شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الطهارة - باب
الوضوء [1]
لقد شرع الله سبحانه الفرائض، وجعل لكل فريضة مقدمة قد تكون شرطاً في
صحتها، ومن هذه الفرائض الصلاة، إذ شرعها الله في سائر الأديان السماوية،
وشرطها الوضوء الذي هو الطهارة والنظافة، وقد شرعه الله سبحانه في الكتاب
والسنة، وأجمع العلماء على فرضيته، وأنه لا صلاة لمن لا وضوء له.
أحكام السواك
استحباب السواك
للصائم
مباحث السواك طويلة، فقوله: (مع كل وضوء) وإخبار عائشة رضي الله عنها بأن
أول ما كان يبدأ به عند دخوله البيت السواك يدلان على عدم ترديد السواك
بوقت، فإذا قلنا: أن الوضوء كان لكل صلاة فيتكرر خمس مرات، وأما دخوله صلى
الله عليه وسلم البيت فليس هناك تحديد لوقته.
ومن هنا أخذ الجمهور أن السواك مندوب للصائم، وأن الصوم لا يمنع السواك؛
لأنه عند كل وضوء، والوضوء قطعاً كان خمس مرات؛ لأنه ما جمعت الصلوات بوضوء
واحد إلا عام الفتح، وعام الفتح سنة ثمان، ولم يخالف في هذا إلا الشافعي
رحمه الله، وذلك لوجه نظر إليه الشافعي من جانب، والجمهور نظروا إليه من
جوانب أخرى: أما الجانب الذي نظر إليه الشافعي رحمه الله فهو ما يأتي في
كتاب الصيام في فضائل الصوم، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم
الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) ، فيقول الشافعي رحمه الله: الخلوف هو
ما يصعد من المعدة من الأبخرة، ولخلوها تكون هناك رائحة هي الخلوف، وهذه
الرائحة تستقذر عند الناس جميعاً، فهذا الخلوف المستقذر عند الناس هو عند
الله أطيب من ريح المسك، فيقول الشافعي رحمه الله: ما دام الأمر كذلك
اتركه.
والجمهور يقولون: ما دامت مهمة السواك مطهرة للفم من هذا الخلوف وأمثاله
فإنه يستعمل؛ لأنه يتغير فمه إذا قام من النوم، وإذا طال صمته عن الكلام،
وإذا أكل شيئاً له رائحة، ثم إنه مرضاة للرب.
ويدل على ذلك عموم الأحاديث في السواك، كقوله: (عند كل وضوء) ، و (مع كل
صلاة) ، واستياكه صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، وجاء في مجمع الزوائد
أن عثمان رضي الله تعالى عنه -أو غيره- لما سئل عن السواك بعد الزوال قال:
(لم يأمرنا الله أن ننتن أفواهنا) .
وجاء في الأثر: (الفم طريق القرآن -أو مجرى القرآن- فطيبوا مجاريه) ، وجاء:
(إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وأن الإنسان إذا قرأ القرآن
جاء الملك ووضع فاه عند فيه يتلقى القرآن، فيتأذى إذا وجد خلوفاً أو رائحة
غير طيبة.
وقال الجمهور: استعمال السواك عند الوضوء لا يقطع الخلوف؛ لأن الخلوف ليس
من بقايا الطعام بين الأسنان، فهذا يذهب في أول مرة، ولكنه الأبخرة
المتصاعدة من المعدة إلى الفم، ففي كل لحظة يتنفس فيها يأتي الخلوف، فإذا
استعمل السواك لصلاة الظهر فبعد لحظات يجيء الخلوف، وإذا استعمل السواك
لصلاة العصر فبعد لحظات يجيء الخلوف، ويبقى ريح المسك، ويجمع بين الحسنيين.
وبالله التوفيق.
لفظ (الأمة)
والمعاني الواردة فيه
قوله: (لولا أن أشق على أمتي) يقولون: (الأمة) تطلق على عدة معان، منها
الجماعة، ومنها الراية، ومنها الشخص القدوة، كما قال تعالى: {إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، وتطلق على الراية لأنها الأم
والكل يتبعها، وتطلق على المدة من الزمن لأنها مجموعة، وتطلق على الجماعات
التي يجمعها وصف عام أو ترتبط بمبدأ، فيقال مثلاً: أمة العلماء، أمة
الصناع، أمة التجار، وهكذا في المخلوقات الأخرى، فذوات الجناح أمة، وذوات
الأربع أمة، والأمة الإسلامية هي أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي اصطلاح العلماء الأمة قسمان: أمة دعوة تشملها الرسالة المحمدية، فمن
آمن ومن لم يؤمن مدعو بها.
وأمة الإجابة التي استجابت لله وللرسول، فقوله هنا: (لولا أن أشق على أمتي)
هل يشمل الأمة بكاملها -أي: أمة الدعوة- أم أنه قاصر على أمة الإجابة؟
الجمهور على أنها أمة الإجابة؛ لأنها محل الأمر والنهي.
وأما أمة الدعوة فقالوا: هي داخلة في الأوامر والنواهي، ولكن لا يقبل منها
شيء حتى تدخل في أمة الإجابة، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ،
وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ، فقوله:
(أمتي) يحمل على أمة الإجابة، وهي محل الشفقة ورفع المشقة.
قوله: (لأمرتهم) ، الأمر -كما يقولون-: هو ما صدر من أعلى إلى أدنى، وإذا
كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء، كقول المؤمنين: {رَبَّنَا وَلا
تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة:286] ؛
فإن (واعف) صفة أمر، لكنه موجه من الأدنى إلى الأعلى، فهو دعاء وطلب العفو
من الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان من المساوي فهو التماس.
المراد بالسواك فعلاً وآلة
السواك قيل: هو الفعل.
وقيل: هو الآلة التي يستاك بها، أما الفعل فإنهم يقولون: إنه يستحسن أن
يسوك أسنانه عرضاً، فيبدأ بالأيمن فالأيسر، وقيل: بالأعلى إلى غير ذلك من
الصور، وكيفما كان فقد حصل المقصود، أما الآلة فإنهم يقولون: بأي عود كان،
لكن يستثنى من ذلك الريحان والقصب؛ لأنه يؤثر على اللثة ويجرحها، ويستحبون
عود الأراك لأنه أكثر استعمالاً، وكيفما كان أجزأ، بل إنه -كما عند
الشافعية- لو لم يجد عوداً وأخذ خرقة خشنة كصوف ونحوه ولفه على إصبعه ودلك
به أسنانه أجزأ ذلك، وإذا لم يجد الخرقة ودلك بإصبعه جاء، كما جاء في
الحديث: (يشوص أسنانه بإصبعه) .
فعلى هذا يكون السواك من حيث الآلة إنما هو أي شيء يستعمله الإنسان، وكأني
بإنسان يريد أن يسأل عن الفرشاة أهي داخلة في هذا المعنى أم لا؟ والجواب:
إذا نظرنا إلى الغرض من استعمال السواك، وهو كما في الحديث: (مطهرة للفم
مرضاة للرب) فأي شيء طهر الفم فإنه يؤدي المهمة، ولكن ما كان عليه السلف
فهو أولى وأصح طبياً.
وأحب أن أحذر من استعمال الفرشاة، فإن لها أنواعاً من النايلون وأنواعاً من
الشعر، والتي من النايلون إذا كان النايلون فيها صلباً فإنه يجرح اللثة،
وبعض الأشخاص يخطئ فيغسلها بالماء الحار، والماء الحار يقلص هذا النايلون
فيعود على اللثة بالجراح، أو يفقد الصلاحية، بل يغسلها بالماء البارد حتى
لا يؤثر على شعيراتها.
أما عود الأراك فإنه قد اتفق طبياً الآن بأن في قشره ما يسمى عندهم: (حمض
التنّيك) فهذا الحمض من طبيعته أنه يقلص اللحم، فإذا ما جاء إلى اللثة
يجعلها تتقلص وتعتصر فتخرج الرطوبة منها، خاصة إذا كان جديداً، والكل يجرب
هذا، فإذا أخذ عوداً من الأراك جديداً وقضمه بأسنانه فإن ما يتحلل من
القشرة في فمه ويصل إلى اللثة يجعل اللثة تتقوى بإخراج الرطوبات الموجودة
فيها.
ووجدت في كتاب (القرى لقاصد أم القرى) ، وفي (تهذيب الآثار) للطبري بأن من
فوائد عود الأراك أنه لو طبخ وشربته المرأة قرب مجيء الدورة الشهرية
يوقفها، وكان النساء يستعملنه في الحج مخافة مجيء الدورة قبل طواف الإفاضة
فتحبس أصحابها، وفعله جملة من النسوة برفقة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى
عنهما.
حكم السواك
قال (لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) وفي رواية: (عند كل صلاة) .
الرواية عندنا هنا: (مع كل وضوء) ، يقولون: كان الوضوء في السابق لكل صلاة
أحدث أم لم يحدث، إلى أن طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة عام الفتح،
فصلى عدة صلوات بوضوء واحد، فسأله عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: (يا رسول
الله! رأيتك تفعل شيئاً ما كنت تفعله من قبل، قال: عمداً فعلته يا عمر) أي
أنه جمع عدة صلوات بوضوء واحد، وأصبح الأمر كما في الحديث: (لا يقبل الله
صلاة من أحدث إلا بوضوء) ، وأصبح الوضوء لمن أحدث، أما إذا توضأ وبقي على
وضوئه ولم يحدث ناقض للوضوء فإنه يصلي بالوضوء الواحد عدة صلوات.
فكان في السابق كل صلاة لها وضوء، فيبقى قوله: (مع كل وضوء) و (مع كل صلاة)
متلازمان، وينبه بعض العلماء أن ظاهر هذا النص أن الشخص لو توضأ للطواف، أو
توضأ لقراءة القرآن، أو توضأ لذكر الله، أو توضأ لنافلة وهو متطهر يشمله
هذا الحديث: (مع كل وضوء) .
فالسواك مطلوب مع كل وضوء، سواءٌ أكان هذا الوضوء لصلاة أم لذكر.
فهذا ما يدل عليه هذا الحديث، والجمهور على أن السواك سنة في الوضوء، وذهب
بعض العلماء -من غير الأئمة الأربعة- فقال: هو واجب.
وقيل: واجب في ذاته، وقيل: واجب في الوضوء وشرط في صحة الصلاة، فمن لم
يستعمل السواك عند الوضوء لا تصح صلاته، وهذا -كما قالوا- شاذ وغريب، ولكنه
مع ظاهر النص.
والجمهور على أن السواك مندوب إليه لهذا الحديث؛ فإنه لولا المشقة لأوجبه
صلى الله عليه وسلم عليهم، فإذا انتهى الوجوب لوجود المشقة بقي الندب،
والله تعالى أعلم.
سماحة الشريعة
الإسلامية
المؤلف هنا -رحمه الله- بدأ الوضوء بأمر غريب، ألا وهو أمر السواك، وهل
السواك نظافة أيضاً أم عبادة؟ وهل هو سنة مستقلة، أم من سنن الوضوء؟ وكيف
يكون السواك ومتى ولماذا؟ وما هي فضائله؟ وما هي آلته؟ هذه كلها أبحاث
مستوفاة في كتب الحديث، وأوسع ما وجدت إلى الآن في ذلك مؤلف لـ ابن دقيق
العيد، وهو كتاب: (الإمام شرح الإلمام) ، وهو مخطوط إلى الآن.
والسواك يطلق على المصدر العملي، وعلى الآلة التي يستعمل بها، والحديث هنا
يحتمل المعنى المصدري العملي أكثر من اسم الآلة، فالمعنى: لأمرتهم بأن
يسوكوا أفواههم؛ لأن الغرض في الوضوء هو أثر السواك في الفم، وجاءت أحاديث
بعض العلماء فهم منها أنه للنظافة؛ لأن من أوقاته: عند القيام من النوم،
وعند الوضوء، وعند القيام للصلاة، وعند طول الصمت، وعند شدة الجوع، وعند
كثرة الكلام، فهذه أوقات يذكرون استحباب استعمال السواك عندها.
وجاءت النصوص في الندب إلى السواك، سواءٌ مع الوضوء أم مع الصلاة أم مطلقاً
عن هذه الأوقات، فجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت:
ماذا كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت؟ قالت: (كان أول ما
يبدأ به السواك) ، وليس هناك وضوء ولا صلاة.
وأما الحديث هنا: (لولا أن أشق على أمتي) فإن (لولا) حرف امتناع لوجود،
فيمتنع جوابها لوجود مانعه، تقول: لولا وجود زيد لهلك عمرو، فامتنع هلاك
عمرو لوجود زيد، وكذلك قوله: (ولولا أن أشق لأمرت) ، فامتنع الأمر لوجود
المشقة، وكونه لم يحصل الأمر لم يلغ السواك، فالذي لم يحصل هو الإيجاب الذي
يترتب عليه حصول المشقة، فبقي ما بعد المشقة وبعد الوجوب، وهو الندب، وكأن
الحديث في عمومه يقول: السواك مطلوب، ولولا المشقة لأوجبته عليكم، فقال:
(لولا أن أشق) ، فأسند فعل المشقة إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل هو
الذي يأتي بالأحكام من عنده، فيشق على الناس أو يخفف؟ قالوا: نعم، له حق
التشريع مستقلاً، وهو كما وصفه سبحانه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
ومن الأمثلة في تشريعه صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله: حينما بين سبحانه
وتعالى المحرمات في النكاح فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}
[النساء:23] فأضاف إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تنكح المرأة مع عمتها
ولا مع خالتها) ، فالقرآن ما جاء بهذا، ولكن جاء به صلى الله عليه وسلم.
ولذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}
[آل عمران:31] فالله أعطاه حق التشريع، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وسواء أتانا به من عند الله أو أتانا به
من عنده فقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3] ، فقوله:
(لولا أن أشق) أي: بما أعطاه الله، سواءٌ أكان وحياً مكتوباً أم وحياً
إلهاماً.
يقولون: أصل المشقة من (الشق) ، فعندما تمشي في أرض مشققة يصعب عليك أن
تتفادى الخطأ فيها من كثرة شقوقها، فإذا ما كانت ملتئمة سهل المشي عليها،
فكذلك المشقة، فكأنك تجاهد تلك الشقوق في الأرض حينما تسير عليها، والمشقة
هي ما يصعب على الإنسان، ولهذا يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال وأعظم مناقب العرب ومفاخرهم في الكرم والشجاعة،
وكلا الأمرين فيه مشقة؛ لأن الجواد فقير، كما قيل: لا تنكري عطل الكريم من
الغنى فالسيل حرب للمكان العالي فالكرماء لا يبقى عندهم شيء؛ لأن ما بيده
لغيره، والإقدام قتال، فإذا أقدم في الجيش بالشجاعة قتل، وكلاهما فيه مشقة.
وهو صلوات الله وسلامه عليه في منهجه في التشريع ما خير بين أمرين إلا
اختار أيسرهما؛ لأن هذه الشريعة السمحة ما جاءت مؤقتة لنتحملها وقتاً
قليلاً ونصبر عليها، وإنما جاءت أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
فإذا كان الأمر كذلك فلما قيل: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
ومن هنا -كما قال الفقهاء-: كانت (المشقة تجلب التيسير) ، فكل ما سمعت أو
رأيت من مشقة في تكليف شرعي تجد بجانبها الرخصة والتخفيف.
ففي الوضوء إذا شق على إنسان استعمال الماء خفف عنه واستعمل التيمم، وإذا
شق على إنسان القيام في الصلاة خفف عنه وجلس، والصيام إذا شق على إنسان
مريض أو مسافر خفف عنه، كما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
[البقرة:184] ، وهكذا الحج على المستطيع، والجهاد، قال تعالى: {لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61] .
فلعدم وجود الأمر صار السواك مندوباً، ولو أمر صلى الله عليه وسلم لكان
واجباً، ومن هنا يقول العلماء: الأمر يقتضي الوجوب؛ فإنه بين هنا أنه لولا
المشقة لأمر، إذن الأمر يقتضي الفعل ولو جلب المشقة، لكنه لم يأمر دفعاً
للمشقة، فبقي على الندب.
الوضوء من سنن
المرسلين
يتفق العلماء على آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخرها مدنية نزلت بالمدينة، ولكنهم يقولون:
الصلاة شرعت بمكة، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بغير وضوء،
فقالوا: كان الوضوء مشروعاً قبل نزول الآية، وكان على الندب، فجاءت الآية
وأوجبته، فبعد أن كان مندوباً صار واجباً.
وبعضهم يقول: كان مشروعاً زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان صلوات
الله وسلامه عليه يتوضأ بمكة على شرع من قبلنا، وثبت وضوؤه صلوات الله
وسلامه عليه بمكة في الحديث الذي فيه أن فاطمة ابنته رضوان الله تعالى
عليها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا
ابنتي؟ قالت: سمعت أنهم يتآمرون عليك ليقتلوك، قال: أوفعلوا؟! ائتيني
بوضوئي -أي: بالماء الذي يتوضأ به- فتوضأ وصلى ودعا الله عليهم.
فهذا إثبات للوضوء قبل المدينة.
ويقول بعض العلماء: إن جبريل عليه السلام صبيحة ليلة الإسراء والمعراج -لما
فرضت الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل من صبيحتها لصلاة الظهر،
وهي أول صلاة أقيمت بعد الإسراء- علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوضوء، فتوضأ بتعليم جبريل وصلى.
ويهمنا أن مشروعية الإيجاب كانت بالمدينة، وأن عملية الوضوء كانت في مكة،
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أن الوضوء كان في الأمم الماضية،
وذلك حينما توضأ فغسل أعضاء الوضوء مرة مرة، فغسل وجهه مرة واحدة، ويديه
مرة واحدة، ومسح رأسه وغسل قدميه مرة واحدة، وقال: (هذا الوضوء الذي لا
يقبل الله الصلاة بدونه) ، ثم توضأ فغسل الوجه مرتين، واليدين مرتين، ومسح
مرة -لأن المسح لا يكرر على ما سيأتي- ثم غسل القدمين مرتين، ثم قال: (وهذا
وضوء من كان قبلنا) ، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (وهذا وضوئي ووضوء أمتي)
، فأخذوا من هذا أن الوضوء مشروع من قبل.
ويمكن القول بأن جميع أركان الإسلام كانت موجودة من قبل، فقد قال تعالى
لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام:
{?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] ،
وقال تعالى لإبراهيم: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ، فوجدنا أن الصلاة سابقة.
وفي الصيام يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ،
وفي الحج يقول تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالاً} [الحج:27] ، وهذا النداء لإبراهيم.
ثم يصرح صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (كأني بموسى بن عمران على جمل أورق
رحاله الليف يجأر إلى الله بالروحاء بالتلبية) .
ومالك يروي أمراً غريباً لم نعرف سره، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى
عنهما أنه نزل من منى إلى مكة، فمر بواد يقال له: وادي سرر، وبه سرحة -شجرة
كبيرة-، وعندها رجل يعرفه جالس عندها، فقال: ما الذي أنزلك هنا؟ قال الرجل:
أستظل.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بوادي سرر سرحة سُرّ تحتها
سبعون نبياً) ، وبعض العلماء يقول: (سُرّ) معناه: قطع حبل سرته، وولد هناك،
فما الذي جمّعهم، وفي أي زمن؟ الله أعلم.
وبعضهم يقول: (سُرّ) بمعنى السرور، أي: جاءته النبوة تحت هذه الشجرة، فحصل
له السرور بذلك.
والله تعالى أعلم، وهذا الأثر موجود، والشراح حاروا في فهمه أو كنهه، والذي
يهمنا قوله: (سبعون نبياً) .
كذلك الزكاة، فهي أخت الصلاة.
ونقرأ في قصص القرآن قصة أصحاب الجنتين حيث قال تعالى عنهم: {إِذْ
أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:17-19] .
وفي الحديث قصة صاحب السحابة مع الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض،
فسمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان.
فإذا به يمشي في ظل تلك السحابة إلى أن جاءت إلى أرض حرة صلبة وأمطرت،
وتجمع الماء في شرجة، فتبعه فإذا به يجد رجلاً يحول الماء في أحواض له،
فقال: سلام الله عليك يا فلان.
فنظر إليه وقال: كيف عرفتني وأنت لست من أهل هذه البلدة؟ فمن أين جئت؟ قال:
جئت من كذا.
قال: ما الذي أعلمك باسمي؟ قال: أخبرني أولاً ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال:
حتى تخبرني.
فأخبره فقال: إن يكن فإني إذا حصدتها قسمت الغلة ثلاثة أقسام، قسم لي
ولعيالي، وقسم أرده فيها، وقسم أتصدق به.
وقضية النفر الثلاثة الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وهم الأقرع والأعمى
والأبرص دليل على أن الزكاة كانت مشروعة فيمن قبلنا، فالزكاة موجودة، والحج
موجود، والصيام موجود، والصلاة موجودة، والوضوء كان موجوداً.
وهناك حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، قال: وجعلت لي الأرض
مسجداً وطهوراً) .
قالوا: وكذلك قضية الراهب الذي اتهمته امرأة، فمكنت راعياً منها فحملت، ثم
ألقت هذا الحمل عند صومعة الراهب، وتعرفون قصته لما جاءته أمه تناديه كان
يقول: يا رب! أمي وصلاتي.
فلم يجبها حتى أنهى الصلاة، وفي ثلاثة أيام تأتيه وهو في الصلاة، ولا يرد
عليها من أجل أنه في الصلاة، فقالت: لا أماتك الله حتى ترى وجوه المومسات،
فوقع ذلك، فلما اتهموه بالزنا وهدموا صومعته قال: أمهلوني.
فتوضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن يبرئه، ثم جاء ونخس الطفل بإصبعه وقال له:
من أبوك؟ قال: الراعي فلان، فرجعوا وتأسفوا وقالوا: نبنيها لك من ذهب وفضة،
قال: لا، ردوها كما كانت.
والذي يهمنا ما ذكره العلماء من أن الوضوء كان مشروعاً في الأمم الماضية
كما هو مشروع عندنا.
الوضوء عبادة شرعية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه
ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقاً.
] .
بعدما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أحكام المياه، ثم أحكام الآنية التي نحفظ
فيها المياه، ثم جاءنا ببيان أنواع النجاسات، وما ينبغي إزالته عن الثوب
والبدن والمكان من أجل الصلاة انتقل بعد ذلك إلى الوضوء.
والوضوء أتى به قبل أن يدخل في كتاب الصلاة؛ لأنه جزء من الطهارة كما سيأتي
بعد ذلك بتتمة مباحث الطهارة من الغسل وموجباته والتيمم.
والوضوء شرط بإجماع المسلمين لصحة الصلاة، ولا تصح الصلاة بغير وضوء، كما
بيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة من أحدث بغير وضوء)
.
والوضوء يأتي بالضم (وُضوء) ، وبالفتح (وَضوء) ، قيل: بالضم هو المصدر،
وبالفتح هو الماء الذي يتوضأ به، وقيل بالعكس، مثل: (سَحور) و (سُحور) ،
وبعضهم يقول: كل منهما ينوب مناب الآخر، ويقولون: الأصل في الوضوء في اللغة
أنه مشتق من الوضاءة، والوضاءة: بهاء الوجه ونضرته، والأصل فيه النظافة،
ولكن في الشرع هل الوضوء نظافة أم الوضوء عبادة؟ فكونه عبادة يتوقف على
النية، أي: لا يصح الوضوء إلا بنية، وكونه نظافة فالنظافة لا تحتاج إلى
نية، كما أن إزالة النجاسات لا تتوقف على النية، ولكن تنتهي بإزالتها.
والذي يدل على أن الوضوء عبادة قياس الفقهاء، والنص القرآني الكريم: أما
قياس الفقهاء فيقولون -كما قال ابن رشد في بداية المجتهد-: هذا العمل
تعبدي.
أي: لا يدرك السر ولا الحكمة في تشريعه؛ لأنه -كما يقال-: (مُوجِبُهُ في
غير مُوجَبِهِ) ، وهذه قاعدة فقهية عندهم، بمعنى أن الذي أوجب الوضوء ليس
داخلاً في أعضاء الوضوء، بمعنى أن الإنسان تخرج منه الريح، فيجب عليه
الوضوء بسبب خروج الريح، فإذا أراد أن يتوضأ فإن مخرج الريح ليس داخلاً في
أعضاء الوضوء، فلو كان معقول المعنى لكان سببه يدخل في فعله، فلما وجدنا
الأمر كذلك حكمنا بأنه أمر تعبدي.
الشيء الثاني: ما جاء في الحديث النبوي الشريف مما يؤكد معنى الوضاءة ومعنى
التعبد، وأن الوضوء وضاءة حساً ومعنى، أي: نظافة ظاهراً وباطناً، فقد جاء
في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا توضأ فمضمض واستنثر خرجت
ذنوبه من فِيه ومن أنفه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت
ذنوبه من وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ... ) إلخ، وهكذا اليدان
والقدمان.
وأمور النظافة ليست لها علاقة بتكفير الذنوب.
كما أنه قد ينفرد الوضوء عن النظافة، فلو أن إنساناً دخل الحمام واتخذ كل
وسائل النظافة، وعندما أراد أن يتنشف مس فرجه، فإن عليه أن يتوضأ، مع أنه
في غاية ما يكون من النظافة والوضاءة حساً.
فالوضوء عبادة، وعليه فتشترط فيه النية، وكذلك الغسل، وإن كان عند الأحناف
مناقشة في ذلك، حيث يشترطون النية في التيمم ولا يشترطونها في الوضوء
والغسل، ويقولون في التيمم: إنه أمر تعبدي، فلا ندري الكنه ولا الغرض من
كون الإنسان يعفّر وجهه ويديه بالتراب، فإذا عقلنا الحكمة في الوضوء وفي
الغسل لم نعقل حكمة تعفير الوجه بالتراب، فيشترطون النية في التيمم، ولا
يشترطونها في الغسل.
فالوضوء أمر تبعدي، وهو عبادة.
كتاب الطهارة - باب
الوضوء [2]
لقد أمرنا الله في محكم كتابه بالوضوء إذا قمنا إلى الصلاة، وذكر لنا أعضاء
الوضوء جميعها على سبيل الإجمال، وجاءت السنة مبينة لكيفية هذا الوضوء، وما
هو حده في الأعضاء، وما هو الركن منها والواجب والمسنون، وجاء حديث عثمان
بن عفان رضي الله عنه في صفة الوضوء جامعاً جل هذه المسائل من خلال التطبيق
العملي للوضوء أمام الصحابة والتابعين.
مشروعية الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحم الله: [وعن
حمران (أن عثمان دعا بوضوء، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق
واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات،
ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث
مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
نحو وضوئي هذا) .
متفق عليه] .
أصل مشروعية الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، فجاء في الكتاب في قوله
سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[المائدة:6] ، وهكذا جاء القرآن بالأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة، ولكن
سنجد في صفة الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصور والكيفيات ما
هو زائد عن كتاب الله، فالزائد عن كتاب الله نسميه سنة، والسنة من الوحي،
كما جاء عن السيوطي أنه قال: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا
بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، ألا
وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدل بقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] .
فما يأتينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الوضوء أم في الصلاة
فإنه وحي، ويجب العمل به على مراتبه، ولا يحق لأحد أياً كان أن يزيد أو أن
ينقص، وليس لإنسان أن يرد سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
لم نجد هذا في كتاب الله! بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
وثبتت الرواية عنه به فهو في كتاب الله، أو فهو من كتاب الله، كما جاء عن
عبد الله بن مسعود أنه كان في المسجد وحدث، فمما جاء في حديثه تلك الليلة
قوله: (لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) ، فمرت
امرأة ووقفت فسمعت هذا وذهبت، ثم جاءت ووقفت عليه في حلقته وقالت: لقد قرأت
القرآن من دفته إلى دفته فلم أجد ما قلت فيه! فاحتجت عليه بالقرآن، فقال:
لو كنت قرأتيه لوجدتيه، فلم ينف عنها القراءة، لكن أخبرها أنها لو قرأته
بإمعان وتأملت كل ما فيه لوجدت ذلك، ثم قال لها: ألم تقرأي قوله تعالى:
{وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ؟ قالت: بلى.
قال: هذا مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام الشافعي رحمه الله في مكة وقال: ايا أهل مكة! أنا من الراسخين في
العلم -وهذه دعوه كبيرة والله- سلوني عمَّا شئتم أجبكم عنه من كتاب الله
فقام رجل -وكما يقال: لا يفل الحديد إلا الحديد- فقال: أخبرنا عن المحرم
يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله؟ -الزنبور: الدبور مثل النحلة، ويلسع
أشد منها- فقال: نعم.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]
، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي) -فالقرآن أحاله على رسول الله والرسول أحاله على سنة
الخلفاء الراشدين- ثم قال: وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند- عن عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ قال:
لا شيء.
فلا شيء عليه في كتاب الله.
وإنما أتيت بهذه المقدمة لأن هناك أموراً تعبدية ليس لنا فيها طريق إلا ما
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هي مراتب من الندب إلى الإيجاب،
فما جاءنا لا ينبغي لعاقل مسلم أن يتردد في مشروعيته وإن اختلف الناس في
مرتبته من الوجوب إلى الندب إلى الاستحباب فنبدأ هنا بهذا الحديث، ولعله
أجمع الأحاديث في فروض الوضوء.
المنهج العملي أنجح
طريق في التعليم
قثال: [وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء.
] عثمان هو: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... ) ، وابن تيمية رحمه الله لما
سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس قال: ليس لها أصل من
فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة
لأدائها، والآن يؤذن المؤذن وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم
يؤذن بعد ذلك بين يدي الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس
ليصلوا فيها ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم
أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن طالب العلم
إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت العلاقة بينهم، ولن
يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون: هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه
لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم
عذراً -وهي الطريقة والحكمة والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله
عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من
باب التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان
وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت الصلاة،
والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة راشد، فأصبح له حكم
المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ،
فاعتبره رحمه الله من تشريع الخلفاء، وعذر العامة في ذلك.
بينما بعض تلامذته حينما سئل عن هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل
من حمار أهله، فانظر إلى الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا
أسمي هذا سياسة الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة.
والذي يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
من بعدي) ، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس!
هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا يحتاج إلى
عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد الطريقة المثلى -وهي
الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال: انظروا وتوضأ لهم على النحو
الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو
وضوئي هذا) .
وهكذا كان السلف يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض
الصحابة يأتي إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟
فيصلي لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن
الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ بالسمع؛ لأن
هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله التعليم العملي، فقد صعد
المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر،
ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل
القهقرى -وهو محافظ على استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد
فرجة، وسجد في أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية
كما فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما
رأيتموني أصلي) .
وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا وإنما حج وقال: (خذوا عني
مناسككم) مع أنه أيضاً في الفتوى كان كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر
الفعلي عنه هو الأصل.
وهكذا نجد المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن
أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا يعلمون
الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً وتأسياً بالمسلمين
التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون يفعلون مثلهم.
وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى عنه يشرع في تعليم هؤلاء
القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً.
ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي فإنه يأتي ويحاكيه في
الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في صلاته لا يعرف القبلة من شرق
أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا
لا يدرك ولا يحسن، ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية.
وما دمنا بصدد هذا الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما: كنت أدرّس في معهد
الأحساء، وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم
هذه الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف تذهب
وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من جهد مع الطلاب
ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت: الرسول صلى الله عليه
وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً
وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها
أغنتني عن تكرار الكلام وإعادته.
وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي ولا أرى ماذا يفعل
ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله لك حق، فقدمت واحداً من
الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف، وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت
إليها بعد ذلك طيلة العام الدراسي.
الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند الطيور، فلي قصة لا
أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا أوردها، ولكن ما دام أنها في
سبيل التعليم فلا بأس بذلك.
كنت آلف الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها
بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت الفراخ
تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في ضحوة النهار إذا
بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار، وهو منخفض عن الغرفة حوالي
عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز، وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون
خلفها كما تمشي ثلة من الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور
على أرض الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم
يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت الدفء من
حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت إلى عتبة الغرفة
وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا
لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل.
فوقفت عند عتبة الباب من الداخل تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند
الدخول، وبقي واحد حاول أن يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية
قليلاً، فنزلت مرة أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض
مختلف مع العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها،
ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز.
وأنا خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة
سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل الدرجة، فنقص
قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل وتقفز على هذه
البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة، فيأتي فرخها بسلامته،
ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به مع بقية الفراخ.
فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم
أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟
فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله، لكن الدجاجة لا تفعل ذلك.
فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد
أبناءنا الصغار حينما يقلدون الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما
هي الصلاة، فلا يستقبل قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء.
فهذا المنهج العملي يجمع عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى
التعليم.
من أحكام الوضوء
غسل الرجلين إلى
الكعبين
قال: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) عندما غسل يده تيامن، وغسل القدمين
أيضاً فيه تيامن، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل
شيء) ، وقد جاء الفعل في غسل اليدين والرجلين مجملاً في الكتاب، فقال
تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وليس فيه يمين ولا
يسار، فبمقتضى عموم النص في الآية يمكن أن تبدأ باليمين أو اليسار كما
تريد، لكن بمقتضى تطبيق السنة تقدم اليمنى.
وقوله: (إلى الكعبين) الكعب والتكعيب والمكعب والكعبة والكواعب مأخوذة من
مادة واحدة، فالشكل المكعب ما استوى طوله وعرضه وعمقه، فالمكعب: الجرم
المتكعب الناتئ الذي يستوي طوله وعرضه وعمقه، ومنه سميت الكعبة؛ لأنها توجد
على هذا التكعيب وسط الخلاء، ومنه أن الفتاة إذا ند ثديها وبرز على صدرها
سمي مكعباً، فهو تكعب على جرم مصفح، فكواعب على وزن فواعل (جمع فاعل) ، وهي
التي ند ثديها -أو برز ثديها- وظهر للعيان.
فما هما العظمان الناتئان اللذان يصدق عليهما اسم الكعب؟ قال بعض العلماء:
لو نظرت في ظهر القدم تجد أن فيه عظماً ناتئاً عند عقد شراك النعل، فكل رجل
فيها كعب واحد، فتغسل إليه، ويكون غسل القدمين إلى الكعبين، ففي كل قدم كعب
واحد، وهذا يذكرونه عن الأحناف.
لكن الجمهور يقولون: كل قدم فيها كعبان، وكل رجل تغسلها إلى كعبيها.
والكعبان عندهم العظمان الناتئان على جانبي القدم في المؤخرة عند التقاء
الساق بالقدم، وهذا ما تشهد له السنة.
فقد جاء في الإحرام أنه إذا لم يجد المحرم نعلين يلبس الخفين، ويفعل كما
قال صلى الله عليه وسلم: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، وفي تسوية الصوف
ومساواتها قال الراوي: يلصق أحدنا كعبه بكعب جاره فهل سيلصق الكعب الذي فوق
القدم بكعب صاحبه، أم العظم الناتئ عن اليمين وعن اليسار؟ فالكعبان هل هما
العظم الناتئ على ظهر القدم كما يقوله الأحناف، أم العظمان الناتئان على
جانبي الساق؟ والجواب: العظمان اللذان على جانبي الساق.
والكعبان غاية داخلة في المغسول.
غسل اليد اليسرى ثلاثاً إلى المرافق
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك) .
أي: ثلاث مرات إلى المرفق.
مسح الرأس
قال: (ثم مسح برأسه) لفظة (مسح) تتعدى بنفسها، فتقول مسحت الزجاج، فتتعدى
كلمة (مسح) بدون زيادة حرف، فهنا الباء جاءت ودخلت على الكلمة، فيقولون: ما
دام أن مادة (مسح) تتعدى بذاتها فلا حاجة إلى مجيء الحرف، فنقول: وامسحوا
رءوسكم فيحصل المسح، لكن مجيء الباء يدل على وجود مادة وقع المسح بها، كأنه
قال: وامسحوا بالماء رءوسكم.
بقي عندنا كيفية المسح والمقدار المجزئ في ذلك، فنجد من يقول: الباء
للإلصاق، أي: لشمول وتعميم الرأس كل، وبعضهم يقول: الباء للتبعيض، نحو:
اكتفيت بتمرة من كامل التمر الموجود فهل الباء هنا في الآية الكريمة:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، أم للإلصاق، أم هي
لضرورة وجود ممسوح به يعلم بالرأس؟ تقول: مسحت الدهن بالرأس فنجد من يقول:
الباء للتبعيض ويقول: أي جزء من الرأس مسحت أجزأك.
ونفس القضية في حلق الرأس، ونجد الآخرين يقولون: تحلق مقدار الربع، ونجد
بعضهم الآخر يقول: تحلق الأغلب، فـ مالك وأحمد رحمهما الله يقولان
بالأغلبية، وأبو حنفية يقول بكامل الرأس، وأبو حنفية رحمه يقول بالأكثرية،
والشافعي رحمه الله يقول ببعضه.
ومن غريب نوادر الفقه ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع، حيث يقول: وقد
أغرب بعض أصحابنا فقال: لو مسح ثلاث شعرات أجزأه؛ لأنه أقل العدد وأغرب منه
من قال: ولو مسح بعض شعرة أجزأه ثم يقول: وكيف يكون بعض شعرة؟ قال: إذا طلى
الرأس بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء، ومسح الجزء الذي برز منها أجزأه،
ثم يقول: هذا من أغرب الأقوال.
وسيأتي في باب الوضوء كيفيات مسح الرأس عنده صلى الله عليه وسلم، ففي
رواية: (فأقبل بهما وأدبر) أي: بدأ بمقدم رأسه وذهب بكفيه إلى قفاه، ثم رجع
إلى المكان الذي بدأ منه.
وسنجد أنه مسح بناصيته وكان عليه العمامة، فأتم على العمامة، والناصية هي
مقدم الرأس، وكانت عليه صلى الله عليه وسلم العمامة، فأدخل يده تحت العمامة
ومسح بالناصية، ثم أكمل المسح على العمامة.
وهناك صورة ثالثة أنه مسح على العمامة بدون الناصية، فلهذا قال الشافعية:
مسح بعض الرأس يجزئ وكذلك الأحناف قالوا: مسح الأكثر يجزئ ولكن الجمهور
يجيبون عن ذلك بأنه لم يقتصر على الناصية، ولكنه أكمل على العمامة.
وهنا عثمان رضي الله عنه قال حمران عنه: (ثم مسح برأسه) .
وذلك بعدما مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين
ثلاثاً، وفي مسح الرأس لم يذكر (ثلاثاً) ، وهنا يأتي السؤال: هل المسح على
الرأس يكون ثلاثاً كبقية أعضاء الوضوء، أم مرة واحدة؟ وهنا أطلق، لكن إذا
وجد عندنا ما يقتضي أن المسح ثلاثاً انتقلنا إليه، وهنا لم يذكر عدداً، ولم
ينس ولم يخطئ، فما دام أنه ذكر العدد في كل أعضاء الوضوء فإنا نأتي بالعدد
في موضع ما جاء به، وحيث ترك العدد في موضع منه تركناه، إلا إذا جاءنا نص
في حديث آخر يقول: (ثلاثاً) فننظر هذه الزيادة، وننظر فيمن زادها، فإن كان
ثقة فزيادة الثقة مقبولة.
وبعض الشافعية يرى أن تثليث المسح كتثليث الأعضاء في الغسل، والجمهور على
أن المسح لم يرد فيه نص صحيح صريح بأن يكون ثلاثاً، وقالوا: لا ينبغي أن
يكون المسح إلا مرة واحدة.
فنحن نعلم بأن الشعر لا يغسل بالماء، فإذا كانت اليد مبلولة ومسحت الرأس
ترى أثر الماء على الشعر، ولو مسحت على الثوب لا تراه، ولو جئت بالمسح مرة
ثانية أو مرة ثالثة انقلب المسح إلى ما يشبه الغسل، ولهذا قالوا: المسح لا
يكرر؛ لأنك لو كررت المسح أصبح في صورة الغسل، والله سبحانه وتعالى أمر في
حق الرأس بالمسح وليس بالغسل.
الاستنشاق
قال: (ثم تمضمض واستنشق واستنثر) .
قوله: (استنشق) أي: سحب الماء بأنفه بالنفس إلى الداخل، و (استنثر) أي: نثر
الماء الموجود في الأنف بنفسه من أنفه.
غسل الوجه ثلاث مرات
(ثم غسل وجهه ثلاث مرات) وبعض الناس يحاول أن يعرِّف الوجه، وكما يقولون:
تعريف المعروف صعب، فيقول: ما هو الماء؟ وما هو العمود؟ ومن الذي يعرف
العمود تعريفاً منطقياً جامعاً مانعاً؟ فهذا صعب جداً، لكن الشيء المجهول
يمكن تعريفه من خلال صفاته.
قالوا: الوجه من المواجهة، ويقابله القفا من: (يقفو إثره) فحد الوجه: ما
يرى من الغير عند مواجهته، فعندما تواجه إنساناً هل ترى قفاه؟ فالقفا ليس
من الوجه، وبعض الشافعية وغيرهم قالوا: حده معلم ومعروف، فحده طولاً من
منبت الشعر -يعني: ما بين نهاية الجبهة وأول الرأس ولو كان أصلع- إلى أسفل
الذقن، فهذا هو حد الوجه في الطول، وفي العرض قالوا: ما بين شحمتي الأذنين،
فالأذن ليس بداخلة، ولكن إلى حد أوائل الأذن هو حد الوجه عرضاً.
وبعضهم قال: حده إلى الصدغين، وهما العظمان الناتئان بين نهاية الوجه
وأوائل الرأس.
وهذا قريب.
ويريد الفقهاء بهذا عدم الزيادة، فإذا كان في غسل الوجه لا يذهب يغسل رقبته
من فوق ومن الخلف، والرأس، بل يغسل على حد العضو المسمى شرعاً وعرفاً.
غسل اليد اليمنى ثلاثاً إلى المرفق
قال: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) بعدما غسل الوجه ثلاث مرات
بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في المرفق ليحدد الجزء
المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه، والكفان من اليد، وبعض الناس
يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو
المعروف يميناً ويساراً من الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها
تسمى: الكف، والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب.
ووجدنا الشرع في ذكر اليد تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة
يقيدها بقيد معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى
الرسغ، والمرفق: هو المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي
مرفقاً لأنك تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان،
فيساعد الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق
في الجلوس.
وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في التيمم في قوله تعالى:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، ولم تأت
بلفظ (المرافق) ، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في
الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا عمل مستقل، ولا يقاس
أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على مقيد ذاك؟ فـ الشافعي رحمه
الله حمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم
إلى المرفق كما هو في الوضوء إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما
جاءت به السنة، فضرب بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد
المطلقة في التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة.
وكذلك جاءت اليد في حد السرقة وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من
القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب،
وتخصص العام في الكتاب، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}
[المائدة:3] فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان) ، فخصص
عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت.
فكذلك هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين.
وعلى هذا النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل
التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟ يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت الشعر، وليس هناك
حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه
لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في
الصيام: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة:187] ، فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل
جزءاً يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند
غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار بكامله؟
فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق الصوم في النهار
واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من أوله ولو دقيقة واحدة،
وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛ لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا
النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن
الحد المعروف، فكذلك غسل اليد إلى المرفق.
لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]
، واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل الغاية في
الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟ هنا قال تعالى: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فهل المرافق
داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا معنى: هل الغاية تدخل في
المغيا أم تخرج عنه؟ فإذا جئنا إلى حكم اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا
جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين
لنا، وقد جاء النص: (أدار الماء على مرفقيه) ، فهل أدخلهما في المغسول أم
لا؟ والجواب: أدخلهما.
ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف نخيل، ويليه صف رمان،
فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون
نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع -أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم
خارجة عنه؟ فهل اشترى منك تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟
والجواب أنها داخلة.
فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه عشر شجرات، فقلت
لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل الليمونة الأولى داخلة في
المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟ والجواب: خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة
الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت
الغاية خارجة عن جنس المغيا فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما
دام أنه وضعت حدود نجد هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف.
فقوله: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل
المرفق، مع أن النص: (وأدار الماء على مرفقيه) .
غسل اليدين إلى
الرسغين ثلاثاً
قال: (فغسل كفيه ثلاث مرات) .
الكف: هو ما كان من أطراف الأصابع إلى الرسغ، يقولون: سميت الكف كفاً لأنها
تكف الأصابع داخلها؛ لأن الأصابع تأتي منفرجة، وكف الشيء: ثناه، ويكف بها
عن نفسه، أي: يدفع الغير عن نفسه، قالوا: وتكفيه في حمل الأشياء الأخرى،
ومنه: كفة الميزان تحفظ الشيء وتتعادل معه.
وفي الحديث المشهور: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى
يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) ، فهنا عثمان غسل كفيه ثلاثاً،
فهل غسل الكفين للحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، أم غسل كفيه لأنهما
جزءً من أجزاء الوضوء وذاك غسل مستقل لا دخل له بالوضوء؟ والصحيح الأخير،
وهو أن غسل المستيقظ من النوم كفيه قبل أن يدخلهما في الإناء عمل مستقل لا
يحسب من أعمال الوضوء، وهنا عثمان ليس مستيقظاً من نوم، فـ عثمان جاء إلى
قوم وقال: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله؟ فلم يكن مستيقظاً من نوم حتى
يحتاج إلى غسل الكفين لاستيقاظه، فهنا غسل كفيه ثلاث مرات.
المضمضة
قال: (ثم تمضمض) .
(ثم) للعطف وللترتيب، فالأول كان غسل الكفين قبل المضمضة، فلو قال: غسل
كفيه ومضمض، فـ (الواو) لمقتضى الجمع والتشريك، لكن (ثم) تدل على الترتيب
والتراخي، وهذا التراخي أمر اعتباري.
وقال هنا: (غسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض) ، ولم يقل: (ثلاثاً) ولكن سيأتينا في
حديث علي رضي الله عنه أنه مضمض ثلاثاً، وهل يمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات،
ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم
يمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة؟ التفصيل في
الكيفية موجود في أخبار أخرى.
فحديث عثمان هو الأصل الكلي للوضوء، والتفاصيل في غيره من الأحاديث.
والمضمضة يقال: إنها تحريك الماء في الفم ثم مجه، لا أن يبلع الماء،
والاستنشاق يكون بجذب الماء بالأنف، ثم نثره إلى الخارج، وفيه حديث لقيط بن
صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) احتياطاً للصوم، حتى لا
يسبق الماء إليه.
وهنا غسل الكفين عمل مستقل، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم يلي ذلك غسل الوجه
ثلاث مرات، وهل المضمضة والاستنشاق كل منهما عمل مستقل بذاته، أو أن
المضمضة والاستنشاق جزء من غسل الوجه؟ فمنهم من قال: أن الفم والأنف عضوان
داخلان، وهما جزء من الوجه، فالمضمضة والاستنشاق مقدمة تتمة لغسل الوجه،
فيكون غسل الوجه شاملاً لهما، وهما داخلان في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ويكون من ضمن الوجه الفم والأنف، فتكون المضمضة
والاستنشاق واجبان؛ لأنهما جزء من الوجه.
ومنهم من قال: الفم والأنف عضوان مستقلان، وليسا بداخلين في الوجه، ويكون
الوجه على الفرضية بنص الآية، وتكون المضمضة والاستنشاق على الندب؛ لأنهما
خرجا عن محيط الوجه، ولكن القول بأنهما عضو داخلي أو عضو خارجي يقال في
الصوم؛ لأن الماء إذا وصل إلى داخل الجوف أبطل الصيام، والصائم يتمضمض
ويستنشق، فهما عضوان خارجان بالنسبة إلى الصوم.
والآية اقتصرت على غسل الوجه، والسنة النبوية جاءت بالمضمضة والاستنشاق،
فبعضهم يقول: غسلهما واجب يبطل الوضوء بتعمد تركه، وبعضهم يقول: ليس بواجب؛
لأن الواجب جاء في القرآن بغسل الوجه، وبعضهم يخالف في الوضوء وفي الغسل،
ويقول: هما واجبان في الغسل مندوبان في الوضوء.
ولكن ما دامت السنة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة
واحدة وترك المضمضة والاستنشاق فلا ينبغي لإنسان أن يتعمد تركها.
ولذا يقول بعض العلماء: إذا كان الأنف والفم من الوجه، فلماذا لا يقدم غسل
الوجه ثم يتمضمض ويستنشق؟ قالوا: لا تقديم غسل الكفين -وإن كانا مستقلين-
لغرض، وتقديم المضمضة بالفم والاستنشاق بالأنف لغرض، أما الغرض في غسل
الكفين فليعرف درجة حرارة الماء، أما إذا لم يعرفه وأخذه فجأة فإنه يلسعه
بحرارته الزائدة، لكن الكفان يتحملان؛ لذا أول شيء لا بد أن يعرف حرارة
الماء بغسل الكفين.
وأما المضمضة فلقولهم: حكم الماء الطهور أن يسلم من الأوصاف الثلاثة التي
تغيره وهي الطعم واللون والرائحة، أما اللون فيعرف برؤية العين، وأما الطعم
فيعرف بالمضمضة، وأما الرائحة فتعرف بالاستنشاق، فكأنه بتقديم الكفين عرف
حرارة الماء، وهذا أمر مهم لصحة الإنسان، وبتقديم المضمضة والاستنشاق عرف
صفات الماء أنه طهور صالح، وليس يداخله ما يسلبه الطهورية، وقد عرف اللون
بالرؤية.
والله تعالى أعلم.
الترتيب في الوضوء
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
نحو وضوئي هذا) .
هنا مسألتان: الأولى تتمة لهذا الحديث عند غير البخاري، أو غير المتفق
عليه، وبنظرة إلى سرد أعمال الوضوء في هذا الحديث يقال: هل يتعين على
الإنسان أن يأتي بوضوئه كما فعل عثمان، فلا يقدم ولا يؤخر، أم له أن يقدم
ويؤخر، ويغسل يديه، ثم وجهه، أو يغسل وجهه ثم يتمضمض، أو يغسل قدميه ثم
يمسح رأسه، فهل الترتيب واجب في الوضوء أم غير واجب؟ إن الآية جاءت فيها
الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، والحديث جاء فيه (ثم) ، وهي على الأفضلية،
وحديث (ابدءوا بما بدأ الله به) على الندب والاستحباب، وذلك لما قالوا: من
أين نبدأ بالسعي؟ قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وانظر إلى فقه الأئمة وما فتح الله به عليهم، فـ الشافعي رحمه الله قال:
ترتيب أعضاء الوضوء واجب في كتاب الله بدلالة الإيماء والتنبيه، وليس
بدلالة النص الصريح.
قال: أول ما يفعل من الوضوء غسل الوجه، فلتكريمه ولمواجهته ولشرفه كان موضع
البداية، وفيه سلاطين الحواس السمع والبصر والفم وغيره فقدم، ثم بعد الوجه
غسل اليدين، ثم بعد اليدين مسح الرأس، فهل الأقرب والمشابه والمجانس لليدين
الرجلان أم الرأس؟ والجواب: الرجلان، فاليدان يبطش بهما، والرجلان يسعى
بهما.
فيقول: لو أن الترتيب غير واجب لأتبع المجانس بمجانسه، فيكون غسل اليدين
أولاً، ثم الرجلين، ثم مسح الرأس، فلما جاء بممسوح بين مغسولين -وهذا حكم
مغاير-، وأدخل أجنبياً بين متجانسين عرفنا أن موضع الرأس هنا لا يجوز
تقديمه ولا تأخيره، وكذلك بقية أعضاء الوضوء، فانظر كيف أتى بها!! فهل
نستقل بعقولنا أم نرجع إلى عقول العلماء؟! وجاء في رواية تتمة للحديث أنه
صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث
فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فترتب على هذا الوضوء الكامل
الإسباغ الوافي أنه إذا صلى ركعتين ليستا من الفرائض ولا من النوافل
الراتبة، وكان فيهما حاضر القلب وليس مشغولاً بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه.
ويقول ابن دقيق العيد أو غيره: ولو خطر على قلبه خاطر فدفعه فهو داخل في
هذا المعنى، فالمهم أنه لا يسترسل مع تلك الخواطر.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الطهارة - باب
الوضوء [3]
إن من رحمة الله عز وجل بعباده أن أرشدهم إلى مافيه الخير لهم في الدنيا
والآخرة، وما يعود عليهم بالنفع والفائدة في دينهم وأبدانهم، فكان مما شرع
الله لهم مسح الأذنين، والاستنثار ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم، وغسل
اليدين قبل غمسهما في الإناء بعد الاستيقاظ من النوم.
المسح على الرأس
وأحكامه
خلاف العلماء فيما
يصدق عليه مسح الرأس
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه يمسح ولو ثلاث شعرات، والذي يقول بهذا
القول الشافعي، وقد نقل عنه هذا القول الشافعية وردوه، والنووي ذكر ذلك
ورده؛ لأنه فيه بعد كثير.
ومأخذ الشافعية في الاكتفاء ببعض الرأس أنهم قالوا: حرف الباء في قوله:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، وبعض الرأس يصدق على
ثلاث شعرات.
ونحن لا نناقش من ناحية مذهبية، ولكن نريد أن نعرف كيف أخذوا هذا الرأي،
حتى لا نقول: هذا تفريط منهم، فهذا المنهج لنطمئن إلى ما ينقل من الأقوال
عن الأئمة رحمهم الله.
وهناك من يقول: يمسح ربع الرأس وهم الأحناف، قالوا: وتقدر الناصية بربع
الرأس.
فإن قيل لهم: إذا كانت الناصية تجزئ فلماذا تمسح العمامة؟ يقولون: يجمع بين
أقل ما يجزئ وأكمل ما ينبغي، فأقل ما يجزئ الربع، والتعميم على العمامة
للتعميم والشمول.
وهذه هي وجهة نظر الأحناف.
أما الحنابلة والمالكية فقالوا بالتعميم، وقالوا: إذا كان المسح مجملاً في
الآية، والباء مجملة أيضاً -لأن لها عدة معانٍ كالابتداء والإلصاق وغير
ذلك- فإن السنة المبينة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتفى
بالربع أو بالثلث، بل أقبل بهما وأدبر.
فقيل لهم: هذا للكمال، وهذا متفق عليه، فماذا تقولون في المسح على الناصية؟
قالوا: مسح على الناصية، ولا يجزئ الربع لأنه أتم الواجب على العمامة،
وأنتم تقولون: يكتفى بالناصية؛ لأنها أقل ما يجزئ، والمسح على العمامة
تكملة للأفضل! مثل الذي يتوضأ فيغسل مرة مرة، والآخر يتوضأ فيغسل ثلاثاً
ثلاثاً، فهذا أقل ما يجزئ، وذاك أفضل ما يعمل.
ونحن نريد من هذا ناحية منهجية فقط، وهي تحقيق المسألة، والخلاف موجود من
قبل، ولا نستطيع أن نرفعه، لكن عندما نمر على هذا الفعل ما الذي تطمئن إليه
النفس في هذه المسألة، هل مسح ثلاث شعرات، أم ربع الرأس، أم الإقبال
والإدبار بالكفين؟ لاشك أنه الإقبال والإدبار باليدين؛ حيث إنه ليس في ذلك
شك ولا تساؤل، فإن كان الربع يجزئ فالحمد لله، فالإقبال بهما فيه الربع
وزيادة، ويكون الإنسان على طمأنينة بأنه نفذ صورة ما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم، ويكون مطمئنا إلى أقصى حد.
وأما المسح على العمامة فإنهم يقولون: يشترط في العمامة التي يجوز المسح
عليها -سواءٌ مع الناصية أو دونها- أن تكون عمامة محنكة، والمحنكة يكون لها
طرف في اللفافة، والطرف الآخر يأتي من تحت الحنك إلى فوق الرأس، فتكون هذه
محكمة، ويشق على صاحبها أن ينقضها، فقالوا: لوجود المشقة جاز المسح عليها،
حتى إن بعض الناس قال: لو كان من عادة بعض البلاد أن النسوة يتعممن لجاز
لهن أن يمسحن على العمامة، فبعض النسوة تتعمم بعمامة من نوع خمارها، فليست
العمامة خاصة بالرجال، كما أن المسح على الخفين ليس خاصا بالرجال، وليس
مقصوراً على الشتاء والبرد وغيره، وإنما على مشقة اللبس والنزع.
والمسح على العمامة من حيث هو له مبحث مستقل في باب المسح على الخفين، ولكن
ذكرناه لمناسبة قوله: (وأتم على العمامة) ، فالعمامة التي يمكن أن يتم
عليها هي المحنكة التي يشق على صاحبها نزعها ولبسها، وهناك بعض العمائم مثل
(الطربوش) تنزع وتطرح، وتكون العمامة مربوطة على طاقية، فلا كلفة في نزعها،
فهي ملفوفة جاهزة، فمثل هذه لا مشقة فيها، فالعمائم التي يتمم عليها المسح
مع الناصية أو التي يقتصر على مسحها فقط هي التي يكون فيها نوع من المشقة
عند حبكها على الرأس.
عدد مرات المسح
وكيفيته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا
ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه
الله: [وعن علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ومسح برأسه واحدة) أخرجه أبو داود، وأخرجه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح،
بل قال الترمذي: إنه أصح شيء في الباب] .
في حديث عثمان رضي الله تعالى عنه قال: (ثم مسح برأسه) ، ولم يبين لنا
العدد، فهل يكرر المسح ثلاثاً كبقية الأعضاء المغسولة أم لا؟ فـ الشافعي
يرى أن مجمل كلام عثمان في مسح الرأس يحمل على بقية الأعضاء، ولكن الجمهور
يقولون بمسحة واحدة؛ لأن المسح لا يتشرب معه الرأس الماء، فإذا مسحناه أكثر
من مرة فسيكون كأننا غسلناه، ولهذا قال العلماء: لا يتكرر.
فجاء المؤلف رحمه الله بحديث علي رضي الله عنه، وفيه النص على أنه مسح مرة
واحدة، فنحمل ما سكت عنه عثمان رضي الله تعالى عنه على النص الوارد هنا على
أن المسح مرة واحدة.
قال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال:
(ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه] .
هذا الحديث يماثل حديث عثمان رضي الله عنه في بيان كيفية وضوء النبي صلى
الله عليه وسلم، وبعض العلماء يجعله الأصل بدلاً من حديث عثمان، ويبني عليه
كل النصوص التي تأتي في باب الوضوء، فحديثي عثمان وعبد الله بن زيد كلاهما
مستوف ومكتمل.
فمما ذكره حديث عبد الله بن زيد بيان كيفية مسح الرأس، وقد أتى المؤلف
بحديث علي في بيان مسح الرأس؛ لأن عثمان أجمله، ولم يبين العدد، ولا
الكيفية والهيئة، فاضطر المؤلف أن يأتي بنصوص أخرى ليبين لنا كيف يكون مسح
الرأس، أما من حيث العدد فأخذا من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم
مسح مرة واحدة، وهذه المرة كيفيتها يبينها حديث عبد الله بن زيد.
فقال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال:
(ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه،
وفي لفظ لهما: (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان
الذي بدأ منه) ] .
فقوله: (بدأ بمقدم رأسه) مقدمة الرأس هي الناصية، وجاء في بعض الآثار:
(مفرداً أو مفرقاً أصابعه) .
وقوله: (ثم ذهب بهما إلى قفاه) أي: اليدين ذهب بهما إلى قفاه، والقفا ليس
من الرأس، ونحن قلنا: الغاية إذا كانت من غير المغيَّا فليست بداخلة، فلا
تذهب إلى القفا وتقول: هذا داخل في المسح.
وإنما تمسح إلى أواخر الرأس؛ لأنه يريد أن يبين لنا استيعاب الرأس، فقال:
(بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه) ، وتكون السبابة على منتهى منابت
الشعر من القفا.
قال: (ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) ، وهذه بإجماع المسلمين أكمل صورة
في مسح الرأس في الوضوء.
مسح الأذنين وحكمته
قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه -في صفة الوضوء- قال: (ثم مسح
برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهامه ظاهر أذنيه) أخرجه
أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة] .
وهذه المسائل زائدة على ما جاء في صفة وضوء عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأن
عثمان رضي الله تعالى عنه لم يذكر لنا في الأذنين شيئاً، وستأتي نصوص أخرى
تبين الماء الذي تمسح به الأذن هل هو ماء مسح الرأس، أم يأخذ ماءً جديداً؟
ويهمنا الآن في الكيفية، حيث قال: (أدخل أصبعيه السباحتين) ، وهما الأصبعان
اللتان تليان الإبهام، وتسمى الواحدة منهما: السباحة والسبابة، والتي تليها
تسمى الوسطى، وبعدها الخنصر والبنصر.
قوله: (أدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه) بعض علماء البلاغة يقولون: هنا
المجاز اللغوي علاقته الكلية، فذكر الكل وأراد الجزء، بعكس العلاقة
الجزئية، فإنه يذكر الجزء ويريد به الكل، مثل قولك: أرسل الأمير عيناً له،
وكأن تذكر جزءاً من الإنسان وتريد كله، لكن العلاقة الجزئية يشترط فيها أن
تكون هي المقصودة بالكل؛ لأن الذي يرسل إنسانا ليتجسس على الناس لا يتجسس
برجله ولا بفمه، ولكن يتجسس بعينه.
وهنا لم يدخل السباحة كلها، وإنما طرف الأنملة منها، فهنا لم يقل: أدخل طرف
السباحة.
بل قال: (السباحة) ، وهذه مناقشة لغوية، فأدخلهما بقدر ما يسعهما من تجويف
الأذن الخارجي، فالأذن ثلاثة أقسام: القسم الخارجي، والأوسط، والطبلة.
ويقولون: كل عضو نافذ إلى الجسم له صمام، فالفم له الشفتان، والعينان لهما
الرموش تحميهما من التراب والأذى، والشفتان يغلق بهما الفم فلا يدخل إليه
شيء من الأوساخ، أما الأذن فإنها مفتوحة، فعندما ينام وهي مفتوحة فالذباب
يمشي، والحشرات تمشي، فما هو الذي يمنع هذه الموذيات من الدخول إلى الأذن؟!
فإن الله جعل الأذن تفرز مادة شديدة المرارة لا تقوى حشرة أن تقرب منها،
فأحيانا هذه المادة قد تزيد، وقد ينزل منها بعض الشيء، أو لأن الأذن جوفية
يأتي الغبار فيعلق في هذا التجويف، فكلما توضأ ومسح لا تبقى رواسب تعمل
عفونة أو مرضا، أو أي شيء آخر يؤذي الأذن، ولا شك أنها تنظف دائماً، فلذلك
أقل الناس الذين يصابون بأمراض الأذن هم المسلمون.
وسيأتي نص بأنه أدار إبهامه خلف الأذن، وإذا كنا قد علمنا أن تنظيف السبابة
للأذن يكون من الأوساخ، فما هي العلة في مسح خلف الأذن؟ إن صلة الأذن
بالرأس تجعلها أشد إفرازاً للعرق، وأشد حساسية، فلو جلست بعرقها وبالمادة
الدهنية التي تفرزها ربما التهب الجلد وتآكل وانفصلت الأذن عن الرأس، فكلما
توضأ ومسح بالسباحة المادة الدهنية، وجعل الإبهام تمر على الأذن الخارجي
بقيت سليمة معافاة، ونحن لا نعلل للسنة، ولكن نقول: هذا من فضل الله علينا،
ومن حكمة التشريع في مسحها.
والحكمة من أن الفم والعينان عليهما غطاء والأذن ليس عليها غطاء هي أن
الإنسان -كما قالوا- إذا نام، ومر إنسان بجواره لا يراه، وأراد أن يناديه
أو يوقظه، فإنه يحتاج إلى أن يذهب إلى جواره ويلمسه بيده حتى يفتح الغطاء
ويسمع منه، فعندما يكون نائما، وكل الحواس والأعصاب نائمة، وباب السمع
مفتوح بلا غطاء يصل إليه الصوت من بعيد، ويأتيه من جميع الجهات الأربع
فيسمع ويستيقظ، ونحن نجد أجهزة (الرادار) يصنع لها مظلة حتى تصطاد الصوت.
ما يفعله المستيقظ
من نومه
غسل اليدين قبل
غمسهما في الإناء
قال: [وعنه (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها
ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] .
هذا الحديث -كما يقول بعض العلماء- تكلم فيه بعض الناس، أولئك الذين يحشرون
العقل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يدركون الحكمة منه.
قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، والليل صالح للاستيقاظ والنهار صالح
للاستيقاظ، فهل كلما نام الإنسان واستيقظ يغسل يديه؟ إن القرينة هنا هي
قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، والبيتوتة تكون ليلاً.
فقوله: (إذا استيقظ) عام مطلق لكل من ينام ويستيقظ، ولكن في آخر الحديث ما
يحدد نوعية النوم.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بالشفعة، فإذا ضربت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة) ، وهناك من قال: الجار بمعنى المجاور، ولكن آخر
الحديث: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق) بين أنها تكون بين الشركاء؛ لأن
الجيران عندهم حدودهم وطرقهم من قبل.
فلابد أن يؤخذ الحديث بمجموعه ولا يغفل فيه لفظ واحد، فلفظتي (فضربت) و
(صرفت) بينتا لنا أن كلمة الجار التي هي حقيقة في المجاورة ومجاز في الشريك
يراد بها الشريك.
وعلى هذا فالحديث فيه قرينه تبين نوعية النوم الذي إذا استيقظ منه لا يغمس
يده في الإناء حتى يغسلها، وهي كلمة (باتت يده) .
وقد يقول قائل: لماذا يغسلها؟ فيقولون -والله تعالى أعلم، وهذا من باب
الموعظة- إن رجلاً سمع هذا الحديث وقال: عجيب! كيف لا أعلم أين باتت يدي!
واحدة تحت جنبي والأخرى فوق الجنب الآخر، فابتلاه الله أن جعله يستيقظ ويده
في مكان يستقذره.
وبعض الناس يقول: الحديث هنا معلل وظاهر العلة، فيقولون: إن الحديث قيل في
المدينة وهي حجازية، والحجاز حارة، وكانوا يستجمرون ولا يستنجون، حتى إن
الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل قباء حين نزلت فيهم الآية: {فِيهِ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال: (إن الله أثنى عليكم، فماذا تفعلون؟
قالوا: نتبع الحجارة بالماء) ، فما كان كل الناس يتبعون الحجارة الماء، بل
يكتفون بالحجارة، فيقول بعض الناس: إن الإنسان إذا نام لا يدري أين تطيش
يده، فلربما وصلت يده إلى ذلك المكان، وربما عرق، فالحجارة لا تنقي، فمن
هنا يغسل يده.
ولكن الجمهور يقولون: لو أنه بات ويده مغطاة بالكفوف واستيقظ من نومه
فبمقتضى هذا الحديث لا يغمسها في الإناء حتى يغسلها.
وهنا تنتج من الفقهاء أقوال هندسية تصيب وتخطئ.
فإذا كان سيتوضأ من الصنبور فإنه لا يحتاج إلى أن يغمسها، وإن كان الإناء
صغيراً فسيكفئه ويتوضأ، ولكن إذا كان الإناء كبيراً وليس عنده ما نعترف به
ولا يستطيع أن يميله فماذا يفعل؟ فبعض الفقهاء يقول: يأخذ الماء بفيه ويغسل
يديه وبعضهم يقول: يأخذ من ثيابه ويغمسه في الماء، ثم يعصره على يده.
فغسل اليدين للمستيقظ من نومه مستقل بذاته، فإذا استيقظ من النوم وأراد أن
يتوضأ، فالحديث يقول: (فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) .
مسألة: هل غسل اليدين ثلاثاً لغمسها في الإناء يجزئ عن غسل الكفين في
الوضوء، كما لو أراد أن يتوضأ للظهر أو العصر، أم لابد من غسل اليدين مرة
لغمسها في الإناء ومرة للوضوء؟ فهذا حكم وذاك حكم.
فلو قمت من نومك وأردت غسلهما تحت الصنبور فإنك تغسلهما ست مرات، ثلاثاً
لاستيقاظك من النوم، وثلاثاً للوضوء، وهذا مقتضى نص هذا الحديث.
والذين يقولون: إنها مسألة معللة.
نقول لهم: لا دخل للتعليل في هذا، وكلما أخذ الإنسان السنة على عمومها
واطمأنت نفسه إلى مقتضاها دون أن يدخل العقل فيها كلما كان ذلك أسلم له
وأطيب للخاطر.
والله تعالى أعلم.
الاستنثار ثلاثاً
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه)
متفق عليه] .
هناك في حديث عثمان رضي الله عنه قال: (تمضمض واستنشق واستنثر) ، ولم يقل
(ثلاثا) ، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث ليبين أمرين:
الأمر الأول: أن المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات.
الثاني: عند الاستيقاظ من النوم يستنثر ويستنشق ثلاثاً، وذلك لأن الشيطان
يبيت على الخيشوم داخل الأنف، والشيطان اختار هذا المحل لأنه مفتوح.
وبعض العلماء يقول: لأنه موضع المخاط والقذارة، فالشيطان يتتبع هذه
الأشياء، وسيأتي نص أنه يبول في أذن النائم الذي ينام عن صلاة الصبح، وهل
أحد يحس بثقل الشيطان في خيشومه؟ وما هي ماهية الشيطان؟ هل هو خشب، أم
حديد، أم دم ولحم فالله أعلم به، والأصل فيهم أنهم عالم نيراني، ولكن الله
أمكنهم أن يتكيفوا بما لا نراه نحن، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، وكم ذكر أن من
مؤمنيهم وصالحيهم من يتلقون العلم مع الناس، ويجلسون في حلق الدروس، ولا
يعلم الناس بهم ولا يشعرون بهم، وقد يتشكلون بشكل ما حيوان أو إنسان.
وفي السنة في حديث أبي هريرة أنه أتي بمال الزكاة، وقام عليه أبو هريرة
حارسا، فإذا بشخص يأتي خلسة ويسرق من الطعام، فيمسكه، فيتعذر عليه بالفقر
والعيال، فتركه لوجه الله، وفي اليوم الثاني جاء فإذا به أيضا يعتذر بنفس
العذر، فسأله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعل أسيرك البارحة؟ قال: اعتذر
وشكى لي العيال، قال: سيعود فعاد في الليلة الثالثة فأمسكه أبو هريرة وقال
له: لأسلمنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا تفعل، وأعاهدك أني لن
أعود، وأعلمك آية إذا قرأتها عند نومك لا يقربك شيطان، وأخبره أنها آية
الكرسي، فتركه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك
البارحة؟ قال: عاد، ولكن عاهدني وعلمني كذا، قال: صدقك وهو كذوب) ، فهو صدق
حين أخبره بأن من قرأ آية الكرسي لا يقربه شيطان، وهو كذوب لأنه ثلاث ليال
يقول له: (لن أعود) ، ولكنه عاد، فجاء في شكل إنسان إلى أبي هريرة.
وفي حفر الخندق رجع رجل من الأنصار إلى بيته فووجد زوجه على الباب -وهو
حديث عهد بعرس- فأراد أن يضربها بسيفه، فقالت: تعال وانظر إلى فراشك! فدخل
فإذا حية ممددة على طول السرير، فالتقطها برمحه ثم ركز الرمح وسط البيت،
فانتفضت عليه، فتقول الزوجة: فوالله لا أدري أيهما أسبق موتا.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم قال: (أصابه ولم يسم، فانتقم له أصحابه.
إلخ) .
وجاء في الحديث الآخر: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ، ويوجد تحت
كل شعرة عِرق يغذيها، ويقال: لو أن أوردة الإنسان وأوعيته الدموية أخذت على
ما هي عليه ووصلت لدارت حول الكرة الأرضية، فهناك أوردة وعروق دقيقة جدا
فالشيطان يمر فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (فضيقوا مجاريه) .
فإذا كان يجري -وليس يمشي فقط- فلا غرابة أن يبيت على خيشومك.
فنحن نستريح بقراءة هذه الآية، وكفانا خبر السيد المصدوق صلى الله عليه
وسلم، ولكن بين لنا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان النائم ما عليه تكليف،
فاتركه ينام، فإذا استيقظ واستنثر بالماء أخرج عنه الشيطان وآثاره في
خيشومه.
كتاب الطهارة - باب
الوضوء [4]
لقد حث رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يرفع الدرجات ويزيد في
الأجر، فكان مما أرشد إليه إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع واللحية، والمبالغة
في الاستنشاق، وهذه الأفعال من أسباب كمال الوضوء وحسن النظافة وزيادة
الأجر.
أحكام متعلقة
بالوضوء
إسباغ الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا
ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] .
وقوله: [وعن لقيط بن صبرة] يقال: (صبُرة) بالضم، وقيل: (صبِرة) بالكسر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) هذا الحديث في جملته من أهم أحاديث الوضوء؛
لما فيه من الحث على إسباغ الوضوء، والإسباغ: التعميم، كما قال تعالى:
{أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً سابغات تغطي مواطن الخطر
على الإنسان عند القتال، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة المرأة:
(أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كان الدرع سابغاً
يغطي ظهور القدمين) وإسباغ الوضوء: هو تعميم العضو بالماء، حتى لا يبقى فيه
جزء لم يمسه الماء.
وجاء في المقابل في غزوة تبوك أنه صلى الله عليه وسلم نظر إليهم وهم
يتوضأون سراعاً، فرأى في عقب واحد منهم لمعة -أي: لم يصلها الماء-، فقال:
(أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم.
فعرفنا أن الإسباغ هو التعميم، ومن هنا قالوا -كما تشدد في ذلك المالكية-
تدليك الأعضاء شرط في الوضوء، وقال آخرون: إن التدليك ليس شرطاً، وإنما هو
عامل تأكيد لوصول الماء إلى البشرة كلها، وجاءت السنة مبينة بأن يتوضأ
الشخص ثلاثاً؛ فتثليث الغسل فيما عدا الرأس مظنة تعميم الماء على الأعضاء،
أو تحقيق لإسباغ الوضوء.
فهذا الحديث نص صريح: (أسبغوا الوضوء) ، ومن هنا يقولون: من اطلع على لمعة
في عضو من أعضاء الوضوء بعد أن صلى بهذا الوضوء عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن
وضوءه ناقص، والوضوء شرط في صحة الصلاة، ولهذا كانت أهمية هذا الحديث، وكان
على الإنسان إذا أخذ يتوضأ أن يتمهل ويدلك، ويتأكد من وصول الماء إلى جميع
أجزاء كل عضو من أعضاء الوضوء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء) في هذا استعمال اللغة المعنى
المحسوس للمعنى المعنوي، فأصل الإسباغ للمحسوسات من الثوب والدرع ونحوه،
فنقل إلى الوضوء؛ لأن الوضوء أمر حادث بعد إيجاد اللغة ووضعها.
تخليل الأصابع في
الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وخلل بين الأصابع) هذا مناسب لما قبله؛ لأن من
عملية إسباغ الوضوء أن تخلل بين أصابع اليدين والرجلين؛ لأن العادة أن
الأصابع قد تنطبق على بعضها -لا سيما أصابع القدمين-، فتكون فرصة دخول
الماء بين الأصابع قليلة، والتخليل مأخوذ أيضاً من معنى محسوس، وهو عود
الخلال، وكان الناس سابقاً -خاصة من لم توجد في أرضهم أعواد الأراك
لاستعمال السواك بكثرة- كانوا يستعملون أعواد الخلال، وهو نبات ينبت أحيانا
مع القمح، وهو عبارة عن أعواد كأعواد الكبريت، وهي أدق منها، ولها ثمرة
البذور في أطرافها يداوى بها الكلى والحالب ونحو ذلك، وتلك الأعواد ملساء
ودقيقة مثل إبرة الخياطة، فكانوا يدخلونها خلال الأسنان في تلك الفجوات
لتنظف الفم وتقوم مقام السواك، وكانوا يختارونها دون غيرها لكونها ملساء،
ولدقتها ورائحتها، فكانت تعطر الفم مع النظافة.
فتخليل الأصابع إدخال الأصبع بين الأصبعين، مأخوذ من تخليل الأسنان،
فالتخليل والخلة أخذا منها، فلم يبق بين الأسنان ما يسع مع عود الخلال
عوداً آخر، وكذلك تخليل الأصابع، فإذا أدخلت الأصبع بين الأصبعين لم يترك
مجالاً لأصبع آخر؛ لأن الأصبع وصل إلى الفجوات بين الأصبعين.
ومن هنا قيل: الخليل: هو الصديق الوحيد للذي اتخذه خليلاً وحيداً لنفسه؛
لأن الخلة لا تسمح لصداقة غيره معه، كما أن عود التخليل بين الأسنان لا
يسمح لعود آخر معه، ومنه الحديث: (لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض
لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، والأنبياء كثر، وسيدهم وخاتمهم
نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن لما جاءت الخلة لإبراهيم لم يكن هناك خليل
آخر لخليل آخر، وهكذا العادة بين البشر، فإذا اتخذ الإنسان خليلا لم يبق في
قلبه مكان لخليل آخر، إنما هو واحد فقط.
والتنبيه على التخليل على ما بين الأصابع مع إسباغ الوضوء هو لأن نعومة
الأصابع -وهي تلك المناطق اللينة- ربما يتراكم فيها شيء من العرق، أو ما
يخرج من الجسم، أو الدهون، خاصة أصابع القدمين، وإذا تراكم شيء من ذلك كانت
فيه مضرة على الجسم بسد المسام في هذه المناطق، فكان من فطرة الإسلام ومن
عناية النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه على تلك الأماكن، وأن يؤكد على أن
نظافتها جزءٌ من الوضوء، وإسباغٌ وتكميل للوضوء.
وذكر الفقهاء في كيفية التخليل صوراً هندسية الله أعلم بها.
قالوا: يجب أن يكون تخليل أصابع القدمين بخنصر اليد اليسرى لا باليمنى، أما
أصابع اليدين فكيفما كان، ولو أن يدخل الأصابع بعضها في بعض، وسواءٌ أكان
ببطن الكف أم بظاهره، فعلى أي صورة كانت فقد حصل التخليل، إلا أنه في
القدمين الغالب والعادة -خاصة لمن يلبس الحذاء الساتر للقدم، أو الشراب- أن
يكون بين أصابع القدمين روائح، فقالوا: نظافة القذارة أو ما يعلق في الجسم
مختص باليد اليسرى، وأما ما عدا ذلك فهو لليد اليمنى، ولهذا قالوا: يكون
تخليل أصابع القدمين باليد اليسرى، وبالخنصر؛ لأنه أرفع الأصابع وأدقها،
وأيسر أن يمر وأن يخلل بين أصابع القدمين لتقاربها وتناسقها.
المبالغة في
الاستنشاق عند الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق) .
يضيف صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بمدخل من مداخل الجسم، وهو الاستنشاق،
وضابطه: جذب الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار:هو إخراج الماء من الأنف
بعد استنشاقه، أي: بالغ في نظافة الأنف.
ومعلوم عند الناس أن الله سبحانه جعل الأنف طريقاً للهواء، ويقولون: التنفس
الصحي السليم أن يتنفس الإنسان بأنفه لا بفمه، والفرق بين التنفس بالأنف
وبين التنفس بالفم واضح عملياً؛ لأن المتنفس بفمه يأتي بالهواء من الخارج
عن طريق الفم إلى الرئة مباشرة، فإن كان في الحر فهو حاراً، وإن كان في
البرد فهو بارداً، وإن كان الجو فيه غبار فهو هواء بغباره، ولكن الأنف نجد
أنه مفتوح، وليس له مغلاق كالشفتين على الفم، فالهواء داخل وخارج على مر
الوقت، فجعل الله سبحانه -من حكمته- في مداخل الأنف شعيرات، وهي عبارة عن
مصفاة أولية لرد الأجرام المحسوسة، ووراء الشعيرات المادة المخاطية ترد ما
تجاور منها ولو كان ضئيلاً فيلصق بتلك المادة، وما تعدى تلك المادة يأتي
إلى الخياشيم، والخياشيم لا تسمح لشيء يدخل إلا الهواء الصافي فقط.
ومن مهمة تلك المادة وتلك الشعيرات والخياشيم تكييف الهواء، فإذا كان
الهواء حاراً شديداً فإنه حين يمر بتلك المناطق يتكيف بالبرودة بما يلائم
داخل الصدر، وإذا كان الهواء بارداً شديداً مشبعاً بالرطوبة والبرودة
فعندما يمر بتلك المناطق فإنه يتكيف بالحرارة التي تناسب الرئة.
ومن هنا -ومن حكمة الله- لما كان طريق الهواء -وهو الأنف- طريقاً مفتوحاً
وفيه تلك العمليات من التصفية والتنقية والتكييف كان لابد من العناية به في
نظافته؛ لأننا إذا لم ننظف الشعر والمادة والخياشيم انسدت تلك المسام، أو
تعطلت فائدتها، وأصبح الهواء يمر ولا يرده شيء.
فعلى هذا كانت عناية الإسلام بهذا المدخل الوحيد للهواء أشد ما تكون.
ويقابل ذلك العناية بالمدخل للطعام والشراب ألا وهو الفم فأمر صلى الله
عليه وسلم بإسباغ المضمضة، بل وشرع السواك، وقال: (لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، ونحن ننبه على محاسن الإسلام وشموله،
ونقول:إن العالم الغربي كلما أمعن في الحضارة، وكلما ترقى في المدنية فإنه
يعتدل المسار به إلى الإسلام.
أنا لنسمع بالأسبوع الصحي، والعناية بالفم لأنه مدخل الطعام إلى الجسم،
ومظهر صحة الفم مظهر من صحة الجسم وهذا بعد أربعة عشر قرناً، والرسول
الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُعنى بذلك من أوائل البعثة، ويجعله جزءاً
في الوضوء، ومع كل وضوء، والإنسان يتوضأ خمس مرات أو أكثر في اليوم
والليلة.
فعناية الإسلام بما انتبه إليه الغرب اليوم دليل شاهد قوي على قدم وسبق
وسمو حضارتنا الإسلامية على ما توصل إليه الغرب بعد عشرات القرون، وعلى هذا
يكون الحديث علما من أعلام السنة النبوية، فمن المعجزات كون النبي صلى الله
عليه وسلم يرشد إلى هذه الجزئية الدقيقة في جسم الإنسان من باب الطب
الوقائي قبل أن يقع شيء من الأمراض بسبب الإهمال.
ونجد هنا -من الناحية الأصولية- الاحتراز في قوله صلى الله عليه وسلم:
(وبالغ في الاستشناق إلا أن تكون صائماً) ، والمبالغة زيادة عن الحد
المعتدل، كما يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فما نقص عن الوسط كان
تقصيراً، وما زاد عنه كان مبالغة.
وهنا يحث صلى الله عليه وسلم على المبالغة، مع أنه لم يحث على المبالغة في
أي عمل من الأعمال، وجعل غسل الوجه ثلاثاً، فليس هذا مبالغة بل هو تكرار،
ويمكن أن يكون الاستنشاق ثلاثاً دون مبالغة، والمبالغة هنا: أن يحاول أن
يدخل الماء إلى داخل الأنف ليستقصي نظافته، ولكن نجد الاحتراز، كما قيل:
لكل مقام مقال، والفتوى والعمل يجب أن تراعى فيهما أحوال الإنسان، فقوله:
(وبالغ في الاستنشاق) لأن هذا أدعى إلى النظافة أو استكمال الوضوء، كما أنه
جاء أن الشيطان يبيت على خيشومه.
وقوله: (إلا أن تكون صائماً) ، أي: إن كنت صائماً لا تبالغ، ويكفيك الحد
المعتدل بأن تستنشق الماء بسهولة بدون مبالغة؛ لئلا يصل الماء إلى درجة لا
تستطيع معها أن تتحكم فيه، فيسبقك إلى الداخل وأنت صائم ممنوع من إدخال شيء
إلى جوفك.
فالمبالغة مع الصوم تؤدي إلى إبطال ما هو أعم وأفضل وألزم.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذريعة، وهو أن تترك فعل الشيء الجائز مخافة
أن تقع في فعل الشيء الذي ليس بجائز، أو تتسبب في حصول شيء أكثر ضرراً من
ذلك، كما جاء في الحديث أيضا: (من الكبائر أن يسب الرجل أباه، قالوا: يا
رسول الله! وهل يسب الرجل أباه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه)
، فسبك لأبي غيرك ذريعة لأن يسب أباك، فتكون كأنك سببت أباك.
وجاء أيضاً في القرآن الكريم: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]
أي: تكونون أنتم من سلطهم على سب الله عز وجل بسبكم لآلهتهم، وأنتم غير
مكلفين بهذا، ولكن تمنعونهم وتنصحونهم، ولا تسبوا آلهتهم فتأخذهم الغيرة
والحماس مما يجعلهم يسبون الله أيضاً.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذرائع في أصول الفقه، وهذا الذي ينبغي على
الإنسان أن يراعيه ولهذا قال العلماء فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر: إذا وجدت إنساناً على منكر، أو علمت بمنكر في مكان فتحمست وقلت:
يجب تغيير المنكر، ثم غفلت عما يجب مراعاته في قواعد الأمر والنهي، فاقتحمت
البيت بغير إذن - وليس لك حق في هذا؛ لقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}
[النور:27] ، وجئته بشدة وحماس وقلت له: يا جاهل يا فاعل فعند ذلك ينتصر
لنفسه ولو بالكذب، فيدخل حظ النفس هنا، فبدل أن كنت تريد نصحه لله في إنكار
المنكر سمعت سبه لك فأردت أن ترد عن نفسك، فأصبحت القضية شخصية، وبعدت عن
الأمر والنهي لله.
وقال العلماء في هذا المعنى: على الآمر أو الناهي أن ينظر في نتيجة ما يأمر
به أو ينهى عنه، فهل ستمنع هذا المنكر الموجود الذي يُنهى عنه، أو سيأتي
بالفعل المأمور المراد فعله بأمرك إياه؟ أو أن من تنهاه سيأتي ويعتبر ذلك
إهانة له؟ وخاصة إذا كانت أمام الناس، فتعتبر فضيحة وينتصر لنفسه، فيأتي
بمنكر أكبر مما هو عليه، فيكون نصف من المنكر فجلب من المنكر أكثر من ذلك،
فالأولى أن تتكره على نصف المنكر.
من هنا قالوا: على الآمر الناهي المحتسب أن ينظر في عواقب الأمور، كما قال
تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}
[يوسف:108] فيدعو على بصيرة، وليس على البصر الذي يرى الأشياء المحسوسة
بالفعل، ولكن أصحاب البصائر النيرة هم الذين يرون ببصائرهم ما وراء الواقع
استنباطاً من الواقع، وليس علماً بالغيب، ولكن -كما قيل- بصيرة، كما في
الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فكذلك الداعي يجب أن
يكون على بصيرة من أمره، فلو أنه ذهب إلى رجل ينهاه فهل يتحمل أذاه؟ فإن
قال: أنا أتحمل الأذى نقول: وإن كنت تتحمل، فليس من اللازم أن تعرض نفسك
لما تتحمله من غيرك.
فهذا الحديث أصل في سد الذرائع، سواءٌ أكان في الأعمال العادية، أم في
احتساب الأمر والنهي لوجه الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المضمضة والاستنشاق
وحكمها
قال رحمه الله تعالى: [ولـ أبي داود في رواية: (إذا توضأت فمضمض) ] .
حكم الاستنشاق في الوضوء في حديث لقيط، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أسبغ
الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق) وأعتقد أنه قد علم بالضرورة أنه
إذا لم يسبغ الوضوء فالوضوء ناقص، وإذا كان الوضوء ناقصاً فالصلاة غير
صحيحة، فإسباغ الوضوء واجب.
وأما تخليل الأصابع فإنه قد اتفق العلماء على أن تخليل الأصابع سنة، فلو
أنه توضأ ونسي -وقلنا: (نسي) ؛ لأنه لا ينبغي لمسلم أن يعلم سنة من سنن
الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمد تركها؛ لأن هذا تقصير وإهمال فإذا نسي أن
يخلل أصابعه فالوضوء تام ومجزئ، لكن لا ينبغي أن يترك ذلك عمداً.
وأما الاستنشاق فبعض العلماء يقول بأنه واجب؛ لأن الرسول أكد عليه
بالمبالغة إلا في الصيام؛ لأن المحافظة على الصيام أهم منه، وبعضهم يقول:
إنه سنة من سنن الوضوء وهناك من نظر إلى الآية الكريمة فقال كما قال الإمام
أبو حنيفة رحمه الله: الآية الكريمة فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، قالوا: الوجه من المواجهة، والفم والأنف إن
كانا من الوجه فالمضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما من تتمة الغسل للوجه،
وإن كانا مستقلين فقد حصل غسل الوجه بدونهما.
وقوم قالوا: هما من الوجه ولكن هل هما عضوان ظاهران كالخد والجبهة، أو
أنهما خفيان لأننا لا نرى ما بداخلهما؟ فمن قال بوجوب الاستنشاق والمضمضة
فلأنهما من تتمة الوجه، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
[المائدة:6] ، ومن قال بأنهما عضوان مستقلان ولهما اسمان متميزان قال:
الوجه محدود بغيرهما.
وعلى هذا يختلفون، ولكن الجمهور يتفقون على أن المضمضة والاستنشاق واجبان
في الغسل غير واجبين في الوضوء قالوا: لأن هناك حديث علي رضي الله عنه:
(تحت كل شعرة جنابة) ، فكل موضع يمكن أن يصل الماء إليه يجب أن يعمم بالماء
عند الغسل من الجنابة.
ومن العلماء من فرق بين الغسل والوضوء، فجعل الاستنشاق واجباً وجزءاً من
الغسل، وليس واجباً في الوضوء.
ويأتي المؤلف رحمه الله بأثر بعد هذا، وهو: (إذا توضأت فمضمض) ، فقوله:
(بالغ في الاستنشاق) أمر وزيادة، أمر بالاستنشاق وزيادة المبالغة، والمضمضة
ليس فيها مبالغة؛ لأن حد المضمضة أن يأخذ الماء ويديره في فيه بلسانه أو
بالهواء، ثم يمجه، والفم له حدوده، وليس هناك زيادات، ولكنه جاء بصيغة
الأمر (إذا توضأت فمضمض) ، فهذه صيغة أمر، ولهذا فمن قال: إن المضمضة واجبة
في الوضوء فلصيغة الأمر الوارد، ومن قال: إنه لا تجب المضمضة قال: هذا
الأمر للإرشاد والاستحباب.
ولكن لا ينبغي للإنسان أن يترك المضمضة والاستنشاق للوضوء من وضوئه،
واستدلوا على تأكيد فعلهما في الوضوء بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل من
نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المضمضة والاستنشاق.
والله تعالى أعلم.
حكم تخليل اللحية في
الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عثمان رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء) أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
بعد أن انتهى المؤلف رحمه الله من الأمور كالخفية الأنف والفم جاء إلى
الظواهر، فذكر أنه كان صلى الله عليه وسلم -وهذا يدل على الدوام وعلى
الاستمرار- يخلل لحيته) .
والتخليل: هو إدخال شيء بين شيئين، وتخليل الأصابع: هو إدخال الأصبع بين
فجوات الأصابع الأخرى، وكذلك تخليل اللحية بأن تدخل أصابعك خلال شعر الوجه،
فقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وكان يخلل لحيته في الوضوء، وهذا
الفعل منه صلى الله عليه وسلم أقل ما يقال فيه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
ولكن الفقهاء ناقشوا هذه المسألة، فعندما يكون الشخص أمرد لا لحية له، وغسل
الوجه، فإن الماء سيعم بشرة الوجه من منبت الشعر في الجبهة إلى أسفل الذقن،
ومن الأذن إلى الإذن، أي: أن الماء قد أسبغ على الوجه كاملاً.
عندما تكون اللحية موجودة وكثة فلاشك أن اللحية ستحول دون ذلك، سواءٌ أكان
الشعر جعداً، أم سبطاً، فإنه يحمل مادة دهنية، فيمنع الماء أن يدخل من
خلاله إلا إذا خللته أنت.
وهنا يأتي السؤال:مع وجود اللحية هل الفرض في غسل الوجه لا زال لبشرة
الوجه، أم ينتقل من بشرة الوجه إلى اللحية؟ وهذا كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فإذا كان الإنسان أصلع ومسح فإنه سيمسح جلدة
رأسه، فإذا كان الشعر كثيفاً ومسح فإنه سيمسح على شعره، والله تعالى يقول:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فهو سيمسح شعر رأسه؛ لأن مسح
جلدة الرأس أصبح متعذراً، يقول الأصوليون: من قارب الشيء يعطى حكمه، ووجدنا
جواز مسح الخفين بدلاً عن غسل القدمين؛ لأنهما ساترين للقدمين، مع أن هذا
مشروع مستقل، لكن كان هذا تنظيرياً للمسألة.
وهنا الواجب غسل الوجه، والوجه أصبح مغطى بالشعر، فبعض العلماء يقول: يكفي
مرور الماء على ظاهر اللحية، كما يكفي مرور الماء على شعر الرأس، وهذه
بتلك، وبعضهم قال: لا، الوجه للغسل وهو آكد من المسح فعليك أن تعمل ما
بوسعك، خلل اللحية بمعنى: أن تدخل الأصابع خلال الشعر وهي مبللة؛ لأن الماء
- إن قلنا إن الشعر يجزئ عن بشرة الوجه -سيمر على الشعر الظاهر على اللحية
وباطن اللحية يأته شيء، فعندما تكون الأصابع مبللة وتدخلها في خلال اللحية
يتبلل من الشعر جزء أكبر، ولذا قالوا في تخليل اللحية: أن يدخل الأصابع من
أسفلها؛ لأنه إذا أدخل الأصابع من أسفلها تخلل الشعر، أما إذا أدخلها من
أعلاها فيمكن أن ينثني الشعر مع أصابع يده ولا تنفذ الأصابع بين الشعر كما
تتمكن من النفوذ إذا أدخلها من أسفلها.
فيدخل الأصابع بين شعر اللحية من أعلى أو من أسفل بيد واحدة، فهذا كاف في
تخليل اللحية، وإذا كانت اللحية شعيرات قليلة فليس هناك شيء يخلل، بل إن
الماء سيصل إلى تحت اللحية بطبيعته، والله تعالى أعلم.
دلك الأعضاء في
الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد قال: (إن النبي صلى الله عليه
وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه) أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة] .
يروي لنا عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه مما رأى من وضوء النبي صلى
الله عليه وسلم بالماء القليل، قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي
مد فأخذ يدلك ذراعيه) ، وثلثا المد يبينه العلماء بأن المد ربع الصاع،
وتقدم في الزكاة بأن الصاع خمسة أرطال وثلث على رأي الجمهور، وعند الإمام
أبي حنيفة رحمه الله ثمانية أرطال، وعلى قول الجمهور أنه خمسة أرطال وثلث
فالصاع أربعة أمداد، فكم يكون مد الواحد؟ يكون المد رطلاً وثلث رطل؛ فإن
الرطل الباقي يقسم إلى ثلاثة أثلاث بالإضافة إلى الثلث الآخر، فيبقى عندنا
أربعة أثلاث، فتوزع على الأربعة الأمداد، فيكون وزن المد رطل وثلث وأما
المقدار الذي أتي به صلى الله عليه وسلم فهو -تقريباً- نصف لتر.
وقد جاء عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى
خمسة أمداد) ، وهنا: (أتي بثلثي مد) فمن كان من عادته الاقتصاد في الماء،
فيتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع -والصاع: ثلاثة لترات -وهذا مبدأ في لزوم
الاقتصاد وترك التبذير، ولذا قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإنسان أن يزيد في
غسلات الوضوء على الثلاث التي جاءت بها السنة؛ لأنه يكون قد دخل في التبذير
والمبالغة، والزيادة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال
رجل لـ أنس حين حدث بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل
بالصاع، فقال: والله لا يكفيني! فقال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أوفر منك شعراً) وهذا يمكن أن يتأتى بالطريقة التي أشار إليها عبد
الله بن زيد، حيث قال:: (فأخذ يدلك) ، والدلك أولاً يكون بقليل الماء؛ لأن
البشرة إذا كانت جافة فإن الماء لا يتخللها، وربما كان هناك هواء وفقاقيع،
لكن حينما يمسحها ويدلكها بيده وهي مبللة فإنه إذا جاء أدنى ماء جرى على
اليد، وتعتبر تلك غسلة ولو بحفنة صغيرة، فالدلك لأمرين: الأول: التأكد من
غسل الذراع وشموله، وعدم وجود بياض ولمع في عضو الوضوء.
الثاني: الدلك ييسر عملية الوضوء بقليل من الماء.
والغرض من هذا الحديث أمران: الأمر الأول: الدلك في الوضوء، وبعض العلماء
شدد في الدلك في الغسل كالمالكية، حتى إن بعضهم قال: إذا لم يستطع أن يعمم
البدن بيديه يأخذ حبلاً.
واليوم يوجد من أدوات الغسل الشيء الكثير، فإذا أخذها وحركها من خلفه تأكد
من وصول الماء إلى بشرته، فالمالكية يؤكدون الدلك في الغسل؛ لأنه تقدم حديث
علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، أما في الوضوء فإنهم يتساهلون في
الدلك فيه.
وهذا الحديث أصل في الدلك عند الوضوء، ولكن ليست كل الأعضاء صالحة للدلك،
فالوجه صالح للدلك، والرأس غير صالح للدلك ولو بالغ في المسح لكان مكروهاً،
ولذا قيل بأن المسح لا يكرر ثلاثاً؛ لأنه إذا تكرر ثلاثاً ترك بللاً على
الشعر يشبه الغسل، والقدمان صالحتان للدلك، فقوله: (يدلك ذراعيه) نقيس عليه
فنتبع الذراعين بالقدمين، وهذا أقل حد تبين من فعله صلى الله عليه وسلم أنه
توضأ به، فلو جاء إنسان -كما رأينا بعض الطوائف- وأخذ كأس الماء الذي فيه
ماء قليل، فجعل يتوضأ به يبل أصابعه في الكأس ويمسح بهما على أعضاء الوضوء.
فإن وضوءه لا يصح بهذا المسح، بل لابد من الغسل، والغسل لا بد فيه من جريان
الماء على العضو، أما المسح فقد يجتزئ فيه بأن تكون الآلة التي يمسح بها
مبللة، فيمرها على العضو المراد مسحه، ولذا قال العلماء في الباء في قوله
سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] قالوا: (مسح) تتعدى
بنفسها وتتعدى بالحرف، فتقول: مسحت الزجاج، ومسحت رأس اليتيم.
فهي تعدت بنفسها فلا تحتاج إلى الحرف، لكن لما جاء الحرف، فكما يقول
الزمخشري: دلت الباء هنا على أن هناك شيئاً يمسح به من دهن أو ماء أو نحوه
فتكون اليد فيها شيء تمسحه بالرأس وهو الماء، وعلى هذا: فالاقتصار في
الوضوء على هذا المقدار يخل بالوضوء، والزيادة، على المد الكامل وليس
الثلثين يدخل في الزيادة والتعدي أو التبذير.
وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين لنا أمرين: الأول: بيان أقل ما
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به.
الثاني: بيان أن الدلك مشروع في الوضوء.
وهذا مناسب لما ذكر أولاً في حديث لقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء) والإسباغ من
ضرورياته الدلك، حتى لا تبقى لمعة أو محل يحول بين الماء وبين البشرة،
والله أعلم.
مسح الأذنين وبم
يكون
قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلى الله عليه
وسلم يأخذ لأذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه) أخرجه البيهقي، وهو عند
مسلم من هذا الوجه بلفظ: (ومسحهما بماء غير قبض يديه) ، وهو المحفوظ] .
هذه صورة أخرى يسوقها عبد الله بن زيد في صفة مسح النبي صلى الله عليه وسلم
أذنيه، وفي هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ فمسح رأسه وأدخل السباحتين) ، وسميتا بالسباحتين لأنهما لتحركان عند
التسبيح، وعند والتشهد، وعند لفظ (أشهد أن لا إله إلا الله) ، وإن كان
الأحناف يعادون تحريكها في التشهد معاداة شديدة؛ لأنهم يدخلونها في أبواب
التوحيد والجهة وغير ذلك.
فأدخل السباحة في أذنيه، وأدار الإبهام خلف الأذنين، وهذه الإدارة لأن خلف
الأذن أسرع ما يتراكم فيه العرق، حتى تجد أن بعض الحيوانات ما يظهر العرق
إلا حول أذنها وبعضهم يقول: خلف الأذن من الأسفل مقتل، فإذا أدار الإبهام
خلف الأذنين أزال ما تبقى من العرق، ومن مواد دهنية في تلك المنطقة؛ لأنها
إذا تركت على ما هي عليه من العرق والمواد الدهنية، وحصل جرح فإنه أبطأ ما
يكون شفاءً؛ لأنها منطقة ناعمة لا تتحمل، فالعلاج فيها بطيء، والجرح فيها
سريع، وهذا من العناية.
فعني بالأنف كمجرى للهواء، وعني بالفم كمجرى للطعام، وكذلك عني بتخليل
نعومة الأصابع لليدين والرجلين، وكذلك عني بما وراء الأذنين.
وقوله: (مسح برأسه وأدخل السباحتين في أذنيه) يفهم منه أنه أدخل السباحتين
بماء مسح الرأس، ولم يأخذ لهما ماء جديداً ليدخلهما في الأذنين، فيكون مسح
الأذنين مع الرأس عملية واحدة.
وهنا عبد الله بن زيد يخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ماء
جديداً لمسح أذنيه، غير الماء الذي مسح به رأسه، فالأذنان لهما ماء مستقل
ومسحة مستقلة، وهنا يبحث الفقهاء في الحديثين، ويقولون: هل الأذنان من
الرأس فيجزيهما مسحة واحدة، أو أن الأذنين خارجتان عن حدود الرأس، ولهما
مسحة مستقلة؟ والحديث الأول يشعر بأنه مسح الأذنين بماء مسح الرأس، وهذا
الحديث ينص على أنه أخذ ماء جديداً، والعلماء رحمهم الله يجمعون بين
الحديثين فيقولون: إن كان الماء وافراً في يديه عند مسح الرأس فإنه يمسح
الأذنين بوفرة ماء الرأس، ولا يأخذ ماء جديداً، وإذا كان الماء ليس وافراً
عند مسح الرأس، وظن أن المسح على الرأس استنفد الماء الذي في الأصابع أخذ
ماء جديداً، وهذا هو الجمع بين الحديثين.
والله أعلم.
كتاب الطهارة - باب
الوضوء [5]
إسباغ الوضوء على المكاره أمر مستحب لابد من الاهتمام به، وقد أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته يوم القيامة بآثار الوضوء، فينبغي للعبد
أن يتوضأ كما أمر الله ورسوله، وأن يتيامن في وضوئه، ويوالي بين غسل
الأعضاء، ولا يزيد في ذلك شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الغرة والتحجيل وما
ورد فيهما
معنى الغرة والتحجيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر
الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم]
.
هذا الحديث لو أن إنساناً تتبع طرقه واحتواه من جميع جوانبه ودلالاته لخرج
برسالة كبيرة، وأوسع من رأيتُ ممن تكلم عليه ابن عبد البر رحمه الله في
الجزء العشرين في كلامه على حديث الموطأ بهذا المعنى.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا تتمة لأسباغ الوضوء، وليبين لنا أن إسباغ
الوضوء يكون معه غرة وتحجيل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون) : (إن) هنا أداة تأكيد، وأداة
التأكيد لا تأتي ابتداءً إلا إذا شمت رائحة الإنكار، ولا تُشمُّ رائحة
الإنكار إلا عن خبر متقدم، فهل النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابتداءً وقال:
(إن أمتي يأتون) ، أم قال ذلك جواباً في سؤال كان موضع التساؤل؟ ولفظ
الحديث أولاً: (إن أمتي) ، والأمة المحمدية هي خاتمة الأمم، وهي قسمان -كما
يقولون-: - أمة الدعوة، وأمة الإجابة.
والمراد هنا: أمة الإجابة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة) أي: بعد البعث يأتون مع
سائر الأمم.
وقوله: (غراً محجلين) الغرة: الشعر في ناصية الرأس.
وفي الاصطلاح: بياض في جبين الفرس، تجد بعض الخيل تتميز به.
والتحجيل شعر أبيض في موضع الحجل في يدي الفرس.
والغرة والتحجيل من علامات فراهة الخيل وأصالتها، فما كل الخيل تأتي غراً
محجلة، وهي أبرز علامة يتميز بها الخيل.
وقوله: (غراً محجلين من أثر الوضوء) الوضوء يكون في الوجه واليدين
والقدمين، والحديث ذكر البياض في الوجه والقدمين، فيكون أيضاً في اليدين
تبعاً لهما، أو أنه يحوي الأطراف، فإذا كانت الغرة في الطرف الأعلى،
والتحجيل في الطرف الأسفل فيكون قد حوى ما بينهما.
والغرة والتحجيل شعر أبيض ينبت في هذين المحلين، لكن الغرة والتحجيل في
الإنسان ليس شعراً ينبت، ولكن يكون نوراً، كما قال تعالى: {نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] ، فهذا النور
من أثر الوضوء.
وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قد يقال فيه: بماذا يطيلها؟
والجواب: يطيلها إما في المشبَّه -وهو أعضاء الوضوء- فيزيد على المفروض في
الغسل، أو يسبغ الوضوء أكثرَ.
والظاهر أن الطول والقصر في الزيادة ليس في الكمية، وإنما في الكيف.
عمل أبي هريرة ومن
خالفه في ذلك
قالوا: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يغسل يديه إلى المنكب، فقيل: ما
هذا يا أبا هريرة؟ قال: أطيل غرتي وكذلك كان يرفع في غسل القدمين إلى
الركبة أو إلى نصف الساق.
والمفروض إلى الكعبين، فكان هو يرفعها ويقول: أطيل غرتي.
وذكر بعض السلف رحمهم الله فقال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فوق سطح المسجد،
فغسل إلى كذا، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن
أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) .
وغرض المؤلف التأكيد على استيعاب الفرض، وأنه لا مانع من الزيادة، وبيان
خصوصية هذه الأمة.
وبعض الناس يقول: الوضوء خاص بهذه الأمة ولكن لا يصح؛ لأنه قال: (إن أمتي
يأتون) ومفهوم هذا: أن بعض الأمم الأخرى لا تأتي بهذا، فقالوا: لا وضوء في
الأمم الأخرى.
ولكن النصوص جاءت بالوضوء في زمن الأنبياء من قبل، وفي الأمم الماضية فيكون
الوضوء ثابتاً للأمم الماضية؛ ولكن آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص
هذه الأمة، فالوضوء تشريع عام في جميع الأمم ولكن ظهور آثار الوضوء بالغرة
والتحجيل من خصائص هذه الأمة.
وبعض العلماء يقول: هل قوله: (فمن استطاع أن يطيل) من قول النبي صلى الله
عليه وسلم، أم أنه مدرج في الحديث من قول أبي هريرة؟ أي أنه أخذه من قوله:
(أمتي يأتون غراً محجلين) ، واستنبط من ذلك أنه كلما طال الغسل في عضو
الوضوء طال النور فيه، فقال: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) .
فبعض العلماء يقول: هذه الزيادة مدرجة من أبي هريرة، وهذا اجتهاد منه لِمَا
فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر
الوضوء) ، ويؤيد أنها مدرجة، ومن فعل أبي هريرة ومن فهمه أنه لم يُنقل عن
أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن رسول الله نفسه أنه
جاوز بغسل اليدين المرفق، كما جاء عنه: (وأدار الماء على مرفقيه) .
أما أن يشرع إلى الساق أو إلى المنكب فلم يأتِ ذلك عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، ولهذا قالوا: انفرد بهذه الصفة قولاً
وفعلاً أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
وإذا كان انفرد بها الصحابي وخالفه الآخرون نقول: هذا عمل شاذ انفرد به،
ويبقى العمل على ما ثبت من السنة وعمل جمهور الصحابة، وينتهي غسل اليد إلى
المرفق كما في نص الآية الكريمة: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
[المائدة:6] .
والرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن المرفق داخل في الغسل، لما جاء في
الحديث: (أدار الماء على مرفقيه) أي: من أول الساعد.
نأتي إلى جو الحديث وما أشرنا إليه من عمومه أو شموله أو سببه:
مناسبة ورود هذا
الحديث
قوله: (إن أمتي يأتون) مناسبة هذا الحديث، ومناسبة مجيء (إن) المؤكدة في
أوله ما ذكره مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة
ومعه بعض أصحابه، فقال: (السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله
بكم لاحقون ... ) .
يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد،
أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون
هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن
يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك.
كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها
ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: (بئس مضجع
الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ
الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام
ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل
ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن
ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها) : أي: من المدينة.
وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شاء الله بكم لاحقون) والمراد
به: في هذه التربة.
فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[الكهف:23-24] .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت
إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم،
وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف
تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض) ، والفَرَط: الذي
ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ
القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن
يصلوا.
وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة
الاستيضاح.
فقال هنا: (إن أمتي) .
وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً
محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون
آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا
يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس
خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم.
قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على
الحوض) .
فهنا تساءلوا: (ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و) ابن عبد
البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: (يأتون بعدي يؤمنون بي
ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم
الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه
شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله.
وفي رواية أخرى: (أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا:
الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا:
الأنبياء، قال: غيرهم.
وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا.
قال: غيركم.
وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي
يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها) .
وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد
في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث.
وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إن أمتي يأتون يوم القيامة)
لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ (إنَّ) فقال: (إن
أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة.
وفي تتمة الحديث: (ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون
ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال
لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً)
.
وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] .
لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم:
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ
فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ،
فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى
عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، وقال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} [النساء:142] .
والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر،
والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم
وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا
معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً
من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان
يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع
غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله
فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا
يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: {يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي: تبقى على بياضها.
وقال تعالى: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يُسلب نورُها،
فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين:
{انْظُرُونَا} [الحديد:13] .
وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر
فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق.
وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم.
قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] ،
فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا
وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون
فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: ابقِ لنا هذا
النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية
أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين:
{أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] .
فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ
كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة.
ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل
الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع
أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح
أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة.
وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما
فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (وددتُ لو أني رأيتهم) ،
ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه
وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل،
حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى
الله عليه وسلم.
التيامن في الأفعال
ومحله
التيمن في التنعل
والترجل
قال: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه
التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله) متفق عليه] .
قولها: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله) أي: لبسه النعل، ولبس النعل جِبِلَّة،
فكان يلبسه متيمناً.
ونحن نلبس النعال، ونمشي حفاة، فإذا لبسنا فالسنة أن نبدأ باليمين، وهذا
محل التشريع، وهو الكيفية أو الوصف.
قولها: (وترجُّله) الترجُّل هو: تسريح الشعر.
فتسريح الشعر جِبِلَّة ونظافة وحسن مظهر، وفيه عناية الإنسان بصحة شعره،
وإذا ما رجَّلته كان فيه القمل والأوساخ، فأنت مضطر لترجيله لنظافتك، ولكن
باليمين؛ لأن ذلك هو السنة.
التيمن في الطهارة
قولها: (وطهوره) والطهور عبادة: وبهذا دخلنا في المشروع، فكان يعجبه
التيامن في طهوره، وهذا محل الشاهد؛ إذ نحن في باب الوضوء، والوضوء عبادة،
وعندنا يد يمنى ويد يسرى، وقدم يمنى وقدم يسرى، فإذا توضأنا نغسل اليمين
أولاً.
قالت رضي الله تعالى عنها: (وفي شأنه كله) .
فبدل أن تعدِّدَ كل شيء قالت: (وفي شأنه كله) ، وكلمة (في شأنه) عامة لم
يخرج منها شأن من شئونه، فلم يخرج لباسه، ولا نومه، ولا خروجه، ولا دخوله.
ولكن قالوا: هذا العام دخله التخصيص في مسألتين خرجتا من هذا العموم:
الأولى: عند خروجه من المسجد، فيقدم الشمال، فهذا أمر خرج عن عموم شئونه.
والثانية: عند دخوله الخلاء، وهذا خرج عن عموم شأنه كله.
حكم التيمن عند
العلماء
فأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تخبرنا بأنه كان يعجبه التيامن.
والأمور التي ذكَرَتْها، كالتنعُّل، وهو لبس النعال والجورب، والترجُّل،
وهو تسريح الشعر، وفي لبس الثياب كان يبدأ بالكم الأيمن، كل هذه أمور
جِبِلِّية، أي: تطلبها الجِبِلَّة والخِلقة، ولكن الوصف الذي كان يعجبه صلى
الله عليه وسلم فعله هو التأسي، وهو السنة.
وفي الوضوء والغسل كان يعجبه التيمُّن في وضوئه وغسله.
وسيأتينا في كيفية الغسل أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيغسل فرجه، ثم
يحتُّ يده بالأرض، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر قدميه، ثم يفيض الماء على
شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، فحصل التيامن في الغسل.
وعائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كان يعجبه) ، والذي يعجبه حده
الاستحباب، وهذا رأي الجمهور، فالتيامن في الوضوء للاستحباب عندهم.
وهناك من غير الأئمة الأربعة من يقول: إن التيامن واجب؛ لأنه ليس هناك
مضادَّة، ولا خلاف بين كونه يعجبه وكونه واجباً، والواجب سيعجبه أيضاً.
فقالوا: لا منافاة، فهو واجب يعجبه ولكن التعبير بـ (يعجبه) دون التعبير بـ
(يلزمه) ، أو (كان يأمر) ، أو (كان يوجب) يوحي بأن هناك فارقاً.
وبالنظر إلى الأمر في كتاب الله في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
[المائدة:6] فإن غسل اليدين في الآية مجمل، وجاء فعله صلى الله عليه وسلم
مبيِّناً، وقد بدأ باليمنى، فلماذا لا نقول: هو واجب؟ فكان على مقتضى ما
تقدم أن يكون التيامن واجباً، لكنهم قالوا: جاء عن الحسن وغيره أن علياً.
قال: (لا أبالي بدأت باليسرى أو باليمنى إذا أتممتُ الوضوء) .
وقالوا: (إنهما كالعضو الواحد) ، ولذا جُمعا في قوله تعالى:
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإذا غسلهما بأي صورة ما
تيامن أو تياسرَ تم الغسل المطلوب.
فإن قيل: وأين تذهبون عما قاله الأصوليون أن بيانه للمجمل يأخذ حكم المجمل،
وغسل اليدين واجب، فيكون بيانه واجباً؟ قالوا: يمنع ذلك ما نقل من الإجماع
أنه سنة، وما نقل عن بعض السلف، ولهذا يقول ابن دقيق العيد وغيره: لولا نقل
الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن التيامن سنة لكان مقتضى دوام
فعله يقتضي الوجوب.
وعلى هذا يكون التيامن من باب السنة، فإذا فعل إنسان خلاف ذلك صح وضوءه ذلك
إلا من يقول: لا ينبغي تعمُّد ذلك، ولعل هذا من أحسن الأقوال، فمن ترك
التيامن نسياناً وصلى نقول: وضوؤه صحيح، ولكن من تركه تعمداً فهناك الخطر
عليه؛ لأن القول بالوجوب بمقتضى بيان رسول الله ودوام فعله، ولم يُنقل عنه
مرةً واحدة أنه بدأ بالشمال دون اليمين، فإن هذا كله يقوِّي القول بالوجوب،
كما تقول الهادوية وغيرهم، وكما يقول الشوكاني: لولا نقل الإجماع لكان
القول بالوجوب قوياً.
والله تعالى أعلم.
التيمن في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إذا توضأتم فابدأوا بميامينكم) .
أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] .
الحديث الأول فيه: (كان يعجبه) ، وهذا حكاية فعل، وهنا قال: (إذا توضأتم
فابدءوا بميامينكم) .
وهذا الحديث أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، فلا يوجد مطعن في سنده.
وهذا الأمر: (فابدأوا بميامينكم) ، يقوِّي وجه من يقول: إنه واجب، ولا
ينبغي تعمد تركه، ويكون الإجماع لمن تركه نسياناً، لا لمن تركه متعمداً.
والقول عن علي رضي الله تعالى عنه يناقَش في سنده أو لا يناقَش! فكلهم
متفقون على رواية ذلك عنه رضي الله تعالى عنه.
الترتيب والموالاة
وحكمها
انتهى المؤلف رحمه الله من مبحث التيامن.
وبقي مبحث الموالاة والترتيب، والترتيب بين أعضاء الوضوء هو كما جاء النص
الكريم في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[المائدة:6] فهذا ترتيب أعضاء الوضوء الذي ورد في القرآن الكريم.
والموالاة يستدل لها بقصة الرجل الذي رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في
قدمه لمعة مثل الظفر فقال: (اذهب فأحسن وضوءك) فما قال: اغسل هذه فقط.
وقضية الموالاة بين الأعضاء معناها أنه لو قطع الوضوء عند غسل اليدين
واشتغل بشيء ما، أو انتهى الماء عنده، أو جاء طارئ وتبعه وترك الوضوء من
أجله حتى جف الماء عن اليدين، وأراد أن يكمل الوضوء، فهل يبني على ما مضى،
أو أنه قد فات زمن يكون قد انقطع عما تقدم؟ فبعض العلماء يقول: إن طالت
الفرقة أو الفصل بين أعضاء الوضوء استأنف من جديد، وإن لم يطُل الفصل بنى
على ما تقدم.
وقالوا: مقياس الفصل طويلاً كان أو قصيراً هو جفاف العضو الأخير الذي غسله
وكفَّ عن تتمة الوضوء، كأن يكون غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم سمع
منادياً فذهب وطال اشتغاله مع هذا المنادي، ثم رجع إلى وضوئه فإذا يداه
جافتان كأنهما لم يمسا بماءً، قالوا: انفصل ما قبله عما بعده فيستأنف
وضوءاً جديداً، أما إذا عاد إلى الوضوء ولم تزل بقايا البلل أو الماء على
بعض أجزاء من يده الأخيرة -وهي اليسرى- فإنه يكمل ويبني على ما تقدم.
وموضوع الموالاة سيأتي له النص في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون
الحديث عنده إن شاء الله.
خلاف العلماء في
المسح على الرأس
قال رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة) أخرجه مسلم] .
هنا بدأ المؤلف بقضية مستقلة، وهي كيفية المسح على الرأس.
فقد جاء النص مجملاً في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
[المائدة:6] ، فكيف يكون المسح؟ إن الرأس من حيث هو في الوضوء إما أن يكون
عارياً، وإما أن يكون عليه العمامة أو العصابة كما يُقال، أو الخمار كما
جاء.
فإن كان عارياً، فما الجزء المجزئ في مسحه؟ هناك من يقول: أيُّ معنىً يصدُق
عليه المسح -أي: أيُّ مقدار يصدُق عليه المسح فهو مجزئ، وهو قول الشافعية.
ولكن هذا القول حمله بعضهم على التفريط في هذا الأمر، كما قال النووي رحمه
الله: والمنصوص أنه لو مسح ثلاث شعرات أجزأ؛ لأن أقل الجمع ثلاث، وقد أفرط
بعض أصحابنا فقال: لو مسح بعض شعرة أجزأ.
ثم يقول: وكيف يتحقق مسح بعض شعرة؟! فقال: إذا ما طلى إنسان رأسه بالحناء،
وبرزت شعرة من تحت الحناء -والجزء البارز من تلك الشعرة ليس هو كل الشعرة-
فمسح هذه الجزئية من الشعرة، أجزأه.
ولكن يقول النووي: هذا تفريط، وقد ذكرتُه لأنبه عليه، ولا يُغتر به، ولو
عظُم قائله.
والقول الثاني: أقل ما يجزئ من مسح الرأس ربعه.
وهو مذهب الأحناف.
المالكية والحنابلة يقولون: الواجب مسح جميع الرأس.
فهناك من يقول: يجب استغراق الرأس.
وهناك من يقول: فيه عموم، فمعناه أنه قد يفوِّت بعض الرأس، وهو أقل شمولاً
من القول بالاستغراق.
وخلاصة القول فيما يجزئ من مسح الرأس إن لم يكن عليه عمامة أن العلماء
مختلفون في ذلك.
فمنهم من قال: أقل ما يصدُق عليه وهو للشافعية، وفيه ما فيه.
ومنهم من قال: ربع الرأس، وهم الأحناف.
ومنهم من قال: يمسح جميع الرأس.
والجميع متفقون على أن مسح جميع الرأس هو الأفضل، فمن اقتصر على بعضه أو
على الربع يقول أيضاً: لو مسح الكل لكان أفضل.
أما إذا كان على الرأس عمامة، فيقولون: لها ثلاث حالات: الأولى: أن يمسح
على العمامة وحدها دون أن يمس الرأس.
الثانية: أن يمسح على الناصية تحت العمامة فقط.
الثالثة: أن يمسح على الناصية تحت العمامة ويكمل على العمامة.
فهي حالات ثلاث: فإما أن يقتصر على العمامة كما يقتصر على الخف في القدمين.
وإما أن يقتصر على ربع الرأس وهو الناصية تحت العمامة.
وإما أن يجمع بين الناصية والعمامة.
فهذه الأقوال مجمل ما قيل في مسح الرأس في الوضوء.
أما في الغسل فلا عمامة ولا قلنسوة، وعليه يجب تعميم الغسل.
وهنا حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه نأخذه كأصل في المسألة.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح
بناصيته وعلى العمامة والخفين) .
فحديث المغيرة يكون أوفى، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه روى كثيراً
من حالات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً في سفره معه في غزوة تبوك.
فقوله: (بناصيته) الناصية: مقدَّم الرأس، أي: قدر وضع اليد على مقدَّم
الرأس، فهذه هي الناصية.
فلقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن
القدر المجزئ هو المسح على الناصية وقدرها.
وقال: إما أن ينفرد المسح على العمامة، وإما إن ينفرد على الناصية،
والمغيرة لم يرِد الجمع بينهما، وإنما أراد أنه مسح على الناصية تارةً،
وعلى العمامة وحدها تارةً.
والآخرون يقولون: المغيرة يحكي حالةً واحدة في الوضوء الواحد، وهو أنه جمع
بين الناصية والعمامة.
فقال أبو حنيفة: لا يوجد مانع، الناصية قدر الواجب، والتكميل على العمامة
أو على الرأس تمام السنة والفضيلة.
وقال: لو كانت العمامة وحدها تجزئ لما كانت هناك حاجة إلى الناصية، ولو
كانت الناصية مكملة للفضيلة لما كانت هناك حاجة إلى العمامة، فهو جمع بين
المفروض والمسنون، فمسح على الناصية لأنه أقل الواجب في الفرض، وأتم على
العمامة؛ لأنه الأكمل والسنة والأفضل.
وعند مالك رحمه الله لا يُقْتَصَر المسح على العمامة وحدها إلا للضرورة،
كشدة البرد أو الحاجة، كما جاء في قصة التساخين والعصائب والعمائم: (أن
الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً فاشتد بهم البرد، فأمرهم أن يمسحوا
على التساخين وعلى العمائم) ، قالوا: و (التساخين) هي نوع من القماش يُلف
على القدم تسخَّن به، وينوب عن ذلك الخفُّ أو الجوربُ المتين.
وكذلك العصائب والعمائم المشدودة على الرأس.
ولمن يجيز المسح على العمامة فقط شرط، وهو أن تكون العمامة محنكة، ومكورة،
ويقصدون بالمحنَّكة: التي يأتي طرفها من تحت الحنك ويذهب به مرة أخرى إلى
الرأس أي: أنها ثابتة يشق نزعها في كل وقت، فتسهيلاً عليه يمسح عليها.
خلاصة مسألة المسح
على الرأس من كلام ابن القيم
وخلاصة لما تقدم يقول ابن القيم رحمه الله: الثابت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قضية العمامة ثلاث حالات: · فتارةً مسح على الناصية تحتها
فقط.
· وتارةً مسح على الناصية وأتم على العمامة.
· وتارة مسح على العمامة وحدها دون الناصية.
وكل ذلك فيه نصوص واردة صحيحة ومن اقتصر على حالة منها أجزأته.
والله تعالى أعلم.
هناك مبحث في هذه المسألة في قضية (الباء) في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا
بِـ.
} [المائدة:6] : فالشافعية يحملونها على التبعيض ولكن العلماء -خاصة علماء
اللغة- يردون هذا، ويقولون: ليست للتبعيض.
وقال الأحناف: هي للإلصاق.
ولا مانع أن تكون للإلصاق وللتبعيض؛ لأنهم يقولون بالمسح على الناصية.
وغيرهم يقولون: إن مجيء (الباء) ليدل على وجود ممسوح به؛ لأنك تقول: مسحت
رأس اليتيم أي: مررتَ يدك عليها، ويقول: مسحت يدي في رأس اليتيم.
تعني أن في يدك دهناً مسحته عليها.
وهكذا قالوا في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}
[الإنسان:6] ، مع أن الشرب يتعدى بنفسه، تقول: شربت الماء.
أو: شربت ماء العين.
أو تقول: شربت بماء العين.
فقالوا: (الباء) هنا كـ (الباء) هناك.
ولكن يجيبون عن ذلك من جهة اللغة بالتضمين في قوله تعالى: {عَيْناً
يَشْرَبُ بها} فقالوا: ضُمِّن فعل (يشرب) معنىً يتعدى بـ (الباء) ، وهو
(يستمتع ويتلذذ) ؛ لأن شرب أهل الجنة ليس عن عطش.
وقالوا في (الباء) هنا: هي للإلصاق.
والشافعية حملوها على التبعيض.
وكان مجيء (الباء) هو سبب لهذا الخلاف والنزاع في جزء ما يمكن أن يُقْتَصَر
عليه في الوضوء.
والخلاف فيما يجزئ في مسح الرأس في الوضوء هو عين الخلاف فيما يأتي في قوله
تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فهل المراد
بـ (رءوسكم) جميع الرأس، أو أن المراد: محلقين رءوسكم ومقصرين من الرأس؟
والخلاف في أية الوضوء لوجود (الباء) ليس كالخلاف هنا؛ لأن هنا لا يوجد
(باء) .
والله تعالى أعلم.
كتاب الطهارة - باب
الوضوء [6]
شملت أحكام الوضوء بعض الواجبات والسنن التي أوردها العلماء في باب الوضوء،
ومن هذه الواجبات والسنن: الاقتصاد في الماء، وترتيب أعضاء الوضوء، وإسباغ
الأعضاء بالماء، والذكر المسنون الذي يقوله العبد في أول الوضوء وعند
الانتهاء منه.
مسائل في الوضوء
ما يبدأ به من أعضاء
الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما
-في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم-: قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا
بما بدأ الله به) أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر]
.
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من صفة حج النبي صلى الله عليه
وسلم، ونحن في الوضوء، فما علاقة صفة الحج بأعمال الوضوء؟ لقد أراد المؤلف
رحمه الله تعالى الإتيان بعبارة جاءت في صفة الحج صالحة لجميع الأعمال،
فجاء بها إلى الوضوء، وهذا لأول وهلة يعطينا فكرة عن المؤلف أنه يرى
القياس؛ لأنه سيقيس أعمال الوضوء على أعمال الحج بعموم القاعدة التي جاء
بها من صفة أعمال حج النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج قال: (ابدأوا) أو قال:
(أبدأ) والفرق بين الروايتين هو كسر الهمزة وإسناد الفعل إلى واو الجماعة،
وفتح همزة القطع، فبكسر الهمزة هو أمرٌ موجه للناس، وبفتح الهمزة هو إخبار
عن فعله وإرادته ورغبته فيما يفعل، وذلك في المتساويين: الصفا والمروة،
فكلاهما غاية في السعي، والمطلوب سبعة أشواط، فإن بدأت بالصفا وأتيت إلى
المروة كان شوطاً، وإن بدأت بالمروة وانتهيت إلى الصفا كان شوطاً، فنحن نعد
قطع المسافة بينهما شوطاً، ولكن النص هنا في البداية، فإذا كان الصفا
والمروة متساويين من حيث البداية إن بدأنا من هنا أو بدأنا من هنا فهو شوط
فمن أيهما نبدأ؟! فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به)
والله بدأ بالصفا كان المشروع أن نبدأ بالصفا.
فمن بدأ السعي بالمروة للشوط الأول وجاء إلى الصفا، ثم رجع من الصفا إلى
المروة يكون له شوط واحد، وهو رجوعه من الصفا إلى المروة، والشوط الأول
الذي بدأه من المروة إلى الصفا يكون لاغياً؛ لأن المروة ليست محلاً لبداية
السعي، فيكون فعله الشوط الثاني في حسابه من الصفا إلى المروة هو الشوط
الأول من السبعة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا) ، سواءٌ أكان
أمراً والأمر يقتضي الوجوب، أم كان إخباراً، فقد أحال أيضاً على فعله وقال:
(خذوا عني مناسككم) ، فهو بدأ بالصفا وقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وفي رواية (أبدأ) تكون قضية خاصة بالسعي؛ ولكن قوله: (بما بدأ الله به) ،
لفظة (ما) فيه موصولة، فيتعين إذا كان هناك حكم والأعمال فيه متساوية، وتصح
البداءة من أي واحد منها أن نراعي البداية بِمَا بدأ الله به من هذه
المتعددات، فيتعين أن نبدأ منه؛ لأن العليم الخبير لا يقدم واحداً من
المتساويات إلا لحكمة، فنعمل بذلك، وقلتُ: وذلك ما لم يكن هناك مراعاة
لجانب آخر، كالترتيب الزمني.
فمثلاً قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] فذِكْرُ نوح ثم ذِكْرُ إبراهيم وموسى وعيسى
هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وإبراهيم هل هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟
وهل هم متساوون في الزمن أم مختلفون؟ والجواب: مختلفون.
فترتيبهم الزمني كترتيبهم في النص الذي جاء بإيرادهم، فروعي في ذلك الزمنُ.
فأنت عندما تقول: الله سبحانه شرع لنا من الأديان ما شرع للأنبياء من قبلنا
عيسى وموسى وإبراهيم لا مانع من ذلك؛ لأن التركيب جاء مراعياً للزمن، وأنت
لم ترد بيان التاريخ.
الآية وترتيبها
لأعضاء الوضوء
أعضاء الوضوء المنصوص عليها في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: {إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] وهذه الأربعة الأركان بالترتيب.
فلو غسلتَ القدمين ثم مسحت الرأس ثم غسلتَ اليدين ثم الوجه فإنك تكون أتيتَ
بالأركان المذكورة في الآية.
وكما يقولون: (الواو) لا تقتضي الترتيب، ولكن تقتضي التشريك.
و (ثم) و (الفاء) هما اللتان تدلان على الترتيب والتعقيب، أما (الواو)
كمثل: (جاء زيد وعمرو) ، و (زارني اليوم زيد وعمرو) ، فلا تعطي الأولية
للذي جاء أولاً، ولا تفيد ترتيب مجيئهما إليك.
فلما كان الأمر كذلك أمكن البداءة باليدين ثم الرجلين ثم الوجه ثم مسح
الرأس، فكل هذا ممكن؛ لأنه لا يوجد نص فيما يتعلق بالترتيب.
والآية ذكرت الأعضاء الأربعة في نسق، فجاء الحديث لما سأله رجل: (من أين
نبدأ يا رسول الله؟) بياناً لما يبدأ به.
بل كان هناك سؤال قبل ذلك، فلما اقتربوا من مكة قالوا: يا رسول الله! من
أين ستدخل مكة؟ ومكة لها مدخلان، كَداء وكُداء، وهما موقعان متقابلان، ولذا
يقول بعضهم في هذا من باب الظرافة والدعابة: افتح وادخل، واضمم واخرج.
والمعنى: (افتح) تورية بفتح الباب، والمراد به (كَداء) ، واضمم واخرج أي:
من (كُداء) .
فقالوا: من أين ستدخل يا رسول الله؟ وكان أعلاها يسمى (كَداء) ، وأسفلها
يُسمى (كُداء) ، وهي مداخل لمكة من بين الجبال، فإذا بالرسول صلى الله عليه
وسلم يحيلهم على أمر أدبي، وعلى نصرة الدعوة في الشعر الإسلامي، فقال:
(انظروا ماذا قال حسان!) .
وذلك أنه هجا أهل مكة فقال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها
كَداءُ فـ حسان يتوعد أهل مكة بمجيء الخيول بكثرة، وبكثرتها تثير النقع أي:
الغبار، وموعدها؟ كَداء.
فلما نطق الشاعر المسلم الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه بأحد المتساويين
أيده رسول الله، وأيد شعره في نصرة الإسلام، وأمرهم أن يطبقوا قول حسان،
فدخلوا من (كَداء) .
ولما دخلوا مكة وطافوا بالبيت وأرادوا السعي لقوله تعالى في الآية الكريمة:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
[البقرة:158] سألوا رسول الله، فقال: (ابدأوا) ، فهي جواب عن سؤال منهم رضي
الله تعالى عنهم لما رأوا الطرفين متساويين، وتصح البداءة من أيهما؛ ولكن
كان الرسول موجوداً فسألوا: من أيهما تكون البداية؟ فقال: (ابدأوا بما بدأ
الله به) .
خلاف العلماء في
الترتيب بين أعضاء الوضوء
ننتقل من السعي ووجوب البداية مما بدأ الله به -وهو الصفا- إلى الوضوء.
فلو قال قائل: كيف نتوضأ؟ وبم نبدأ؟ فالجواب: (ابدأوا بما بدأ الله به) ،
والله بدأ في أعضاء الوضوء بالوجه.
ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا النص يدل على ترتيب غسل أعضاء الوضوء
كما جاء في الآية.
وإلى هنا تمَّ التشريع، وبقي الحكم، فهل هذا الترتيب شرط في صحة الوضوء، أم
أنه إذا غاير هذا الترتيب صح الوضوء؟ فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء
يقولون: لا ينبغي مغايرة هذا الترتيب.
وبعضهم يحكي الإجماع بأنه لو غاير ذلك ناسياً وصلى فلا إعادة عليه؛ لأنه
أتى بالغسل المطلوب، و (الواو) في الآية لا تقتضي الترتيب.
ثم يذكرون عن علي رضي الله تعالى عنه في التيامن وفي الترتيب أنه قال: (لا
أبالي غسلتُ قدميَّ أولاً أو يديَّ أو وجهي، إذا أكملتُ الوضوء) .
أما اليمين واليسار فيقولون: اليدان والرجلان كالعضو الواحد، فأيهما غسلتَه
قبل الآخر تَمَّ غسلهما إذا أوقعتهما في مكانهما.
وعلى هذا لم يقل أحد بأن مخالفة الترتيب الموجود في الآية مبطل للوضوء
قطعاً، إلا أنهم يجمعون على أنه السنة، ولا ينبغي تعمُّد خلاف ذلك.
وبعضهم -غير الأئمة الأربعة- يقول: إن تعمد فلا وضوء له، وإن وقع منه نسيان
فلا إعادة عليه.
وإذا جئنا إلى السنة النبوية -كما يقول الشوكاني وابن القيم - فلم يؤثر ولم
يرِدْ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين -سوى رواية علي،
وفيها ما فيها- أن أحداً توضأ عاكساً هذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله.
فلا ينبغي عكسه، وإذا قسناه على بداية الصفا والمروة فإننا نعتبر البداءة
التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها.
ثم من ناحية أخرى يقولون: لو نظرنا إلى أعضاء الوضوء الأربعة، فأشرفها
الوجه.
فالوجه فيه خصائص تقدمه على غيره، فإذا بدأت بالوجه نزلت بالترتيب إلى
اليدين، لكنك تصعد إلى الرأس ثم تنزل إلى القدمين.
ومن هنا قال الشافعي: الترتيب واجب، فمن غير الترتيب فإن وضوءه باطل.
قال: لأن الله سبحانه غاير في تلك الأعضاء بين المتشابهين أو بين القرينين،
فاليدان والرجلان متناسقان، ففرَّق بينهما، فأمر بغسل الوجه، ثم بغسل
اليدين، وبإمكانه أن ينزل إلى الرجلين؛ ولكنه أمر بمسح الرأس.
فمجيء الرأس بين اليدين والرجلين يدل على أن هذا محل مسح الرأس، فلا يقدَّم
على اليدين، ولا يؤخَّر عن الرجلين.
ثم قال من ناحية أخرى: اليدان مغسولتان، والقدمان مغسولتان، والرأس ممسوح،
فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، فلِمَ لَمْ يجعل المغسولات كلها في نسق وجاء
بالممسوح وسطهما؟ فـ الشافعي رحمه الله لهذا الأمر قال: الترتيب واجب،
ويستوي فيه العامد والمخطئ، فمن نسي فأخلف الترتيب، أو تعمد فأخلف الترتيب
فوضوءه باطل.
وبقية الأئمة رحمهم الله يقولون: إنما الترتيب هو الأكمل.
والشافعي هو الذي قال ببطلان الوضوء إذا اختل فيه الترتيب عن نسقه في الآية
الكريمة، مستدلاً بهذا على الترتيب الموجود في وضع أعضاء الوضوء، ومستنداً
أيضاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
والله تعالى أعلم.
إدخال المرفق في غسل
اليد
قال: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار
الماء على مرفقيه) .
أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هنا يأتي المؤلف رحمه الله ليبين لنا قضية لغوية وعملاً شرعياً، فالآية
الكريمة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] لم تطلق
اليد عن القيد، بل قيدت غسل اليد بـ (إلى) ، و (إلى) حرف غاية، فجعلتا
الغايةَ إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل؛ لأنك ترتفق به وتتكئ عليه،
واللغة تقول: إذا كانت الغاية من جنس المُغَيَّا فهي داخلة فيه، وإذا كانت
الغاية من غير المُغَيَّا فليست داخلة.
كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة:187] فهل الليل داخل في الصيام، أم هو خارج عنه؟ الليل مغاير
للنهار، وجُعل الصيام إلى الليل، فالليل خارجٌ عن منطقة الصيام، وإن كان
العلماء يقولون: يأخذ جزءاً من الليل تحقيقاً لكمال صوم يوم النهار؛ لكن
الليل من حيث هو ليس داخلاً في الصوم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا
أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) .
فلما كان الليل مغايراً للمُغَيَّا -وهو النهار، أو زمن الصوم- لم يكن
الليل داخلاً.
لكن هل المرفق داخل في مسمى اليد أو أنه ليس بداخل؟ يقولون: إن كلمة (اليد)
يدخل فيها أطراف الأصابع إلى المنكب، وأجزاؤها مختلفة التسمية، فالأصابع
أولاً، ثم الكف، ثم الرسغ، فالزند، فالساعد، فالمرفق، فالعضد، فالمنكب، فكل
جزء في اليد أخذ اسماً مستقلاً، ولكن الجميع يدخل تحت اسم اليد.
فلما جاءت كلمة (اليد) وغييَ المطلوب غسله من اليد إلى المرافق، كان المراد
غسل اليد مع المرافق؛ لأنها جزء من الأيدي.
فجاء بهذا الحديث ليبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل يديه
أدار الماء على مرفقيه، يعني: شمل المرفق بالغسل، فالمرفق داخل في غسل
اليد.
والله تعالى أعلم.
التسمية عند الوضوء
وخلاف العلماء فيها
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) .
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد ضعيف، وللترمذي عن سعيد بن زيد وأبي
سعيد نحوه، قال أحمد: لا يثبت فيه شيء] .
قوله: (لا وضوء) (لا) حرف نفي.
و (الوضوء) : عمل محسوس بيِّن وهو غسل أعضاء معينة، والأعيان لا يتوجه
إليها النفي.
فعمل الوضوء حاصل، فهو قد غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه، وغسل
قدميه، فالوضوء حاصل.
- فكيف نقول: (لا وضوء) وهو متوضئ؟ قالوا: إن النفي يتوجه إلى أحكام
الأعيان، أما الأعيان بذواتها فلا تُنفَى.
وعلى هذا قالوا: يجب أن يكون هناك حكم مقدَّر يتوجه عليه النفي وهو: (لا
وضوء معتبر) ، أو (لا وضوء صحيح) أو (لا وضوء كامل) .
وأي المعاني يقدر حتى يتوجه عليه النفي؟ بعضهم قال: لا وضوء كامل.
فالوضوء موجود، ولكن ليس بكامل، فإذا كان موجوداً والمنفي الكمال، فتصح به
الصلاة.
وبعضهم قال: لا وضوء معتبر.
فيكون هنا المراد نفي الاعتبار، فلا تصح به الصلاة؛ لأنه أصبح كالعدم؛ لأن
عدم اعتباره هو عبارة عن عدم وجوده، فلا يُعتد به.
ومن هنا عند اختلافهم في تقدير الوصف الذي يتوجه إليه النفي وقع الخلاف.
فإذا جئنا إلى الحديث فهو ضعيف، وأحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لم يثبت في
هذا شيء، وكون الوضوء يُعتبر أو لا يُعتبر، والصلاة يُعتد بها بهذا الوضوء
أو لا يُعتد بها ليس بأمر هين، بل يحتاج إلى أن يكون الحكم صادراً عن قاعدة
ثابتة قوية.
فلما كان الحديث ضعيفاً فلا يمكن أن نبطل الصلاة بعدم ذكر اسم الله على
الوضوء إلا بحديث صحيح قوي يقاوم أهمية الوضوء وأهمية الصلاة، وما وجدنا.
ثم قالوا: هناك بعض النصوص، كقوله: (لا وضوء كامل) .
أورده الصنعاني.
وبعضهم قالوا: هناك حديث: (من توضأ كما أمره الله ... ) ، قالوا: لما أمرنا
الله بالوضوء قال: ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)) ولم يذكر تسمية.
فأجيب عليهم: الأمر جاء مجملاً، ولكن الرسول بيَّن! فقالوا: أثبتوا البيان
ثم احتجوا به، فالذي قلتم: إنه بيان هو ضعيف، ولا ينبغي أن نعول في أركان
الإسلام والأعمال على شيء ضعيف.
ومن هنا لم يقل بوجوب التسمية على الوضوء إلا الظاهرية.
وبعض شُرَّاح الحديث ينسب لـ أحمد أنه قال: إذا ترك التسمية عامداً بطل
وضوؤه، وإن تركها ناسياً صح وضوءه ولا يعيد الصلاة.
وهذا القول يذكره ابن قدامة في المغني.
فالرواية عن أحمد ليست على العموم كالظاهرية، وإنما يفرق بين المتعمِّد
والناسي.
والجميع -ما عدا الظاهرية وهذا التفصيل عند أحمد - على صحة الوضوء ولو لم
يذكر اسم الله عليه.
وأهم ما في الموضوع هنا -كما قال أحمد -: أنه لم يثبت فيه شيء، فلا نحكم
على أحد ترك التسمية ببطلان وضوئه، ولا ينبغي لأحد أيضاً أن يترك التسمية
على الوضوء ولو كان الحديث ضعيفاً؛ لأن غاية ما فيه أنه ذكرٌ لله على هذا
العمل، ويعتضد بصفةٍ عامة بحديث: (كل أمر ذي بال لم يُبدأ باسم الله أو
الحمد لله فهو أبتر) ، فلا نجعل وضوءنا أبتر وأقطع، بل نذكر اسم الله عليه،
ويتم لنا الأمر، والحمد لله.
الفصل بين المضمضة
والاستنشاق
قال رحمه الله تعالى: [وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال:
(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق) أخرجه
أبو داود بإسناد ضعيف] .
إيراد هذا الحديث في هذا المكان يورد عليه بعض العلماء شيئاً من وجهة النظر
في الترتيب؛ إذ كان ينبغي أن يذكر هذا مع المضمضة والاستنشاق هناك.
فقوله: (يفصل) الفصل: جعل كل شيء على حدة.
والمضمضة والاستنشاق جاء لهما صور عديدة: منها: أن يمضمض ويستنشق ويستنثر
بالكف التي أخذ بها الماء.
ومنها: أن يمضمض ويستنشق بكف واحدة.
ومنها: أن يفعل ذلك ثلاث مرات بكف واحدة.
ومنهاك أن يفصل بينهما.
فقوله: (يفصل بينهما) يحتمل أنه يأخذ كفاً واحدة فيتمضمض ثلاث مرات، ثم
يأخذ كفاً واحدة فيستنشق ثلاث مرات.
فهذا فصل بين المضمضة والاستنشاق.
أو أنه يأخذ للمضمضة غرفة فيتمضمض، ثم يأخذ للاستنشاق غرفة ويستنشق، ويفصل
بينهما في أخذ الماء، فالمضمضة لها ماء مستقل، والاستنشاق له ماء مستقل.
فعلى كلتا الحالتين العمل صحيح، سواءٌ أجمع المضمضة والاستنشاق من غَرفة
واحدة بكف واحدة، أم أخذ لكل واحدة غَرفة مستقلة، وسواءٌ أأخذ ثلاث غَرفات
للمضمضة وثلاث غَرفات للاستنشاق، أم ثلاث غَرفات لكل من المضمضة والاستنشاق
يتمضمض ويستنشق من كل غَرفة منهما معاً، وهذا نص في أنه يفصل بينهما.
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم تمضمض صلى
الله عليه وسلم واستنثر ثلاثاً، يمضمض ويستنثر من الكف الذي يأخذ منه
الماء) .
أخرجه أبو داود والنسائي] .
هذه الصورة الأخرى في رواية علي رضي الله تعالى عنه، وهي أنه يمضمض ويستنشق
ويستنثر ثلاثاً من الكف الذي أخذ به الماء) ، يعني: من كف واحدة يتمضمض
بجزء من الماء، ثم يستنشق ببقية الماء في تلك الكف، ويستنثر بتلك الكف التي
أخذ بها الماء، سواءٌ أكان أخذُه الماءَ باليمنى، أم كان أخذُه الماءَ
باليسرى، فيجمع المضمضة والاستنشاق في غَرفة واحدة، ويستنثر الماء من الأنف
بتلك الكف التي أخذ بها الماء، ولم يعيِّن لنا أيَّ الكفين، أهي اليمنى أم
اليسرى.
والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (ثم أدخل صلى
الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف واحد، يفعل ذلك ثلاثاً) .
متفق عليه] .
يؤخذ من قوله: (فمضمض واستنشق من كف واحد) أنه جمع بينهما، ففي حديث طلحة:
(يفصل) ، وهنا: (يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد) .
فسواءً جمعتَهما أم فصلتَهما فلا حرج في ذلك.
وجوب إسباغ أعضاء
الوضوء بالماء
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه
وسلم رجلاً وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء، فقال: (ارجع فأحسن وضوءك) .
أخرجه أبو داود والنسائي] .
هذا حديث (اللمعة) كما يقال، وهو متعلق بإسباغ الوضوء وترتيبه، فالنبي صلى
الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وعلى قدمه أو في عقبه لمعة مثل الظفر -أي:
قدر الظفر- وفي بعض الروايات: (قدر الدرهم) ، أو يكون معنى (مثل الظفر) :
لمعة كلمعة الظفر؛ لأن الظفر يلمع، والجلد إذا غُسل وبقي جزء منه لم يُغسل
صار أبيض يلمع؛ لأن الماء معدود في الألوان السوداء، كما في باب التغليب،
وفي الحديث: (الأسودان: التمر، والماء) ، فإذا غسل القدم أو اليد أو الوجه
وتعدَّى الماء عن جزء فلم يصبه كان كاللمعة وسط بقية العضو المغسول، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فأحسن وضوءك) .
وفي بعض الروايات: أعد وضوءك.
وبعضها: أتمم وضوءك.
فمعنى (أحسن) أن الوضوء قبل ذلك كان ليس بحسن.
وروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان شيئاً يسيراً فلا تأثير في
الوضوء؛ لأن الحكم للأغلب.
وعلى رواية: (أتم) أو: (أعد) يكون ذلك نصاً في أن هذا الوضوء بهذه اللمعة
غير تام، ولا تصح به الصلاة.
ومن هنا أخذ العلماء وجوب الموالاة بين غسل الأعضاء، لا أن يغسل وجهه، ثم
يذهب ليشرب قهوة، ثم يجيء ليغسل يديه، ثم يأخذ كتاباً ويقرأ فيه، ثم يمسح
رأسه ويتكئ حتى يستريح، ثم يقوم ويغسل قدميه.
والموالاة مقياسها أن يغسل العضو قبل أن يجف الماء عن العضو الذي قبله، فلو
أنه غسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، وكان البرد شديداً، فأخذ شيئاً يستر
وجهه أو يمسح بيده الماء عن وجهه ولم يجف، فغسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم بعد
أن مسح رأسه لبس الطاقية أو العمامة، ثم ذهب وغسل قدميه.
يعتبر ذلك موالاة؛ لأنه لم يفرق بين العضو والذي قبله بزمن يجف فيه العضو
-كما يقولون- في الجو المعتدل مع الإنسان المعتدل، فهناك بعض الناس عنده
حرارة، فحالاً يجف الماء، وأحياناً في الشتاء يكون جفاف الماء عن العضو ليس
مثل الصيف، فقالوا: في الجو المعتدل.
وموجب أخذهم بالموالاة هنا أنه عندما غسل تلك الأعضاء، وبقيت لمعة في رجله
أو في يده أو في غير ذلك، فإنه لو غسل ذلك الجزء فقط فبقية الأعضاء التي
جاءت بعد هذا العضو جاءت على فساد؛ لأن العضو الذي قبلها لم يتم غسله،
وكذلك لو أن اللمعة كانت في القدمين وليس بعدها عضو آخر، فإذا طال الزمن،
وجف الماء عن الرأس واليدين، وأراد أن يكمل غسل القدمين، أيكون غسل اللمعة
موالياً للأعضاء التي قبلها، أم أنه مضى عليه زمن؟ فإن كان مضى عليه زمن
فإن الموالاة تكون قد فُقِدت، فيكون قد غسل القدمين، أو أحسن غسل القدمين
بعد فصل طويل عن الأعضاء قبلها، فيبدأ الوضوء من جديد لتتحقق له الموالاة.
ولذا قدمنا أنه إذا انتبه للمعة وهو في مكان الوضوء أخذ نقطة ماء -ولو من
شعره- ومسح اللمعة وأجزأه ذلك، أما إذا كان قد بعُد عن مكان الوضوء وجفت
الأعضاء فإن القدمين ستصبحان مفصولتين عن الأعضاء قبلهما، فلم تكن هناك
موالاة، فعليه أن يبدأ الوضوء من جديد لتتم له الموالاة.
والله تعالى أعلم.
الاقتصاد بالماء عند
الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) .
متفق عليه] .
مقدار الماء في الوضوء والغسل موضوعه واحد، فكان من حسن التنسيق أن يكونا
معاً في مكان واحد.
ولعله أخره من أجل أنه فيه ذِكْر الغسل، فأخره إلى آخر أعمال الوضوء.
قال: (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ -والمُد: قدر لتر وثلث-
ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، والصاع أربعة أمداد، فقوله: (إلى خمسة
أمداد) أي: صاع وربع.
فهذا بيان لأقل المقدار، والذي ينبغي على الإنسان -كما يقول العلماء- ألَّا
يزيد على ذلك؛ لئلا يدخل في السَّرَف وتضييع المال.
وإذا كان النص جاء -في العبادات لله- بالمحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه
مع وفرته وكثرته فما بالك بالمال الذي هو عصب الحياة؟! فهو تعويد على
الاقتصاد في استعمال الماء؛ ليكون خطوة إلى التعوُّد على الاقتصاد في غير
الماء.
وفي هذا المعنى جاءت أحاديث، منها أنه: (اغتسل من فَرَق) و (الفَرَق) :
ثلاثة آصُع.
ومنها أنه: (اغتسل هو وميمونة في جفنة فيها أثر العجين) .
فإذا كان يغتسل بالصاع الذي هو أربعة أمداد فهذا يكفيه في الغسل، وهذا يأتي
مع الدلك والتحفظ في استعمال الماء.
قوله: (ويتوضأ بالمُد) ، وفي رواية: (أتي بثلثي مد) ، فهل هناك مغايرة؟
والجواب: لا توجد مغايرة، فإذا كان الماء قليلاً دلك حتى يتمكن من إيصال
الماء لجميع البشرة، وإذا كان الماء متوافراً مرَّر يده ليتأكد، فالمهم
التأكد من إسباغ الوضوء، فإذا كان الماء قليلاً تعيَّن الدلك، وإذا كان
الماء كثيراًَ وتأكد بجريان الماء على العضو فالحمد لله، لكن لا ينبغي أن
يزيد -إن أمكن- في الوضوء على المُد، ولا في الغسل على الخمسة أمداد، أي:
صاع ومد.
والله تعالى أعلم.
فهذا ما يتعلق بالوضوء والغسل في العبادة.
ويُقاس عليه الوضوء والغسل للنظافة، أو المسنون في غسل الجمعة أو للإحرام
أو لدخول مكة أو لعرفة، ولكن المهم هنا أنه لو أن إنساناً في الغسل
الاعتيادي يريد أن يغير ملابسه، ويريد أن يزيل عنه العرق، ويريد أن ينظف
نفسه، فتارةً يستعمل الصابون، وتارةً يستعمل الماء بدون صابون، فهذا لا حد
فيه، ما لم يصل إلى الإسراف؛ فالتحديد هنا في رفع الحدثين، الأصغر بمُد،
والأكبر بصاع إلى خمسة أمداد.
بيان الذكر عند
الانتهاء من الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: (أشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) إلا فُتحت له
أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) .
أخرجه مسلم والترمذي وزاد: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من
المتطهرين) ] .
لقد أحسن المؤلف ختم هذا الباب بهذا الحديث، وبيان ما ينبغي أن يقوله
المتوضئ، فهذا هو الدعاء المسنون المشروع عقب الوضوء، حيث يقول صلى الله
عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ -قيده بإسباغ الوضوء- ثم يقول: أشهد أن
لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ، فهي أساس التوحيد وقاعدة
الإسلام، فأنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله؛ لأن هذا
العمل الذي جاء به أمر تعبُّدي، ولا دخل للعقل ولا للعلة فيه، إنما يأتي به
المسلم طاعة لله ورسوله، كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: (عملٌ
مُوجَبُه في غير موجِبِه) .
فالإنسان يخرج منه الريح، فيتوضأ ولا يغسل موضع خروج الريح الذي هو سبب في
الوضوء، فلا نغسله ونغسل أعضاءً بعيدة كل البعد عن سبب هذا الوضوء، فأين
العلة هنا؟ فلا علة ولا سببية، إنما هي طاعة لله.
ومن هنا يعلن المسلم هذه الشهادة عقب هذا العمل التعبدي المحض الذي لا
علاقة له بعلة ولا سبب، كأنه يقول: يا رب! أشهد أنك أنت الله الواحد الأحد،
أمرتني فامتثلتُ، وأشهد أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم بلَّغنا عنك
فسمعنا وأطعنا، فتحقيق الإيمان بالله والطاعة لله ولرسوله، بسببه فتحت له
أبواب الجنة الثمانية.
وقال في الحديث: (فُتحت) ، ولم يقل: (تفتَح) ، فقالوا: هذا يراد به أنها
ستُفتح له يوم القيامة.
ونحن نقول: لماذا التكلف فيها؟ لنقل: فُتحت الآن، وما المانع أن تُفتح
الآن؟ وسيدخلها إن شاء الله من أيِّ أبوابها، فلا مانع.
وزاد بعض الروايات: (اللهم اجعلني من التوابين -أي: فيما أخطأتُ، وما أسررت
وما أعلنت- واجعلني من المتطهرين) ، والتوبة هي طهارة داخلية، والتطهر
طهارة ظاهرية، ولأن الوضوء يحقق الطهارة والنظافة فسأل الله التوبة
بالمناسبة.
ومن هذا قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ} [آل عمران:37] ، ثم قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا
رَبَّهُ} [آل عمران:38] ، فلما وجد الأرزاق تأتي من عند الله قال: يا رب!
أعطني.
فكذلك هنا، فلما فعل الطهارة الحسية طلب من الله الطهارتين: الطهارة الحسية
من كل الأخطاء، والطهارة المعنوية بالتوبة، فيكون من عباده التوابين
والمتطهرين.
وينبه العلماء على قضية شائعة عند العوام، وهي أنهم يجعلون لكل عضو من
أعضاء الوضوء دعاءً، ويقول النووي رحمه الله: كل هذه الأدعية المخصوصة بكل
عضو لا أصل لها في السنة، وإنما يفعلها بعض الناس بالمناسبة.
والله تعالى أعلم.
|