنَّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ). وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ) فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْألَةِ، يَا قَبِيصَةُ! سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا». أخرجه مسلم (1).
2 - ما لا يُقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين، وهو كل ما لا يُقصد منه المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كالقصاص والتعزير ونحوهما.
3 - ما يقبل فيه شهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين المدعي، وهو كل ما كان القصد منه المال كالبيع، والإجارة، والرهن ونحو ذلك، والحقوق كالنكاح، والطلاق، والرجعة ونحو ذلك من كل ما سوى القصاص والحدود.
ويقبل في الأموال خاصة رجل ويمين المدعي إذا تعذر إتمام الشهود.
1 - قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1044).

(5/245)


وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
2 - وقال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2].
3 - وَعَنِ الأشْعَثِ بْنِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ». متفق عليه (1).
4 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. أخرجه مسلم (2).
4 - ما يقبل فيه شهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، ويجوز مع اليمين من رجل عدل أو امرأة عدل، وهو كل ما لا يطلع عليه الرجال غالباً كالحيض، والرضاع، والولادة ونحو ذلك.
- حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة أن يقول الشاهد: رجعت عما شهدت به.
ولا يصح الرجوع إلا في مجلس القضاء؛ لأنه فَسْخ للشهادة، وإثبات الشهادة وفسخها لا يكون إلا في المحكمة.
ولا يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي، وإذا رجعوا
لم ينتقض الحكم، ويلزمهم ضمان المال أو التلف الذي تسببوا في إلحاقه بالمشهود عليه من مال، أو دية، أو قذف، ويعزرهم القاضي بما يؤدبهم.
وإن رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم ألغي، فلا حكم ولا ضمان، لكن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2356) , ومسلم برقم (138)، واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (1712).

(5/246)


إن رجعوا عن شهادة في زنا حُدُّوا حد القذف.
- حكم شهادة غير المسلمين:
شهادة غير المسلمين لها حالتان:
الأولى: شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض.
فتقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
الثانية: شهادة غير المسلمين على المسلمين.
فهذه لا تقبل فيها شهادة الكفار على المسلمين إلا عند الضرورة، إذا لم يوجد غيرهم، حضراً وسفراً.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة: 106].
- حكم شهادة الزور:
شهادة الزور من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب.
فهي سبب في أكل أموال الناس بالباطل، وسبب لإضاعة الحقوق، وسبب
لإضلال الحكام والقضاة ليحكموا بغير الحق، فيجب اجتنابها.
1 - قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)} [الحج: 30].

(5/247)


2 - وَعَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الكَبَائِرِ». ثَلاثًا، قالوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقال- ألا وَقَوْلُ الزُّورِ». قال: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه (1).
- عقوبة شاهد الزور:
إذا أقر الإنسان أنه شهد زوراً عند القاضي فهو فاسق ترد شهادته.
وللإمام تعزيره بما يردعه بالضرب، أو الحبس، أو التوبيخ، أو يشهِّر به في الأسواق أو بين قومه، ليعرفه الناس ويحذروه.
يفعل القاضي ما يحقق المصلحة، بحسب الناس، وحجم القضية.
وشاهد الزور إذا مات ولم يتب فيعذب في النار بقدر جرمه وكذبه.
عَنْ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقاً، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّاباً». متفق عليه (2).
- حكم الرشوة:
الرشوة: هي ما يعطيه الإنسان لحاكم أو غيره ليحكم له، أو يقدمه على غيره، أو يعطيه حق غيره.
والرشوة حرام، سواء كانت للحاكم، أو المسؤول، أو العامل، أو غيرهم.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2654) , واللفظ له، ومسلم برقم (87).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094) , ومسلم برقم (2607)، واللفظ له.

(5/248)


وهي حرام على المعطي والآخذ والوسيط، فكل هؤلاء آثمون، وعليهم العقاب في الدنيا والآخرة.
فالرشوة تفسد القلوب، وتسبب الشحناء بين الناس، وتزيد الظلم والجور، وتطمس معالم العدالة والحق.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة: 188].
2 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ الأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيّةِ عَلَى الصّدَقَةِ، فَلَمّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِد الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمّهِ حَتّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ، وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئاً إلاّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي. أخرجه أبو داود والترمذي (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2597) , ومسلم برقم (1832)، واللفظ له.
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3580) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1336).

(5/249)


3 - اليمين
- اليمين: هي الحلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته.
- حكم اليمين:
1 - تشرع اليمين في دعوى حقوق الآدميين خاصة، فهي التي يُستحلف فيها.
أما حقوق الله تعالى كالعبادات والحدود فلا يُستحلف فيها، فلا يُستحلف إذا قال دفعت زكاة مالي، أو صليت ونحوهما.
ولا يستحلف منكر لحد من حدود الله كالزنا وشرب الخمر؛ لأنه يستحب سترها، والتعريض بالرجوع عنها.
2 - إذا عجز المدعي بحق على آخر عن البينة، وأنكر المدعى عليه، فليس له إلا يمين المدعى عليه، وهذا خاص في الأموال والحقوق، ولا يجوز في دعوى القصاص والحدود.
1 - قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنّ اليَمِينَ عَلَى المُدّعَى عَلَيْهِ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنِ الأشْعَثِ بْنِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2514) , ومسلم برقم (1711)، واللفظ له.

(5/250)


فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ». متفق عليه (1).
- حقيقة اليمين:
النية في اليمين لها حالتان:
الأولى: اليمين الموجهة من القاضي لفصل الخصومة والنزاع تكون على نية المستحلِف وهو القاضي، فلا يصح فيها التورية أو الاستثناء.
الثانية: إذا حلف الإنسان باختياره، أو طلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين، فهذه تكون على نية الحالف في كل الأحوال، ويجوز للحالف التورية في يمينه، وله نيته.
1 - عَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى». متفق عليه (2).
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ». أخرجه مسلم (3).
- صيغة اليمين:
صيغة اليمين أن يقول الحالف:
والله، أو وبالله، أو تالله، أو ورب العالمين، أو والحي الذي لا يموت ونحو ذلك من أسماء الله عز وجل، وهي التي يُحلف بها غالباً.
أو يحلف بصفة من صفات الله عز وجل فيقول الحالف:
وعظمة الله، أو وعزة الله، أو ورحمة الله، أو وقدرة الله، أو وكبريائه، أو
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2356) , ومسلم برقم (138)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6689) , واللفظ له، ومسلم برقم (1907).
(3) أخرجه مسلم برقم (1653).

(5/251)


وكلامه، أو ومشيئته ونحو ذلك.
أو يحلف بكتاب الله، أو القرآن، أو المصحف، أو يحلف بالتوراة والإنجيل والزبور؛ لأنها كلام الله عز وجل، وكلامه سبحانه صفة من صفاته.
- شروط اليمين:
يشترط في اليمين في مجلس القضاء ما يلي:
1 - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً مختاراً.
2 - أن يكون المدعى عليه منكراً حق المدعي.
3 - أن يطلب الخصم اليمين من القاضي، فيطلبها القاضي من الخصم.
4 - ألا تكون في الحقوق الخالصة لله كالعبادات والحدود.
5 - أن تكون في الحقوق التي يجوز الإقرار بها.
6 - أن يعجز المدعي عن إحضار البينة.
- صفة اليمين:
اليمين تقطع الخصومة ولا تُسقط الحق، فمن حكم له القاضي بحق غيره فلا يحل له، وهو عليه حرام.
والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
ويجوز للقاضي أن يُحَلِّف المدعى عليه، أو يُحَلِّف المدعي، حسب ما يراه.
واليمين مشروعة في أقوى الجانبين؛ لأن الأصل براءة الذمة إلا ببينة، فإذا لم تكن اكتفى منه باليمين.
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ،
لاَدّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنّ اليَمِينَ عَلَى المُدّعَى عَلَيْهِ». متفق

(5/252)


عليه (1).
- أنواع اليمين:
تنقسم اليمين في مجلس القضاء إلى ثلاثة أنواع:
الأول: يمين الشاهد:
وهي اليمين التي يحلفها الشاهد قبل أداء الشهادة للاطمئنان إلى صدقه، ويلجأ إليها القاضي أحياناً بدلاً من تزكية الشاهد عند ضعف الوازع الديني.
الثاني: يمين المدعى عليه:
وهي التي يحلفها المدعى عليه بطلب المدعي؛ لتأكيد جوابه عن الدعوى.
الثالث: يمين المدعي:
وهي التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه، أو لإثبات حقه، أو لرد اليمين عليه.
وهي ثلاثة أنواع:
1 - اليمين الجالبة:
وهي التي يحلفها المدعي لإثبات حقه إما مع شهادة شاهد واحد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية، وردها القاضي إلى المدعي ليحلف، وهي اليمين المردودة.
وإما لإثبات الجناية على القاتل، وهي أيمان القسامة، وإما لنفي حد القذف عنه، وهي أيمان اللعان، وإما لتأكيد نفي الأمانة، فالقول قول الأمين مع يمينه
كالوديع والوكيل ونحوهما.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4552) , ومسلم برقم (1711)، واللفظ له.

(5/253)


2 - يمين التهمة:
وهي اليمين التي تُطلب من المدعي بقصد رد دعوى غير محقَّقة على المدعى عليه.
3 - يمين التوثق والاستظهار:
وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي مع الأدلة لدفع التهمة عنه، يلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على ميت أو غائب، لاحتمال أنه قد استوفى الدَّين أو أبرأه منه.
فيحلف المدعي، ويأخذ ما ادعاه بالبينة واليمين، لوجود الشك.
- الآثار المترتبة على اليمين:
اليمين إما أن تكون من المدعي أو المدعى عليه.
فإذا أدى المدعي اليمين مع الشاهد ثبت للمدعي الحق المحلوف عليه.
ويترتب على حلف اليمين من المدعى عليه سقوط الدعوى، وانتهاء النزاع بين المتداعيين، وعدم المطالبة في الحال.
فإن تمكن المدعي من إحضار بينة فيما بعد حَكَم له القاضي بعد ثبوت دعواه؛ لأن اليمين تزيل الخصومة، ولا تزيل الحق.
- أنواع الحقوق التي تجوز فيها اليمين:
1 - يجوز الحلف نفياً أو إثباتاً، في الأموال، وما يؤول إلى الأموال، وفي الحقوق التي بين العباد كالجنايات ونحوها.
2 - لا يجوز الحلف في حقوق الله المحضة، سواء كانت حداً كالزنا والسرقة
ونحوهما، أو كانت عبادة كالصلاة والصوم ونحوهما؛ لأن الحدود تدرأ

(5/254)


بالشبهات، والعبادات علاقة بين العبد وربه، فلا يتدخل فيها أحد.
- حكم القضاء بالنكول:
إذا امتنع المدعى عليه من اليمين فإنه لا يُقضى عليه بالنكول، ولكن تُردّ اليمين على المدعي في جميع الحقوق إلا الجنايات والحدود، فيحلف المدعي، ويقضي له القاضي بما ادعاه، فإن امتناع المدعى عليه عن اليمين أو سكوته قرينة على عدم صدقه، ودليل على صدق المدعي، وردها إلى المدعي أقوى في إثبات الحق؛ لأنها تشرع في أقوى الجانبين.
- حكم القضاء بشاهد ويمين:
1 - إذا قدَّم المدعي شاهدين على دعواه، وقُبلت شهادتهما، حكم له القاضي بما ادعاه.
2 - إذا عجز المدعي عن البينة، وطلب تحليف المدعى عليه:
1 - إن حلف المدعى عليه رُفضت دعوى المدعي عليه.
2 - إن نكل المدعى عليه أو سكت، فلا يقضى عليه بالنكول، ولكن ترد اليمين على المدعي فيحلف ثم يأخذ حقه.
3 - إذا أقام المدعي شاهداً، وعجز عن تقديم شاهد آخر، فله أن يحلف مع الشاهد في الأموال، وما يؤول إلى الأموال، ما عدا القصاص والحدود.
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. أخرجه مسلم (1).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1712).

(5/255)


- خطر اليمين الكاذبة:
يحرم على الإنسان أن يحلف يميناً كاذبة، ليقتطع بها مال أخيه بغير حق، وهي اليمين الفاجرة، وذلك ظلم موجب لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة.
1 - عَنْ أبِي أمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «وَإنْ قَضِيبًا مِنْ أرَاكٍ». أخرجه مسلم (1).
2 - وعن عَنْ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ، مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآيَةَ. متفق عليه (2).
- حكم تغليظ اليمين:
اليمين تكون بأن يقسم الحالف بالله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وبهذه اليمين تثبت الحقوق، سواء كانت من مسلم أو كافر.
ويجوز للقاضي تغليظ اليمين فيما له خطر مما ليس بمال، ولا يقصد به المال كنكاح، وطلاق، ولعان، وجناية ونحو ذلك.
والتغليظ يكون مثلاً بزيادة اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، كأن يقول
المسلم: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر والعلانية ونحو ذلك.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (137).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2356) , واللفظ له، ومسلم برقم (138).

(5/256)


ويقول اليهودي: أحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ونجاه ومن معه من الغرق.
ويقول النصراني: أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ونحو ذلك.
ومن أبى التغليظ لم يكن ناكلاً، ويكفيه الحلف بالله، والتغليظ يكون في الزمان: بعد صلاة العصر، ويكون في المكان: في مكة بين الركن والمقام، وفي المدينة عند منبر رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي سائر البلدان عند منبر المسجد.
وإن كان على القاضي حرج أَحْلف الخصم في مجلس القضاء.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة: 106].
2 - وَعَنْ ابنِ عُمَر رَضيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِفْ بِاللهِ أوْ لِيَصْمُتْ». متفق عليه (1).
- حكم الحلف بالطلاق:
اليمين بالطلاق لإثبات الحقوق وإنهاء الخصومات حرام، سواء كانت أمام القاضي أو غيره، ولو كان الحالف لا ينزجر إلا بها؛ لأن اليمين لا تكون إلا بالله أو أسمائه أو صفاته، ولأن القسم لتعظيم المقسَم به، ولا يجوز تعظيم
غير الله، ولما في ذلك من تمزيق شمل الزوجية، والاستخفاف بالعقود.
وإذا طلب الخصم هذا الحلف لم يُجبه القاضي؛ لأنه حرام.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2679) , واللفظ له، ومسلم برقم (1646).

(5/257)


8 - الأيمان
1 - معنى اليمين وحكمها
- الأيمان: جمع يمين.
واليمين: هي توكيد الأمر المحلوف عليه بذكر الله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، على وجه مخصوص.
وتسمى القَسَم، أو الحَلِف، أو اليمين.
- أنواع اليمين:
اليمين إما أن تكون بطلب من القاضي كما سبق بيان أنواعها وأحكامها.
وإما أن تكون صادرة من الإنسان بلا طلب من القاضي، وهي المرادة هنا.
- صفة اليمين المنعقدة:
اليمين التي تنعقد وتجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته.
كأن يقول: والله، وبالله، وتالله، والرحمن، وعظمة الله، ورحمة الله ونحو ذلك.
فإن برّ بيمينه فلا شيء عليه، وإن حنث فعليه الكفارة.

(5/258)


- حكم اليمين:
لليمين خمسة أحكام:
1 - يمين واجبة: وهي التي ينقذ بها إنساناً معصوماً من هَلَكة.
2 - يمين مستحبة: كالحلف عند الإصلاح بين الناس.
3 - يمين مباحة: كالحلف على فعل مباح أو تركه، أو توكيد أمر ونحو ذلك.
4 - يمين مكروهة: كالحلف على فعل أمر مكروه، أو ترك مندوب، والحلف في البيع والشراء.
5 - يمين محرمة: كمن حلف كاذباً متعمداً، أو حلف على فعل معصية، أو ترك واجب ونحو ذلك.
- حفظ اليمين:
حفظ اليمين يكون بثلاثة أمور:
عدم كثرة الحلف .. عدم الحنث إلا فيما كان واجباً .. إخراج الكفارة بعد الحنث.
قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} ... [المائدة: 89].
- حكمة مشروعية اليمين:
شرع الله عز وجل اليمين لتأكيد الأمر المحلوف عليه، وذلك لحمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف، أو لتقوية الطلب من المخاطب، وحثه على فعل شيء أو تركه، أو لتقوية عزم الحالف نفسه على فعل شيء يخشى إحجامها عنه، أو ترك شيء يخشى إقدامها عليه.

(5/259)


2 - أقسام اليمين
- أقسام اليمين:
تنقسم اليمين إلى ثلاثة أقسام:
اليمين اللغو .. اليمين الغموس .. اليمين المنعقدة.
1 - اليمين اللغو:
هي الحلف من غير قصد اليمين، كقول الإنسان في حديثه لا والله، وبلى والله، أو والله لتأكلن ونحو ذلك مما لا يقصد به اليمين.
أو أن يحلف على أمر ماض يظن صِدْق نفسه فبان بخلافه.
فهذه اليمين لا تنعقد، ولا كفارة لها، ولا يؤاخذ بها الحالف.
1 - قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ... [البقرة: 225].
2 - وقال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
2 - اليمين الغموس:
وهي أن يحلف على أمر ماض كاذباً عالماً، وهي محرمة.
وهي من أكبر الكبائر؛ لأن بها تُهضم الحقوق، وتؤكل الأموال بغير حق، ويُقصد بها الفسق والخيانة.
وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار.
وهذه اليمين لا تنعقد، ولا كفارة فيها، وتجب المبادرة بالتوبة منها.

(5/260)


1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} [النحل: 94].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} ... [آل عمران: 77].
3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ». أخرجه البخاري (1).
3 - اليمين المنعقدة:
وهي أن يحلف على أمر مستقبل قاصداً اليمين، توكيداً لفعل شيء أو تركه.
وهذه اليمين تنعقد، فإن بر بيمينه فلا شيء عليه، وإن حنث فعليه الكفارة.
قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
- شروط اليمين المنعقدة:
يشترط لصحة اليمين التي تجب بها الكفارة ما يلي:
1 - أن يكون الحالف بالغاً، عاقلاً، متعمداً، مختاراً، ذاكراً.
2 - أن يكون قاصداً اليمين.
3 - أن يكون الحلف على أمر مستقبل ممكن.
4 - تجب الكفارة إذا حنث في يمينه بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف
على فعله، فإن لم يحنث فلا شيء عليه.
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6675).

(5/261)


3 - أحكام اليمين
- حكم تكرار اليمين:
1 - إذا كرر اليمين على جنس واحد كأن يقول: والله لا آكل هذا التمر، والله لا آكل هذا التمر، فهذه يمين واحدة، ولا تجب بها إلا كفارة واحدة إذا حنث.
2 - إذا كرر اليمين على أشياء مختلفة كأن يقول: والله لا آكل هذا اليوم، والله لا أسافر هذا اليوم، فهذا عليه بكل يمين كفارة إن حنث بها.
3 - إذا عقد يميناً واحدة على أشياء مختلفة كأن يقول: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست، فهذا عليه كفارة واحدة إذا حنث، فإنه بفعل واحد منها يحنث، وتنحلّ اليمين.
- حكم كفارة اليمين:
الكفارة: سميت بذلك لأنها تغطي الإثم وتستره.
وهي ما يخرجه الحانث في يمينه من إطعام، أو كسوة، أو عتق رقبة، أو صيام، تكفيراً لحنثه في يمينه.
وهي واجبة فيمن حنث في يمينه، وتسقط عنه إذا عجز عنها؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه.
- كفارة اليمين:
يخير من لزمته كفارة يمين بين ما يلي:
1 - إطعام عشرة مساكين، لكل واحد نصف صاع من قوت البلد، وهو يساوي كيلو وربع من بر أو أرز أو تمر ونحوها، وإن غدى العشرة مساكين أو

(5/262)


عشاهم جاز.
2 - كسوة عشرة مساكين مما يُلبس عادة.
3 - عتق رقبة مؤمنة.
وهو مخير في هذه الثلاثة، فإن لم يجد أحدها صام ثلاثة أيام، ولا يجوز الصيام مع القدرة على أحد الثلاثة السابقة.
والكافر يكفِّر بأحد الثلاثة الأولى، لأن الصوم عبادة فلا يصح من كافر.
قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89].
- حكم تقديم كفارة اليمين:
يجوز تقديم كفارة اليمين على الحنث، ويجوز تأخيرها عنه.
فإن قدم الكفارة كانت محلِّلة لليمين، وإن أخرها كانت مكفرة له.
1 - عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: « ... وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: « ... وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ». متفق عليه (2).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6622) , واللفظ له، ومسلم برقم (1652).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6622) , واللفظ له، ومسلم برقم (1652).

(5/263)


- حكم الحنث في اليمين:
1 - يسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً، فمن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فيفعل الذي هو خير، ويكفِّر عن يمينه.
2 - يجب نقض اليمين إذا حلف على ترك واجب، كمن حلف لا يصل رحمه، أو حلف على فعل محرم، كمن حلف ليشربن الخمر.
فهذا الحالف يجب عليه نقض اليمين، ويكفِّر عنها.
3 - يباح نقض اليمين إذا حلف على فعل مباح، أو حلف على تركه، ويكفِّر عن يمينه.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} [البقرة: 224].
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قَدْ نَامُوا، فَأَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامِهِ، فَحَلَفَ لاَ يَأْكُلُ، مِنْ أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمّ بَدَا لَهُ فَأَكَلَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ عَلَىَ يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَليَأَتِهَا، وَليُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ». أخرجه مسلم (1).
- حكم من حَرَّم على نفسه الحلال:
لا يجوز للإنسان أن يُحرِّم على نفسه ما أحله الله له.
1 - من حرم على نفسه حلالاً مما أباح الله من طعام، أو شراب، أو لباس، أو فعل، لم يَحْرم عليه، ويجب عليه إن فعله كفارة يمين.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1650).

(5/264)


قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2].
2 - من حرم على نفسه زوجته فقال: أنت علي حرام، فإن نواه ظهاراً أو طلاقاً أو يميناً فهو بحسب نيته، وإن لم ينو شيئاً فهو يمين.
1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 3 - 4].
2 - وَعَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». متفق عليه (1).
- حكم مَنْ فَعَل ما حلف عليه ناسياً أو مخطئاً:
إذا حلف الإنسان لا يفعل هذا الشيء، ففعله ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً، لم يحنث، ولا كفارة عليه، ويمينه باقية.
وإذا حلف على إنسان قاصداً إكرامه، لا يحنث مطلقاً، فإن كان قاصداً إلزامه ولم يفعل فإنه يحنث، وتلزمه الكفارة، ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه إذا أقسم عليه إذا لم يكن فيه معصية، أو ضرر عليه.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، قال: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1) واللفظ له، ومسلم برقم (1907).

(5/265)


يَدْخُل قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قُولُوا، سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وَسَلَّمْنَا». قال، فَألقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (قال: قَدْ فَعَلتُ) {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (قال: قَدْ فَعَلتُ) {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} (قال: قَدْ فَعَلتُ). أخرجه مسلم (1).
- حكم الاستثناء في اليمين:
من حلف واستثنى في يمينه لم يحنث، فإذا قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، أو لأتركن كذا إن شاء الله، فهذا لا يحنث في يمينه إن فعل المحلوف عليه أو تركه.
ويصح الاستثناء في اليمين بثلاثة شروط:
1 - أن يقصد تعليق المحلوف عليه بمشيئة الله لا مجرد التبرك.
2 - أن يتصل الاستثناء باليمين معاً.
3 - أن يكون الاستثناء لفظاً ونطقاً، فلا ينفعه الاستثناء بقلبه.
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُل إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُل إِنْ شَاءَ اللهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِل مِنْهُنَّ إِلا امْرَأةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قال: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أجْمَعُونَ».
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (126).

(5/266)


متفق عليه (1).
- المعتبر في اليمين:
من حلف على شيء وورَّى بغيره فالعبرة بنيته لا بلفظه، وإنما تعتبر نية الحالف إذا لم يُستحلف، وإذا استحلف القاضي أو غيره أحداً فاليمين على نية المستحلِف.
1 - عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ القَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي فَخَلَّى سَبيلَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ القَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي، قَالَ: «صَدَقْتَ، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ». أخرجه أبو داود وابن ماجه (2).
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ». أخرجه مسلم (3).
3 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اليَمِينُ عَلَى نِيّةِ المُسْتَحْلِفِ». أخرجه مسلم (4).
- حكم الإصرار على اليمين:
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فلا يصر عليها، بل يفعل ما هو خير، ويكفِّر عن يمينه.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6639) , واللفظ له، ومسلم برقم (1654).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3256) , وهذا لفظه، وأخرجه ابن ماجه برقم (2119).
(3) أخرجه مسلم برقم (1653).
(4) أخرجه مسلم برقم (1653).

(5/267)


1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} ... [البقرة: 224].
2 - وَعنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «وَالله لأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدالله مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفّارَتَهُ الّتِي فَرَضَ الله». متفق عليه (1).
- منزلة الحلف بالله:
يجب حفظ الأيمان وعدم الاستهانة بها، وعدم الاحتيال للتخلص من حكمها.
وأصل الحلف توكيد الأمر المحلوف عليه بالله العظيم جل جلاله.
فيجب على من أراد أن يحلف أن يصدق، ولا يكثر من تكرار الأيمان؛ تعظيماً لله، إلا فيما ورد كأيمان اللعان.
ويجب على من حُلِف له بالله أن يرضى ويسلم.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم: 10].
2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَحْلِفُ بأَبيهِ، فَقَالَ: «لاَ تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ باللهِ فَليَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ باللهِ فَليَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ باللهِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ». أخرجه ابن ماجه (2).
3 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَأى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلا يَسْرِقُ، فَقال لَهُ: أسَرَقْتَ؟ قال: كَلا، وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، فَقال عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي». متفق عليه (3).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6625) , ومسلم برقم (1655)، واللفظ له.
(2) صحيح/ أخرجه ابن ماجه برقم (2101).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3444) , واللفظ له، ومسلم برقم (2368).

(5/268)


- أنواع اليمين:
تنقسم اليمين من حيث المحلوف به إلى قسمين:
الأول: الحلف بالله، أو بأسمائه، أو بصفاته، وهذا جائز.
الثاني: الحلف بمخلوق من المخلوقات كالحلف بالأصنام، أو الأنبياء، أو الملائكة، أو السماء، أو الكعبة ونحو ذلك.
وهذا النوع لا كفارة فيه لو فَعَل ما حلف على تركه، أو تَرَك ما حلف على فعله؛ لأن اليمين لا تنعقد إلا بالحلف بالله.
وهو محرم وشرك، لا تكفِّره إلا التوبة النصوح، والنطق بكلمة التوحيد.
- حكم الحلف بغير الله:
الحلف بغير الله شرك أصغر، وهو محرم؛ لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، والتعظيم لا يكون إلا لله العلي العظيم، والحلف بغير الله كأن يقول مثلاً: والنبي .. وحياتك .. والقمر .. والكعبة .. والأمانة .. والآباء .. والأوثان ونحو ذلك.
وقد يكون الحلف بغير الله شركاً أكبر، وذلك بحسب ما يقوم بقلب الحالف من تعظيم المحلوف به.
1 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِفْ بِاللهِ أوْ
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3251) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1535).

(5/269)


لِيَصْمُتْ». متفق عليه (1).
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ». متفق عليه (2).
- كفارة الحلف بغير الله:
من حلف بغير الله عالماً متعمداً فقد أتى شركاً، وفَعَل محرماً، فعليه أن يتوب إلى الله، ويأتي بكلمة التوحيد، ويتفل عن شماله ثلاثاً، ويتعوذ بالله من الشيطان.
1 - قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} ... [هود: 114].
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللاَّتِ وَالعُزَّى، فَليَقُل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَليَتَصَدَّقْ». متفق عليه (3).
3 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِاللاَّتِ وَالعُزَّى، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدْ قُلتَ هُجْراً. فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ العَهْدَ كَانَ حَدِيثاً، وَإِنِّي حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالعُزَّى. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ ثَلاَثاً، وَاتْفُل عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثاً، وَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلاَ تَعُدْ». أخرجه أحمد وابن ماجه (4).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2679) , واللفظ له، ومسلم برقم (1646).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697) , ومسلم برقم (1718).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4860) , واللفظ له، ومسلم برقم (1647).
(4) صحيح/أخرجه أحمد برقم (1622) , وهذا لفظه، وأخرجه ابن ماجه برقم (2097).

(5/270)


9 - النذر
1 - معنى النذر وحكمه
- النذر: هو إلزام مكلفٍ نفسه شيئاً لله غير لازم بأصل الشرع بكل قول يدل عليه.
- صفة النذر:
ليس للنذر صيغة معينة، وإنما ينعقد بكل قول يدل على الالتزام كأن يقول:
لله عليَّ نذر .. أو لله عليَّ عهد .. أو لله عليَّ أن أفعل كذا .. أو لله عليَّ أن أترك كذا ونحو ذلك.
ويصح النذر منَجَّزاً ومعلَّقاً.
فالمنجَّز أن يقول مثلاً: لله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيام.
والمعلَّق أن يقول مثلاً: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أتصدق بألف ريال.
- حكم النذر:
1 - النذر مشروع في حق مَنْ يعلم مِن نفسه القدرة على الوفاء به، وهذا النذر عبادة؛ لأن الله أمر بالوفاء به، ومدح الموفين به.
2 - النذر مكروه في حق مَنْ يعلم مِن نفسه عدم القدرة على الوفاء به.
فالنذر لا تحمد عقباه، فإن الناذر قد لا يفي، وقد يتعذر الوفاء به، وقد يفعله كارهاً مستثقلاً له، فيلحقه الإثم.

(5/271)


والنذر إذا تعلق به نفع للناذر لم يقع طاعة خالصة، فكأن الناذر يشارط الله ويعاوضه على حصول مطلوبه، والله غني عن العباد وطاعاتهم.
فهذا النذر لا يأت بخير، وليس فيه فائدة شرعية ولا قدرية، لا شرعية فهو لا يأت بخير، ولا قدرية فهو لا يرد قدراً.
1 - قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29].
2 - وقال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} ... [الإنسان: 7].
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَليُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ». أخرجه البخاري (1).
4 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ قَالَ: «النّذْرُ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئاً، وَلاَ يُؤَخِّرُهُ، وَإنّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ». متفق عليه (2).
5 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ تَنْذِرُوا، فَإنّ النّذْرَ لاَ يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شَيْئاً، وَإنّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ». متفق عليه (3).
- من يصح منه النذر:
يصح النذر من كل بالغ، عاقل، مختار، مسلماً كان أو كافراً، فلا يقع من صغير، ولا مجنون، ولا مكرَه.
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثلاَثةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ المُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَكْبُرَ». أخرجه
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6696).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6692) , ومسلم برقم (1639)، واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6694) , ومسلم برقم (1640)، واللفظ له.

(5/272)


أبو داود والنسائي (1).
2 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ عُمَرَ سَألَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ؟ قال: «فَأوْفِ بِنَذْرِكَ». متفق عليه (2).

2 - أقسام النذر
- أقسام النذر:
ينقسم النذر إلى ستة أقسام:
الأول: نذر الطاعة:
وهو نوعان كلاهما صحيح.
سواء كان مطلقاً كقوله: لله علي أن أصوم ثلاثة أيام، أو لله علي أن أتصدق بمائة ريال، وهو أفضل أنواع النذر.
أو كان النذر معلقاً كقوله: إن شفى الله مرضي فلله علي أن أتصدق بكذا، أو أصوم شهراً، أو أعتمر ونحو ذلك.
فإذا وُجد الشرط لزمه الوفاء به.
والنذر المطلق عبادة وطاعة وقربة يجب الوفاء به، وقد مدح الله الموفين به، ومن عجز عنه فعليه كفارة يمين.
1 - قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4398) , وهذا لفظه، والنسائي برقم (3432).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2032) , واللفظ له، ومسلم برقم (1656).

(5/273)


وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} [البقرة: 270].
3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَليُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ». أخرجه البخاري (1).
الثاني: نذر المباح:
كأن يقول: لله عليّ أن ألبس هذا الثوب، أو أركب هذه السيارة، أو أصعد هذا الجبل.
فهذا فِعْل مباح، يستوي فِعله وتركه، فيخير بين فعله وبين كفارة يمين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَفّارَةُ النّذْرِ كَفّارَةُ اليَمِينِ». أخرحه مسلم (2).
الثالث: نذر المكروه:
كأن يقول: لله عليّ أن آكل هذا الثوم ونحو ذلك من المكروهات.
فهذا يستحب له أن يكفر عن يمينه، ولا يفعل ما نذر.
عَنْ عَدِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى اليَمِينِ، فَرَأَى خَيْراً مِنْهَا، فَليُكَفّرْهَا، وَليَأْتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ». أخرجه مسلم (3).
الرابع: نذر المعصية:
وهو نذر فعل محرم، كأن يقول: لله علي أن أقتل فلان، أو لله علي أن أشرب الخمر، أو أصوم يوم العيد، أو أصلي بلا وضوء ونحو ذلك.
فهذا النذر محرم ولا يصح، ويحرم الوفاء به، وعليه أن يكفِّر عنه كفارة
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (6696).
(2) أخرجه مسلم برقم (1645).
(3) أخرجه مسلم برقم (1651).

(5/274)


يمين.
1 - عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ العَبْدُ». أخرجه مسلم (1).
2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ نَذرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». أخرجه أبو داود والترمذي (2).
الخامس: نذر اللجاج والغضب:
وهو أن يعلق نذره بشرط بقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق، أو التكذيب، كأن يقول: إن كلمت فلاناً فلله علي صيام شهر، أو يقول: إن لم أفعل كذا فما لي كله هبة، أو عبيدي أحرار، أو يقول مؤكداً لِصِدقه: لله علي إن كان كلامي كذباً أن أصوم شهراً، أو يكذِّب أحداً ويقول: إن كان ما تقوله صدقاً فعبيدي أحرار.
فهذا النذر بمعنى اليمين، إن شاء فَعَل ما نذر، وإن شاء كفَّر عنه كفارة يمين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَفّارَةُ النّذْرِ كَفّارَةُ اليَمِينِ». أخرجه مسلم (3).
السادس: النذر المطلق:
وهو النذر الذي لم يعيَّن فيه شيء، كأن يقول: لله علي نذر، ولم يسم شيئاً.
فهذا الناذر تلزمه كفارة يمين، ويتحلل مِنْ نذره.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَفّارَةُ النّذْرِ كَفّارَةُ
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1641).
(2) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3290) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (1525).
(3) أخرجه مسلم برقم (1645).

(5/275)


اليَمِينِ». أخرجه مسلم (1).

3 - أحكام النذر
- أنواع النذر:
النذر من حيث صفته نوعان:
الأول: نذر إنشائي، ويسمى النذر المطلق، كأن يقول مثلاً: لله علي أن أنحر بدنة وأطعمها الفقراء، أو يقول: لله علي أن أصوم شهراً، أو أتصدق بكذا، فهذا النذر عبادة، وقد مدح الله الموفين به.
الثاني: نذر معلق أو مقيد بمصلحة للناذر، كقوله: لله علي كذا إن شفى الله مرضي، أو ربح مالي، أو قدم أخي، فهذا النذر مكروه كما سبق.
- حكم النذر فيما يشق على الإنسان:
يكره النذر في كل ما يشق على الإنسان من الأعمال والطاعات.
فمن نذر نذراً لا يطيقه، ويلحقه به مشقة كبيرة، كمن نذر أن يقوم الليل كله، أو يصوم الدهر كله، أو يتصدق بماله كله، أو يحج ماشياً ونحو ذلك.
فهذا لا يجب عليه الوفاء بهذا النذر، وعليه كفارة يمين.
1 - قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16].
2 - وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ
نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ». متفق عليه (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1645).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6047) , ومسلم برقم (110)، واللفظ له.

(5/276)


3 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَ شَيْخاً يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ، يَتَوَكّأُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا شَأْنُ هَذَا؟» قَالَ ابْنَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ، فَقَالَ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ارْكَبْ أَيّهَا الشّيْخُ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ». أخرجه مسلم (1).
- حكم الحنث في اليمين:
إذا خالف الحالف مقتضى اليمين بفعل ما حلف على تركه، أو تَرْك ما حلف على فعله، فقد حنث.
ويختلف حكم الحنث باختلاف الفعل المحلوف عليه كما يلي:
1 - إذا حلف على ترك واجب كالصلاة، أو فعل محرم كالزنا.
فهذا يجب عليه أن يفعل الواجب، ويترك المحرم، ويكفِّر عن يمينه.
2 - إذا حلف على ترك مستحب كالسواك، أو فعل مكروه كالتخصر في الصلاة.
فهذا يستحب له أن يفعل المستحب، ويترك المكروه، ويكفِّر عن يمينه.
3 - إذا حلف أن يفعل الواجب كأن يصل رحمه، أو يترك المحرم كالزنا.
فهذا يحرم عليه الحنث.
4 - إذا حلف على فعل مستحب، أو ترك مكروه، كما لو حلف أن يغتسل يوم الجمعة، فهذا يكره له الحنث، فيبر بيمينه.
5 - إذا حلف على فعل مباح أو تركه، كما لو حلف أن يشتري هذه السيارة مثلاً.
فهذا مخير، إن شاء حنث فلا يشتريها، وعليه كفارة يمين، وإن شاء اشتراها، والأوْلى أن يفعل الأحسن والأنفع له.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1643).

(5/277)


- حكم من عجز عن الوفاء بالنذر:
من نذر فعل طاعة من صلاة أو صدقة أو صيام ونحو ذلك، ثم عجز عن الوفاء بما نذر لكبر أو مرض فإن كان يرجى زوال عجزه انتظر زواله، وإن كان لا يرجى زواله فلا يلزمه الوفاء به؛ لعجزه، وعليه كفارة يمين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَفّارَةُ النّذْرِ كَفّارَةُ اليَمِينِ». أخرجه مسلم (1).
- حكم من خلط في نذره طاعة ومعصية ومشقة:
من خلط في نذره طاعة بمعصية أو مشقة، لزمه فعل الطاعة، وترك المعصية والمشقة، ولا كفارة عليه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَألَ عَنْهُ فَقَالُوا: أبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهُ فَليَتَكَلَّمْ وَليَسْتَظِلَّ وَليَقْعُدْ، وَليُتِمَّ صَوْمَهُ». أخرجه البخاري (2).
- حكم من نذر أن يصوم أياماً فوافق يوم عيد:
من نذر أن يصوم أياماً فوافق ذلك يوم عيد الفطر أو الأضحى، فلا يجوز له صوم يوم العيد، ولا كفارة عليه.
عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَسَألَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَذَرْتُ أنْ أصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاثَاءَ أوْ أرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا اليَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: أمَرَ اللهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، لا يَزِيدُ
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (1645).
(2) أخرجه البخاري برقم (6704).

(5/278)


عَلَيْهِ. متفق عليه (1).
- مصرف النذر:
مصرف النذر بحسب نية صاحبه في حدود الشرع، فإن نوى بالمنذور من طعام أو غيره الفقراء فلا يجوز أن يأكل منه، وإن نوى بنذره أهل بيته، أو رفقته، أو أصحابه، جاز له أن يأكل كواحد منهم.
- حكم من نذر ثم مات:
من نذر نذراً، ثم مات قبل أن يقضيه: فإن تمكن من القضاء ولم يقضه، قضاه عنه وليه إن كان مما تدخله النيابة كالصوم، والصدقة ونحوهما كالحج، والعمرة.
وإن لم يتمكن من القضاء حتى مات، فلا قضاء عليه ولا كفارة.
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمّهِ، تُوُفّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَاقْضِهِ عَنْهَا». متفق عليه (2).
- حكم النذر لغير الله:
النذر عبادة من العبادات، فلا يجوز صرفه لغير الله؛ لأنه يتضمن تعظيم
المنذور له، والتقرب إليه بالمنذور، فمن نذر لغير الله من قبر، أو صنم، أو مَلَك، أو نبي، أو ولي، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، وارتكب محرماً عظيماً، ووَضَع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وهو الله عز وجل المستحق للعبادة وحده.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6706) , واللفظ له، ومسلم برقم (1139).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6698) , ومسلم برقم (1638)، واللفظ له.

(5/279)


وهذا النذر باطل يحرم الوفاء به، ولا ينعقد.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163].
- حكم من نذر ثم جُنَّ:
إذا نذر الإنسان نذراً معيناً بيوم أو شهر، ثم جُنَّ قبل أن يصل ذلك اليوم فلا قضاء عليه بالنسبة للعبادات البدنية؛ لأنه مرفوع عنه القلم.
وأما العبادات المالية كالصدقة فيلزم أهله إخراجها من ماله؛ لأنها متعلقة بالمال لا بصاحبه، فلو قال: إن قدم زيد فعلي أن أتصدق بكذا، فقدم زيد وهو مجنون فتلزمه.
- حكم تعليق النذر بالمشيئة:
إذا علق النذر بالمشيئة كأن يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا إن شاء الله تعالى.
ففي النذر الذي حكمه حكم اليمين ليس عليه حنث.
وإن نذر فعل طاعة، فإن كان قصده التعليق فلا شيء عليه، وإن كان قصده التحقيق أو التبرك، وجب عليه أن يفعل حسب نيته.

(5/280)