شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [1]
يعلم الإسلام أبناءه مكارم الأخلاق، والتنزه عن النجاسات، وتنزيه ما يستحق التعظيم عن ذلك ومما أرشد إليه هذا الدين الحنيف كيفية قضاء الحاجة والأماكن التي تقضى فيها.


حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) أخرجه الأربعة، وهو معلول] .
أنس رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث لأنه كان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه ملازمه في بيته، فهو أدرى بتلك الأمور الداخلية، فليس كل الناس سيحضرون دخوله صلى الله عليه وسلم الخلاء، وهنا لما كان أنس هو الذي يرويه -وأنس خادمه في بيته- يكون ذلك قرينة على أن هذا خلاء البيت.
وتذكر كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده بيت خلاء فيما بين حجرة عائشة وحجرة فاطمة، وكان يقضي حاجته فيه، وقيل: فوق السطوح إلى غير ذلك، والصحيح أنه كان أسفل ما بين حجرة عائشة وفاطمة داخل الحاجز الحديدي الأخضر الموجود الآن، وكان يقضي فيه حاجته.
وكانوا العرب قبل ذلك تأنف أن تبني مراحيض أو تقضي الحاجة محل السكنى، وكانت تأخذ المناصع -كما يقال- وهو الخلاء البعيد عن البيوت، وإلى الآن ربما يوجد في بعض القرى في بعض البلاد الإسلامية أنهم يستقذرون أو يستبعدون أو يتحرجون أن يجعلوا بيوت خلاء في داخل البيوت، ويذهبون ويخرجون فيقضون حوائجهم في الخلاء، ثم اتخذت بيوت الخلاء في البيوت حفاظاً على القعود والتكشف وغير ذلك.


نزع كل ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء
فـ أنس يروي لنا من صور آداب الخلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، ولفظه (كان) تدل على التكرار.
(وإذا دخل) المراد بـ (دخل) : أراد الدخول؛ لا أنه إذا دخل بالفعل، والمراد أن ينزع الخاتم، وسبب نزع الخاتم أنه منقوش عليه "محمد رسول الله" ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر، فلو حملنا (إذا دخل نزع) على ظاهر لاقتضى إدخال هذا الذكر الذي فيه لفظ الجلالة بيت الخلاء، ولهذا قلنا: إن معنى (كان إذا دخل) أي: إذا أراد أن يدخل، وكما يقول المالكية: ما قارب الشيء فإنه يعطى حكمه، وفي القرآن الكريم {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، فكذلك هنا: إذا أراد خول الخلاء.
قال: (نزع خاتمه) .
أول ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الخاتم كان يلبس خاتم الفضة، وكان له فص من العقيق، فلما أراد أن يراسل الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، قالوا له: يا رسول الله! إن الملوك لا تقبل خطاباً إلا إذا كان مختوماً بختم المرسل، أي: حتى يكون رسمياً كختم الدائرة أو ختم الدولة، فترك الخواتيم التي هي مزينة بفص العقيق -وهو فص من الأحجار الكريمة- والناس يتخذون الآن العقيق والفيروز والزمرد وغيرها من باب الحلية ومن باب الزينة، ويذكرون خواص في هذه الأشياء الله أعلم بحقائقها.
فترك الخاتم الذي فيه فص العقيق، واتخذ خاتماً من فضة ونقش على فصه محل الحجر، فجعله مربعاً أو مستديراً أملس، وحفر فيه نقش "محمد رسول الله".
قالوا: كان صفة النقش أن لفظ الجلالة في الوسط، ولفظ "محمد" ولفظ "رسول" في الطرفين، ومهما يكن من شيء ففيه لفظ "محمد" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الرسالة، وفيه لفظ الجلالة.
وهنا أخذ العلماء ضرورة تنزيه ما فيه ذكر الله عن مواطن الخبث: فإذا دخل ونسي الخاتم أن ينزعه فماذا يفعل؟ قالوا: إن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من الباب بعيد عن الأقذار فعل، فينزعه ويجعله في فيه ويطبق شفتيه عليه، حتى يكون في حجاب عن مواجهة الأقذار، ولا مانع من ذلك.
وإن لم يمكن أن ينزعه، وصعب عليه أن يخلع الخاتم، كأن تطول مدة الخاتم في يده ويصبح الخاتم ضيقاً فيحتاج في نزعه إلى مجهود أو آلام، قالوا: يدير الفص إلى داخل الكف ويطبق الكف عليه، فيصبح اسم الله أو ذكر الله محفوظاً بداخل الكف لا معرضاً لمواجهة الأقذار؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في محله عارياً عن ستر، ربما مع استعمال الماء أو مع أي شيء يحصل هناك رذاذ من تلك المياه الموجودة، فتصل النجاسة إلى ما فيه ذكر الله، فيقع المحظور.
وقياساً على الذكر الموجود في الخاتم يشمل الحكم كل ما فيه ذكر الله، سواء كان خاتماً، أو كان حلية، أو كان قرطاساً، أو كان جهازاً أو آلة، فمهما يكن من شيء يشتمل على ذكر الله فإنه يجب تنزيهه عن بيت الخلاء، فإن تذكر قبل الدخول فبها ونعمت، وإن لم يتذكر فعليه أن يحتاط، فإن استطاع أن يبعده وهو على جلسته فعل، وإن لم يحتط فعليه بإخفائه عن مواجهة النجاسات، قالوا: حتى لو يضعه في عمامته، وذلك عندما كان الناس يلبسون العمائم.
وعلى هذا فالأمور تختلف من حيث هي، فـ مالك رحمه الله يكره إدخال شيء مكتوب بالعربية ولو لم يكن فيه ذكر الله، لو أن هناك كتاب هندسة -زوايا وأضلاع ومقاييس موجودة- أو أشكال هندسية يعبر عنها بكلام عربي قال: لا ينبغي إدخالها ولا التمسح بها ولو لم يكن فيها ذكر الله؛ لأن تلك الكلمات والحروف عربية، والقرآن الكريم إنما هو بلسان عربي نطقاً وكتابة، فتحترم الحروف التي بها كتب القرآن الكريم عن تلك الأماكن.
أما اللغات غير العربية فإنه إن وجد فيها ما تعرف ترجمته بذكر الله فهي تأخذ حكم العربية؛ للمعنى الذي تحمله، كما قيل: الألفاظ قوالب المعاني، أما إذا كان بلغة غير عربية، وليس فيها ذكر الله فهذه لا قيمة لها، كنقوش ليس لها حرمة.


حرمة دخول الخلاء بالمصحف
من هنا نعلم يقيناً بأن أشد ما يكون في هذا الباب التجرؤ في الدخول بالمصحف الشريف إلى بيت الخلاء، ولو تطور وأصبح معطراً ومرخماً وو إلخ كما يتصور بعض الناس، وسبق أن نبهت على ذلك.
وقد سأل بعض الطلاب في الفصل وقال: شريط (كاسيت) مسجل وليس فيه حروف، هل يكون له حرمة القرآن المكتوب بالأحرف في أوراق؟ فقلت: نعم؛ لأنه يحمل في طياته القرآن الكريم، وكما قيل: (النار كامنة في الحجر) فإذا قدحت به الزند خرجت النار، وكذلك هنا المعنى والصوت موجود في هذا الشريط، وملصق على المادة المغناطيسية على هذا الحديد بأمور فنية لا ندركها، وهي تمسك هذا القول على الشريط كما يمسك على القالب الشمعي الذي يسمى الأسطوانات إلى غير ذلك، فمعناه أن القرآن موجود، وإن كنا بحواسنا العادية لا نستطيع أن ندركه لا بالسماع ولا بالرؤية، لكن إذا وضع في جهازه أخرج لنا هذا الصوت وسمعناه طبق ما قرأه القارئ وسجل عليه.
كذلك الرؤية: إذا أدخل شريط فيه صور، فعرض على جهاز يخرجه ويبرزه، فرأينا الصورة وسمعنا القول، فإنه يأخذ حكم المصحف.
فإذا بإنسان -ما أدري هو يتمدح بهذا أو يتطاول أو يتجاهل- يخرج مصحفاً في جيبه على سحَّاب ويقول: أنا أدخل بهذا الخلاء! فقلت له: ماذا أفعل إذا حرمك الله توقير كتاب الله؟! وهذا من المؤسف! فإذا به يتمادى ويقول: بيت الخلاء اليوم ليس كبيت الخلاء في القديم، أصبح الآن مرخماً ومعطراً ونظيفاً وكذا قلت: مرحباً حياك الله، لو وضع لك الغداء اليوم في بيت خلاء منظف من أحسن ما تحب، رخامه أبيض، وهو مطيب، وكل الخبز مثلما تشاء، وتفضل هناك الغداء.
قال: كيف يصير هذا؟! قلت: عجيب أنت لست أفضل من كتاب الله.
فيا إخوان: يؤسفني أن أورد مثل هذا، لكن حيث وجد بالفعل شباب مسلم ينتمي لكل معاني الإسلام، ويخرج المصحف من جيبه، مما يدل على أنه حريص ومكثر من التلاوة، والله أعلم بأمره، لكنه يقول: أنا أدخل بهذا بيت الخلاء فحذارِ يا إخوة! أما من الناحية الفقهية فنجد المسائل إذا استجد لها صور عن الماضي ربما تدخل العقل والفكر، نجد بعض العلماء يذكر ما إذا كان يخشى ضياع المصحف قبل الدخول؛ ولذا تجدون أنتم في سبل السلام: أنه لا يجوز الدخول إلا عند الضرورة، وذلك بأن يخشى ضياعه.
يا سبحان الله! والله لأن يضيع ألف مرة، أو يأخذه كافر ليس مسلماً ولا أدخل به بيت الخلاء! إذا أخذه إنسان مسلم أقل ما يفعله أنه سيقرأ فيه أو سيحطه في الرف، أو سيبيعه ويأكل ثمنه، وهذا أولى من أن ندخل بكلام رب العالمين بيت الخلاء.
قال تعالى:: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:75-80] إذاً: نتساهل نحن وندخل المصحف أو ما في معنى المصحف ولو أوراقاً صغيرة وفيها ألفاظ من القرآن أو نحو ذلك! لا ينبغي أبداً.
ثم ما وجدنا بيت خلاء خالياً من الناس؛ لأنه لا يكون الخلاء إلا في العمران، فأودعه عند إنسان خارج عن دورة المياه، فهناك دكان! أو إنسان جالس! أو شخص في الخارج ينتظرك! فتقول له: خذ هذا معك حتى أخرج، فإذا خرجت أخذته منه ودخل هو، إذاً: الإنسان يحتاط.
أما ما نجده من بعض الأوجه والاجتهادات والآراء، ويقولون: حفظ المال واجب، وضياع الأموال ممنوع ومحرم، كل ذلك قد يقال في غير القرآن الكريم.
والله تعالى أعلم.


الحمامات العامة حكمها حكم بيوت الخلاء
كذلك يلحق ببيت الخلاء الحمامات العامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها تحضرها الشياطين، وهي من المحلات التي لا ينبغي دخولها إلا لضرورة العلاج أو عدم وجود أماكن أخرى يستطيع أن يغتسل فيها، فلا ينبغي أن يدخل أيضاً المصحف في الحمام، اللهم إلا إذا كان للحمام إدارة -مكتب- فتضع ثيابك وتضع المصحف هناك، فلا بأس في ذلك.
لكن في مواجهة المغاسل أو المغطس أو الأماكن التي تكشف فيه العورات هذا منهي عنه، فإذا كان منهياً عن كشف العورات في الحمامات، وبسببها جاء النهي عنها إلا للضرورة، فلا ينبغي أن يعرض إليها أيضاً المصحف الشريف أو الأحاديث النبوية الشريفة.
وكما نبعد وننزه ما فيه ذكر الله عن تلك الأماكن، فإن الإنسان كذلك لا ينبغي أن يدخلها إلا وقت الاضطرار، ولا يأتي إليها -كما قيل- إلا للحاجة التي دفعته إليها، ولولا الحاجة ما دخل هناك.


الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء
[وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أخرجه السبعة] .
الأدب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول أيضاً، قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبْث) بالتسكين أو (من الخُبُث) بضم الباء، فالخبْث: بالتسكين جمع خبيث، ويشمل الجمادات كخبائث الطعام، وخبائث الماديات، والأشغال النتنة والقبيحة، والخبُث: جميع خبيث، وهم شياطين ومردة الجن، والخبائث: جمع خبيثة، فذكران الشياطين الخبُث، وإناث الشياطين خبائث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم) يقول علماء العربية: (الميم) في (اللهم) عوضاً عن الياء في أول الكلمة، أصلها: يا ألله، فالأصل أن يؤتى بحرف النداء في الأول، فإذا لم يأت حرف النداء جاءت الميم في الآخر (اللهم) .
(إني أعوذ) قالوا: أعوذ وألوذ بمعنى أحتمي، والاستعاذة: هي الاستجارة والحماية والاحتماء بمن تستعيذ به، وعندنا صيغة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهنا يستعيذ صلى الله عليه وسلم بالله من هذا الصنف من خبائث الجن ذكوراً وإناثاً؛ لأنه لا يعيذ الإنسان منها إلا الله، وبالاستعاذة بالله تكفي شرها؛ ولهذا كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: علمنا الله كيف نصانع أعداء الإنس ونتحفظ من أعداء الجن في الآية الكريمة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] السيئة ستأتي من العدو: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فيقول: إذا كنت تريد أن تكتفي شر عدو الإنس فقابل إساءته بالإحسان.
وأظن أنه قيل لواحد واسمه شكسبير: نراك تصانع أعداءك، أهذا ضعف منك؟ قال: لا، أترونني حينما أصانعهم أكتفي شرهم أم لا؟ قالوا: بلى.
قال: هذا خير من أن أجاهدهم وأواجههم.
والقرآن الكريم يبين لنا بأنه لا تستوي الحسنة منك ولا السيئة من عدوك، فادفع سيئة العدو بالتي هي أحسن منك تكتفي شره، فإذا هذا العدو المعادي لك كأنه ولي حميم.
ولكن لا ينالها كل أحد ينالها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فهذا الجانب هو الاكتفاء من شر عدو الإنس.
والجانب الثاني: الاكتفاء من عدو الجن، وهو يأتي بعد ذلك مباشرة: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:36] فهنا عدو الجن لا تستطيع أن تصانعه، ولا أن تدفع سيئته بأن تحسن إليه، ولا تراه ولا تستطيع أن تعامله معاملة الإنسي، فليس لك مفر ولا مهرب منه ولا سلامة من كيده وشره إلا أن تستعيذ بالله منه؛ لأنه الأقدر عليه والأعلم بحاله.
وهنا: (اللهم إني أعوذ بك) : أي: ألوذ بك، وأحتمي بك.
(من الخبُث والخبائث) ، أي: من ذكران الشياطين المتمردة ومن إناثهم.
إذاً: الشياطين فيهم ذكور وإناث، وفيهم تزاوج وتناسل، وفيهم تكاتف، وهذا كما جاءت الأخبار في ذلك مستفيضة.
وعلى هذا: لماذا يقول ذلك عند دخول الخلاء ولم يقل ذلك حينما يأوي إلى فراشه لينام، ولم يقل ذلك حينما يريد أن يأكل أو يلبس ثيابه؟ قالوا: لأن بيوت الخلاء هي مسكن هؤلاء الأشرار (الخبث والخبائث) أما الصالحون الذين لا يتمردون فلا يسكنون بيوت الخلاء، ولا يأوون إلى محلات النجاسات، ولكن: إما أن يسكنوا في البيوت الخربة، أو في بعض الآبار وخاصة المهجورة، أو حتى الآبار المستعملة.


قصص واقعية للجن مع الإنس
ومن غريب ما سمعت من أحد الأشخاص، سمى لي بيتاً -وأنا أعرفه وهو موجود- كان هذا البيت موجوداً إلى عهد قريب بجوار مبنى البريد الآلي الموجود، وأنتم تعرفون أن المدينة ليلة العيد يكون فيها حركة، فالنساء تغسل البيوت وتهيئ الفراش، والرجال في الأسواق يشترون، وفي حركة دائمة، فيذكر لي أناس من نفس هذا البيت، أنهم طوال الليل، وهم يسحبون الماء من البئر ويغسلون الحجر والبيت، فإذا هم يسمعون صوتاً من داخل البئر: يا جماعة! ألا تنامون! طلع الفجر ونحن نريد أن ننام، فالبنت قالت: نطلع دلوين فقط ونغلق.
وقالت: نحن متعودون على ذلك من زمان يكلمونا ونكلمهم! ثم يحدثني رجل أنه كانت هناك زمالة وصداقة بين عمه وبين الجن وذهاب وإياب، فيقول: قال لي عمي: اجلس عند النافذة -وكان عمه يعمل في جمع المصاحف وتوزيعها في الروضة، ويعطيها الناس ليقرءوا فيها يوم الجمعة، وبعد أن يذهب الناس يجمعها ويرتبها في مكانها- حتى إذا دق الباب فتحت، يقول: كنت صغيراً ولم أكن كبيراً جداً، قال: وبينما أنا جالس أسمع الأذان فقبل أن ينتهي المؤذن من الأذان سمعت حركة في البئر، فقلت: ربما أنا أتخيل أو أن هذه حركة عند الجيران، وبينما أنا جالس عند النافذة إذ بي أسمع خفق نعال على الدرج كأن إنساناً لابس (قبقاباً) ويمشي في الحجر.
قال: فتجمدت في مكاني! ثم نظرت فإذا بالباب ينفتح ثم يغلق! وبعد أن انتهى الإمام من خطبته وصلاته وقال: السلام عليكم، فما هي إلا لحظات وإذا بالباب ينفتح ثم يغلق، يقول: ثم جاء عمي فدق الباب، يقول: خذ المفتاح وافتح.
لماذا لا تنزل؟ قلت: أنا لن أنزل، افتح أنت واصعد، فلما فتح الباب وصعد أراد أن يضربني، قلت له: اصبر اصبر فذكرت له القصة فضحك، يقول: أنا أحترق في نفسي وهو يضحك.
ثم قلت: يا عم! لماذا تضحك؟ يقول: هؤلاء من زمان قديم وهم يسكنون عندنا، يذهبون ليصلوا الفجر، ويذهبون ليصلوا الجمعة، ونحن وهم مصطلحون وليس بيننا شيء.
إذاً: الجن غير الخبائث والخبيثات، فإنهم لا يسكنون في مواطن النجاسات كالمراحيض، ولكن يسكنون في المحلات البعيدة عن النجاسة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم) وجاء ذلك في قصة وقعت أيام في غزوة الخندق، عندما جاء الصحابي الذي استأذن رسول الله أن يدخل بأهله، لأنه كان حديث عهد بعرس، فقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك يهود بني قريظة) ، فلما وصل إلى باب البيت فإذا زوجه واقفة على باب البيت بدون حجاب وستر، فأراد أن يهوي إليها برمحه، قالت: لا تعجل! ادخل بيتك، وانظر فراشك ما فيه! فدخل فإذا حية على طول الفراش، فانتظمها بالرمح ولم يسم الله، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الرجل! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هذا من الجن، قتله ولم يسم الله فانتقم له أصحابه فقتلوه، إذا رأى أحدكم شيئاً من هذه الحيات في البيوت فليؤذنها ثلاث مرات، فإن رآها بعد ذلك فليقتلها) .
ومن هذا يتبين أن الجن المؤمنين يهاجرون إلى المدينة كما يهاجر الإنس ويسكنونها، ويأتون إلى المسجد، ولكن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] .
وسمعت من الشيخ ابن عثيمين -الله يغفر له ويرحمه- في مسجده في مدينة المجمعة يقول: أخبرني الشيخ بأنه كان في صلاة الضحى في بيته، فإذا بجماعة يسلمون عليه ولم ير أحداً، قال: من أنتم؟ قالوا: يا شيخ! نحن تلاميذك في المسجد، وجئنا ولم نستأذن منك، فنريد أن يكون حضورنا دروس الفقه بإذن منك، دروس الفقه.
قال: لا بأس؛ بشرط: أن تظهروا للطلاب، فربما آذوكم أو تأذوا منكم.
قالوا: نعم.
إذاً: في هذا الحديث يبين لنا صلى الله عليه وسلم أن خبائث الجن تسكن في الأماكن القذرة ولهذا أيضاً فأعمال الشر من السحرة والفسقة لا تتم إلا في تلك الأماكن، ولا تتم أبداً في أماكن متنزهة كبستان، أو مجرى نهر، إنما تصلح معهم في تلك الأماكن حيث يسكنها خبائث الجن وخبيثاتهم، وهم اللذين يعينونهم على الشر.
والله تعالى أعلم.


حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم
[وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء) متفق عليه] .


العنزة وفائدة استصحابها
ويأتي لنا أنس مرة أخرى فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وغلام نحوه يحملان للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء إداوة من ماء وعنزة.
ذكر العنزة وكونه يحمل إداوة من ماء وغلام نحوه كأنها قرينة على إرادة الخلاء الحقيقي وهو الفسيح من الأرض؛ لأنه في بيت الخلاء لا يحتاج إلى عنزة، وفي الفلاة يحتاج إلى العنزة حتى يركزها ويضع عليها رداءه، وتكون ستراً له من أعين الناس.
وحقيقة العنزة: هي عود من الخشب من نوع قوي، في طرفها زج من الحديد، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم، وكان إذا أراد الإنسان أن يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة، حتى لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه، فإذا كانت الأرض رملية فإنها تتقبل البول ولا يرتد منه شيئاً، بخلاف الأرض الصلبة فإنها ترد وتعكس البول على ما يقابلها، والعنزة كانوا يستعملونها في أشياء كثيرة، وكما قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] .
وهناك سيرة أو قصة لعنزة، وهي: كان الزبير رضي الله تعالى عنه في غزوة بدر، وكان هناك رجل من المشركين يقال له: أبو ذات الكرش، لديه بنت كرشها كبير، وكان يحملها فلقب بهذا، وكان في صفوف المشركين مجللاً بالحديد من أوله إلى آخره، ولم ير منه إلا فتحة العين، وكان مع الزبير عنزة، قال: فصوبتها على فتحة العين فأصابته وصرع منها، قال: فجئت لآخذ العنزة فما استطعت سحبها حتى وطئت على رأسه بقدمي، ثم انتزعت العنزة بالقوة حتى انثنى طرفاها.
على كلٍ حكاية التصويب والإصابة وقوة الضربة هذا كله شيء معروف من فروسية المسلمين، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبرها قال: أعطنيها، فأعطاها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول القصة فيها: فكان صلى الله عليه وسلم يصحبها في السفر، فإذا أراد الصلاة في الخلاء ركزها أمامه -كما يقال- سترة للمصلي، وإذا أراد الخلاء ركزها ووضع عليها رداءه تستره من الناس.
ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذها أبو بكر فكانت عنده، ولما توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها عمر فكانت عنده، وبعد وفاة عمر استرجعها صاحبها الأول.
قوله: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء) .
الخلاء حقيقة وابتداءً: الأرض الواسعة الخالية من الأشجار، والخلاء يطلق على المرحاض الذي بني لقضاء الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة، فـ (دخل الخلاء) تصدق على المرحاض، وتصدق على الأرض الواسعة، لكن ذكره للعنزة هنا، وأنه يحمل هو وغلام نحوه الماء يمنع أن يكون الخلاء هو المرحاض.
ابن عباس لما كان عند ميمونة رضي الله تعالى عنها، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت الخلاء ذهب وأتى بإبريق وملأه ماء وطرحه عند باب المرحاض، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ووجد الماء قال: (من وضع هذا؟ قالت له: ابن عباس.
قال: لم وضعه؟ قال: علمت أنك حينما تدخل الخلاء تحتاج إلى الماء.
قال: اللهم فقهه في الدين) وهذا هو الفقه -أي: الفهم- استنتج من دخول الخلاء الحاجة إلى الماء، فجهزها قبل أن يطلب منه.
والإداوة: إناء من الجلد على هيئة الإبريق تماماً، وقد رأيتها مع جماعة يمنيين في منى، وهي عبارة عن جلد سخلة صغيرة مربوط من آخر النصف الأسفل، والرقبة هي فتحة الإبريق، وإحدى اليدين هي (البزبوز) الذي يخرج منه الماء واليد الثانية هي الأذن أو اليد التي يمسكون الإداوة بها كشكل الإبريق سواء بسواء، الرجلان الأماميتان واحدة بدلاً عن (البزبوز) والثانية محل اليد، والرقبة هي عنق الإبريق، ومن الوسط إلى تحت جعل له قاعدة من نفس الجلد على شكل مستدير كقاعدة توضع على الأرض، يعني: محيط قاعدة نحو (20سم) .
ولما رأيته تعجبت، وقلت له: ماذا تسمون هذا؟! قال: هذه الإداوة.
قلت: جزاك الله خيراً، الحمد لله أننا رأيناها، كانوا يصفونها لنا في الكتاب وفي الدرس، والآن رأيناها بأعيننا طبق الأصل.
فالإداوة: إناء من جلد بقدر الإبريق البلاستيك، وكانت في القديم تصنع من التنك -ما يسمى بالزنك- فكان إناء لحمل الماء.


استحباب البعد عند إرادة الخلاء
قوله: (أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة) كل شخص منهما يحمل شيئاً، وكلمة (غلام) تدل على أنه صغير، معنى ذلك أنه لا بأس باستخدام الصغار للمساعدة في مثل هذه الحالة.
وقد كان من شأنه صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في حديث المغيرة - إذا لم يكن هناك بيت للخلاء، وأراد الخلاء أن يبعد حتى لا يراه أحد، ولابد من الاستتار، ولو بكوم من رماد.
وجاء في بعض خواصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أنه كان في أرض صلبة وما وجد شيئاً يستتر به، وكان هناك شجرتان متباعدتان، فناداهما وأشار لكل واحدة منهما أن تنضم إلى الأخرى، فشقتا الأرض والتقيتا حتى جلس وقضى حاجته، ثم أشار إليهما أن يرجعا، فرجعتا إلى ما كانا عليه.
وهذه الحادثة حدثت مرة أخرى لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقي ركانة يرعى غنماً، وكان ركانة -كما يقولون- بطل المصارعة، فما كان أحد يصارعه إلا صرعه ركانة، فجاء الرسول وقال له: (يا ركانة! أما آن لك أن تسلم؟ قال: يا محمد! تصارعني؟ قال: نعم أصارعك.
قال: إن غلبتني أعطيتك مائة شاة، فصارعه فغلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) يقول الصحابة: (كنا نحدث بأنه أوتي قوة أربعين رجلاً) .
وكانوا يحتمون به صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت المعركة، وفي حنين لما فوجئوا برمي النبل من هوازن نفروا، فثبت مكانه وقال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وما بقي معه إلا العباس، فقال: (نادِ: يا أهل بيعة الرضوان!) فرجعوا إليه وكروا على العدو ونصرهم الله، فكان صلى الله عليه وسلم -لا نقول مصارعاً- بل كان يصرع الصرعة، فهنا صرعه صلى الله عليه وسلم فغلبه، قال: واويلتاه! ما أحد قط وضع جنبي إلى الأرض قبلك، تعيدها؟ قال: نعم.
فأعادها معه المرة الثانية، فقال: والله يا محمد هذا أمر! لابد من الثالثة، قال: الثالثة، فصرعه، فوقف يضرب يداً بيد: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهلي في ثلاثمائة شاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا أجمع عليك غبنين: غبن في الغلبة وغبن في الشياة، ثم قال: أتعجب من ذلك يا ركانة؟! قال: إي -والله- يا محمد! قال: انظر إلى تلك الشجرة، فنظر إليها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إلي إلي فجاءت إليه تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث كنت، فرجعت حيث كانت.
ويقولون: كان صلى الله عليه وسلم يبعد جداً ويستتر لجهتين: جهة شخصيته كمروءة، وجهة الناس؛ لأنه لو قدر أن إنساناً رآه فقد بصره، هكذا يقولون والله تعالى أعلم، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها زوجة، ومع ذلك تقول: (والله ما رأى مني ولا رأيت منه) وهذه أخلاق عالية، فهما زوجان في فراشٍ واحد، ويغتسلان في مكان واحد، ثم لا يرى أحدهما من الآخر، فهذه مثالية عليا في آداب الحياة والمعاشرة.
كان صلى الله عليه وسلم يبعد حتى يقضي حاجته، ثم يدنو من الناس ويطلب الماء ليستنجي، ويكون قد استعمل الحجارة هناك، وبعد أن قضى حاجته يطلب الماء ويستنجي بالماء، وهذا فيه إثبات استعمال الماء مبدئياً، وهو الأصل، وسيأتي استعمال الحجارة وأيهما أفضل، وسيأتي خبر أهل قباء: (إن الله أثنى عليكم في الطهارة ماذا تفعلون؟ (ولكن يهمنا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء ويستنجي بالماء.
والاستنجاء: هو إزالة النجو، والنجو: هو الباقي بعد الاستجمار؛ لأن الاستجمار لا ينقي، ولابد أن يترك أثراً مكانه، فمهما استعملت عدداً من الحجارة أو نحوها فلابد أن يبقى في مكانه أثر، ويتفق الفقهاء على أن هذا الأثر الباقي بعد الاستجمار مادام في محله فهو معفو عنه، ولو وجد مثل ذلك أو أقل منه في غير محله على اليد أو على الفخذ لما صحت الصلاة به، ولوجب غسله؛ لأنه في غير محله.
والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2]
من رحمة الله بعبده أنه أرشده إلى آداب تمنعه من التسبب في لعن الناس له، وتمنعه من إيذاء الناس، ومن هذه الآداب ألا يتخلى العبد في أماكن تجمع الناس أو تواجدهم كالظل والطريق وموارد الماء وأماكن التجمعات والأسواق، وأن يستر العبد نفسه عند التخلي ويترك الكلام مع نفسه أو مع الآخرين.


حديث المغيرة بن شعبة في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم حاجته في غزوة تبوك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ الإداوة، فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) متفق عليه] .


الألفاظ الواردة في حديث المغيرة لم يذكرها المصنف
اقتصر المؤلف هنا على قوله: (فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) يعني: الاستتار عن الناس عند قضاء الحاجة.
وهذا الحديث تقدم جزء منه في باب المسح على الخفين؛ لأنه حديث طويل، ويشتمل على عدة مباحث فقهية تدخل في عدة أبواب، وعلماء الحديث ربما جزءوا الحديث في الأبواب على حسب الحاجة، وتتمة هذا الحديث قول المغيرة رضي الله تعالى عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) وجاء تعيين هذا السفر أنه في غزوة تبوك.
قال: (فضرب عنق راحلتي فتبعته -أو قال:- خذ الإداوة واتبعني، فانطلق) وعرفنا الإداوة أنها إناء من جلد على هيئة الإبريق: (فانطلق حتى توارى عني) ثم يذكر ابن عبد البر عدة روايات في عدة مواطن من هذا الحديث.
قال: (فقضى حاجته) وقال في بعض الروايات: (هل معك ماء؟ قلت: بلى.
فأفرغت من قربة عندي ماء في كذا) وفي بعض الروايات (فأتاني فأفرغت على يديه من الإداوة فغسل يديه) وفي بعض الروايات: (مسح يده بالتراب) وفي بعض الروايات: (ثم توضأ فغسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، فأراد أن يخرج يده من كم الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرجها من تحت الجبة، وغسل يديه إلى المرفقين.
ومسح رأسه، فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني قد أدخلتهما طاهرتين، ومسح على الخفين، ثم جئنا إلى القوم فوجدناهم قد قدموا عبد الرحمن بن عوف يؤمهم في صلاة الصبح، فهممت أن أنبهه ليتأخر ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاني وكبر في الصف وكبرت معه، فلما قضى عبد الرحمن صلاته قام صلى الله عليه وسلم يصلي ما فاته من الصلاة، فلما رأى الناس ذلك فزعوا -أي: لكونهم تقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما رأى ما بهم من فزع، قال: أحسنتم) .
وإلى هنا ينتهي لفظ الحديث، ثم يأتي بعد ذلك زيادة أنه قال لهم: (ما قبض الله نبياً إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) فهذا هو تمام هذا الحديث.


بعض الآداب والأحكام الواردة في حديث المغيرة
نريد الوقوف عند عباراته لما فيها من الفقه:


الإبعاد عند قضاء الحاجة
أولاً: الجزء الذي ساقه المؤلف هنا: (فانطلق حتى توارى عني) .
هذا من أدب قضاء الحاجة، وهو أنه إذا لم يكن في البنيان وكان في أرض فسيحة فيبعد حتى يتوارى، فإما أن يجد ما يستره كشجرة أو مكان منخفض مثلاً، وإما أن يبعد عن الأنظار، وخاصة النبي صلى الله عليه وسلم.


أيهما أفضل الاستنجاء بالحجارة أم بالماء؟
(ثم أتاني فصببت عليه من إداوة معي) .
هنا لم يذكر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استجمر بالحجارة، ولكن ذكر لنا قال: (أتاني فأفرغت على يديه فغسل كفيه ثم توضأ) وهنا يقول ابن عبد البر: نقلاً عن كثير من العلماء: يجوز الاجتزاء بالأحجار مع وجود الماء.
والجمهور وخاصة الشافعي رحمه الله يقول بالاجتزاء بالأحجار عند عدم وجود الماء، ويمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتزأ بالحجارة لأنهم في سفر، وعادة المسافر وخاصة في الصحراء أن يكون الماء معه قليلاً، وإذا كانت إداوة فلربما لا تجزئ في الاستنجاء بها والوضوء، وإذا أمكن الاجتزاء بالحجارة فإنه يوفر الماء للوضوء، إذاً: لا ينبغي أن يكون هذا العمل دليلاً على ما ذهب إليه البعض.
والجمهور انتهوا إلى أنه إذا فقد الماء فالاستجمار رخصة، والآخرون يقولون: سواء وجد الماء أو لم يوجد، في حضر أو في سفر، فإن الاستطابة بالأحجار مجزئة.
وجاء عن بعض السلف أن الأحجار للرجال، وأن الماء من خواص النساء، وخاصة في البول، وقالوا: بأن البول من الرجل معلوم المكان ويمكن أن يجزئ فيه التمسح بالحجارة، بخلاف المرأة فإن خروج البول ليس محصوراً في مكان كالرجل، لأنه ينتشر فلذا لزم عليها استعمال الماء.


حكم العمل اليسير أثناء الوضوء
والذي يهمنا في هذه النقطة: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة مع وجود الإداوة مع المغيرة، وقضى حاجته واستجمر وانتهى، ثم جاء إلى المغيرة ليتوضأ، فأفرغ على يديه وغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم أراد أن يخرج كفيه من كمي الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرج يديه من تحت الجبة.
هنا يقول الفقهاء: العمل اليسير أثناء الوضوء لا يقطعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل بإخراج يديه من الكمين فلم يستطع، فحاول إخراجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء، فقد كان موالياً في غسل الأعضاء لكن وقع بين غسل الوجه وغسل اليدين محاولة إخراج اليدين من الكمين ولم يستطع، فأخرجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء.
فقالوا: إذا كان العمل قليلاً يسيراً فلا شيء في ذلك، ويبني على ما كان من وضوئه ويكمل الباقي، أما إذا كان الاشتغال طويلاً فإنه يستأنف الوضوء من جديد، وحددوا الطول والقصر في هذا بجفاف العضو الذي تشاغل عنده.
فمثلاً: غسل وجهه، وأراد أن يغسل يديه فبحث عن كرسي ليجلس عليه، وذهب ليأتي به وجاء حتى جف ماء الوضوء عن الوجه، فيكون قد انقطع، فيبدأ الوضوء من جديد فيغسل وجهه استئنافاً للوضوء من جديد؛ لأنه بالعمل الكثير قد قطع الوضوء فيستأنف.


لبس الثياب الضيقة الأكمام والواسعة
ثم كون الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس الجبة ضيقة الكمين، يقول ابن عبد البر: هذا أنسب للسفر، وخاصة للجهاد؛ لأن الكم الضيق لا يشغل صاحبه، ونستطيع أن نقول: لا ينبغي للإخوان أن يعيبوا على بعض الناس أن يلبس ثوباً في كمه (كبك) ويقولون: هذه بدعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الجبة ضيقة، وسواء كان الضيق (بالكبك) أو بالأزارير أو بالخياطة فكل ذلك جائز.
ومن نوادر ما ذكر عن الشافعي رحمه الله أنه كان يتصف بالحلم وسعة الصدر إلى حد بعيد، فأراد بعض الناس أن يخرجه عن هذا الوقار أو عن هذا الحلم، فسمعوا بأنه ذهب بثوب إلى الخياط ليخيطه، فذهبوا إلى الخياط ودفعوا له أكثر من الأجرة وقالوا له: نريد أن تجعل الكم الأيمن للشافعي ضيقاً، والكم الأيسر واسعاً جداً؛ فأخذ الخياط الأجرة وفعل، فلما جاء الشافعي يستلم الثوب كانوا موجودين يتوقعون الغضب والتسخط، فلما لبسه وأدرك أن هناك شيئاً قال: جزاك الله خيراً، لقد يسرت لي أمري وساعدتني على طلب العلم.
قال: لماذا؟ -الرجل متوقع خصومة- قال: أما ضيق الكم الأيمن فلكي لا يشغلني حال الكتابة، وأما سعة الكم الأيسر فإني أحمل فيه كتبي -يعني: بدل الحقيبة- فعجب الجماعة الذين تآمروا عليه! ولنعلم أن ضيق الكم قد يساعد على أداء بعض الأعمال، وسعة الكم قد يساعد على بعض الأعمال، وطبيعة الثياب -بصفة عامة- يمليها نظام البيئة والجو، ولذا تجدون الأعراب في البادية أكمامهم تكون بطول الرجل وربما تكون فتحة الكم أكثر من متر، وسعته تحت الإبط ثلث متر أو ربع متر أو شيء من هذا؛ لأن الجو حار، فهو بمثابة المراوح أو وسائل التهوية، وتجد في البلاد الباردة يصنعون كماً قصيراً وجبة وبنطلوناً ضيقاً أكثر من اللازم، إذاً: البيئة هي التي تملي على الإنسان نوع اللباس والثياب الذي يتلاءم مع طبيعة الجو.
يهمنا في هذه الحالة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة، فهل كان هذا دائماً في الغزوات والأسفار أو كان هذا عارضاً في غزوة تبوك؟


استحباب خدمة أهل الفضل
وهنا بعد أن توضأ صلى الله عليه وسلم يقول المغيرة: (فأهويت لأنزع خفيه (، ولا مانع في مثل ذلك، أعني أن الفضلاء وأهل الفضل يخدمهم الآخرون ولو في خلع النعلين أو تقديمها إليهم، وقد جاء في قصة الأمين والمأمون أولاد هارون الرشيد لما جاء معلمهم وتذاكروا فيما بينهم، وأراد أن يخرج فقام الأمين والمأمون يقدما إليه النعل فتسابقا، فأخذ كل واحد فردة من النعل وقدمها إليه، فقهقه الرشيد وقال: والله ما رأيت أشرف منك اليوم؛ لأنهم لم يفعلوا هذا لي أنا، يعني: لم يفعلوه للخليفة ولكن فعلوه للمعلم.
فلا مانع من خدمة أصحاب الفضل وخاصة العلماء وأصحاب النعم على أربابها أن يخدمهم الآخرون، ولاسيما إذا كان في جانب ديني ولوجه الله.


لبس الخفين لا يكون إلا بعد طهارة كاملة
فقال له صلى الله عليه وسلم:) دعهما -يعني: دع الخفين في قدمي- فقد أدخلتهما طاهرتي) وفي بعض الروايات: (أنسيت يا رسول الله -يعني: نسيت الغسل ومسحت-؟! قال: بل أنت نسيت، أما أنا فأمرني ربي) ومن هنا يدخل البحث في المسح على الخفين.
وفي قوله: (أدخلتهما) أي: الثنتين، يقول العلماء استنتاجاً من ذلك: لو أن المتوضئ غسل إحدى القدمين اليمنى مثلاً فألبسها الخف، ثم غسل القدم اليسرى فألبسها الخف، لم يجز المسح على هذين الخفين بتلك الصفة؛ لأنه لما أدخل القدم اليمنى لم تكن اليسرى قد استكملت الطهارة؛ لأن كمال الطهارة بتمام الوضوء، وتمام الوضوء بغسل القدمين معاً، ولهذا أخذ الفقهاء رحمهم الله أن المسح على الخفين إذا أدخلهما معاً طاهرتين، أي: بعد تمام طهارة الوضوء.


تعارض العاطفة مع العقل وأيهما يقدم
أما مجيئهما إلى القوم وقد قدموا عبد الرحمن بن عوف فالبحث فيه من عدة جوانب: الجانب الأول: جاء أبو الحسن الندوي وحاضر في الجامعة الإسلامية وقال: قد يتعارض العقل مع العاطفة، وكان الوقت ضيقاً ولم يذكر أمثلة، فكان العادة أن نعلق على المحاضرات، فقلت: لعل من ذلك ما وقع للقوم في غزوة تبوك، لما غاب عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الصلاة، وتأخر الوقت، فهم الآن في موقف بين العاطفة والعقل، العاطفة تناديهم: انتظروا رسول الله؛ لأن الصلاة خلف رسول الله جانب روحاني عاطفي، ودخول الوقت ومضي جزء منه يقول لهم: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أدوا الصلاة قبل أن يخرج الوقت.
فأداء الصلاة قبل أن يخرج الوقت حكم عقلي بالنسبة لتحديد الشرع، والانتظار إلى مجيء النبي صلى الله عليه وسلم أمر عاطفي لتعلقهم بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا جانب العقل على جانب العاطفة.
وفي مواقف أخرى قد يقدم جانب العاطفة على جانب العقل، وذلك في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء وأبو بكر يؤم الناس، فلما شعر الناس بمجيء رسول الله أكثروا التصفيق أو أشاروا إلى أبي بكر إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف في الصف، فأراد أبو بكر أن يتأخر ليتقدم رسول الله، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك، لكنه لم يمكث مكانه ورجع في الصف، وأمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم المصلين، فهنا العقل يؤدي إلى أن يبقى مكانه؛ لأنه أمر صادر عليه من رسول الله، والعاطفة والأدب واستعظام أبي بكر أن يؤم رسول الله، فغلب جانب العاطفة أو الأدب كما يقولون.
إذاً: قد يقف الإنسان بعض المواقف، وجانب العقل ينادي بشيء، وجانب العاطفة ينادي بشيء، فننظر أيهما أصوب.


فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
الجانب الثاني: فضيلة عبد الرحمن بن عوف أن اختاره الموجودون في تلك الغزوة بأن يتقدمهم ويؤمهم في الصلاة مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطر في بالي أن غزوة تبوك حضرها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون أو المرشحون للخلافة، وابن عوف لم يكن منهم، نعم هو من المبشرين بالجنة ولكن لماذا قدموه وفي القوم هؤلاء؟ مع أن أبا بكر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن أبو بكر في كفة والأمة في كفة لرجح عليها أبو بكر) وفضيلة أبي بكر وصلته برسول الله أمر مفروغ منه: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي) وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
يمكن أن يقال: لكل مقام مقال، فالخلافة وإدارة الأمة ومراعاة شئونها تصلح لـ أبي بكر، الصلاة من حيث هي أداء، لقد عرف عن أبي بكر كما جاء من حديث عائشة: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قرأ لا يتمالك نفسه) أي أنه يبكي، وإذا قدمنا شخصاً يصلي بنا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع بكاءه، نحن في حاجة إلى أن نسمع القراءة، فالصلاة مبناها على القراءة وليس على البكاء.
إذاً: يكون ابن عوف مناسباً لإمامة الصلاة في هذا الوقت، ويمكن أن يروا بأنه أولى من غيره.
ثم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة المغيرة أن ينبه الإمام ليتراجع، يقولون: إن الإمام الراتب إذا تغيب وقدم القوم رجلاً يصلي بهم، فحضر الإمام الراتب، فهو مخير بين أن يتقدم ويرد من قدموه، ويصبح بعد أن كان إماماً مأموماً، حتى ولو كان قد صلى ركعتين أو ركعة من الصلاة، وإما أن يترك حقه في الإمامة ويقف مع المصلين مأموماً كبقية الناس، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الإمامة على الأمة عامة، فترك هذا الحق وصلى خلف الإمام الذي اختاروه لأنفسهم مسبوقاً مأموماً ثم أتم صلاته.


مراعاة اختيار أفضل الموجودين للإمامة
ينبغي أيضاً اختيار الإمام بأن يكون من خيرة الموجودين، وعندكم حديث مكتوب على المحراب في مثلث من المثلثات الموجودة على جانبي المحراب (تخيروا من يؤمكم في الصلاة فإن أئمتكم وافدوكم إلى ربكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالإمام وافد القوم إلى الله؛ لأننا نقدمه بين أيدينا ليناجي الله سبحانه وتعالى، فهو مقدم منا إلى الله كالوافد، أي: الذي نوفده ونرسله إلى بعض الملوك أو الأمراء ليسأل حاجة الأمة أو حاجة القوم، فكذلك الإمام وافد المؤمنين إلى الله سبحانه وتعالى.


صحة صلاة الفاضل خلف المفضول
ثم كونه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الرسل ونبي الأمة- يصلي خلف فرد من أفراد الأمة، يؤخذ منه صحة قالوا: تصح صلاة الفاضل خلف المفضول إذا كان المفضول أهلاً للصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف في هذه الحالة، ثم لما سلم الإمام نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم ما كان باقياً عليه، وهذا تأييد لما جاء عن معاذ رضي الله عنه.
وذلك أنهم إذا كانوا في الصلاة وجاء المسبوق سأل من في نهاية الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه بيده، ركعة أو ركعتين، فيصلي وحده وهو قائم في الصف ما فاته من الصلاة، ثم يتابع الإمام فيما بقي، فإذا سلم الإمام سلم؛ لأنه أتى بما فاته ثم تابع الإمام فيما تبقى، فيكون قد أتم صلاته.
فقال معاذ: لأن آتي فأجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وافقته فيها، فجاء مسبوقاً والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى من صلاته شيئاً، فتابعه على ما هو عليه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام معاذ وأتى بما كان قد فاته، وقد عرف من نفسه -دون أن يسأل أحداً- ما فاته من الصلاة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فخذوها) ، وأصبح من بعد تلك الحادثة أن المسبوق يأتي فيدخل مع الإمام على ما هو عليه، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم! دخل مع الإمام على ما هو عليه، ثم بعد أن سلم الإمام قام وأتم ما فاته من الصلاة، وهي الركعة الأولى؛ لأن الصلاة كانت صلاة الصبح.
قوله: (فزعوا) ، أي: لأن هذا أمر عاطفي كما أشرنا، وكانوا يحبون أن تكون الإمامة لرسول الله، وفزعوا أن يكون الرسول مأموماً لواحد منهم.


استحسان فعل المحسن والثناء عليه
قوله: (فلما رأى فزعهم) .
هذه نواح نفسية أدركها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس القوم، فأراد أن يذهب عنهم دواعي الفزع فقال:) أحسنتم) أي: أتيتم عملاً محسنين فيه.
إذاً: ليس هناك موجب لأن تفزعوا؛ لأنكم ما أتيتم بشيء يوجب الفزع، وهنا يقولون: على ولي الأمر أو المسئول أن يستحسن ما فُعل تحت أمره أو تحت رئاسته من فعل حسن، فيثنى على المحسن كما يعاتب المسيء؛ لأن في الثناء على المحسن تشجيع له على إحسانه، وهكذا كان قوله صلى الله عليه وسلم:) أحسنتم) .
ومن هنا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أرادوا الصلاة في أول وقتها، ولما لم يحضر الإمام الأحق بالإمامة قدموا غيره ليؤدوا الصلاة في وقت الفضيلة.


نجاح الرسالات السماوية في تربية الأمم
ثم بعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم تطييباً أو إخباراً بأمر مستقر جديد: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) .
هذا اللفظ على وجازته واختصاره يعطينا معنى عظيماً جداً، وذلك: أن أي نبي بعث في أمة إنما بعث فيها وهي على جهالة، وجاءهم الله بما أوحى به إليه ليخرجهم من تلك الجهالة إلى المعرفة، ولينشئهم ويربيهم ويعلمهم إلى أن يصلحوا في أنفسهم، ويكونوا صالحين لإصلاح غيرهم.
وهكذا هنا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية، وكلنا يعلم ما كانوا فيه من عبادة الأوثان، وجاهلية جهلاء، كما ذكر جعفر رضي الله تعالى عنه للنجاشي: كنا يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل الميتة، وكنا نخفر الذمم وكنا.
وكنا.
إلخ، فبعث الله لنا رجلاً منا نعرف نسبه ونشأته، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحقوق الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به.
إلخ.
فهنا كان العرب على تلك الحالة التي يعرفها الجميع، وجاءت الرسالة المحمدية بما يعرفه أيضاً الجميع، وأخرج الله به الأمة من الجهالة إلى المعرفة، ومن الضلال إلى الهداية، فكأنه يشير إلى أن الرسالة قد أدت مفعولها وأثمر غرسها، وأصبحت الأمة الأمية والأعراب في البادية قادة في أنفسهم، وصالحين لأن يؤم بعضهم بعضاً، وبالتالي كل واحد منهم أصبح صالحاً لأن يكون إماماً لغيرهم من الأمم والجماعات، وهذا بعد الهجرة بتسع سنوات؛ لأن تبوك كانت في السنة التاسعة، معناه أن الإسلام قد أعطى ثماراً، وأن الأمة التي تبعت الإسلام ودانت به أصبحت مستكملة ثقافياً وفكرياً وقيادياً، وأنها قد توفر فيها كل ما تتطلبه الأمة من عناصر الحضارة والتقدم.
ويدل على ذلك أن الواحد منهم بعد أن كان يعبد الصنم، ويفعل القبائح، أصبح الآن صالحاً لأن يؤم العالم وقد أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل بعدها بسنة واحدة وهي السنة العاشرة في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) دليل على أن الرسالات السماوية ناجحة في تربية الأمم، سواء كثر الأتباع أو قلوا؛ فإن نظام الوحي ومنهجه هو أن يوجد الإنسان الكامل الفاضل الذي يصلح لإمامة الدنيا بأسرها.
والله تعالى أعلم.


حديث أبي هريرة في النهي عن التخلي في الملاعن الثلاثة
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللعانين، الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) رواه مسلم.
وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) ] .


حكم لعن المعين
هذا أدب جديد في تجنب مواضع معينة في قضاء الحاجة، وتلك الأماكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها نهياً مصحوباً بالعقوبة؛ لأن في ذلك إيذاء للناس، فمن أدب قضاء الحاجة ألا يؤذي الناس بحاجته، فقال: (اتقوا اللعانَيْن) بالتثنية، أو) اللعانِين (بالجمع.
واللعن: هو الدعوة بالطرد من رحمة الله، ولا يجوز لعن المعين ولو كان كافراً؛ لأن اللعن معناه الطرد من رحمة الله، وما يدريك لعل عناية الله تدرك الكافر فيؤمن، فأين تذهب اللعنة حينئذ؟ ومما جاء من النهي عن اللعن أن اللعنة إذا خرجت من إنسان صعدت إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، فتعود إلى الأرض، فإن وجدت أن من توجهت إليه أهلاً لها وجبت عليه، وإن لم تجده أهلاً لها رجعت على من قالها فتبعته.
ولهذا جاء النهي عن اللعن حتى في حق إبليس، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان واستعيذوا بالله منه؛ لأنكم إذا لعنتموه تعاظم في نفسه) يعني: أنه صار خطيراً عليهم حتى ناصبوه العداء باللعان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (اتقوا اللعانين) بمعنى: اتخذوا منها وقاية وابتعدوا عنها.


حكمة إسناد اللعن إلى الموطن المتخلى فيه
ثم فسر اللعانين فقال: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) .
الرسول صلى الله عليه وسلم أسند اللعن هنا للبراز في الطريق والظل، والطريق والظل ليسا محلاً للعن، قال العلماء: معنى ذلك أن المتسبب في ذلك جلب اللعنة على نفسه ممن يأتي تلك الأماكن بفعله؛ لأن قارعة الطريق محل للناس يقرعونها بأقدامهم، فإذا قضى حاجته على الطريق آذاهم.
وكذلك الظل، والمراد به خصوص الظل الذي يستظل الناس فيه، بخلاف الظل في الخلاء، كأن تكون شجرة في الخلاء وظلها كثير، وليست طريقاً مطروقة فلا مانع أن يقضي حاجته تحتها؛ لأنه ليس موضعاً يأوي إليه الناس، أما إذا كان الظل على الطريق والمسافر يستظل فيه تحتها، فداخلة في معنى الظل.
قال العلماء: إسناد اللعن إلى الطريق والظل من المجاز العقلي؛ لأنه بفعله تسبب في أن الغير هو الذي يلعنه، كما جاء الحديث في تقبيح أن يسب الرجل أباه وأماه: (قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه،) فيكون كأنه هو الذي سب أباه؛ لأنه تسبب في ذلك.
ومثله:: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: أنتم تتسببون في أنهم يسبون الله؛ لأنكم سببتم آلهتهم أو سببتموهم.
ولذا نقول في بعض المواقف السياسية التي تطرق أسماعنا: إن بعض الناس في بعض البلاد الإسلامية قد يأخذه الحماس إلى أن يوقع بالعدو مكيدة تساوي (10%) من الخسائر، فالعدو يتخذها ذريعة وينتقم بما يساوي (20%) ، فيكون هذا الذي فعل ما هو جزئية بسيطة تسبب في إيقاع الإيذاء لقومه بمضاعفات الإساءة.
ويؤخذ من قوله: (اتقوا اللاعنين) أنه لا يجوز قضاء الحاجة في موارد الناس كما جاء لفظ أبي داود.
وكذلك قارعة الطريق: وهي الجزء المعين بقرع الأقدام في المسير.
والظل: هو الظل الذي يحتاجه الناس ويستظلون به، سواء كان في الحضر أو السفر.
والموارد: جمع مورد، وهو في الأصل: الأماكن التي توجد على ضفاف الأنهار أو السيول أو العيون التي يردها الناس ليستقوا من الماء، فهذا أيضاً مورد للناس، فإذا قضى إنسان حاجته في تلك الموارد تسبب في لعنه؛ لأنه آذى الناس.


ما يلحق بالمواطن الثلاثة من المرافق العامة والأسواق
وعلى هذا يكون من آداب قضاء الحاجة: ألا يؤذي الإنسان غيره بأن يقضي حاجته فيما يحتاجون إليه من مرافق عامة، كالطرق والظل وموارد المياه.
وإذا كان هناك موارد أخرى كأن يكون هناك سوق يرده الناس في النهار، وفي الليل لا يوجد أحد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته في هذا السوق، فمثلاً سوق الخضار الموجود هو عبارة عن محلات مشكوفة ليست محجوزة كالدكاكين، فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته فيها.
كذلك مواقف السيارات، وإن كان في الليل لا يوجد فيها سيارة، لكن الصباح تكون الساحة مملوءة بالسيارات والمسافرين ونحو ذلك، فكل ما كان موضعاً لتجمع الناس فلا ينبغي لإنسان قط أن يقضي حاجته فيه.
وبعضهم يزيد على ذلك موطناً وهو عند أبواب المساجد؛ لأن هذا أيضاً من ضمن الموارد، ونقول أيضاً: أمام المعارض، والدكاكين، والمحلات التي يردها الناس لقضاء حوائجهم.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنَين -أو اللاعنِين-) يشمل كل ما كان مرفقاً عاماً يرده الناس، سواء كان للسير أو للظل أو للماء أو للسفر أو غيرها، حتى ولو كان المكان خالياً وقت قضاء حاجته، لكن من شأنه أن يشغل بالناس فيما بعد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته فيه؛ لأنه يتسبب لنفسه باللعن من الذين يتأذون من هذا العمل في هذا المكان.
والله تعالى أعلم.


حديث أبي ذر في النهي عن البراز في الموارد
[وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) .
وقال المصنف رحمه الله: ولـ أحمد عن ابن عباس: (أو نقع ماء) وفيهما ضعف] .
ذكر المؤلف هنا (نقع الماء) : وهو الغدير الذي يتركه السيل، فلو كان هناك غدران ولو لم يردها الناس، فإن الماء الذي تجمع فيها ربما احتاجه الناس، أو أن السيل يأتي فيجرف ما فيه فيكون فيه إيذاء وتقذير للماء على الناس ولو لم يرده أحد، فما دام أنه مستنقع يجمع فيه الماء فلا يجوز، ولو كان هناك أحواض على الطريق فجاء السيل وملأها فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته في تلك الأحواض، فكذلك مناقع المياه وكل ما كان من هذا الباب.
وذكر بعض العلماء البراز تحت الشجرة المثمرة، فلو كان في الخلاء نخلة تثمر، وليس هناك أحد، وليست محل ظل، ولكن أصحابها عند نضوج ثمرتها يأتون إليها، فكانت مثمرة في الوقت الحاضر أو ستثمر؛ فلا يجوز له التخلي تحتها؛ لأنه لو سقطت ثمرة من تلك الشجرة ربما تلوثت بالنجاسة فأفسدها على أهلها، أو إذا جاءوا إليها يستظلون بظلها كان ذلك ظلاً يستظل به، وزيادة على ذلك إفساد الثمرة التي تسقط من تلك الشجرة المثمرة.
وذكر الفقهاء عدة أماكن، وكلها تندرج تحت قاعدة عامة: (كل موطن يتأذى منه الناس فلا يجوز قضاء الحاجة فيه) .
[وأخرج الطبراني النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف] .
فمثلاً: النهر أو السيل يجري وليس هناك مورد، ولكن يأتي شخص على ضفة النهر والسيل ويقضي حاجته، ربما أن النهر ارتفع منسوبه فوصل إليها، فيكون سبباً في إفساد الماء على الناس، كما تقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يبول الرجل في الماء ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ؛ لأن كثرة البول في الماء وسيلة إلى إفساده أو تقذيره على الناس، فهذا من المواطن التي نهي عن قضاء الحاجة فيه، وهي حافة النهر أو حافة السيل أو حافة العين التي تضر بالماء.
وبالله تعالى التوفيق.


النهي عن كشف العورة للآخر والتحدث معه في الغائط
[وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه أحمد وصححه ابن السكن وابن القطان وهو معلول] .
من آداب قضاء الحاجة: ما جاء هنا في حديث جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تغوط الرجلان فلا يكلم أحدهما الآخر؛ فإن الله يمقت على ذلك) .
يقولون: (تغوط) أي: دخل في الغائط، مثل تصبح وتمسى، والغائط: هو المكان المنخفض، وكانوا يقصدونه لأنه يستر صاحبه عن الناس، وجاء القرآن بهذا اللفظ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] والإتيان من الغائط أو الذهاب إلى الغائط يراد به لازمه؛ لأنه ليس المراد مجرد كون الإنسان يأتي إلى مكان منخفض، بل المراد قضاء الحاجة؛ لأن العادة لا يذهب الناس إلى المكان المنخفض إلا لقضاء الحاجة المتقدم ذكرها في الأحاديث المتقدمة.
(فإذا تغوط الرجلان) أي: ذهبا معاً للمكان المنخفض ليقضي كل منهما حاجته، يقول صلى الله عليه وسلم: (فلا يتحدثا) أي: لا يكلم كل واحد منهما صاحبه.
وقوله: (الرجلان) خرج مخرج الغالب، ولكن لو ذهب رجل وامرأة كزوجين مثلاً وذهبا لقضاء الحاجة، أو امرأتان مثلاً ذهبتا لقضاء الحاجة؛ فالكل داخل في عموم المطلوب في هذا الحديث، أي: إذا تغوط اثنان: رجلان أو امرأتان أو رجل وامرأة، فلا يتحدثا عند قضاء الحاجة في الغائط.
(فإن الله يمقت) والمقت: شدة الغضب، فهذا النهي مصحوب بالتوعد بالعقوبة، وبعض العلماء يقول: إن من علامات الكبائر أن يأتي المنهي عنه مصحوباً بعقوبة شديدة عليه، ولذا أكد كثير من العلماء بأن هذا من الكبائر، وبعض الناس يقول: إنه من المكروهات ومن الآداب في قضية التخلي، ولكن إذا كان هناك نهي فلا يتحدث، وهناك ترتيب عقوبة: (فإن الله يمقت على ذلك) ، وهذا يدل على شيء أكبر من مجرد الكراهية، إلا إذا قلنا على بعض اصطلاح الفقهاء: كراهة تنزيه، وكراهة تحريم، فيكون هذا من المكروه كراهة التحريم.
ما هو تطلع العلماء إلى موجب المقت في هذا العمل؟ في الواقع لم أقف على جواب كافٍ في ذلك، ولكن هناك عمومات وهي: أن الملائكة المكلفين بالعبد: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] لا يفارقون الإنسان إلا عند قضاء الحاجة وعند إتيانه أهله، فلو تكلم في المرحاض أو أذنب فإن الملائكة تشم رائحة الخطيئة وتعلمها ولو لم تكن حاضرة إياها فتكتبها عليه، فهنا وفي هذه الحالة كأنه يستدعي الملائكة من أجل أن تكتب ما يقول، وكان ينبغي له ألا يسيء إلى رفقائه أو قرنائه، ويكفينا مؤاذاة الناس.
إذاً: إذا ذهب الإنسان مع زميل له إلى الغائط فإنه يجب أن يستتر كل منهما عن الآخر ولا يتحدث معه حتى ينتهيا من قضاء حاجتهما.
مسألة: إذا كان وحده هل يجوز أن يتكلم ولو كلاماً عادياً؟ كأن ينشد شعراً -مثلاً- هجاء أو وصفاً أو غزلاً أوغيره، هل يجوز ذلك؟ لا يجوز الكلام في ذلك؛ لأنه فيه استيجاد الملائكة لتكتب عليه ما يتلفظ به، وإذا كان في البنيان تكون الملائكة خارج المراحيض بعيداً عن النجاسة، فالخلاء ليس فيه تحديد.
إذاً: لا ينبغي الكلام للشخص في نفسه أو مع غيره، اللهم إلا إذا انتهى من حاجته واحتاج إلى من يساعده، وطلب ماءً أو حجارةً أو طلب شيئاً من ذلك فحينئذ لا مانع، أي: بعد قضاء حاجته والفراغ منها.
والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [3]
من آداب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء ألا يتمسح الإنسان من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه حال البول، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستجمر برجيع أو عظم.


حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هنا في الحديث ثلاث مسائل:


النهي عن مس الذكر باليمين حال البول
المسألة الأولى: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) .
هل هناك حاجة لأن يمسك الإنسان ذكره وهو يبول؟ نعم، قد تكون الحاجة لذلك كأن تكون الأرض التي هو عليها صلبة وأمامه مكان رخو، فيحتاج إلى أن يمسك ذكره ليرفع مجرى البول عن المكان الصلب إلى مكان آخر، وقد يكون لحاجة أخرى، فإذا احتاج أن يمسك ذكره وهو يبول فلا يكون باليمنى، وهذا أمر واضح.
(ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) .
إذا تكررت مسائل في حديث واحد؛ فإن اتفقت فبها ونعمت، وإن اختلفت طلبنا الرابط بين المسألتين المختلفتين في الحديث الواحد؛ لأن عقلاء الناس لا يجمعون بين متناقضين أو متنافرين في سلسلة حديث واحد، فإذا ذكر إنسان عندك أموراً فلابد أن يكون هناك رابط يربط تلك الأمور، ولو على الأقل رابطة التعليم أو حاجة المستمع إلى ذلك.
فهنا: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) نهى عن أن يمسكه بيمينه، فيكون مفهوم المخالفة له أن يمسكه بشماله، إذاً: اختصت اليمين بالامتناع عن هذا المحل.


النهي عن التمسح من الخلاء باليمين
المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) .
التمسح من الخلاء إن كان يستعمل الماء فيده ستباشر المحل مع الماء، وكان بعض السلف يمتنع أن يستنجي بالماء، ويقول: لا تزال يدي منتنة لأنها باشرت النجوى، والآخرون كانوا لا يستنجون بالماء إلا بعد استعمال الحجارة، فهي تزيل النجوى ويبقى الأثر، فيغسل بالماء ويباشره بيده، فحينئذ إذا استنجى بيمينه فاليمين ستباشر النجوى الخارجة منه، فإذا نهي عن ذلك بخصوص اليمين فمعناه أنه سيستعمل اليسار.
إذاً: تميزت اليمنى بإبعادها عن هذين الموطنين، وأبيح استعمال اليسرى فيهما، حينئذ نستطيع أن نقول: النهي عن استعمال اليمنى في هذين المحلين تكريماً لليمنى؛ لأنه سيتناول بها الطعام، ويصافح بها الآخرين، فتكون اليمنى للمكرمات -كما قيل- واليسرى لغيرها.


النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب
إلى هنا المسألتان بينهما مناسبة ولكن قوله: (ولا يتنفس في الإناء) -وهي المسألة الثالثة- فيه النهي عن التنفس في الإناء عند الشرب، فما علاقة التنفس في الإناء مع هاتين المسألتين المتقدمتين؟ وموضوع التنفس في الإناء جاء إيضاحه أكثر عندما نهى صلى الله عليه وسلم الشارب عن أن يتنفس في الإناء -أي: الإناء الموجود- قال قائل: (يا رسول الله! إنني لا أروى من النفس الواحد، فقال: أدر القدح عن فيك وتنفس، ثم أعد القدح واشرب.
قال: إني أجد فيه القذاة -القشة أو شيء تستقذره النفس، فيريد أن يبعد بنفخة- قال: أبنه عنك) أي: لا تبعده بالنفس.
ونحن نبين الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء، قالوا: إن الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء وأنت تشرب أن الحلق ينتهي بطريقين: طريق دخول الهواء للرئة، وطريق دخول الطعام والشراب للمعدة، وعند افتراقهما كيف يميز الهواء عن الطعام والماء؟ قالوا: يوجد صمام على شكل عضلة، إذا أراد أن يبلع طعاماً أو شراباً فالعضلة في الحلق تنقبض فتسد طريق الهواء، وإذا أراد أن يتنفس انفتحت هذه الفتحة وذهب الهواء إلى الرئة؛ لأنه لو قدر أن قطرة ماء وصلت أو جاءت خطأً أو بسرعة إلى طريق الهواء فإنها تضر الرئة.
ومن حكمة الله أن القصبة الهوائية التي تتفرع من الزور إلى الرئة يوجد فيها شعيرات تمتد إلى أعلى وليس إلى أسفل، أي: تنبت كما ينبت الخوص في الجريدة إلى أعلى، فإذا جاءت قطرة وسبقت لسان المزمار من أن يسد طريق الهواء، فإن تلك الشعيرات التي في القصبة الهوائية تطرد ما أتى ودخل عليها من ماء أو طعام، ولو نصف حبة سمسم، ولا تزال كل طبقة تطردها إلى أعلى وتتلقاها عنها التي أعلى منها، وتتلقاها ما بعدها إلى أن تردها إلى الحلق فتنزل عن طريق المعدة؛ لأنها لو وصلت إلى الرئة أفسدت فيها شيئاً كثيراً.
وعملية بلع الطعام والشراب ليست مجرد انزلاق من أعلى إلى أسفل، بل إنها عملية امتصاص ودفع، وكما يقول بعض الأطباء في هذا: لو علق إنسان من قدميه وتدلى رأسه إلى أسفل وأعطي الماء فإنه بتلك الحالة يستطيع أن يشرب الماء ويبلعه وهو منكوس الرأس، ويستطيع أن يمضغ التمرة والطعام ويبلعه ويصل إلى معدته وهو منكوس الرأس، لأن هناك عملية امتصاص ودفع.
إذاً: عندما يشرب الإنسان وينتهي نفسه في الشرب ويريد أن يزيد ماء فإنه سيأخذ نفساً، وعندما يأخذ نفساً والإناء على فيه فلربما سبق الماء إلى الرئة عند أخذ الهواء فيكون خطراً عليه، وهذه يسمونها الشرقة، والشرقة بالماء من أصعب ما يكون؛ لأن رد الشعيرات للماء أصعب من ردها لقطعة من الخبز أو التمر أو غير ذلك.
وهنا تظهر الحكمة النبوية في كونه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في الإناء عند الشرب، والفقهاء يقولون: نهى عنه لأنه ربما خرج مع الهواء الخارج من أنفه ما يقذر الماء.
ما هي الرابطة بين (لا يتنفس في الإناء) وبين (لا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه) ؟ يمكن أن نقول: بجامع الاستقذار؛ لأن من تنفس في الإناء كان عرضة لتقذيره أو كان عرضة لإيذائه بوصول شيء من الطعام أو الشراب إلى القصبة الهوائية فيؤذيه، وهذا كذلك قد يؤذيه باستعمال اليمنى في ذلك.
والله تعالى أعلم.


حديث سلمان في آداب الخلاف
[وعن سلمان رضي الله عنه قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) رواه مسلم] .


الحكمة في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان جملة من آداب قضاء الحاجة، ووالله -يا إخوان- لو أخذتم جميع كتب الأدب، سواء الشعر الجاهلي أو الأدب الحديث في أرقى دول العالم في الحضارة، فلن تجدوا شيئاً من هذه الآداب مدونة عندهم، وهذا من سمو الإسلام، ومن تربية الفرد على أعلى ما يمكن من علو الهمة وعلى التجنب لما لا يليق.
يقول سلمان رضي الله تعالى عنه: (نهانا) والنهي يقتضي التحريم إن لم توجد قرينة صارفة عن التحريم إلى الكراهية، وهنا لا يوجد قرينة حتى الآن.
(نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) : والقبلة هي: جهة الكعبة.
وماذا سيضر القبلة إذا استقبلنا أو استدبرناها؟ والجواب أن الحكمة من ذلك العمل كأنه تهوين من شأن القبلة، والقبلة من أعظم مقدسات المسلم؛ لأنه تستقبل في اليوم خمس مرات استقبال تكريم وتشريف وتعظيم، والمحرم إذا جاء ووصل إلى مكة ووقف على باب المسجد ورأى الكعبة قال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ورفعةً وأمناً، وزد يا رب من شرفه وكرمه.
إلخ الدعاء.
وقد ذكرنا سابقاً وقلنا: هناك جانب عاطفي وجانب عقلي، الجانب العقلي يقول: شرق أو غرب كما تشاء، ولكن العاطفة تقول: تلك القبلة التي تجعلها وجهتك في وقوفك بين يدي الله يجب أن تكرمها، فلا تستقبلها بغائط أو بول.


مسألة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان هنا قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين) .
حديث سلمان اقتصر على النهي عن الاستقبال، وجاءت نصوص أخرى تنهى عن الاستدبار، في المدينة المنورة وما حاذاها من البلاد أن من استقبل القبلة فقد استدبر بيت المقدس، وبيت المقدس هو القبلة القديمة، فيجب أيضاً أن نكرمها؛ لأنها كانت قبلتنا في وقت من الأوقات، فنهى أن نستقبل القبلة أو نستدبرها؛ لأننا إن استقبلناها استقبلنا بيت المقدس، وبيت المقدس والمدينة على خط مستقيم واحد، وهكذا المساجد الثلاثة: بيت المقدس، المدينة، البيت الحرام على خط مستقيم واحد، وأنتم ترون مسجد القبلتين، القبلة الأولى كانت مقابلة للقبلة الموجودة حالياً، وكذلك هنا في هذا المسجد كانت القبلة إلى الشمال، ولما تحولت صارت إلى الجنوب فهما متقابلتان سواء، فموضوع استقبال القبلة واستدبارها سيأتي له نصوص أخرى في هذا الباب، وعند كل حديث منها نوفيه شرحه إن شاء الله.


حكم استقبال القبلة واستدبارها في المراحيض
(نهانا أن نستقبل) هل هذا النهي شامل لمن قضى حاجته في الخلاء وفي المراحيض في البيوت أم أنه خاص بواحد منهما؟ الشوكاني رحمه الله ذكر حوالي عشرة أقوال، وهذا أنسب ما يرجع إليه طالب العلم ليقف على تلك الأقوال بأدلتها والراجح منها، فهناك من يقول: إن هذا النهي خاص بالأرض الفلاة التي ليس فيها بين الإنسان وبين القبلة حاجز، فإذا وجد حاجز في الخلاء خرج عن النهي، واستدل قائل هذا القول بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سفر، ثم أناخ راحلته واستتر بها متجهاً إلى القبلة وقضى بوله، فقيل له: (يا أبا عبد الرحمن! ألم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بغائط أو بول؟ فقال: إذا كان بينك وبين القبلة حاجز فلا بأس) إذاً: يكون النهي خاصاً بالخلاء إذا لم يوجد ساتر.
المراحيض في البيوت هل يشملها هذا النهي؟ الجمهور على أنه من باب الأفضلية أن يتجنب استقبالها واستدبارها، عملاً بعموم حديث سلمان، والبعض يقول: ما دام في البنيان وفيه السترة فلا مانع، وهناك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (قيل لرسول الله: إن أناساً يمتنعون -أو يتأبون أو يكرهون- أن يواجهوا القبلة بفروجهم! فقال: أو فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي إلى القبلة) والمضاف والمضاف إليه لا يكون إلا في مكان مخصوص كالمراحيض في البيوت التي فيها بنيان.
قوله: (حولوا.
الحديث) في هذا الحديث شيء من الكلام، لكن قد قدمنا أن هناك من قال: إذا كان في البنيان فلا مانع، وإذا كان في الخلاء وهناك حاجز فلا مانع، إنما ينصب النهي على من كان في الخلاء ولا ساتر عنده، فهذا لا يستقبل ولا يستدبر إذا كان على سمت المدينة من مكة، أما إذا كان شرقيها أو كان غربيها فإنه إن يستقبل أو يستدبر فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسامت الكعبة باستقباله القبلة -أي: الجنوب- من حيث هو؛ لأنه جاء في هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا) ؛ لأن الذي يتوجه إلى الشرق لا يكون أمامه البيت الحرام، ولا خلفه المسجد الأقصى، وكذلك الذي يغرب ليس أمامه من القبلتين شيء.
وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يتوجه إلى أهل الحجاز أو أهل المدينة ومن في حكمهم؛ لأن استقبال القبلة يكون فيه استدبار بيت المقدس، واستقبال بيت المقدس يكون فيه استدبار القبلة.
وهناك أقوال أخرى كمن يجوز الاستقبال ولا يجوز الاستدبار، وسيأتي زيادة بيان في هذا الموضوع عند النصوص الأخرى إن شاء الله.


النهي عن الاستنجاء باليمين
(أو نستنجي باليمين) يستنجي: الهمز والتاء والنون، وماذا عن السين والتاء؟ إنما هي لطلب الفعل، وهي طلب إزالة النجو باليمين كما تقدم؛ لأن استعمال اليمين ومباشرتها لإزالة النجو فيه استقذار لليمين، فإذا نهانا أن نستنجي باليمين معناها أننا سنستنجي باليسار، اللهم إلا إذا كان إنسان يساره معطلة لشيء ما فحينئذ (الضرورات تبيح المحظورات) .


النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار
قال: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) .
أي: نهى عن إزالة النجو بأقل من ثلاثة أحجار، وهل العدد مطلوب من حيث هو أم أن المراد الصورة التي تنقي المحل؟ الظاهرية يقولون: ثلاث مسحات بثلاثة أحجار، والجمهور يقولون: لو أن عنده حجراً كبيراً وله ثلاثة أضلاع وتمسح بكل ضلع من الحجر الواحد فقد حصلت ثلاث مسحات وأجزأه ذلك؛ لأن الغرض ليس العدد من حيث هو، ولكن التكرار للتأكد من إنقاء المحل، وكما قالوا أيضاً في إطعام المساكين في الكفارة.
فمثلاً إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، فهل المراد عشرة بالعدد، أم أننا لو أعطينا إطعام العشرة لثلاثة أو خمسة فإنه يجزئ، وأن المراد بالعشرة بيان المقدار التي تقع به الكفارة؟ نقول: سواء وصل عدد الإطعام إلى العشرة أو أن إطعام العشرة أعطي لخمسة، فيكون المراد في عدد العشرة المقدار الذي تصح به الكفارة، فكذلك هنا قوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) فلو وجد حجران يتأتى بهما ثلاث مسحات أو حجر واحد يتأتى به ثلاث مسحات أجزأ ذلك، ما عدا الظاهرية فإنهم يقولون: لابد من ثلاثة أحجار معدودة.


النهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم
قال: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) الرجيع: هو روث الدواب، والعظم معروف، والسبب في هذا ما جاء في حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم قال: ائتني -أو ابغني- ثلاثة أحجار.
يقول: فما وجدت إلا حجرين وروثة، فجئت بالحجرين والروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة -ويزيد بعض الرواة- وقال: ائتني بغيرها -وفي بعض الروايات- فإنها ركس) أي: إنها نجسة، ولا تزال النجاسة بنجس.
إذاً: الذي لا يجوز الاستجمار به ما كان نجساً أو عظماً، وقاسوا على العظم كل مطعوم، لأن العظم مطعوم، وجاء في بعض الروايات أن العظم إذا ألقاه المسلم وسمى الله عليه فإنه يكسوه الله لحماً للجن.
وفي ليلة نصيبين سأل الجن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد فقال لهم: (لكم روث كل دواب المسلمين يعود على ما كان عليه قبل أن تأكله دوابهم) أي: فإن كان روث البرسيم فإنه يرجع برسيماً، وإن كان روث الشعير فإنه يعود شعيراً ويكون علفاً لدوابهم، وقال: وما ألقاه المسلم من عظم وسمى الله عليه يكسوه الله لحماً طعاماً لكم.
فبعضهم يقول: النهي عن الاستجمار بالعظم لأنه طعام مؤمني الجن، وبعضهم يقول: العظم من حيث هو حاد يجرح ولا ينقي، وإذا استنجى بمستطيل العظمة -بجرمها- فالعظم أملس، والأملس لا ينقي، وعليه: لا يصح الاستجمار بكل ما كان مثل العظم في ملاسته، فلو أخذ قارورة صغيرة من الزجاج واستنجى بها لم يصح لأنه أملس لا ينقي، أو أخذ مثلها من الأجرام الأخرى من العاج أو من الأحجار الناعمة فهذا لا يجزئ.
وبالتالي فإن كل ما كان يشاكل الحجارة في اليبوسة والخشونة فإنه يجزئ، ولو كان هناك قماش متين كالصوف مثلاً فإنه يجزئ، أما الحرير الناعم لا يجزئ؛ لأنه لا ينقي، وإذا كان هناك ورق خشن كما يوجد في بعض المحلات ورق خاص لبيوت الخلاء فهذا يجزئ.
وهكذا النهي عن الاستجمار بكل محترم طعاماً كان للإنس أو الجن، وما كان طعاماً للإنس تلك نعمة ويجب أن تكرم وتحفظ لا أن تضيع وتتلف وتخالط النجاسة، فلا يجوز أن يستجمر بالتمر أو الرمان أو التفاح؛ لأنه لا يجوز تقذيره، ويحرم عليه أن يستعمله في هذه الحالة.


حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها
قال المؤلف: [وللسبعة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا) ] .
أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه يذكر هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها) ، فزاد النهي عن الاستدبار على حديث سلمان.
وأبو أيوب سافر إلى الشام، وجاء في آخر الحديث: (فقدمنا الشام، فوجدنا بيوت الخلاء قد بنيت إلى القبلة، فكنا ننصرف أو ننحرف -الرواية المشهورة: ننحرف- ونستغفر الله) ، أي: المقعدة موجهة إلى القبلة، وهو مضطر إليها، وحينما يجلس على تلك المقعدة ينحرف ويجعل اتجاهه شرقاً أو غرباً، وهذه يستطيع أن يتصرف فيها الإنسان وإن كان ليس على كمال الصورة من تجنب القبلة تماماً لكن ينحرف عن القبلة قدر استطاعته، وبعضهم يرويها: (ننصرف) أي: ننصرف عن تلك المحلات ولا نقضي الحاجة فيها لكونها متجهة إلى القبلة.
ولكن قوله: (ونستغفر الله) أنسب لـ (ننصرف) منها لـ (ننحرف) .
والجمهور يقولون: إنها أنسب لـ (ننحرف) لأن انحرافه ليس انصرافاً كاملاً، فهو يجلس والمقعدة متجهة إلى القبلة، وقدماه عليها إلى القبلة، لكنه ينحرف بصدره أو بجسمه عنها، فيستغفر الله لعدم تمام الاتجاه إلى الشرق أو الغرب، وفيه نوع اتجاه إلى القبلة، وإن كان أقل ممن لو كان مستقيماً إليها.
وبعضهم يقول: ونستغفر الله لمن بناها على تلك الحال، سواء ننصرف ونستغفر الله لأصحابها، أو ننحرف ونستغفر الله لأنفسنا لقضاء الحاجة على تلك الصورة التي ليست كاملة في الابتعاد عن الاستقبال أو الاستدبار.
والله تعالى أعلم.
وهنا مما يذكر أن بعض العلماء -ومنهم أبو أيوب رضي الله تعالى عنه- يمنع الاستقبال والاستدبار سواء في الفلاة أو في بيوت الخلاء، ولكن جاء عن جابر أنه قال: (نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكني رأيت رسول الله قبل وفاته بسنة يستقبل القبلة بالبول) فقالوا: هذا ناسخ لما قبله، والآراء والأقوال في ذلك متعددة، ولكن مجمل ذلك أن النهي منصب على الخلاء ما لم يكن هناك ساتر، وأن الأولى في بيوت الخلاء ألا تكون متوجهة إلى القبلة، فينبغي على الإخوة الذين ببنون بيوتهم أن يراعوا هذه الحال، ولا يجعلوا بيوت الخلاء -في الجلسة عليها- مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، ولكن يجعلها متجهة إلى الشرق أو إلى الغرب، وهذا أسلم وأدعى لأن يكون بعيداً عن الخلاف الموجود، سواء قلنا بحديث جابر هذا أو بحديث سلمان أو بغيره، فيكون هذا أدعى لطمأنينة النفس.
والله تعالى أعلم.


وجوب الاستتار عند الغائط
[وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الغائط فليستتر) رواه أبو داود] .
هذا من آداب قضاء الحاجة، ومعناه: ألا يجلس للبول حيث يراه المارة أو يراه الناس، وجاء في بعض الحديث (ولو يجمع كثيباً من الرمل) .
وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يستتر إما في مكان مطمئن وهو الغائط، أو يستتر ولو بحائش من نخل أو بشجر أو بأي شيء، وبعض الناس يقول: قد يكفي الاستتار بطرف الثوب من الوراء، ولكن قد لا يتمكن الإنسان من ذلك أو يكون ثوبه ضيقاً لا يسع هذا، فلابد أن يتخذ له سترة من الناس.


الذكر عند الخروج من الخلاء
[وعنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك) أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم] .
انتهينا من الكيفيات والهيئات والحالات التي يكون عليها الإنسان في قضاء الحاجة، جاء هنا في هذا الحديث ما يقول إذا خرج من الخلاء.
قولها: (كان) يدل على الدوام والاستمرار.
(كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) : تقدم لنا أنه إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك) .
(غفرانك) منصوب على حذف العامل، بمعنى: أسألك غفرانك، أو على أنه مفعول مطلق والتقدير: اغفر غفرانك، فلأي معنى من المعاني طلب المغفرة، فإن طلب المغفرة أنما يكون عن ذنب قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ، فأي ذنب فعله هنا حتى يقول: (غفرانك) .
يذهب العلماء إلى البحث عن الموجب لطلب الغفران في هذه الحالة، فبعضهم يقول: ربما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على جميع أحيانه، وما كان يغفل عن ذكر الله أبداً، وإذا كان عامة المؤمنين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون.
إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وقد جاء في حقه: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فقالوا: وقت نزوله لقضاء حاجته لا يستطيع أن يذكر الله، فهو يتعطل عن ذكر الله مدة وجوده في بيت الخلاء، فإذا ما انتهى اعتبر امتناعه عن ذكر الله تلك الفترة كأنه ذنب وتقصير، فيطلب من الله الغفران عن هذا التقصير، فكأن المعنى: أننا أكلنا كثيراً واحتجنا إلى بيت الخلاء، فانشغلنا بالطعام والشراب، وتسببنا في ما يبعدنا عن ذكر الله.
وبعضهم يقول: إنما يقول: (غفرانك) لأنه كل إنسان حينما أنعم الله عليه بنعمة العافية، ورزقه الطعام والطيبات من الرزق، وأكل واستمتع وانتفع في بدنه، ثم إن هذا الخارج عبارة عن فاضل هذه النعمة بعد أن أخذ منها فائدتها واستفاد الجسم منها، ويسر الله خروج المؤذي منها، فإذاً: هذه نعم متوالية: نعمة العافية، ونعمة الطيب من الرزق، ونعمة الاستمتاع بالطيب الحلال، ثم نعمة وإخراج المؤذي من تلك النعمة وفضلاتها نعمة أخرى.
ولذا يقولون: إن بعض الملوك دخل عليه شخص من زهاد الدنيا وقال: ماذا تطلب؟ قال: وما الذي لديك؟ قال: ما تريده.
قال: كل ما عندك لا يساوي بولة ولا كأس ماء.
قال: كيف هذا؟ قال: إذا كنت في فلاة ونفد ماؤك وأشرفت على الموت وتطلب كأس ماء، أتشتريه بالملك أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي إلا كأس ماء، وإذا شربتها واحتبس عليك البول، وطلبت إخراجه، أتدفع ملكك في إخراج هذا البول أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي كأس ماء تشربها ولا بوله تخرجها.
ومن هنا -أيها الإخوة- كان من نعم الله على الإنسان أن متعه بالصحة وأنعم عليه بطيبات الرزق، واستمتع بطعمها، واستفاد بما أودعت من فوائد في جسمه، ثم أنعم الله عليه بإخراجها.
والله -يا إخوان- لقد رأيت إنساناً في حوالي سن الأربعين منذ أكثر من أربعين سنة يدور في الشوارع ويصيح بسبب إمساك عنده، وعجز الناس عن أن يسعفوه بشيء، فإذا حبس في الإنسان فضلات الطعام فهذه مصيبة.
قال العلماء: فالنبي صلى الله عليه وسلم استشعر نعمة الله عليه بالصحة، وبالرزق الطيب، وبالاستفادة من هذا الرزق، ثم يسر عليه خروج هذا المؤذي، فكأنه يقول: لا يستطيع الإنسان أن يشكرها لله سبحانه وتعالى، فيستغفر على التقصير من أنه لم يقدم لله من العبادات ومن الذكر ما يعادل تلك النعم المتعددة.
إذاً (غفرانك) إما لأنه منع من ذكر الله في تلك الفترة، أو لأنه استشعر نعم الله عليه، واستشعر التقصير في شكره عليها، فيطلب الغفران لذلك.
وهذا تنبيه لنا على أن نستشعر نعم الله علينا، وأن نسأل الله دائماً وأبداً أن يوزعنا شكر النعمة ولو كانت شربة ماء، ولو كانت خروج فضلات من جسمه؛ لأن هذا سواء كان في الإدخال أو في الإخراج فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى.


الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالروثة والعظم
[وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً، فأتيته بروثة فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا رجس -أو ركس-) أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] .
يأتي المؤلف رحمه الله بحديث ابن مسعود هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط وقضى حاجته، قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين ولم أجد الثالث، فأتيته بروثة؛ والروثة تكون غالباً للحمار أو للبغل أو للفرس، والبعرة تكون للبعير، والخثل يكون للبقر.
وروث ما لا يؤكل لحمه نجس، وفضلات ما يؤكل لحمه طاهر عند كثير من العلماء ما عدا الشافعي.
فهنا ابن مسعود ذهب ليأتي بثلاثة أحجار ما وجد إلا حجرين، فألغى وصف الحجرية وجاء بالروثة اجتهاداً منه بأن يأتي بثلاثة أحجار.
فلما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحجرين ورد الروثة، وقال: (ائتني بغيرها، ثم قال له في سبب ردها: إنها (رجس) بالجيم أو (ركس) بالكاف) .
الرجس والركس هو: النجس؛ فأخذ العلماء بأنه لا يجوز الاستنجاء بشيء نجس؛ لأن النجاسة لا تزال بنجس.
ولذا قال بعض العلماء: لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين، بل طلب الثالث، وقال ابن حزم: لابد من الأحجار الثلاثة لثلاث مسحات.
والله تعالى أعلم.
[وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] .
يعني: لم يكتف بالحجرين، بل طلب حجراً ثالثاً.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وصححه] .
أما العظم فلأنه أملس، وأما الروث فلأنه نجس، فلا يصح واحد منهما أن يستعمل في الاستنجاء، وهما لا يطهران، وعلى هذا لا يجوز الاستجمار بالعظم ولا بالروث، ويزاد على ذلك أيضاً العلة التي ذكرها العلماء في أنها طعام للجن ودوابهم.
والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4]
إن ديننا الإسلامي الحنيف دعا إلى النظافة والطهارة، وجعل لذلك آداباً يلتزم المؤمن بها، منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، ومن ذلك: الاستنزاه من البول، وتنقية المكان من نجاسة البول والغائط، والجمع بين الحجارة والماء لأجل طهارة المحل ونظافته، ولا يعني ذلك أن يبالغ العبد حتى يصل إلى الوسوسة والشك، فإن هذا مذموم في الشرع، ومنهي عنه.


وجوب التنزه من البول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني] .
الاستنزاه من البول ومن جميع النجاسات واجب سواء كان للصلاة أو غيرها، والبعض يقول: الوجوب فيه من أجل الطهارة للصلاة، والجمهور على أن الواجب الاستنزاه من القذارات ولو لم تكن نجسة، ثم يجب التجنب لكل النجاسات قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] كما قيل في بعض أوجه التفسير في هذا اللفظ الكريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا) أخذ منه العلماء أن البول نجس ينبغي التنزه عنه، وكيف يكون التنزه من البول؟ قالوا: بعدم مخالطته.
وفي بعض الروايات: (استبرئوا من البول) كما في حديث عذاب القبر لرجلين، الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ ثم قال: بلى إنه لكبير! أما أحدهما فكان لا يستتر -وفي رواية: فكان لا يستنزه، وفي رواية: فكان لا يستبرئ- من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس) .
، وهذا الحديث أطال الشوكاني في شرحه في نيل الأوطار.
: (استتروا من البول أو استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) .
(عامة) من ألفاظ العموم، وبعضهم يقول: فإن عذاب القبر منه، وقالوا: مناسبة عذاب القبر من البول ليس في ذاته، فإنه لم يترتب العذاب على عدم التنزه من البول أو الاستبراء من البول، ولكن لأنه يؤدي الصلاة وهو على تلك الحالة، والصلاة يشترط فيها طهارة البدن والثوب والمكان، فهو حينئذ إذا لم يستنزه من البول وصلى سيكون فاقد شرط صحة الصلاة، فتكون الصلاة باطلة، ومن بطلت صلاته كان هذا مصيره، وسيأتي زيادة الإيضاح لذلك بعد الحديث الآتي إن شاء الله.


الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر
وهنا موضوع أساسي، وإن كان ليس من آداب قضاء الحاجة، ولكنه من لازم هذا الحديث، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عامة عذاب القبر منه) فهذا الحديث نص صريح في وجود عذاب القبر، وهناك من أنكر ذلك كالمعتزلة ومن نحا نحوهم، ولكن الجمهور يثبتون عذاب القبر لنصوص متعددة منها هذا الحديث، ومنها قول المرأة اليهودية التي كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها وأكرمتها، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت:: (إن فلانة اليهودية قالت لي كذا، أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: بلى يا عائشة) .
وكذلك الحديث الذي جاء في البكاء على الميت: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه) هذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعائشة رضي الله تعالى عنها لما سمعت ذلك قالت: (رحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يهودية ماتت، وهم يبكون عليها: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) أي: لكونها يهودية.
ومهما يكن من شيء فقد ثبت عذاب القبر كما ثبت نعيمه، وذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القبر إما حفرة من حفر النار وإما روضة من رياض الجنة، وإذا أسند العبد في قبره -أي: بعد السؤال- فالمؤمن أول ما يفتح له باب من النار، ويقال له: كان هذا مقعدك لو لم تكن مؤمناً، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال له: ذاك مقعدك يوم القيامة، فالكافر يقول: رب! لا تقم الساعة.
والمؤمن يقول: يا رب! أقم الساعة أقم الساعة) .
وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: من العلماء من استدل على عذاب القبر من كتاب الله في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} يعني: قبل أن تقوم الساعة {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي: صباحاً ومساءً، إذاً: هذا استنتاج من كتاب الله يثبت وجود عذاب القبر لأصحابه غدواً وعشياً، ثم يكون لهم يوم القيامة شيئاً آخر.


عذاب البرزخ ونعيمه وتعلقه بالبدن أو الروح
وهنا بحث طويل -بالنتيجة فيه والله تعالى أعلم- وهو: هل عذاب القبر للجسم وقد فني وصار تراباً أم أنه للروح، أو للروح مع الجسم؟ ليس هناك نتيجة قطعية، لأن عالم البرزخ عالم غيب، ولا يستطيع عقل البشر أن يتصور حقيقة عالم البرزخ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار الأمر العجيب، جاء في حق نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر عليه وهو قائم في قبره يصلي، ثم لما وصل بيت المقدس فإذا هو مع الأنبياء في استقباله، ثم لما عرج به صلى الله عليه وسلم فإذا به في السماء السادسة، فإذاً موضوع البرزخ أمر لا يعلم حقيقته إلا الله.
وجاء في حق الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأجسامهم في الأرض مدفونة، وقدمنا ما ثبت في حق شهداء أحد لما دفنوا في أرض المعركة على ما هو الأصل والسنة في ذلك: أن شهداء المعركة يدفنون في موطن مصرعهم ولا ينقلون، ولكن جاء سيل وجرف بعض القبور من شهداء أحد، منهم سيد الشهداء عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة؛ فنقلوه من مجرى السيل إلى الربوة المرتفعة التي هو فيها الآن، يقول مالك: لما جرف السيل الأرض عن قبورهم وجدوا أجسادهم طرية كأنهم دفنوا بالأمس، وذلك بعد أربعين سنة من دفنهم، فهذه حالة لا يمكن للإنسان أن يتصورها بعقله.
وذكرت لكم القصة التي ذكرها لي بعض أعضاء الهيئة الذين كانوا في منطقة أحد، قالوا: توفيت لنا طفلة، فتباطأنا أن نذهب بها إلى البقيع، وقلنا: ندفنها هنا في مقبرة الشهداء، فذهب أبوها ليحفر لها في مقبرة الشهداء، فما لبث أن واجهه الدم في وجهه، فألقى بالمسحاة وتحسس، فإذا المسحاة قد مست فخذ رجل، وتطاير منه الدم على وجهه، نحن إذا قلنا: إنهم أحياء وهم في هذا التراب مقبورين، كيف نتصور حياة لهؤلاء؟ بماذا يتغذون؟ وكيف يتنفسون؟ لكن هم أحياء عند ربهم يرزقون، كيف يرزقهم؟ هذا شيء لا دخل لنا فيه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الوصال في الصوم أنه قال: (لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين) وقالوا: لو كان يطعمه ويسقيه كما نطعم نحن ونشرب لم يكن هذا صياماً، ولكن (عند ربي) والله سبحانه وتعالى أعلم بكيفية إطعامه وسقيه وهو في الحياة بين أظهرنا، فكيف يكون الحال في موضوع القبر؟!


تحقيق الخلاف في طهارة أبوال وأرواث مأكول اللحم
الرسول صلى الله عليه وسلم ينص هنا ويأمرنا ويرشدنا: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) والحديث الآخر: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول -واللفظ الآخر: من بوله-) فأخذ بعض العلماء كلمة: (من البول) على عمومها، وجعل كل بول من كل حيوان يجب أن نستنزه منه، والبعض أخذ هذا العام وخصصه بالخاص وهو لفظ (بوله) أي: بول الإنسان.
ثم قسموا بول الحيوان إلى قسمين: ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، فما لا يؤكل لحمه فبوله نجس عند الجميع، وما يؤكل لحمه فبوله طاهر عند مالك وعند أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: بوله أيضاً نجس كعامة الأبوال.
والذين قالوا بطهارة بول مأكول اللحم قالوا بأنه جاءت نصوص تؤيد هذا، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء العرنيون واجتووا المدينة ومرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا مع رعاة إبل الصدقة، فيكونوا معهم في البادية، وليشربوا من ألبان الإبل ويغتسلوا من أبوالها، وكذلك الأمر (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) وإذا صلوا في مرابض الغنم، وفيها أبوالها وأبعرتها، فيكون قد صلى في موطن فيه بول مأكول اللحم، فإذاً: أبوالها طاهرة.
والشافعي -كما أشرنا- يعتمد على عموم الأمر بالتنزه من البول على أن (ال) للاستغراق فهي تستغرق جميع البول.
وبعض العلماء يقول: (ال) هنا للعهد، أي: عهد الإنسان المخاطب، وهذا لعله الأرجح، والله تعالى أعلم.


وجوب ارتياد المكان الصالح للبول
وهناك أدب من آداب التخلي يساعد على الاستنزاه من البول، وهو ارتياد مكان البول، فمثلاً يقولون: من المواطن التي نهي عن البول فيها تحت الشجر المثمر، أو في ظل الناس، وموارد المياه، فهذه الأماكن نهى صلى الله عليه وسلم أن يقضي الإنسان حاجته فيها؛ لما فيه من مضرة للناس، وكذلك قارعة الطريق للحديث: (اتقوا الملاعن الثلاث) إلخ.
ويقولون أيضاً: مما نهي عن البول فيه لحكم عديدة الجحر، فإذا وجدت جحراً في الأرض فلا تبل فيه؛ لأنه جاء في تفسير بعض الروايات أنها مساكن الجن، أو مأوى الحشرات، فإذا كان الجحر فيه ثعبان أو حشرة مؤذية وأحست ببول الإنسان فإنها تبادر بالخروج، وحينئذ يفزع منه، وربما أصابه من بوله في حالة الفزع.
كذلك المكان الصلب، لا ينبغي للإنسان أن يبول فيه؛ لأن الأرض الصلبة ترد رذاذ البول على الإنسان، بل ينبغي أن يرتاد لبوله مكاناً رخواً مثل الرمل والتراب، ومثل هذه الأشياء اللينة؛ فإنها تتشرب البول ولا ترده على صاحبه.
ومما يذكرون في باب طلب العلم: أن إنساناً توجه إلى طلب العلم وهو كبير السن، وكان قد كف بصره، فحضر مجلس علم ولم يستوعب كل ما قيل، فأخذ على نفسه عهداً أن يذهب ويحضر في مجلس العلم، وإذا استوعب مسألة اكتفى بها ورجع، هكذا يقولون، وكان معه ولده يقوده من بيته إلى مقر التعليم، وكان من قرية والمعلم الذي يتعلم عنده في قرية أخرى، فخرج مرة ثم احتاج أن يبول، فجلس وكان مجلسه وهو لا يرى على مكان صلب، فأحس برذاذ البول يرجع عليه، فلما انتهى قام وجاء قافلاً إلى بيته، فقال ولده: لماذا لا تذهب إلى مجلس العلم؟ قال: إني عاهدت نفسي أن أكتفي بفائدة واحدة في كل ليلة، وقد استفدت هذه الليلة.
قال: ماذا استفدت؟ قال: استفدت أني لا أريق البول على أرض صلبة؛ لأن ذلك يعكس رذاذ البول على الإنسان.
وجاء راجعاً!! وكذلك لا يستقبل بالبول مكاناً مرتفعاً؛ لأن المكان المرتفع يجعل البول يسيل عليه، فإذا كان مستتراً بثوبه فقد يصيبه من هذا البول النازل.
فإذاً: يتجنب الإنسان مواضع أو هيئات لا يمكن أن يستنزه من البول فيها، أو أن يصيبه من بوله إذا فعل شيئاً من ذلك، وهكذا يرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى الاستنزاه من البول، ويخبرنا بأن عامة عذاب القبر منه.
والله تعالى أعلم.
[وللحاكم: (أكثر عذاب القبر من البول) وهو صحيح الإسناد] .
وهذه الزيادة تبين كلمة (عامة) فإنها قد تكون للشمول وقد تكون للمبالغة، وجاءت كلمة (أكثر) تبين المقصود، ولماذا كان أكثر؟ قالوا: لأن بعض الناس ربما يتساهلون في ذلك.
ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم بأن عادات بعض الشعوب -وخاصة في الآونة المتأخرة عند من غلبتهم عادات وتقاليد ما يسمى بالحضارة فإنهم قد لا يتنزهون من البول، وقد يريق أحدهم بوله قائماً في مكان معين لذلك، ولا يستنزه منه؛ أي: لا يغتسل ولا ينشفه بمنديل ولا ورق ولا شيء، ويكتفي بأنه أراق بوله ثم ذهب! والإسلام يأتي بهذه التعليمات ويحث على النزاهة أو الاستنزاه من البول لقذارته ولنجاسته في وقت واحد.
فإذاً: أكثر عذاب القبر من البول مع رواية: (عامة عذاب القبر من البول) يدل على شدة خطره ووجوب التنزه منه.


تفريق الشرع بين المتساويات لحكمة
وتقدم لنا في باب إزالة النجاسة استثناء بعض الأبوال للآدميين، وهو حديث أبي السمح: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) فليس معنى (يرش من بول الغلام) ألا يتعرض الإنسان إليه أو أن يتركه، ولكن من العلماء من قال: بول الغلام كبول الجارية نجس، ولكن في تطهيره تخفيف على بول الجارية، ولكن بعض المتأخرين كـ المتولي من الشافعية ذكر علة في ذلك وقال: إن طبيعة بول الجارية أشد كثافة من بول الغلام؛ لأن عنصر الأنوثة زائد في بول الجارية، يؤثر عليه أكثر من عنصر الذكورة في بول الغلام، فيكتفى في بول الغلام برشه فيزيل نجاسته؛ لأنها أخف من نجاسة بول الجارية، فيغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام.
وقال بعض الناس: إنكم تفرقون بين متساويين، وهذا لا يجوز.
فقيل لهم: الشرع هو الذي فرق وليس هذا من عندنا، فإذا كان الأمر كذلك ورجعنا إلى الأصل فإنهما ليسا متساويين، بل هناك فرق بينهما، وقد وجدنا تفريق الإسلام بين المتساويين فعلاً في غير هذا الموطن، كما في الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) فذكر الكبد والطحال وهو دم، ولكنه دم حلال، وغيره دم نجس حرام.
إذاً إذا جاء الشرع بتفريق بين متساويين في نظرنا أو في علمنا فنأخذ بما جاء عن الحكيم العليم سبحانه، أو عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى، وألغينا ما نتصوره نحن من أن ذلك لا يجوز عقلاً؛ لأن الشرع لا يخضع للعقل في الحكمة أو في حقائق الأمور، والله تعالى أعلم.
قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى! إنه لكبير) يذكر العلماء في هذا النص أنه جاء منه السلب والإيجاب في مكان واحد، فنفى أن يكون تعذيبهما من كبير، ثم أثبت أنه كبير كيف يكون ذلك؟ فقالوا: كبير وليس كبير مع اختلاف الجهة، وانفكاك الجهة ينفي التعارض، كما قالوا: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى فيها) وجاءت رواية: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ولم يصل فيها) فهذان حديثان متغايران إثباتاً ونفياً، فإذا اختلف الزمان أو المكان فهنا ينتفي التعارض، فقالوا: نعم، دخل عام الفتح ولم يصل، ودخل في حجة الوداع فصلى، فالذي ذكر عدم الصلاة مع الدخول أراد وقتاً معيناً، والذي قال: دخل وصلى.
أراد وقتاً آخر، فلا مانع من أن يدخل في وقت من الأوقات ولم يصل، ويدخل في وقت آخر ويصلي، ولا يكون هناك تعارض في الأخبار.
وهنا قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) فقوله: (بلى إنه كبير) أي: بالنسبة لحكمه عند الله، وقوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بالنسبة للإنسان من حيث إمكان التحرز منه؛ لأن الاستتار والاستنزاه والتحفظ من البول هذا ليس بكبير على الإنسان، بل إنه ميسر له، وفي إمكانه أن يستتر ويستبرئ، وليس في ذلك كبير مشقة عليه.
إذاً: (وما يعذبان في كبير) أي: لا يشق على المكلف أن يفعله.
(بلى إنه لكبير) أي: كبير عند الله {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ، فالمعنى: ليس بكبير بالنسبة للمكلف، وإنه لكبير عند الله، إذاً ليس هناك تعارض بين إثبات أنه كبير وبين نفي أن يكون كبيراً؛ لأن نفي أن يكون كبيراً بالنسبة للإنسان؛ من حيث أنه يمكنه أن يتحفظ منه دون مشقة عليه، ولكنه من جهة أخرى عند الله كبير؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإن الله جميل يحب الجمال، والصلاة من شرطها الأساسي الطهارة فهو يقف بين يدي الله، وهي عماد الدين، ويترتب عليها صحة الصلاة؛ إذاً: يكون أمره كبيراً.
قوله: (والآخر كان يمشي بالنميمة بين الناس) النميمة: من نم ينم، والنماء الزيادة، والنمام -عافانا الله وإياكم- يسمع الكلمة وينمها -أي: يزيدها- وينقلها إلى الآخرين، وهذا من أخطر ما يكون من أدواء المجتمعات وأمراضها، وكم يوقع من الفتن! ولهذا عظم الله أمر النميمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنها من أسباب عذاب القبر؛ لما يترتب عليها من المفاسد وقطيعة الأرحام، ومن إفساد ما بين الأخوين أو الزوجين أو الولد وأبيه.
وهناك أشخاص -عافانا الله وإياكم- لا يطيب لهم الحديث إلا أن ينموا بين الناس، ويقول بعض العلماء: النميمة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليها العذاب.


كيفية القعود في الخلاء
[وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى) رواه البيهقي بسند ضعيف] .
هذا الحديث وإن كان سنده ضعيفاً إلا أن معناه صحيح.
تعلمون سراقة وقصته في الهجرة، فهو الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وساخت فرسه في الأرض، وطلب الأمان.
إلخ، وهو هنا يخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذا الأدب وتقدم الأثر بأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا كالوالد لكم أعلمكم: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا) فمن شفقته صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه يعلمها كل ما ينفعها، وقد تقدم معنا في حديث سلمان الذي فيه ذكر آداب الخلاء، وكذا كما في حديث سراقة هنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس أحدكم في الخلاء فليجلس على رجله اليسرى ولينصب اليمنى) معناه: أن يجعل القدم من الأرض معتدلة كما لو كان واقفاً، وينصب قدم الرجل اليمنى ويكون مستنداً على رءوس أصابعها، فلا يمكن قدم الرجل اليمنى من الأرض كما يمكن اليسرى، واليسرى تكون متمكنة من الأرض كما لو كان يمشي، والرجل اليمنى تكون القدم فيها مرتفعة، ويستند على رءوس أصابع القدم.


الحكمة في القعود على الرجل اليسرى ونصب اليمنى عند التغوط
قوله: (أن ننصب اليمنى، ونقعد على اليسرى) .
يقول العلماء: ما السبب في هذا؟ فأجاب بعض العلماء بأن هذا أمر شكلي؛ تكريماً لليمنى أن تكون متمكنة من الأرض كاليسرى في تلك الجلسة.
والآخرون قالوا: هناك حكمة خلقية في خلقة الإنسان، وهي: أن هذا الجلوس يساعد على خروج الفضلات، ويقول الأطباء: بأن المستقيم الذي يخرج الفضلات إلى الخارج يأتي من جهة اليسار، فإذا ما نصب اليمنى وجلس على اليسرى سيميل -بطبيعة الحال- بارتفاع اليمنى إلى جهة اليسار، فيكون بميلانه إلى اليسار ويده منضمة هكذا بمثابة من يعتصر المستقيم ليساعد على خروج الخارج بيسر، وخاصة إذا كان هناك إمساك فإن هذه الهيئة على هذا الوضع تسهل عملية التبرز، وتساعد على إخراج ما في الجسم من فضلات، ويكون ذلك من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه فرق بين اليمنى واليسرى.
ويقول بعض المستحدثين: كيف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرى ذلك أو يعلم ذلك في تشريح الإنسان أو في وضع أعضائه الداخلية؟ وذكر في مواطن أخرى الأمور الخارجية كقوله: (كل سلامى من ابن آدم كل يوم عليه صدقة) وقالوا: ثلاثمائة وستون مفصلاً في الإنسان كيف عدها؟! إذاً علم التشريح يبين تلك المواضع والوظائف.
وهذا عالم بحار غربي أسلم بسبب ما جاء في القرآن الكريم على صفة البحر {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] ووجد ذلك فعلاً في البحر الأسود، وهو أشد البحار أمواجاً وخطورة، ولما سمع الآية قال: عجيب! محمد لم يخرج من الجزيرة، ولم يركب البحر، ولم يزاول أعمال البحارة، كيف استطاع أن يصف هذا الوصف؟! لابد أن يكون ذلك بوحي من الله؛ إذاً: هذا دين صحيح، وهذا رسول صادق.
فأسلم لهذه الآية الكريمة.
فكذلك كثير من المسيحيين الذين سلموا من التعصب، أو طلبوا العلم والحقيقة بذاتها، كثيراً ما يتأملون في بعض الأحاديث فيما يتعلق بالإنسان في تركيبه أو تكوينه إلى غير ذلك، فيهديهم الله سبحانه وتعالى ببعض هذه النصوص إلى الإسلام وإلى حقيقته.
وهاهنا عملية بسيطة علمنا فيها رسول الله إذا جلسنا إلى الخلاء أن نجلس على اليسرى وأن ننصب اليمنى، هذا إذا أمكن للإنسان، أما إذا كان شخصاً مريضاً أو بديناً لا يستطيع أن يجلس على رجل واحدة، فلا يستطيع أن يجلس على هذه الحالة، فلا نقول له: لابد من أن تفعل ذلك؛ لأن هذا يشق عليه، بل بقدر المستطاع ما دام أنه في مجرى التعليم، وأنه لأمر ترجع نتيجته إلى الإنسان في ذاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بالمناسبة: ربما يقول إنسان: نحن المسلمين جاءت إلينا بعض المظاهر في الحياة عن غيرنا، كهذه المقاعد الإفرنجية، وهي فعلاً جاءتنا من الإفرنج، يجلس الشخص عليها جلوسه على الكرسي ويقضي حاجته، فلا يستطيع أن ينصب اليمنى ولا أن يجلس على اليسرى، بل إنه رافع لرجليه، فيكون هذا مخالفاً للسنة، فهو بدعة.
نقول: لا، إذا كان للإنسان بديل، ويصعب عليه الجلوس على بيت الخلاء العادي والقيام عنه، ولكن هذه التي وجدت -كما قيل- إفرنجية تساعد على قضاء حاجته برفق فلا بأس، فإذا كان الأمر كذلك فالإنسان ينظر ما يمكن أن يستريح به، وكيف يمكن أن يقضي حاجته على راحته، وأن يتمكن من أداء طهارته، سواءً كان على كرسي عربي أو على إفرنجي، أو كان في الخلاء، أو ينصب اليمنى أو يجلس عليهما، إنما ذلك من باب الأفضلية وليس بواجب، ولا يعاب على إنسان استعمل هذه المقاعد الأخرى؛ لأنه ربما يكون أيسر له، ويعجز أن يستعمل غيرها، والله تعالى أعلم.


حديث النتر عند البول وكلام العلماء عليه
[قال: وعن عيسى بن يزداد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات) رواه ابن ماجة بسند ضعيف] .
هذا أدب من الآداب، ولاحظوا هذا الترتيب فإن المؤلف دقيق جداً! فإنه ذكر لنا في حالة قضاء الحاجة أن نجلس على اليسرى وننصب اليمنى، وأن ذلك يساعد على إخراج الفضلات، ثم يعقبه بهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) .
(ينتر) بمعنى: يحرك طرف ذكره؛ لكي يخرج ما يمكن أن يكون في قصبة الذكر من بقايا البول، ولكن لما كان هذا الحديث ضعيفاً، وهذا الفعل فيه تكلف ولسنا مكلفين به في شيء، ولا يكون نجساً تجب طهارته إلا إذا خرج عن خارج الجسم، وقبل أن يكون خارج الجسم فالمثانة تكون مليئة بالبول وهو قائم يصلي، فهذا داخل الجسم لا تكليف في ذلك، ولذا قالوا: إن المبالغة في نتر الذكر قد تؤدي إلى سلس البول، وعند التحقيق نجد أن سلس البول سببه ضعف العضلة العاصرة، فالعضلة العاصرة عند البول، والعضلة العاصرة عند الغائط وظيفتها أنها تمسك ولا تخرج شيئاً إلا بإعطاء تعليمات لها من المخ بأن ترتخي ليخرج البول أو الغائط، فهي تعتصر وتمنع أن ينزل من البول شيء إلا إذا استرخاها العقل وقال لها: اتركي الاعتصار ليخرج البول في طريقه، وكذلك العضلة العاصرة للغائط تمسك المخرج حتى لا يخرج شيء إلا عند إرادة ورغبة الإنسان.
وقالوا: إن استعمال نتر الذكر بكثرة قد يؤدي إلى ضعف تلك العضلة، فلا تقوى على الاعتصار، فيتفلت منها بعض قطرات البول، ويصبح مبتلى بالسلس.
ويقولون: إن بعض السلف كان يفعل ذلك، فأصيب بهذا فترة، وبعضهم سمع حديث: (استنزهوا من البول) فكان يأخذ زجاجة، وإذا دخل الخلاء يفرغ بوله في تلك الزجاجة، ثم إذا خرج تخلص منها، فقال له ولده بلطف: يا أبت! لماذا تفعل ذلك؟ قال: تحفظاً من البول قال: هل فعل ذلك رسول الله؟ قال: لا.
قال: هل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون؟ قال: لا.
قال: هل فعله أحد من أصحابه الكرام؟ قال: لا.
قال: ألا يكفيك ما يكفيهم؟ قال: بلى -والله- وتركها وقال: الحمد لله الذي جعل هدايتي على يد ولدي.
فالمبالغة في هذه الأمور قد تزيد عن حدها، فالذي يتحفظ من البول ليستنزه منه فوق العادة قد يؤدي به ذلك إلى الوسوسة، ويخرجه عن حد الطاقة العادية، والذي ينتر ذكره ليخرج ما بقي هذه أيضاً قد يكون فيها مبالغة، ولكن إذا كان الإنسان مبتلى بالسلس وبقي شيء ولا يمكن أن يخرج إلا بهذا الأمر فلا بأس.
وهناك مسألة تتعلق بخروج المني بعد الغسل: إذا انفصل المني عن الصلب ولم يخرج إلى الخارج ثم خرج بعد الغسل، هل يعيد الغسل أم لا؟ فقوم قالوا: لا غسل عليه لأنه لم يخرج من الخارج.
وقوم قالوا: إذا تحرك من مكانه ففيه الغسل، ثم إذا خرج بعد ذلك هناك من يقول: يغتسل؛ لأنه خرج إلى الخارج.
وهناك من يقول: لا يغتسل؛ لأنه اغتسل منه من قبل.
ويتفقون على أن الإنسان بعد أن يخرج المني يستحسن له أن يريق البول؛ لأنه إذا كان في القصبة شيء من بقايا المني فإن البول يزيله، لا لأنه نجس يطهر محله؛ فالمني طاهر عند الجمهور، ولكن حتى لا يبقى في ذلك المكان، وربما يحصل التهاب في المكان الذي بقي فيه، وإذا جاء البول وأخرجه أخلى المحل من آثاره وسلم من آفاته.
فماذا تعمل المرأة، وليس عندها طريق في الاستنتار، إذاً الغرض من هذا أن يتأكد الإنسان قبل أن يقوم من مكانه بأن بوله قد انتهى، ولاسيما الذين أصيبوا بمرض (البروستاتا) فقد تضغط على الحالب، أو تجعل البول ينزل ببطء، فيظن أن البول قد انتهى، وإذا قام فإذا بشيء يسبقه.
إذاً: الغرض من أن ينتر الرجل ذكره هو التأكد من أنه قضى بوله وانتهى، وقد جاء في حديث الأعرابي: (لا تزرموه) أي: اتركوه لينزل البول بطبيعته.
وعلى كل: فالحديث سنده ضعيف، والجمهور لم يأخذوا به، والغرض منه التأكد من إنهاء عملية إراقة البول كاملة؛ حتى لا يبقى شيء في الطريق إذا قام وتحرك نزل عليه وعلى ثيابه، والله تعالى أعلم.


مسألة الجمع بين الحجارة والماء حال الاستنجاء وكلام العلماء فيها
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إن الله يثني عليكم.
فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة] .
هذا الحديث -يا إخوان- يأخذ حيزاً كبيراً، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] والواقع أن تناول هذه الآية يرتبط بما قبلها فيما يتعلق بمسجد الضرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] بخلاف مسجد الضرار فإنه أسس ليكون مأوى للذين يحاربون الله ورسوله، فهنا كانت مقارنة.
وقد جاء في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] (أنه تشاحَّ رجلان قال أحدهما: هو مسجد قباء.
وقال الآخر: هو مسجد رسول الله.
فأتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من حصباء الأرض وضرب بها أرض المسجد، فقال: مسجدكم هذا، مسجدكم هذا (ثلاث مرات)) وهذه الآية نزلت في قباء قطعاً؛ لأنها في مقابلة مسجد الضرار، وبين سبحانه وتعالى أنه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه} [التوبة:108] فلما ذكر سبحانه مسجد الضرار، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه أبداً، وجاء بالمسجد الآخر وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فهو المراد بذلك.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هذه الأولية هل هي أولية زمنية أم أولية أفضلية؟ إن كانت أولية الزمنية فمسجد قباء بني قبل هذا المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بناه قبل أن يصل إلى المدينة، وقبل أن يشرع في بناء هذا المسجد، وإن كان من الأولولية والأفضلية فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع الذي ترتضيه العقول والنصوص أن المقارنة تصلح لكل مسجد على وجه الأرض أسس من أول يوم على تقوى، لأن هناك مساجد تقام للرياء والسمعة، كمن يبني مسجداً ليجعل له ضريحاً فيه، يكون المسجد وسيلة إلى أن يدفن في هذا المسجد، وكمن يبني مسجداً لأجل أن يغتصب الأرض، وقد تكون هناك عوامل أخرى، فمعنى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] : أنه ليس هناك دخل، وليس هناك غبن، وليس هناك غش ولا غرض آخر، فهو أحق من أن يقوم الإنسان في مسجد فيه شبهة أو تهمة مما يتجنب أمره، فهي عامة.
إذاً على هذا: سبب النزول -كما يقول علماء الأصول- قطعي الدخول في النص، وسبب النزول هو مسجد قباء، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم: (إن الله يثني عليكم -أي: في الطهارة- ماذا تفعلون؟) هناك تأتي بعض الروايات: (إنا نستنجي بالماء) وهناك الرواية المشهورة: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستجمر بالحجارة أولاً ثم نغسل ونستنجي بالماء بعد ذلك، إذاً هذا هو السبب.
ولهذا قال العلماء: أيها أفضل: الاستجمار فقط بالحجارة أم الغسل بالماء فقط، أم الجمع بينهما؟ واتفقوا على أن الجمع بينهما أفضل.
وبعض العلماء يقول: لم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة والماء، ففي قضية تبوك حديث المغيرة: (ائتني بثلاثة أحجار) وحديث ابن مسعود: (فأتيته بحجرين وروثة) وحديث المغيرة: (ثم جاء فصببت على يديه فتوضأ) وكانت الإداوة مع المغيرة فقالوا: الرسول لم يجمع بين الحجارة والماء في حديث عرفناه.
والآخرون استدلوا بقوله: (إن الله يثني عليكم) فبينوا السبب في ثنائه عليهم ما هو، فقالوا: (نتبع الماء الحجارة) ولا شك أن استعمال طهورين أولى من استعمال طهور واحد، ولا شك أن الماء ينقي.
وقد قيل لبعض السلف: تستنجي بالماء؟ قال: إذاً تظل يدي منتنة؛ لأنه يباشر النجوى باليد في غسل الماء، وأما استعمال الحجارة فإن اليد لا تباشر النجاسة، فكان البعض يكره استعمال الماء؛ لأنه يباشر النجاسة بيده عند الغسل.
والبعض يقول: هذه طهارة، وينبغي استعمالها، واتفقوا على أن الجمع بين الطهورين أفضل، فيستجمر بالحجارة ولا يباشر النجوى بيده، ثم يغسل بالماء ما أبقت الحجارة في ذلك المحل، وهذا أخذاً من هذا الحديث: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستعمل الحجارة أولاً بالاستجمار، ثم نتبع الاستجمار بالغسل بالماء، فنجمع بين الأمرين.
والله تعالى أعلم.