الموسوعة الفقهية الدرر السنية

الباب الثاني: شهر رمضان فضائله، خصائصه، حكم صومه، طرق إثبات دخوله وخروجه
• الفصل الأول: فضائل شهر رمضان.
• الفصل الثاني: خصائص شهر رمضان وليلة القدر.
• الفصل الثالث: حكم صوم شهر رمضان، وحكم تاركه.
• الفصل الرابع: إثبات دخول شهر رمضان وخروجه.


الفصل الأول: فضائل شهر رمضان
1 - تُكفَّر به الخطايا:
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان (1) إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)). أخرجه مسلم (2).
2 - تُغفَر فيه الذنوب:
الأدلة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه)). أخرجه البخاري ومسلم (3).
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( .. ورغم أنف رجلٍ دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفرَ له .. )) (4).
3 - صيام رمضان من أسباب دخول الجنة:
الدليل:
عن جابر رضي الله عنه ((أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم)). أخرجه مسلم (5).
_________
(1) قال ابن فارس: ( .. الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس. وأرض رمضة: حارة الحجارة. وذكر قومٌ أن رمضان اشتقاقه من شدة الحر؛ لأنهم لما نقلوا اسم الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة، فوافق رمضان أيام رمض الحر) ((معجم مقاييس اللغة)) (مادة: رمض).
(2) رواه مسلم (233).
(3) رواه البخاري (38)، ومسلم (760).
(4) رواه أحمد (2/ 254) (7444)، والترمذي (3545)، وابن حبان (3/ 189) (908)، وروى الحاكم (1/ 734) أوله. قال الترمذي: حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 416) كما قال ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق مسند أحمد (13/ 189)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح.
(5) رواه مسلم (15).


المبحث الأول: خصائص شهر رمضان
1. فيه أُنزل القرآن:
الدليل:
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]
وكان هذا في ليلة القدر من رمضان، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]
وقال سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان: 3]
2. فيه أُنزلت الكتب الإلهية الأخرى:
الدليل:
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت صحف إبراهيم أول ليلةٍ من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان)) (1).
3. فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين:
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)). أخرجه البخاري ومسلم (2).
4. العمرة فيه تعدل حجة:
الدليل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ من الأنصار: ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحاً ننضح عليه. قال: فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة)). أخرجه البخاري ومسلم (3).
وفي روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية: ما منعك من الحج؟ قالت: أبو فلان - تعني زوجها - كان له ناضحان حج على أحدهما والآخر يسقي أرضاً لنا. قال: فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي)). أخرجه البخاري ومسلم (4).
- وهذا الفضل ليس مختصًّا بهذه المرأة وحدها، بل هو عامٌّ لجميع المسلمين (5)، (6).
- وكان السلف رحمهم الله يسمون العمرة في رمضان: الحج الأصغر (7)؛ لأن المعتمر في رمضان إن عاد إلى بلده فقد أتى بسفرٍ كاملٍ للعمرة ذهاباً وإياباً في شهر رمضان، فاجتمع له حرمة شهر رمضان وحرمة العمرة، وصار ما في ذلك من شرف الزمان والمكان، يناسب أن يُعدَلَ بما في الحج من شرف الزمان - وهو أشهر الحج - وشرف المكان (8).
- كما أن هذه العمرة لا تغني عن حجة الإسلام الواجبة، بإجماع أهل العلم (9)، فلا يلزم من معادلة الشيء للشيء أن يكون مجزئاً عنه، فهو يعادله في الثواب لا في الإجزاء عنه (10).
_________
(1) رواه أحمد (4/ 107) (17025)، والطبراني (22/ 75) (185)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 414) (2248). وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1575): إسناده حسن ورجاله ثقات.
(2) رواه البخاري (3277)، ومسلم (1079) واللفظ له.
(3) رواه البخاري (1782)، ومسلم (1256).
(4) رواه البخاري (1863)، ومسلم (1256).
(5) قال ابن حجر: (والظاهر حمله على العموم كما تقدم) ((فتح الباري)) (3/ 605). وقال ابن عثيمين: (والصحيح أنها عامة خلافاً لمن قال: إن هذا الحديث ورد في المرأة التي تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحج فقال لها: ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي))، فإن بعض العلماء قال: إن هذا خاصٌّ بهذه المرأة يريد أن يطيب قلبها، ولكن الصواب أنها عامة) ((الشرح الممتع)) (7/ 378).
(6) قال ابن باز: (أفضل زمانٍ تؤدى فيه العمرة: شهر رمضان) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/ 431).
(7) ((فتح القدير)) (3/ 137).
(8) ((مجموع الفتاوى)) (26/ 293).
(9) قال ابن بطال: (فيه دليلٌ على أن الحج الذي ندبها إليه كان تطوعاً لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة) ((فتح الباري لابن حجر)) (3/ 604). وقال النووي: (وفي الرواية الأخرى تقضي حجة، أي تقوم مقامها في الثواب لا أنها تعدلها في كل شيء فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة). وقال ابن تيمية: (المشبه ليس كالمشبه به من جميع الوجوه لا سيما في هذه القصة باتفاق المسلمين) ((مجموع الفتاوى)) (26/ 293). وقال ابن حجر: (فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض؛ للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض، ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن) ((فتح الباري)) (3/ 604)، وانظر ((الشرح الكبير لابن قدامة)) (3/ 500)، ((شرح مسلم)) (9/ 2)، ((الفروع وتصحيح الفروع)) (5/ 321)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 70 - 71).
(10) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 71).


المبحث الثاني: ليلة القدر
أ- تعريف ليلة القدر، وإثبات وجودها
· تعريف ليلة القدر
ليلة القدر مركبة من كلمتين:
الأولى: ليلة وهي لغة: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ويقابلها النهار. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي لها عن المعنى اللغوي.
والثانية: القدر، ومعناه لغة: الشرف والوقار، ومن معانيه أيضاً: الحكم والقضاء والتضييق.
واختلف العلماء في المراد به على عدة أقوال منها:
- التعظيم والتشريف، ومنه قوله تعالى: وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]
والمعنى: أنها ليلة ذات قدر وشرف؛ لنزول القرآن فيها، وغير ذلك، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر وشرف.
- التضييق ومنه قوله تعالى: وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7].
ومعنى التضييق فيها: إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة.
- القدْر بمعنى القدَر - بفتح الدال - بمعنى الحكم والفصل والقضاء، قال العلماء: سميت ليلة القدر بذلك لما تكتب فيها الملائكة من الأرزاق والآجال وغير ذلك مما سيقع في هذه السنة بأمرٍ من الله سبحانه لهم بذلك، ويدل عليه قول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (1) [الدخان: 3 - 5].
· هل ليلة القدر موجودة أم رفعت؟
ليلة القدر موجودةٌ لم ترفع، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وهذا مذهب عامة أهل العلم (2).
الأدلة:
الأحاديث الكثيرة التي تحث المسلم على طلبها والاجتهاد في إدراكها، ومنها:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)). أخرجه البخاري ومسلم (3).
- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)). أخرجه البخاري ومسلم (4).
ب- فضل ليلة القدر وقيامها
· فضل ليلة القدر
- أنزل فيها القرآن:
قال تعالى: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1].
- يقدر الله فيها كل ما هو كائنٌ في السنة:
قال تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 4، 5].
وهو تقديرٌ ثانٍ، إذ إن الله قدر كل شيء قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة.
ففي تلك الليلة يقدر الله مقادير الخلائق على مدار العام، ويكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والعزيز والذليل، وكل ما أراده الله سبحانه وتعالى في السنة المقبلة، يُكتَبُ في ليلة القدر هذه. (5)
- أنها ليلة مباركة:
قال تعالى إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان: 3].
- العبادة فيها تفضل العبادة في ألف شهر:
قال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3].
_________
(1) ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (35/ 360) بتصرف.
(2) قال النووي: (قال القاضي: وشذ قوم فقالوا: رفعت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحا الرجلان: (فرفعت). وهذا غلط من هؤلاء الشاذين؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في السبع والتسع) هكذا هو في أول صحيح البخاري، وفيه تصريحٌ بأن المراد برفعها: رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها) ((شرح مسلم)) (8/ 58).
(3) رواه البخاري (2014)، ومسلم (760).
(4) رواه البخاري (2017)، ومسلم (1169).
(5) انظر: ((تفسير الطبري)) (16/ 480)، و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 469).


فالعبادة فيها أفضل عند الله من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وألف شهر أي: ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً.
- ينزل فيها جبريل والملائكة بالخير والبركة:
قال تعالى: تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4].
فتنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة.
- ليلة القدر سلامٌ:
قال تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5]
فهي ليلةٌ خاليةٌ من الشر والأذى، وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر، وتكثر فيها السلامة من العذاب، فهي سلامٌ كلها.
· فضل قيامها
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). أخرجه البخاري ومسلم (1).
ج- ما يشرع في ليلة القدر
· القيام:
يشرع في هذه الليلة الشريفة قيام ليلها بالصلاة.
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). أخرجه البخاري ومسلم (2)
· الاعتكاف:
يشرع في ليلة القدر الاعتكاف، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر التماساً لليلة القدر.
الدليل:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر)). أخرجه البخاري ومسلم (3)
· الدعاء:
يشرع الدعاء فيها والتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
الدليل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني)) (4).
· العمل الصالح:
قال الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3]
قال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ففي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر (5).
د- وقت ليلة القدر وعلامتها
وقت ليلة القدر
_________
(1) رواه البخاري (2014)، ومسلم (760).
(2) رواه البخاري (2014)، ومسلم (760).
(3) رواه البخاري (2027)، واللفظ له، ومسلم (1167).
(4) رواه أحمد (6/ 171) (25423)، والترمذي (3513)، وابن ماجة (3119)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 407) (7712)، والحاكم (1/ 712)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 338) (3700)، قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال النووي في ((الأذكار)) (247): إسناده صحيح.
(5) ((تفسير القرطبي)) (20/ 131).


ثبتت الأحاديث أنها في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3)، واختاره ابن تيمية (4) والصنعاني (5)، وابن باز (6)، وابن عثيمين (7).
الأدلة:
- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)). أخرجه البخاري ومسلم (8)
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)). أخرجه البخاري (9).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما، ((أنَّ رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)). أخرجه البخاري ومسلم (10).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)). أخرجه البخاري ومسلم (11)
هل ليلة القدر تتنقل أم هي ثابتة؟
_________
(1) ((القوانين الفقهية لابن جزي)) (ص 85)، ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 740).
(2) قال النووي: (مذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من رمضان وفي أوتارها أرجى) ((روضة الطالبين للنووي)) (2/ 389)، ((مغني المحتاج للشربيني الخطيب)) (1/ 449).
(3) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 60)، ((كشاف القناع للبهوتي)) (2/ 344).
(4) قال ابن تيمية: (ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي في العشر الأواخر من رمضان. وتكون في الوتر منها) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 284).
(5) قال الصنعاني: (وجمع بين الروايات بأن العشر للاحتياط منها وكذلك السبع والتسع لأن ذلك هو المظنة وهو أقصى ما يظن فيه الإدراك) ((سبل السلام)) (2/ 176).
(6) قال ابن باز: (والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير، أدرك ليلة القدر بلا شك وفاز بما وعد الله به من قامها إذا فعل ذلك إيماناً واحتساباً) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 399).
(7) قال ابن عثيمين: (وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان .. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع .. وهي في السبع الأواخر أقرب .. ) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 346 - 347).
(8) رواه البخاري (2017)، ومسلم (1169).
(9) رواه البخاري (2021).
(10) رواه البخاري (2015)، ومسلم (1165).
(11) رواه البخاري (6991)، ومسلم (1165).


لا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تتنقل في ليالي العشر الأواخر من رمضان، وهو قول أبي حنيفة (1)، ومالك (2)، وأحمد (3)، واختاره ابن عبدالبر (4)، والنووي (5) وابن حجر (6)، وابن باز (7)، وابن عثيمين (8). فتكون في عامٍ ليلة سبع وعشرين مثلاً، وفي عامٍ آخر ليلة خمس وعشرين تبعاً لمشيئة الله تعالى وحكمته.
الدليل:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين. فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت، فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً)). أخرجه البخاري ومسلم (9).
- عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأُراني صبحَها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله، فانصرف، وإنّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه)). أخرجه البخاري ومسلم (10).
سبب إخفاء ليلة القدر عن العباد
- أخفى سبحانه علمها على العباد رحمة بهم؛ ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء؛ فيزدادوا قربة من الله وثواباً.
- أخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جادًّا في طلبها حريصاً عليها ممن كان كسلان متهاوناً، فإن من حرص على شيء جدَّ في طلبه، وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به.
علامة ليلة القدر
أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام.
الدليل:
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (( ... أخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)). أخرجه مسلم (11)
وفي لفظ آخر لمسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه: ((وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها)). أخرجه مسلم (12).
_________
(1) ((القدير للكمال بن الهمام)) (2/ 389)، ((تبيين الحقائق للزيلعي)) (1/ 347).
(2) قال ابن جزي: (أنها ليست معينة ولا معروفة بل منتقلة، قال ابن رشد: وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وابن حنبل وهو أصح الأقوال، وعلى ذلك فانتقالها في العشر الوسط من رمضان، وفي العشر الأواخر، والغالب أن تكون من الوسط ليلة سبعة عشر وتسعة ومن الأواخر في الأوتار منها) ((القوانين الفقهية لابن جزي)) (ص 85)، ((الفواكه الدواني للنفراوي)) (2/ 740).
(3) قال المرداوي: (وقال غيره تنتقل في العشر الأخيرة وحكاه ابن عبد البر عن الإمام أحمد، قلت: وهو الصواب الذي لا شك فيه) ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 355).
(4) قال ابن عبدالبر: (وفيه دليل على انتقالها والله أعلم وأنها ليست في ليلة واحدة معينة في كل شهر رمضان فربما كانت ليلة إحدى وعشرين وربما كانت ليلة خمس وعشرين وربما كانت ليلة سبع وعشرين وربما كانت ليلة تسع وعشرين) ((التمهيد)) (2/ 204).
(5) قال النووي رحمه الله: (وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها) ((المجموع)) (6/ 450).
(6) قال ابن حجر: (وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب) ((فتح الباري)) (4/ 266).
(7) قال ابن باز: (والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 399).
(8) قال ابن عثيمين: (والصحيح أنها تتنقل فتكون عاما ليلة إحدى وعشرين، وعاما ليلة تسع وعشرين، وعاما ليلة خمس وعشرين، وعاما ليلة أربع وعشرين، وهكذا؛ لأنه لا يمكن جمع الأحاديث الواردة إلا على هذا القول، لكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين، ولا تتعين فيها كما يظنه بعض الناس، فيبني على ظنه هذا، أن يجتهد فيها كثيرا ويفتر فيما سواها من الليالي) ((الشرح الممتع)) (6/ 492).
(9) رواه البخاري (2108)، واللفظ له، ومسلم (1167).
(10) رواه مسلم (1168).
(11) رواه مسلم (762).
(12) رواه مسلم (762).


الفصل الثالث: حكم صوم شهر رمضان، وحكم تاركه
• المبحث الأول: حكم صوم شهر رمضان.
• المبحث الثاني: حكم ترك صوم شهر رمضان.


المبحث الأول: حكم صوم شهر رمضان
يجب صوم شهر رمضان وهو فريضة، وركنٌ من أركان الإسلام.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
1 - قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]
2 - قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]
ثانياً: من السنة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)). أخرجه البخاري ومسلم (1).
ثالثاً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على فرضية صوم شهر رمضان، وأنه من مباني الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، وممن نقل الإجماع على فرضيته: ابن قدامة (2)، والنووي (3)، وابن تيمية (4).
_________
(1) رواه البخاري (8)، ومسلم (16).
(2) قال ابن قدامة: (وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان) ((المغني)) (3/ 3).
(3) قال النووي: (وهذا الحكم الذي ذكره - أي الشيرازي صاحب المهذب - وهو كون صوم رمضان ركناً وفرضاً، مجمعٌ عليه ودلائل الكتاب والسنة والإجماع متظاهرةٌ عليه) ((المجموع شرح المهذب)) (6/ 252).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 116). وقال ابن المنذر: (وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على وجوب صيام شهر رمضان) ((الإشراف) (3/ 107).


المطلب الأول: حكم من ترك صوم شهر رمضان جاحداً لفرضيته
من ترك صوم شهر رمضان جاحداً لفرضيته فهو كافرٌ بإجماع أهل العلم إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ بعيدة من المسلمين، بحيث يعقل أن يخفى عليه وجوبها (1).
_________
(1) ((بدائع الصنائع)) (2/ 75)، ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/ 1092)، ((مواهب الجليل)) (3/ 276)، ((المجموع شرح المهذب)) (3/ 14)، ((مغني المحتاج)) (1/ 420)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 333).


المطلب الثاني: حكم من ترك صوم شهر رمضان متعمداً كسلاً وتهاوناً
من ترك صوم شهر رمضان متعمداً كسلاً وتهاوناً ولو يوماً واحداً منه، بحيث إنه لم ينو صومه من الأصل، فقد أتى كبيرةً من كبائر الذنوب، وتجب عليه التوبة، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم (1)، واختلفوا هل عليه القضاء أم لا؟ على قولين:
القول الأول: عليه القضاء (2)، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك (3)، وبه أفتى ابن باز (4).
القول الثاني: لا يلزمه القضاء، وهو مذهب الظاهرية (5)، واختاره ابن تيمية (6)، وابن عثيمين (7).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قول الله تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229]
وجه الدلالة:
أنَّ ترْكَ صوم رمضان من تعدي حدود الله عز وجل، وتعدي حدود الله تعالى ظلم، والظالم لا يُقبل منه.
ثانياً: من السنة:
عموم حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). أخرجه البخاري ومسلم (8)
فالقاعدة أن كل عبادة مؤقتة بوقت معين لا تقبل من صاحبها، إذا أخرت عن ذلك الوقت المعين بلا عذر، وعليه فمن ترك صوم رمضان لا يقبل منه لو صامه قضاء.
ثالثاً: القياس:
فكما لو أنه قدم هذه العبادة على وقتها - أي فعلها قبل دخول الوقت - لم تقبل منه، فكذلك إذا فعلها بعده لم تقبل منه إلا أن يكون معذوراً.
_________
(1) ((الكافي لابن عبد البر)) (2/ 1092)، ((مواهب الجليل للحطاب)) (3/ 276)، ((المجموع للنووي)) (3/ 14)، ((مغني المحتاج للخطيب الشربيني)) (1/ 420)، ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 75)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي)) (1/ 195)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 332). ونقل المناوي عن الذهبي قوله: (وعند المؤمنين مقرَّرٌ أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عرض أنه شر من المكاس والزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال) ((فيض القدير)) (4/ 410 - 411).
(2) وذلك لأن ذمته مازالت مشغولةً بأداء الصوم المفروض عليه.
(3) قال ابن عبد البر: (وأجمعت الأمة ونقلت الكافة فيمن لم يصم رمضان عامداً وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشراً وبطراً تعمد ذلك ثم تاب عنه، أن عليه قضاءه) ((الاستذكار)) (1/ 77).
(4) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/ 331، 332، 333 - 334).
(5) قال ابن رجب: (ومذهب الظاهرية أو أكثرهم: أنه لا قضاء على المتعمد، وحكي عن عبد الرحمن صاحب الشافعي بالعراق، وعن ابن بنت الشافعي، وهو قول أبي بكر الحميدي في الصوم والصلاة إذا تركهما عمداً، أنه لا يجزئه قضاؤهما، ذكره في عقيدته في آخر مسنده، ووقع مثله في كلام طائفة من أصحابنا المتقدمين، منهم: الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة) ((فتح الباري لابن رجب)) (3/ 355)، وانظر ((الاختيارات الفقهية لابن تيمية)) (ص 404).
(6) قال ابن تيمية: (وتارك الصلاة عمداً لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يُكثر مِن التطوع، وكذا الصوم، وهو قول طائفة من السلف، كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود وأتباعه وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه) ((الاختيارات الفقهية)) (ص 404).
(7) قال ابن عثيمين: (أما لو ترك الصوم من الأصل متعمداً بلا عذر فالراجح أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه لا يستفيد به شيئاً؛ إذ أنه لن يقبل منه، فإن القاعدة أن كل عبادة مؤقتة بوقت معين فإنها إذا أخرت عن ذلك الوقت المعين بلا عذر لم تقبل من صاحبها) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 89 - 90).
(8) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) واللفظ له.


الفصل الرابع: إثبات دخول شهر رمضان وخروجه
• المبحث الأول: طرق إثبات دخول شهر رمضان.
• المبحث الثاني: طرق إثبات خروج شهر رمضان.


المبحث الأول: طرق إثبات دخول شهر رمضان
• المطلب الأول: رؤية الهلال.
• المطلب الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
• المطلب الثالث: الحساب الفلكي.


المطلب الأول: رؤية الهلال
الفرع الأول: طلب رؤية الهلال
يشرع ترائي الهلال في اليوم التاسع والعشرين ليلة الثلاثين (1)، ومن أهل العلم من يعبر باستحباب ذلك (2) ومنهم من يعبر بأنه فرض كفاية (3).
الأدلة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)). أخرجه البخاري ومسلم (4)
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) (5).
3 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام)) (6).
4 - وقد حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته على رؤية هلال رمضان فكانوا يتراءونه (7):
1 - فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بصيامه)) (8).
2 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر، فرأيته وليس أحدٌ يزعم أنه رآه غيري - قال - فجعلت أقول لعمر أما تراه؟ فجعل لا يراه - قال - يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي)). أخرجه مسلم (9).
الفرع الثاني: العدد المعتبر في الرؤية
_________
(1) وذلك احتياطاً للصوم وحذراً من الاختلاف.
(2) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 4)، ((كشاف القناع للبهوتي)) (2/ 300).
(3) ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 313)، ((البحر الرائق لابن نجيم)) (2/ 284).
(4) رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081).
(5) رواه الترمذي (687)، والحاكم (1/ 587)، والبيهقي (4/ 206). قال الترمذي: لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية والصحيح لا تقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال البيهقي: ثابت، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 153)، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (6/ 407)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 317) كما قال في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(6) رواه أحمد (6/ 149) (25202)، وأبو داود (2325)، والحاكم (1/ 585). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الدارقطني في ((السنن)) (2/ 354): إسناده حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال ابن الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (2/ 289): رواته ثقات محتج بهم في الصحيح، وقال ابن الملقن في ((الإعلام)) (5/ 182): إسناده على شرط الصحيح، وقال ابن حجر في ((الدراية)) (1/ 276): على شرط مسلم.
(7) قال ابن عثيمين: (ترائي الهلال: هلال رمضان، أو هلال شوال، أمرٌ معهودٌ في عهد الصحابة رضي الله عنهم ... ولا شك أن هدي الصحابة رضي الله عنهم أكمل الهدي وأتمه) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 37).
(8) رواه أبو داود (2342)، وابن حبان (8/ 231) (3447)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 165) (3877)، والبيهقي (4/ 212) (8235). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 236)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (380) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام بأحاديث الأحكام)) (1/ 342).
(9) رواه مسلم (2873).


يكفي في ثبوت دخول رمضان شهادة عدلٍ واحد، وهو مذهب الشافعية (1)، والحنابلة (2)، وطائفةٍ من السلف (3)، وهو اختيار ابن باز (4)، وابن عثيمين (5).
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بصيامه)) (6).
ثانياً: القياس
قياساً على الأذان، فالناس يفطرون بأذان الواحد، ويمسكون بأذان الواحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)). أخرجه البخاري ومسلم (7).
الفرع الثالث: اشتراط قوة البصر مع العدالة
يُشترَطُ في الرائي مع عدالته، قوةُ بصره (8).
الأدلة:
1 - عموم قوله تعالى حكايةً عن إحدى ابنتي صاحب مدين: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص: 26]
2 - عموم قوله تعالى: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]
وجه الدلالة من الآيتين:
أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل، ومن ذلك الشهادة، إذ لابد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة، ولابد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به.
الفرع الرابع: من رأى هلال رمضان وحده ولم يشهد برؤيته، أو شهد ولم تقبل شهادته
المسألة الأولى: حكم من رأى الهلال وحده
من رأى هلال رمضان وحده، ولم يشهد برؤيته، أو شهد ولم تقبل شهادته، فقد اختلف فيه أهل العلم هل يصوم وحده أم لا؟ على قولين:
_________
(1) ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 411)، ((المجموع للنووي)) (6/ 277).
(2) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 47)، ((الفروع لابن مفلح)) (4/ 416).
(3) قال ابن قدامة: (وهو قول عمر, وعلي, وابن عمر, وابن المبارك) ((المغني)) (3/ 47).
(4) قال ابن باز: (والهلال يثبت بشاهدٍ واحدٍ في دخول رمضان، شاهدٍ عدلٍ، عند جمهور أهل العلم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 61).
(5) ((الشرح الممتع لابن عثيمين)) (6/ 312).
(6) رواه أبو داود (2342)، وابن حبان (8/ 231) (3447)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 165) (3877)، والبيهقي (4/ 212) (8235). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 236)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (380) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام بأحاديث الأحكام)) (1/ 342).
(7) رواه البخاري (622)، ومسلم (1092) من حديث عائشة رضي الله عنها. ورواه البخاري (623)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(8) قال ابن عثيمين: (ويشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر، بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته وإن كان عدلاً؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل، فإننا نعلم أنه متوهم) ((الشرح الممتع)) (6/ 315)، وانظر ((شرح صحيح مسلم لابن عثيمين)) (4/ 26).


القول الأول: يصوم مع الناس (1)، إذا صاموا، ولا يبني على رؤيته، وهذا قولٌ لبعض السلف (2)، ورواية عن أحمد (3)، واختيار ابن تيمية (4)، وابن باز (5).
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)) (6).
وجه الدلالة:
أن المعتبر في الصيام أو الإفطار هو الذي يثبت عند الناس، والشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته، لا يكون هذا صوماً له، كما لم يكن للناس.
القول الثاني: يصوم بناءً على رؤيته (7)، وهو قول أكثر أهل العلم (8) واتفقت عليه المذاهب الفقهية: الحنفية (9)، والمالكية (10)، والشافعية (11)، والحنابلة (12)، والظاهرية (13)، وهو اختيار ابن عثيمين (14).
الأدلة:
أولا: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..... [البقرة: 185].
ثانيا: من السنة:
عموم حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا .. )). أخرجه مسلم (15).
وجه الدلالة:
أنه قد أمر بالصيام عند رؤية الهلال، ومن رآه لوحده داخلٌ في عموم الأمر بذلك.
المسألة الثانية: من رأى هلال رمضان وحده وهو في مكان ناءٍ ليس فيه أحد
من رأى هلال رمضان وحده وهو في مكانٍ ناءٍ ليس فيه أحد، فإنه يصوم، ويبني على رؤيته، ولا يرد عليه الخلاف السابق، ونص عليه ابن تيمية (16)، وابن باز (17)، وابن عثيمين (18).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..... [البقرة: 185]
ثانياً: من السنة:
_________
(1) وذلك لأن الهلال هو ما هل واشتهر بين الناس، لا ما رئي.
(2) نقل ابن المنذر هذا القول عن عطاء, وإسحاق ((الإشراف)) (3/ 114).
(3) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 47).
(4) قال ابن تيمية: (والثالث - أي من الأقوال -: يصوم مع الناس ويفطر مع الناس وهذا أظهر الأقوال) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 114).
(5) قال ابن باز: (وإذا رأى الهلال شخص واحد ولم تقبل شهادته لم يصم وحده ولم يفطر وحده في أصح قولي العلماء، بل عليه أن يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 64).
(6) رواه الترمذي (697) واللفظ له، والدارقطني (2/ 366). قال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 159)، وقال النووي في ((المجموع)) (6/ 283): إسناده حسن، وصححه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 280).
(7) وذلك لأنه إذا لزمه الصوم لرؤية غيره وهي رؤية مظنونة، فلَأَن يلزمه من رؤيته هو، وهي متيقَّنة، أولى وأحرى.
(8) قال ابن عبد البر: (لم يختلف العلماء فيمن رأى هلال رمضان وحده، فلم تقبل شهادته أنه يصوم؛ لأنه متعبد بنفسه لا بغيره، وعلى هذا أكثر العلماء، لا خلاف في ذلك إلا شذوذ لا يُشتغَلُ به) ((التمهيد)) (14/ 355).
(9) ((الهداية للميرغيناني)) (1/ 120)، ((حاشية ابن عابدين))، (2/ 388).
(10) ((التمهيد)) (14/ 355)، ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 387).
(11) ((المجموع للنووي)) (6/ 280).
(12) ((الفروع لابن مفلح)) (4/ 421)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 277).
(13) ((المحلى لابن حزم)) (6/ 235).
(14) قال ابن عثيمين: ( .. ولكن إذا كان في البلد، وشهد به عند المحكمة، ورُدَّتْ شهادته، فإنه في هذه الحال يصوم سرًّا؛ لئلا يعلن مخالفة الناس) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 74 - 75).
(15) رواه مسلم (1081).
(16) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 117 - 118).
(17) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 73).
(18) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 74 - 75).


عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا .. )). أخرجه مسلم (1)
فمن رآه لوحده داخلٌ في عموم الأمر بذلك.
الفرع الخامس: اتفاق المطالع واختلافها
إذا رأى أهل بلدٍ الهلال، فقد اختلف أهل العلم هل يلزم الناس بالصوم بناءً على رؤية هذا البلد، أم أن لكل بلدٍ رؤية مستقلة؟ على أقوال، منها:
القول الأول: يجب الصوم على الجميع مطلقاً، وهو قول الجمهور من الحنفية (2)، والمالكية (3)، والحنابلة (4)، وهو اختيار ابن تيمية (5)، وابن باز (6)، والألباني (7)، وصدر على وَفقه قرار المجمع الفقهي (8).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..... [البقرة: 185]
وجه الدلالة:
أن الخطاب يشمل جميع الأمة، فإذا ثبت دخول الشهر في بلد، وجب على الجميع صومه.
ثانياً: من السنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته)). أخرجه البخاري ومسلم (9).
وجه الدلالة:
أن الحديث قد أوجب الصوم بمطلق الرؤية لجميع المسلمين، دون تحديد ذلك بمكانٍ معين.
القول الثاني: لا يجب الصوم على الجميع مع اختلاف المطالع، وإنما يجب على من رآه أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، وهذا قول الشافعية (10)، وهو قول طائفةٍ من السلف (11)، واختاره الصنعاني (12)، وابن عثيمين (13).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..... [البقرة: 185]
وجه الدلالة:
أن الذين لا يوافقون في المطالع من شاهده، لا يُقال إنهم شاهدوه حقيقة ولا حكماً، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده.
ثانياً: من السنة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)). أخرجه البخاري ومسلم (14).
وجه الدلالة:
_________
(1) رواه مسلم (1081).
(2) ((بدائع الصنائع للكاساني)) (2/ 83)، ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 313).
(3) ((الذخيرة للقرافي)) (2/ 490)، ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 381).
(4) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 5)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 193).
(5) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 104).
(6) قال ابن باز: (أما المطالع فلا شك في اختلافها في نفسها، أما اعتبارها من حيث الحكم فهو محل اختلاف بين العلماء، والذي يظهر لي أن اختلافها لا يؤثر وأن الواجب هو العمل برؤية الهلال صوماً وإفطاراً وتضحية متى ثبتت رؤيته ثبوتاً شرعيًّا في أي بلد ما؛ لعموم الأحاديث كما تقدم، وهو قول جمع كثير من أهل العلم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 78 - 79).
(7) قال الألباني: (فهو الحق الذي لا يصح سواه ولا يعارضه حديث ابن عباس .... ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلدٍ أو إقليمٍ، من غير تحديد مسافةٍ أصلاً) ((تمام المنة للألباني)) (ص 398).
(8) ((مجلة المجمع الفقهي)) (3 - 2/ 1085).
(9) رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081).
(10) ((المجموع للنووي)) (6/ 273)، ((مغني المحتاج للخطيب الشربيني)) (1/ 422).
(11) نقل ابن المنذر هذا القول عن عكرمة, وإسحاق, والقاسم, وسالم. ((الإِشراف)) (3/ 112).
(12) قال الصنعاني: (في <
h6> المسألة أقوالٌ ليس على أحدها دليلٌ ناهضٌ، والأقرب لزوم أهل بلدٍ الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها) ((سبل السلام)) (2/ 151).
(13) قال ابن عثيمين: (وهذا القول هو القول الراجح، وهو الذي تدل عليه الأدلة) ((الشرح الممتع)) (6/ 310).
(14) رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081).


أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع، لا يقال إنه رآه لا حقيقةً ولا حكماً.
2 - عن كريب ((أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي - شك يحيى بن يحيى، أحد رواة الحديث، في نكتفي أو تكتفي - برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)). أخرجه مسلم (1).
ثالثاً: القياس:
فهناك اختلافٌ في التوقيت اليومي بين المسلمين بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق، فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر.
فكما أن المسلمين مختلفون في الإفطار والإمساك اليومي، فلا بد أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري.
الفرع السادس: الرؤية عبر الوسائل الحديثة
المسألة الأولى: حكم الاعتماد على الأقمار الصناعية في رؤية الهلال
لا يجوز الاعتماد على الأقمار الصناعية في رؤية الهلال؛ وذلك لأن الأقمار الصناعية تكون مرتفعةً عن الأرض التي هي محل ترائي الهلال (2).
المسألة الثانية: حكم استعمال المراصد الفلكية لرؤية الهلال
يجوز استعمال المراصد الفلكية لرؤية الهلال كالدربيل وهو المنظار المقرِّب، ولكنه ليس بواجب (3)، فلو رأى الهلال عبرها من يُوثَقُ به فإنه يُعمل بهذه الرؤية، وهو اختيار ابن باز (4)، وابن عثيمين (5)، وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء (6)، وهو قرار مجمع الفقه الإسلامي (7).
الدليل:
عموم ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( .. فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)). أخرجه مسلم (8)
وجه الدلالة:
أن هذه الرؤية تحصل باستعمال المراصد الفلكية.
الفرع السابع: من اشتبهت عليه الأشهر
المسألة الأولى: ما يلزم الأسير ونحوه من الاجتهاد والحالات المترتبة على اجتهاده
_________
(1) رواه مسلم (1087).
(2) انظر ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 62).
(3) وذلك لأن الظاهر من السنة: الاعتماد على الرؤية المعتادة لا على غيرها.
(4) قال ابن باز: (أما الآلات فظاهر الأدلة الشرعية عدم تكليف الناس بالتماس الهلال بها، بل تكفي رؤية العين، ولكن من طالع الهلال بها وجزم بأنه رآه بواسطتها بعد غروب الشمس وهو مسلمٌ عدل، فلا أعلم مانعاً من العمل برؤيته الهلال؛ لأنها من رؤية العين لا من الحساب) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 69).
(5) قال ابن عثيمين: (ولا بأس أن نتوصل إلى رؤية الهلال بالمنظار، أو المراصد)) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 62). وقال ابن عثيمين أيضاً: (وقد كان الناس قديماً يستعملون ذلك لما كانوا يصعدون المنائر في ليلة الثلاثين من شعبان، أو ليلة الثلاثين من رمضان فيتراءونه بواسطة هذا المنظار) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/ 36).
(6) انظر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 108 بتاريخ 12/ 11/1403 بشأن إنشاء مراصد يُستعان بها عند رؤية الهلال.
(7) من قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثانية التي عقدت في جدة عام (1985م) ودورته الثالثة التي عقدت في عمّان عام (1986م) ((موقع مجمع الفقه الإسلامي الدولي)).
(8) رواه مسلم (1081).


من عمي عليه خبر الهلال والشهور، كالسجين والأسير بدار الحرب وغيرهما، فإنه يجتهد ويتحرى الهلال (1)، ويصوم شهراً، وهذا قول عامة الفقهاء (2)، فهو مذهب الحنفية (3)، والمالكية (4). والشافعية (5)، والحنابلة (6) (7)، وقد حكى الماوردي إجماع السلف على ذلك (8).
- فإن صام مجتهداً بما غلب على ظنه، فله أربع حالات:
1 - أن يتبين له أن صومه وافق شهر رمضان، فصومه صحيح، ولا إعادة عليه؛ قياساً على من اجتهد في القبلة، وصلى وبان له صواب الاجتهاد، فإنه يجزئه، فكذلك الحال في الصوم إذا أدى هذه العبادة باجتهاد، فوجب إذا بان له صواب اجتهاده، أن يجزيه.
2 - أن يستمر الإشكال عليه، فلا يعلم هل وافق الشهر أو تقدمه أو تأخره، فيجزئه ولا إعادة عليه؛ وذلك لأن الظاهر من الاجتهاد صحة الأداء، ما لم يتيقن الخطأ، وقد أدى ما عليه.
3 - أن يتيبن له أن صومه كان قبل رمضان، فعليه الإعادة، وهو قول أكثر الفقهاء (9)؛ وذلك لأنه تعين له يقين الخطأ، فوجب أن يلزمه القضاء، كما لو بان له أداء الصلاة قبل الوقت، فإنه تلزمه الإعادة.
4 - أن يتبين له أنه صام بعد نهاية شهر رمضان، فهذا يجزئه، ولا إعادة عليه (10) إلا فيما لا يصح صيامه كالعيدين (11)، فإن عليه أن يعيد الأيام التي لا يصح صيامها، وهو قول عامة الفقهاء (12)؛ وذلك لأن القضاء قد استقر في ذمته بفوات الشهر، ثم وافق صومه زمان القضاء.
المسألة الثانية: حكم صوم الأسير ونحوه من غير اجتهاد
إن صام الأسير ونحوه من غير اجتهاد، فلا يصح صومه، وعليه الإعادة، حتى وإن تبين له أن صومه وافق رمضان (13)، وهو قول الشافعية (14)؛ وذلك لأنه شرع في العبادة شاكًّا من غير مستند شرعي، فتعدى حدود الله تعالى، وفعل ما لم يُؤذَن له فيه.
_________
(1) وذلك لأنه مأمورٌ بصوم رمضان، وطريق الوصول إليه في هذه الحالة غير ممكنٍ إلا بالتحري والاجتهاد. قال ابن قدامة: (من كان محبوساً أو مطموراً, أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر, فاشتبهت عليه الأشهر, فإنه يتحرى ويجتهد, فإذا غلب على ظنه عن أمارةٍ تقوم في نفسه دخول شهر رمضان، صامه) ((المغني)) (3/ 50). وقال النووي: (الأسير ونحوه إذا اشتبهت عليه شهور يتحرى ويصوم بما يظهر بالعلامة أنه رمضان) ((المجموع)) (6/ 287).
(2) قال ابن قدامة: ( ... فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 50). انظر ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 459)، ((المجموع للنووي)) (6/ 289).
(3) ((أحكام القرآن للجصاص)) (1/ 233)، ((فتح القدير للكمال ابن الهمام)) (2/ 312).
(4) ((التاج والإكليل للمواق)) (2/ 417)، ((شرح مختصر خليل للخرشي)) (2/ 245).
(5) ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 459)، ((المجموع للنووي)) (6/ 288).
(6) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 50)، ((الفروع لابن مفلح)) (4/ 427).
(7) قال ابن تيمية: ( .. فإنه يجتهد ويتحرى في معرفة عين الشهر ودخوله، كما يتحرى في معرفة وقت الصلاة، وجهة القبلة، وغير ذلك عند الاشتباه؛ لأنه لا يمكنه أداء العبادة إلا بالتحري والاجتهاد، فجاز له ذلك كما يجوز في الصلاة) ((كتاب الصيام من شرح العمدة)) (1/ 159)
(8) ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 459)، ((المجموع للنووي)) (6/ 289)
(9) قال ابن قدامة: (الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء) ((المغني)) (3/ 50). قال النووي: (أن يصادف صومه ما قبل رمضان فينظر إن أدرك رمضان بعد بيان الحال لزمه صومه بلا خلاف لتمكنه منه في وقته (وإن) لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) القطع بوجوب القضاء (وأصحهما) وأشهرهما فيه قولان (أصحهما) وجوب القضاء (والثاني) لا قضاء) ((المجموع)) (6/ 286). انظر ((الحاوي الكبير للماوردي)) (3/ 459)، ((شرح مختصر خليل للخرشي)) (2/ 245).
(10) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 50)، ((المجموع للنووي)) (6/ 289)، ((شرح مختصر خليل للخرشي)) (2/ 245).
(11) قال ابن قدامة: (فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به, وإن وافق أيام التشريق, فهل يعتد بها؟ على روايتين: بناء على صحة صومها على الفرض) ((المغني)) (3/ 51). وقال أيضاً: (أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه, محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة) ((المغني)) (3/ 51).
(12) قال ابن قدامة: (الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده, فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء) ((المغني)) (3/ 50).
(13) ((المجموع للنووي)) (6/ 288)، ((نهاية المحتاج للرملي)) (3/ 162).
(14) قال النووي: (فإن صام بغير اجتهاد ووافق رمضان لم يجزئه بلا خلاف) ((المجموع للنووي)) (6/ 284).


المطلب الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً
الفرع الأول: إذا لم تثبت الرؤية في التاسع والعشرين
إذا لم تثبت رؤية هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان، فإننا نكمل شعبان ثلاثين يوماً، سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة، وهو قول عامة أهل العلم (1).
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)). أخرجه البخاري ومسلم (2)
الفرع الثاني: حكم صوم يوم الثلاثين من شعبان احتياطاً لرمضان
_________
(1) ((أحكام القرآن للجصاص)) (1/ 250)، ((الاستذكار لابن عبد البر)) (3/ 276، 278)، ((المجموع للنووي)) (6/ 269)، ((المغني لابن قدامة)) (3/ 6). قال ابن عبد البر: (والذي عليه جمهور أهل العلم أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان واليقين في ذلك رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً) ((الاستذكار)) (3/ 276) وقال أيضا: (وعلى هذا مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب منهم مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وعامة أهل الحديث إلا أحمد بن حنبل ومن قال منهم بقوله) ((الاستذكار)) (3/ 278).
(2) رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081).


لا يجوز لأحدٍ صوم يوم الثلاثين من شعبان (1)، احتياطاً لرمضان، إلا إن وافق صوماً كان يصومه (2)، وهو مذهب المالكية (3)، والشافعية (4)، ورواية عن أحمد (5)، وهو قول الجصاص (6)، وابن حزم (7)، وابن عبد البر (8)، وابن باز (9)، وابن عثيمين (10)، (11).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..... [البقرة: 185]
وهذا لم يشهد الشهر وصامه، فهو متعدٍّ لحدود الله عز وجل.
ثانياً: من السنة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)). أخرجه البخاري ومسلم (12).
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهر تسعٌ وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)). أخرجه البخاري ومسلم (13).
وجه الدلالة:
أن هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً، حرم صوم يوم الشك.
3 - عن عمار رضي الله عنه أنه قال: ((من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)). أخرجه البخاري معلقاً (14).
_________
(1) وهو المسمى بيوم الشك، على خلاف بين أهل العلم في تحديد معنى يوم الشك.
(2) وذلك لأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك.
(3) ((الكافي لابن عبدالبر)) (1/ 348)، ((التمهيد لابن عبدالبر)) (2/ 39).
(4) ((المجموع للنووي)) (6/ 399)، إلا أن يوم الشك له معنى عندهم، حيث قال النووي: (قال أصحابنا يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في ألسنة الناس إنه رؤي ولم يقل عدل إنه رآه أو قاله وقلنا لا تقبل شهادة الواحد أو قاله عدد من النساء أو الصبيان أو العبيد أو الفساق وهذا الحد لا خلاف فيه عند أصحابنا قالوا فأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك سواء كانت السماء مصحية أو أطبق الغيم هذا هو المذهب) ((المجموع للنووي)) (6/ 401).
(5) قال ابن قدامة: (وعن أحمد رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ومن تبعهم .. ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك) ((المغني)) (3/ 6).
(6) قال الجصاص: ( .. الشاك غير شاهد للشهر إذ هو غير عالم به فغير جائز له أن يصومه عن رمضان) ((أحكام القرآن)) (1/ 255).
(7) قال ابن حزم: (ولا يجوز صوم يوم الشك الذي من آخر شعبان, ولا صيام اليوم الذي قبل يوم الشك المذكور إلا من صادف يوماً كان يصومه فيصومهما حينئذ للوجه الذي كان يصومهما له لا لأنه يوم شك، ولا خوفاً من أن يكون من رمضان) ((المحلى)) (7/ 23).
(8) قال ابن عبد البر: (لا يجوز لأحد صوم يوم الشك خوفا من أن يكون من رمضان) ((الكافي)) (1/ 348)
(9) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 408) ويوم الشك عنده هو يوم الثلاثين من شعبان مطلقاً سواء كان الجو صحواً أو غيماً.
(10) قال ابن عثيمين: ( .. والصحيح أن صومه محرم إذا قصد به الاحتياط لرمضان) ((الشرح الممتع)) (6/ 479) ويوم الشك عنده هو يوم الثلاثين من شعبان إن كان في السماء ما يمنع من رؤية الهلال.
(11) نقل النووي عن الخطيب البغدادي أن ممن قال بمنع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة وتابعهم من التابعين سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو وائل وعبد الله ابن عكيم الجهني وعكرمة والشعبي والحسن وابن سيرين والمسيب بن رافع وعمر بن عبد العزيز ومسلم بن يسار وأبو السوار العدوي وقتادة والضحاك بن قيس وإبراهيم النخعي وتابعهم من الخالفين والفقهاء المجتهدين ابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق بن راهويه ((المجموع)) (6/ -420 - 421).
(12) رواه البخاري (1914)، ومسلم (1082).
(13) رواه البخاري (1907)، ومسلم (1080).
(14) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (1906)، ورواه موصولا أبو داود (2334)، والترمذي (686)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1342)، والدارمي (2/ 5) (1682)، وابن حبان (8/ 351) (3585)، والحاكم (1/ 585)، وانظر: ((تغليق التعليق)) (3/ 139).


المطلب الثالث: الحساب الفلكي
لا يجوز العمل بالحساب الفلكي، ولا الاعتماد عليه في إثبات دخول رمضان (1).
الأدلة:
أولاً: من السنة:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)). أخرجه البخاري ومسلم (2)
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)). أخرجه البخاري ومسلم (3)
أوجه الدلالة:
1 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الحكم بالهلال معلَّقاً على الرؤية وحدها؛ فهي الأمر الطبيعي الظاهر الذي يستطيعه عامة الناس، فلا يحصل لبس على أحد في أمر دينه، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، أخرجه البخاري ومسلم (4).
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء الفلك، وقد جرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت، ولو كان قولهم هو الأصل وحده، أو أصلاً آخر مع الرؤية في إثبات الشهر لبين ذلك، فلما لم يُنقَل ذلك، بل نُقِلَ ما يخالفه، دل على أنه لا اعتبار شرعاً لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة.
3 - الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية.
4 - كما أن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من غيرهم.
ثانياً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على ذلك، وممن نقل الإجماع الجصاص (5)، وابن رشد (6)، والقرطبي (7) وابن تيمية (8). (9)
_________
(1) تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس من العامة والخاصة في الصحاري والبنيان، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة؛ لأن أغلب الأمة لا يعرف الحساب، ودعوى زوال وصف الأمية بعلم النجوم عن الأمة غير مسلَّم.
(2) رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081).
(3) رواه البخاري (1906)، ومسلم (1080).
(4) رواه البخاري (1913)، ومسلم (1080).
(5) قال الجصاص: (فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارجٌ عن حكم الشريعة وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونص السنة وإجماع الفقهاء بخلافه) ((أحكام القرآن)) (1/ 250).
(6) ((بداية المجتهد لابن رشد)) (1/ 283 - 284).
(7) قال القرطبي: (وهذا لا نعلم أحداً قال به – أي: الأخذ بالحساب وتقدير المنازل- إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم) ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/ 293).
(8) قال ابن تيمية: (نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 132). وقال أيضاً: (ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غُمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصًّا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 132 - 133).
(9) قال ابن باز: (ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله وقوله مردود؛ لأنه لا كلام لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع إجماع السلف) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 109).


المبحث الثاني: طرق إثبات خروج شهر رمضان
• المطلب الأول: رؤية هلال شوال.
• المطلب الثاني: إكمال رمضان ثلاثين يوماً.


المطلب الأول: رؤية هلال شوال
الفرع الأول: العدد المعتبر في الرؤية
لا بد من إخبار شاهدين عدلين برؤية هلال شوال، وهو قول أكثر العلماء (1).
الأدلة:
1 - عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ((أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) (2).
المراد بقوله: ((وأفطروا)): أي خروج شهر الصوم، ودخول شوال.
ومفهوم الحديث: عدم قبول شهادة الواحد على رؤية هلال شوال.
2 - ما رواه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختلف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا، وأن يغدوا إلى مصلاهم)) (3).
الفرع الثاني: حكم من رأى هلال شوال وحده
من رأى هلال شوال لوحده فإنه لا يفطر حتى يفطر الناس (4)، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (5)، والمالكية والحنابلة، (6)، وهو اختيار ابن تيمية (7)، وابن باز (8)، وابن عثيمين (9).
الدليل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( .. والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)) (10).
فإذا لم يفطر الناس وجب أن لا يفطر.
_________
(1) قال ابن عبد البر: (أما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع العلماء على أنه لا تقبل في شهادة شوال في الفطر إلا رجلان عدلان) ((التمهيد)) (14/ 354). قال ابن قدامة: (وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم، إلا أبا ثور، فإنه قال: يقبل قول واحد) ((المغني)) (3/ 48). قال النووي: (وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل) ((شرح النووي)) (7/ 190). وانظر ((مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (25/ 186). وقال ابن باز: (لا بد من شاهدين عدلين في جميع الشهور ما عدا دخول رمضان، فيكفي لإثبات دخوله شخص واحد عدل) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 61،62،64). وقال ابن عثيمين: (وهلال شوال وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) ((الشرح الممتع)) (6/ 320).
(2) رواه النسائي (4/ 132). وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (4/ 189): إسناده لا بأس به على اختلاف فيه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي))، وصححه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (15/ 123))، وقال في ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 147): إسناده حسن.
(3) رواه أبوداود (2339)، والدارقطني (2/ 374)، والبيهقي في ((السنن الصغرى)) (2/ 91)، والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الدارقطني: (إسناده حسن ثابت)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 380) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/ 113)، وفي ((نيل الأوطار)) (4/ 188): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود) (2339).
(4) وذلك لأن اتفاق الخلق الكثير على عدم رؤيته يدل على خطأ هذا الرائي.
(5) ((مجمع الأنهر لشيخي زاده)) (1/ 351)، ((الفتاوى الهندية)) (1/ 198).
(6) ((المغني لابن قدامة)) (3/ 49)، ((الإنصاف للمرداوي)) (3/ 196 - 197).
(7) قال ابن تيمية: (فالمنفرد برؤية هلال شوال لا يفطر علانية باتفاق العلماء، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر وهل يفطر سرا على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سرًّا) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 204).
(8) قال ابن باز: ( .. يفطر مع الناس، ولا يعمل بشهادة نفسه في أصح أقوال أهل العلم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/ 63).
(9) قال ابن عثيمين: (وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعاً للجماعة، وهذا من باب الاحتياط، فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر، ففي الصوم قلنا له: صم، وفي الفطر قلنا له: لا تفطر بل صم) ((الشرح الممتع)) (6/ 320).
(10) رواه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1355)، والدارقطني (2/ 366). قال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 159)، وقال النووي في ((المجموع)) (6/ 283): إسناده حسن، وصححه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 280).


المطلب الثاني: إكمال رمضان ثلاثين يوماً
إذا لم يَرَ هلال شوال شاهدان عدلان، وجب إكمال شهر رمضان ثلاثين يوماً، وقد حكى ابن تيمية اتفاق الأئمة على ذلك (1).
الدليل:
عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له (2))). أخرجه البخاري ومسلم (3).
والمراد بقوله: ((فاقدروا له)) أي: أكملوا العدة، كما فُسِّر في روايةٍ أخرى.
وهذا النص يعم شعبان ويعم رمضان.
_________
(1) قال ابن تيمية: (لو شكوا ليلةَ الثلاثين من رمضان؛ هل طلع الهلال أم لم يطلع؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 204).
(2) ((فتح الباري)) (1/ 170)، (4/ 120).
(3) رواه البخاري (1906) واللفظ له، ورواه مسلم (1080).