شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [1]
معرفة نواقض الوضوء مهمة لكل مسلم، حتى لا تفسد عبادته وهو لا يشعر، ولهذا كانت الطهارة من أهم الأشياء في حياة المسلم، سواء كانت طهارة معنوية وهي طهارة القلب، أو طهارة حسية وهي طهارة البدن، فواجب على كل مسلم أن يعرف الطهارة وشروطها ونواقضها حتى تكون عبادته صحيحة.


انتقاض الوضوء بالنوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم.
نأتي إلى المسألة الأولى التي صدر بها المؤلف هذا الباب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم) .
الخفق: هو ميلان الرأس على الصدر في أول النعاس، فإذا كان الإنسان جالساً ثم أتاه النعاس فإنه يخفق برأسه ويميل، فإذا مال رأسه ينتبه حالاً، وهذه هي حالة أوائل النعاس، وفي أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض الليالي متأخراً في ثلث الليل، وقد نام ونعس بعضهم، وأخذت رءوس بعضهم تخفق، وهذه الألفاظ جاءت في حديث ابن عباس في خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وفيه أنه قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق عليكم، إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض مثلكم) أي: أنكم على طهارة وتنتظرون الصلاة ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر الصلاة مثلكم، فكان في هذا تسلية لهم عن تأخير الصلاة، وبياناً منه صلى الله عليه وسلم أن الأفضل في وقتها التأخير، ولكنه قال: (لولا أن أشق) ، فرفع المشقة هو الذي جعل التبكير بصلاة العشاء.
وفي مسألة النوم نجد كما يقول الشراح ومنهم ابن حجر والنووي كما في شرح مسلم، ونقل ذلك عنه الشوكاني يقولون: في هذه المسألة ثمانية أقوال: فهناك من يقول: مطلق النوم ناقض، وهذا مبني على أن النوم بذاته حدث، وصاحب هذا القول كـ الحسن البصري ومن وافقه لا يراعي أي حالة ولا صفة للإنسان عند نومه، لا قليلاً ولا كثيراً، مطلق النوم عندهم إذا خامر رأس الإنسان فقد انتقض وضوءه، وعليه أن يتوضأ؛ واستُدل على ذلك بإجماع المسلمين على أن غيبة العقل بسكر أو بمخدر أو بإغماء أو بأي سبب من الأسباب فإنه يتوضأ صاحبه بجميع الأقوال، ولا يخالف في ذلك أحد؛ لأن العقل يغيب عن الحس والإدراك، فقالوا: وكذلك النوم، فإن النوم يجعل صاحبه غائباً عن الحس.
القول الثاني: مقابل لهذا: وهو أن النوم بذاته ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، كما سيأتي الحديث في ذلك، وكان من الأنسب أن يقدمه المؤلف هنا، وإنما أخره إلى ما قبل آخر الباب بحديث واحد، وهو حديث معاوية وعلي مرفوعاً: (العين وكاء السه -والسه: اسم لحلقة الدبر- فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) يعني: أن الإنسان ما دام مستيقظاً فالسه مربوط، والوكاء هو: الرباط، ووكاء القربة هو الذي يربطها حتى لا يتدفق الماء منها، فكذلك العين هي وكاء السه، وإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فيخرج ما في تلك القربة وهو لا يشعر.
إذاً: من منطوق هذا الحديث: (العين وكاء السه) ، وأحاديث أخرى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ذكروا في هذه المسألة عدة أقوال: القول الأول: مطلق النوم ينقض، وهذا على أن النوم ناقض بذاته.
والقول الثاني: قول الجمهور: وهو أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر، ثم اضطجع ونام، ثم جاء المنادي لصلاة الصبح، فقام وصلى الصبح ولم يتوضأ.
فقلت له: يا رسول الله! أتصلي وقد نمت؟! فقال: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فعلى هذا إذا استطلق وكاء فهناك وكاء آخر؛ لأن القلب يقظان في حقه صلى الله عليه وسلم، فلو أنه اعتبر النوم بذاته حدثاً لكان عليه أن يتوضأ، ولكنه اعتبر أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وأنه يقظ بقلبه، فلو كان قد حدث حدث أثناء نومه لشعر به؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة مبيته عند خالته ميمونة، قال: (فقام صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فتوضأ فصلى) يعني: بأنه نام وأدرك بأنه أحدث فقام وتوضأ وصلى.
وعلى هذا: إذا كان النوم هو مظنة الحدث فأي أنواع النوم هو المقصود؟ فيه ثمانية أقوال -كما ذكرها الشوكاني وذكرها قبله النووي في شرح مسلم- وكلها تدور حول نقطة واحدة، وهي: تحقيق المناط في أنه قد حصل نوم فعلاً.
فهناك من يقول: من نعس -والنعاس أوائل النوم- وهو جالس فلا وضوء عليه؛ لأن جلوسه يجعله متمكناً ولا يخرج منه شيء إلا إذا شعر به.
وهناك من يقول: إن من نام مضطجعاً واتكأ على جنبه وتمدد فعليه الوضوء؛ لأنه إذا نام متمدداً مضطجعاً فليس هناك ما يمنع خروج شيء من مخرجه؛ لأن الحال أنه نائم.
وهناك من يقول: من نام في الصلاة فلا وضوء عليه؛ لما جاء في بعض الآثار: (إن العبد إذا نام وهو ساجد يقول الله تعالى لملائكته: انظروا عبدي، روحه عندي وجسده بين يدي) فقالوا: (نام وهو ساجد) ، أثبت له النوم وهو ساجد وأثبت له صحة السجود.
وكذلك إذا نام وهو راكع، أو نام وهو جالس يتشهد، أو نام وهو قائم يقرأ، قالوا: كل نوم في الصلاة لا ينقض الوضوء ولماذا لا ينقض؟ قالوا: لأن النوم يكون خفيفاً، فإذا كان النوم ثقيلاً خرج عن هذه الصورة، ولذا عند مالك رحمه الله: أن الإنسان إذا نعس وهو قائم أو راكع فإنه لا ينتقض وضوءه، وأما إذا نعس وهو ساجد فينتقض.
وما الفرق بين السجود والركوع؟ قال: إن نام الإنسان وهو راكع فيحتاج إلى إدراك وإحساس يحفظ به توازنه، وأما إذا كان ساجداً فهو يسجد على أربعة أطراف، ومهما أخذه النوم وأغرق فيه فإنه لن يسقط؛ لأنه متمكن على أربعة أطراف.
إذاً: النوم في الركوع لا يكون ناقضاً لخفته، والنوم في السجود يكون ناقضاً لتمكن صاحبه من عدم السقوط، وكل ذلك راجع إلى تحقيق المناط في حصول النوم.
وقد جاء عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الظهر ونام، وأصحابه حوله إلى أن أُذن للعصر فأيقظوه، فسألهم: هل سمعتم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: أشممتم ريحاً؟ قالوا: لا، فقام فصلى؛ وهذا بناء على أن العين وكاء السه، وأن هناك حراساً، فلما لم يسمعوا شيئاً ولم يشموا ريحاً تأكد بأنه لم يحدث في نومه وإلا لأخبره أصحابه بذلك.
وعلى كل فتلك الأقوال الثمانية بالصور المختلفة في حقيقة النوم إنما ترجع إلى تحقيق المناط في أن النائم قد استغرق في النوم، بحيث لو خرج منه شيء لم يشعر به، إلا صورة واحدة عند الشافعي وهي: ما لو جلس ممكناً مقعدته من الأرض بحيث لا تسمح بخروج شيء، ولو استغرق في النوم ورأى المنامات فإنه لا ينتقض وضوءه.
إذاً: هل النوم من حيث هو ناقض بذاته أو أنه مظنة حدوث الناقض؟ الحسن ومن وافقه قالوا: هو ناقض بذاته؛ بناءً على أن زوال العقل بالأسباب الأخرى ناقض إجماعاً، والجمهور على أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وإنما هو مظنة حدوث الحدث الذي ينقض الوضوء، ومتى يكون مظنة ذلك؟ يرجع هذا إلى تحقيق المناط في أنه نام إلى الحد الذي لو خرج منه ريح لم يشعر به، وهذا أيضاً هو رأي الجمهور.
والله تعالى أعلم.


الاستحاضة وأحكامها
قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي) وللبخاري: (ثم توضئي لكل صلاة) وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً] .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش.
وفاطمة هذه كانت إحدى ثلاث كن يستحضن بالإضافة إلى حمنة وأخرى، والاستحاضة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم قد تلتبس على المرأة بالحيضة.


أقسام الدماء عند النساء
والدماء الخارجة من النسوة: إما دم حيض، وإما دم نفاس، وإما دم استحاضة.
ودم الحيض كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دم أسود يُعرَف أو يعرِف، يُعرَف من المعرفة، ويعرِف من العرف وهو الرائحة، أي: أن له رائحة تعرفها النسوة.
وسبب الحيض -كما يقال- هو دورة الرحم، وللرحم دورتان: دورة شهرية، ودورة سنوية، فالدورة الشهرية هي دورة الحيضة، والدورة السنوية هي النفاس، وقد يكون نفاس بلا دم وتسمى (الجفوف) .
فإذا جاءت الحيضة ثم تواصل الدم بعدها فهذا الدم الزائد عن الحيضة يسمى (استحاضة) .
فلما قالت: (إني أستحاض) عرفت أنها ليست بحائض، ولكنها ظنت أن استمرار دم الاستحاضة يجعلها غير طاهرة، فسألت: أأترك الصلاة في هذه الحالة؛ لأني (أستحاض فلا أطهر) أي: لا يقف الدم؟ أجابها صلى الله عليه وسلم وقال لها: (لا؛ إنما ذلك عرق) أي: لا علاقة له بالطهر وعدم الطهر؛ ولذا نجد في القرآن الكريم -كما يقال- درس الألفاظ قال تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] فطهر المرأة ليس بيدها كما هو الاغتسال، ولذا قال: ((يطهرن)) ؛ لأنه رفع الدم، وقال: ((فإذا تطهرن)) وزاد في الأحرف؛ لأن التطهر هو حركة الماء والغسل والتدليك، وهذا بيد المرأة، فهنا أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة -لأنك غير طاهرة- وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم -أي: دم الحيضة- واغتسلي وصلي) أو (توضئي وصلي) جاءت ألفاظ عديدة في هذه القصة.
والجمهور يقولون: إذا كان أول مجيء الحيض فإنها تعرفه، ولذا قال: (إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة) وهذا الإقبال معروف، ولكن إذا أدبرت فكيف تعرف أنها قد أدبرت والدم متواصل؟ فأجابوا وقالوا: قد بين لها صلى الله عليه وسلم وأرشدها إلى أمور عديدة، وهي: إما أن يكون الدم متغيراً، بأن يكون دم الحيض أسود يعرف، وبعد انتهائه يكون دم العرق أحمر صافياً، أو أن يكون دم الحيض ليس أسود، بل عادياً، فترجع إلى أيام حيضتها قبل الاستحاضة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فتربصي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) فإذا كنت تحيضين في الشهر أربعة أو خمسة أيام فأمسكي عن الصلاة أربعة أو خمسة أيام، فإذا تعدت المدة التي كنت متعودة عليها فاغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي، ولوكان الدم يجري؛ لأنه بعد مضي مدة حيضتك التي تعودتها يكون الدم خارجاً باستحاضة.
وأما إذا كانت المرأة قد نسيت حيضتها، أو كانت في أول أمرها والتبس عليها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحيضي كما تحيض النساء في علم الله سبعة أيام أو ستة أيام، ثم اغسلي عنك الدم واغتسلي وصلي) .


أكثر الحيض وأقله والخلاف في ذلك
قال الفقهاء: الحيض له أقله وأكثره، والطهر بين الحيضتين له أقله، ولا حد لأكثره، فيقول الفقهاء: إذا رأت الدم أقل مدة الحيض فلتمسك عن الصلاة والصيام إلى أكثر مدته عندهم، فإن تجاوزت أقصى مدة الحيض عندهم فعليها أن تغتسل وتصلي وتعتبر الزائد استحاضة.
فما هو أقل الحيض وما هو أكثره؟ المسألة فيها خلاف، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، فإذا رأت الدم ليوم فيقول: هذا دم فاسد، ويلزمها الصلاة عند ذلك، وهكذا إذا رأته ليومين، فإذا كان ثلاثة أيام فهو حيض عنده.
وعند الشافعي وأحمد: أقل مدة الحيض يوم وليلة، فإذا رأت المرأة الدم يوماً وليلة فهو حيض، ولا يصح لها أن تصوم ولا أن تصلي، فإذا ذهب عنها الدم اغتسلت، ولو رأت الدم أقل من يوم وليلة قلنا لها: هذا دم فاسد؛ لأنه لم يكتمل أقل مدته.
وعند مالك رحمه الله - تفصيل بين العبادات والعدة، فقال في حق العبادات: يكون الحيض إذا رأت الدم ولو لحظة، بمعنى: لو أن المرأة رأت الدم في نهار رمضان خمس دقائق، ثم ارتفع عنها ولم تره إلى المغرب قال: فسد صومها وعليها قضاؤه.
وكذلك: إذا رأته في وقت المغرب ولم يرتفع عنها حتى طلع الفجر، فهذا أقل من يوم وليلة، فتسقط عنها صلاة المغرب والعشاء، وهكذا اعتبر الحيض بالنسبة للعبادات بمجرد رؤية الدم ولو لحظة.
أما إذا كانت مطلقة وتعتد بالحيض فلا تكون الحيضة المعتبرة في العدة إلا بيوم وليلة.
وعلى هذا فقد اختلفوا في أقل مدته، فمن رأت الدم أقل من أقله فهو دم فاسد، وإذا رأته لأقله فهي حيضة معتبرة، لا تصلي ولا تصوم.
وأما أكثره فهو عند أكثر الأئمة خمسة عشر يوماً.
وعلى هذا إذا استمر الدم أكثر من خمسة عشر يوماً قيل لها: ما زاد عن أكثره فإنه استحاضة، فعليك عند آخر اليوم الخامس عشر، أن تغسلي ثم بعد ذلك يعتبر ما زاد عن هذه الفترة استحاضة تصلين وتصومين معها.
وسيأتي زيادة توضيح لما يتعلق بالحيض والاستحاضة، ويهمنا في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبره ناقضاً، وأمرها بالوضوء لكل صلاة.
وسيأتي النقاش أيضاً في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ لأن في بعض الروايات (توضئي لكل صلاة) وفي بعضها: (اغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي) فكانت تغتسل لكل صلاة، وقيل: كانت تجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً باغتسال في كل أوقاتها، وسيأتي تحقيق ذلك في باب الحيض.
إذاً: ما خرج من السبيلين على غير هيئة معتادة كسلس الدم باستحاضة، أو سلسل البول من الرجل أو المرأة، أو سلسل الريح: وهو أن يخرج بدون تحكم من صاحبه بل يغلبه عليه، فإنه يتوضأ عند دخول الوقت لكل صلاة، فإذا خرج بعد ذلك وهو على غير حالة معتادة، وبغير اختيار منه يكون قد انتقض وضوءه، وعليه وضوء آخر.


حكم السائل الذي يخرج من الفرج
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: فيه الوضوء) متفق عليه واللفظ للبخاري] .


صفة المذي وحكمه
يقول المؤلف رحمه الله: (وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أخرى: (فأمرت بلالاً) وهناك رواية أخرى دون ذكر علي (أن المقداد سأل رسول الله عن المذي) ، وفي رواية لـ علي قال: (كنت رجلاً مذاءً فكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، واستحييت أن أسأل رسول الله لمكانة ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء) وفي بعض الروايات: (توضأ وانضح فرجك) وبعض الروايات: (واغسل ذكرك وأنثييك) .
وإلى هنا يتفق العلماء بلا نزاع على أن في المذي الوضوء، وأنه ناقض للوضوء كالبول.
وقوله: (مذاء) مذاء على وزن فعّال (صيغة مبالغة) أي: كثير المذي.
والماء الذي يخرج من الرجل وكذلك المرأة خلاف البول: المني، والودي، والمذي، وتزيد المرأة على الرجل بماء قبل الولادة يسمى (الهاد) أي: الهادي إلى أوائل الولادة.
ويتفقون على أن المذي هو عن طريق المني، لكنه لم ينضج ولم يكتمل حتى يصير منياً يخرج دفقاً، ولكنه يخرج بدون دفق كما يخرج غيره، وهو لا يكون إلا عند الشباب في كمال الصحة.
وسببه: إما اشتغال الفكر وإما وقوع النظر -يعني: بسبب حركة نفسية جنسية- وهو دون الملامسة، أو حصلت ملامسة ولكن لم يحصل هناك دفق للمني.
ولونه ولون المني سواء، فيه مادة لزجة، والمذي يتفقون على أنه نجس كالبول يجب غسله.
وبقي الخلاف في الألفاظ التي جاءت مع الغسل، فقوله: (وانضح فرجك) النضح: قد يطلق على الغسل، ومنه الحديث: (ويغسل أنثييه) وبعض العلماء يقول: (انضح فرجك) يعني: محل خروج المذي كما يغسل محل خروج البول.
والآخرون يقولون: (انضح فرجك) أي: كامل العضو.
وكذلك الأنثيين مع الذكر، والذين قالوا بهذا قالوا: إن الأمر بغسل هذه الأعضاء راجع إلى حالة صحية للإنسان؛ لأن المذي طريقه طريق المني إلا أنه لم ينضج، والمذي يخرج خروجاً عادياً، وأهم أعضاء خروج المني بالنسبة للرجل هي أنثياه مع فرجه، فقد تكون هناك إثارة جنسية كان مقتضاها خروج المني، ولكن جاء مانع منع خروج المني ففتر، وتغير الحال في مجراه ولم يصل الماء إلى درجة المني وبقي مذياً.
تلك الأعضاء يقولون: يحصل لها تفاعل، فإذا ما تركت ربما يحصل هناك التهاب كما يحدث لكثير من الشباب، يكون في حالة احتلام فيستيقظ ولم يستكمل خروج الماء منه فيحصل عنده التهاب؛ بسبب عدم استكمال خروج هذا الماء من مكانه، فقالوا: في غسل الذكر والأنثيين تلطيف لهذا المحل يجنب صاحبه الالتهابات أو الأخطار الصحية التي قد تنتج بسبب عدم اكتمال المني وخروجه.
إذاً: الغَسل هنا ليس له علاقة بالنقض ولكن له علاقة بصحة الإنسان، والذين قالوا: هو أمر تعبدي يغسل مع الوضوء قالوا: سواءً قبل الوضوء أو بعده بشرط إذا كان بعد الوضوء: أن يكون على اليد حائل، ولا حاجة إلى هذا كله، وإنما يغسل المحل، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة.
إذاً: المذي ناقض للوضوء وليس فيه غسل، وحكمه حكم البول في وجوب غسله.


صفة الودي وحكمه
أما الودي: فهو ماء أبيض ثقيل، غالباً يأتي في حالات الإمساك عند قضاء الحاجة، ولعل السبب في ذلك هو ضغط الإمساك على البروستاتا عند الرجل، فيكون هناك إفراز مثل هذا الماء، وهو كذلك كالمذي لكن ليس فيه الأمر بغسل الأنثيين؛ لأنه لا علاقة له بالأنثيين، وإنما يخرج في حالة وجود إمساك عند الإنسان، ويخرج قبل خروج الإمساك أو في عقبه، وهذا الماء حكمه أيضاً كحكم البول، أي: أنه نجس يجب غسله من الثوب والاستنجاء منه، والوضوء بسببه.


كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [2]
مس المرأة وتقبيلها وأثر ذلك على الوضوء والصيام من المسائل المهمة التي ينبغي على المسلم معرفتها، حتى يبني عبادته على علم ويقين، وحتى لا يشك أو يشكك في أدائه لهذه العبادات.


الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) أخرجه أحمد وضعفه البخاري] .
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) .
قولها: (بعض نسائه) جاء في بعض الروايات أنها هي المعنية ببعض نسائه، كما جاء في بعض الروايات أن الذي أخبرته قال: (ومن هي إلا أنت؟ فضحكت) فهذا يدل على أنها المعنية، فتكون قد أخبرت عن نفسها، وهذا مما يزيد الخبر قوة ثبوت لعدم وجود الواسطة.
وجاء عنها رضي الله تعالى عنها في تقبيل الرجل امرأته: (أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم) فتعددت الروايات عنها في تقبيله صلى الله عليه وسلم إياها تارة في الصيام، وتارة من أجل الوضوء، فصلى ولم يتوضأ.


حكم تقبيل الصائم لزوجته وما يترتب عليه
أما قبلة الرجل لزوجه وهو صائم فيتفقون على أن القبلة من حيث هي لا تبطل الصوم، ولكن يخاف أن يتطور الأمر إلى ما يبطله؛ ولذا فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في تقبيل زوجه وهو صائم، ومنع الشاب من التقبيل وهو صائم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم تقول: (وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟) أي: أنه كان باستطاعته أن يملك نفسه فلا يتطور أمر التقبيل إلى ما وراءه باختياره أو باضطرار عليه.


الخلاف في انتقاض الوضوء بمس الرجل للمرأة
والذي يهمنا في هذه الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو خارج إلى المسجد، ولم يتوضأ، وصلى بالوضوء الذي كان عليه قبل أن يقبلها، وهذا الحديث هو أصل الأحاديث النبوية في قضية الوضوء من لمس المرأة أو عدم الوضوء منه.
وهناك أحاديث أخرى نرى المؤلف قد أعرض عنها، وإذا نظرنا إلى الأصل: فإنه إذا توضأ الإنسان وثبت الوضوء فهو يستصحب الأصل، وما كان ناقضاً فهو خلاف الأصل؛ إذاً: الأصل في المتوضئ أن يبقى على وضوئه حتى يأتي ما يبطل هذا الوضوء، ولكن المؤلف ساق هذا الحديث من أجل أن يبين أن من قال: في تقبيل المرأة الوضوء، مستنده على هذا الحديث، والقضية من حيث هي من المسائل التي يمكن أن يعتبرها طالب العلم نموذجاً لخلاف الأئمة الأربعة، وهذه المسألة لها أصل في كتاب الله وذلك في قوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فهذه الآية الكريمة ربطت مجيء الأحد من الغائط بملامسة النساء، والغائط في اللغة هو: المكان المنخفض، وسمي قضاء الحاجة باسم المكان؛ لأن الغالب في حق من أرد قضاء حاجته في الخلاء أنه لا يطلب مكاناً بارزاً يكون كالنار على علم، بل يطلب مكاناً منخفضاً حتى لا يراه أحد، فسمي الآتي من الغائط كناية عن أنه قضاء حاجته هناك، فأصبح الغائط حقيقة عرفية لا لغوية في من يقضي حاجته بغائط أو بول، حتى الخارج من أحد السبيلين يسمى غائطاً، باسم المكان الذي يُقضى فيه.
وقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] قالوا: ملامسة النساء مقترنة بالمجيء من الغائط، والمجيء من الغائط كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وقضاء حاجة الإنسان فيها الوضوء بالإجماع، فيكون ((لامستم النساء)) فيها الوضوء كالغائط.
وهنا يقع الخلاف في المراد بـ (لامستم) فمن قائل: هو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، ومن قائل: إن الملامسة هي: كناية عن الجماع، وكما كني عن الخارج من الجسم بمكانه كني عن الجماع بالملامسة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن الله حيي كريم يكني ولا يسمي) .
وقد جاء في الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] ، وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] والرفث في الحج: كلام باللسان ويتناول أيضاً الجماع ويفسد الحج، ومثله في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] فهو أي: الرفث المداعبة والملامسة وكذلك يراد به الوطء الذي كان ممنوعاً.
إذاً: (لامس) هناك من يقول: إن لامس (فاعل) من طرفين، كما تقول: قابل زيد عمراً، وزاحم زيد عمراً، فتكون هذه المادة مفاعلة من طرفين لا من طرف واحد، فيكون المراد بها الجماع، وتكون الآية شملت المريض والمسافر والذي جاء من الغائط والذي كان به جنابة ولم يجد ماءً أن يتيمم.
والآخرون قالوا: إن (لامس) بمعنى اللمس.
والملامسة هنا تكون بمجرد لمس البشرة لوجود قراءة أخرى سبعية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ} [النساء:43] فقالوا: القراءتان سبعيتان صحيحتان، وتفسر إحداهما الأخرى، فـ (لامستم) التي تدل على المشاركة تفسرها (لمستم) التي ليس فيها مشاركة، كما يقال: لمست الجدار، أو لمست الدابة، أو لمست الكتاب، ويكون هذا من جانب واحد.
إذاً: المسألة مبناها من الكتاب على الاختلاف في مدلول (لامس) أو (لمس) ، وعندنا في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لـ ابن تيمية رحمه الله؛ كتاب لا أعتقد أنه وجد في موضوعه ولا في بابه نظيره أبداً، ذكر أسباب الخلاف بين الأئمة، والخلاف الذي لا ينبغي أبداً الاعتراض عليه لوجود أسبابه شرعاً وذكر عشرة أسباب منها: الاختلاف في فهم النص، أو بلوغ النص لمن لم يبلغه، أو صحة النص عند شخص وعدم صحته عند غيره، أو سلامته من معارضة أو عدم معارضته.
إلخ، وهنا وقع الاختلاف في فهم (لامستم) ، وقد بحث هذه المسألة ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار وأطال فيها، ونقل الآثار عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وعن التابعين وعمن قال بذلك.
ونأتي إلى المسألة كتطبيق علمي شرعي لمسألة اختلف فيها الأئمة لنرى المنهج السليم في تحقيق مسائل الخلاف، والنتيجة بترجيح ما صح ترجيحه.
فنأخذ المسألة من جهة الأئمة رحمهم الله، ونتتبع في ذلك (أقوالهم) : نجد الشافعي رحمه الله يقول: (لامستم) بمعنى لمس، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] ، وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] جاءت (مس) بمعنى الجماع، وجاءت (لمس) بمعنى المقاربة أو الملاقاة، فهنا جاءت (لمس) و (لامس) وكل منهما في مكانها، فيقول الشافعي رحمه الله: مجرد التقاء بشرة رجل بامرأة بأي حالة أو على أي كيفية ذاكراً أو ناسياً أو قصداً أو بدون قصد، حدثت شهوة أو لم تحدث، والمراد بملامسة البشرة للبشرة سواء بكف اليد أو بظهرها، بالذراع أو بالفخذ أو بالقدم، أي مطلق لمس الرجل للمرأة يكون ناقضاً، هذا قول الشافعي.
نجد في مقابل هذا القول: ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا وقع لمس الفرج بالفرج وليس هناك إيلاج كان فيه الوضوء، وما عدا ذلك من قبلة أو لمس أو جس بشهوة أو بغير شهوة فلا وضوء فيه.
إذاً نستطيع أن نقول: الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: كل لمس بأي صفة لا وضوء فيه، وهذا القول مقابل لقول الشافعي رحمهما الله، فهذا يقول: مطلق اللمس ناقض، وهذا يقول: كل اللمس ليس بناقض، وأعتقد أنه خلاف قوي.
وأما مالك وأحمد رحمهما الله: فاتخذا طريقاً وسطاً وقالا: اللمس الذي يكون ناقضاً هو اللمس بشهوة، واللمس العادي العابر عمداً أو سهواً هذا ليس فيه شيء وليس بناقض.
إذاً: هذا القول وسط بين قول من ذهب في طرف الإيجاب ومن ذهب في طرف المنع.
والخلاصة: أن عندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بالإيجاب مطلقاً، وقول بالمنع مطلقاً، وقول بالوسط، والقول الوسط تحقيقه عند المالكية والحنابلة: إن قصد اللذة ولو لم يجدها، أو لم يقصد اللذة ولكن وجدها، فهذا هو الناقض عندهم.
بم استدل الشافعي رحمه الله؟ وبم استدل أبو حنيفة رحمه الله؟ وبم يجيب كل منهما على دليل الآخر لأنه مناقض لقوله؟ وما هو موقف الإمامين مالك وأحمد بين الطرفين؟


كيفية الترجيح في المسائل الخلافية
ونحن سبق أن قررنا بأن المسائل الخلافية لا يتأتى تحقيق الأمر فيها إلا بأربع خطوات: الخطوة الأولى: إدراك الخلاف على ما هو عليه الآن: فـ الشافعي يقول: المس ينقض الوضوء.
وأبو حنيفة يقول: لا ينقض، ومالك وأحمد يفصلان.
الخطوة الثانية: معرفة دليل كل قائل، فنعرف الدليل الذي استدل به، ثم نعرف دليل أبي حنيفة، ثم نعرف دليل مالك وأحمد، ونترك دليل كل قول عند صاحبه.
الخطوة الثالثة: نأتي ونتساءل: الشافعي حينما يرد على أبي حنيفة في استدلاله بعدم النقض، هل لديه شيء يرد به عليه؟ وأبو حنيفة هل عنده شيء يرد به على الشافعي على ما استدل به من عموم النقض؟ إن وجدنا رداً ونقداً من الشافعي لـ أبي حنيفة وكان مقبولاً قبلناه، وإن وجدنا رداً من أبي حنيفة لأدلة الشافعي، وكان مقبولاً قبلناه، وكذلك نقول لـ مالك وأحمد: ما دليلكما على أدلة الشافعي وأبي حنيفة؟ فإن وجدنا عندهما أدلة تكفي أخذنا بها، وإذا لم نجد في أقوال بعضهما في أدلة البعض الآخر ما يمكن أن يؤخذ به تركناه.
فإذا تعادلت جهات الخلاف باعتدال وتوازي أدلتها تركناها معلقة، وذهبنا نطلب الترجيح من خارج تلك الأدلة إن وجدنا.
وطرق الترجيح كثيرة كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الترجيح بحر لا ساحل له.
ولهذا يقول الشافعي: لا ينبغي لأحد أن يعترض على أحد رجح عنده حكم لم يرجح عنده هو؛ لأن لديه من المرجحات ما ليست عندك، ولو فرضت رأيك وكانت المسألة إلزامية ليس رأيك بأولى أن نفرضه من رأي الآخر، فمثلما تود أن تفرض رأيك فالآخر يود أن يفرض رأيه، والمسألة بالأدلة.
إذاً: نخطو تلك الخطوات لتصور الخلاف، وهذه المسألة قد اخترناها فعلاً في كتاب: (موقف الأمة من اختلاف الأئمة) ، لأنها مسألة عملية، فالناس في بيوتهم الرجال مع النساء، يصلون، ويطوفون بالبيت، ويذهبون ويجيئون، كل ذلك -كما يسميه العلماء- مما عمت به البلوى، فلا يمكن أن نعزل الرجال عن النساء خاصة في بيوتهم، إذاً: نحتاج إلى إمعان النظر في هذه المسألة، وإلى التأني والتمهل فيها.
فنأتي أولاً إلى من يقول بأنه ناقض لأنه ناقل عن الأصل، فنقول: بم استدل الإمام الشافعي رحمه الله على أن مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ استدل رحمه الله بقوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فهذان متساويان في وجوب التيمم إذا لم تجدوا الماء، ومنها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) .
فقلنا له: إن (لامس) يرد عنها أبو حنيفة بأن المراد به الجماع.
يرد الشافعي ويقول: جاءت القراءة الأخرى: ((لمستم)) فأنا أتمسك بنص الكتاب في (لمستم) وهي تبين القراءة الثانية: ((لامستم)) .
هذا قول الشافعي رحمه الله.
ثم نأتي إلى الإمام أبي حنيفة ونقول: بم استدل على أن اللمس لا ينقض الوضوء؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل عدم وجوب الوضوء، فمن أوجبه فليقم الدليل، ومن أدلتي: أن (لامس) بمعنى: جامع، وقد فسرها بذلك ابن عباس، ومن أدلتي أن الرسول قبّل عائشة ولم يتوضأ.
قال له الشافعي: قد جاء عن ابن عمر أنه قال: قبلة الرجل امرأته من الملامسة، وفيها الوضوء.
أجاب أبو حنيفة وقال: هذا كلام ابن عمر، وكلام ابن عمر لا يقضي على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، تقول: وأنا نائمة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد لمسني بيده أو غمزني بقدمه فكففت قدمي عنه ليسجد) فهذا غمز ولمز ولم يكن هناك وضوء، وهو في الصلاة وليس لقصد، فماذا يقول الشافعي؟ قال: نعم، لكن لم تمس البشرة البشرة، بل كانت نائمة متغطية بملحفتها فغمزها من فوق الحائل.
فماذا يقول أبو حنيفة؟ قال: إذا قلتم ذلك، فماذا تقولون في قولها: (قمت ذات ليلة فلم أجد رسول الله عندي، والحجرات آنذاك ليس فيها سرج، فقمت أبحث عنه بيدي، فوقعت بطن كفي على قدمه وهو ساجد في المسجد، وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، ففي هذا الحديث وقعت بطن كفها على بطن قدمه، فماذا تقولون؟ قالوا: نعم، الإنسان قد يكون ساجداً والإزار ساتر على قدميه فبينهما حائل.
فقال أبو حنيفة: قد جاء عنها رضي الله تعالى عنها: أنها انتظرته حتى قام من الركعة الأولى، وظنت أنه ذهب إلى جاريته مارية، فقضى حاجته واغتسل وجاء يصلي، قالت: فقمت فأدخلت أصابعي في شعر رأسه أنظر هل هو مغتسل أو لا؟ فماذا تقولون في ذلك يا شافعية؟! قالوا: ليس فيه شيء؛ لأنها لامست الشعر، والشعر ليس فيه حرارة.
إلى هنا تكون الكفة بين الشافعي وأبو حنيفة راجحة لـ أبي حنيفة، على ما فيها.
وأما الذين قالوا بالتوسط فماذا يقولون في أدلة أبي حنيفة؟ قالوا: إنما استدل بأمور عادية، ولكنا نقول بالقول الوسط الذي لم يقله الشافعي ولا أبو حنيفة، ودليلنا مستقل عنهما.
وهو: الحديث الذي جاء فيه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا أبيع التمر، وجاءتني امرأة تطلب تمراً، فأغواني الشيطان، فقلت لها: عندي في البيت خير من هذا، فذهبت معي لأعطيها تمراً من البيت، ولكن حدث أن كل ما يفعله الرجل مع امرأته قد فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني.
قال: هل صليت معنا العصر؟ قال: لا.
قال: توضأ وصلِ) .
فقال المالكية والحنابلة: هذا الرجل قد لمس ولامس وفعل ما يقصد به اللمس فعلاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، بينما لم يتوضأ من مجرد القبلة، فقد تكون قبلة عاطفية كما يقبل الإنسان زوجه وهي مريضة، أو يقبل ابنته الصغيرة، أو يقبل أمه عاطفة وبراً، فالقبلة ليس فيها دعوى الشهوة، وكذلك الملامسات الأخرى، كقول عائشة: غمزني أو لمسني بيده.
فكل هذه أمور عادية، فتركنا الوضوء من الأمور العادية، وأوجبنا الوضوء من الأمور غير العادية؛ لأنه قال للرجل: توضأ، وموجب وضوء الرجل هنا هو ما كان منه مع المرأة؛ لأنه لامسها بقصد الشهوة، ولذا شعر بالإثم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقال: طهرني!.
قالوا: لا، من قال لكم: إن الرجل قبل أن يلقى المرأة كان متوضئاً حتى انتقض وضوءه بهذه الحالة.
فلماذا قال له: توضأ؟ قال له: توضأ.
لأن الوضوء مكفر للذنوب (إذا غسل وجهه خرجت خطاياه.
إذا غسل يديه.
إذا فعل.
إذا فعل ... ) .
قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الاستفصال من الرجل قبل أن تأتي تلك المرأة، فلم يقل له: كنت متوضئاً أم غير متوضئ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال في الحال، فكأن الرسول لم يعتبر وضوءاً قبل ذلك، وأمره بوضوء جديد لتلك الحالة.
فقلنا: بأن مطلق اللمس لا ينقض، ولم نقل: كل لمس لا ينقض، وقلنا: اللمس بشهوة هو الذي ينقض.
فما رأيكم الآن ما بين أحمد ومالك وأبي حنيفة؟ أي الكفتين ترجح؟ مالك وأحمد.
وعلى هذا -أيها الإخوة- نحن لا نطمع أن نزيل الخلاف في مسألة خلافية اختلف فيها الأئمة رحمهم الله؛ لأن لديهم من النصوص، ما يؤيد ما ذهبوا إليه، وهناك نصوص عديدة لا أستطيع أن أسردها كلها أو أحفظها كلها، ولكن هذه هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهذا القدر يكفينا، فإذا كنت شافعياً أو حنفياً أو مالكياً أو حنبلياً أياً كان، وكنت من أهل النظر والترجيح ما الذي تطمئن نفسك إليه بصرف النظر عن المذهب الذي تأخذ به؟ كما يقال: الحال الوسط والذي يجمع بين الأدلة هو ما ذهب إليه مالك وأحمد، ولو قال قائل: الأحوط ما قال الشافعي.
ويكون أحوط للعبادة وأصح، ولكن الأحوط فيه تكليف وإفساد، فيه إبطال الوضوء السابق، وفيه تكليف بالوضوء من جديد، وهذا فيه أيضاً إحراج.
إذاً: من حيث المنهج العلمي ومن حيث البحث في الأدلة على هذه الطريقة يكون قد ترجح عندنا ما ذهب إليه مالك وأحمد.
عندنا جزئية يضطر إليها الشافعية فيقلدون فيها مالكاً وأحمد، وهي أنه في حالة الطواف وشدة الزحام تجد بعض الإندونيسيات يلبسن القفازات، والمحرمة ممنوعة من لبس القفاز، فتأتي المحرمة وتلبس القفازين حتى لا ينتقض وضوءها، حتى إن من الرجال من يلبسهما حتى لا يلمس المرأة، ولبس القفازين ممنوع على المحرم، ومن هنا نجد الشافعية يقولون: من أراد أن يطوف بالبيت فيقلد مذهب مالك وأحمد أو مذهب أبي حنيفة في الطواف؛ حتى لا يبطل وضوءه، ويكون على اعتقاد بأخذ قول إمام معتبر ينجيه من الورطة، وإلا لو بقي شافعياً فليس بمكمل طوافه طوال عمره! فإذا قيل: إذا حصل اللمس يكون فلمن النقض: للامس أم للملموس؟ هناك من يقول: النقض للامس؛ ولهذا بعض الشفاعية ما قالوا بوجود حجاب وغطاء في قصة عائشة، وإنما قالوا: هي التي لمست، الرسول ما لمس، وإذا كانت هي متوضئة ينتقض وضوءها أما الرسول فلا، بل يستمر في صلاته؛ لأن النقض للامس وليس للملموس.
وإن قيل: باللمس حصلت شهوة عند الاثنين،


كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3]
الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، والخلاف أنواع: منه الجائز، ومنه المحرم، ومن الخلاف الجائز: اختلاف الأفهام، واختلاف التنوع، واختلاف الأفهام هو أكثر ما يحصل في المسائل الفقهية، فلا ينكر على من قال أي قول إذا كان متحرياً للحق، ولكن واجب المسلم أمام الخلاف أن ينظر الأقرب إلى الحق، والموافق للدليل، ويسعى جاهداً إلى معرفة الراجح، والعلماء رحمهم الله قد بينوا لنا طرق الترجيح، وطرق الجمع بين المسائل المتعارضة.


الشك في الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه مسلم] .


الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً)
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في باب نواقض الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه ريح أو لا؟ فلا ينصرفن من صلاته أو من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) هذا الحديث يعتبره علماء الحديث وعلماء الأصول والفقهاء أساساً لقاعدة فقهية، وهي: أن اليقين لا يرفع بالشك.
ومعنى قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يعني: حركة قد تحصل في البطن بتحرك غازات أو ما يسمى بالمغص أو شيء من هذا.
قوله: (وأشكل عليه) الإشكال مأخوذ من الشكل، وهو عند علماء المنطق التشكيك، وذلك: أن الصورة الذهنية بالنسبة لموضوع معين تشتبه بين أمرين: إذا نظر إلى هذا قال: هو منه، وإذا نظر إلى ذاك قال: هو منه، فشك بأيهما يُلحق أو من أيهما يكون، ولذا قالوا: الشك هو: استواء الطرفين دون ترجيح.
وقالوا: إن العلم هو: ما وقر في النفس دون منازعة، والظن هو: ما نازعه ما هو أضعف منه، فإذا تعادلت الكفتان ثم رجحت إحدى الكفتين بأحد المعنين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإذا تعادلت الكفتان دون ترجيح فهو شك.
وهنا لما وجد الشيء في بطنه وأشكل عليه: شك، وقال في نفسه: هل يا ترى مع تلك الحركة التي في البطن هل خرج شيء أم لا؟ فحينئذ عليه أن يلغي هذا الشك ويبني على ذاك اليقين؛ لأنه في الصلاة -كما في بعض الروايات- والصلاة ما دخلها إلا بيقين الطهارة، أو في المسجد -على بعض الروايات- والمسجد ما أتى إليه إلا بكامل الطهارة، إذاً: الذي أشكل عليه طارئ بعد يقين الطهارة، إذاً: الطهارة هو متأكد منها وثابتة عنده بيقين، فلا يحكم برفضها وإبطالها إلا بيقين مثله، وهكذا قالوا في عموم الأمور، فمثلاً: لو توضأت في بيتك أنت وزميلك، وكل منكما متأكد بأنه توضأ مع الآخر في مكان واحد ومن إبريق واحد، ثم خرجتما، وفي طريقكما إلى المسجد دعاكما بعض الإخوان لتناول الشاي، فذهبتما معه وجلستم، ثم قمتم لتذهبوا إلى المسجد، وعند باب المسجد قلت: هل أنا أحدثت أو لا؟! الطهارة أنتم متيقنون فيها أنت وهو، ولكن الشك حصل في كونك هل أحدثت بعد تلك الطهارة المتيقنة أو لا، فصاحبك يقول لك: نحن توضأنا معاً، وأنت تقول له: نعم، أنا متأكد أننا توضأنا معاً، لكن لا أدري عندما جلسنا نشرب الشاي هل حصل مني شيء أو لا؟ الآن عندنا طهارة وشك في الحدث، والطهارة ثابتة بيقين، والتفكير في الحدث شك طارئ، فنقول: الطهارة ثابتة باليقين فتبقى على ما هي عليه، وعندنا استصحاب الأصل، والأصل الطهارة وهي ثابتة، وأما الحدث فهو أمر مشكوك فيه، فلا نترك اليقين بسبب الشك.
وكذلك العكس: فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فيلغى الشك في الطهارة ويعتمد الحدث ويتوضأ، مثلاً: أنت وصاحبك كنتما في البيت، ودخلتما الحمام، وخرجتما، ثم لقيكما صاحبكما ودخلتما عنده، وقلتم: هيا نذهب إلى المسجد.
فقلت: أنا أحدثت في البيت ودخلت الحمام، ولكن ما أدري هل توضأت أو أتوضأ الآن؟ إذاً: الشك هنا هو في الطهارة؛ لأن الحدث ثابت ويشهد عليه بيت الخلاء، لكن الوضوء هو الذي شككت فيه، إذاً: الوضوء هنا يكون على اليقين، فإذا تيقنت في الحدث وشككت في الوضوء، فألغ الشك، وابنِ على اليقين بالحدث وتوضأ.
وهكذا أيها الإخوة! حتى في المعاملات يقولون: لو قدر أنك اقترضت من زيد ألف ريال، ثم جاء يطالبك، فقلت له: هذا صحيح، ولكن هل أنا أعطيتك الألف؟ قال: لا، ما أعطيتني.
فقلت: يا أخي! أظن أنني أعطيتك.
وليس هناك سند، ولا شهود.
فإذاً: القرض هنا ثابت قطعاً وأنت معترف به، والدفع مشكوك فيه؛ لأنك تدعي وهو ينفي، فالشك طارئ على السداد، فابنِ على اليقين بأن القرض لا زال ثابتاً في ذمتك حتى يثبت السداد يقيناً وهكذا.
فهذا الحديث أصل عظيم، ومنه أخذت القاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، كما تقدم.
وهنا قال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وقد ذكرنا قصة أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بالنقض بالنوم، فقد كان ينام وإخوانه حوله، فإذا استيقظ قال لمن حوله: هل سمعتم شيئاً؟ فإذا قالوا: لا.
قال: فهل شممتم ريحاً؟ فإذا قالوا: لا، قام فصلى، لأنه لما لم يسمع جلساؤه منه صوتاً، ولم يشموا منه ريحاً بنى على اليقين الأول الذي هو الطهارة قبل النوم؛ لأنه كان ينام في المسجد بعد أن يصلي، فهو على طهارة، ولما كان النوم مظنة الحدث لم يقطع بأنه أحدث؛ لأن الحضور المشاهدين لم يسمعوا صوتاً ولم يشموا ريحاً.
لكن لو أن الشك في غير الريح، أي: في شيء آخر من نواقض الوضوء، كأن تكون ذهبت إلى أقاربك زائراً، وجاءوا -على عادات بعض الناس- إليك فصافحتك امرأة منهم، ثم شككت هل صافحت فلانة أو لم تصافحها؟ فحصل عندك شك في كونك صافحت أو لم تصافح، فعلى كونك صافحت يكون قد حصل اللمس، وعلى قول من يقول بالنقض فعليك الوضوء، ولكن أنت متأكد من الوضوء وشككت في وقع النقض بالمصافحة.
إذاً: عليك أن تبني على اليقين وهو بقاء الوضوء.
فسماع الصوت أو وجدان الريح في الحديث إنما هو على سبيل المثال؛ حتى يتأكد الإنسان في الأمر الذي أشكل عليه، فيرفع الإشكال ويبني على اليقين.


الوضوء من مس الفرج والمذاهب في ذلك
قال المؤلف رحمه الله: [وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: (قال رجل: مسست ذكري أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة] .
هذه المسألة يعنون لها: بالوضوء من مس الفرج، أو الوضوء من مس الذكر -بخصوص الذكر في الرجل-، والقضية عند من يبحثها تشمل كل ذكر لرجل أو فرج لامرأة، ومن يبحثها أيضاً يبحث هل هو خاص بالذي يمس شخصياً أو يشمل مس ذكر غيره أيضاً، وهل يشمل مس فرج امرأة أيضاً؟ والبحث في هذا الموضوع يتناول المس أو اللمس قصداً أو سهواً ببطن الكف أو بظاهرها من صغير أو من كبير من إنسان أو من حيوان كل ذلك يبحث في هذه المسألة تحت هذا العنوان.
ساق المؤلف أولاً حديث طلق بن علي، وطلق بن علي هو: رجل من أهل اليمامة ورد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد البناية الثانية -أي: سنة سبع من الهجرة- بعد عودته من خيبر، وكانوا يبنون بالحجارة والطين، ومما جاء عنه أنه مر برجل من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله، وقال: أرني حتى أريك.
فأخذ منه المسحاة وخلط خلطة جيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم يراه، فقال: (دعوا هذه لهذا، فإنه أعرف بها) وهنا يقال: هذا مجال التخصص، فهذا نوع من أنواع البناء والتجهيز فمن كان أتقن لعمل فهو أحق به؛ ولذا نجد التخصصات في مواد البناء أمراً عجيباً! حتى قيل: كان أكبر مهندسي الخرسانة معتقلاً في بعض المعتقلات، وعند بناء السد العالي استعصى عليهم مكان فاضطروا أن يخرجوه من المعتقل حتى ينفذ لهم هذا المكان ثم ردوه إلى معتقله.
فالأعمال إذا كان هناك من هو ذو تخصص فيها فهو أولى بها، ونحن نجد الآن أنواع التخصصات الطب، وقد كان الطب طباً عاماً، الطبيب يداوي العين والأنف والمعدة والكبد والطحال والجرح وكل شيء، لكن الآن أصبح الطب قائماً على تخصصات، حتى الجراحة فيها تخصصات، فهناك جراحة خاصة بالقلب، وجراحة خاصة بالدماغ، وجراحة خاصة بالأنف والأذن، وجراحة خاصة بالعظام.
إلخ، فمن دقة العلم وتوسع الاطلاع في المادة أصبحت هناك التخصصات، وصاحب التخصص في مجاله أولى من غيره.
وكذلك وجد التخصص في العلوم الدينية: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن: (أفرضكم زيد) إذاً عنده تخصص في علم الفرائض، (وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، (وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ) ، وقال لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) فأصبح عندهم تخصصات علمية، فإذا أشكل على الصحابة شيء في موضوع من تلك المواضيع رجعوا إلى صاحب التخصص فيها وهكذا.
وذكرنا ذلك لبيان تاريخ مجيء طلق بن علي، قالوا: إن طلقاً ورد على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في بادئ الأمر، والمرة الثانية: عند بناء المسجد، وروى حديث الوضوء مرتين، وهذا الحديث مروي عن قيس بن طلق عن أبيه: (أن أعرابياً جاء ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل: الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، أيعيد الوضوء؟ قال: لا، إنما هو بضعة منك) أي: وهذه البضعة مثل أي بضعة أخرى من أبضاع الجسم، فاليد بضعة، والأذن بضعة، والساعد بضعة، والساق بضعة.
كل هذه قطع، والبضعة: القطعة.
إذاً: مادام هو بضعة من الإنسان فهو كسائر أجزاء الجسم يمس بعضها بعضاً فلا وضوء، وفي هذا إشارة إلى القياس، وإشارة إلى إتباع الشيء المختلف فيه بالمتفق عليه.
وبهذا أخذ من يقول: إن مس الذكر ليس ناقضاً.
فإذا كان ليس ناقضاً فلماذا ذكر هذا الحديث في باب نواقض الوضوء؟ الجواب: هو أن المؤلف رحمه الله جمع هذا الكتاب -بلوغ المرام من أدلة الأحكام- فهناك من يقول: لا وضوء.
وهناك من يقول: فيه الوضوء.
إذاً: القولان متقابلان، فذكر دليل من يقول: لا ينقض، وسيأتي بدليل من يقول: نعم، ينقض، وقد تكلم المؤلف على هذا الحديث فنقل: أن ابن المديني -وهو إمام جليل في علم الحديث- قال: هو أحسن من حديث بسرة.
وأين حديث بسرة هذا؟ يأتي به المؤلف مباشرة بعد حديث طلق ليبين طرفي الاستدلال عند من يقول: ينقض، وعند من يقول: لا ينقض.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب] .
حديث بسرة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره) فخص المس بذكره المضاف إليه، إذاً: عموم الفرج ليس وارداً هنا، فقوله: (من مس ذكره) لا يتناول ذكر غيره، ولا يتناول فرج المرأة، ولا يتناول الدبر، لا يتناول إلا ما جاء النص فيه؛ ولذا فإن هناك من وقف عند هذا اللفظ وقال: لا ينقض الوضوء إلا إذا مس ذكره.
وأما ما يتعلق بكيفية المس، فقالوا: أن يكون بغير حائل.
كما جاء في حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينه وبينه حائل فليتوضأ) ويقول أحمد عن هذا الحديث: هو أحب إليّ من الجميع.
ومن هنا توسع النطاق قليلاً فقوله: (من أفضى) تفيد العموم، فتشمل الرجال والنساء (أفضى) الإفضاء: الملاقاة (بيده إلى فرجه) والفرج يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة (فليتوضأ) إذاً: المرأة كذلك: إذا أفضت بيدها إلى فرجها فعليها الوضوء.
وجاءت رواية أخرى بلفظ: (من أفضى بيده إلى فرجٍ) بالتنوين من دون إضافة، فقالوا: هذا شمل جميع أنواع هذا العضو، حتى قالوا: ولو من بهيمة، وحتى قالوا: من حي أو ميت؛ لأنه يصدق عليه أنه فرج.
وخلاصة هذا البحث عند الجمهور: أنه قد جاء حديث طلق مرفوعاً: (إنما هو بضعة منك) وجاء حديث بسرة مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء) ، وجاء أيضاً عن أبي هريرة رواية أخرى مرفوعة: (من مس فرجه فليتوضأ) فجاءت الروايات بهذا، فقالوا: إن حديث طلق وإن قال ابن المديني عنه: هو أحسن من حديث بسرة.
إلا أن البخاري قد صحح حديث بسرة، والشافعي قد عارض في صحة حديث طلق، وقال: إنما جاء من طريق قيس بن طلق، وسألنا عن قيس بن طلق هذا فلم نجد من يعرفه.
والذين قالوا: لا وضوء منه، أخذوا بحديث طلق قالوا: حديث بسرة قال عنه البخاري: هو أصح شيء في الباب، فقيل: من أين أخذه؟ قالوا: إنه جاء من طريق مروان بن الحكم، فقد جاء في رواية تذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: من مس الفرج الوضوء.
فقال أبي بن كعب: ما سمعنا بهذا! فقال مروان: أخبرتني بذلك بسرة.
ثم أرسل مروان حرسياً له إلى بسرة فسألها، فرجع الحرسي وأخبرهم بما أخبر به مروان، فلما أنكر المنكر على مروان أرسل رسولاً إلى بسرة، ورجع الرسول بمصداق ما قال به مروان، فقالوا: هذا الحرسي لم نعرفه، فيكون في الحديث مجهول، ولكن يقولون: حديث بسرة قد جاء عن أربعة عشر صاحبياً، وقال به من الصحابة عمر وغيره، ومن التابعين مجاهد وعطاء، ومن الأئمة أحمد والشافعي، ولم يقل به أبو حنيفة.
وهنا لما جاءت الأحاديث، التي شملت حديث طلق والذي يقول فيه ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة.
وحديث بسرة يقول فيه البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب.
والشافعي يقول: حديث طلق من طريق ولده قيس.
وقد سألنا عن ولده قيس فلم نجد من يعرفه، فقالوا: تعارض الحديثان.
وعند التعارض نرجع إلى النسخ، ثم إلى الجمع، فإن لم يكن فإلى الترجيح، وهذه الطرق الثلاث هي التي يعتمدها العلماء عند تعارض الأدلة، فبعضهم قال: نمضي إلى النسخ؛ لأن بسرة أسلمت في عام الفتح، وطلق بن علي وفد إلى النبي وهو يبني المسجد، وشارك في البناء، وكان سنة سبع، فيكون حديث بسرة ناسخاً لحديث طلق الذي فيه: (إنما هو بضعة منك) .
والآخرون قالوا: لا نسخ، فـ طلق بنفسه قد رجع بعد تلك المرة التي كان فيها بناء المسجد وروى عن رسول الله حديث الوضوء.
إذاً: يكون طلق بنفسه بروايته الأخيرة قد نسخ الأولى.
والآخرون الذين يقولون: لا نسخ يقولون: نجمع بين الحديثين، فهذا يقول: لا وضوء.
وهذا يقول: وضوء.
يقول مالك رحمه الله: الأمر بالوضوء للندب؛ نظراً لحديث المنع.
فأخذ قولاً وسطاً، ليس فيه القول بالإيجاب الناقض المبطل، وليس فيه القول بعدم المشروعية، وعنده: من مس فرجه بعد الوضوء ناسياً وصلى، فإن تذكر قبل خروج الوقت توضأ وأعاد الصلاة، وإن تذكر خروج وقت الصلاة فلا يعيد، ويتوضأ لما يستقبل.
وهناك من ينقل عن مالك رحمه الله في الجمع: أن من مس فرجه بشهوة فليتوضأ، ومن مس فرجه بدون شهوة فلا وضو


خلاصة القول في الوضوء من مس الفرج
وهكذا تكون النتيجة: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يرى وضوءاً من مس الفرج، والشافعي وأحمد رحمهما الله يرون الوضوء من مس الفرج على العموم، ومالك وقف موقف التفصيل، فنقل عنه بأن الوضوء للندب وليس للإيجاب، وقول آخر ينقل عنه: أن الوضوء يجب إن وجد شهوة، ولا يجب ولا يندب إن لم يجد شهوة.
وهذا حاصل الأقوال في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
وعلماء الحديث يرجحون الوضوء؛ وجاء هذا القول عن بعض السلف المتأخرين، وكذلك عن بعض الصحابة، ومن ذلك ما جاء عن سعد بن أبي وقاص: أن غلاماً كان يمسك له المصحف وهو يقرأ، قال الغلام: فاحتككت، فقال لي: هل مسست فرجك؟ قلت: نعم، قال: فأخذ مني المصحف وقال: قم فتوضأ، أي: يتوضأ لحمل المصحف، فهذا عمل من صحابي يدل على أن المس يقتضي الوضوء.
وكذلك روى سالم عن عبد الله بن عمر: أنه توضأ وصلى بعد أن طلعت الشمس، فقلت له: ما هذه الصلاة التي لم أكن أراك تفعلها؟ قال: توضأت ومسست فرجي، ونسيت -أي: أن أتوضأ- وصليت، فهأنا أتوضأ وأعيد الصلاة.
فعند ابن عمر: لزوم إعادة الصلاة ولو خرج الوقت.
وعلى هذا لما عمل بذلك ابن عمر، ونقل عن عمر، ونقل عن سعد بن أبي وقاص وغيرهم قالوا: إن هذا يرجح أن اللمس ناقض، وإذا كان هناك حديثان: أحدهما: يبقي على البراءة الأصلية، ولم يزد شيئاً، والآخر: ينقل عن البراءة الأصلية إلى تكليف جديد، فالناقل يكون أولى.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [4]
يجب على المرء المسلم أن يسلم لجميع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض على شيء من ذلك، ولا يسأل: ما هو السبب وما هي الحكمة في كذا؟ فإن الشرع كله حكم، ولكن قد تظهر له الحكمة فيزداد يقيناً، وقد لا تظهر له، فما على المسلم إلا التسليم والطاعة، وألا يجهد نفسه في معرفة ما خفي عليه من الحكمة والعلة، فإن ذلك قد يورده إلى الشك والحيرة والتكذيب، والعياذ بالله!


حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم) ] أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
هذا الحديث من الأحاديث المشكلات، تقول فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي) وتشديد الياء في المذي غير سليم.


تعريف القيء والقلس
فجاء في الحديث ذكر هذه الأربعة: القيء، والرعاف، والقلس، والمذي، أما المذي فقد تقدم الكلام عليه، وبقي ما هو القيء وما هو القلس؟ القيء: هو رجوع الطعام من داخل المعدة دهفاً، والقلس: هو رجوع بعض الماء أو السائل من أول المعدة، وليس من داخلها، ولذا القلس ليس فيه تغير الطعام، والقيء يتغير معه الطعام؛ لأنه جاء من داخل المعدة، وقد مر بعملية الهضم، وكما يقولون: هل عملية الهضم ميكانيكية أو كيميائية؟ بمعنى: هل المعدة تطحن الطعام كالرحى عندما تطحن الحب -فهذه ميكانيكية-؟ أو أن هناك مادة يفرزها الجسم إلى المعدة تذيب الطعام مثل حمض الكبريت أو الأسيت الذي إذا وضع على نبات يحرقه ويذيبه؟ قالوا يحصل الأمران معاً، فالمعدة فيها غدد تفرز مواداً تساعد على الهضم، والمعدة تتحرك فتهضم الطعام.
فقالوا: إذا جاء الطعام من المعدة فقد نالته حركة المعدة الميكانيكية، واختلط بإفراز المعدة الكيميائي، فأصبح خارجاً عن حالة الطعام.
هذا هو القيء، أما القلس فلا يصل إلى داخل المعدة، بل يرجع من أولها، وغالباً ما يكون من كثرة المياه عند الإنسان في نهاية الأكل، فإذا أكل وشرب ماء بكثرة لم يبق هناك محل للنفس، فإذا أراد أن يتنفس يطرد النفس السوائل التي في أول المعدة، فهذا هو القلس.
فالحكم هنا هو: هو أن من أصابه القيء يتوضأ، ومن أصابه القلس يتوضأ.


تعريف الرعاف
الرعاف هو: خروج الدم من الأنف خاصة، وهذا كما يقولون: قلّ من يسلم منه، خاصة في الحر وفورة الشباب ووفرة الدم، فيكون الرعاف كثيراً عند بعض الأشخاص خاصة في سن المراهقة لوفرة الدم، يقول الأطباء: إن منطقة الأنف يلتقي فيها اثنا عشر عرقاً مع الأعصاب لحساسية الدم، فأدنى احتقان في الأنف يأتي بالرعاف، ولذا من أنواع علاجه الكي، فتكوى تلك العروق لتنشف وتجف.
وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه الرعاف.
فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ، فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد: (الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض) .
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث، ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف.
وذكر فيه أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما، أثر ابن عمر: أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي.
وجاء عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع) .
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه.
وبعضهم يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه البغل كان يسك الدراهم لـ جعفر البرمكي أو لدولة العباسيين، وقيل: هو أقل من الكف.
وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء.
أما بقية الأئمة الثلاثة فلم يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله، واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ) والحجامة تخرج دماً كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس بناقض.
والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي: بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة.
إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا: بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض.
والله تعالى أعلم.


حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت.
قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) أخرجه مسلم] .
في نهاية باب نواقض الوضوء، وقبل أن يتكلم المؤلف على أحكام أخرى غير أحكام الوضوء جاء بهذه المسألة، وهي من أشد المسائل خلافاً في نواقض الوضوء، وللناس فيها آراء متعددة، ألا وهي: الوضوء من لحوم الإبل.
قوله: عن جابر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (رجلاً) نكرة، غير مسمى، وهذا لا يضر في الإسناد؛ لأن هذا النكرة سأل رسول الله، يعني: أنه مسلم رأى رسول الله، فهو صحابي، والصحابي لا يفتش عنه؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول؛ ولذا فإن المرسل إذا كان الذي لم يُسم فيه صحابياً فقط فإنه صحيح ويعمل به.
قوله: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) ومقتضى هذا السؤال ما حاك عنده: هل هناك فارق بين لحم الإبل ولحم الغنم أو لا؟ أأتوضأ من لحوم الإبل؟ أأتوضأ من لحوم الغنم؟ فلما سأل عن لحوم الغنم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) بدل (نعم) أو (لا) أخذ منه العلماء جواز الوضوء للمتوضئ؛ لأنه إذا لم يكن متوضئاً فليس أمر الوضوء متروكاً إلى مشيئته، بل يتعين عليه أن يتوضأ؛ لأنه غير متوضئ، ولكن معنى السؤال: المتوضئ الذي يأكل لحم الغنم هل يتوضأ بسبب ذلك أو لا؟ فكان الجواب في حق لحوم الغنم: (إن شئت) يعني: إن شئت توضأت، وإن شئت اكتفيت بالوضوء الذي كان قبل أكلك لحم الغنم، وبالتالي يكون أكل لحم الغنم ليس ناقضاً للوضوء.
قوله: (أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) هناك فرقٌ بين (نعم) وبين الجواب الذي يتضمن صيغة السؤال، وقوله (نعم) أي: توضأ من أكل لحوم الإبل.
وهنا وجدنا فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل في أن الأولى لا توجب الوضوء، والثانية توجب الوضوء، وجاء حديث آخر عام بلفظ: (توضئوا -بصيغة الأمر- من لحوم الإبل) وجاء أيضاً: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) في هذا الحديث وذاك أمر منه صلى الله عليه وسلم بعدم المقارنة، فهذه بهيمة أنعام وتلك بهيمة أنعام، وكلاهما حلال الأكل، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل، ويخير الإنسان في الوضوء من لحوم الغنم، والنتيجة: أن لحوم الغنم ليست ناقضة، ولحوم الإبل ناقضة.


مشروعية الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيرها
قبل الدخول في التفصيل في أقوال الأئمة رحمهم الله نقول: هناك أشخاص دخلهم الشك، وأرادوا أن يشككوا غيرهم في التشريع الإسلامي، وأعداء الإسلام يتتبعون الشبه، يقولون: كيف يفرق الدين الإسلامي بين متماثلين، فهذا لحم وهذا لحم، وهذا ينقض وهذا لا ينقض؟! وهذا في حسبانهم تناقض، وكذلك قالوا في الحديث الآخر -حديث أبي السمح -: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) قالوا: كيف فرقتم بين بول البنت وبول الولد وهما متماثلان أي: قبل أن يأكلا الطعام؟! فنقول لهؤلاء: نحن أولاً وقبل كل شيء التزمنا باتباع رسول الله كما التزمنا بوحدانية الله، ولا يتم إسلام إنسان إلا بهذا الالتزام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أعلن أن "لا إله إلا الله" فإذا ما اعتقد ألوهية غير الله نقض "لا إله إلا الله"، وكذلك "محمد رسول الله" فإذا ما اتبع غير محمد نقض أن محمداً رسول الله، وإذا التزم بأن محمداً رسول الله الذي اعترف برسالته لزمه أن يأخذ كل ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ردّ شيئاً يكون قد نقض قوله: "محمد رسول الله".
ونحن هنا نقول: لو أن إنساناً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق له بين المتماثلين، هل يملك أن يقول: لماذا يا رسول الله! فعلت ذلك؟ ولو أن رسول الله جاء إلى إنسان عنده، وأخذ رطبتين من طبق، وقال: هذه حلال لك فكلها، وهذه حرام عليك لا تأكلها.
هل من حقه أن يقول: لماذا لا آكلها يا رسول الله؟! أو يتعين عليه ألا يأكلها؟ الجواب: يتعين عليه أن لا يأكلها ولو أكلها مع كونها رطباً جنياً لكان عاصياً، ولذا أجمع الأصوليون على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المباحة العادية، لو توجه إلى إنسان بعينه يصير فرضاً عينياً عليه، ولا يجزئ عنه إلا هو.
وقالوا: لو ركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وسقط السوط من يده، وعنده عشرة أشخاص، وقال لواحد منهم: يا فلان! ناولني السوط.
فهذا المسمى تعين عليه فرضاً عينياً كفرض الصلاة أن يناول السوط لرسول الله، ولا يحق له أن يقول: يا فلان! ناول رسول الله، أو أنت قريب من الناقة ناول رسول الله؛ لأن الأمر توجه إليه بشخصه.
إذاً: لا يمكن أبداً لإنسان مسلم أن يحكِّم العقل في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ثبت الأمر من رسول الله فالعبرة حينئذ بالثبوت، ونحن نقول أيضاً: لو جاءك رسول الله بكأسين من الماء، وقال: اشرب هذا، ولا تشرب هذا.
فهل تملك أنت أن تشرب الذي قال لك: لا تشربه؟ الجواب: لا تملك ذلك.
فأقول: بهذه المناسبة، أنا أريد أن أطيل في هذه المسألة بالذات، لما فيها من الشبه، ولما فيها من توقف العقل: فهذا حدث وقع بين يدي أحد الملوك العرب في الجزيرة العربية: وهو أنه كان له وزير، وكان يتحرز منه، وكان الملك له أخت دونه في السن ذات عقل، وكانت تجالسه، ولما كبر وبلغ الستين كان يحضرها معه إلى المجلس؛ مخافة أن يكون منه خطأ أو زلل أو شيء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كنوع حراسة له من كيد الوزير.
وحدث ذات مرة أن جاء الساقي بعدة كئوس للحاضرين -قد تكون عشرة- فيها شراب، وجاء بكأس واحد فارغ فوضعه أمام الملك، وجاء بزجاجة الشراب -وكانت مختومة- ففكها أمامهم وصب في الكأس الخالي وقدمه للملك، فإذا بأخته الفطنة حينما مد الملك يده إلى الكأس أمسكتها وقالت: لا تأخذها، فشرب الحاضرون من كئوسهم، ثم استدعت الطبيب وقالت له: انظر إلى هذا الشراب في هذا الكأس.
فأخذه فبهت! لأن فيه سماً زعافاً، فقالت له: انظر إلى هذه الزجاجة التي صب منها، فأخذها وقال: لا شيء فيها.
وهنا يأتي دور العقل! الزجاجة ليس فيها شيء، وفتحت وصب منها في كأس خال، وصار الشراب في الكأس سماً، فمن أين جاء السم؟ وهنا إما أن يقول: الزجاجة كانت خالية من السم، والكأس كانت خالية فلا سم فيحكم العقل ويكذب الطبيب فيشرب فيموت، وهذا بسبب تحكيم العقل، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهنا تعجب الحاضرون! فسألها أخوها: كيف عرفت فيه السم؟ وكيف فطنتِ لذلك؟ قالت: لأن الساقي كان في السابق يأتي بالكئوس كلها مصبوبة ويبدأ باليمين، ويأتي إلى الملك فيأخذ إحدى الكئوس، وفي هذه المرة عين الكأس الذي سيشربه الملك، والكأس قد طلي بمادة سامة لا يظهر لونها، وهي شديدة الفاعلية، وفي النظر أنه زجاج صاف رائق لا شيء فيه، ولما صب الشراب على السم الذي صبغ ودهن في الكأس تحلل مع الشراب، وأصبح قاتلاً.
وهذه واقعة وقعت فعلاً، ولا أريد أن أسمي البلد ولا الملك وهو معروف، فالعقل هنا يقول: الكأس أبيض صقيل نظيف، والزجاجة التي صب منها الشراب ليس فيها سم، إذاً: الإنسان بين أحد أمرين: إما أن يحكم العقل ويقول: الزجاجة سليمة، والكأس نظيف، فلا سم فيشرب، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهكذا أيها الإخوة! فإن المسلم إذا سمع عن رسول الله خبراً ثابتاً -وهنا الحديث رواه مسلم، ولا مطعن فيه لأي مخلوق- فهو بين أحد أمرين: إما أن يقول: سمعاً وطاعة فيمتثل الأمر ولو لم يعلم ما وراء ذلك، وإما أن يحكم العقل وقد يورده المهالك، وقد وجدنا في الشرع الحكيم في نص القرآن الكريم أن الشيء الواحد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات ابتلاءً وامتحاناً، يقول سبحانه وتعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ويقول: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: الصيد حين الإحرام حرام، وبعد الانتهاء من الإحرام الصيد حلال، فهل تغير الصيد؟ وهل تغير الإنسان؟ الجواب: لا، فكيف حرم الصيد وهو أحل الحلال على المحرم الذي توجه إلى الله يلبي، وهو حلال للبدوي الذي يسوق البعير، أو للسائق الذي هو غير محرم، يغني في الهواء ويقتل الصيد ويأكل؟! بين سبحانه الحكمة من ذلك فقال: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] لماذا؟ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] إذاً: تحريم الصيد ليس شحاً بالصيد ولا امتهاناً للمحرم، ولكن ابتلاء، ليرى هل المحرم صادق في إحرامه، وصادق في إيمانه أو لا؟ وقد وجد هذا الامتحان في غير ذلك، ومن أمثلة ذلك قصة طالوت وجنوده الذين معه قال تعالى حاكياً قوله لجنوده: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] أي: نهر يجري، وقال: الذي يشرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده لماذا؟ الجواب: لأنه يريد أن يمتحن هؤلاء؛ لأنهم اعترضوا على تنصيبه ملكاً عليهم كما قال الله عنهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] لأن عندهم مقاييس متغايرة فقال الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وزاده مكونات الملك: العلم والجسم، العلم في العقل والتفكير والتدبير، والقوة في الجسم للتنفيذ، وهذه هي مقومات الملك.
إذاً: الشرع يأتي بأمور معقولة قد يدرك العقل الحكمة من ورائها، وقد يأتي بما لا يدركه العقل -أي: أنه يتقاصر في قواه وإدراكه عما وراء ذلك- فإن كان الإنسان مؤمناً صادقاً فسيقول: سمعاً وطاعة.
وهذه أيها الإخوة! مقدمة بين يدي هذا الحديث وهذه المسألة التي هي في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل) والتخيير في الوضوء من لحوم الغنم، فلا يقف العقل ويتطاول ويتساءل: لماذا فرق بين هذا وبين ذاك؟ بل نقول: إن لم تظهر لنا حكمة سكتنا وسلمنا ونحن على حق، وإن ظهرت لنا ازددنا إيماناً ويقيناً كما قال الله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .


اختلاف العلماء في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
جميع علماء الحديث من أصحاب السنن الست وغيرهم متفقون على أن من أكل لحم الجزور يتوضأ، وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله: فـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله يقولون: لا يتوضأ؛ لأنه نسخ الوضوء من أكل لحم الإبل، ولم يقولوا: ليس بثابت، بل قالوا: نسخ.
وأما أحمد رحمه الله فيقول بالوضوء من لحم الإبل، وهذا هو مشهور المذهب، وإن كان هناك عن أحمد رواية أخرى توافق الأئمة الثلاثة، ورواية ثالثة: أن من أكله عالماً بالنهي توضأ، ومن أكله جاهلاً بالنهي لا يتوضأ.
وهذه مردودة عند متأخري أهل المذهب؛ لأن عندهم أن نواقض الوضوء لا تتوقف على العلم والجهل.
إذاً: من الناحية الفقهية فالأئمة رحمهم الله: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون بعدم الوضوء، وأحمد رحمه الله المشهور في مذهبه الوضوء.
إذا كان الأمر كذلك فهناك تفريعات في هذه المسألة: السائل سأل عن اللحوم، فيأتي عند من يقول بالوضوء من اللحوم، هل الحكم مناط باللحم فقط في مسماه، وفي حقيقته العرفية، أو أنه يتبع اللحم غير اللحم عرفاً؟ وهل اللبن -لبن الإبل- يتبع اللحم؟ وهل المرق الذي طبخ فيه اللحم يتبع اللحم؟ وهكذا هل يتبع اللحم الكرش، والكبد، والدماغ، واللسان، ولحم الرأس؟ يقولون: كل هذه أصبحت في العرف متميزة، بدليل أنك لو أمرت خادماً لك أو إنساناً أن يأتيك بكيلو جرام لحم إبل، وذهب وأتى لك بكرش كامل، فستقول له: يا أخي! أنا ما قلت لك: كرش، أنا قلت لك: أريد لحماً.
فإن قال: هذا لحم! فستقول له: لا هذا ليس بلحم؛ لأنه قد أصبح العرف عند الناس أن اللحم في البعير غير الكرش، والكرش له اسم مستقل.
ولو قال لك قائل: اذهب وائتني بلحم رأس.
فذهبت وأتيت له بلحم فخذ، أو أتيت له بالسنام.
فهذا كله لحم! لكنه لا يرضى بذلك، لما كانت أجزاء الحيوان لها أسماء عرفية عند الناس فهل يقتصر النقض على مسمى اللحم العرفي عند الناس أو يشمل جميع أجزاء الإبل؟ هناك من يقول: يشمل جميع أجزاء الإبل؛ لأن الله لما حرم لحم الخنزير شمل جميع أجزاء الخنزير.
وهناك من يفرق ويقصر الحكم على مسمى اللحم فقط.


بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل
وننتقل إلى القضية من حيث هي، ولا نقول: ما حقيقة الأمر؟ وما الحكمة والغرض من وراء ذلك؟ لا نقول ذلك؛ لأن هذا تحكم على الشارع، فقد تكون هناك حكمة غابت عنا لا ندركها ابتلاءً وامتحاناً؛ لأن التشريع كله ابتلاء كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1-2] إذاً: قد يكون الحكم ابتلاءً، وهنا لا نقول: الحكمة كذا، ولا نقول: الغرض وراء ذلك كذا، ولا السبب في هذا هو كذا؛ وإن كان بعض الفقهاء قد قال: الوضوء من لحوم الإبل إنما هو لشدة زهومته وزفره؛ لأنه أشد زهومة من لحم الغنم.
فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء.
والذي يمكن لإنسان متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) وهل النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان) يقول العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه، بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء.
وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان) فخلقت من الشيطان، أو معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان.
وإذا جئنا إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ذلك) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء) فإذا كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء.
إذاً: هناك ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل.
وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن.
وأن.
إلخ.
ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل لماذا؟! فأجابوا وقالوا: إن الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة ولذا قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً، أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته، وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر، فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها، أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش.
إذاً: فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة والإهانة.
وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان: إن كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم.
إذاً: نرجع ونقول: اللحوم وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة) فصاحب الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة.
إذاً: هناك فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة -لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر: للحم خرمة.
أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من الشيطان كان إطفاؤه بالماء.
وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل.
وبالله تعالى التوفيق.


حكم الغسل على من غسّل ميتاً والوضوء على من حمله
قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء] .
هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء، والأئمة الأربعة لا يرون وجوب الغسل على من غسل ميتاً، ولا الوضوء على من حمله، وأما الحديث: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) فقالوا: على فرض صحته يكون هذا الغسل لا عن حدث، ولكن عما يمكن أن يكون قد وصل إليه من رذاذ الماء الذي يغسل به الميت، وعادة الميت في تلك الحالة أنه ربما كان فيه ما ينبغي تغسيله، فقالوا: يغتسل احتياطاً للنظافة والطهارة لا عن حدث تغسيل الميت.
والقسم الثاني من الحديث: قوله: (ومن حمل ميتاً فليتوضأ) (من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا: (من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال ... ) فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر الله، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا: وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا يتوضأ؟ قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه بالوضوء من قبل.
وجاء في تغسيل الميت في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله عنهما في وفاة أبي بكر كانت هي التي غسلته، ثم خرجت على الناس وقالت: لقد غسلت أبا بكر، واليوم شديد البرد، فهل ترون عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا.
فهذا اتفاق من جميع الحاضرين بأنها لا غسل عليها من تغسيله، وعلى هذا -كما قال أحمد رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب شيء.
إذاً: يكفينا عدم صحة الحديث، وهذا هو توجيه الحديث على افتراض أنه صحيح.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5]
ذكر الله عز وجل من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا شرعه الله للإنسان ليزيد به من درجاته، ويثقل به موازينه، ولفضله جعله الله في كل وقت، وعلى أي حال، ليكون الإنسان قريب الصلة بربه، وجاء النهي عن ذكر الله في المواطن المستقبحة كقضاء الحاجة والجماع ونحوها، وما عدا ذلك فيذكر الإنسان ربه في كل وقت وحين، ولكن يستحب له عند الذكر أن يكون متوضئاً، وقد يجب عليه الوضوء عند الذكر في بعض الحالات.


حكم الطهارة للذكر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم وعلقه البخاري] .
جاء المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) والأحيان: جمع حين، وهو الوقت، كما تقول: حان حينه، أي: آن وقته.
لما كان المنع من مس المصحف قد يوهم المنع من ذكر الله كذلك إلا لمتوضئ جاء المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليرفع هذا الوهم، وقد أجمع الجميع على أن ذكر الله من التسبيح والتحميد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار جائز لكل مسلم، ولو لم يكن متوضئاً، أي: ولو كان محدثاً.
قوله: (يذكر الله) ذكر الله يدخل فيه تلاوة القرآن، ولكن تلاوة القرآن خرجت من عموم هذا الذكر بما سيأتي إن شاء الله في باب الغسل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) فإذا كان جنباً فلا، ولا حرفاً، فيستثنى من عموم: (يذكر الله) تلاوة القرآن لمن كان جنباً.


المواطن التي لا يصح فيها ذكر الله
وقولها رضي الله تعالى عنها: (على كل أحيانه) يقولون: هذا للغالب، كما في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] أي: أن الغالب عليهم أنهم يذكرون الله في كل لحظة، وقد خصص هذا العموم: (على كل أحيانه) بحالات ومواطن لا يصح فيها ذكر الله مطلقاً، منها: قضاء الحاجة، فلا يجوز لإنسان أن يذكر الله وهو يقضي حاجته في الخلاء أو إذا كان في داخل بيت الخلاء ولو لم يكن يقضي حاجته، وكذلك عند الجماع، فتلك حالات لا يجوز لإنسان أن يذكر الله في أثنائها، وأما قبل أن يتلبس بها فنعم؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل الخلاء -يعني: أراد الدخول- قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبْث -أو الخبُث- والخبائث) فالخبْث: جميع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، قيل: من الخبث وهو دون الخير، والخبُث الذين هم الشياطين، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عند إرادة دخول الخلاء بهذه الكلمات، أما إذا دخل فلا.
بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا تغوط الرجلان فلا يحدث أحدهما الآخر) وسيأتي في باب آداب قضاء الحاجة: (إن الله يمقت على ذلك) .
إذاً: منتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، وهذا الذي جعل المؤلف يسوق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في باب نواقض الوضوء.


مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجباً أو مستحباً
فالوضوء لذكر الله، ليس بواجب، ومنتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، ولكن يستحب له أن يتوضأ لذكر الله، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي فبال على سباطة قوم، فلقيه رجل في الطريق، فسلم على النبي، فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى حائط فتيمم عليه، ثم رد عليه السلام وقال: (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء، أو قال: على غير طهارة) ولهذا اتفقوا على أن الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجلس جلسة ذكر لله فيما بينه وبين الله أن يكون متوضئاً.
ومن هنا قالوا: الوضوء تارةً يكون واجباً ترتبط به العبادة، وتارةً يكون مندوباً في ذاته، وتارةً يكون مندوباً لعبادة ليست واجبة، فهو واجب للعبادة الواجبة كالصلاة والطواف، وهذا بالاتفاق، وفي مس المصحف على خلاف -كما تقدم- ومندوب لذكر الله.
وكذلك قالوا: يستحب الوضوء فيما يتعلق بالمعاشرة بين الزوجين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وجاء في بعض الروايات: (فإنه أنشط للعود) أي: أن الماء يعطي الجسم نشاطاً، وهناك أيضاً موطن آخر يستحب فيه الوضوء وهو: إذا أراد الجنب أن ينام قبل أن يغتسل، فقد جاء عند ابن ماجة أن الأولى له أن يتوضأ قبل أن ينام، وجاء في بعض الأخبار تهديد إذا لم يتوضأ ونام وهو جنب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أخشى إذا مات في نومه ألا يحضره جبريل) هكذا نص الحديث.
إذاً: إذا واقع الرجل أهله وأراد أن يعود فعليه أن يتوضأ، وبهذا الوضوء يُلغز عند الفقهاء ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجماع؟ والجواب: هذا الوضوء هو الذي بين المعاودتين فلو أحدث حدثاً أصغر مما ينقض الوضوء فلا يحتاج إلى أن يتوضأ وضوءاً آخر؛ لأنه في الأصل ليس متطهراً - بل هو جنب- فإذا ما توضأ وهو جنب من الجماع الأول، وأراد أن يجامع مرة أخرى فتوضأ للوضوء، فلا نقول له: عليك أن تتوضأ مرة أخرى إذا أردت أن تعاود؛ لأن الوضوء موجود، وهذا الحدث لا ينقض الوضوء؛ لأن هذا الوضوء لا ينقض إلا بالجنابة، فإذا أراد أن يعاود مرة ثالثة عليه أن يتوضأ؛ لأن وضوءه قد انتقض بمواقعته أهله.
وأيضاً يستحب الوضوء على الوضوء، وكما تقدم في حديث: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت) فجعل له المشيئة في أن يتوضأ وهو متوضئ؛ لأنه جاء يسأل عن نقض وضوئه من أكل لحم الغنم، فقال له: (إن شئت توضأت) يعني: توضأت على وضوئك الأول.
وجاء في قصة الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الجنة سمع خشخشة نعلين أمامه، فقال: من هذا؟ قيل له: بلال.
فلما نزل وسأل بلالاً وقال: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فقال بلال: ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به صلاة) .
وهذه الصلاة هي التي يقولون عنها: سنة الوضوء، اللهم إلا إذا كان في الأوقات المنهي عنها، إذا أخذنا بقول الجمهور في أنه لا صلاة في الأوقات المنهي عنها، وأما الشافعي رحمه الله فعنده جواز صلاة ذوات الأسباب، واعتبر الوضوء من الأسباب التي تسوغ للإنسان أن يصلي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
والعامة يقولون: الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان على وضوء، وواجه ما يكره في طريقه أو اشتد عليه شيء، ودعا الله سبحانه، فإنه يكون على حالة حري أن يستجاب له فيها.
والوضوء على الوضوء -كما قيل- نور على نور.


شرح حديث: (العين وكاء السه)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) رواه أحمد والطبراني، وزاد: (ومن نام فليتوضأ) وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: (استطلق الوكاء) ، وفي كلا الإسنادين ضعف، ولـ أبي داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) وفي إسناده ضعف أيضاً] .
قدم لنا المؤلف ما يتعلق بنقض الوضوء من النوم، وذكر فيه حديث أنس وفيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون أو ينعسون حتى تخفق رءوسهم) ، وقد تقدم هناك بحث النوم، وهل النوم ناقض بذاته أو أن النوم مظنة النقض؟ وأشرنا هناك إلى حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العينان وكاء السه) وكما يقول الشراح: كان من حسن الترتيب والربط أن يضيف المؤلف هذا الحديث إلى الحديث المتقدم هناك، أو يؤخر ذاك الحديث إلى آخر هذا الباب ويذكره عند هذا الحديث، يعني: من باب الجمع المتجانسين.


الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضاً للوضوء
وقد تقدم لنا أن الجمهور يرون أن النوم مظنة النقض.
ومتى يكون الحكم بالنقض؟ قلنا: إنهم اختلفوا في صور النوم: فقد ينام الإنسان جالساً، وينام مضطجعاً، وينام نوماً خفيفاً، وينام نوماً عميقاً، والفرق بين الخفيف وبين العميق، أنه إذا رأى المنامات، وكان لا يشعر بمن حوله، أو كان بيده شيء فسقط منه، أي: أنه استغرق حسه عما في يده فهذا عميق، وقد أشرنا إلى أن القاعدة في ذلك تدور على: تحقيق المناط في وجود النوم، وأنهم أجمعوا على أن غيبة العقل بأي سبب آخر سوى النوم ناقض، فلو كان إنسان يغمى عليه، أو إنسان يخدر، أو إنسان يحصل له إغماء بسبب السكري - عافانا الله وإياكم- فإذا غاب العقل بأي أمر مشروع أو غير مشروع من مرض أو صحة فإنه يتوضأ لغيبة العقل؛ لأنه في غيبة عقله قد يحدث حدثاً ولا يشعر به، فوجب عليه أن يتوضأ، ومن هنا كان النوم كذلك، إذا تيقن أنه قد نام فيجب عليه أن يتوضأ.
وهذا الحديث يبين لنا أن النوم مظنة النقض وليس بناقض في ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مثل الجوف بالقربة، والقربة يكون فيها الماء موكأ بالخيط، فإذا كان فم القربة مربوطاً فلن يخرج منها ماء ولو دحرجتها على الأرض، لكن إذا انفك هذا الوكاء وانفك هذا الرباط خرج ما في القربة ولم يبق فيها شيء، فكذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم العينين بوكاء السه، وهذا من بديع التشبيه، ونظائر هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم والسه -كما تقدم-: اسم لحلقة الدبر، والريح إنما يخرج من الدبر، فإذا كانت العينان مفتوحتان فالقربة مربوطة، فلا يخرج شيء من السه لأنه مربوط موكأ، ووكاؤه في العينين، لكن إذا نامت العينان واسترخت الأعصاب انفك الوكاء، فيمكن أن يخرج من السه شيء وهو لا يشعر به؛ لأنه في نوم.
ولذا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: من نام نوماً عميقاً وهو جالس، وكان متمكناً في جلسته، وحلقة الدبر مباشرة للأرض أو على عقبه، أو على رجله، وكان متأكداً من أنه لا يمكن أن تخرج منه ريح، فإن نومه لا ينقض الوضوء؛ لأنه إذا انفك وكاء العينين فهناك وكاء آخر وهكذا، وقوله: (العين وكاء السه) هذا في غير الأنبياء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا سابقاً- جاء عنه أنه صلى من الليل، ثم أوتر، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم قام لصلاة الصبح، فصلى ولم يتوضأ، فقالت له أم المؤمنين عائشة: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ قال: (يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فإذا استطلق وكاء العينين وجد وكاء القلب؛ لأنه ما دام القلب يقظاً لم ينم فإنه إذا حدث شيء يشعر بذلك ويدرك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يقوم من الليل فيتوضأ كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في مبيته عند خالته ميمونة؛ فذكر أنه نام على عرض الوسادة، فقام صلى الله عليه وسلم من الليل وذكر الله ومسح وجهه، وقام ودخل الخلاء، فقام ابن عباس وجاء بإداوة الماء ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج وجد الماء، قال: من وضع هذا؟ قالت له: الغلام - تعني: ابن عباس - قال: (اللهم! فقه في الدين) .
فقيل لـ ابن عباس: لم وضعت الماء؟ قال: لأن الذي يدخل الخلاء ثم يخرج يحتاج إلى وضوء، فلابد أن يكون الماء جاهزاً.
وهذا من الفقه والاستنباط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه الدين وعلمه التأويل) فتوضأ صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هو ينام صلى الله عليه وسلم، وفي نومه قد ينتقض الوضوء وقد لا ينتقض، فإذا ما انتقض الوضوء فإنه يدرك ذلك؛ لأن قلبه لا ينام، وجاء في بعض الروايات: (وهكذا الأنبياء) ومن هنا كانت منامات الأنبياء وحياً؛ بدليل قول الله عز وجل حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال لإسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ولم يقل له: افعل ما رأيت في المنام، بل قال: ((افعل ما تؤمر)) فاعتبر إسماعيل عليه السلام منام أبيه أمراً من الله، ولهذا فإن الشيطان لما جاء وقال: يا إبراهيم! تأن، أتذبح ولدك على رؤيا منام؟! انتظر حتى يأتيك الوحي جهاراً عياناً.
أخذ إبراهيم الحصباء وحصبه، وقال: اخسأ يا لئيم! إنه أمر الله، ومن هنا شرع رمي الجمرات.
فهنا إبراهيم عليه السلام اعتبر الرؤيا وحياً، وكذلك إسماعيل عليه السلام اعتبرها وحياً، وهكذا رؤيا الأنبياء.
وعندنا درجة نازلة قليلاً: كان صلى الله عليه وسلم مدة تحنثه في الغار ستة أشهر، يرى الرؤيا فتأتي في النهار كفلق الصبح، يعني: إذا رأى بأن خمسة رجال مروا عليه يمر عليه خمسة لا ستة ولا أربعة، وهكذا، فجاء مثبتاً في رواية أخرى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: هذا التحديد الحسابي الهندسي: واحد من ستة وأربعين، لماذا ليس من ثمانية ولا من عشرين؟ قالوا: لأن مدة تحنثه صلى الله عليه وسلم في الغار بالنسبة إلى مجموع مدة الرسالة جزء من ستة وأربعين، وكان مدة تحنثه يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح؛ لأن مدة الرسالة ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة، ومدة التحنث كانت ستة أشهر، وستة أشهر نصف سنة، وأنصاف الثلاث والعشرين تكون ستة وأربعين نصفاً، ولذا كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يصلي الصبح يقول أحياناً: (أيكم رأى البارحة رؤيا؟ فكان من رأى رؤيا واستحسنها قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقوله: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وهذا -كما تقدم- يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض؛ لأنه في تلك الحالة قد يحدث ولا يشعر بشيء.
هناك جزئية صغيرة لم نتعرض لها هناك، وهي في قوله: (العين وكاء السه) يبحث العلماء في أن ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء، ومما يخرج الريح، والريح تخرج من الدبر، فلو خرجت الريح من القبل هل يكون خروجها ناقضاً للوضوء أو لا؟ فقالوا: القُبُل ليس موضعاً للريح؛ لأن الريح غازات تفاعلت في المعدة وخرجت عن طريق القولون وعن طريق السه، لكن القُبُل متصل بالمثانة، والمثانة عبارة عن كيس لا تتصل بالمعدة في تفاعل ولا في شيء، فقال بعضهم: الريح من القُبُل لا عبرة بها، وقال بعضهم: إن كان من المرأة فهو ناقض، وإن كان من الرجل فلا؛ لصلة قُبل المرأة بالرحم وكذا.
إلخ، والجمهور على أنه ليس له اعتبار؛ لأنه غير متصل بالجوف.
والشافعية لهم تفصيلات عديدة في هذا.
والله تعالى أعلم.


الحجامة وأحكامها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ) أخرجه الدارقطني ولينه] .
تقدم الحديث: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ) والرعاف هو: خروج دم من الجسم من غير موضع السبيلين؛ لأن ما خرج من السبيلين ولو دم كدم الاستحاضة -وقد تقدم الحديث في المستحاضة في أول الباب- فإنه يكون ناقضاً للوضوء لأنه خارج من السبيلين وهنا يبين أحكام الدم الخارج من غير السبيلين.


تعريف الحجامة وأنواعها
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم) الحجامة هي: إخراج الدم من الجلد من غير السبيلين، وكما يقولون: هناك الحجامة وهناك الفصد، والحجامة تكون على قسمين: حجامة سائلة، وحجامة جافة.
والحجامة الجافة تكون بإخراج الهواء، وكيفيتها عندهم: إذا كان هناك ما يسمى بالروماتيزم أو بالالتهاب العضلي أو نحو ذلك فإنه يؤتى بوعاء مثل الكأس الكبير، ويؤتى بشعلة نار فتوضع على قطعة من العجين أو على شيء يثبت على العضو الذي فيه الألم ويكفأ الإناء على هذه الشعلة متمكناً من الجلد، فإن من طبيعة الشعلة أن تحرق الأكسجين الموجود في تجويف الكأس، وعند احتراقها تتطلب هواء، والكأس ليس فيه هواء، فيخرج الهواء من داخل الجسم بسبب جاذبية الشعلة، فإذا كان هناك رطوبة أو هواء أو برودة في الجسم جذبتها تلك الشعلة ثم تنطفئ لعدم وجود الأكسجين؛ لأن النار لا تشتعل بغير أكسجين، فهذه هي التي تسمى (حجامة جافة) .
والحجامة السائلة: تكون بإخراج الدم الزائد أو الدم الفاسد من الجسم، وهذا له أهل اختصاص يفعلونه، ويخرجون الدم من الجلد؛ وذلك بتشريط الجلد تشريطاً خفيفاً أقل من الملليمتر، أي: بمجرد جرح سطح الجلد، ثم يوضع الكأس مكان التشريط ويجذب بأي وسيلة من الوسائل، فيسحب الدم من الجلد ويخرجه إلى الخارج، وهذه هي الحجامة السائلة.
والفصد: هو أن يعمد إلى العرق بالذات ويقطعه، فيخرج الدم نافراً من ذلك العرق.
والفصد والحجامة معروفان عند العرب من القدم، فقد كانوا يستعملون الحجامة للتداوي، ويستعملون الفصد للأكل، فكانوا يأتون إلى البعير أو إلى الثور ويقطعون عرقاً نابضاً في جسمه، فيسكب الدم، فيتلقونه في إناء، ثم بعد ذلك يحمُّون التراب ويصبون هذا الدم في ملة التراب فيجمد ثم يأكلونه، أو يأتون بالجزور الذي ذبح، ويصبون هذا الدم في أمعاء الذبيحة، ويدفنونها في الملة، فيجمد الدم داخل الأمعاء فيأكلونه، هذا هو الفصد، وأما استعمال الدم وأكله فقد جاء الإسلام ونهى عنه.
فالحجامة نوع من أنواع العلاج، وقد أطال ابن القيم رحمه الله وغيره في إيراد النصوص التي جاءت بالتداوي بالحجامة، ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في التداوي بها قوله: (لو أن دواءً يصل الداء لوصلته الحجامة) يعني: لو أن دواءً يصل الداء بذاته لقوة فاعليته لوصلته الحجامة، وقال: (احتجموا لا يضير بكم الدم) أي: لا يهلككم الدم.


أوقات الحجامة ومواضعها
ولأهل العلم والاختصاص مباحث تتعلق بالحجامة: متى تكون الحجامة؟ فهم ينهون عنها في الأيام البيض أيام المد والجزر، وينهون عنها من كان عمره دون السابعة عشر، وينهون عنها من كان فوق الستين، وهذا النهي عند الفقهاء بالذات هو الذي يعمل به الأطباء الآن في نقل الدم من إنسان إلى إنسان فإنهم لا يأخذون دماً من إنسان عمره دون السابعة عشر، ولا يأخذون دماً من إنسان تجاوز عمره الخمسين أو الأربعين، ولهم في ذلك حد أيضاً، ولا يعطون إنساناً دماً على فترتين متواليتين ليس بينهما ستة أشهر على الأقل، ولا يعطون إنساناً دماً أكثر من خمسمائة ملليلتراً في المرة الواحدة.
فإذاً: أخذ الدم والحجامة شيء واحد ولكن مع الفرق في بعض الأشياء، فأخذ الدم من العرق من باب الفصد، وأما الحجامة فهي: أخذ الدم من الجلد، والدم الذي يخرج بالحجامة غالباً لا يصلح للنقل إلى المريض، فغالباً ما يكون فيه فساد، وغالباً ما يكون لونه أسود.
إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها من يتعاطى هذه المهنة وله خبرة فيها.
وكذلك لهم مباحث في أيام الأسبوع: فمنهم من يمنع الحجامة في يوم الأربعاء.
وأما المواضع التي يحجم فيها: فيُحجم في الرقبة، ويحجم على الفخذ، وبين الكتفين في أي موضع، وفي الرأس، وإذا فرط الحاجم فقد يضر بالمحجوم.
وجاء فيما يتعلق بالصيام: هل الحجامة تفطر الصائم أو لا؟ والحجامة قد أخذت حيزاً لو أفردت ببحث لكان بحثاً كافياً.
وهنا جاءنا المؤلف بغرض واحد وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلى ولم يتوضأ، وما زاد على أن غسل مواضع الحجامة أو غسل محاجمه) ، يعني: مواضع الكأس أو القرن الذي يشفط به، وهذا دليل على أن هذا دم خارج من الجسم وهو كثير، ولم ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم به.
إذاً: ما تقدم هناك من ذكر القيء وذكر القلس وذكر الرعاف هو محل البحث عندهم، وتقدم أن عرفنا أن الحديث في ذلك ضعيف.
والمؤلف رحمه الله تعالى ساق ذاك الحديث أولاً ليبين لنا دليل من يقول بأن الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض، ثم بين أن دليل هذا حديث ذو سند ضعيف، ثم ساق هنا حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ) ؛ ليبين دليل من يقول: إن الخارج الفاحش النجس من الجسم من غير السبيلين ليس بناقض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته) الحديث
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه البزار، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) ] .
قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) أي: سواءً كان في المسجد أو في البيت.
قوله: (فينفخ في مقعدته) والمقعدة: موضع الحدث.
قوله: (فيخيل إليه) أي: من نفخة الشيطان يخيل إليه أنه أحدث، والحال في الحقيقة أنه لم يحدث، ولكنه تخييل من الشيطان.
قوله: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف) فإذا وجد ذلك التخييل من الشيطان فلا ينصرف؛ لأنه في صلاة.
وقد تقدم نظير هذا الحديث وهو حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهنا قال: (يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه) فالإشكال والتخييل سواء، فكأن الحديث الذي هنا يناسب أن يكون مربوطاً مع الحديث الأول، ولكن المؤلف له رأيه في هذا، والله تعالى أعلم.
ويبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتابع الإنسان من أجل إبطال عبادته إلى أقصى حد، فهو أولاً: أراد أن يمنعه من الصلاة، فسمع الأذان واستحيا أن يترك الصلاة، فمشى ملبياً -حي على الصلاة- فإذا جاء ليتوضأ شككه في الوضوء، وجاء له بالوسواس كما في الحديث: (إن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان) فتغلب عليه وتوضأ، فإذا دخل إلى المسجد، لم يستطع أن ينطق (الله أكبر) وذلك بسبب وسوسة الشيطان، فلما دخل في الصلاة ما بقيت لدى الشيطان إلا الفرصة الأخيرة، فيأتي وينفخ في مقعدته ليخيل إليه أنه أحدث، فلو أخذ بهذا التخييل فسينصرف ليتوضأ، وسيعيد الكرة وينفخ فيه مرة أخرى، وهكذا حتى لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة، ومن هنا بين صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيل له بسبب هذا النفخ أنه أحدث، والحقيقة أنه لم يحدث، فماذا يفعل؟ قال: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف) أي: فلا ينصرف من صلاته، وليبق على صلاته وعلى يقينه بالطهارة وليبق على اليقين الذي هو عليه، فمجيئه من بيته إلى المسجد، وقيامه في الصف، كل هذا يدل يقيناً على أنه متوضئ، وهذا التخييل الذي طرأ عليه إنما هو من الشك، والشك لا يلغي اليقين السابق، أو اليقين لا يلغى بهذا الشك الطارئ عليه.
قوله: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا كما تقدم هناك إذا شك هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً.
وتحقيق الأمر في (يسمع) أو (يجد) : لو أنه أصم لا يسمع، ولو أنه مزكوم لا يشم شيئاً فهل يتوقف الأمر على هذا حتى يتعافى من الزكام، وحتى يعالج من الصمم؟ الجواب: لا وإنما هذا خرج مخرج الغالب، والغرض أن يكون عنده يقين فعلاً بأنه قد أحدث، أما مجرد التخييل فلا.
وقوله: وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) .
هذه إعادة للحديث مرة أخرى، وزيادة توكيد و (أشكل عليه) أو (خيل إليه) أي: بسبب نفخ الشيطان، فليقل له: كذبت، أنا ما أحدثت.
ولكن هل يقولها بصوت يسمع أو يقولها في نفسه؟ جاءت الزيادة تبين ذلك: (فليقل ذلك في نفسه) ليؤكد عند نفسه أنه لم يحدث، وأن الشيطان كاذب في ادعائه، وأنه على يقين من طهارته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.