شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الطهارة - باب
إزالة النجاسة وبيانها [1]
الخمر نجسة عيناً، وتحريمها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا عولجت
صناعياً فلا تطهر، وإنما تطهر إذا تحولت تحولاً طبيعياً فصارت خلاً؛ وذلك
لأن النجاسات إنما تطهر بتفسخها وتغييرها إلى مادة أخرى، كاللبن الخارج من
بين الفرث والدم.
النجاسة وأحكامها
تصفية مياه المجاري
البحث الذي كثر السؤال عنه هو مياه المجاري إذا صفيت، وإذا عولجت، فهل تلك
التصفية وتلك المعالجة ستعيدها إلى أصلها؟ لقد بحثت هيئة كبار العلماء فيما
يتعلق بتصفية مياه المجاري وتخويلها إلى مياه صالحة لاستعمال.
وأقول: إن هذا البحث على ما فيه من سعة، وما فيه من فقه، وما فيه من أبحاث
كان ينبغي أن يذكر الفرق بين النجاسة الطارئة على الماء، وكيفية تطهيرها،
وبين النجاسة الأساسية، كيف تطهر، وكلما ورد في هذا البحث إنما هو تطهير
الماء إذا تنجس، والأمثلة فيه منها: ما لو سقطت ميتة في البئر، أو وقعت
الفأرة في السمن، وكلها أمثلة على ماء موجود طرأت عليه نجاسة، فكيف نطهره؟
هل بالمكاثرة، أو بالتراب، أو بإخراج الميتة من البئر؟ ولكن المبحث هنا هو
في الماء النجس العين، وهو ماء المجاري، فلم يتعرضوا له بشيء، وفي نهاية
البحث -جزاهم الله خيراً- قالوا: وينبغي على المسلمين أن يتجنبوا هذا الماء
ما دام الماء الآخر موجوداً متوفراً.
ولكن قالوا: من عافت نفسه أن يشرب فلا يشرب، ومن لم يجد غيره وتوضأ فوضوؤه
صحيح.
ولعل في هذا إشارة إلى بعض ما يتعلق بهذه المسألة، وهي تحول الماء الطاهر
-لا الماء النجس العين-، وهل تحوله يعيد إليه طهوريته أم لا.
ومن أراد البحث بشكل أوسع فليرجع إلى مجلة البحوث العلمية، وهو في عدد ذي
القعدة وذي الحجة لعام اثني عشر وأربعمائة وألف للهجرة، والبحث في أكثر من
ثلاثين صفحة.
وأحب أن أنبه أخيراً على أن القرآن اشتمل على منهج التدرج في تحريم الخمر؛
لأنها كانت متأصلة، أو كانت مستفيضة، واستمالت نفوس الناس، فتدرج الوحي
الكريم بتخفيفها شيئاً فشيئاً، حتى فطمهم عنها مرة واحدة، وبالله تعالى
التوفيق.
إراقة الخمر وإتلاف
أوانيه
جاءت في هذا الباب نصوص عديدة، منها أنه لما حرمت الخمر جاء رجل كان من
عادته في أوائل أمره أن يأتي بخمر يهديها للنبي صلى الله عليه وسلم،
والرسول صلى الله عليه وسلم ما شربها أبداً، ولكن كان يسمح بها لغيره، فجاء
وقد حرمت الخمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله قد حرم
الخمر؟ قال: ما علمت.
ثم قال: يا رسول الله! أبيعها؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها.
قال: أهديها لليهود؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم مهاداتها على اليهود قال:
ماذا أفعل بها؟ قال: سنها -أو: شنها- في التراب، ففتح فوهي المزادتين،
فسالت الخمر في الطريق) .
وبعد أن ثبت تحريم الخمر جاء أبو طلحة، وكانت عنده خمر لأيتام في أوانٍ،
وكان أنس يسقي جماعة، وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم
سليم، وهي زوجة أبي طلحة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم جاءت به إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! هذا أنس يخدمك.
وكان أبوه سافر إلى الحبشة وتوفي هناك.
ثم جاء أبو طلحة وخطب أم سليم -وأم سليم كانت من فضليات النساء، فقالت: يا
أبا طلحة! والله مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك، وأنا امرأة مسلمة.
فقال: ماذا تريدين من حمراء وصفراء -يريد الذهب والفضة-، أو بيضاء وصفراء؟
قالت: لا أريد بيضاء ولا صفراء، أريد منك أن تسلم، فقال: أفكر في أمري، ثم
جاء من غده فقال: وما هي الطريق؟ قالت: تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه.
ويقولون: لما قدم عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أبو طلحة
ونور الإسلام بين عينيه) فلما أسلم ورجع إليها تزوجته، وكانوا يقولون: ما
وجدنا امرأة أسعد صداقاً من أم سليم، كان صداقها الإسلام، وهذه رواية في
زواج أبي طلحة من أم سليم أم أنس.
والرواية الأخرى فيها أن أبا طلحة أسلم قبل ذلك، وقبل مجيء النبي صلى الله
عليه وسلم المدينة، وقد حضر بيعة العقبة، ومن المؤرخين من يقول: كان نقيباً
على قومه، ومنهم من يقول: كان أحد أفراد السبعين فقط.
فـ أنس ولد زوجة أبي طلحة - كان عنده جماعة يسقيهم الخمر، فسمعوا منادياً
ينادي: إن الله ورسوله قد حرما الخمر، فقال أبو طلحة لـ أنس: ما هذا؟ أخرج
وتبين الأمر، فرجع إليهم فقال: ينادي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أخبر بأن الله حرم الخمر، فكفوا عن الشراب حالاً، ثم ذهب أبو طلحة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عندي خمر لأيتام -وكان يجوز
استعمالها، وكان يجوز الإتجار فيها- أفنتخذها خلاً؟ قال: لا) ، وكلنا يعلم
حرمة مال اليتيم على الوصي عليه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الأواني، وأمر مناديه أن ينادي بذلك
في أزقة المدينة، وأخذ مدية، فما مر بزق فيه خمر إلا نشقه، حتى قال الراوي:
فسالت الخمر في أزقة المدينة.
وهنا يرى العلماء عدم جواز تخليل الخمر بالصناعة، وأن نجاستها تنفذ في مسام
الأواني الفخار، وقالوا: لو كانت الاستفادة ممكنة عن طريق تخليلها لسمح
رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليل خمر اليتامى، حتى لا تضيع أموالهم،
ولكنه أمر بإراقتها، وزيادةً على ذلك أمر بتكسير الأواني التي كانت فيها.
فالخمر نجسة ومحرمة فأريقت، لكن لماذا كُسرت الأواني مع أن الأواني أموال
ولها قيمة؟ كما أنه يمكن أن تستعمل في حفظ الزيوت، ويمكن أن تستعمل في حفظ
المياه، ويمكن أن تستعمل في حفظ الدقيق، ويمكن أن تستعمل في اليابسات ونحو
ذلك! قالوا: لأن الخمر تتسرب في مسام الفخار، والفخار له مسام، بدليل أنك
إذا جئت بالإناء من الفخار وملأته فإنه يقطر الماء، فكانوا يستعملونه
كالفلتر المرشح للماء بأخذ الماء المتقطر من جوانبه؛ لأنه يكون أقل ملاحه
مما لو شرب مباشرةً، فلما كانت للفخار مسام يدخل فيها الخمر ثم يمكن أن
يطهر؛ لأنها لو غسلت سوف تطهر من الخارج، والغسل لا ينفذ إلى مسامها
ويستخرج منها بقايا الخمر لتطهر فأمر بتكسيرها.
خلاف العلماء في حكم
تخليل الخمر
ما سبق هو ما استدل به الجمهور على أن الخمر نجسة، وأن تحليلها أو تخللها
بالصناعة لا يطهرها، وبعضهم يخالف في هذا، فمن الأحناف من يقول: إذا وضع
فيها ما يسلبها العلة -وهي الإسكار والتخمير- عادت طاهرة، وجاز استعمال
الخل.
ولكن أبا يوسف رحمه الله -وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة - لا يوافق على هذا
الرأي، ويقول: إن اتخاذها خلاً لا يطهرها، ولا يُجوِّز استعمالها.
والمالكية يقولون: إذا عالجها بالملح أو بالماء، أو بأي طريقة أخرى، وتغيرت
طبيعتها، وانتقلت إلى الخل فإنها طاهرة.
ونحن نعلم مذهب مالك فيما يتعلق بنجاسة الماء، فلا يعتبر قلةً ولا كثرة،
ولكن يعتبر الأوساط، فيقول: إذا خللت وتغيرت، أو استحالت، أو تحولت -على
الأصح- ماهيتها من خمر إلى خل صارت عيناً جديدة، وصارت ماهية أخرى، فيجوز
استعمالها، بينما أحمد والشافعي يقولان: لا تطهر بالتحويل.
وعلى هذا تكون النتيجة أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن معالجة الخمر إلى خل
يدل على أن المعالجة لا تطهرها، وهو قول أحمد والشافعي وأبي يوسف من أصحاب
أبي حنيفة، وعند مالك وبعض الأحناف أن ذلك يطهرها.
وهذا الذي وقع فيه الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في قضية كيميائية، ألا وهي
تغيير الماهية وتحول الخمر إلى خل، فهل هذا التغير عن طريق الصناعة يغير
ماهية الخمر حقيقة فتصير خلاً حقيقة، أم أن الماهية الأساسية باقية، وإنما
جاءها ما غلب عليها؟ فأجمع العلماء على أن الخمر إذا تركت وتحولت بذاتها
إلى خل فقد طهرت، وصارت خلاً يجوز استعماله بلا كراهية؛ لأنها في حالة
تركها للزمن أو للعوامل الجوية من هواء وشمس وغير ذلك تتحول بذاتها، قالوا:
إن الله سبحانه الذي جعل فيها مادة السكر والتخمير هو الذي حولها بقدرته،
وسلب عنها تلك الماهية، وخرجت عن كونها خمراً تخمر العقل وتسكره، وانتقلت
إلى الخل الذي لا شائبة فيه بسكر ولا تخمير.
أما إذا جاءتها الصناعة فيقولون: إن الصناعة من حيث هي لا تحيل المادة، ولا
تسلب الخاصية التي كانت فيها من قبل، وإنما تجعل فيها ما يتغلب عليها،
وتبقى الخمرية والسكر كامنان فيها، ولكن عطل عملها ما حولت به، وأضيفت
إليه.
وقد جاء عند ابن كثير في البداية والنهاية أنه جاء خالد بن الوليد رضي الله
تعالى عنه من العراق إلى الشام ليساعد أبا عبيدة، ولما انتهى من فتح دمشق،
قام خالد ودخل الحمام، والحمامات كانت في الحجاز قليلة، والحمام عبارة عن
بيت للماء الحار، في داخله قبة يتصاعد منها بخار الماء الحار، فيمكث فيه
الإنسان مدة فيدخل البخار في مسام الجسم، ويستعمل في حالات الاستشفاء،
وخاصة فيما يتعلق بالأعصاب، أو بالركب، أو حالات النفاس.
فدخل من بعد طول العناء في هذه الحروب والسفر، ولما دخل الحمام اطلى
بالنورة، والاطّلاء بالنورة هو عبارة عما يوجد الآن في الصيدليات مما يسمى
مزيل الشعر، وهي مادة كيماوية تحرق الشعر من جذوره ويزول، فكذلك النورة
فيها حرارة وفيها تلك الخاصية، فإذا ادهن بها في جلده أحرقت الشعر، وسهلت
إزالته بدلاً من الموسى، ولما استعمل النورة وهي حارة جاء بالعصفر وعجنه
بالخمر؛ لأن العصفر نبات بارد، ثم أتبع محل النورة بهذا المعجون ليبرد
الجلد من أثر النورة المحرقة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى
عنه، فكتب إليه: بلغني يا خالد! أنك دخلت الحمام، وأنك استعملت الخمر، وقد
حرمها الله.
فكتب إليه خالد: يا أمير المؤمنين! لم نستعملها شراباً، ولكني استعملتها
غسولاً، يعني: تغسل أثر النورة عن محلها، أي: استعملناها ظاهراً لا باطناً.
فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: كتبتُ إليك بكذا، ورددتَ بكذا، وقد
علمتَ أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً -وظاهراً: كأن
تستخدم غسولاً كما فعل خالد، وباطناً: استعمالها شراباً- ولكني أراكم آل
المغيرة فيكم جفوة، وأرجوا أن لا تموتوا على ذلك.
فكتب إليه خالد رضي الله تعالى عنه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين.
والذي يهمنا في استعمال الخمر ماهيتها؛ إذ يقول خالد: لم أشربها، إنما
استعملتها غسولاً، يعني: حولتها من شراب مسكر إلى غسول، فرد عليه عمر رضي
الله تعالى عنه: إن الله إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يعني: وإن كنت
لم تستعملها فإن أثرها والعلة الأساسية موجودة فيها.
فحينما نأخذ الخمر ونعالجها لتصير خلاً هل تزول علة الإسكار والتخمير التي
كانت فيها قبل أن نعالجها بالكلية وتتحول الماهية كما تتفسخ المادة وتتحول
إلى شيء آخر، كتحول الحليب من الدم؟ فالدم يجري في الجسم، ويتحول إلى حليب
فيرضعه الطفل، ويتغذى عليه الكبار كما في حليب الحيوانات، قال تعالى: {مِنْ
بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا} [النحل:66] ، فهل تحول
الخمرة بالصناعة هو تحول عن ماهيتها كما يتحول الفرث والدم إلى لبن خالص
سائغ للشاربين، أم أن أصل المادة وأساسها ما زال موجوداً، ولكن غلب عليه ما
أضفناه إليه، وحولناها به من باب الصناعة؟! فالقضية سترجع إلى تحقيق المناط
في الخمر، فيقال: هل تحولت ماهيتها، أم ما زالت باقية كامنة فيها؟ ولنضرب
بعض الأمثال: إذا جئت بإناء من الماء، فسقطت فيه قطعة من العذرة، فشممت
رائحتها فعفتها، فقلت لإنسان: اذهب فأرق هذا الماء، وائتني بماء نظيف ليست
منه هذه الرائحة فذهب من ورائك وأتى ببعض العطور، وأتى ببعض الأشياء التي
تغطي تلك الرائحة، حتى إنك لو أخذتها وشممتها، أو تذوقتها، أو نظرت إليها،
لا تجد لوناً، ولا رائحة، ولا طعماً لما شاهدته بعينك من قبل، فهل تحولت
المادة التي نجست الماء وتقذر بسببها كتحولها تحت الشجرة إلى غذاءٍ وثمرة،
أم أنها باقية في الماء وجاءها ما غطى على أوصافها؟ فإن قلت: تحولت فقد
طهرت، وإن قلت: إنها باقية موجودة، ولكن الذي أضيف إلى الماء غطى عليها،
فالنجس لا زال موجوداً.
نجاسة الخمر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سُئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا) أخرجه مسلم
والترمذي وقال: حسن صحيح] .
في هذا الباب بيان الأعيان النجسة، وبيان تطهيرها.
وهذا الترتيب من حيث هو -في باب الفقه- ترتيب طبيعي، وهو موافق للترتيب
العملي، فبدأ بكتاب الطهارة، ثم ذكر باب المياه، ثم بعد المياه الأواني
التي نحفظ فيها الماء، وبيان ما يجوز استعماله وما لا يجوز، ثم هاهو يأتي
بباب النجاسة؛ لأن النجاسة تحتاج إلى تطهير، ويجب اجتنابها، فهي من لوازم
كتاب الطهارة، وإنما تكون الطهارة من النجاسة، أو كما قيل: من النجس أو
الحدث.
والحدث أمر معنوي، والنجاسة أمر حسي.
والنجس منه ما هو نجس العين، ومنه ما هو نجس نجاسة طارئة عليه، أي: متنجس.
فنجس العين لا يطهر إلا بإزالة العين، كالعذرة والدم وما أشبه ذلك، فلا
تَطْهُر إلا بإزالة عينها نهائياً، فإذا خالط الثوب شيء من تلك الأنجاس
العينية فلا بد من إزالة عينها وجرمها قدر الاستطاعة، وسيأتي في دم الحيض:
(ولا يضركِ أثره) .
أما التنجس فهو الشيء الطارئ الذي يطرأ على العين فينجسها، كالماء الطهور
إذا وقعت فيه نجاسة، مع أنه كان في الأصل طاهراً، ولكنه تنجس بهذه النجاسة.
فبدأ المؤلف رحمه الله تعالى ببيان نجاسة الخمر، وعلمنا نجاسة الخمر من
خلال السياق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تتخذ خلاً فقال: لا.
وطريقة الاستدلال على نجاستها أنها لو لم تكن نجسة لسمح صلى الله عليه وسلم
بمعالجتها حتى تصير خلاً فتطهر بذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا) ،
أي: إن معالجتها وتحويلها إلى الخل لا يطهرها.
ونجاسة الخمر متفق عليها عند الأئمة الأربعة، فهي نجسة العين، أما إذا
تخللت بذاتها، وتحولت العين من عين خمرية إلى عين الخل فتطهر، وكما يقولون:
تغيرت الماهية فتغير الحكم؛ لأن نجاستها كانت معلولة بالتخمير، فما دامت
مخمرة مسكرة فهي نجسة، فإذا ذهبت عنها صفة الخمرية والإسكار رجعت إلى
الأصل، فصارت طاهرة.
والبحث هنا في هذا السؤال، وهذا الجواب، فسُئل صلى الله عليه وسلم: (عن
الخمر تتخذ خلاً، -وتتخذ معناها: تعالج-؟ قال: لا) .
كتاب الطهارة - باب
إزالة النجاسة وبيانها [2]
الحمر الأهلية من الحيوانات المعروفة، وقد كان المسلمون يأكلونها في أول
الإسلام، ثم حرمت يوم خيبر، وهي مع حرمة أكلها طاهرة أثناء حياتها، فلعابها
وعرقها طاهران، وأيضاً جلدها بعد موتها إذا دبغ، أما الحمر الوحشية فهي
حلال، وقد اختلف العلماء في سبب التفريق بين الحمر الأهلية والوحشية، ومن
أبرز ما قيل في ذلك أن الحمر الأهلية ذات طباع سيئة، فهي مثلٌ للغباوة
والمذلة، فإذا أكثر الإنسان من أكلها اتصف بطباعها، ولو صح هذا التعليل فإن
الأصل هو التسليم للحكم الشرعي.
أحكام الحمر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم
خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: (إن الله ورسوله
ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس) ، متفق عليه] .
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى بيان نجاسة بعض الحيوانات -أي: لحومها-
وتحريم أكلها.
والتوقيت بذكر يوم خيبر يدل على أن ما قبله كان مغايراً لما بعده، وأن هذا
الحكم الطارئ الجديد يبدأ العمل به من تاريخ يوم خيبر، ويوم خيبر كان في
السنة السابعة من الهجرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن
ينادي في الناس بتحريم لحوم الحمر الأهلية.
وقد يتساءل إنسان: لماذا خص أبا طلحة، مع أن القاعدة في التبليغ عن الرسول
صلى الله عليه وسلم أن يكون المبلغ من ذويه ومن أهله؟ كما جاء في قصة سورة
براءة، فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر سنة تسع يحج بالناس
-ولم يحج صلى الله عليه وسلم لعوارض كانت موجودة-، فنزلت سورة براءة، فبعث
علياً رضي الله تعالى عنه ليقرأ سورة براءة على المشركين، ويعلن انقطاع
المعاهدات بين المسلمين والمشركين، وأرسله على ناقته القصوى، فقالوا: لا
يبلغ عن الرسول إلا واحد من ذويه.
وهنا في عام خيبر يبلغ أو يكلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة، مع وجود
علي، ومع وجود من هو أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي طلحة،
كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان.
والجواب أنا إذا نظرنا في ترجمة أبي طلحة نجد منه ما يرشحه لهذا العمل،
وهذا يعطينا أنه ينبغي أن نقدم الأشخاص ذوي الاختصاص فيما يختصون فيه، فقد
كان أبو طلحة جهوري الصوت، حيث جاء في ترجمته: صوت أبي طلحة في الجيش كفئة،
وقيل: صوت أبي طلحة في الجيش كألف رجل، فكان صوته جهورياً وقوياً، وكذلك
كان العباس رضي الله تعالى عنه، فقد كان العباس إذا كان بالمدينة، وله
غلمان في الغابة، وبينه وبينهم مسافة بعيدة يصعد على جبل وينادي غلمانه
فيسمعونه ويجيبونه.
فهناك أشخاص أوتوا بعض الخصائص في القوة سواءٌ البدنية أم الفكرية.
فنادى في الناس: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) ، وكانوا
قد ذبحوا منها في ذلك اليوم، ولحومها في القدر على النار، فلما نادى منادي
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفأوا القدور مباشرة، وامتنعوا عن الأكل
منها.
طهارة الحمار
وبقيت مسألة في الحمر الأهلية، وهي: هل الحمار الأهلي -في حال حياته- نجس
أم طاهر؟ والجواب أنه طاهر؛ لأنه مستأهل، وطواف علينا ومخالط لنا،
ونستعمله، وأقوى ما استدل به من قال بطهارته في الحياة أنه قال: نحن نركب
الحمير، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم حمار يسمى عفيراً، وكان يرسله إذا
أراد بعض الأشخاص، فيذهب ويطرق الباب برأسه ثم يعود، أو يقول للرجل: اركبه
وتوجه يدلك على الطريق.
وأرشد الحيوانات كلها بالطريق الحمار؛ فإنه يعرف الطريق أكثر من الإنسان،
فلو مشيت به في طريق ثم أردت أن تعود فإنك لو رجعت وحدك يمكن أن تنسى
الطريق، لكن لو ركبته يدلك، فلذا يقولون: أذكى الحيوانات في معرفة الطرق
الحمر.
والناس يركبون الحمر، ومعروف أن الحمار يعرق، والعرق ينضح من داخل جسمه،
خاصة في المناطق الحارة مثل الحجاز والمدينة، ولما كان أهلياً ويستعمل
ويركبونه، ولم ينههم عنه صلى الله عليه وسلم عرفنا أنه طاهر، وعرقه إذا
خالط الثياب لا ينجسها، بل إذا ركبه الإنسان وخالط جسمه وهو رطب أو مبلل
فإنه لا يتنجس.
فعرق الحمار ولعابه طاهران، وهذا بإجماع المسلمين، ولكن الذي حرم لحمه.
وإذا مات الحمار فإنه إذا دبغ جلده طَهُرَ.
تأثير الغذاء في طبع
الإنسان وخلقه
إذا نظرنا إلى وجود الخصال في الحيوان وجدناها تؤثر على الإنسان إذا أكثر
من أكل لحمها، ووجدنا للعلماء كلاماً كثيراً في ذلك، ومنهم أبو حيان رحمه
الله، حيث ذكر الحكمة في تحريم لحم الخنزير، فقال: إن من طبيعة هذا الحيوان
افتقاد الغيرة، فالذكر لا يغار على أنثاه، فمن أكثر من أكل لحمه أثر لحمه
على غريزة الغيرة عنده، فتضعف حتى يصبح لا غيرة له على نسائه، فالمصيبة
جاءته من لحم الخنزير.
فإذا كان الأمر كذلك كان تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية لما كمن فيها من تلك
الصفات الرذيلة التي لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا
يرضاها أحد من الناس لنفسه.
ويناسب هنا ذكر الكلام على قضية الوضوء من لحم الإبل، وعدم الوضوء من لحم
الغنم؛ لأن الطريق واحد، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأُ من لحوم
الغنم؟ قال: إن شئت.
قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ، وأكل من الشاة في خيبر، ثم جيء له
ببقيتها فأكل ولم يتوضأ.
من هنا قالوا: ما الفرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل حتى يؤمر بالوضوء من هذا
دون ذاك، والكل لحم؟ نجد في كتب الفقه أن بعض الفقهاء يقول: إن علة ذلك هي
حرارة لحم الإبل.
ونجد آخرين يردون ذلك ويقولون: لحم الغزال أشد حرارة، ولم يؤمر بالوضوء
منه، ولحم الحمام في الطيور أشد حرارة من الاثنين، ولم يؤمر بالوضوء منه،
ولكن لو ذهبنا إلى أبعد من هذا لوجدنا الفرق في عموم النصوص، أي: النصوص
التي لها صلة بالإبل، كما فعل علي رضي الله تعالى عنه في استنباط أقل مدة
الحمل من عموم آيتين مختلفتين، الأولى قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، والثانية قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، والحولان
أربعة وعشرون شهراً، فاستنبط علي من مجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة
أشهر.
فإذا جئنا من خارج موضوع الوضوء، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن
الصلاة في معاطن الإبل، فقال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن
الإبل) ، مع أن هذه مرابض، وهذه معاطن، وهذه فيها أبوال وروث، وتلك فيها
أبوال ورجيع، فما الفرق بينهما؟! والفرق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
تصلوا في معاطن الإبل؛ فإن الإبل معها شيطان) قالوا: شيطانها أنها إذا جاءت
ووجدت نائماً، أو مصلياً، أو جالساً في مكانها طردته وآذته؛ لأن معها
شيطاناً، أما الغنم فمعها السكينة، فإذا جاءت ووجدت مصلياً، أو نائماً أو
آكلاً في مكانها فإنها لا تؤذيه، ولا تنفره، وربما قعدت ونامت بجانبه.
وفي الحديث الآخر: (مع أهل الإبل الكبر والخيلاء، ومع أهل الغنم السكينة
والوداعة) ، فمن أين جاء الكبر لأهل الإبل؟ يجيء من جهة أنه يرى نفسه يرعى
قطيعاً من الإبل، وقد قال الله تعالى عنها: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] ، فهو خلق عجيب، وصاحب الإبل يأخذ
في يده عصا صغيرة، أو يناديها بالصفير فتجيء وتجتمع حواليه، أما الغنم
فإنها معها الهدوء والسكينة، ولهذا ما من نبي إلا وقد رعى الغنم -وليس
الإبل-؛ لأنها تكسبه الهدوء والسكينة والرفق، إذ لا يمكن أن يتجبّر على شاة
صغيرة، أما الجمل فإنه إذا هاج إن لم تتجبر عليه قضى عليك.
وننتقل إلى جانب آخر فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان قد
انتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال: (إني لأعلم كلمات لو قالها لذهب عنه
ذلك) ، وبين أصل الغضب بقوله: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار،
فأطفئوه بالماء) .
فإذا جمعنا كل هذه الأطراف وحدنا أن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار،
والإبل معها شيطان، أو خلقت من شيطان، فهي شياطين، فإذا ما أكل الإنسان
منها أفاضت عليه من آثر الشيطان، وهو الغضب، فحينما يأكل من لحم الإبل
يأتيه من حركة ذاك الشيطان الغضبية ولو شيء قليل، فتؤثر على نفسيته، فحالاً
نبادرها بالوضوء بالماء لنطفئ أثر ذلك.
فبالتلمس وجدنا فرقاً بين ما ظنوه متماثلاً، وأن لحم الإبل يختلف عن لحم
الغنم، فيما يتعلق بالوضوء، وموطن الإبل تختلف عن موطن الغنم فيما يتعلق
بالصلاة، وإلا فإن الكل طاهر عند من يقول بذلك.
وهنا الحمر الأهلية طبيعتها الذلة واللؤم والخسة، فلا يستبعد أن من أكثر من
أكل لحمها تنتقل إليه غريزتها، ويتصف بشيء من تلك الصفات، وهذه ليست من
صفات المؤمن.
وهذا الذي قدمناه ليس من موضوعنا ولكن رداً على هؤلاء الذين يقيسون التشريع
الإسلامي بالمعقولات غير السليمة، ويدّعون أن الشريعة تتناقض؛ لأنها تفرق
بين متماثلين، والتفريق بين متماثلين مناقض للعقل السليم.
فالحمار الأهلي ليس متساوياً مع الحمار الوحشي، والفرق بينهما موجود، ومن
هنا كان النهي عن أكل الحمر الأهلية مع بقاء حلية الحمر الوحشية، والله
تعالى أعلم.
توجيه كلام ابن عباس
ومناقشته
بقي هنا إشكال، فقد جاء عن ابن عباس أنه كان يرى أن النهي عن لحوم الحمر
الأهلية، للكراهة، وليس للتحريم، ولما سُئل: قال: لا أدري أنهى عنها؛ لأنها
ظهر الناس، أو لأنها من جوال القرية! فقوله: (لا أدري) لا يجوز أن نجعله
حجة نرد بها حديثاً صحيحاً صريحاً.
ثم إن كلام ابن عباس في علة التحريم، فهو يقول: لا أدري لماذا نهى عنها، هل
إبقاءً على الظهر -أي أنهم لو أكثروا ذبح الحمر فعلى أي شيء سيحملون متاعهم
حتى يعودوا إلى المدينة، أو أنها من جوال القرية، وجوال القرية هي التي
تخرج في الطرقات وتلتقط كل ما واجهها، حتى العذرة، فإذا كانت حيواناً مأكول
اللحم -واتصف بأنه من الجلالة- منع أكله حتى يحبس، ويطعم طعاماً طاهراً
ثلاثة أيام على الأقل، سواءٌ أكان ذلك من الدجاج الدواجن، أم كان من غيرها،
وأكثر ما يكون هذا داء في البقر.
ويجاب عن هذا بأن جوال القرية هي الحمر المسيبة، أما هذه -أي: التي نزل
فيها التحريم- فهي مع أناسٍ غزاة لا يتركونها في الخلاء، بل هي مستعملة
عندهم ينتقلون عليها، ويحملون متاعهم عليها.
أما قوله: (إبقاءً على الظهر) فإنه رخص لهم أن يأكلوا من لحوم الخيل، فإذا
كانت القضية قضية ظهر فالخيل أولى أن يُبقى عليها؛ لأنها أجلَّ في هذا
الباب، وأنفع من الحمر في الظهر للغزاة يقاتلون عليها، ويحملون عليها أكثر
مما يحملون على الحمر، وهي أصبر على السفر من غيرها.
ومن هنا قالوا: إن رأي ابن عباس مبني على اجتهاد شخصي خالف فيه غيره من
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا إن صح.
والآخرون يقولون: الحديث مرفوض من أوله.
حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية
والوحشية حلاً وحرمة
بقي عندنا تحريم لحوم الحمر الأهلية مع بقاء حلية قسيمها، وهي الحمر
الوحشية، فإن كان التحريم للجنس فالجنس في البر حلال، فما هي العلة في
تحريم الحمر الأهلية مع إباحة الحمر الوحشية؟ إننا لو فتشنا من قريب فلن
نجد شيئاً، والعلة هنا مستنبطة وليست منصوصة، ولكن قبل البحث عن علة
التشريع يجب علينا نحن المسلمين إذا سمعنا عن الله وعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم شيئاً التصديق والعمل امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حكيم عليم لا يشرع إلا لحكمة، ثم إن مقتضى
قول المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلزمه
إلزاماً أن يقبل ما جاء عن الله، فلا يعبد إلا الله، بدلالة (لا إله إلا
الله) ؛ لأنه إذا عبد غير الله نقض قوله: (لا إله إلا الله) ، وكذلك إذا لم
يقبل تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رفض شيئاً منها يكون نقض
قوله: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
وكنا نبسط المسألة ونقول: دلالة الالتزام في هاتين الشهادتين مثالها كما
يوجد عند الناس الآن في السلك الدبلوماسي، حينما تقوم دولة، وتبرم معاهدة،
أو صداقة، مع دولة أخرى تعترف بها، ثم تبعث إحدى الدولتين، سفيراً لها عند
الدولة الأخرى، وهذا السفير يقدم أوراق اعتماده، ويعلن عنه سفيراً، في موكب
رسمي، أو بمراسيم رسمية، فكل ما جاء به هذا السفير من دولته، إنما هو باسم
من يمثلهم، وقبول ما جاء به مرتبط ببقاء الرابطة السياسية.
فإذا ما رفضت تلك الدولة بعض تعاليمه، أو بعض طلباته، يكون ذلك إساءة في
العلاقات الدبلوماسية، وقد يؤدي إلى انقطاعها، فكذلك المسلم فإنه أعلن أنه
لا يتأله إلا لله، فلا يعبد إلا الله، ومعنى أنه لا يعبد إلا الله: أنه
يأخذ كل ما جاءه عن الله، ولن يأتيه مباشرة، وإنما يأتيه عن طريق رسوله صلى
الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم أوراق اعتماده وهي تلك
المعجزات، وخوارق العادات، وهذه المعجزة الكبرى، التي تساير الأيام، إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي كتاب الله تعالى.
وهذا لأننا إذا تطلعنا إلى حكمة التشريع فإن وجدناها وأصبناها فبها ونعمت،
كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، وقال تعالى
لإبراهيم: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
[البقرة:260] ، وإذا لم نجدها فعلى المبدأ، وهو التسليم والامتثال
والتصديق، فنعمل ولو لم تظهر لنا العلة.
وبعض الناس قد يعيب على من يحاول أن يتتبع حكمة التشريع، ويقول: ليس لكم
دخل في هذا، فإذا أمر الله فعلى الرأس والعين.
ونقول: نعم، ولكن بعض الناس يتخذ خفاء العلة في التشريع طريقاً لتشكيك
العوام، على ما سيأتينا -إن شاء الله- في أمر بول الصبي، فإنه في الشريعة
يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، فالوا: فرقت الشريعة بين
متماثلين، وهذا تناقض! وكذلك كون المسلم يتوضأ من لحوم الإبل، ولا يتوضأ من
لحوم الغنم، فإن هذا لحم وهذا لحم، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين.
فحينما تظهر الحكمة، ويبين الفقهاء الفرق بين هذين الذين يظهران متماثلين،
وأنهما على خلاف ذلك، وأن هناك مغايرة تستوجب المغايرة في الحكم، حينئذٍ
تسد الباب على أولئك الذين يعمدون إلى التشكيك في التشريع من باب التفريق
بين المتماثلين.
وفي مسألتنا هذه عندنا حمار وحمار، وهذا أهلي وذاك وحشي، وهذا حرام وذاك
حلال، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين من جنس واحد، فلماذا؟! وأقول: إذا
جئنا إلى كتب الفقه قد لا نجد تصريحاً بذكر علة التفريق بين الطرفين، ولكن
إذا رجعنا إلى بقية العلوم سنجد فرقاً، وقد كان يقول والدنا الشيخ الأمين
رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلم يخدم بعضه بعضاً، أو كان يقول: العلوم
أقران، أي: يقترن بعضها ببعض، يعني: هذا العلم يبين هذا العلم، وهذا العلم
يستمد من ذاك العلم.
وقد أشار علماء التغذية وعلماء الوراثة إلى وجود فرق بين الحمر الأهلية
والحمر الوحشية.
وجاء في القرآن الكريم ما يشير إلى بعض صفات الحمر الأهلية، عن طريق ضرب
المثل لمن يحمل علماً ولا ينتفع به قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] أي: لا يستفيد منها شيئاً.
وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول أي أنها
لا تستفيد منه.
ولكن الفرق بين الطرفين في هذا الجنس بالذات هو ما غلب على طبيعة الحمار
الأهلي -بسبب تأهيله مع الناس- من غباوة وبلادة ولؤم وذلة، كما قيل: ولا
يقيم على ذل يراد به الأذلان عير الحي والوتد فالعير يصبر على الذل، والوتد
يثبت حتى تكسر رأسه وهو صابر، وقالوا: فيه غريزة اللؤم، والمزارعون يعرفون
هذا، فالحمار إذا أتاه صبي صغير (استعصى) عليه، وإذا رأى كبيراً عرف الجد،
فهذا لؤم.
أما المذلة فلأنه نشأ مكفي المئونة، فلا يعمل على تحصيل قوته، فهو عالة على
غيره، بخلاف الحمار الوحشي، فهو مكلف بأن يحمي نفسه أولاً من الوحوش
الكاسرة، ومكلف بأن يسعى لتحصيل قوته، ولا ينتظر أن يأتيه غيره بقوته،
فانتفت عنه صفات الذلة والمهانة واللؤم، الموجودة في الحمار الأهلي.
ويذكر علماء الحيوان أن أنثى حمار الوحش حينما تلد ولدها -ويسمى (التولب) -
تعض ساق رجله اليمنى الأمامية لتكسرها، ويبقى في كنّه إلى أن يجبر العظم في
رجله، فيكون قد نمى وكبر، وتفعل هذا حماية له من الوحوش، قالوا: تكسير رجله
ليبقى في كنّه ولا يخرج؛ لأنه كسير، فإذا ما برأ الكسر واستطاع الجري، يكون
قد شب وكبر، فلو خرج وداهمه وحش يستطيع أن يفر منه، وهذه تربية عجيبة.
أقسام الحمر
الحمر: جمع حمار، وتنقسم إلى قسمين: قسم ورد في هذا الحديث بأنه الحمر
الأهلية، أي: متأهلة مع الناس، ومفهوم ذلك أن هناك قسماً آخر ليس متأهلاً،
بل وحشي، ولذا يقال: الحمار الوحشي، والحمار الأهلي.
تحريم لحوم الحمر
الأهلية ليس منسوخاً
قوله: (فإنها رجس) ، أي: لحومها بالنسبة إلى أكلها بعد الذبح، وبقي الكلام
عن تحريمها بعد الذبح، وعن طهارتها وهي حية، فإنها أهلية تخالط الناس في
حياتهم، باستعمالهم إياها.
أما كونها حرم أكلها فالجمهور على ذلك، وقلل بعض العلماء: لقد نُسخ هذا
التحريم مع أن التقييد بالتاريخ يدل على أنه لا نصوص قبلها تحرم أكل الحمر
الأهلية، فهل جاءت نصوص بعد ذلك؟ والجواب أنهم ذكروا أن رجلاً جاء في عام
شدة، وقال: (يا رسول الله! أخذتنا شدة، وليس عندي ما أطعم أهلي إلا سمين
حمر، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك -أو من سمان حمرك-) ، قالوا: في هذا
ترخيص لإطعام الرجل أهله من سمان حمره، ولكن الجمهور قالوا: هذا الحديث لا
يثبت سنده لو لم يعارض بغيره، فكيف إذا عارضه ما هو أقوى منه من المتفق
عليه، والناسخ يجب أن يكون من حيث السند في قوة المنسوخ، فقالوا: لا تصح
دعوى النسخ.
طهارة لعاب الحيوان
والخلاف فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن خارجة رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي
صلى الله عليه وسلم بمنى، وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي) ، أخرجه
أحمد والترمذي وصححه] .
انتقل المؤلف إلى موضوع آخر، وهو: لعاب ما يؤكل لحمه، خطب النبي صلى الله
عليه وسلم بمنى، ولعاب راحلته يسيل على كتفه.
ففي هذا الحديث: أن لعاب راحلة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسيل على كتف
الذي كان يمسك بزمامها، فالرجل كان يمسك زمام الراحلة والرسول صلى الله
عليه وسلم يخطب الناس عليها، فهل يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لعاب راحلته يسقط على كتف من يمسك زمامها، أم أنه رآه: وأطلع عليه؟ الغالب
أنه رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الموقف يقتضي أنه رآه ولم ينهه
عنه، ولم يأمره بغسله، فهذه سنة تقريرة، فلعاب الحيوان مأكول اللحم طاهر،
بل وغيره كذلك.
فقد ورد في باب المياه حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وورد فيه أن
الرسول صلى الله عليه وسلم مر ببعض الحياض بين مكة والمدينة، فلما ورد
حوضاً قال عمر: يا صاحب الحوض! أخبرنا: هل ترد السباع ماءك؟ فبادره النبي
صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تخبرنا يا صاحب الحوض؛ إنا نرد على السباع،
وترد السباع علينا، فلها ما أخذت في بطونها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً
وطهوراً) ، فسؤر جميع الحيوانات طاهر، ما عدا الكلب، ونحن نستثني الكلب لما
تقدم، وهل هو لنجاسته، أو هو لما فيه من داء الكلب؟ فيه تفصيل تقدم.
أما بقية الحيوانات كالهرة فإن أبا قتادة قرَّب إليها الإناء، فكانت زوجة
ولده تتعجب، فقال: يا ابنة أخي: أتعجبين؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم) .
كتاب الطهارة - باب
إزالة النجاسة وبيانها [3]
المني سائل معروف، وهو مما تعم به البلوى فيصيب الثياب، وجمهور العلماء على
أن المني طاهر وإن أصاب الثياب فهو كالنخامة إذا أصابت الثوب، فإنها لا
تنجسه ولكنها تزال؛ لأن بقاءها على الثوب يُعد قذراً، وكذلك المني، وطريقة
إزالة المني تكون بالفرك إذا كان يابساً، وبالغسل إذا كان رطباً، وله أحكام
غير ذلك ينبغي على المكلف معرفتها ومراعاتها.
حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل المني
... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب
وأنا أنظر إلى أثر الغسل) ، متفق عليه.
ولـ مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً
فيصلي فيه) ، وفي لفظ له: لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه] .
ذكر المصنف رحمه الله من ما يتعلق بالمني، وقد جاءت في المني عدة أحاديث،
منها: حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكره المصنف: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج للصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر
الغسل) ، فهذا النص الأول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني،
والغسل يكون للطهارة، ويكون للقذارة، فهل كان المني نجساً فغسله، أو كان
مستقذراً في الثوب فغسله؟ وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه في عام
المجاعة -في أواخرها- صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى بستانه جهة الغابة في
الجرف، وبعد طلوع الشمس وجد المني في ثوبه، فقال: ما أُراني إلا صليت
بالناس جنباً -فاحتلم ولم يدر-، وقال: لما أصبنا الودك، لانت العروق، وجرى
المني، وهذا معروف، فقد يحتلم الإنسان، ولا يرى شيئاً في منامه، ولا يعلم
بالاحتلام إلا إذا وجد المني في الثوب، فيفيض الماء، دون شعور الإنسان، أي:
أن الشعور الداخلي عمل عمله، وهو لا يدري، فغسل ثوبه وأعاد صلاته.
وهنا يأتي الخلاف في غسل المني، فقوم قالوا: غسل المني لنجاسته؛ فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم غسل المني من ثوبه، ومالك يروي أن عمر غسل ثوبه من
المني، فالمني نجس، وهذا قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله، وقالوا: إنه
فضلات تخرج من الجسم، كبقية الفضلات الخارجة من غير الفم والأنف؛ لأن
الفضلات الخارجة من الفم والأنف ليست بنجسة، والفضلات التي تخرج من القبل
والدبر كلها نجسة، وهذا تابع لها، هكذا قالوا.
لكن إذا جئنا إلى النصوص الأخرى مثل حديث عائشة الذي تفرد به مسلم: (لقد
كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً فيصلي فيه) .
قوله: ولـ مسلم أي: في رواية مسلم، عن عائشة، وفيها: أنها كانت تفرك المني
من الثوب فركاً، ثم يصلي فيه، فهل -يا ترى- الفرك يطهر الثوب من النجاسة؟
فلو كانت في الثوب عذرة، أو دم، فهل الفرك يطهره؟! لا.
إذاً: جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث -حديث الفرك- ليبين أن الغسل لم
يكن عن نجاسة، وإنما كان للنظافة، إذ أن بقاء المني في الثوب مستقذر، وإنما
كان يفرك من الثوب؛ حتى تضيع بعض معالمه، وهذا بخلاف النجاسة، وسيأتينا في
باب الحيض لما سئل صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب؟ قال: (حتيه،
واقرصيه بالماء، ثم انضحيه، ثم لا يضركِ أثره) ، اغسلي، وانضحي، وحتي، وإذا
لم يذهب الأثر؟! قال: لا يضركِ بعد هذا؛ لأنكِ بذلتِ الجهد.
إذاً: الفرك يقف في جانب من جانبي الغسل، فمثلاً إذا وقعت ملوخية على
الثياب، فهل تتركها أم تغسلها؟! تغسلها، وهل هي نجسة؟ لا.
لأنك تأكلها، ولكنها مستقذرة إذا وقعت في الثوب.
إذاً: تغسيل الثياب -الوارد في المني- يحتمل أن يكون للنجاسة، ويحتمل أن
يكون للنظافة، فلما جاء المؤلف بحديث الفرك عرفنا أن الغسل للنظافة لا
للنجاسة.
وفي لفظ له: (لقد كنت أحكه له يابساً بظفري من ثوبه) .
لقد كنت أحكه يابساً بظفري؛ لأن الظفر أشد حدادة، فإن فركته لا يذهب، ولكن
إذا حكيته بالظفر شيئاً فشيئاً فإنه يذهب كله.
وجاء في بعض الروايات: إذا كان يابساً حككته بظفري، وإذا لم يكن يابساً
أماطه بعود الإذخر، إذاً: لا يتعين غسله بالماء سواء كان رطباً أو يابساً،
ومجموع تلك الصور: أن المني تارة يغسل، إن كان رطباً، وتارة يحك، إن كان
يابساً، وهذا مذهب وسط؛ وأحمد والشافعي قالا بطهارته، وهناك من أراد أن
يوفق بين الرأيين فقال: هو نجس ولكن يكتفى في تطهيره، إن كان رطباً
فبالغسل، وإن كان يابساً فبالفرك، والحك بالظفر، ولكن التحقيق من عموم
النصوص: أن المني طاهر.
حكم مني الحيوان
ما حكم مني الحيوان؟ قد يخالط بعض الرعاة مني بعض الحيوانات عند الإخصاب
والتلقيح، فيقولون: هو بحسب لحمه، فمأكول اللحم منيه طاهر، وغير مأكول
اللحم منيه غير طاهر، قياساً على بوله ورجيعه، وسيأتي البحث في أن بول
مأكول اللحم طاهر إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كيفية تكون المني
وتحوله
وطبيعة المني: تحول كامل، وأين تحدث عملية التحول؟ وأين المعمل الذي حوله؟
من الدم الخالص إلى هذه المادة المنوية؛ يقول علم التشريح: إن المسئول عن
تحويل الدم إلى المني إحدى الخصيتين، ومن العجب أنهم يقولون: إن إحدى
الخصيتين مسئولة عن إفراز المني، والأخرى مسئولة عن إنبات شعر اللحية، ولذا
تجد العبد إذا خصي، لو كانت عنده لحية فصغيرة؛ لأن أصلها قد أزيل، ولو أزيل
في الصغر لا تنبت له لحية، هكذا يقولون، والله أعلم.
ويقولون: إن عملية التحويل تأتي عند الحاجة، بمعنى: لو جئت بمائة رجل
وشرحتهم، فلن تحصل على جرام واحد من المني داخل الجسم؛ لأنه يطبخ ويحول
فوراً، حينما تشتد الشهوة، وكما يقولون: حالة الإخراج، أو الإفراز، أو أو
إلى آخره، تكون في تلك اللحظة التي تتم فيها عمليه الطبخ، ثم يفرز ضخاً
ودفقاً كما يقولون، وقبل هذا لا وجود له.
ولهذا إذا استعجل على الطبخة ولم ينضجها خرج مذياً، وهو أبيض ولكن لا
ينعقد، فيخرج كخروج البول ما فيه دفع؛ لأن الطبخة ما نضجت.
والودي إنما يأتي -كما يقولون- عقب الانعاض وقبل التبول، وقد يأتي أيضاً في
حالات الإمساك الشديد؛ بسبب الضغط على ما يسمى البروستات في الداخل، فتعمل
هذا الإعصار.
إذاً: المني من حيث هو: مادة تطورت عن الدم، وتطور المادة -كما تقدم لنا في
الخمر- وتحولها إذا كان بنفسه؛ صارت طاهرة، وكذلك هنا، فالدم تحول بنفسه،
وصار من دم أحمر جار داخل العرق، إلى مادة المني التي فيها الحيوان، وفيها
الإخصاب وو، مع أنه لا يوجد في الدم، أي عنصر من العناصر الموجودة في
المني.
ويقولون في ذلك: الدفقة الواحدة فيها ما يزيد عن ثمانية ملايين وحدة منوية،
والذي يلقح البويضة واحد فقط.
ويقول بعض علماء الجنس: لو جمعت الحيوانات المنوية للعالم من أول أولاد آدم
إلى آخر الناس ما ملأت كستبان الخياط، وكستبان الخياط كالخاتم يوضع في
الأنملة ليدفع الإبرة داخل القماشة، وحجمه 2سم.
إذاً: الحيوان المنوي لا يرى بالعين العادية.
إذاً: تحول الدم إلى مادة مغايرة كل المغايرة للدم، وهذا الحيوان الضئيل
جداً يحمل كل خصائص الإنسان المولود بغرائزه، وشبهه بآبائه، أو بإخوانه،
إلى غير ذلك من حكم الله سبحانه وتعالى.
إذاً: تحول المني أشبه ما يكون بتحول عصارة الفرث والدم إلى لبن خالص،
اللبن محول عن ماذا؟ {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} [النحل:66] ، سبحان الله!
{لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، فهذا دم محول،
يقولون: إن عملية التحويل، والتطور، في الدم إلى مني، تشبه عملية التحويل،
والتطوير، في الحليب في الحيوانات، وفي الإنسان.
والله تعالى أعلم.
وبعض الناس يستدل على كون المني طاهراً بقوله: إن المني أصل الإنسان، فهل
نجعل أصل الإنسان نجساً؟ وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ} [الإسراء:70] .
ولكن بعض العلماء يقول: هذه ناحية عاطفية، وما الذي يمنع أن يكون الإنسان
من أصل نجس، ولكن تحول إلى طاهر، والإنسان أصله من تراب وماء، ثم تحول إلى
دم ولحم، فلا نقول: إنه راجع إلى الترابية، ولا إلى المائية؛ لأنه تحول
طوراً جديداً.
مرور المني في مجرى البول ليس دليلاً على
نجاسة المني
وقال بعضهم: المني في الأصل طاهر، ولكنه عند خروجه يمر بممر البول؛ وإذا مر
بممر البول علق فيه من أصل البول، أو أثره، في الطريق فتنجس، ولكن أجيب على
ذلك: بأن الممر الداخلي لسنا مسئولين عنه؛ لأنك كلما دخلت إلى الداخل، وجدت
النجاسة، فالمثانة معبأة بالبول، ولم نقل: إنها نجسه ويجب تفريغها! فإن كل
واحد يصلي ويتوضأ، وهو يحمل كيساً من البول! وكذلك الدم يجري داخل العروق،
ولم نؤمر بإخراجه! والمياه الخارجة من الإنسان -غير البول- ثلاثة مياه: 1-
المني.
2- والمذي، بالذال المعجمة.
3- والودي، بالواو والدال والياء، ودي.
كتاب الطهارة - باب
إزالة النجاسة وبيانها [4]
إن للأطفال من المحبة ما يجعل المرء يتعلق بهم ويكثر من حملهم، فلا يخلو
عند ذلك من أن تصيبه النجاسة من بولهم، وقد فرق الشرع بين بول الغلام
الرضيع والجارية الرضيعة، فالغلام إنما يرش من بوله والجارية يغسل من
بولها، مع أن البول نجس في كل حال.
بول الرضيع وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)
، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم] .
هذا موضوع جديد، وهو نجاسة البول بصفة عامة، وقد تقدم لنا ما يتعلق بنجاسة
البول، وهو متعلق بهذا الباب، وكثير من المؤلفين يذكره في هذا الموضع.
وتقدمت لنا قصة بول الأعرابي حينما بال في المسجد، وكانت طريقة تطهيره
مكاثرته بالماء، كما قال الشافعي رحمه الله: يكاثر بالماء مقدار سبع مرات
وهذه ناحية نسبية تعتبر بغلبة الظن.
وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا النص عن أبي السمح، وكان خادم رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ومع أنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لا
يُعلم له حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا، فنقل لنا عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) فمن
الجارية، ومن الغلام؟ الجارية لغة: تطلق على الصغيرة الرضيعة، وتطلق على من
هي دون البلوغ، وتطلق على الأمة الكبيرة، كما تقول: جارية فلان والغلام
يطلق على الطفل الصغير الرضيع، وعلى من دون الأربعين سنة، كما قيل في
الحجاج: غلام إذا هز القناة سقاها وهو قائد الجيوش، ومع ذلك سمي غلاماً.
علة التفريق بين بول
الغلام وبول الجارية
قد يقال: هل يمكن أن نتطلع إلى سبب في التفريق بين بول الغلام وبول
الجارية، أم أنه لا يوجد هناك فرق؟ قال بعض المتقدمين -وهو المتولي من أئمة
الشافعية-: نعم هناك فرق؛ فإن بول الغلام أبيض رقيق خفيف، وبول الجارية
أصفر ثقيل كثيف، فالفقهاء نبهوا على أن هناك فرقاً في الماهية، فبول الغلام
رقيق خفيف يكفي فيه الرش، وأما بول الجارية فأصفر كثيف ثقيل والنضح لا
يكفيه، ويحتاج إلى الغسل.
وبعض المتأخرين الذين يتكلمون عن التشريح أو عن الخواص يقولون: بول الجارية
فيه من هرمون الأنوثة أكثر، فيحتاج إلى زيادة في الغسل، وهرمون الأنوثة
-كما يقولون- أثقل من هرمون الذكورة، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يعلل ذلك بقوله: الغلام ذكر والجارية أنثى، وأصل الخلقة -خلقة
الإنسان- هو أبونا آدم، وآدم خلق من تراب وماء، والماء والتراب طهوران،
فأصل التكوين في خلقة الذكر من طاهرين، والأنثى جاءت من حواء، وحواء خلقت
من ضلع آدم، وضلع آدم فيه دم ولحم، والدم نجس، فالغلام يرجع إلى أصله،
والجارية ترجع إلى أصلها، وهذا امتداد طويل وبعيد الاعتبار، وذكرناه من باب
الفائدة.
وهناك من يقول -وهي قضية والله ما أدري كيف ساغ لهم أن يقولوها- فيقول:
الرسول صلى الله عليه وسلم عامل الناس بحالة نفسية؛ إذ كان العرب في أول
أمرهم إذا جاءهم المولود أنثى فهم كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}
[النحل:58] .
فكانوا إذا جاءت البنت لا يحبون حملها، أما الصبي فيحب، ودائماً يحمل، فخفف
في بوله، لكن هذه العادة غير حميدة، فهل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم
ويقر الناس عليها، ويخفف لهم ويرخص لهم بسببها، أم يقضي عليها؟ لاشك أنه
سيقضي عليها.
فهذه وإن كانت ساقطة فهي بعيدة بعد آدم وحواء، لكن تلك أقرب للتعليل من
هذه.
ومهما يكن من شيء فإن المهم هو الحكم الفقهي، وهو أنه يكتفى بنضح بول
الغلام ويغسل بول الجارية، وبعض الذين قالوا بالغسل قالوا: النضح بمعنى
الغسل؛ لأنه جاءت رواية: (رشه: نضحه) ، والنضح غسل.
ولكن جاء في رواية علي رضي الله تعالى عنه: (فنضحه ولم يغسله) فهل النضح هو
الغسل أم هو مغاير له؟ والجواب: مغاير له، ويكفينا في ذلك أن أصل البول
نجس، وذلك في الأصل عند الجارية، ولكن الغلام الرضيع الذي لم يتناول الطعام
خففت حالته، واكتفي فيه بالنضح، وما عدا الغلام الرضيع -سواءٌ أكان غلاماً
يأكل الطعام، أم جارية من أول أمرها -فإنه يغسل، والله تعالى أعلم.
اختلاف العلماء في
تطهير بول الغلام والجارية
موقف العلماء من بول الجارية وبول الغلام الرضيع يتلخص في ثلاثة مذاهب، كما
نقل ذلك: الصنعاني والشوكاني وابن حجر في فتح الباري، وغيرهم.
المذهب الأول: يغسل الجميع، بول الغلام وبول الجارية وهذا مروي عن الأحناف
والمالكية.
والمذهب الثاني: يرش من الجميع بدون تفرقة، فالأول لا يفرق بين ذكر وأنثى،
وقال: يغسل الجميع.
والثاني لم يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يرش الجميع.
وهذا قول الأوزاعي المذهب الثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله
-ويؤيده الحديث- أنه يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام.
ووجهة نظر من قال بغسل الجميع، قولهم: هناك عمومات أخرى، منها: عموم غسل
البول، ومنها: حديث القبرين: (وكان أحدهما لا يستنزه من البول) ، وهذا عام
في البول، فيشمل الصغير والكبير، ثم ألحق الغلام بالجارية، وهذا الإلحاق
يسمى عند الأصوليين إلحاقاً بنفي الفارق.
أي: ننفي فارق الذكورة والأنوثة، ونرجع إلى أصل البول فهو سواء عندهم،
فنغسل الجميع، كما جاء في حديث: (من أعتق شقصاً له في عبد) ، فكلمة (عبد)
تطلق على المملوك الذكر، فقالوا: كذلك من اعتق شقصاً له في أمه، ولماذا
الأمة والنص جاء خاصاً بالعبد؟ قالوا: بإلغاء الفارق بين الأمة والعبد، وهو
الذكورة والأنوثة، فمن أعتق شقصاً في مملوك له ذكراً كان أو أنثى قوم عليه
ودفع الباقي لشريكه ويعتق العبد، هذا ما يسمى عندهم بنفي الفارق.
ولكن هذا حينما يأتي النص في أحد المتماثلين أو المتقابلين، فيكون هنا
الإلحاق بنفي الفارق؛ لأن الأمة لم يأتِ في عتق شقصها نص ولكن هنا جاء النص
مستقلاً في الغلام بالرش، وجاء مستقلاً في الجارية بالغسل، فنأخذ بالنص
الموجود، أما القياس هذا فإنه يسمى عند الأصوليين قياساً فاسد الاعتبار،
أي: اعتباره فاسد؛ لأنه في مصادمة النص؛ إذ يلحقون الغلام بالجارية، وهذا
فيه نص صحيح صريح، وهو حديث أم قيس الذي رواه الجماعة، وحديث عائشة الذي
رواه البخاري، وعند مسلم زيادات.
فالغلام فيه نص مستقل، والجارية فيها نص مستقل، ولا يلحق أحدهما بالآخر؛
لأننا إذا ألحقنا أحدهما بالآخر ألغينا النص الذي يختص به، وهذا لا يجوز،
وهو كما -يقول الأصوليون- قياس فاسد الاعتبار.
أحاديث في التفريق
بين بول الغلام والجارية
في هذا الباب جاءت نصوص أخرى مع حديث أبي السمح، منها: أنَّ أم قيس بنت
محصن: أتت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه -والتحنيك: هو أن
يأخذ الكبير تمرة فيلوكها في فِيه، ثم يخرجها بعد المضغ وامتزاجها بلعابه،
ويضعها بين فكي الطفل، فيبلغها أو يتلمض بها- قالت: فبال على ثوب النبي صلى
الله عليه وسلم، فدعا بماء ونضحه) .
وكذلك جاء عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كانوا يأتون بالصبية إلى النبي
صلى الله عليه وسلم للتبريك، والتحنيك -والتبريك: التماس البركة، ويحنكهم
ليختلط ريقه صلوات الله وسلامه عليه بالتمرة، ويبتلعه الطفل الصغير- (فبال
غلام على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حجره صلى الله عليه وسلم
فأتبعه بالماء) .
وجاء عن أم قيس حديثان، أحدهما قالت فيه: (أتي بغلام فبال على ثوبه صلى
الله عليه وسلم فنضحه، وأتي بجارية فبالت على ثوبه فغسله) .
وعن أم الفضل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام -الحسن، أو الحسين-
فصعد على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فبال على صدره، قالت: قلت: أعطني
ثوبك -يا رسول الله- أغسله والبس غيره قال: إنما ينضح من بول الغلام) .
وعن علي رضي الله تعالى عنه: (أن غلاماً بال على ثوب النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال: يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية) ، قال قتادة: وذلك
قبل الفطام، أو: وذلك للرضيع.
وكل هذه الآثار جمعها وساقها صاحب المنتقى، وتكلم عليها الشوكاني في نيل
الأوطار، وغيره.
والقول الصريح بضم الفعل مع مجموع ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق
بين بول الغلام الذكر، وبول الجارية الأنثى، وهذا التفريق محله قبل أن
يستغني بالطعام ما دام رضيعاً، فأمر بغسل بول الجارية، واكتفى أو أرشد إلى
نضح أو رش بول الغلام.
نجاسة الدم وكيفية
تطهيره
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب-: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم
تنضحه، ثم تصلي فيه) متفق عليه] .
انتقلنا إلى مسألة أخرى، وهي حكم الدم في هذا الباب -باب النجاسة-، وقد
تقدم شيء من التنبيه على ما وجد في الآونة الأخيرة من القول بطهارته.
وقد أجمع على ذلك المسلمون إلى القرن الرابع عشر من المحدثين وعلماء تفسير،
وفقهاء المذاهب الأربعة وأئمتها.
ومن أراد الرجوع إلى ذلك بإيجاز فليرجع إلى كلام المفسرين عند قوله تعالى:
{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: الدم المسفوح والميتة
ولحم الخنزير كل ذلك نجس، والمسفوح: هو الذي يخرج بغزارة وبقوة، وغير
المسفوح هو الدم الذي يكون باقياً في عروق الذبيحة بعد سلخها، وقد تظهر
حمرة هذا الدم في المرق في أوائل الطبخ، وهذا معفو عنه.
أدلة من قال بعدم
نجاسة الدم والجواب عنها
الذين يقولون بطهارة الدم المسفوح قالوا: إنما حرم أكله ولم تحرم ملامسته،
ولا يدل ذلك على النجاسة.
واستدلوا بقصة عمر رضي الله تعالى عنه، حينما صلى وجرحه ينزف دماً.
واستدلوا بقصة عمار والذي كان معه في الشعب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن
يحرس ليلاً، وكان العدو قد وقعت به حادثة فتبعهم ليلاً، فقام أحدهما يحرس
ويصلي ويقرأ، فسمع العدو صوت القارئ فسدد السهم في الليل على الصوت فأصابه،
فانتزع الحارس السهم ومضى في صلاته، إلى أن رماه بثلاثة أسهم، فأيقظ صاحبه
سقوط الدم على وجهه، فقال: ما هذا؟ فأخبره.
فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كنت اقرأ سورة فكرهت أن أقطعها -قيل: سورة الكهف-،
فقالوا: خرج منه الدم فلم يقطع صلاته، ولو كان نجساً لقطعها، وكذلك ما جاء
في حق المستحاضة: (صلي ولو قطر الدم على الحصير) ، لأنها لم تستطع إيقافه.
لكن لا تقاس حالة الاضطرار على حالة السعة، أترى عمر يترك الصلاة لجرحه،
وهو يقول: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة! وكذلك الذي كان يحرس في الجيش،
ألا ترى المجاهدين يجرحون ويصابون، بل تكون سيوفهم مليئة بالدماء، ويصلون
صلاة الخوف وهم يحملون السلاح، فلا تقاس حالة الاضطرار في القتال على حالة
السعة في السلم، والكلام في غير الضرورات، فلا مستند لهم فيما يقولون،
والله تعالى أعلم.
حكم نقل الدم
هنا مسألة، وهي حكم نقل الدم، ونقل الدم لا يكون إلا من إنسان إلى إنسان،
ودم الإنسان نجس كما تقدم في أنه يغسل، وكما تقدم في الاستحاضة، ونصوص
العلماء كثيرة في هذا.
ومسألة نقل الدم وجدت في الوقت الحاضر، ولم تكن موجودة في السابق.
وقد اختلف العلماء في حكمها.
فقوم قالوا: لا يجوز استعماله أبداً؛ لأن الدم نجس، ولا يجوز استعمال
النجاسة في دواء ولا في غيره.
والآن -والحمد لله- كتبت رسائل، وألفت مؤلفات في هذا الموضوع، ولكن من
الجانب الطبي، أما من ناحية الإباحة والمنع فكان مما حدث في بعض نوادي
الجامعة الإسلامية أن سأل سائل: هذا الدم الذي ننقله لإنسان آخر حلال أم
حرام؟! فتكلم المشايخ -جزاهم الله خيراً- وكل تكلم بما قد حضره، والشيخ
الأمين -يغفر الله له- ساكت ما تكلم، ولا بشيء، فسأله الشيخ ابن باز رحمه
الله: أراك -يا شيخ- ساكتاً لا تتكلم! قال: نعم -يا سماحة الشيخ- فماذا
أقول، ليس عندنا آية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في هذا الموضوع الجديد؟ فقال: ولكن لابد من القول، ولابد للإنسان
المسلم أن يعرف أقوال العلماء في هذه الحالة، فلا نقول: الإسلام قاصر.
بل ويجب أن نجتهد.
فقال: إن كان ولابد فإننا نجد القرآن الكريم قرن الميتة بالدم في التحريم
كما قال تعالى:، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]
، ووجدنا القرآن الكريم يأتي بالرخصة في أحد المقترنين، وهي الميتة، قال
تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
[البقرة:173] ، فإذا جاءت الرخصة في المحرم أو أحد المحرمين، -وهي الميتة-
للضرورة كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فإذا جاءت نقول: قرين الشيء يأخذ حكمه،
فنقول: الدم قرين الميتة، فإذا وصلت بإنسان حالة شبيهة بحالة المخمصة التي
يضطر فيها الجائع لأكل الميتة إنقاذاً لحياته، ويأثم إن ترك الأكل فكذلك
أيضاً في نقل الدم؛ لأنها ضرورة تعادل تلك الضرورة، وإنقاذٌ لحياته، فيباح
نقل الدم.
قال الشيخ ابن باز: ماذا نريد أكثر من هذا؟! ومهما بحثنا فلن نجد أحسن من
هذا، فهذا يكفي.
وهناك قرار لهيئة كبار العلماء جاءت فيه أبحاث عديدة في التشريح والدم
ونحوهما.
وهل يتعاطى ثمناً للدم الذي أعطاه المعطي أم لا؟! قالوا: الجواب: لا.
لأن الدم لا يباع، ولا يؤخذ ثمنه، ولكن يمكن أن يُكْرَم المعطي للدم من
الطعام ومن الشراب ما يعوضه شيئاً من ذلك، فيشترى له ما يطعمه، وما يشربه
من العصير، أو من الأشياء المباحة التي تعوض جسمه نشاطه، ونحو ذلك.
وعلى هذا أصبح موضوع نقل الدم قضية -كما يقولون- شائعة، وفتحت بنوك الدم،
واتسع فيها بعض الناس، وأصبحت تجارة، ولكن موقف الإسلام من هذه القضية أنه
يباح للضرورة.
الطريقة الشرعية في
تطهير دم الحيض
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه) .
أي: تفرك اليابس، و (تقرصه) أي: بين يديها، و (تنضحه) أي: تغسله بعد هذا
فهذه ثلاث مراحل في كيفية تطهير الثوب من دم الحيض.
ولا يوجد أحد يخالف في نجاسة دم الحيض أبداً حتى اليوم، وإنما الخلاف في
الدم المسفوح.
قال العلماء: هذا نص صحيح صريح في وجوب غسل دم الحيض حين يصيب الثوب،
والغسل يكون ببذل الجهد في إزالة النجاسة: فأولاً: بالحت إن كان يابساً،
وغالباً الدم يكون له جُرم.
وثانياً: بالقرص، أي: تدلكه بأصابعها مع الماء.
وثالثاً: بالغسل، ثم بعد ذلك تصلي فيه.
حكم أثر الدم الباقي
في الثوب بعد تطهيره
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا
رسول الله! فإن لم يذهب الدم؟ قال: (يكفيكِ الماء، ولا يضركِ أثره) أخرجه
الترمذي وسنده ضعيف] .
هذا السؤال تتمة للموضوع الأول، فإذا حتتنا وقرصنا وغسلنا وبقي اللون -خاصة
إذا كان الثوب أبيض؛ فإن البياض قليل الحمل للدنس- فماذا نفعل؟ قال: (يكفيك
الماء لا يضركِ أثره) ، فافعلي هذه الأوامر، فالله تعالى يقول: {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
ويذكرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا حتّت وقرصت ونضحت ولم
يذهب اللون تأتي بالزعفران، وتبله في الماء، وتأخذ ماء الزعفران وتصبه على
محل الدم.
قالوا: تريد أن تغير لون النجس بلون الطاهر، ولكن هذا لمن أراد أن يصبغ
ثوبه كله بالزعفران، وليس هذا من باب التكليف، فهذا فعلها رضي الله تعالى
عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به.
ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحت، ثم القرص، ثم غسل الماء،
وقال الفقهاء: إذا كان يمكن استعمال الحواد -والحواد: جمع حاد، وهو الشيء
الكيماوي الحار الذي يذهب اللون، مثل الصابون، ومثل النخالة، ومثل الدقيق،
ومثل الأشنان وغيرها، فكل هذه عوامل تنظيف يعرفها الناس- فإذا لم يذهب
الأثر وكان عندك صابون فهل يتعين استعماله تبعاً لهذا التشديد -أي الأمر
بالحت والقرص ثم النضح- وهل يعد استعمال الصابون من بذل الجهد, وقد يكون
فيه كلفة على المساكين؟ وهل نطالب باستعمال منظف مزيل لا يؤثر على صبغ
الثوب ولا على قماشه، أو ليس ذلك بلازم؟ والجواب: يجب أن نستعمل ما يمكن
استعماله بدون كلفة، وبدون مشقة، وبدون تأثير على عين الثوب، والله تعالى
أعلم.
فجمهور العلماء من السلف والخلف يقولون: إن جميع الدماء نجسة.
وقد جاء عند البخاري وعند مسلم حديث فاطمة بنت قيس في الاستحاضة.
والبخاري ومسلم ذكرا حديثها في كتاب الطهارة والنجاسة ليبينا أن دم
الاستحاضة نجس كدم الحيض، أو أن الدم نجس بصفة عامة، ثم أعادا نفس الحديث
في باب الحيض والاستحاضة ليستدلا بذلك على أن دم الاستحاضة ملحق بدم الحيض،
ودم الاستحاضة دم مسفوح؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلكِ عرق)
، واستدلوا بالآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: جمع في هذه الآية بين تحريم الميتة
والدم المسفوح، والميتة نجسة كما تقدم التنبيه على ذلك في حديث ميمونة: (لو
أخذتم إهابها فانتفعتم به -أو: فدبغتموه فانتفعتم به؟! - فقالوا: إنها
ميتة.
فقولهم: (إنها ميتة)) يستلزم أن الميتة نجسة، فتنجس الإهاب تبعاً للميتة،
وأقرهم على هذا الفهم، وأجابهم عنه، وأخبرهم أنه يطهرها الدباغ.
وعلى هذا فالدم المسفوح نجس بدلالة اقترانه بالميتة، ولذلك حرم أكله، وحرم
بيعه، وحرمت الاستفادة منه في أي شيء.
خلاف العلماء في
تقدير الدم المعفو عنه
يبحث العلماء المتقدمون فيما يعفى عنه من النجاسات، ولم يعف عن شيء إلا عن
قليل الدم.
وقليل الدم وكثيره اختلف العلماء في تقديره، فمنهم من يقول: قليل الدم هو
ما كان في حجم الدرهم البغلي.
والدرهم البغلي كان درهماً نقدياً، صكه رجل يهودي اسمه: (البغل) ، وكان في
الدولة العباسية، وكان يصك الدراهم للخلفاء العباسيين، خاصة للمناسبات.
وبعضهم يقول: هو بقدر ما يرى في ذراع أو في ساق الحمار أو البغل من الداخل
على هيئة دائرة سوداء تعادل الريال السعودي تقريباً، وهناك من أبعد في ذلك
وقال: كربع الثوب ولكن هذه مجازفة كما يقول أصحابه.
وجاء في الموطأ عند مالك رحمه الله في باب الرعاف أن ابن عمر رضي الله
عنهما كان ربما رعف في الصلاة بدم قليل، فيفتله بين أصابعه ويمضي في صلاته،
وربما فقأ البثرة في وجهه -أي حب الشباب- فتخرج القطرة والقطرتان، فيمسحها
بأصابعه ولا يغسلها.
وجاء عن سعيد بن المسيب أنه رعف في الصلاة فاستلقى على ظهره لكثرته، ثم خرج
فغسل عنه الدم.
وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن الدم نجس، ويعفى عن قليله، ولكن لماذا لا
يعفى عن قليل النجاسات الأخرى؟! قالوا: لأن بقية النجاسات الأخرى يمكن
الاحتراز عنها، وقد جاء في حديث صاحبي القبرين: (كان لا يتنزه من البول) ،
أما الدم فقالوا: الإنسان عبارة عن قربة دم، وفي كل موضع من جسمه يوجد دم،
فمن الصعب أن يتحفظ الإنسان من دمه، وقاسوا عليه دم غيره.
ومجموع هذه الأحاديث تابع للتدليل على نجاسة الدم، وبعد أن نمر عليها سنعود
إلى قول من يقول بطهارة الدم بعد أربعة عشر قرناً، ونبين وجهة نظره والرد
عليه.
قوله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما] هي من أقارب بيت النبوة،
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض.
وقولها: (دم الحيض يصيب الثوب) مثل الثوب الفراش، وكل شيء يمسه.
|