الموسوعة الفقهية الدرر السنية

5 - الصيام
• الباب الأول: تعريف الصيام وأركانه وحكمه وفضائله وأقسامه وشروطه وآدابه.
• الباب الثاني: شهر رمضان فضائله، خصائصه، حكم صومه، طرق إثبات دخوله وخروجه.
• الباب الثالث: من يُباح لهم الفطر.
• الباب الرابع: مفسدات الصيام وما يكره للصائم وما يباح له.
• الباب الخامس: ما يُستحبُّ صومه وما يكره وما يحرم.
• الباب السادس: أحكام عامة في القضاء.
• الباب السابع: قيام رمضان (التراويح).
• الباب الثامن: أحكام الاعتكاف.


الباب الأول: تعريف الصيام وأركانه وحكمه وفضائله وأقسامه وشروطه وآدابه
• الفصل الأول: تعريف الصيام وأركانه.
• الفصل الثاني: الحكمة من تشريع الصيام.
• الفصل الثالث: فضائل الصيام.
• الفصل الرابع: أقسام الصيام.
• الفصل الخامس: شروط وجوب الصوم، والنية في الصوم.
• الفصل السادس: آداب الصيام.


الفصل الأول: تعريف الصيام وأركانه
• تمهيد.
• المبحث الأول: الركن الأول: الإمساك عن المفطِّرات.
• المبحث الثاني: الركن الثاني: استيعاب زمن الإمساك.


تمهيد
تعريف الصيام لغةً واصطلاحاً
أصل الصيام في اللغة: الإمساك (1).
وأما الصيام اصطلاحاً فهو: التعبُّدُ لله سبحانه وتعالى، بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطِّرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (2).
وتنقسم أركان الصيام إلى ركنين:
1 - الإمساك عن المفطِّرات.
2 - استيعاب زمن الإمساك.
_________
(1) قال الأزهري: (الصوم في اللغة: الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم؛ لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح) ((تهذيب اللغة)) (مادة: صوم)، وانظر ((معجم مقاييس اللغة لابن فارس)).
(2) ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 298).


المبحث الأول: الركن الأول: الإمساك عن المفطِّرات
يجب على الصائم أن يمتنع عن كل ما يبطل صومه من سائر المفطِّرات، كالأكل والشرب والجماع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]
فقوله سبحانه: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ أي: إذا طلع الفجر فأمسكوا عن المفطرات إِلَى الَّليْلِ وهو غروب الشمس (1).
ثانياً: من السنة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بلالاً يؤذِّن بليلٍ فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم))، وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقال له: أصبحت أصبحت. أخرجه البخاري ومسلم (2).
وجه الدلالة:
أنَّ السماح بالأكل والشرب وسائر المفطِّرات للصائم، له غايةٌ ينتهي إليها وذلك بأذان الفجر- الذي هو علامة على دخول وقت الفجر الثاني- فمتى دخل هذا الوقت، وجب على الصائم أن يمتنع عن الأكل والشرب وعن جميع المفطِّرات.
ثالثاً: الإجماع:
لا خلاف بين أهل العلم في أن حقيقة الصيام لا تتحقق إلا بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن حزم (3)، وابن عبد البر (4)، وابن تيمية (5).
_________
(1) ((تيسير الكريم الرحمن للسعدي، بتصرف)) (1/ 87).
(2) رواه البخاري (2656)، ومسلم (1092).
(3) ((مراتب الإجماع)) (ص 39).
(4) ((التمهيد)) (19/ 53).
(5) قال ابن تيمية: (ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 246).


المطلب الأول: بداية زمن الإمساك
يبدأ زمن الإمساك عن المفطِّرات من دخول الفجر الثاني (1)، وذهب إلى هذا عامة أهل العلم (2).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد بقوله: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار)). أخرجه البخاري ومسلم (3).
وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: ((أنزلت وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ، فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار)). أخرجه البخاري ومسلم (4).
والمراد هنا بالخيط الأبيض هو: المعترض في الأفق، لا الذي هو كذَنَب السرحان - الذي يكون عمودياً في السماء - فإنه الفجر الكاذب، الذي لا يُحلُّ شيئاً، ولا يُحرِّمه.
والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل.
والتبيُّن: أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر (5).
ثانياً: من السنة:
1 - عن عائشة رضي الله عنها أن بلالاً كان يؤذِّن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)). أخرجه البخاري ومسلم (6).
2 - عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفجر فجران: فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام)) (7).
_________
(1) الفجر فجران: فجر صادق، وفجر كاذب. وهناك فروق بينهما، وهي: 1 - الفجر الكاذب: يكون مستطيلاً في السماء، ليس عرضاً ولكن طولاً، وأما الفجر الصادق: فيكون عرضاً، يمتد من الشمال إلى الجنوب. 2 - الفجر الصادق: لا ظلمة بعده بل يزداد فيه الضياء حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الكاذب: فإنه يحدث بعد ضيائه ظلمة؛ ولهذا سمي كاذباً؛ لأنه يضمحل ويزول. 3 - الفجر الصادق: متصل بالأفق، أما الفجر الكاذب: فبينه وبين الأفق ظلمة. ((لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين)) (اللقاء الثاني والستون/ ص34).
(2) قال ابن قدامة: (والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، روي معنى ذلك عن عمر، وابن عباس، وبه قال عطاء، وعوام أهل العلم) ((المغني)) (3/ 4). وقد حكاه بعضهم إجماعاً، واعتبروا خلاف هذا القول شذوذاً. قال ابن عبد البر: (والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين فلا وجه للكلام فيه) ((التمهيد)) (10/ 62).
(3) رواه البخاري (1916)، ومسلم (1090).
(4) رواه البخاري (1917)، ومسلم (1091).
(5) ((فتح القدير للشوكاني)) (1/ 186).
(6) رواه البخاري (1918)، ومسلم (1092).
(7) رواه الحاكم (1/ 304)، والبيهقي (1/ 377) (1642). قال الحاكم: إسناده صحيح، وقال البيهقي: هكذا روي بهذا الإسناد موصولاً وروي مرسلاً وهو أصح، وصححه محمد جار الله في ((النوافح العطرة)) (218)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4278).


المطلب الثاني: نهاية زمن الإمساك
الفرع الأول: متى ينتهي زمن الإمساك
ينتهي وقت الإمساك بغروب الشمس.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]
ففي هذا التصريح بأن للصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق، وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم، ويحلُّ له الأكل، والشرب وغيرهما (1).
ثانياً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
ثالثاً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على أن وقت صيام اليوم ينتهي بغروب شمسه، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن حزم (3)، وابن عبدالبر (4)، والنووي (5).
الفرع الثاني: إذا أفطر الصائم ثم أقلعت الطائرة به، فرأى الشمس لم تغرب
من أفطر بالبلد ثم أقلعت الطائرة به، أو أفطر في الطائرة قبل ارتفاعها، وذلك بعد انتهاء النهار، ثم رأى الشمس بعد ارتفاع الطائرة في الجو، فإنه يستمر مفطرا (6)، وبه أفتى عبدالرزاق عفيفي (7)، وابن باز (8)، وابن عثيمين (9).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]
أي: إلى غروب الشمس.
ثانياً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم)). أخرجه البخاري ومسلم (10).
وجه الدلالة:
أنَّ الشارع الحكيم قد علَّق الإمساك بتبين دخول وقت الفجر الثاني، وعلق الإفطار بغروب الشمس، فمتى رأى الصائم من مكانه الذي هو فيه أن الشمس قد غربت أفطر، وإلا فلا (11).
الفرع الثالث: هل العبرة للصائم برؤية الشمس وهو في الطائرة أم بدخول وقت الإفطار في البلد القريب منها أو المحاذي لها
من سافر بالطائرة وهو صائمٌ، ثم اطَّلع بواسطة الساعة أو غيرهاوالتلفزيون على أن وقت إفطار البلد الذي سافر منه أو البلد القريبة منه في سفره، قد دخل، لكنه يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة، فليس له أن يفطر إلا بعد غروبها.
_________
(1) ((فتح القدير للشوكاني، بتصرف)) (1/ 186).
(2) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
(3) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)).
(4) قال ابن عبد البر: (والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس على هذا إجماع علماء المسلمين فلا وجه للكلام فيه) ((التمهيد)) (10/ 62).
(5) قال النووي: (ينقضي الصوم ويتم بغروب الشمس بإجماع المسلمين) ((المجموع)) (6/ 310).
(6) وذلك لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها.
(7) قال عبد الرزاق عفيفي: (إذا غابت الشمس في الأرض فإن الصائم يفطر، فإذا ارتفعت الطائرة في الفضاء، فرأى الشمس لم تغرب استمر على فطره .. ) ((فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي)) (ص 168).
(8) قال ابن باز: ( .. إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء النهار في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطراً) ((مجلة البحوث الإسلامية)) (16/ 130).
(9) قال ابن عثيمين: (مسألة: رجل غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر وطارت به الطائرة ثم رأى الشمس. نقول: لا يلزم أن يمسك؛ لأن النهار في حقه انتهى، والشمس لم تطلع عليه بل هو طلع عليها .. ) ((الشرح الممتع)) (6/ 397)، وانظر ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 331 - 334).
(10) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
(11) قال ابن باز: (لكل صائم حكم المكان الذي هو فيه، سواء كان على سطح الأرض أم كان على طائرة في الجو) ((مجلة البحوث الإسلامية)) (14/ 125).


وبه أفتى عبد الرزاق عفيفي (1)، وابن باز (2)، وابن عثيمين (3)، (4).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].
أي: إلى غروب الشمس.
ثانياً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم)). أخرجه البخاري ومسلم (5).
وجه الدلالة:
أن الشارع الحكيم قد علَّق الإمساك بتبين دخول وقت الفجر الثاني، وعلق الإفطار بغروب الشمس، فمتى رأى الصائم من مكانه الذي هو فيه أن الشمس قد غربت أفطر، وإلا فلا (6).
الفرع الرابع: وقت الفطر في البلاد التي يطول فيها النهار
يجب على الصائم الإمساك من حين طلوع الفجر حتى تغرب الشمس في أي مكان كان من الأرض، سواء طال النهار أم قصر، أم تساويا، ما دام هو في أرض فيها ليل ونهار يتعاقبان خلال أربع وعشرين ساعة.
لكن لو شقَّ الصوم في الأيام الطويلة مشقة غير محتملة ويخشى منها الضرر أو حدوث مرض، فإنه يجوز الفطر حينئذ، ويقضي في أيام أُخر يتمكن فيها من القضاء.
وبهذا أفتى ابن باز (7)، وابن عثيمين (8)، وغيرهما، وهو قرار المجمع الفقهي الإسلامي (9).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل [البقرة:187]
ثانياً: من السنة:
_________
(1) قال عبد الرزاق عفيفي: ( .. أما إذا ارتفعت الطائرة قبل الغروب فإنه يستمر صائماً حتى تغيب الشمس في الطائرة). ((فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي)) (ص 168).
(2) قال ابن باز: (إذا أقلعت الطائرة من الرياض مثلاً قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب فإنك لا تزال صائماً حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد قد غابت فيها الشمس) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 293 - 322)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (16/ 130).
(3) قال ابن عثيمين: (الناس الذين على الجبال أو في السهول والعمارات الشاهقة، كل منهم له حكمه، فمن غابت عنه الشمس حل له الفطر، ومن لا فلا) ((الشرح الممتع)) (6/ 398) وانظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 331).
(4) وقال الكاساني: (وحكي عن أبي عبد الله بن أبي موسى الضرير أنه استفتي في أهل إسكندرية أن الشمس تغرب بها ومن على منارتها يرى الشمس بعد ذلك بزمان كثير. فقال: يحل لأهل البلد الفطر ولا يحل لمن على رأس المنارة إذا كان يرى غروب الشمس؛ لأن مغرب الشمس يختلف كما يختلف مطلعها، فيعتبر في أهل كل موضع مغربه) ((بدائع الصنائع)) (2/ 83).
(5) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
(6) قال ابن باز: (لكل صائم حكم المكان الذي هو فيه، سواء كان على سطح الأرض أم كان على طائرة في الجو) ((مجلة البحوث الإسلامية)) (14/ 125).
(7) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 293 - 300).
(8) قال ابن عثيمين: (من كان في بلد فيه ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة لزمه صيام النهار وإن طال، إلا أن يشق عليه مشقة غير محتملة يخشى منها الضرر، أو حدوث مرض فله الفطر وتأخير الصيام إلى زمن يقصر فيه النهار) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 308 - 309).
(9) ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي)) (1/ 46). قرار رقم: 46 (6/ 9) بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية.


1 - عن عائشة رضي الله عنها أن بلالاً كان يؤذِّن بليلٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)). أخرجه البخاري ومسلم (1).
2 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
ففي هذه الآية الكريمة والحديثين الشريفين دليلٌ ظاهرٌ على وجوب الإمساك على الصائم من حين طلوع الفجر الثاني حتى غروب الشمس، فهو حكمٌ عام، سواء طال النهار أم قصر، أم تساويا، ما دام أنه في أرضٍ فيها ليلٌ ونهارٌ يتعاقبان خلال أربع وعشرين ساعة.
الفرع الخامس: كيفية تحديد بداية الإمساك ونهايته في البلاد التي لا يتعاقب فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة
من كان في بلدٍ لا يتعاقب فيه الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة كبلد يكون نهارها مثلاً: يومين، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو أكثر من ذلك، فإنه يقدر للنهار قدره، ولليل قدره اعتماداً على أقرب بلدٍ منها بحيث يكون مجموع كلٍّ من الليل والنهار 24 ساعة (3).
وبهذا أفتى ابن باز (4)، وابن عثيمين (5)، وغيرهما، وهو ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي (6).
الدليل:
القياس:
قياساً على التقدير الوارد في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، حيث قال: ((ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ..... إلى أن قال: قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟
قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم.
قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره)). أخرجه مسلم (7).
وجه الدلالة:
أنه لم يعتبر اليوم الذي كسنة يوماً واحداً تكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب خمس صلواتٍ في كل أربعٍ وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتباراً بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي. وكذلك الحال مع الصيام - على ما سبق بيانه - إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة.
وأما كون هذا التقدير مبنياً على أقرب بلدٍ منهم، يكون فيه ليلٌ ونهارٌ يتعاقبان في أربعٍ وعشرين ساعة؛ فلأن إلحاق البلد في جغرافيته بما هو أقرب إليه أولى من إلحاقه بالبعيد؛ لأنه أقرب شبهاً به من غيره.
_________
(1) رواه البخاري (1918)، ومسلم (1092).
(2) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
(3) وكيفية التقدير: أن تُحسب مدة الليل والنهار اعتمادا على أقرب بلد منهم، يكون فيه ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة.
(4) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 293 - 300).
(5) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 308 - 309).
(6) ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي)) (1/ 46)، قرار رقم: 46 (6/ 9) بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية.
(7) رواه مسلم (2937).


الفصل الثاني: الحكمة من تشريع الصيام
لما كانت مصالح الصوم مشهودةً بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده؛ رحمةً بهم؛ وإحسانا إليهم؛ وحميةً لهم وجُنَّةً (1).
فالصيام له حِكَمٌ عظيمةٌ، وفوائدُ جليلةٌ، ومنها:
1 - أن الصوم وسيلةٌ لتحقيق تقوى الله عز وجل:
فالصائم الذي امتنع عن الحلال في غير نهار رمضان، بإمكانه كذلك أن يمتنع عن الحرام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]
2 - إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه:
فإنَّ إلف النعم يُفقد الإنسانَ الإحساسَ بقيمتها، فإذا ذاق ألم فقدها حال الصوم، ذكر نعمة الله عليه بوجودها وتيسيرها له حال الفطر، فشكر نعمة ربه وقام بحقه (2).
3 - تربية النفس على الإرادة، وقوة التحمل:
فالصوم يهذب النفس، ويضبطها، حيث يحبس النفس عن الشهوات ويفطمها عن المألوفات، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)). أخرجه البخاري ومسلم (3) (4).
4 - في الصوم قهرٌ للشيطان:
فإن وسيلته إلى الإضلال والإغواء: الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب. والصوم يضيِّق مجاري الدم، فتضيق مجاري الشيطان، فيُقهر بذلك، فعن صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (5))). أخرجه البخاري ومسلم (6).
5 - الصوم موجبٌ للرحمة والعطف على المساكين:
فإن الصائم إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، تذكَّرَ مَنْ هذا حالُهُ في جميع الأوقات، فتُسرِعُ إليه الرقة، والرحمة، والإحسان إلى المحتاجين (7).
6 - الصوم يطهِّر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحةً وقوةً:
كما شهد بذلك الأطباء المختصون، فعالجوا مرضاهم بالصيام (8).
وهذه الفوائد وغيرها هي بعض ما يدركه عقل الإنسان المحدود من هذه العبادة العظيمة، وذلك حين تُؤدَّى على وجهها المشروع.
_________
(1) ((زاد المعاد لابن القيم)) (2/ 28).
(2) ((فقه الدليل لعبد الله الفوزان)) (3/ 169).
(3) رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).
(4) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 497). قال الكمال ابن الهمام: ( .. شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً شيئين أحدهما عن الآخر: سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج فإن به تضعف حركتها في محسوساتها؛ ولذا قيل إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها)) ((فتح القدير)) (2/ 300).
(5) قال ابن رجب: (الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان) ((لطائف المعارف)) (ص 291)، وانظر ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (28/ 9).
(6) رواه البخاري (2039)، ومسلم (2175).
(7) ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (28/ 9). قال الكمال ابن الهمام: (ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه والرحمة) ((فتح القدير)) (2/ 301).
(8) ((فقه الدليل لعبد الله الفوزان)) (3/ 169). وقال ابن القيم: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات) ((زاد المعاد)) (2/ 29). وانظر تفصيل ذلك في: ((فقه الصوم وفضل رمضان لسيد العفاني)) (1/ 771 - 880).


الفصل الثالث: فضائل الصيام
للصيام فضائلُ كثيرةٌ شهدت بها نصوص الوحيين، ومنها:
1 - أن الصوم لا مثل له:
فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قلت: ((يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به، قال: عليك بالصيام فإنه لا مثل له (1))) (2).
2 - أن الله تبارك وتعالى أضافه إليه:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به .. )). أخرجه البخاري ومسلم (3).
فجعل الله سبحانه الصوم له، والمعنى أن الصيام يختصه الله سبحانه وتعالى من بين سائر الأعمال؛ لأنه أعظم العبادات إطلاقاً؛ فإنه سر بين الإنسان وربه؛ فالإنسان لا يُعلم هل هو صائمٌ أم مفطرٌ؛ إذ نيته باطنة؛ فلذلك كان أعظم إخلاصاً؛ فاختصه الله سبحانه من بين سائر الأعمال تعظيماً لقدره.
3 - تجتمع في الصوم أنواع الصبر الثلاثة:
وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقداره سبحانه وتعالى.
فهو صبرٌ على طاعة الله؛ لأن الإنسان يصبر على هذه الطاعة ويفعلها.
وعن معصية الله سبحانه؛ لأنه يتجنب ما يحرم على الصائم.
وعلى أقدار الله تعالى؛ لأن الصائم يصيبه ألمٌ بالعطش والجوع والكسل وضعف النفس؛ فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامعٌ بين الأنواع الثلاثة، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] (4).
4 - الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة:
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان)) (5).
أي يشفعهما الله فيه ويدخله الجنة.
5 - الصوم من الأعمال التي وعد الله تعالى فاعلها بالمغفرة والأجر العظيم:
_________
(1) قال المناوي: (إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة) ((فيض القدير)) (4/ 435). وقال السندي: (فإنه لا مثل له في كسر الشهوة ودفع النفس الأمارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب .. ويحتمل أن المراد بالصوم كف النفس عما لا يليق وهو التقوى كلها، وقد قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ((حاشية السندي على النسائي)) (4/ 474).
(2) رواه أحمد (5/ 249) (22203)، والنسائي (4/ 165)، والبيهقي (4/ 301) (8743). وقال: له متابعة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(3) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
(4) ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 458).
(5) رواه أحمد (2/ 174) (6626)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (3/ 181)، والحاكم (1/ 740، رقم 2036) والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 346، رقم 1994). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 107): رجاله محتج بهم في الصحيح، وقال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح. وقال في (10/ 381): رواه أحمد، وإسناده حسن على ضعفٍ في ابن لهيعة وقد وُثِّق.


قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]
6 - الصيام كفارةٌ للذنوب والخطايا:
ففي قصة عمر مع حذيفة رضي الله عنهما في الفتن التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفِّرها: الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي)). رواه البخاري (1)، وفي لفظ: ((والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). رواه البخاري ومسلم (2).
7 - الصوم جُنةٌ وحِصنٌ من النار:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام جُنة)) (3).
وقد ذكر بعض العلماء أن الصوم إنما كان جُنةً من النار؛ لأنه إمساكٌ عن الشهوات والنار محفوفةٌ بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة (4).
2 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام يوماً في سبيل الله، بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)). أخرجه البخاري ومسلم (5).
وقوله: ((سبعين خريفاً)): أي سبعين سنة (6).
ورجح بعض أهل العلم أن المقصود بالصوم في سبيل الله: الصوم في الجهاد، ومنهم النووي (7)، وابن دقيق العيد (8)، وابن عثيمين (9).
8 - الصوم سببٌ لدخول الجنة:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان (10)، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد)). أخرجه البخاري ومسلم (11).
وفي رواية للبخاري: ((في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون)) (12).
9 - للصائم فرحتان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( .. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)). أخرجه البخاري ومسلم (13).
_________
(1) رواه البخاري (525).
(2) رواه البخاري (3586)، ومسلم (144).
(3) رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
(4) ((فتح الباري لابن حجر)) (4/ 104).
(5) رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153).
(6) ((شرح النووي على مسلم)) (8/ 33)، ((شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)) (3/ 402).
(7) قال النووي: (فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه) ((شرح مسلم)) (8/ 33).
(8) ((إحكام الأحكام)) (ص 290).
(9) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 402).
(10) قال ابن حجر: (الريان بفتح الراء وتشديد التحتانية وزن فعلان من الري: اسم علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين ... قال القرطبي: اكتفي بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع) ((فتح الباري)) (4/ 111).
(11) رواه البخاري (1896)، ومسلم (1152).
(12) رواه البخاري (3257).
(13) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1151).


قيل معناه: فرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعي وهو السابق للفهم. وقيل أن فرحه بفطره من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه (1).
وقوله: وإذا لقي ربه فرح بصومه، أي بجزائه وثوابه وقيل الفرح الذي عند لقاء ربه إما لسروره بربه أو بثواب ربه، على الاحتمالين (2).
10 - خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( .. والَّذي نَفْسُ محمد بيده لخلوفُ (3) فم الصَّائم أطيب عند الله من ريح المسك .. )). أخرجه البخاري ومسلم (4).
قال بعض أهل العلم في شرح ذلك: لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له, وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله (5).
11 - الصوم يزيل الأحقاد والضغائن:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَرَ الصدر)) (6).
ووَحَرَ الصدر: أي غشه أو حقده أو غيظه أو نفاقه بحيث لا يبقى فيه رين أو العداوة أو أشد الغضب (7).
12 - جعل الله تعالى الصيام من الكفارات لعظم أجره:
وذلك مثل: كفارة فدية الأذى، قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ .. [البقرة: 196]
وكفارة القتل الخطأ، قال تعالى: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .. [النساء: 92]
وكفارة اليمين، قال تعالى: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .. [المائدة: 89]
... إلى غير ذلك من الكفارات.
_________
(1) قال ابن حجر: (ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر، ففرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك فمنهم من يكون فرحه مباحاً وهو الطبيعي ومنهم من يكون مستحباً ... ) ((فتح الباري)) (4/ 118).
(2) ((فتح الباري)) (4/ 118).
(3) قال ابن عبدالبر: (وخلوف فم الصائم ما يعتريه في آخر النهار من التغير وأكثر ذلك في شدة الحر. ومعنى قوله: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ يريد أزكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك) ((التمهيد)) (19/ 57).
(4) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
(5) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 200).
(6) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد للهيثمي)) (3/ 199)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 134). وقال هو والهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وحسن إسناده ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 408).
(7) ((فيض القدير للمناوي)) (4/ 278)، ((النهاية لابن الأثير)) (مادة: وحر).


الفصل الرابع: أقسام الصيام
تمهيد:
ينقسم الصوم باعتبار كونه مأموراً به، أو منهياً عنه شرعاً، إلى قسمين:
صوم مأمور به شرعاً.
صوم منهي عنه شرعاً.
المبحث الأول: الصوم المأمور به شرعاً
وهو قسمان:
صوم واجب.
صوم مستحب.
المطلب الأول: الصوم الواجب
وهو على نوعين:
واجب بأصل الشرع - أي بغير سبب من المكلَّف-: وهو صوم شهر رمضان (1).
واجب بسبب من المكلَّف: وهو صوم النذر، والكفارات، والقضاء.
المطلب الثاني: الصوم المستحب (صوم التطوع)
وهو قسمان:
صوم التطوع المطلق: وهو ما جاء في النصوص غير مقيد بزمن معين (2).
صوم التطوع المقيَّد: وهو ما جاء في النصوص مقيداً بزمن معين، كصوم الست من شوال، ويومي الاثنين والخميس، ويوم عرفة، ويومي تاسوعاء وعاشوراء.
المبحث الثاني: الصوم المنهي عنه شرعاً
وهو قسمان:
صوم محرم: وذلك مثل صوم يومي العيدين، وصوم يوم الشك.
صوم مكروه: وذلك مثل صوم الوصال (3)، وصوم يوم عرفة للحاج.
_________
(1) قال ابن عبد البر: (وأجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان) ((التمهيد)) (22/ 148). وقال النووي: (لا يجب صوم غير رمضان بأصل الشرع بالإجماع) ((المجموع)) (6/ 248).
(2) فيستحب أداؤه في كل وقت، إلا الأوقات المنهي عنها. ((الفتاوى الهندية)) (1/ 113).
(3) قال ابن قدامة: (وهو – أي الوصال - أن لا يفطر بين اليومين بأكلٍ ولا شربٍ وهو مكروهٌ في قول أكثر أهل العلم) ((المغني)) (3/ 55).


تمهيد
يجب الصوم أداءً على من جمع ستة أوصاف، وهي:
1 - الإسلام.
2 - البلوغ.
3 - العقل.
4 - القدرة.
5 - الإقامة.
6 - عدم الحيض والنفاس.


المطلب الأول: الإسلام
تمهيد
يشترط لوجوب الصوم: الإسلام، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم (1).
والإسلام ضده الكفر؛ فالكافر لا يُلزَم بالصوم ولا يصح منه.
الأدلة:
1 - قوله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]
وجه الدلالة: أنه إذا كانت النفقات لا تقبل منهم لكفرهم مع أن نفعها متعدٍّ، فالعبادات الخاصة أولى ألَّا تقبل منهم، والصوم من العبادات الخاصة، فلا يُقبَل من كافر.
2 - قوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23]
أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برٍّ عند أنفسهم، فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً أي لا يُنتفَعُ به؛ حيث أبطلناه بالكفر (2).
الفرع الأول: إسلام الكافر الأصلي (غير المرتد)
المسألة الأولى: إذا أسلم الكافر الأصلي، فهل عليه قضاء ما فاته من الصيام الواجب زمن كفره؟
إذا أسلم الكافر الأصلي (أي غير المرتد)، فلا يلزمه قضاء ما فاته من الصيام الواجب زمن كفره، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن تيمية (3).
الأدلة:
أولا: من الكتاب:
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (4) [الأنفال: 38]
ثانيا: من السنة:
1 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال عمرو: فقبضت يدي. قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط.
قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟)). أخرجه مسلم (5).
2 - وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يأمر من أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات.
المسألة الثانية: إذا أسلم الكافر أثناء شهر رمضان، فهل يلزمه قضاء الأيام الماضية من رمضان؟
_________
(1) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع))، وانظر ((المحلى)) (6/ 160).
(2) ((تفسير القرطبي)) (13/ 21 - 22)، وانظر ((تفسير الطبري)) (19/ 256 - 257). قال ابن كثير: (فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فُرِضَ أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *الفرقان: 23*، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا *النور: 39*) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 385).
(3) قال ابن تيمية: (لا يقضي الكافر إذا أسلم، ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء) ((مجموع الفتاوى)) (22/ 46).
(4) قال النووي: (فإن أسلم لم يجب عليه القضاء؛ لقوله تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف؛ ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام) ((المجموع)) (6/ 252).
(5) رواه مسلم (121).


إذا أسلم الكافر أثناء شهر رمضان فلا يلزمه قضاء الأيام الماضية من رمضان (1)، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة (2): الحنفية (3)، والمالكية (4) والأصح عند الشافعية (5)، ومذهب الحنابلة (6)، (7).
الدليل:
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]
المسألة الثالثة: إذا أسلم الكافر أثناء شهر رمضان، فعليه أن يصوم ما بقي من الشهر
إذا أسلم الكافر في أثناء شهر رمضان، فعليه أن يصوم ما بقي من الشهر، بغير خلاف (8).
وذلك لأنه صار من أهل الوجوب، فيلزمه الصوم (9)
المسألة الرابعة: إذا أسلم الكافر أثناء يوم من رمضان، فإنه يلزمه إمساك بقية اليوم
_________
(1) وذلك لأنه لا يوجه إليه الأمر بالصيام حينها، فلم يكن من أهل وجوب الصيام، وعليه فلا يلزمه قضاؤه.
(2) قال القرطبي: (وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الإمام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه) ((الجامع لأحكام القرآن للقرطبي)) (2/ 300). وقال المرداوي: (لو أسلم الكافر الأصلي في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما سبق منه بلا خلاف عند الأئمة الأربعة) ((الإنصاف)) (3/ 282).
(3) ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 74)، ((الهداية للمرغيناني)) (1/ 127 - 128).
(4) ([86] ((الذخيرة للقرافي)) (2/ 495) ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 413).
(5) ((المجموع للنووي)) (6/ 252).
(6) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 46)، ((الفروع لابن مفلح)) (4/ 429). قال ابن قدامة: (وبهذا قال الشعبي وقتادة ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي) ((المغني)) (3/ 46).
(7) نقل ابن المنذر هذا القول عن: الشعبي وقتادة ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ((الإشراف)) (3/ 137).
(8) قال الشوكاني: (( ... الحديث الأول يدل على وجوب الصيام على من أسلم في رمضان، ولا أعلم فيه خلافا) ((نيل الأوطار)) (4/ 200).
(9) قال الماوردي: (أما الكافر إذا أسلم في أيام من شهر رمضان، فعليه صيام ما بقي؛ لقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) *البقرة: 185* ((الحاوي الكبير)) (3/ 462).


إذا أسلم الكافر أثناء يوم من رمضان، فإنه يلزمه إمساك بقية اليوم (1)، ولا يجب عليه قضاؤه (2)، (3)، وهو مذهب الحنفية (4)، واختاره ابن عثيمين (5).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]
وجه الدلالة: أن الكافر بإسلامه صار من أهل الشهادة للشهر، فوجب عليه الإمساك.
ثانياً: من السنة:
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: ((أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أنْ أذِّن في الناس أنَّ من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء)). أخرجه البخاري ومسلم (6).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضي الله عنهم بالإمساك نهاراً، ولم يأمرهم بالقضاء، وذلك لما أوجب الله عز وجل صوم يوم عاشوراء في أول الأمر.
الفرع الثاني: إسلام الكافر المرتد
المسألة الأولى: إذا أسلم المرتد فليس عليه قضاء ما تركه من الصوم زمن ردته
إذا أسلم المرتد فليس عليه قضاء ما تركه من الصوم زمن ردته (7)، وهو قول الجمهور من الحنفية (8)، والمالكية (9)، والحنابلة (10).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]
فإن الآية تتناول كل كافر سواء كان أصليًّا أم مرتدًّا (11).
ثانياً: من السنة:
_________
(1) وذلك لأنه صار من أهل الوجوب حين إسلامه؛ فيمسك تشبهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.
(2) قال ابن قدامة: (وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر لا قضاء عليه لأنه لم يدرك من زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم، وقد روي ذلك عن أحمد) ((المغني)) (3/ 46).
(3) وذلك لانعدام أهلية العبادة في أول النهار؛ حيث لم يكن من أهل الوجوب؛ ولأن الصوم لا يتجزأ، فإذا لم يجب البعض لم يجب الباقي، فما دام أنه في أول النهار ليس أهلاً للوجوب، فليس أهلاً للوجوب في آخره، فلا يجب عليه القضاء.
(4) ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 74)، ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 339).
(5) قال ابن عثيمين: (يلزمه أن يمسك بقية اليوم الذي أسلم فيه؛ لأنه صار الآن من أهل الوجوب فلزمه، وهذا بخلاف ارتفاع المانع فإنه إذا ارتفع المانع، لم يلزم إمساك بقية اليوم، مثل أن تطهر المرأة من حيضها في أثناء النهار، فإنه لا يلزمها أن تمسك بقية النهار، وكذلك لو برأ المريض المفطر من مرضه في أثناء النهار، فإنه لا يلزمه الإمساك؛ لأن هذا اليوم قد أبيح له فطره، مع كونه من أهل الالتزام أي مسلماً بخلاف الذي طرأ إسلامه في أثناء النهار فإنه يلزمه الإمساك ولا يلزمه القضاء) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 97).
(6) رواه البخاري (2007)، ومسلم (1135).
(7) وذلك لأن في إلزامه بقضاء ما ترك تنفيراً له من العودة إلى الإسلام. كما أنه لا يجب عليه شيء من العبادات لعدم خطاب الكفار بالشرائع فلا يقضي ما فاته زمن ردته بعد إسلامه.
(8) قال ابن نجيم: (ومنها أنه لا يجب عليه شيء من العبادات عندنا لعدم خطاب الكفار بالشرائع عندنا فلا يقضي ما فاته زمن ردته بعد إسلامه) ((البحر الرائق لابن نجيم)) (5/ 137)، ((الفتاوى الهندية)) (1/ 121).
(9) ((الكافي لابن عبد البر)) (2/ 1090).
(10) قال المرداوي: (وإن كان مرتداً فالصحيح من المذهب أنه يقضي ما تركه قبل ردته ولا يقضي ما فاته زمن ردته) ((الإنصاف للمرداوي)) (1/ 391).
(11) قال ابن تيمية: (قوله تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يتناول كل كافر) ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 23).


1 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال عمرو: فقبضت يدي. قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط.
قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟)). أخرجه مسلم (1).
ثالثاً: فعل الصحابة رضي الله عنهم:
فالصحابة رضي الله عنهم لم يأمروا من أسلم من المرتدين في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بقضاء ما تركوا من الصوم، وهم أعلم الناس بشريعة الله بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثانية: إذا أسلم المرتد، وعليه صوم قبل ردته، فهل يلزمه قضاؤه
إذا أسلم المرتد، وعليه صوم قبل ردته، فقد اختلف أهل العلم هل يلزمه قضاؤه أم لا؟ على قولين:
القول الأول: يجب عليه القضاء (2)، وهو قول الجمهور من الحنفية (3)، والشافعية (4)، والحنابلة (5).
الدليل:
قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... [البقرة: 217]
وجه الدلالة:
أنه جعل الموت على الكفر شرطاً في حبوط العمل (6)
القول الثاني: لا يجب عليه القضاء، وهو قول المالكية (7).
الدليل:
حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الإسلام يهدم ما كان قبله)). أخرجه مسلم (8).
وجه الدلالة:
أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وهو بتوبته قد أسقط ما قبل الردة، فلا يطالبُ بقضائه.
المسألة الثالثة: حكم من ارتد أثناء صومه
من ارتد في أثناء الصوم، بطل صومه، وعليه القضاء إذا أسلم (9).
الدليل:
الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن قدامة (10)، والنووي (11).
_________
(1) رواه مسلم (121).
(2) وذلك أن ترك العبادة معصية، والمعصية تبقى بعد الردة.
(3) ((حاشية رد المحتار لابن عابدين)) (4/ 251).
(4) ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 443)، ((المجموع للنووي)) (3/ 5).
(5) ((الإنصاف للمرداوي)) (1/ 278)، ((الفروع لابن مفلح)) (1/ 401).
(6) ((أضواء البيان للشنقيطي)) (3/ 462).
(7) ((المدونة الكبرى)) (2/ 227)، ((حاشية العدوي)) (2/ 412).
(8) رواه مسلم (121).
(9) وذلك لأن المرتد كان من أهل الوجوب حين تعيَّن الإمساك، لذلك كان عليه القضاء إذا أسلم. كما أن الصوم عبادة من شرطها النية، فأبطلتها الردة.
(10) قال ابن قدامة: (لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم، أنه يفسد صومه، وعليه قضاء ذلك اليوم، إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم، أو بعد انقضائه) ((المغني)) (3/ 24).
(11) قال النووي: (لو حاضت في بعض النهار أو ارتد بطل صومهما بلا خلاف) ((المجموع)) (6/ 347).


المطلب الثاني: البلوغ
الفرع الأول: اشتراط البلوغ
يشترط لوجوب الصوم: البلوغ (1).
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عليٍّ رضي الله عنه أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل)) (2).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن حزم (3)، والنووي (4).
الفرع الثاني: أمرُ الصبي بالصوم
إذا كان الصبي يطيق الصيام دون وقوع ضرر عليه، فعلى وليه أن يأمره بالصوم ليتمرَّن ويتعوَّد عليه.
وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية (5)، والشافعية (6) والحنابلة (7)، وهو قولٌ عند المالكية (8)، وبه قال طائفةٌ من السلف (9).
الدليل:
عن الرُّبيِّع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: ((أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن)). أخرجه البخاري (10).
وفي لفظ: (( ... ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم)). أخرجه مسلم (11).
الفرع الثالث: حكم قضاء ما سبق إذا بلغ الصبي أثناء شهر رمضان
إذا بلغ الصبي أثناء شهر رمضان، فإنه يصوم بقية الشهر ولا يلزمه قضاء ما سبق، سواء كان قد صامه أم أفطره، وهو قول أكثر العلماء (12)؛ وذلك لأنه زمنٌ مضى في حال صباه فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان (13).
الفرع الرابع: حكم القضاء والإمساك إذا بلغ الصبي أثناء نهار رمضان وهو مفطر
إذا بلغ الصبي أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فإنه يمسك بقية يومه، ولا قضاء عليه، وهو مذهب الحنفية (14)، والشافعية (15)، وهي ورواية عن أحمد (16)، اختارها ابن تيمية (17).
فيلزمه الإمساك؛ وذلك لأنه صار من أهل الوجوب حين بلوغه؛ فيمسك تشبهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.
ولا يلزمه قضاؤه؛ لانعدام أهلية العبادة في أول النهار؛ حيث لم يكن من أهل الوجوب.
كما أن الصوم لا يتجزأ، فإذا لم يجب البعض لم يجب الباقي، فما دام أنه في أول النهار ليس أهلاً للوجوب فليس أهلاً للوجوب في آخره، فلا يجب القضاء.
_________
(1) وذلك لأن الصبي لضعف بنيته وقصور عقله واشتغاله باللهو واللعب يشق عليه تفهم الخطاب وأداء الصوم فأسقط الشرع عنه العبادات ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 87).
(2) رواه أبو داود (4401)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 323) (7343)، وابن حبان (1/ 356) (143)، والحاكم (1/ 389). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4403).
(3) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)). وانظر ((المحلى)) (6/ 160).
(4) قال النووي: (لا يجب صوم رمضان على الصبي ولا يجب عليه قضاء ما فات قبل البلوغ بلا خلاف) ((المجموع)) (6/ 253).
(5) ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 339)، ((مجمع الأنهر لشيخي زاده)) (1/ 373).
(6) قال النووي: (قال المصنف والأصحاب: وإذا أطاق الصوم وجب على الولي أن يأمره به لسبع سنين بشرط أن يكون مميزا ويضربه على تركه لعشر لما ذكره المصنف، والصبية كالصبي في هذا كله بلا خلاف) ((المجموع)) (6/ 253).
(7) على اختلاف بينهم في تحديد السن التي يؤمر فيها الصبي. ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 199)، ((الشرح الكبير لشمس الدين ابن قدامة)) (3/ 14).
(8) ((الذخيرة للقرافي)) (2/ 533).
(9) قال ابن قدامة: (وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه عطاء والحسن وابن سيرين والزهري وقتادة والشافعي) ((المغني)) (3/ 45).
(10) رواه البخاري (1960).
(11) رواه مسلم (1136).
(12) قال ابن قدامة: (فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه، فلا قضاء عليه، وسواء كان قد صامه أو أفطره، هذا قول عامة أهل العلم، وقال الأوزاعي: يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه) ((المغني)) (3/ 46).
(13) وذلك لأنه لا يوجَّه إليه الأمر بالصيام حين ذاك، فليس من أهل وجوب الصيام، وعليه فلا يلزمه قضاؤه.
(14) ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 363)، ((مجمع الأنهر لشيخي زاده)) (1/ 373).
(15) ((المجموع للنووي)) (6/ 256).
(16) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 46)، ((الشرح الكبير لابن ققدامة)) (3/ 15)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 200).
(17) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 200).


المطلب الثالث: العقل
تمهيد
يشترط لوجوب الصوم: العقل، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم (1).
الدليل:
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل)) (2).
الفرع الأول: زوال العقل بالجنون
المسألة الأولى: حكم الصوم على المجنون
لا يجب الصوم على المجنون، ولا يصح منه.
الأدلة:
أولا: من السنة:
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل)) (3).
ثانيا: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك النووي (4)، وابن تيمية (5).
المسألة الثانية: من كان جنونه مُطْبِقاً
إذا كان الجنون مُطْبِقاً، وذلك بأن يستمر إلى أن يستغرق كل شهر رمضان، فإن الصوم يسقط عنه؛ ولا قضاء عليه وهذا مذهب جمهور أهل العلم: الحنفية (6)، والشافعية (7)، والحنابلة (8)، واختاره ابن حزم (9)، وابن عبد البر (10).
وذلك لأن صاحب الجنون المطبق ليس أهلاً للوجوب؛ وذلك لفقدان شرط من شروطه وهو العقل؛ فلذا يرتفع عنه التكليف؛ ولا يُطالَب بالقضاء.
المسألة الثالثة: حكم صوم المجنون إذا أفاق في نهار رمضان
_________
(1) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، وانظر ((المحلى)) (6/ 160)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)).
(2) رواه أبو داود (4401)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 323) (7343)، وابن حبان (1/ 356) (143)، والحاكم (1/ 389). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4403).
(3) رواه أحمد (24738) وأبو داود (4400) والترمذي (1423)، والنسائي (6/ 488). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1423).
(4) قال النووي: (المجنون لا يلزمه الصوم في الحال بالإجماع) ((المجموع)) (6/ 251).
(5) قال ابن تيمية: (اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز، ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام .. ) ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 49). وقال أيضاً: (وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 191).
(6) ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 159)، ((حاشية رد المحتار لابن عابدين)) (2/ 433).
(7) ((المجموع للنووي)) (6/ 251).
(8) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 208).
(9) قال ابن حزم: (وأما من بلغ مجنوناً مطبقاً فهذا لم يكن قط مخاطباً ولا لزمته الشرائع ولا الأحكام ولم يزل مرفوعاً عنه القلم، فلا يجب عليه قضاء صوم أصلاً بخلاف قول مالك فإذا عقل فحينئذ ابتدأ الخطاب بلزومه إياه لا قبل ذلك) ((المحلى)) (6/ 227 - 228).
(10) قال ابن عبد البر: (والذي أقول به أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صيام على واحد منهما إذا كان في رمضان في تلك الحال حتى يفيق المجنون ويحتلم الصبي وعلى هذا أكثر الرواة) ((الكافي)) (1/ 331). وقال أيضاً: (وذلك أنهم أجمعوا على أن المجنون المطبق لا شيء عليه بخروج الوقت من صلاة ولا صيام إذا أفاق من جنونه وإطباقه) ((التمهيد)) (3/ 291).


إن أفاق المجنون أثناء نهار رمضان، فعليه أن يمسك بقية اليوم، ولا قضاء عليه، وهو قول الحنفية (1)، ورواية عن أحمد (2)، واختارها ابن تيمية (3).
فيلزمه الإمساك؛ لأنه صار من أهل الوجوب حين إفاقته؛ فيمسك تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.
ولا يلزمه قضاؤه؛ لانعدام أهلية العبادة في أول النهار؛ حيث لم يكن من أهل الوجوب.
كما أن الصوم لا يتجزأ، فإذا لم يجب البعض لم يجب الباقي، فما دام أنه في أول النهار ليس أهلاً للوجوب فليس أهلاً للوجوب في آخره، فلا يجب عليه القضاء.
المسألة الرابعة: حكم قضاء ما سبق من أيام رمضان زمن الجنون
إن أفاق المجنون فليس عليه قضاء ما سبق من أيام رمضان، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة (6).
وذلك لانعدام أهلية الوجوب، حيث لم يكن مُخاطَباً بوجوب الصوم عليه حال جنونه.
المسألة الخامسة: حكم قضاء من كان صائماً فأصابه الجنون
من كان صائماً فأصابه الجنون، فلا قضاء عليه، وهو قول الحنفية (7)، والحنابلة (8)، وهو اختيار ابن حزم (9).
وذلك لأنه قد أدى ما عليه وهو صحيح مكلف، ثم رفع عنه التكليف بالجنون فلا يطالب بقضاء ما لم يكن مكلفاً به.
المسألة السادسة: صوم من كان يُجنُّ أحياناً ويُفيق أحياناً
من كان يُجَنُّ أحياناً ويُفيق أحياناً، فعليه أن يصوم في حال إفاقته، ولا يلزمه حال جنونه (10)
وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ففي الأوقات التي يكون فيها عاقلاً يجب عليه الصوم، وفي الأوقات التي يكون فيها مجنوناً لا صوم عليه.
الفرع الثاني: العَتَه
أولا: تعريف العته
- العَتَه لغةً: نقصان العقل من غير جنون أو دهش (11).
- العته اصطلاحاً: آفة ناشئة عن الذات توجب خللاً في العقل، فيصير صاحبه مختلط العقل، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين (12).
ثانيا: حكم صوم المعتوه:
المعتوه الذي أصيب بعقله على وجهٍ لم يبلغ حد الجنون، لا صوم عليه، وليس عليه قضاء، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك (13) (14).
الدليل:
_________
(1) ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 363).
(2) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 46).
(3) قال ابن تيمية: (وطرد هذا أن الهلال إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ صبي أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 109).
(4) ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 81).
(5) ((المجموع للنووي)) (6/ 251).
(6) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 46). قال ابن قدامة: (وبهذا قال أبو ثور والشافعي في الجديد) ((المغني)) (3/ 46).
(7) ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 82).
(8) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 47).
(9) قال ابن حزم: (من نوى الصوم كما أمره الله عز وجل ثم جُنَّ; أو أغمي عليه فقد صح صومه) ((المحلى)) (6/ 227).
(10) قال ابن عثيمين: (فإن كان يُجَنُّ أحياناً ويُفيق أحياناً لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 228)، ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 324).
(11) ((المصباح المنير)) (مادة: ع ت هـ).
(12) ((التعريفات للجرجاني)) (ص 190).
(13) قال ابن عبد البر: ( .. وهذا إجماع أن المجنون المعتوه لا حد عليه والقلم عنه مرفوع) ((التمهيد)) (23/ 120).
(14) فالعته عندهم يسلب التكليف من صاحبه؛ وذلك لأنه نوع من الجنون، فينطبق على المعتوه ما ينطبق على المجنون من أحكام. انظر ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/ 276).


عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه أو قال المجنون حتى يعقل)) (1).
الفرع الثالث: الخرف
أولا: تعريف الخرف:
الخرف لغةً واصطلاحاً: فساد العقل من الكبر (2)
ثانيا: حكم صوم المخرف:
ليس على المخرِّف صومٌ ولا قضاء، وهو اختيار ابن باز (3)، وابن عثيمين (4).
الدليل:
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه أو قال المجنون حتى يعقل)) (5).
وجه الدلالة:
أن المخرِّف لما اختل وزال شعوره، صار من جنس المجانين، والمعتوهين، ولا تمييز لديه بسبب الهرم؛ ولذا فلا شيء عليه.
الفرع الرابع: زوال العقل بالإغماء
المسألة الأولى: حكم من نوى الصوم ثم أصيب بإغماء في رمضان
من نوى الصوم ثم أصيب بإغماء في رمضان، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى:
أن يستوعب الإغماءُ جميع النهار، أي يغمى عليه قبل الفجر ولا يفيق إلا بعد غروب الشمس،
فهذا لا يصح صومه (6)، وعليه قضاء هذا اليوم (7)، وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية (8)، والشافعية (9)، والحنابلة (10).
الدليل على وجوب القضاء عليه:
عموم قول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185].
الحال الثانية:
أن يفيق جزءاً من النهار، ولو للحظة، فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه، وهو مذهب الشافعية (11)، والحنابلة (12).
وذلك لأن الصوم إمساك عن المفطرات مع النية، وما دام أنه قد أفاق جزءاً من النهار، فقد وجد منه النية والإمساك عن المفطرات؛ ولذا فصومه صحيح.
المسألة الثانية: حكم من زال عقله وفقد وعيه بسبب التخدير بالبنج
_________
(1) رواه أبو داود (4401)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 323) (7343)، وابن حبان (1/ 356) (143)، والحاكم (1/ 389). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4403).
(2) ((الصحاح للجوهري)) (مادة: خرف)، ((معجم لغة الفقهاء)) (مادة: خرف).
(3) ((موقع ابن باز الإلكتروني)).
(4) قال ابن عثيمين: (فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله؛ لفقد الأهلية وهي العقل) ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 323)، وانظر ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 77).
(5) رواه أحمد (24738) وأبو داود (4400) والترمذي (1423)، والنسائي (6/ 488). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1423).
(6) وذلك لأن الصوم إمساكٌ عن المفطرات مع النية، والمغمى عليه فقد شرط الصيام وهو النية.
(7) قال ابن قدامة: (ومتى فسد الصوم به – أي بالإغماء - فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه) ((المغني)) (3/ 11). وقال ابن عثيمين: (فإذا أغمي عليه بحادث، أو مرض – بعد أن تسحَّر - جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء ((الشرح الممتع)) (6/ 352 - 353).
(8) ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 723)، ((حاشية العدوي)) (1/ 575).
(9) ((المجموع للنووي)) (6/ 255).
(10) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 207).
(11) ((المجموع للنووي)) (3/ 346 - 347).
(12) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 12).


من زال عقله وفقد وعيه بسبب التخدير بالبنج، فحكمه حكم الإغماء على ما سبق بيانه (1).
(انظر: زوال العقل بالإغماء).
الفرع الخامس: النوم
النائم الذي نوى الصيام صومه صحيح، ولا قضاء عليه، ولو نام جميع النهار. وستأتي المسألة في الباب الرابع آخر المطلب الخامس من الفصل الأول.
الفرع السادس: فقد الذاكرة
من أصيب بفقدان الذاكرة، فلا يجب عليه الصوم (2).
الدليل:
قياساً على الصبي الذي لا يميز، لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل)) (3).
_________
(1) قال النووي: (قال أصحابنا ومن زال عقله بمرض أو بشرب دواء شربه لحاجة أو بعذر آخر لزمه قضاء الصوم دون الصلاة كالمغمى عليه ولا يأثم بترك الصوم في زمن زوال عقله. وأما من زال عقله بمحرم كخمر أو غيره مما سبق بيانه ... فيلزمه القضاء ويكون آثماً بالترك، والله أعلم) ((المجموع للنووي)) (6/ 255). وانظر ((لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين)) (اللقاء الثالث/ ص 34).
(2) سئلت اللجنة الدائمة عن والد مصاب بفقدان الذاكرة، وقد أفطر شهر رمضان. فأجابت اللجنة الدائمة – برئاسة ابن باز -: ( .. ليس على والدكم صلاة ولا صيام؛ لأنه فاقد للعقل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق))، ووالدكم فاقد للعقل كواحد من هؤلاء) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (5/ 16). قال ابن عثيمين: (ومثله أيضاً الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة، كما قال هذا السائل، فإنه لا يجب عليه صوم ولا صلاة ولا طهارة؛ لأن فاقد الذاكرة هو بمنزلة الصبي الذي لم يميز، فتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بطهارة، ولا يلزم بصلاة، ولا يلزم أيضاً بصيام) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 85).
(3) رواه أبو داود (4401)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 323) (7343)، وابن حبان (1/ 356) (143)، والحاكم (1/ 389). وحسنه البخاري في ((العلل الكبير)) (225)، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (9/ 206)، والنووي في ((المجموع)) (6/ 253) والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4403).


المطلب الرابع: الإقامة
يشترط لوجوب الصوم: الإقامة، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حزم (1)
_________
(1) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع))، وانظر: ((المحلى)) (6/ 160).


المطلب الخامس: الطهارة من الحيض والنفاس
تمهيد
يشترط لوجوب الصوم على المرأة طهارتها من دم الحيض والنفاس.
الدليل:
الإجماع:
فقد أجمع العلماء على ذلك، وممن نقل الإجماع ابن حزم (1)، والنووي (2)، والشوكاني (3).
الفرع الأول: حكم صوم الحائض والنفساء
يحرم الصوم، فرضه ونفله، على الحائض والنفساء، ولا يصح صومهما، وعليهما القضاء.
الدليل:
الإجماع:
أجمع العلماء على ذلك، وممن نقل الإجماع ابن رشد (4)، والنووي (5)، وابن تيمية (6).
الفرع الثاني: حكم إمساك بقية اليوم إذا طهرت الحائض أو النفساء أثناء نهار رمضان
إذا طهرت الحائض أو النفساء أثناء نهار رمضان، فهل يلزمهما الإمساك، اختلف أهل العلم على قولين:
القول الأول: لا يلزمهما إمساك بقية اليوم، وهو قول المالكية (7)، والشافعية (8)، ورواية عن أحمد (9)، وهو اختيار ابن عثيمين (10).
وذلك لأنه لا دليل على وجوب الإمساك.
ولأنه لا فائدة من هذا الإمساك، وذلك لوجوب القضاء عليهما.
كما أن حرمة الزمن قد زالت بفطرهما الواجب أول النهار.
القول الثاني: يلزمهما الإمساك، وهو قول الحنفية (11)، والحنابلة (12)، وهو اختيار ابن باز (13).
وذلك لأن الحائض والنفساء صارا من أهل الوجوب حين طهارتهما؛ فيمسكان تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.
الفرع الثالث: حكم صوم الحائض أو النفساء إذا طهرتا قبل الفجر
إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل الفجر، وجب عليهما الصوم، وإن لم يغتسلا إلا بعد الفجر، وهذا قول عامة أهل العلم (14).
الدليل:
قياساً على الجنب، فالجنب له أن يصوم وإن تأخر اغتساله إلى دخول الفجر، فكذلك الحائض والنفساء.
_________
(1) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم وليس امرأة حائضاً .. ) ((مراتب الإجماع)) (ص 39)، ((المحلى)) (6/ 160).
(2) قال النووي: (هذا الحكم متفق عليه أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال) ((شرح مسلم)) (4/ 26).
(3) قال الشوكاني: (والحديث يدل على عدم وجوب الصوم والصلاة على الحائض حال حيضها وهو إجماع) ((نيل الأوطار)) (2/ 280).
(4) ((بداية المجتهد)) (1/ 56).
(5) قال النووي: (فأجمعت الأمة على تحريم الصوم على الحائض والنفساء، وعلى أنه لا يصح صومها) ((المجموع)) (2/ 354)، ((شرح مسلم)) (4/ 26)، وانظر ((المجموع)) (6/ 257).
(6) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 220، 267)، (26/ 176).
(7) ((الكافي لابن عبد البر)) (1/ 340).
(8) ((المجموع للنووي)) (6/ 257).
(9) ((الشرح الكبير لابن قدامة)) (3/ 62).
(10) قال ابن عثيمين: (لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك؛ لأن هذه المرأة يباح لها الفطر أول النهار إباحة مطلقة، فاليوم في حقها ليس يوما محترما، ولا تستفيد من إلزامها بالإمساك إلا التعب) ((الشرح الممتع)) (4/ 381).
(11) ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 340).
(12) ((لإنصاف للمرداوي)) (3/ 200 - 201).
(13) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 193).
(14) قال النووي: (واذا انقطع دم الحائض والنفساء في الليل ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما صح صومهما ووجب عليهما إتمامه سواء تركت الغسل عمدا أو سهوا بعذر أم بغيره، كالجنب، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا نعلم صح عنه أم لا) ((شرح مسلم)) (7/ 222 - 223). انظر ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (10/ 327)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 190 - 191)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 105 - 106).


فعن سليمان بن يسار ((أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير احتلام ثم يصوم)). أخرجه مسلم (1).
الفرع الرابع: حكم تناول المرأة حبوب منع الحيض من أجل أن تصوم الشهر كاملاً دون انقطاع
إذا ثبت أن لحبوب منع الحمل أو الحيض أضراراً على المرأة، فإن عليها اجتناب تناولها سواء كان ذلك في رمضان من أجل أن تصوم الشهر كاملاً مع الناس، أو في غيره من الأوقات، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (2)، وقطاع الإفتاء بالكويت (3)، وأفتى به ابن باز (4)، وابن عثيمين (5).
_________
(1) رواه مسلم (1109).
(2) قالت اللجنة الدائمة: ((لا يظهر لنا مانعٌ من ذلك إذا كان الغرض من استعمالها ما ذكر، وأنه لا يترتب على استعمالها أضرارٌ صحية، والله أعلم) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (5/ 401).
(3) قال قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بالكويت: (إن الأصل في هذه المسألة أنه يُرجَع فيها إلى رأي الأطباء المختصين فإن قرروا أن في استعمال هذه الحبوب ضرراً في الحال أو المستقبل مُنِعَت المرأة من استعمالها وإلا فلا بأس باستعمالها، فإن استعملتها وامتنع نزول الدم فهي في طهرٍ، وتجري عليها أحكام الطهر من وجوب أداء الصوم والصلاة وغير ذلك من أحكام الطاهرات) ((قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بالكويت)) (5/ 44).
(4) قال ابن باز: ((لا حرج في ذلك؛ لما فيه من المصلحة للمرأة في صومها مع الناس وعدم القضاء، مع مراعاة عدم الضرر منها؛ لأن بعض النساء تضرهن الحبوب)) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 201). وقال أيضا: (لا حرج أن تأخذ المرأة حبوب منع الحمل تمنع الدورة الشهرية أيام رمضان حتى تصوم مع الناس، وفي أيام الحج حتى تطوف مع الناس ولا تتعطل عن أعمال الحج، وإن وُجِدَ غير الحبوب شيءٌ يمنع من الدورة فلا بأس إذا لم يكن فيه محذورٌ شرعاً أو مضرة) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/ 61).
(5) قال ابن عثيمين: (الذي أرى أن المرأة لا تستعمل هذه الحبوب لا في رمضان ولا في غيره، لأنه ثبت عندي من تقرير الأطباء أنها مضرة جداً على المرأة على الرحم والأعصاب والدم، وكل شيءٍ مضرٌّ فإنه منهيٌّ عنه) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 259) وقال أيضا: (أقول لهذه المرأة ولأمثالها من النساء اللاتي يأتيهن الحيض في رمضان: إنه وإن فاتها ما يفوتها من الصلاة والقراءة فإنما ذلك بقضاء الله وقدره، وعليها أن تصبر، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها حينما حاضت: إن هذا شيء كتبه على بنات آدم. فنقول لهذه المرأة: إن الحيض الذي أصابها شيءٌ كتبه الله على بنات آدم فلتصبر، ولا تعرض نفسها للخطر، وقد ثبت عندنا أن حبوب منع الحيض لها تأثيرٌ على الصحة وعلى الرحم) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 268).


المطلب السادس: القدرة على الصوم
تمهيد
يشترط لوجوب الصوم: القدرة والاستطاعة عليه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
1 - قوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (1) [البقرة: 286].
2 - قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن حزم (2)، وابن تيمية (3).
الفرع الأول: أقسام العجز عن الصوم وحكم كل نوع
ضد القدرة: العجز، والعجز عن الصيام ينقسم إلى قسمين:
1 - عجز طارئ. 2 - عجز دائم.
1 - العجز الطارئ أو العارض: وهو الذي يرجى زواله، كالعجز عن الصوم لمرض يُرجَى برؤه، فهذا لا يلزمه الصوم أداء، ولكن عليه القضاء، بعد زوال عجزه.
الدليل:
قول الله تعالى: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]
2 - العجز المستمر أو الدائم: وهو الذي لا يرجى زواله، مثل الكبير الذي لا يستطيع الصوم، والمريض الذي لا يرجى برؤه، فهذا عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا (4).
الأدلة:
أولا: من الكتاب:
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً)). أخرجه البخاري (5).
ثانيا: الإجماع:
1 - الإجماع على جواز الفطر للشيخ الكبير:
حكى ذلك ابن المنذر (6)، وابن حزم (7).
2 - الإجماع على جواز الفطر للمريض الذي لا يرجى برؤه:
وقد حكى ذلك ابن قدامة (8).
الفرع الثاني: صوم أصحاب المهن الشاقة
_________
(1) قال الجصاص: (فيه نصٌّ على أن الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه ... ومما يتعلق بذلك من الأحكام: سقوط الفرض عن المكلفين فيما لا تتسع له قواهم؛ لأن الوسع هو دون الطاقة ... نحو الشيخ الكبير الذي يشق عليه الصوم ويؤديه إلى ضرر يلحقه في جسمه وإن لم يخش الموت بفعله، فليس عليه صومه؛ لأن الله لم يكلفه إلا ما يتسع لفعله ولا يبلغ به حال الموت، وكذلك المريض الذي يخشى ضرر الصوم .. ) ((أحكام القرآن)) (2/ 277).
(2) قال ابن حزم: (اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح .. ) ((مراتب الإجماع)) (ص39).
(3) قال ابن تيمية: (واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 479).
(4) ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 324)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 114 - 115).
(5) رواه البخاري (4505).
(6) قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن للشيخ الكبير والعجوز العاجزين عن الصوم أن يفطرا) ((الإجماع)) (ص50).
(7) قال ابن حزم: (أجمعوا أن من كان شيخاً كبيراً لا يطيق الصوم أنه يفطر في رمضان ولا إثم عليه) ((مراتب الإجماع)) (ص 40)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)).
(8) قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة) ((المغني)) (3/ 41).


أصحاب المهن الشاقة داخلون في عموم المكلفين، وليسوا في معنى المرضى والمسافرين، فيجب عليهم تبييت نية صوم رمضان، وأن يصبحوا صائمين، لكن من كان يعمل بأحد المهن الشاقة وكان يضره ترك عمله، وخشي على نفسه التلف أثناء النهار، أو لحوق مشقة عظيمة فإنه يُفطر على قدر حاجته بما يدفع المشقة فقط، ثم يمسك بقية يومه إلى الغروب ويفطر مع الناس، وعليه القضاء (1).
الدليل:
عموم قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]
الفرع الثالث: حكم قضاء العاجز إذا زال مرضه أثناء النهار
إذا زال مرض العاجز أثناء النهار، فعليه القضاء، واختلف أهل العلم في إمساكه بقية اليوم على قولين:
القول الأول: لا يلزمه إمساك بقية اليوم، وهو قول المالكية (2)، والشافعية (3)، ورواية عند الحنابلة (4)، وهو اختيار ابن عثيمين (5).
وذلك لأنه لا دليل على وجوب الإمساك.
ولأنه لا فائدة من هذا الإمساك، وذلك لوجوب القضاء عليه.
كما أن حرمة الزمن قد زالت بفطره أول النهار.
القول الثاني: يلزمه الإمساك، وهو قول الحنفية (6)، والحنابلة (7)، ووجه عند الشافعية (8)، وهو قول طائفة من السلف (9).
وذلك لأن المريض صار من أهل الوجوب حين زوال مرضه؛ فيمسك تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.
_________
(1) جاء في الفتاوى الهندية: (المحترف المحتاج إلى نفقته علم أنه لو اشتغل بحرفته يلحقه ضرر مبيح للفطر، يحرم عليه الفطر قبل أن يمرض، كذا في القُنْية) ((الفتاوى الهندية)) (1/ 208)، وانظر ((حاشية ابن عابدين)) (2/ 420). قال البهوتي: (وقال أبو بكر الآجري: مَن صنعته شاقة فإن خاف - بالصوم- تلفا أفطر وقضى - إن ضره ترك الصنعة- فإن لم يضره تركها أثم - بالفطر ويتركها -، وإلا - أي: وإن لم ينتف التضرر بتركها- فلا - إثم عليه بالفطر للعذر) ((كشاف القناع)) (2/ 310). وانظر ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 395). وقالت اللجنة الدائمة: (لا يجوز للمكلف أن يفطر في نهار رمضان لمجرد كونه عاملا، لكن إن لحق به مشقة عظيمة اضطرته إلى الإفطار في أثناء النهار فإنه يفطر بما يدفع المشقة ثم يمسك إلى الغروب ويفطر مع الناس ويقضي ذلك اليوم الذي أفطره) ((فتاوى اللجنة الدائمة-المجموعة الأولى)) (10/ 233). وقالت أيضا: ( ... يجعل الليل وقت عمله لدنياه، فإن لم يتيسر ذلك أخذ إجازة من عمله شهر رمضان ولو بدون مرتب فإن لم يتيسر ذلك بحث عن عمل آخر يمكنه فيه الجمع بين أداء الواجبين ولا يؤثر جانب دنياه على جانب آخرته، فالعمل كثير وطرق كسب المال ليست قاصرة على مثل ذلك النوع من الأعمال الشاقة ولن يعدم المسلم وجها من وجوه الكسب المباح الذي يمكنه معه القيام بما فرضه الله عليه من العبادة بإذن الله .. وعلى تقدير أنه لم يجد عملا دون ما ذكر مما فيه حرج وخشي أن تأخذه قوانين جائرة وتفرض عليه ما لايتمكن معه من إقامة شعائر دينه أو بعض فرائضه فليفر بدينه من تلك الأرض إلى أرض يتيسر له فيها القيام بواجب دينه ودنياه ويتعاون فيه مع المسلمين على البر والتقوى فأرض الله واسعة .. فإذا لم يتيسر له شيء من ذلك كله واضطر إلى مثل ما ذكر في السؤال من العمل الشاق صام حتى يحس بمبادئ الحرج فيتناول من الطعام والشراب ما يحول دون وقوعه في الحرج ثم يمسك وعليه القضاء في أيام يسهل عليه فيها الصيام) ((فتاوى اللجنة الدائمة-المجموعة الأولى)) (10/ 235 - 236). وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه: (أما بالنسبة لأصحاب الحرف فمفاد نصوص الفقهاء أنه إن كان هناك حاجة شديدة لعمله في نهار رمضان، أو خشي تلف المال إن لم يعالجه، أو سرقة الزرع إن لم يبادر لحصاده، فله أن يعمل مع الصوم ولو أداه العمل إلى الفطر حين يخاف الجهد، وليس عليه ترك العمل ليقدر على إتمام الصوم، وإذا أفطر فعليه القضاء فقط) ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 176).
(2) ((حاشية الدسوقي)) (1/ 551).
(3) ((المجموع للنووي)) (6/ 262).
(4) ((الشرح الكبير لابن قدامة)) (3/ 15).
(5) ((الشرح الممتع)) (6/ 335 - 336).
(6) ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 363).
(7) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 34)، ((كشاف القناع للبهوتي)) (2/ 309).
(8) ((روضة الطالبين للنووي)) (2/ 372).
(9) قال ابن قدامة: (وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والعنبري) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 34).


المبحث الثاني: النية في الصوم
• المطلب الأول: حكم النية في الصوم.
• المطلب الثاني: وقت النية في الصوم.
• المطلب الثالث: الجزم في نية الصوم.
• المطلب الرابع: استمرار النية.


المطلب الأول: حكم النية في الصوم
النية شرط في صحة الصوم كسائر العبادات (1)، وذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم (2). وقد حكى الإجماع على ذلك ابن قدامة (3).
الدليل:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) أخرجه البخاري ومسلم (4).
_________
(1) وذلك لأن الصوم عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة وغيرها. كما أن الإمساك قد يُراد لغير العبادة، كأن يكون للعادة أو لمرض أو لعدم اشتهاء الطعام أو الشراب أو الجماع، أو بغرض الرياضة وتخفيف الوزن، فلا بد من تعيين النية لوقوع هذه العبادة.
(2) قال النووي: (لا يصح صوم إلا بنية سواء الصوم الواجب من رمضان وغيره، والتطوع، وبه قال العلماء كافة إلا عطاء ومجاهد وزفر) ((المجموع)) (6/ 300). وقال الجصاص: (النية شرط في صحة الصوم) ((أحكام القرآن)) (4/ 174). وقال ابن العربي: ( .. النية التي تلزم كل عبادة، وتتعين في كل طاعة، وكلُّ عمل خلافها لم يكن به اعتدادٌ; فهي شرطٌ لا ركن). ((أحكام القرآن)) (2/ 54). وقال الشوكاني: ( .. أن ظاهر الأدلة يقتضى أن النية شرط في جميع ما تقدم من العبادات لدلالة أدلتها على أن عدمها يؤثر في العدم وهذا هو معنى الشرط عند أهل الأصول). ((السيل الجرار)) (1/ 311). وقال ابن عثيمين: (من شرط صحة الصوم: النية) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 137). وانظر: ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 304)، ((بدائع الصنائع للكاساني)) (1/ 152 - 153) ((مواهب الجليل للحطاب)) (3/ 336) ((الشرح الكبير لابن قدامة)) (3/ 22).
(3) قال ابن قدامة: (لا يصح صوم إلا بنية إجماعاً فرضاً كان أو تطوعاً) ((المغني)) (3/ 7).
(4) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907).


المطلب الثاني: وقت النية في الصوم
الفرع الأول: وقت النية في صوم الفرض
المسألة الأولى: حكم تبييت النية
يجب تبييت النية من الليل قبل طلوع الفجر (1)، وهو قول جمهور أهل العلم: المالكية (2)، والشافعية (3)، والحنابلة (4).
الأدلة:
1 - عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) (5).
2 - وفي رواية عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) (6).
المسألة الثانية: حكم تجديد النية في كل يوم من رمضان
هل يشترط تجديد النية في كل يوم من رمضان، اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يشترط تجديد النية لكل يوم من رمضان، وهو قول الجمهور: الحنفية (7)، والشافعية (8)، والحنابلة (9)، (10)، وهو قول ابن المنذر (11)، واختيار ابن حزم (12)، وابن باز (13).
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عموم حديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) (14).
_________
(1) وذلك لأن صوم اليوم كاملاً لا يتحقق إلا بهذا، فمن نوى بعد الفجر لا يقال أنه صام يوماً؛ فلذلك يجب لصوم اليوم الواجب أن ينويه قبل طلوع الفجر.
(2) قال ابن عبد البر: (ولا يجوز صوم شهر رمضان إلا بأن يبيت له الصوم ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر بنية) ((الكافي)) (1/ 335).
(3) ((المجموع للنووي)) (6/ 299).
(4) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 208).
(5) رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196) واللفظ له، والدارمي (2/ 12)، والبيهقي (4/ 202) (8161). قال أبو داود: وقفه على حفصة معمر والزبيدي ويونس الأيلي كلهم عن الزهري، وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وروي عن ابن عمر قوله وهو أصح، وصحح إسناده ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 162)، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 193)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(6) رواه النسائي (4/ 197)، والبيهقي (4/ 202) (8163). وصحح إسناده ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 162)، وقال عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (384): رواه الجماعة فأوقفوه على حفصة والذي أسنده ثقة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(7) ((شرح مختصر الطحاوي للجصاص)) (2/ 403)، ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 66).
(8) ((المجموع للنووي)) (6/ 302).
(9) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 209)، ((المغني لابن قدامة)) (3/ 8).
(10) قال النووي: (وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وداود وابن المنذر والجمهور) ((المجموع)) (6/ 302).
(11) قال ابن المنذر: (لا يجزيه حتى ينوي في كل ليلة أنه صائم من الغد) ((الإشراف)) (3/ 115).
(12) قال ابن حزم: (ولا يجزئ صيام أصلا رمضان كان أو غيره إلا بنية مجددة في كل ليلة لصوم اليوم المقبل) ((المحلى)) (6/ 160).
(13) قالت اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز: (لا بد من تبييت نية صيام رمضان ليلاً كل ليلة) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (10/ 246)، وانظر ((اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية وآراؤه في قضايا معاصرة لخالد بن مفلح آل حامد)) (2/ 904).
(14) رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196) واللفظ له، والدارمي (2/ 12)، والبيهقي (4/ 202) (8161). قال أبو داود: وقفه على حفصة معمر والزبيدي ويونس الأيلي كلهم عن الزهري، وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وروي عن ابن عمر قوله وهو أصح، وصحح إسناده ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 162)، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 193)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)).


وفي رواية عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) (1).
ثانياً: القياس:
وذلك أن شهر رمضان كصلوات اليوم والليلة ولا بد لكل صلاة من نية فكذلك لا بد لكل يوم في صومه من نية.
القول الثاني: أَنَّ ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله، فإذا انقطع التتابع لعذر يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فإنَّ عليه أن يجدد النية، وهو مذهب المالكية (2)، وقول زفر من الحنفية (3)، واختاره ابن عثيمين (4).
وذلك لأن الصوم المتتابع كالعبادة الواحدة من حيث ارتباط بعضها ببعض وعدم جواز التفريق، ولذا تكفي النية الواحدة.
كما أنَّ النية إذا لم تقع في كل ليلة حقيقة، فهي واقعة حكماً؛ لأن الأصل عدم قطع النية.
الفرع الثاني: وقت النية في صوم النفل
المسألة الأولى: حكم تبييت النية من الليل في صيام التطوع
لا يشترط في صيام التطوع تبييت النية من الليل عند جمهور أهل العلم من الحنفية (5) والشافعية (6) والحنابلة (7).
ويجوز أن ينوي أثناء النهار، سواء قبل الزوال أو بعده، إذا لم يتناول شيئاً من المفطرات بعد الفجر (8)، وهذا مذهب الحنابلة (9)، وقولٌ عند الشافعية (10)، وقول طائفة من السلف (11) واختاره ابن تيمية (12)، وابن عثيمين (13).
الأدلة:
1 - عموم حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث قالت: ((دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم)). أخرجه مسلم (14).
2 - ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنهم أبو الدرداء، فعن أم الدرداء قالت: ((كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا، قال: فإني صائمٌ يومي هذا)) (15). وفعله أبو طلحة، وأبو هريرة، وابن عباس، وحذيفة رضي الله تعالى عنهم (16).
المسألة الثانية: من أنشأ نية الصوم أثناء النهار فهل يكتب له ثواب صيام يوم كامل؟
من أنشأ نية الصوم أثناء النهار، فإنه يكتب له ثواب ما صامه من حين نوى الصيام، وهذا مذهب الحنابلة (17)، وهو اختيار ابن تيمية (18)، وابن باز (19)، وابن عثيمين (20).
الدليل:
عموم حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) أخرجه البخاري ومسلم (21).
وجه الدلالة:
أن الإمساك كان في أول النهار بغير نية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فكيف يثاب على إمساك لم يقصده ولم ينوه؟ وإنما يثاب فيما ابتغى به وجه الله تعالى.
_________
(1) رواه النسائي (4/ 197)، والبيهقي (4/ 202) (8163). وصحح إسناده ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 162)، وقال عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (384): رواه الجماعة فأوقفوه على حفصة والذي أسنده ثقة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(2) ((الشرح الكبير للدردير)) (1/ 521).
(3) ((المبسوط للسرخسي)) (3/ 56).
(4) ((الشرح الممتع)) (6/ 356).
(5) ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 313).
(6) ((المجموع للنووي)) (6/ 302).
(7) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 10)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 211).
(8) وذلك أنه لما كان الليل محلاً للنية في صوم الفريضة، واستوى حكم جميعه، ثم كان النهار محلاً للنية في صوم التطوع، وجب أن يستوي حكم جميعه. وكذلك فإن النية وجدت في جزءٍ من النهار، فأشبه ما لو وُجِدَت قبل الزوال بلحظة.
(9) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 10)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 211).
(10) ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 406)، ((المجموع للنووي)) (6/ 292).
(11) قال ابن عبدالبر: (وهو قول الثوري وإبراهيم والحسن بن صالح) ((الاستذكار)) (10/ 35).
(12) قال ابن تيمية: (والأظهر صحته - أي الصوم بنية التطوع بعد الزوال - كما نقل عن الصحابة) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 120).
(13) ((الشرح الممتع)) (6/ 358 - 359)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 185 - 186).
(14) رواه مسلم (1154).
(15) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (1924)، ووصله البيهقي (4/ 204) (8173). وانظر: ((تغليق التعليق لابن حجر)) (3/ 144 - 145).
(16) رواها عنهم البخاري بصيغة التعليق قبل حديث (1924)، ووصلها البيهقي (4/ 204) (8171) (8172) (8173) (8174)، وعبدالرزاق (4/ 273) (7778)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2/ 56). وانظر: ((تغليق التعليق لابن حجر)) (3/ 145 - 147).
(17) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 211).
(18) ((كتاب الصيام من شرح العمدة)) (1/ 193 - 194).
(19) قال ابن باز: ( ... يجوز له أن يصوم من أثناء النهار، إذا كان لم يتعاط شيئا من المفطرات بعد طلوع الفجر، ويكتب له أجر الصائم من حين نيته) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 288).
(20) ((الشرح الممتع)) (6/ 360)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 185 - 186).
(21) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907).


المطلب الثالث: الجزم في نية الصوم
الفرع الأول: حكم صوم المتردد في نية الصوم الواجب
من تردد في نية الصوم الواجب، هل يصوم غدا أو لا يصوم، واستمر هذا التردد إلى الغد، ثم صامه، فصومه غير صحيح، وعليه قضاء هذا اليوم، وهذا قول جمهور أهل العلم من المالكية (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3)، وهو قول بعض الحنفية (4)، واختاره ابن عثيمين (5).
ومثل ذلك ما لو قال: إن شاء الله متردداً، لا يدري هل يصوم أو لا يصوم.
وذلك لأن هذا مخالف لشرط من شروط صحة الصوم وهو النية، التي هي عقد القلب على فعل الشيء، والتردد ينافي ذلك، ومتى اختل هذا الشرط فسد الصوم، ووجب القضاء.
الفرع الثاني: حكم من علق الصوم، فقال مثلاً: إن كان غداً رمضان فهو فرضي، أو سأصوم الفرض
إذا نوى الإنسان أنه إن كان غداً رمضان فهو فرضي، أو سأصوم الفرض، فتبين أنه رمضان فصومه صحيح، وهو رواية عن أحمد (6)، وإليه ذهب ابن تيمية (7)، وابن عثيمين (8).
وذلك لأن هذا الرجل علق الصوم؛ لأنه لا يعلم أن غداً من رمضان، فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد في النية، وهل يصوم أو لا يصوم، فهو هاهنا قد علق الصوم على ثبوت الشهر، فلو لم يثبت الشهر لم يصم.
_________
(1) ((حاشية الدسوقي)) (1/ 520).
(2) قال النووي: (لو عقب النية بقوله: إن شاء الله، بقلبه أو بلسانه، فإن قصد التبرك أو وقوع الصوم وبقاء الحياة إلى تمامه بمشيئة الله تعالى لم يضره، وإن قصد تعليقه والشك لم يصح صومه، هذا هو المذهب وبه قطع المحققون) ((المجموع للنووي)) (6/ 298)، ((مغني المحتاج للشربيني الخطيب)) (1/ 425).
(3) قال الحجاوي: (ومن قال أنا صائم غداً إن شاء الله: فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد، فسدت نيته وإلا لم تفسد إذا قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره) ((الإقناع للحجاوي)) (1/ 309).
(4) قال الزيلعي: (وفي جوامع الفقه قال نويت أن أصوم غداً إن شاء الله تعالى صحت نيته؛ لأن النية عمل القلب دون اللسان فلا يعمل فيه الاستثناء، وفي الذخيرة ذكر شمس الأئمة الحلواني أنه لا رواية لهذه المسألة وفيها قياس واستحسان، القياس: أن لا يصير صائما كالطلاق والعتاق والبيع، وفي الاستحسان: يصير صائماً؛ لأنه لا يراد الإبطال بل هو للاستعانة وطلبا للتوفيق) ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 316).
(5) قال ابن عثيمين: (النية لا بد فيها من الجزم، لو بات على هذه النية بأن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله متردداً، فإن صومه لا يصح إن كان فرضاً، إلا أن يستيقظ قبل الفجر وينويه) ((الشرح الممتع)) (6/ 358). وقال أيضاً: (إذا قال أنا صائم غداً إن شاء الله ننظر هل مراده الاستعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده، إن قال: نعم، فصيامه صحيح؛ لأن هذا ليس تعليقاً، ولكنه استعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده؛ لأن التعليق بالمشيئة سبب لتحقيق المراد) ((الشرح الممتع)) (6/ 357).
(6) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 10).
(7) قال المرداوي: (واختار هذه الرواية -أي: يجزيه إن نوى: إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، وإلا فهو نفل- الشيخ تقي الدين) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 209).
(8) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (6/ 361 - 363)، وانظر ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 186).


المطلب الرابع: استمرار النية
الفرع الأول: حكم صوم من نوى في يوم من رمضان قطْعَ صومه
من نوى في يوم من رمضان قطْعَ صومه، فإن صومه ينقطع، ولا يصح منه، وعليه القضاء وإمساك بقية اليوم إن كان ممن لا يباح لهم الفطر، فإن كان ممن يباح لهم الفطر كالمريض والمسافر، فعليه القضاء فقط، وهو قول المالكية (1)، والحنابلة (2)، واختيار ابن عثيمين (3).
الدليل:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)). أخرجه البخاري ومسلم (4).
فهذا الرجل لما نوى قطعه انقطع.
الفرع الثاني: حكم صوم من تردد في قطع نية الصوم
من تردد في قطع نية الصوم، فإن صومه لا يبطل ما دام لم يجزم بقطعها، وهو مذهب الحنفية (5)، والشافعية (6)، وهو قول في مذهب الحنابلة (7)،اختاره ابن عثيمين (8).
وذلك لأن الأصل بقاء النية حتى يعزم على قطعها وإزالتها.
_________
(1) ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 434).
(2) ((كشاف القناع للبهوتي)) (2/ 316).
(3) ((الشرح الممتع)) (2/ 298)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 183، 187 - 188).
(4) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907).
(5) ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 92).
(6) ((المجموع للنووي)) (6/ 297).
(7) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 211).
(8) ((الشرح الممتع)) (2/ 298)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 187 - 188).


المطلب الأول: تعجيل الفطر
تمهيد
يسن للصائم تعجيل الفطر إذا تحقق من غروب الشمس (1).
الأدلة:
1 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) (3).
3 - وقد نقل الاتفاق على استحباب تعجيل الفطر: ابن دقيق العيد (4).
الفرع الأول: حكم الفطر بغلبة الظن
يجوز الفطر بغلبة الظن، وهو قول جمهور أهل العلم (5).
الدليل:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس)). أخرجه البخاري (6).
وجه الدلالة:
أنَّ الصحابة أفطروا بناءً على اجتهادٍ منهم حيث غلب على ظنهم أن الشمس قد غربت وكانوا في يوم غيمٍ مع أنها في نفس الأمر لم تغرب ولم يُنكر عليهم ما فعلوه من العمل بالظن الغالب.
وغلبة الظن إنما تكون عند وجود علامات ودلائل تدل على غروب الشمس بحيث يغلب على ظن الصائم دخول وقت الإفطار.
الفرع الثاني: حكم قضاء الصائم الذي أفطر في صومٍ واجبٍ، ظانًّا أن الشمس قد غربت
إذا أفطر الصائم في صومٍ واجب، ظاناً أن الشمس قد غربت، ثم تبين له أنها لم تغرب، فإن عامة أهل العلم على أنه يلزمه الإمساك (7). واختلفوا في قضائه على قولين:
_________
(1) قال ابن عبد البر: (من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس) ((التمهيد)) (21/ 97).
(2) رواه البخاري (1957)، ومسلم (1098).
(3) رواه أبو داود (2353)، وأحمد (2/ 450) (9809)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 253) (3313)، وابن خزيمة (3/ 275)، وابن حبان (8/ 273) (3503)، والحاكم (1/ 596). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (6/ 359)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(4) قال ابن دقيق العيد: (تعجيل الفطر بعد تيقن الغروب: مستحب باتفاق) ((إحكام الأحكام)) (1/ 281).
(5) ((حاشية رد المحتار لابن عابدين)) (2/ 405)، ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 702)، ((المجموع للنووي)) (6/ 307)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 220).
(6) رواه البخاري (1959).
(7) قال ابن قدامة: (وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب .. يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافاً) ((المغني)) (3/ 33). وقال ابن عثيمين: (من أفطر قبل أن تغرب الشمس إذا تبين أن الشمس لم تغرب، وجب عليه الإمساك) ((الشرح الممتع)) (6/ 389 - 396).


القول الأول: يلزمه القضاء، وهو قول أكثر أهل العلم (1).
الدليل:
عموم قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أن الصائم مأمورٌ بإتمام صومه إلى الليل، والصائم في هذه المسألة قد أكل في النهار.
القول الثاني: لا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف (2)، واختاره ابن تيمية (3)، وابن القيم (4).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]
وجه الدلالة:
أن هذا من الخطأ الذي قد عفا الله عنه؛ ولا قضاء على من أفطر مخطئاً (5).
ثانياً: من السنة:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس)). أخرجه البخاري (6).
وجه الدلالة: أنه لم يُنقَل أن الصحابة أُمِرُوا بالقضاء، ولو كان واجباً لنُقِل.
الفرع الثالث: حكم الفطر مع الشك في غروب الشمس
لا يجوز الفطر مع الشك في غروب الشمس، فمن أكل شاكًّا في غروب الشمس ولم يتبين له بعد ذلك هل غربت أم لا، أو تبين أنها لم تغرب، فإنه يأثم، ويجب عليه القضاء في الحالتين، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (7).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنه لا بد أن يتم الصائم صومه إلى الليل، أي: إلى غروب الشمس.
ثانياً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم)). أخرجه البخاري ومسلم (8).
فلا بد أن تغرب الشمس، والأصل بقاء النهار حتى يُتيَقَّن، أو يغلب على الظن غروب الشمس، فمن أكل وهو شاكٌّ فقد تجاوز حده، وفعل ما لم يُؤذَن له فيه.
_________
(1) قال ابن عبدالبر: (قال مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث فيمن أكل وظنه ليلاً ثم تبين له أنه نهار أو أفطر وهو يظن أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب فعليه القضاء) ((التمهيد)) (21/ 98). قال ابن قدامة: (وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب .. يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه قياساً على قوله فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم) ((المغني)) (3/ 33)، وانظر ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (6/ 255). قال ابن قدامة: (مسألة: قال - أي الخرقي -: وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء. هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم) ((المغني)) (3/ 35). قال النووي: (ولو أكل ظانًّا غروب الشمس فبانت طالعة أو ظانًّا أن الفجر لم يطلع فبان طالعاً صار مفطراً هذا هو الصحيح الذى نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور) ((المجموع)) (6/ 306). وقال القرطبي: (فإن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء) ((تفسير القرطبي)) (2/ 328). وانظر ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 290).
(2) قال ابن عبدالبر: (وقال مجاهد وجابر بن زيد: لا قضاء عليه في شيء من ذلك كله وبه قال داود) ((التمهيد)) (21/ 98). ونقل ابن المنذر أن ممن قال بعدم القضاء الحسن البصري وإسحاق، وأنه رواية عن عمر. ((الإشراف)) (3/ 120).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 572 - 573).
(4) ((تهذيب سنن أبي داود)) (6/ 212).
(5) قال ابن القيم: ( .. لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم، ولو أكل ناسياً لصومه لم يجب عليه قضاؤه، والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي، فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد جوازه، وأخطأ في فعله، وقد استويا في أكثر الأحكام، وفي رفع الآثام، فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع؟ وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل والمخطئ أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة) ((تهذيب سنن أبي داود)) (6/ 212).
(6) رواه البخاري (1959).
(7) ((الهداية للميرغيناني)) (1/ 130)، ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 106)، ((التمهيد لابن عبد البر)) (21/ 97)، ((حاشية الدسوقي)) (1/ 526)، ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 423)، ((نهاية المحتاج للرملي)) (3/ 158)، ((المغني لابن قدامة)) (3/ 35)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 310)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 291)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 291).
(8) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).


المطلب الثاني: ما يفطر عليه الصائم
الفرع الأول: ما يستحب أن يفطر عليه الصائم
يستحب الإفطار على رطب، فإن لم يوجد فتمر، فإن لم يوجد فماء، وهو قول عامة أهل العلم (1).
الدليل:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات، حسا حسوات (2) من ماء)) (3).
الفرع الثاني: من لم يجد رطباً ولا تمراً ولا ماء
من لم يجد رطباً ولا تمراً ولا ماء، فليفطر على ما تيسر من مأكول أو مشروب (4).
الفرع الثالث: من لم يجد شيئا يفطر عليه من مأكول أو مشروب
من لم يجد شيئا يفطر عليه من مأكول أو مشروب، فإنه ينوي الفطر بقلبه (5)
ولا يمص إصبعه، أو يجمع ريقه ويبلعه كما يفعل البعض (6).
_________
(1) ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 343). ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 703)، ((الشرح الكبير للدردير)) (1/ 515) ((مغني المحتاج للشربيني الخطيب)) (1/ 434). ((كتاب الصيام من شرح العمدة لابن تيمية)) (1/ 510) ((زاد المعاد لابن القيم)) (2/ 51) ((سبل السلام)) للصنعاني (2/ 155). ((نيل الأوطار للشوكاني)) (4/ 221) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 261).
(2) قال الشوكاني: (قوله: حسا حسوات، أي: شرب شربات والحسوة المرة الواحدة) ((نيل الأوطار)) (4/ 221).
(3) رواه أحمد (3/ 164) (12698)، وأبو داود (2356)، والترمذي (696) واللفظ له، والحاكم (1/ 597)، والبيهقي (4/ 239) (8389). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصحح إسناده الدارقطني في ((السنن)) (2/ 401)، وعبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (385) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.
(4) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 261).
(5) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 261)، ((الشرح الممتع)) (6/ 437).
(6) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 261).


المطلب الثالث: ما يقال عند الإفطار
عن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر (1) إن شاء الله)) (2).
_________
(1) قال الطيبي: (قوله: (ثبت الأجر) بعد قوله (ذهب الظمأ) استبشار منه؛ لأنه من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب وأراد اللذة بما أدركه ذكر له تلك المشقة ومن ثم حمد أهل الجنة في الجنة) ((فيض القدير للمناوي)) (5/ 136). وقال القاري: ((وابتلت العروق) أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش ... وقال: (ثبت الأجر) أي زال التعب وحصل الثواب) ((مرقاة المفاتيح)) (4/ 474).
(2) رواه أبو داود (2357)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 255)، والحاكم (1/ 584)، والبيهقي (4/ 239) (8391). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الدارقطني في ((السنن)) (2/ 185): إسناده حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وحسن إسناده ابن قدامة المقدسي في ((المغني)) (3/ 108)، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 339)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).


المطلب الأول: تعريف السحور لغة واصطلاحاً
أولاً: تعريف السحور لغةً:
السَّحُور بالفتح: طعامُ السَّحَرِ وشرابُه، وبالضم: أكل هذا الطعام. فهو بالفتح اسم ما يُتَسَحَّر به، وبالضم المصدر والفعل نفسه (1).
ثانياً: تعريف السحور اصطلاحاً:
السَّحور هو: كلُّ طعام أو شراب يتغذَّى به آخر الليل من أراد الصيام (2).
_________
(1) ((لسان العرب لابن منظور)) (مادة: سحر). قال الأَزهري: (السَّحُور: ما يُتَسَحَّرُ به وقت السَّحَر من طعام أو لبن أو سويق، وضع اسماً لما يؤكل ذلك الوقت، وقد تسحر الرجل ذلك الطعام أي أكله) ((تهذيب اللغة)) (مادة: سحر). وقال ابن الأَثير: ( .. وهو بالفتح - أي السَّحُور -: اسم ما يُتَسحَّرُ به من الطعام والشراب، وبالضم - أي السُّحُور -: المصدر والفعل نفسه) ((النهاية)) (مادة: سحر).
(2) ((الصيام في الإسلام لسعيد بن علي القحطاني)) (ص 247).


المطلب الثاني: حكم السحور
السحور سنةٌ في حق من يريد الصيام.
الأدلة:
أولاً من السنة: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة القولية والفعلية.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السَّحور بركة (1))). أخرجه البخاري ومسلم (2).
2 - وعن أنس رضي الله عنه أن زيد بن بن ثابت رضي الله عنه حدثه: ((أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قاموا إلى الصلاة ... (3))). أخرجه البخاري ومسلم (4).
ثانياً: الإجماع:
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر (5)، وابن قدامة (6)، والنووي (7).
_________
(1) قال البخاري في صحيحه: (باب بركة السحور من غير إيجاب: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يُذكَرِ السَّحور). ((صحيح البخاري)) قبل حديث (1922)، وانظر ((فتح الباري لابن حجر)) (4/ 139).
(2) رواه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
(3) قال الجصاص: (فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السحور، وليس يمتنع أن يكون مراد الله بقوله وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ في بعض ما انتظمه: أكْلة السحور، فيكون مندوباً إليها بالآية. فإن قيل: قد تضمنت الآية لا محالة الرخصة في إباحة الأكل وهو ما كان منه في أول الليل لا على وجه السحور، فكيف يجوز أن ينتظم لفظ واحد ندباً وإباحة؟ قيل له: لم يثبت ذلك بظاهر الآية، وإنما استدللنا عليه بظاهر السنة، فأما ظاهر اللفظ فهو إطلاق إباحة على ما بينا) ((أحكام القرآن)) (1/ 289).
(4) رواه البخاري (575)، ومسلم (1097).
(5) قال ابن المنذر: (وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه) ((الإجماع)) (ص 49).
(6) قال ابن قدامة: (ولا نعلم فيه بين العلماء خلافاً) ((المغني)) (3/ 54).
(7) قال النووي: (وأجمع العلماء على استحبابه - أي: السحور- وأنه ليس بواجب) ((شرح مسلم)) (7/ 206).


المطلب الثالث: فضائل السحور
السحور بركة (1)
الدليل:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السَّحور بركة)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
والبركة في السحور تحصل بجهات متعددة، منها: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام (3).
_________
(1) قال ابن دقيق العيد: (البركة محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من: الفعل - أي الأكل - والمتسحَّر به - أي الطعام - معاً) ((إحكام الأحكام)) (1/ 269).
(2) رواه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
(3) ((فتح الباري لابن حجر)) (4/ 140). قال النووي: (وسبب البركة فيه: تقويته الصائم على الصوم وتنشيطه له وفرحه به وتهوينه عليه، وذلك سبب لكثرة الصوم) ((المجموع)) (6/ 360). وقال ابن دقيق العيد: (وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية لقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إجحاف به) ((إحكام الأحكام)) (1/ 269). وقال ابن عثيمين: (بركة السحور المراد بها البركة الشرعية، والبركة البدنية، أما البركة الشرعية فمنها امتثال أمر الرسول والاقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما البركة البدنية فمنها تغذية البدن وقوته على الصوم) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 362) وقال أيضاً: (ومن بركته أنه معونة على العبادة فإنه يعين الإنسان على الصيام فإذا تسحر كفاه هذا السحور إلى غروب الشمس مع أنه في أيام الإفطار يأكل في أول النهار وفي وسط النهار وفي آخر النهار ويشرب كثيراً فينزل الله البركة في السحور، يكفيه من قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 336).


المطلب الرابع: الحكمة من السحور
من حكم السحور ومقاصده:
1 - أنه معونة على العبادة، فإنه يعين الإنسان على الصيام.
2 - وفيه مخالفة أهل الكتاب فإنهم لا يتسحرون.
الدليل:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلة السَّحَر)) أخرجه مسلم (1).
معناه: الفارقُ والمميزُ بين صيامنا وصيامهم: السحور؛ فإنهم لا يتسحرون، ونحن يستحب لنا السحور. وأَكلة السَّحَر هي: السحور (2).
_________
(1) رواه مسلم (1096).
(2) ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 207).


المطلب الخامس: وقت السحور واستحباب تأخيره
الفرع الأول: وقت السحور
وقت السحور يكون في آخر الليل (1).
الفرع الثاني: تأخير السحور
المسألة الأولى: حكم تأخير السحور
يستحب تأخير السحور إلى قرب طلوع الفجر، ما لم يخش طلوعه، فإن خشي طلوعه فليبادر إلى التسحر (2). وقد اتفق الفقهاء على أن تأخير السحور من السنة (3).
الدليل:
عن أنس رضي الله عنه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدَّثه ((أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلى الصلاة، قلت - أي أنس -: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين آية (4))). أخرجه البخاري ومسلم (5).
ففي الحديث: بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تأخير السحور إلى قبيل الفجر (6).
المسألة الثانية: حكم قضاء من تسحر معتقداً أنه ليل، فتبين له دخول وقت الفجر
من تسحر معتقداً أنه ليل، فتبين له أن الفجر قد دخل وقته، فقد اختلف أهل العلم هل عليه القضاء أم لا؟ على قولين:
القول الأول: صومه صحيح، ولا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف (7): واختاره ابن تيمية (8)، وابن عثيمين (9).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قول الله سبحانه وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
_________
(1) قال ابن حجر: (السحر هو آخر الليل ... السُّحور هو الغذاء في ذلك الوقت، وبالفتح - أي السَّحور-: ما يؤكل في ذلك الوقت) ((فتح الباري)) (1/ 130). وقال الليث: (السَّحَرُ: آخِرُ الليل) ((تهذيب اللغة)) (مادة: سحر). قال ابن عثيمين: (السحر لغةً: ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السحر لآخر الليل؛ لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السحور؛ لما يؤكل في آخر الليل؛ لأنه يكون خفيًّا) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/ 489). وانظر ((فقه الدليل لعبد الله الفوزان)) (3/ 199)، و ((معرفة أوقات العبادات لخالد المشيقح)) (2/ 137).
(2) ((الشرح الممتع)) (6/ 434). قال ابن عثيمين: (وينبغي للمرء أن يكون مستعداً للإمساك قبل الفجر خلاف ما يفعله بعض الناس إذا قرب الفجر جدًّا قدم سحوره زاعماً أن هذا هو أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأخير السحور، ولكن ليس هذا بصحيح، فإن تأخير السحور إنما ينبغي إلى وقت يتمكن الإنسان فيه من التسحر قبل طلوع الفجر، والله أعلم) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 295).
(3) ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 105)، ((التمهيد لابن عبدالبر)) (21/ 97)، ((بداية المجتهد لابن رشد)) (1/ 307)، ((المجموع للنووي)) (3/ 378 - 379)، ((مغني المحتاج للشربيني)) (1/ 435)، ((كشاف القناع للبهوتي)) (2/ 331)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 234).
(4) قال ابن حجر: (في قوله: قدر خمسين آية؛ أي: متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة) ((فتح الباري)) (1/ 367).
(5) رواه البخاري (1921)، ومسلم (1097).
(6) ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 208).
(7) قال ابن قدامة: (وحكي عن عروة, ومجاهد والحسن, وإسحاق: لا قضاء عليهم) ((المغني)) (3/ 35).
(8) قال ابن تيمية: (وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتى يتبين الطلوع. ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر ففي وجوب القضاء نزاع. والأظهر أنه لا قضاء عليه وهو الثابت عن عمر وقال به طائفة من السلف والخلف). ((مجموع الفتاوى)) (25/ 216).
(9) ((الشرح الممتع)) (6/ 394 - 395، 398)، ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (19/ 292 - 294).


أنَّ الأصل بقاء الليل حتى يتبين دخول الفجر, وضد التبين: الشك والظن، ومن القواعد الفقهية المقررة أن اليقين لا يزول بالشك، فما دمنا لم نتبين الفجر، فلنا أن نأكل ونشرب.
1 - قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]
وجه الدلالة:
أن من أكل أو شرب جاهلاً بدخول وقت الفجر فهو مخطئ، والخطأ معفوٌّ عنه.
ثانياً: من السنة:
حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما حيث قالت: ((أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس)). أخرجه البخاري (1). ولم ينقل أنهم أمروا بالقضاء، وإذا كان هذا في آخر النهار فأوله من باب أولى؛ لأن أوله مأذون له بالأكل والشرب فيه حتى يتبين له الفجر (2).
القول الثاني: عليه القضاء، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية (3) والمالكية (4) والشافعية (5) والحنابلة (6).
الدليل:
قول الله سبحانه وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]
وتبيُّنُ طلوع الفجر قد حصل في هذه الحالة، فلزمه القضاء (7).
المسألة الثالثة: حكم تناول السحور أثناء الأذان
- إن كان المؤذن ثقة لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر، وجب الإمساك بمجرد سماع أذانه.
- وإن كان المؤذن يؤذِّن قبل طلوع الفجر لم يجب الإمساك وجاز الأكل والشرب حتى يتبين الفجر، كما لو عرف أن المؤذن يتعمد تقديم الأذان قبل الوقت، أو كأن يكون في برية ويمكنه مشاهدة الفجر، فإنه لا يلزمه الإمساك إذا لم يطلع الفجر، ولو سمع الأذان.
- وإن كان لا يعلم حال المؤذن، هل أذَّن قبل الفجر أو بعد الفجر، فإنه يمسك أيضاً فإن الأصل أن المؤذن لا يؤذِّن إلا إذا دخل الوقت، وهذا أضبط في الفتوى وعليه عمل الناس.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
_________
(1) رواه البخاري (1959).
(2) ((الشرح الممتع)) (6/ 333 - 394).
(3) ((الهداية للمرغيناني)) (1/ 129)، ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 322).
(4) ((المدونة الكبرى)) (1/ 266)، ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 704).
(5) قال النووي: (ولو أكل ظانًّا غروب الشمس فبانت طالعة أو ظانًّا أن الفجر لم يطلع فبان طالعاً صار مفطراً هذا هو الصحيح الذى نص عليه الشافعي، وقطع به المصنف والجمهور) ((المجموع للنووي)) (6/ 313).
(6) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 310) قال أبو داود: قلت لأحمد: (إذا تسحر وهو يرى أن عليه ليلاً وقد أصبح؟ قال: يقضي) ((مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني)) (ص 93).
(7) قال البابرتي الحنفي: (أما فساد صومه فلانتفاء ركنه بغلط يمكن الاحتراز عنه في الجملة بخلاف النسيان. وأما إمساك البقية فلقضاء حق الوقت بالقدر الممكن .. ، آنفا أو لنفي التهمة، فإنه إذا أكل ولا عذر به اتهمه الناس بالفسق، والتحرز عن مواضع التهم واجب. وأما القضاء فلأنه حق مضمون بالمثل شرعا فإذا فوته قضاه كالمريض والمسافر. وأما عدم الكفارة فلأن الجناية قاصرة لعدم القصد) ((العناية شرح الهداية للبابرتي)) (2/ 372)، ((الهداية للمرغناني)) (1/ 129).


أن الله سبحانه وتعالى قد علَّق الحكم بتبين طلوع الفجر، أي تيقن دخول وقته.
ثانياً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)). أخرجه البخاري ومسلم (1).
فعلق صلى الله عليه وسلم أذان ابن أم مكتوم رضي الله عنه بدخول وقت الفجر الثاني، فالعبرةُ بذلك، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى دخل وقت الفجر وجب الإمساك، وإن لم يُؤذَّن للصلاة، ومتى لم يدخل وقت الفجر لم يجب الإمساك وإن أُذِّن للصلاة.
أدلة الإمساك عملاً بالأحوط كما في بعض الحالات السابقة:
1 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ... )) أخرجه البخاري ومسلم (2).
2 - عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك)) (3)
المسألة الرابعة: من طلع عليه الفجر وفي فمه طعام
اتفق أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة على أن من طلع عليه الفجر وفي فمه طعام أن يلفظه ويتم صومه، فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه (4)؛ وذلك لأنه ابتلع طعاماً باختياره مع أنه يمكنه لفظه فأفطر بذلك.
واستثنى بعض أهل العلم (5) من سمع الأذان وفي يده إناء، أن يتناول منه، واستشهدوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)) (6).
_________
(1) رواه البخاري (623)، ومسلم (1092).
(2) رواه البخاري (2051)، ومسلم (1599).
(3) رواه أحمد (1/ 200) (1723)، والترمذي (2518)، والنسائي (8/ 327)، والطبراني (3/ 75) (2709)، والحاكم (2/ 15)، والبيهقي (5/ 335) (11134). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه النووي في ((المجموع)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(4) ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 91)، ((حاشية الدسوقي)) (1/ 533)، ((المجموع للنووي)) (6/ 319)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 307)، ((المحلى لابن حزم)) (6/ 229). وقال ابن القيم: (وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر وهو قول الأئمة الأربعة وعامة فقهاء الأمصار وروى معناه عن عمر وابن عباس) ((تهذيب سنن أبي داود)) (6/ 209).
(5) قال الألباني: (فيه دليلٌ على أن من طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده أنه يجوز له أن لا يضعه حتى يأخذ حاجته منه فهذه الصورة مستثناة من الآية: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، فلا تعارض بينها وما في معناها من الأحاديث وبين هذا الحديث ولا إجماع يعارضه بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى أكثر مما أفاده الحديث وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر وينتشر البياض في الطرق) ((تمام المنة في التعليق على فقه السنة)) (1/ 417). وقال ابن عثيمين: ( .. وأما تحريم الطعام فلقول الله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ*البقرة:187* .... فمتى تبين وجب الإمساك، لكن يرخص للإنسان الذي يكون الإناء في يده أن يكمل نهمته منه، أو اللقمة في يده أن يكملها، وأما أن يستأنف بعد تبين الصبح فلا يجوز) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (1/ 446).
(6) رواه أحمد (10637)، وأبو داود (2350)، والدارقطني (2182)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8275). وقد اختلف أهل العلم في الحكم عليه، فسكت عنه أبو داود، وضعف أبو حاتم الرازي في ((العلل)) (2/ 59) رفعه وصححه موقوفاً عن أبي هريرة، وجود إسناده ابن تيمية في ((شرح العمدة - الصيام)) (1/ 526)، وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (2350): حسن صحيح.


المطلب السادس: ما يحصل به السحور
الفرع الأول: ما يحصل به السحور
يحصل السحور بكل مطعوم أو مشروب (1) ولو كان قليلاً (2).
الدليل:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء .. )) (3).
الفرع الثاني: ما يسن التسحر به
يسن التسحر بالتمر.
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نِعْمَ سحور المؤمن التمر)) (4).
_________
(1) قال ابن قدامة: (وكل ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السحور؛ لقوله عليه السلام: ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء) ((المغني)) (3/ 55). وقال البهوتي: ((وتحصل فضيلته) أي: السحور (بشرب) لحديث: ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء. (و) يحصل (كمالها) أي: فضيلة السحور (بأكل) للخبر، وأن يكون من تمر لحديث: نعم سحور المؤمن التمر) ((شرح منتهى الإرادات)) (1/ 489). قال ابن تيمية: (والأشبه: أنه إن قدر على الأكل فهو السنة) ((كتاب الصيام من شرح العمدة)) (1/ 521).
(2) قال ابن حجر: (يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب) ((فتح الباري)) (4/ 140). قال الحجاوي: ( .. تحصل فضيلة السحور بأكل أو شرب وإن قل) (الإقناع للحجاوي)) (1/ 315)، قال البهوتي: (لحديث أبي سعيد: ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء) ((كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي)) (2/ 331 - 332).
(3) رواه أحمد (3/ 12) (11101). وقوى إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 150) وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 228) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3683).
(4) رواه أبو داود (2345)، وابن حبان (8/ 253) (3475)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 236) (8375). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (13/ 136)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).


المبحث الثالث: اجتناب الصائم للمحرمات
إن ثمرة الصيام الأساسية هي أن يكون حافزاً للصائم على تقوى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] أي: من أجل أن تتقوا الله عز وجل وتجتنبوا محارمه.
ولا يريد الله سبحانه من عباده أن يضيق عليهم بترك الأكل والشرب والجماع ولكن يريد أن يمتثلوا أمره.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه (1))). أخرجه البخاري (2).
فالصيام مدرسة عظيمة، فيها يكتسب الصائمون فضائل جليلة، ويتخلَّصون من خصال ذميمة، يتعودون على ترك المحرمات، ويقلعون عن مقارفة السيئات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث (3)، ولا يصخب (4) فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)). أخرجه البخاري ومسلم (5).
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث ولا يجهل (6) فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم)). أخرجه البخاري ومسلم (7).
فيجب على الصائم خاصة، الحذر من المعاصي واجتنابها، فهي تجرح الصوم، وتُنقِصُ الأجر (8)، وذلك مثل الغيبة، والنميمة، والكذب، والغش، والسخرية من الآخرين، وسماع الأغاني، والمعازف، والنظر إلى المحرمات، وغير ذلك من أنواع المعاصي والمنكرات.
_________
(1) قال ابن حجر: (والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السفه، والعمل به: أي بمقتضاه) ((فتح الباري)) (4/ 117)، وقيل: الجهل هو الظلم. ((الحلل الإبريزية)) (2/ 121). قال ابن عثيمين: (قول الزور: كل قول محرَّم، والعمل بالزور: كل فعل محرَّم) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 27).
(2) رواه البخاري (1903).
(3) قال ابن حجر: (والمراد بالرفث هنا: ... الكلام الفاحش وهو يطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها) ((فتح الباري)) (4/ 104).
(4) (الصخب: الخصام والصياح) ((فتح الباري)) (4/ 118).
(5) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
(6) قال النووي: (الجهل قريب من الرفث وهو خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل) ((شرح مسلم)) (8/ 28). وقال ابن حجر: (قوله: ولا يجهل، أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه) ((فتح الباري)) (4/ 104). وقال ابن عثيمين: (ولا يجهل: يعني: لا يعتدي على أحد، وليس المراد: لا يجهل، يعني: يتعلم، ولكنه الجهل من الجهالة لا من الجهل ... ) ((شرح صحيح مسلم)) (4/ 119).
(7) رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151) واللفظ له.
(8) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 320) قال النووي: (وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث ... بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الرديء لا أن الصوم يبطل به) ((المجموع)) (6/ 356) وقال النووي أيضا: (واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصًّا به بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك لكن الصائم آكد والله أعلم) ((شرح مسلم)) (8/ 28 - 29). وقال القرطبي: (لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم) ((فتح الباري لابن حجر)) (4/ 104).


المبحث الرابع: اشتغال الصائم بالطاعات
دلت الأدلة الشرعية على أن الحسنات تُضاعَف أضعافاً كثيرةً في الزمان الفاضل، كرمضان وغيره (1).
فحريٌّ بالصائم الذي امتنع عن المباحات من المفطرات، وابتعد عن جميع المحرمات، أن يكون ديدنه الاشتغال بالطاعات، على كثرة أنواعها، وتنوع أصنافها، كقراءة القرآن الكريم، وكثرة الذكر، والدعاء، والإحسان إلى الآخرين، والتعاون على البر والتقوى، ومن ذلك تفطير الصائمين.
فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً (2))) (3).
فينبغي للإنسان أن يحرص على تفطير الصائمين بقدر المستطاع، لاسيما إذا كان الصائم فقيراً محتاجاً، أو عاجزاً.
_________
(1) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/ 134). قال ابن تيمية: (وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل) ((الاختيارات الفقهية)) (1/ 463).
(2) قال النووي: (يستحب أن يدعو الصائم ويفطره في وقت الفطر وهذا لا خلاف في استحبابه للحديث) ((المجموع)) (6/ 363). * قال ابن باز: (الحديث عام يعم الغني والفقير، والفرض والنفل، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (25/ 207). * قال ابن عثيمين: (وظاهر الحديث أن الإنسان لو فطر صائماً ولو بتمرة واحدة فإنه له مثل أجره) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 359). قال ابن تيمية: (والمراد بتفطيره أن يشبعه) ((الاختيارات الفقهية)) (1/ 460). قال النووي: (قال المتولي فإن لم يقدر على عشائه، فطَّرهُ على تمرة أو شربة ماء أو لبن) ((المجموع)) (6/ 363).
(3) رواه الترمذي (807)، وأحمد (4/ 114) (17074)، والدارمي (2/ 14) (1702)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 256) (3331)، والطبراني (5/ 256) (5279). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (403) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (1/ 346) - كما اشترط على نفسه في المقدمة - والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).


المبحث الخامس: ما يقوله الصائم إن سابَّه أحد أو شاتمه أو قاتله
ينبغي للصائم إن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله أن يقول جهراً (1): إني صائم.
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم (3))). أخرجه البخاري ومسلم (4).
_________
(1) انظر ((المجموع)) (6/ 356). قال ابن تيمية: (والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث، فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان وأما ما في النفس فمقيد) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 197). وقال ابن القيم: (ونهى الصائِم عن الرَّفَث، والصَّخَب والسِّباب وجوابِ السِّباب، فأمره أن يقول لمن سابَّه: إنِّي صائم، فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهر) ((زاد المعاد)) (2/ 52). وقال ابن عثيمين: (الصحيح أنه يقولها جهراً في صوم النافلة والفريضة؛ وذلك لأن فيه فائدتين: الفائدة الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائماً لا لعجزه عن المقابلة بالمثل. الفائدة الثانية: تذكير هذا الرجل بأن الصائم لا يشاتم أحداً، وربما يكون هذا الشاتم صائماً كما لو كان ذلك في رمضان، وكلاهما في الحضر سواء حتى يكون قوله هذا متضمناً لنهيه عن الشتم، وتوبيخه عليه) ((الشرح الممتع)) (6/ 432)، وانظر ((شرح صحيح مسلم لابن عثيمين)) (4/ 119).
(2) رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151) واللفظ له.
(3) قال الصنعاني: (فلا تشتم مبتدئاً ولا مجاوباً) ((سبل السلام)) (2/ 157).
(4) رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151) واللفظ له.


المبحث السادس: ما يفعله الصائم إذا دعي إلى طعام
ينبغي للصائم إذا دعي إلى طعام أن يقول: إني صائم، سواء كان صوم فرض أو نفل.
فإن كان يشق على صاحب الطعام صومُه، استُحِبَّ له الفطر وإلا فلا، هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً حرُمَ الفطر (1).
الأدلة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)). أخرجه مسلم (2).
2 - عن أنس رضي الله عنه قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم. ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها (3))). أخرجه البخاري ومسلم (4).
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، وإن لم يسمح وطالبه بالحضور لزمه الحضور ولا يلزمه الأكل (5).
ومن أهل العلم من فرَّق بين الفرض والنفل في مسألة الحضور، فإن كان صومه فرضا فليس عليه أن يحضر؛ لأن الداعي سيعذره، وإن كان نفلا فيُنظر إن كان الداعي ممن له حق عليه لقرابة أو صداقة ويخشى إن اعتذر أن يكون في قلبه شيء، فالأفضل أن يحضر ولا يعتذر (6).
- ومن حضر وهو صائم، ولم يفطر، فليدعُ لصاحب الطعام (7).
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل (8)، وإن كان مفطرا فليطعم)). أخرجه مسلم (9).
وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليدعُ)) (10).
_________
(1) ((شرح النووي على مسلم)) (9/ 236)، وانظر ((شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)) (2/ 480).
(2) رواه مسلم (1150).
(3) قال ابن باز: (الضيف إذا كان صائما فهو مخير إن شاء أفطر وإن شاء صام، وقد صام هنا صلى الله عليه وسلم، وإن كان صائما فليصل، وفي لفظ: فليدعُ) ((الحلل البازية)) (2/ 157).
(4) رواه البخاري (1982)، ومسلم (2481).
(5) قال النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم فيما إذا دعي وهو صائم فليقل إني صائم، محمولٌ على أنه يقول له اعتذارا له وإعلاما بحاله وليس الصوم عذرا في إجابة الدعوة ولكن إذا حضر لا يلزمه الأكل) ((شرح مسلم)) (8/ 28).
(6) قال ابن عثيمين: (ثم إذا حضر فالذكي يعرف كيف يتخلص، فإذا جلس على طعام فليستخدم نفسه لإخوانه مثلا، فيقطع لهذا اللحم، ويحضر لهذا صحن المرق، وهذا يواسيه بالأسمار ... ) ((شرح صحيح مسلم)) (4/ 118).
(7) ((المحلى لابن حزم)) (7/ 32)، ((شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)) (2/ 480).
(8) قوله: (فليصل): أي فليدعُ. ((فتح الباري لابن حجر)) (9/ 247)، ((الشرح الممتع)) (12/ 336).
(9) رواه مسلم (1431).
(10) رواه أبو داود (3737). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).