شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1]
المسح على الخفين من أبرز مباحث الطهارة، وتواترت النصوص فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -قولاً وفعلاً- حتى قيل: إن رواة المسح على الخفين نحو ثمانين صحابياً وقد خالف فيه أهل البدع حتى صار شعار أهل السنة المسح على الخفين، وشعار غيرهم عدمه.
ولهذا الباب مسائل وأحكام وشروط وضوابط وأحوال تناولها أهل العلم بالبحث في مصنفاتهم في ضوء الأحاديث الواردة عن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام


مشروعية المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) متفق عليه.
وللأربعة عنه إلا النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) وفي إسناده ضعف] .
هذا الباب بعنوان (المسح على الخفين) ، والخفان: هما لباس القدمين، ومناسبة هذا الباب لما قبله من مباحث الوضوء، أن مسح الخفين يتعلق بغسل القدمين، وهما من أعمال الوضوء، فكان مبحث المسح على الخفين من تتمة أبحاث الوضوء.


تواتر الأدلة على جواز المسح على الخفين
والمسح على الخفين قد يكون من أبرز مباحث الطهارة، وبلغت فيه النصوص حد التواتر، ولم يخالف في مشروعية المسح إلا من خالف أهل السنة، حتى صار شعار غير أهل السنة أنهم لا يمسحون على الخفين، وشعار أهل السنة أنهم يمسحون على الخفين، والمسح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، أما من حيث القول - كما يقول البيهقي وغيره - فقد وصل عدد رواة المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى نحوٍ من ثمانين صحابياً، ولذا قال الكرخي: أخشى الكفر على من أنكر المسح على الخفين.
أي: لأنه ثابت بهذه القوة من عدد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


رد دعوى النسخ أو التعارض فيما يتعلق بغسل القدمين ومسحهما
وقع شبه توقف أو تساهل في بادئ الأمر لموضوع آية المائدة التي فيها الأمر بغسل القدمين، حتى جاء جرير بن عبد الله وروى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل رأيته مسح قبل آية المائدة أو بعدها؟ - آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]- فقال مجيباً: وهل أسلمت إلا بعد آية المائدة؟! ويقولون: إن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، في قضية العقد، والمريسيع إنما كانت في السنة الرابعة، وقالوا: إن إسلام جرير بن عبد الله البجلي كان في عام الفتح، فيكون ذلك متأخراً بأربع سنوات، فكان البعض يظن أن آية المائدة نسخت المسح، حتى نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق الكتاب المسح.
وقالوا: الكتاب: هو آية الوضوء، وفيها الغسل.
وأجابوا عن ذلك بقولهم: إن كان الكتاب سبق، فتكون الآية سابقة ومتقدمة، ويكون المسح متأخراً عن الكتاب، والمتأخر لا ينسخ بالمتقدم، فعلى روايتكم أنتم أيضاً عن علي: سبق الكتاب المسح.
يكون المسح ثابتاً بعد الكتاب؛ لأن الكتاب سابق، أي: متقدم عليه.
وكانوا أيضاً يقولون: إن أحاديث تعليم الوضوء ليس فيها مسح، وجاء أيضاً الحث على غسل الرجلين في أحاديث: (ويل للأعقاب) ، أي: مَنْ مَسَحَ العقب ولم يغسله بالماء، وجاءت قراءة الآية الكريمة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، فقالوا: إن قراءة: (وأرجلِكم) بالجر عطف على مسح الرأس، فتكون الأرجل تمسح بذاتها، ولم يأت فيها ذكر الخف.
وأجاب الجمهور أن القراءتين إذا كانتا ثابتتين؛ فهما بمثابة آيتين مختلفتين، ونبه على ذلك والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان عند قضية غسل القدمين وقراءة المسح؛ لأن بعض الطوائف المنتمية إلى الإسلام لا تغسل القدمين، وإنما تمسحهما دون أن تكونا في خفين، فيمسح القدم بأصابعه ويكتفي بذلك، بناء على قراءة: (وأرجلِكم) ، على أنها معطوفة على مسح الرأس فتمسح، وأجاب ابن جرير الطبري وغيره بأن القراءة المشهورة هي قراءة النصب: (اغسلوا وجوهَكم) ، (اغسلوا أيديَكم) ، (اغسلوا أرجلَكم) .
وقراءة الجر قالوا: بالمجاورة، والمحل محل نصب، ولكن جاءت قراءة: (وأرجلِكم) بالجر للمجاورة لمسح الرأس.
ويبين موضوع قراءة النصب استمرارية فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يغسل قدميه، وقالوا: إن قراءة الجر مع قراءة النصب لا تعارض بينهما؛ لأن قراءة النصب التي تقتضي الغسل هي حينما تكون القدمان عاريتين، وقراءة الجر التي تقتضي المسح هي حينما تكون القدمان داخلتين في الخفين، فنمسح على الخف بقراءة الجر.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن المسح على الخفين ثابت بالكتاب كما هو ثابت بالسنة.
ولكن يغنينا عن هذا كله ما تواتر فيه النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.


المسح على الخفين سمة لأهل السنة
وبهذا تكون مشروعية المسح على الخفين سمة من سمات أهل السنة، ويكون المنع من المسح سمة من سمات تلك الطوائف التي تغاير أهل السنة، ومن الطرف أن الحسن بن علي بن زيد عتب على كاتب عنده فحبسه وصادر ماله، فكتب إليه هذا الكاتب من السجن يعتذر في أبيات، ومما قاله في هذه الأبيات - وكان قد اتهم بالتشيع -: إلى الله أشكو ما لقيت محبة قوم بهم بليت إلى أن قال: أمسح خفي ببطن كفي ولو على جيفة وطيت فجعل كونه يمسح على خفه تبرئة له من تلك الطوائف التي اتهم بها، ودليل أنه من أهل السنة أنه يمسح على خفيه.
إذاً: أخذ موضوع المسح على الخفين حيزاً واسعاً، وإن كان المسح رخصة - كما سيأتي في حديث صفوان بن عسال: (رخص لنا) - فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب المسح عند قوم ينكرونه ليظهر السنة عندهم.
والبحث في المسح على الخفين يتناول؛ المشروعية - وقد أشرنا إليها بأحاديث التواتر -، وكيفية المسح، ونوعية الممسوح عليه، والتوقيت له حضراً وسفراً، وزمن الرخصة فيه، ومن أي شيء يمسح عليه - الحدثان الأصغر والأكبر، أم الأصغر فقط -، وبأي الطهارتين؛ المائية والترابية، أم المائية فقط، هذه جوانب مباحث المسح على الخفين.
نأتي إلى هذا الحديث الأول الذي صدر به المؤلف رحمه الله هذا الباب؛ لأنه يعتبر الأصل في المشروعية، وفي الكيفية، وفي بعض الشروط له.
يقول: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم) ، متى كان معه، وفي أي مكان؟ تأتي نصوص أخرى أن ذلك كان في غزوة تبوك، وغزوة تبوك متى كانت؟ كانت في السنة التاسعة، وآية المائدة متى نزلت؟ نزلت في غزوة المريسيع سنة أربع، إذاً: فحديث المغيرة بعد نزول آية المائدة بخمس سنوات، فلا يمكن أن يدعى بأن المسح نسخ بآية المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت قبل زمن، ثم بعد خمس سنوات يأتي المغيرة وينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح، إذاً: فلا مجال لادعاء النسخ هنا أبداً، وانتهت قضية الإشكال في الخلاف أو النزاع، إلا من أصر واتخذ جانباً لنفسه.


من شروط المسح على الخفين لبسهما على طهارة
كان صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم حانت صلاة الفجر، يقول المغيرة رضي الله عنه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وكان من عادته إذا كان في الفلاة بيعد حتى لا يراه الرائي، فتبعه المغيرة بإداوة من ماء، وتنحى عنه حتى قضى حاجته، ثم جاء يصب عليه الماء ليتوضأ، كما ذكر مالك في الموطأ: شرع ليخرج يديه من كم الجبة فضاق الكم عليهما، فأخرجهما من تحت الجبة، وغسلهما، وهذا يعني: أن الكم الضيق موجود من قديم، لكن ليس بـ (الكبك) الذهب أو الفضة.
يقول المغيرة رضي الله عنه: (فأهويت لأنزع خفيه) ، من أجل أن يغسل القدمين، وهذا من باب المساعدة في الطهارة أو في الوضوء، وخاصة لذوي الشأن فلا بأس في ذلك، (فقال: دعهما) ، أي: اتركهما في مكانهما في القدمين، (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، فقوله رضي الله تعالى عنه: فأهويت لأنزع الخفين من قدميه صلى الله عليه وسلم، أي: ليغسل القدمين على ما هو الأصل، فنهاه صلى الله عليه وسلم، أو أمره ألا ينزعهما، وأخبره بما يتم المسح به: (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، وتتمة الحديث -ثم نعود إلى محل الشاهد-: أنهما أتيا القوم فوجدا أن القوم استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي الخبر بأنهم ترددوا ماذا يفعلون، فقد جاء وقت الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتهم، فهل ينتظرون حتى لو خرج الوقت، أم يقدمون واحداً منهم يصلي بهم، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً، لكن ليس موجوداً عندهم الآن؟ أخيراً استقر رأيهم على أن قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بظروفه، وهو في غيبته لا نحكم عليه بشيء، ونحن مكلفون بأداء الصلاة وقد جاء وقتها، فلنصل.
وهذا كما سبق التنبيه عليه في بعض المحاضرات في الجامعة الإسلامية للشيخ أبي الحسن الندوي، قال: هناك مواقف في الإسلام يتردد فيها المسلم بين الحكم العقلي وبين دواعي العاطفة، فذكرت له هذه القضية، فقال: نعم.
وهنا الصحابة رضي الله عنهم -حسب مقتضى العقل- يقولون: الصلاة واجبة فعلينا أن نصلي قبل أن يخرج الوقت.
ومنطق العاطفة يقول: ننتظر حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا؛ لأن صلاة أحدنا بنا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن أي الجانبين غلّبوا؟ أغلّبوا المنطق والعقل، أم غلّبوا العاطفة؟ قدّموا منطق العقل بأداء الصلاة في وقتها، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة والناس في الصلاة، وفي بعض الروايات أن المغيرة همّ أن ينبه الإمام ليرجع، وعند الفقهاء إذا تأخر الإمام الراتب وقدم القوم رجلاً منهم وحضر الإمام الراتب فهو أحق بالإمامة، ولو كان الذي قدموه صلى بعض الصلاة، فيأتي الإمام الراتب ويتقدم ويصلي بالناس، ويعتبر ما بدأ به بداية لصلاته، وهم يبنون على ما تقدم من صلاتهم، وكل يكمل صلاته، ثم هم يجلسون عند إتمام صلاتهم، وهو يقوم لإتمام ما فاته، ثم يسلم فيسلمون معه، فهنا كان من فقه المغيرة أن ينبه الإمام ليتقدم الإمام الراتب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من حقه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، وقال له: اتركه، وهذا أيضاً يدل على أن من حق الإمام الراتب أن يتنازل عن حق، ويقر من قدموه للصلاة بهم؛ لأن مدار الإمامة على رضا الجمهور، فإذا ارتضوا هذا الإنسان كان إمامهم، وعندنا حديث في المحراب: (تخيروا لوفادتكم؛ فإن إمامكم وافدكم إلى الله) ، الإمام وافدنا إلى الله، يتقدم بنا إلى الله، فينبغي أن يكون على أعلى مستوى؛ لأنه يسأل الله لنا، فيقول: اهدنا الصراط المستقيم.
ونحن نقول: آمين.
إذاً: من حق الإمام أن يتقدم ويأخذ مكانه، ومن حقه أيضاً ترك الإمامة لمن اختاروه، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المغيرة معه، وكان ابن عوف قد صلى ركعة وبقيت ركعة للجماعة، فلما أتموا صلاتهم سلموا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة يكملان ما بقي عليهما من صلاتهما، فلما رأى الناس رسول الله فزعوا، ولسان حالهم: كيف تقدمنا على رسول الله؟ وكيف يصير مأموماً وراءنا؟ فلما سلم وأنهى صلاته قال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، ولو أننا أخذنا المسألة على مجرد أحكام، وعلى فقه، وعلى (يصح أو لا يصح) لانتهينا، ولكن كما يقولون: السنة كنز وافر.
وهذه العملية توحي بما وراء الصلاة، وتوحي بأمور عديدة جداً، لماذا ما قبض حتى يصلي خلف واحد من أمته؟ كون النبي يرضى أن يأتمّ بواحد من أصحابه، فإلى أي مدى وصل أصحابه؟ وإلى أي مدى أثمرت تربيته لأصحابه؟ وإلى أي مدى كان تأثيره في تنشئة هذه الأمة؟ كانوا أعراباً، فأصبحوا الآن أئمة، إذاً: هذا يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنوات التسع بعد الهجرة؛ لأن سنوات ما قبل الهجرة كانت سنوات كفاح، ومصادمات إلخ، لكن هنا في الحياة العملية، كأنه في تسع سنوات تخرج على يديه صلى الله عليه وسلم الآلاف من الرجال كل منهم يصلح أن يكون إماماً، ونظن أن الدنيا كلها ما شهدت مثل هذا الإنجاز! إذاً: ما دام أنه قد أصبح كل أصحابه صالحين للإمامة، فهو بذلك يكون قد أنهى المهمة، وأدّى الواجب؛ ولذا جاءت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1-2] تكون قد انتهيت، فسبح بحمد ربك وتهيأ للقائه، كما قال ابن عباس: نَعَتْ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، لأنه إذا جاء نصر الله، وجاء الفتح، وأصبح الناس يدخلون طواعية في دين الله أفواجاً، فما الحاجة بعد هذا لرسول يقوم فيهم؟ انتهت المهمة، إذاً يتهيأ لملاقاة ربه؛ لينال الجزاء الأوفى على رسالته، وهنا يظهر معنى قوله: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلى خلف رجل من أمته) .


اشتراط طهارة القدمين معاً عند لبس الخفين
قوله صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ، الفاء هنا تدل على السببية والعلة.
(فمسح عليهما) ، لماذا يدعهما ويمسح عليهما؟ لأنه أدخلهما طاهرتين.
فمفهوم المخالفة لو أنه لبس الخفين في قدمين غير طاهرتين فلا يصح المسح عليهما، وكان ينبغي نزعهما وغسل القدمين، ولهذا قالوا: إن من شروط صحة المسح على الخفين أن يكون الماسح قد لبسهما على طهارة كاملة، ومعنى (كاملة) من منطوق (أدخلتهما) أي: معاً، مكتملتي الطهارة، قالوا: (طاهرتين) لا تصدق فيها إلا الطهارة المائية، للنزاع الموجود في التيمم، وهل هو مبيح أم رافع؟


التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث
أعتقد أن الراجح في هذه القضية أنه مبيح وليس برافع؛ لأنه يترتب على ذلك أشياء كثيرة، والدليل على أن التيمم مبيح وليس برافع، قضية المزادتين، لما كان صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، وانتهى ماء الجيش، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليتحسسا الماء، فسارا في طريقهما والمسلمون ينتظرون، وعند قرب الزوال لقيا امرأة -ضعينة- بين مزادتين فسألاها عن الماء الذي سقت منه، فقالت: عهدي به أمس الساعة، يعني: مشيت من على الماء أمس في مثل هذا الوقت من الظهر، معنى هذا أنه مضى عليها منذ تركت موضع الماء أربعة وعشرون ساعة، فهل يا ترى يذهبون للبحث عن ذلك الماء؟! فاختصرا الطريق وقالا: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معها مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة المصنوعة من جلد البعير أو الثور، فقالت: إلى ذاك الصابي؟! قالا: ذاك الذي تعنين، واقتاداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بالأمر، قال: أنزلاها، وأخذ من كل مزادة جزءاً من الماء، ودعا فيه وبرّك عليه، وأعاد الماء إلى المزادتين، ثم دعا الجيش: هلم فاملئوا أوعيتكم، فملأ كل إنسان ما عنده من قربة أو أداوة أو أي شيء، وتوضئوا، وسقوا دوابهم، واكتفوا من كل الجوانب بالماء.
وكان في صلاة الصبح رجل معتزل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني أجنبت ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فتيمم وصلى) ، فلما جاءت المزادتان وتوفر الماء قال: (أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا، فأعطاه إناء به ماء وقال: خذ فأفرغه على جسمك) .
وهناك حديث عمر وعمار رضي الله تعالى عنهما: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فما حكم السنوات العشر التي كانت بالتيمم ألم تكن طهارة؟ بلى، ولكن كانت مبيحة، وهنا في قضية المزادتين، حينما أعطى الرسول الماء للرجل وقال: (خذ فأفرغه على جسمك) ، فهل كان ذلك لجنابة جديدة بعدما صلى الصبح، أم للجنابة الأولى التي امتنع عن صلاة الصبح بسببها، ثم تيمم وصلى الصبح؟ الجواب: للأولى.
فإن قيل: ولكنه تيمم وصلى، فيرد عليه: التيمم لم يرفع الجنابة -الحدث- ولكن أباح له الصلاة من أجل الوقت.
إذاً: التيمم ليس طهارة كاملة، فقوله: (أدخلتهما طاهرتين) يتعين أن يكون ذلك بطهارة مائية.
وقوله: (أدخلتهما) بضمير التثنية، يتفق الجمهور - ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله على أن الإنسان لو توضأ كما أمره الله، ولما غسل القدم اليمنى أدخلها في خفها، ثم غسل اليسرى فأدخلها في خفها، في هذه الحالة يكون أدخلهما طاهرتين، أم أدخل الأخيرة وهي اليسرى وهما طاهرتان؟ وهل يصح المسح على مثل هذا أم لا يصح؟ قالوا: لا يصح؛ لأنه لم يدخلهما معاً وهما طاهرتان.
لكنه غسل اليمنى وطهرها؟ قالوا: لا.
الطهارة في الوضوء لا تتجزأ، ولا تكمل طهارة القدم اليمنى إلا بعد إتمام غسل القدم اليسرى ويكتمل الوضوء، فحينئذ تكون قد طهرت أعضاء الوضوء، فلبسه اليمنى قبل يكون قبل أن تطهر اليمنى؛ لأنه بغسلها قبل اليسرى ما تمت طهارتها، ولا تتم طهارة اليمنى إلا بإكمال غسل اليسرى، أي: بإكمال الوضوء.
ولهذا قالوا: يشترط في المسح على الخفين أن يدخل القدمين معاً بعد وفاء الطهارة لهما، ولا يكون ذلك إلا بعد إكمال غسلهما قبل أن يلبس الخف في إحداهما، والإمام أبو حنفية رحمه الله يجوز أن يغسل القدمين فيلبس الخفين ثم يكمل الوضوء، وهذا بناء على النزاع المتقدم في الترتيب، هل هو واجب أو غير واجب؟ والذي عليه الجمهور أنه -كما تقدم- لا يتم المسح إلا إذا أكمل الوضوء وغسل القدمين ثم لبسهما بعد تمام الغسل.
إذاً: فحديث المغيرة يعتبر هو الأصل في هذا الباب، فإنه أثبت المشروعية بعد آية الوضوء قطعاً، ثم بين لنا الشرط، ثم نص على الممسوح عليه وهو الخف، وسيأتي النزاع في شكلية وصفات الخف الذي يصح المسح عليه، ثم الشرط في جواز المسح، وهو أن يكون قد لبسهما على طهارة.
مداخلة: فإذا توضأ وغسل القدم اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف ما حكم وضوئه؟! الشيخ: يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، لكن هذا الخف الذي لبسه بهذه الصفة لا يصح المسح عليه.
مداخلة: هل من الممكن أن ينزع خفيه ثم يلبسهما بعد غسله لقدمه اليسرى؟! الشيخ: ينزع الخف عن القدم اليمنى، وينزع الخف عن اليسرى، ثم يبدأ لبس الخف بعد إتمام طهارة القدمين، فهو لبس اليمنى قبل أن يغسل اليسرى، فلبسه لليمنى يكون قبل إتمام طهارتها، فينزعه، وبعد أن يكمل غسل اليسرى يلبس الخفين، سواء ألبس اليسرى أم اليمنى فلا وجود للترتيب هنا، فيكون لبس الخفين بعد تمام غسلهما معاً.


كيفية المسح على الخفين
قال: [وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) .
أخرجه أبو داود بإسناد حسن] .
حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا في بيان كيفية المسح وموضعه، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الخف من أعلاه) .
هذا النص كونه عن علي رضي الله تعالى عنه، وكما قال المؤلف: بإسناد حسن، يجعل طالب العلم يتمهل ويتوقف، ولكن ما دام ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجزء الأخير من الحديث مرفوع إلى النبي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف) ، هذا النقل عنه صلى الله عليه وسلم، فنقول: محل المسح ظاهر الخف، لكن استنتاج علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي) .
يرى بعض المحققين أن الرأي الصحيح لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين الصحيح، أي: الثابت الصريح.
فالعقل السليم لا يتنافى مع الدين الصحيح، والدين لا يتعارض مع العقل الصحيح السليم، إذا كان النص صحيحاً صريحاً لا يمكن أن يتنافى مع العقل الصحيح الصريح، قد يعجز العقل عن الإدراك، لكن لا يتناقض مع الدين.
فمثلاً: العقل لا يدرك لماذا كانت الصبح ركعتين والظهر أربعاً، ولكن ليس عنده ما يناقضه، وعجز عن إدراك الحكمة في ذلك، والعجز ليس تناقضاً إلى غير ذلك.
ولما قال القائلون: أنتم تفرقون بين المتماثلين، وهذا منافٍ للعقل، قيل لهم: لا يوجد أبداً تفريق بين متماثلين لمحض المماثلة، وإذا وجدت تفرقة بين متماثلين في نظرك فاعلم أن هناك فرقاً قطعاً، وذكروا الرش من بول الغلام والغسل من بول الجارية، فقالوا: كلاهما رضيع، فكيف ترش هذا وتغسل هذا؟ إما أن ترش الاثنين، أو تغسل الاثنين.
فهذا منطق العقل، قيل لهم: هناك سبب، وقد كشف المحققون من المتقدمين - كـ المتولي من الشافعية - بأن بول الجارية أشد كثافة ولزوجة من بول الغلام، والآن حقق العلم في تحليلاته بأن في بول الجارية من الهرمونات ما لا يوجد في بول الغلام، فعُلم أن هناك فارقاً.
وقالوا: توضأتم من لحم الجزور ولم تتوضئوا من لحم الغنم.
قلنا: نعم، هذا ما جاء به النص، ونحن نقبله، ثم تبين بعد ذلك أنهما ليسا متماثلين، والبحث في ذلك طويل، فهنا لو كان الدين بالرأي، ولو فسحنا المجال للاستفهام -لا للاعتراض على علي رضي الله عنه- وقيل: إن الرأي الصحيح السليم لا يتنافى مع الشرع؛ لأن الإسلام جاء يخاطب العقول السليمة، قائلاً: (يا أولي الألباب) .
إذاً: لماذا كان المسح على ظاهر الخف، وليس على باطنه، كما قال علي؟ لقائل أن يقول: مقتضى العقل أيضاً أن يكون المسح على ظاهر الخف لا على باطنه، لماذا؟ ليس لمحض العقل، ولكن لنصوص الشرع، لقد جاءت النصوص بالصلاة في النعلين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحهما في التراب) ، وهذا حينما كانت المساجد بها الحصباء والتراب، بخلاف المساجد اليوم، وكذلك في ثوب المرأة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإسدال المرأة ثوبها قال: (ترخيه شبراً، قيل: إذاً تنكشف قدماها، قال: فذراعاً؛ ولا تزد عليه) ، فقالوا: المرأة تجر ثوبها أو عباءتها خلفها في الطريق، وقد تمر على نجس، فقيل: ألا تمر على طاهر بعده، قالوا: بلى، قالوا: هذا يطهر ذاك، أي: الثوب يمر على التراب، والتراب يأخذ ما علق به من مكان آخر، وييبسه فيطهر بذلك، وذلك لضرورة ستر المرأة، فإذا كان الإنسان قد لبس النعلين وجاء إلى المسجد ونظر فيهما فوجد فيهما أذى، الرسول قال: (فليمسحهما في التراب) ، لكن لا يوجد الآن حول المسجد تراب لتحكهما فيه، وقد انتفت هذه المسألة ولا يتيسر للإنسان أن يحقق السنة فيها، فإذا كان هناك أذى وحكهما في التراب، وتوضأ وأراد أن يمسح عليهما، فإذا مرت اليد المبللة على ذاك الأذى الذي جفف بالتراب، سيُحدِث تغييراً أم لا؟ يحدِث تغييراً، فاليابس الذي طهره التراب، واكتفى الشرع به، أنت أثرته بالرطوبة، فعاد رطباً من جديد، وقد يعلق في اليد شيء مما كان في أسفل النعلين، فإذاً: ما دام أن أسفل النعلين قد جف، وجاء الأمر بالمسح؛ فاجعل المسح في الأعلى بعيداً عن تلك الاحتمالات.
إذاً: المسح على ظهر الخفين هو عين العقل، وهو الذي جاء به الشرع، ويهمنا في هذا الموضع أن علياً رضي الله عنه نقل لنا كيفية مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه مسح على ظاهر الخف، لكن نجد بعض العلماء أو المذاهب يقولون: المسح على ثلاث صور: مسح في أسفل الخف فقط، ومسح في أعلى الخف فقط، ومسح على أعلاه وأسفله.
فيجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أسفله لا يجزئ، ولا تصح به الصلاة، ويجمعون على أن المسح على ظاهر الخف فقط يجزئ، وتصح به الصلاة، ولكن هناك من يقول -كالمالكية والشافعية-: الاكتفاء بالمسح على ظاهر الخف مجزئ، ولكن الأفضل أن يمسح على أعلاه وأسفله، ولعل قولهم ذلك في حال إذا ما كان الخف يلبس في نعلين، ولم يباشر الأرض بالمشي، وقالوا في الصفة: اليد اليمنى فوق ظهر الخفين تبدأ من جهة الأصابع وتمضي باتجاه الساق، واليد اليسرى تحت الخفين تأتي من جهة الكعبين وتمضي باتجاه الأصابع، ولكن يجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أعلى الخفين مجزئ للصلاة، وبعضهم ينقل عن مالك رحمه الله في التوقيت وفي هذه الصور روايات، وابن عبد البر يقول: الصحيح ما وافق الجمهور، والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [2]
جعل الله المسح على الخفين رخصة عامة، ليست خاضعة للضرورة أو الحاجة، إلا أن هذه الرخصة لها شروط يلزم صاحبها الإتيان بها، ومن هذه الشروط: أن يلبس الخفين على طهارة قدميه طهارة بالماء من وضوء أو غسل، ومن الشروط أيضاً أن يمسح خلال مدة يوم وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إن كان مسافراً، وتبدأ المرة من أول مسح يمسحه، وإذا انتهت المدة وهو على وضوء انتقض وضوءه، ولا يصلي بوضوء مسح فيه إلا خلال المدة المعتبرة.


مدة المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله: سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: [وعن صفوان بن عسّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه] .
أنهى المؤلف رحمه الله موضوع المشروعية، في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، مع الشرط اللازم لصحة المسح على الخفين، وهو: (أدخلتهما طاهرتين) ، ثم قدم لنا كيفية المسح، ثم جاء إلى المدة، فإلى متى يمسح الإنسان على خفيه؟ هل هناك توقيت، أم ليس هناك توقيت؟ فبدأ بحديث التوقيت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً -جمع مسافر- أن نمسح على الخفاف ثلاثة أيام بلياليهن) ، هذا إذا كنا مسافرين، فقال في الحديث: (ألاّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة) ، لا ننزعها إلا من جنابة، ولو كان بعد ست ساعات، أو عشر ساعات، فالجنابة لا مسح فيها على الخفين، بل يجب غسل الجسم كاملاً ومن ضمنه القدمين، ولا مسح من جنابة.
فنمضي في المسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا ننزع الخفين لنغسلهما، بل نستمر في المسح عليهما ثلاثة أيام، إلا إذا حدثت جنابة ولو بعد يوم واحد، وهذا في حالة السفر.
قوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) أي: لا ننزع الخفين إلا من جنابة، ونبقيهما من غائط وبول ونوم، أخذ العلماء القطع بأن الغائط والبول ناقضان للوضوء، وأخذوا أن النوم ناقض للوضوء من هذا الحديث، أما الغائط والبول فبالإجماع ولا نزاع في ذلك، ولكن النوم حقيقته عند العلماء أنه ليس بناقض، ولكنه مظنة النقض، ومعنى مظنة النقض: أن النوم من حيث هو غلبة النعاس على العين وعلى القلب ليس فيه حدث، ولكن حين ينام الإنسان لا يدرك ما يحدث منه، فهو مظنة أن يقع منه حدث ينقض الوضوء وهو لا يدري بسبب نومه، ولذا جاء في حديث ابن عباس: كنا ننتظر الصلاة حتى تخفق رءوسنا.
وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، ومن نام جالساً؟ قالوا من نام جالساً ليس عليه شيء؛ لأن الجالس ولو نعس لا يتمكن الريح أن يخرج منه؛ لأن موضع خروجه لا مجال له، فإذا اضطجع سهل خروج الريح منه وهو نائم لا يدري.
إذاً: النوم بذاته ليس حدثاً، ولكنه مظنة الحدث وهو لا يدري، ولغلبة الظن على وجود الحدث عند النوم فقد اعتبر النوم هو الناقض، ولذا من نام مضطجعاً فعليه الوضوء.
إذاً: المسح على الخفين لا يكون من الجنابة، بل الجنابة يجب فيها نزع الخفين وغسل القدمين، وهذا الحديث أعطانا التوقيت للمسافر بأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، لكن كيف يمسح إذا كان السفر أطول من ذلك؟ بعد المدة المحددة ينزع الخفين، ويتوضأ وضوءاً كاملاً، ويلبس الخفين من جديد، ويستأنف ثلاثة أيام أخرى، وهكذا طيلة سفره له بعد كل وضوء كامل ولبس الخفين على طهارة أن يستصحب الحكم إلى ثلاثة أيام، فهذا حكم للتوقيت في المسح في السفر ثلاثة أيام، وبيان أن الجنابة ليس فيها مسح، فإنه ينزع الخفين ولو بعد اللبس بساعات معدودة، وأعتقد أن هذا القدر في بيان المسألة يكفي، وأنصح بمطالعة أضواء البيان عند آية المائدة، فالشيخ الأمين رحمه الله ناقش قضية المسح، مع قضية غسل القدمين ومسحهما، وأتى بتفريع وتعليقات ومسائل تكاد تكون قد أحاطت بموضوع الخفين من كل الجوانب، وقد أُفرِد المسح على الخفين ببعض الكتب، وبالله تعالى التوفيق.
[عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين) أخرجه مسلم] .
بدأ المؤلف رحمه الله في بيان التوقيت.
إلى متى يمسح الإنسان على الخفين إذا لبسهما طاهرتين؟ هل يمسح بصفة دائمة بدون توقيت بزمن، أم أن هناك تحديداً للزمن، بحيث لو انقضى هذا الزمن نزع الخفين وتوضأ وغسل القدمين، ثم إن شاء لبس الخفين مرة أخرى واستأنف المسح، وهكذا دواليك، ولو كان طول السنة؟ العلماء يختلفون في التوقيت، فالجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي هنا، وكما سيأتي في حديث ثوبان - وقّت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ما دام في سفره، وللمقيم مدة يوم وليلة، أي خمس صلوات، ويتفق الجميع على أن المسح على الخفين مطلق لا يتوقف على عذر، لا لمرض في القدمين، ولا لشدة بردٍ، ولا لشيء من ذلك، فلو كان في أشد الصيف وأشد الحر، وكانت قدماه أصح ما تكون، فإن له إذا لبس الخفين على طهارة أن يمسح، ولا يتوقف ذلك على أي عذر كان.
وقالوا: المرأة والرجل في ذلك سواء، فالمرأة إذا لبست خفين على طهارة هي كالرجل؛ في الإقامة يوم وليلة، وفي السفر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا يتوقف ذلك على عذر أو على صفة أو على داعٍ سوى مجرد اللبس.
وعند مالك رحمه الله النزاع في المدة، فهناك من يروي عن مالك رحمه الله بأنه لم يوقت، وجعل المسح على الخفين بدون توقيت لا في حضر ولا في سفر، وسيأتي مأخذه في الأحاديث التي سيسوقها المؤلف، من أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أمسح على الخف يوماً يا رسول الله؟! قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) ، فقوله: (نعم، وما شئت) أخذ منها مالك بأن هذا مطلق، أي: على مشيئته هو، والجمهور أخذوا بالتنصيص على التوقيت، وقد بحث والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في أضواء البيان عند آية الوضوء، ثم قال: هذه النصوص الموجودة مختلفة، ولا يمكن الجمع بينها؛ لأن بعض العلماء -كـ ابن قدامة في المغني - قال: يجمع بين هذه النصوص، فيقال: (نعم، وما شئت) ، أي: إذا مضت الأيام الثلاثة، وأردت أن تمسح فاخلع الخفين، ثم اغسل، ثم البس، ثم امسح ما شئت.
وهذه طريقة من طرق الجمع بين الأدلة.
الشيخ الأمين رحمه الله يقول: هذا تخريج، ولكن الجمع هو أن تحمل الموضوع بالنصّين وتجمع بينهما دون مغايرة لهذا النص أو لذاك النص، كما لو جاء نص مطلق ونص مقيّد، فيحمل المطلق على المقيّد، مثل عتق الرقبة؛ فقد جاء مرة مطلقاً بدون قيد الإيمان، وجاء مرة (رقبة مؤمنة) ، فحملنا المطلق على المقيد، وهنا يقول: لا يتأتى الجمع؛ لأن أحاديث التوقيت في السفر وفي الحضر تحدد مدة معينة، وحديث: (وما شئت) يقتضي الزيادة، والمعارضة بين الزيادة وعدم الزيادة تناقض، والمتناقضان لا يُجمع بينهما، والعلماء يقولون: إذا اختلف نصان؛ فإما أن يُعرف التاريخ فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وإما أنه لا يعرف ويمكن الجمع بينهما، كما جاء -مثلاً- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فجاءت نصوص بأنه قد دخل وصلى، وجاءت نصوص بأنه دخل ولم يصل، فجمعوا بين النصين، وقالوا: إنه دخل الكعبة مرتين؛ مرة في فتح مكة، ومرة في حجة الوداع، فيكون الذي ذكر أنه صلى في إحدى الدخلتين، والذي ذكر أنه لم يصل يكون في الدخلة الأخرى، وليس هناك تعارض، وبهذا جمع بين النصين؛ لأن النافي والمثبت لم يذكر زمن الصلاة أو زمن عدمها، ولصحة التعارض ينبغي أن يتفق التعارض في الزمان وفي المكان وفي الفاعل، فإذاً: أمكن الجمع، فمن قال إنه لم يصل كان صادقاً؛ لأنه في هذه المرة لم يصل، ومن قال: إنه صلى كان صادقاً؛ لأنه صلى في المرة الأخرى، ولا تعارض بينهما.
فإذا لم يمكن الجمع كان المصير إلى الترجيح، فأي النصوص أرجح، نصوص التوقيت، أم نصوص الإطلاق؟ يقول شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: والأرجح الذي تطمئن إليه النفس إنما هو ترجيح نصوص التوقيت؛ لأنه أحوط في العبادة؛ ولأن رواته أوثق من رواة الإطلاق، ولأن رواته أكثر عدداً من رواة الإطلاق.
إذاً: تتعارض النصوص في توقيت مدة المسح سفراً وحضراً، وفي عدم التوقيت، فـ مالك أخذ بعدم التوقيت في رواية عنه، والجمهور أخذوا بأحاديث التوقيت، وقالوا: من لبس الخفين ومسح عليهما فليلتزم بالتوقيت فإن كان مسافراً ثلاثة أيام بلياليهن، وإن كان مقيماً يوماً وليلة، فإن أراد أن يمسح نزع وتوضأ فغسل، ثم لبس واستمر في المسح ولو عشر سنين.


ما يلحق بالمسح على الخفين
قال: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم- والتساخين -يعني: الخفاف-) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم] .
حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، (بعث) مادة تتعدى بنفسها، وتتعدى بالحرف، فنقول: بعث بهدية بعث بخطاب بعث زيداً.
ويقول علماء اللغة: إذا كان المبعوث يمكن أن يُبعث بنفسه فلا يُحتاج إلى الحرف، بعثت مبعوثاً إلى موضع كذا أرسلت مرسولاً إلى كذا، فلا يُحتاج أن تقول: بعثت بزيد إلى كذا، بل تقول: بعثت زيداً.
أما إذا كان المبعوث لا يصلح أن يبعث بنفسه -كالخطاب، أو الهدية، أو الطعام- فتقول: بعثت لزيدٍ بالكتاب بعثت لزيدٍ بهدية.
وهنا قال: (بعث سرية) ؛ لأن السرية تنبعث بنفسها، والسرية في الاصطلاح قالوا: ما دون الأربعين، وقالوا: بل كل جمع خرج لقتال ليس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى سرية، وكل جمع خرج فيه رسول الله يسمى غزوة، ولو كان الرجال عشرة أشخاص ومعهم رسول الله تسمى غزوة، هذا اصطلاح تاريخي في السيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالسرايا، وقبل أن يخرج إلى بدر بعث عدة سرايا إلى سيْف البحر، وكان فيها حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله وعكاشة بن محصن وغيرهم، فكان يرسل السرايا في اتجاهات معينة إما للاستطلاع، وإما لأنه يكون قد بلغه خبر عن جماعات يتأهبون لغزو المدينة، فيرسل إليهم سرية تعاجلهم في مكانهم.
تلك السرية لما رجعت اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البرد (فأمرهم أن يمسحوا على العصائب) ، والعصائب: جمع عصابة، وهو ما يعصب به الرأس، أو يعصب به الأعواد أو نحو ذلك، لكن في الاصطلاح: هي ما يعصب بها الرأس، ومنه سميت العصابة، فكل ما يوضع على الرأس لمصلحتها يسمى عصابة، ومنه العمامة؛ لأنها تعصّب الرأس وتدور حولها، فقالوا: كل ما تعمم به الإنسان وأداره على رأسه يصدق عليه اسم العمامة، (فأمرهم) وأصل الأمر للوجوب، ولكن أمر هنا بمعنى رخّص وأجاز؛ لأن المسح على هذه الأماكن ليس واجباً، كما سيأتي قوله: (رخّص) ، وقوله: (إن شئت) .
قال: (والتساخين) ، أي: وعلى التساخين، وقالوا: التساخين: هو كل ما يسخن القدمين، أي من البرد، وقدمنا أن البرد ليس علة في الترخّص في المسح، ولكن السرية اشتكت، وصادف ذلك الترخيص في المسح، ومن هنا أخذ العلماء توسعة نطاق المسح على ملبوس القدمين، فقالوا: هناك الخف، وهناك الموق، وهناك الجرموق، وهناك الجورب، والنعل؛ كل هذه أسماء لملبوسات في القدم، أما النعل فلم يثبت أنه جاء المسح عليها، وكل أثر جاء في المسح على النعلين فلا يثبت، اللهم إلا ما جاء في المسح على النعلين والجوربين، فيكون مجموع النعلين مع الجوربين كأنهما شيء واحد؛ لأن النعل لا يغطي موضع الوضوء في القدم، ويشترط في الخف الذي يمسح عليه أن يكون مغطى وساتراً موضع الغسل من القدمين في الوضوء، والرِّجل تكون مكشوفة في النعل.
إذاً: ما كان على هيئة الخف، والأصل في الخف أنه مصنوع من الجلد، فبعض الناس قالوا: لا يمسح إلا على الخف الذي هو من الجلد؛ لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، فجاء هذا الحديث: (والتساخين) ، وهو ما يسخن القدمين، فإذا لبس الجرموق وهو أكبر من الخف، أو لبس الموق وهو أكبر منه ويلبس عليه، فلا مانع أن يمسح عليه.
ثم جاء موضوع الجورب، فالشافعية يقولون: لا يمسح على الجورب إلا إذا كان صفيقاً منعَّلاً، ومعنى منعَّل: مجعول له نعل من الجلد من الأسفل ليشابه الخف في إمكان المشي عليه، وهم يتفقون ويقولون: كل ما أمكن تتابع المشي عليه جاز المسح عليه، ولكن تتابع المشي أين يكون؟ في الصحراء والخلاء، أم في البيوت؟ قالوا: في البيوت؛ لأن بعض الأماكن لا يصلح المشي عليه حتى بالحذاء الحديث، إذاً: ما يمكن تتابع المشي عليه بأن يمسك نفسه، بقينا الآن في الجورب غير المنعَّل، فعند الأحناف نوع من التوسعة في هذا الموضوع، فكل جورب لبس على القدمين يمسح عليه، والآخرون يقولون: لا.
الأصل في ذلك الخف، فما كان من جورب يأخذ صفات الخف -ولو من غير الجلد- يمسح عليه، سواء أكان من الصوف أو من الشعر أو من القطن، بل حتى قال النووي في وصف الخف: ولا يشترط فيه أن يكون ساتراً للبشرة، كما لو كان من زجاج مثلاً، فالزجاج يكون متيناً ويكشف ما تحته، فإذا كان نوع الخف كما هو الحال الآن من النايلون أو البلاستيك، وبعضهم قال: ولو كان من الخشب، الخشب لا يكشف ما تحته، ولكن يقولون: في عموم ما يلبس ويأخذ صفات الخف من أن صفاقته تمنع نشع الماء من خلاله إلى القدم؛ لأنه إذا كان خفيفاً رقيقاً شفافاً يوصل الماء إلى ما تحته ماذا أنت مسحت على الجورب، فعندها سيصل الماء إلى القدم، فتكون قد مسحت القدم، فإذا كان جاء الحكم إلى القدم فالقدم حكمها الغسل، وأنت هنا لم تغسل القدم وإنما مسحت الجورب، ولكن تعدى المسح إلى القدم، والقدم من حكمها الغسل، ولهذا يقال: جميع أنواع الأحذية التي يرتفع ساقها إلى ما فوق الكعبين -وهو موضع غسل القدمين في الوضوء- وكان صفيقاً متيناً جاز المسح عليه أياً كان نوعه، ولو قدِّر أن هناك لفافات متينة من الورق على شكل طبقات بعضها فوق بعض فإنه يجوز المسح عليها، أما إذا كان خفيفاً كبعض الجوارب الموجودة الآن، والتي يلبسها الناس في الصيف، بعضها يكون مخرقاً كالشبكة، وبعضها يكون رقيقاً جداً بحيث يكشف عما تحته، ولا يمنع من وصول الماء إلى القدم، فهذا ينبغي إلا يعول عليه، ولا يمسح عليه، والله تعالى أعلم.


الرد على من لم يشترط المدة في المسح
قال: [وعن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وعن أنس مرفوعاً: (إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة) أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه] .
هذا الحديث من أدلة مالك رحمه الله، عمر يقول موقوفاً عليه، وأنس يرفع القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر جاء موقوفاً عن عمر، وجاء مرفوعاً من طريق أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه توقيتاً، (إذا تطهر أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما، ولا ينزعهما إلا من جنابة) إلى متى شاء، فهذا الحديث موقوف على عمر رضي الله تعالى عنه، ومرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر التوقيت فيه، ويقال: إن تصحيح الحاكم في هذا الحديث ملاحظ عليه، وأنه لم يثبت عن أنس، كما يقال: إن عمر رجع عن هذا القول، وصار يقول بالتوقيت، ولكن الذي يهمنا هو وجود هذا الأثر، سواء كان موقوفاً على عمر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كما تقدم فقد رواه الدارقطني فقط، أما هناك فقد رواه أبو داود والنسائي، ورواه الأربعة، ورواه فلان وفلان فتلك أحاديث متعددة، وبروايات متعددة، وبأسانيد أقوى وأثبت من مجرد رواية الدارقطني، وعلى هذا -كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: إذا لم يمكن الجمع فيصار إلى الترجيح، وأحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة بالاحتياط في الدين.
لأن من مسح بصفة دائمة ولم يأخذ بالتوقيت، بينما الآخر آخذ بالتوقيت، فلو جئنا عند مناقشة المسألة فهل أحد يختلف في صحة صلاة الذي أخذ بالتوقيت؟ لا.
فالكل مجمع على صحتها.
لكن من أخذوا بالتوقيت هل يصححون صلاة من لم يأخذ بالتوقيت؟ لا.
إذاً: صلاته غير صحيحة ومختلف فيها عند الآخرين، والواجب على الإنسان أن يترك المختلف فيه، وأقل ما فيه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) .
قال: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما) أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة] .
يروي هذا الحديث أيضاً الدارقطني، ولكن صححه ابن خزيمة مضافاً إلى الدارقطني في أن أبا بكرة ينقل نفس الأثر، ولكن بالتوقيت، (ثلاثة أيام ولياليهن) و (يوماً وليلة) .
بالمناسبة: (أبو بكرة) بتسكين الكاف وبفتحها، فـ (البَكْرة) هي الناقة في أوائل شبابها، و (البَكَرة) هي الآلة التي يوضع عليها حبل الدلو لسحب الماء، واختلفوا في تسمية أبي بكرة، هل الصحيح (بكْرة) أم (بكَرة) ؟ وهذا الاختلاف حصل؛ لأنه كان من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف تدلى من سورها على بكرة، قالوا: جاء ببكَرة وحبل وربطها في السور ونزل بها إلى المسلمين، وقيل: نزل من على السور على ظهر بكرة كانت واقفة عند السور من الخارج، فكان الاختلاف في هذا اللفظ بسبب الاختلاف في صورة نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: [وعن أبيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم.
قال: يوماً؟ قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي] .
وهنا مربط الناقة! قال: (أمسح يوماً؟ قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) .
من أخرج هذا الحديث؟ أبو داود، وهو ناقد، فماذا قال عنه؟ ليس بالقوي.
فهل يا ترى نبني صلاتنا على ما ليس بالقوي، وأن نمسح ما شئنا بدون تحديد، مع أن الأصل ليس بقوي، أم نرجع للأصل القوي الذي صححه العلماء وهو التوقيت؟ بعض العلماء يناقش المسألة بصورة عامة، فقوله: (نعم، وما شئت) ، يقولون: هذا من باب التأكيد على الترخيص، وكما قال ابن قدامة: وما شئت بالتزام التوقيت، وهذا كلام لطيف، وقالوا: (نعم، وما شئت) نظيره: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنوات) ، فهل هناك من يعيش بغير ماء عشر سنوات؟ ماذا سيشرب أو يأكل؟ قالوا: هذا من باب تأكيد الترخيص؛ لأن التيمم طهارة ثابتة، ولو يستمر على ذلك عشر سنوات.
إذاً: قوله: (نعم، وما شئت) تأكيد للمسح بالأيام العديدة، وفي نظري لا يخلو الأمر من أحد أمرين؛ إما الرجوع إلى الترجيح كما قاله والدنا الشيخ الأمين: ووجدنا أحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة، واحتياطاً للصلاة، وبراءة للذمة، بخلاف القول بعدم التوقيت.
أو كما قال ابن قدامة رحمه الله، وقوله وجيه، (نعم، ما شئت) ، سنة سنتين امسح، ولكن هناك نقطة فهل نقول: (وما شئت) حتى لو كانت جنابة، أم أنه عند الجنابة سيخلع الخف؟ نقول: يوم يومان ثلاثة عشرة فهل يأخذ برخصة (نعم، وما شئت) على الإطلاق؟ يعني: إذا سافر ومسح على الخف في الصباح وأجنب في الظهر، فهل نقول له: وما شئت، أم يخلع؟ نقول: يخلع.
إذاًَ: إذا كانت الجنابة ستجعله يخلع، فنقول: مضي التوقيت أيضاً يجعله يخلع.


مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف
هناك مباحث عديدة في المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف، ولابد للإنسان أن يأخذ فكرة عنها:


حكم المسح على الخف الممزق
أولاً: إذا كان الخف ممزقاً وفيه خروق، فهل يصح المسح عليه، أم لابد من خياطة هذه الخروق أولاً؟ الجمهور على صحة المسح عليه، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله لو كانت تلك الشقوق أو الخروق في مجموعها تزيد على ربع الخف فلا يصلح المسح، والآخرون يقولون بعدم التحديد، وابن تيمية رحمه الله يقول من ناحية عقلية: هل كانت خفاف الصحابة كلها جديدة وليس فيها خروق، أم حسب ما هو معتاد خاصة بالنسبة للحالة الاقتصادية لكثير منهم؟ ويمكن أن يدعي إنسان أن جميع خفافهم كانت جديدة، فنقول: كان عمر يرقع قميصه أربعين رقعة، إذاً: الواقع الطبيعي لحياتهم يعطينا فكرة أنه لابد أن تكون بعض خفافهم مخرقة، وكانوا يمسحون عليها، فما دام الخف متماسكاً على القدم يجوز المسح عليه.


متى تبدأ مدة المسح؟
ثانياً: إنسان توضأ ومسح فله يوم وليلة، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة، من لبسه عند وضوئه، أم من حدثه بعد الوضوء، أم من مسحه بعد الحدث؟ فإذا توضأ للصبح ولبس الخف في الصبح، وصلى الصبح بالوضوء الذي لبس به الخف، وبقي على وضوئه من صلاة الصبح إلى الظهر، وصلى الظهر بوضوء الصبح، وأحدث قبل العصر، فهل يا ترى! يحسب الوقت من وقت ما لبس فينتهي بصلاة الصبح من الغد أم من بعد الظهر حينما أحدث؟ أم منذ توضأ بعد دخول العصر ومسح.
فعندنا هنا ثلاثة أوقات: من حين لبس في الصباح، ومن حين أحدث بعد الظهر، ومن حين مسح بعد دخول وقت العصر، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة؟ المشهور أنه يبدأ من أول مسحة، يعني: من بعد دخول وقت العصر، والمدة التي فاتت هي على حساب الوضوء الأول؛ لأنه أمره أن يمسح يوماً وليلة، فلو اعتبرنا ما قبل المسحة الأولى نكون قد أعطيناه أقل من يوم وليلة، لا يوماً وليلة؛ لأن هناك من يقول: من حين أحدث وبطل الوضوء الأول، والقول المشهور: من أول مسحة يمسحها.


مسألة: هل انتهاء مدة المسح ناقض للوضوء؟
إذا اعتبرنا بداية اليوم والليلة من بعد العصر، له أن يمسح إلى أن يأتي الظهر من اليوم التالي، أو إلى قبيل العصر للنوافل، فلو مسح قبل العصر وقبل إتمام الأربع والعشرين ساعة، فبعد العصر يكون خرج عن المدة أم لا؟ خرج.
هو على وضوئه، فقد توضأ قبل العصر وبقي على وضوئه لم ينتقض وجاء العصر، فهل يصلي العصر الواقع بعد اليوم والليلة بهذا الوضوء الذي وقع بالمسح خلال اليوم والليلة، أم أنه بانتهاء التوقيت يكون قد انتهى الوضوء؟ هناك من يقول: يصلي؛ لأنها طهارة مكتملة ولم يأت ما ينقضها، وهو قول الحسن البصري، فيصلي إلى أن ينتقض وضوءه الأخير، أما الجمهور فيقولون: المسح رخصة، إلى وقت محدد، فلما انتهى الوقت انتهت الرخصة.
أنت حين تأخذ تأشيرة للسفر إلى بلد -وانتهت مدة التأشيرة- وأنت على أهبة السفر، خرجت -مثلاً- من بلدك متوجهاً إلى لندن ونزلت في عدة مطارات، فلما وصلت إلى لندن كانت التأشيرة قد انتهت بالأمس، بينما أنت انتقلت من بلدك منذ عدة أيام، فهل سيتغاضون عن الأيام السابقة، أم سيقولون لك: انتهت التأشيرة، وعليك أن ترجع؛ لأنك تحتاج إلى تأشيرة جديدة؟ فالجمهور يقولون: إذا كان على وضوء قبل مضي المدة، ثم دخلت صلاة بعد خروج المدة المحددة فلا يصليها بذاك الوضوء.
فإن قيل: هو لم ينتقض وضوءه.
قالوا: لكن المدة انتهت، وأبطلت المسح الذي مسحه أثناء المدة.
ولتلخيص ما سبق نقول: بدأت المدة من أول المسح، وتنتهي مدة المسح وصلاحيته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا توضأ ومسح بعد ثلاث وعشرين ساعة، فهل يكون مَسَح في المدة أم لا؟ يكون مسح في المدة، فجاء بعد سبع وعشرين ساعة ليصلي، ووضوءه الذي كان قبل بضع ساعات لا زال باقياً لم يطرأ عليه ما ينقضه، أيصلي بعد خروج المدة بثلاث ساعات بذاك الوضوء السابق في المدة، أم لا يصلح ذاك الوضوء للصلاة؟ هناك من يقول - كـ الحسن البصري -: يصلي ما شاء ما دام وضوءه لم ينتقض؛ لأنه وضوء صحيح بمسح صحيح في وقته.
والجمهور يقولون: لما انتهت المدة انتهت الرخصة.
وهذا يشمل المسح سواء كان في مدة السفر أو في مدة الحضر، ولو توضأ ولبس الخف -وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق- وقبل أن يحدث خلع الخفين، ثم لبسهما مرة أخرى قبل أن يحدث، فهل يمسح عليهما أم لا؟ يمسح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فلو توضأ لصلاة المغرب وصلى بوضوء المغرب العشاء وغسل القدمين عند وضوئه للمغرب، وذهب إلى المسجد وصلى العشاء، فلما دخل البيت لبس الخفين -خوفاً من البرد عند صلاة الصبح- وهو على طهره من المغرب، فلبس الخفين بعد صلاة العشاء، فهل هذا اللبس صحيح أم باطل؟ صحيح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فإذا جاء الصباح وانتقض الوضوء بالنوم أو بغيره يمسح على الخفين؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، إذاً: ليس بشرط أن يكون لبس الخفين عقب غسل القدمين في الحال، فما دام على طهره الأول ولو طال الزمن ولبس الخفين وأدخلهما طاهرتين، فله أن يمسح عليهما.
وإذا لبس الخفين على طهارة وطال الزمن، ثم انتقض وضوءه، ولم يكن قد مسح على الخفين قبل ذلك، فخلع الخفين، هل يلبسهما على ما كان عليه، أم يستأنف وضوءاً جديداً؟ يستأنف وضوءاً جديداً.
فإذا كان قد توضأ ثم انتقض وضوءه ومسح على الخفين ثم خلعهما بعد أن مسح عليهما مسحة، حينما خلعهما أيعود للبسهما، أم يجدد الوضوء؟ يجدد الوضوء؛ لأن الوضوء قد انتقض، والوضوء الموجود الآن بمسحة، والمسحة يشترط فيها طهارة القدمين دائماً، فلما خلعهما انتفت رخصة المسح وعليه أن يستأنف وضوءاً جديداً.
وهناك من يقول: يغسل قدميه فقط، ولكن الجمهور على أن الطهارة لا تتجزأ، فعليه أن يستأنف وضوءاً من جديد.