شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الطهارة - باب
الغسل وحكم الجنب [1]
ينبغي معرفة مدى اهتمام الإسلام بالمظهر العام للمسلمين، فقد شرع أنواعاً
من الأعمال، منها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، والرجال والنساء فيها على
ااسواء، ومن تلك الأعمال الغسل لمن جامع، سواء أنزل أم لم ينزل، والغسل لمن
أسلم، والغسل يوم الجمعة، وغيرها.
شرح حديث: (الماء من
الماء)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:-[عن أبي سعيد الخدري رضي الله
تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) رواه
مسلم، وأصله في البخاري] .
ذكر المؤلف رحمه الله باب الغسل، وأورد فيه عدة أحاديث، وبدأها بقوله عليه
الصلاة والسلام: (الماء من الماء) ، فما المقصود بالحديث؟ قالوا: هذا من
حسن الجناس في اللغة؛ لأن الماء الأول غير الماء الثاني، فالماء الأول هو:
الماء المعهود للشرب والغسل، وأما الماء الثاني فالمقصود به المني.
والمعنى: أن استعمال الماء -للغسل- يكون من الماء الذي يخرج من الرجل،
ومفهوم المخالفة: إذا لم ينزل المني فلا يجب الغسل، وسيأتي الجمع بين هذا
الحديث وبين حديث: (إذا جلس بين شعبها) ، فلو أن إنساناً أتى أهله فأكسل
-لم ينزل- فهل يجب عليه الغسل؟ إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد: (الماء من
الماء) ، فهذا النص بهذا اللفظ لا يمنع أن يكون الماء من شيء آخر، لكن جاء
الحديث بالحصر: (إنما الماء من الماء) ، والحصر كما يقولون: يحصر المبتدأ
في خبره، فإذا قيل: إنما الماء من الماء، فلا غسل إلا لنزول المني فقط،
لكن: (الماء من الماء) بدون حصر معناه: أن الغسل قد يكون من غير النزول
كالجماع بدون إنزال مثلاً، وهناك من يقول: من أتى أهله فأكسل -لم ينزل
المني- فلا غسل عليه.
وسبب هذا الحديث: أن أحد الصحابة كان على بطن زوجه، فناداه النبي صلى الله
عليه وسلم، فأعجل وقام ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل،
فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تأخره، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: (لا عليك، إنما الماء من الماء) ، ما دمت أعجلت عليها ولم تنزل،
فلا غسل عليك، لأن الغسل لا يجب إلا مع النزول، وإنما عليك أن تغسل فرجك،
فأخذ بعض العلماء من هذا أن من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه.
ثم جاء الحديث الآخر: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ،
قال بعضهم: الشعب كناية عن اليدين والرجلين، وذلك كناية عن الجماع، وأكد
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم جهدها) والجهد من الجهد، وهو: الطاقة؛
لأن المرأة تبذل جهداً، أو أن الرجل يحملها جهداً في هذه العملية، وذكر ابن
دقيق العيد أن من معاني الجهد لغة: النكاح، فقوله: (ثم جهدها) بمعنى:
وطئها.
وجاء في حديث آخر: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم
ينزل) .
وجاء أيضاًَ: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -قبل الحجاب- وعائشة
جالسة فقال: إني لآتي أهلي وأكسل -لا أنزل المني- أعلي غسل؟ فقال: إني
أفعله أنا وهذه ونغتسل) .
الراجح في مسألة حكم
الغسل لمن جامع ولم ينزل
والتحقيق عند العلماء أن من جامع ولم ينزل فعليه غسل.
وجاء أن بعض الصحابة كان يقول: من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه،.
وقال آخرون: عليه الغسل، فاختلفوا بين يدي عمر، فجاء علي رضي الله تعالى
عنه فسأله عمر: ما تقول أنت؟ قال: وعلام تسألني وبجوارك أمهات المؤمنين؟!
فأرسل إليهن فسلهن فإنهن أعلم بذلك منا.
وهذا من ضمن ما يذكره العلماء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأنهن ينقلن عنه بعض تصرفاته الخاصة مما يستفاد منها في التشريع،
فأرسل عمر لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقالت: سلوا عائشة فإنها أعلم
بذلك مني، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله عنها فقالت: (إذا جاوز الختان
الختان فقد وجب الغسل) ، وفي بعض الروايات أن بعض أقاربها سألها وكان
غلاماً: الرجل يجامع أهله ولم ينزل؟ قالت: مثله كمثل الفروج؛ سمع الديكة
تصيح فصاح، يا ابن أختي! إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
فلما جاء رسول عمر رضي الله تعالى عنه ونقل له حديث أم المؤمنين عائشة:
(أنه إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ومعناه: ولو لم يحصل إنزال،
فقال عمر: لا أسمع بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره،
فجاء أبي بن كعب فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين: كان في بادئ الأمر رخصة
لنا، ولا غسل إلا لمن أنزل، ومن جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، ثم عزم علينا.
وكذلك في الخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره في بعض
الروايات: (أفعله أنا وهذه ولا نغتسل، قال الراوي: ثم عزم علينا بعد ذلك) ،
وجاء: (أفعله أنا وهذه ونغتسل) .
ومن هنا نعلم: أن بعض المسائل قد تخفى على بعض الصحابة، مما تعم بها البلوى
كما يقال؛ لأنها قضية بين الزوجين، وتحدث في كل ليلة، وفي كل ظهيرة، وفي كل
وقت، ليس فيها تحديد زمان، ومع ذلك حكمها يخفى على بعض الصحابة رضي الله
تعالى عنهم.
إذاً: مع طول الوقت ووجود الخلاف ووجود التساؤل تبلورت المسائل، وما كان
مختلفاً فيه أو متجاهلاً أمره على البعض تمت معرفته؛ ولذا نجد هذه المسائل
التي تسمى: بالمذهب ما جاءت عفواً، ولا قام بها الإمام في المذهب وأملاها
على الناس، ولكن جزئيات وأحداث ووقائع تقع وينظر فيها الإمام على مقتضى
النصوص السابقة التي وصلته، ويصدر رأيه وفتواه فيها، فتجمع ثم يأتي أصحابه
وأتباعه من بعده، وتأتي أحداث وتأتي وقائع فينظرون فيها على مقتضى قواعد
إمامهم وما تقدم له، وعلى أسس فتواه في نظائرها، فيضمون الأشباه والنظائر
إلى أن اكتمل المذهب؛ وهو من عمل الإمام ومن عمل أتباعه وأصحابه، وتكون من
المجموع مذهب فلان، من فعله وفعل تلاميذه وأتباعه.
فهل قضية مثل هذه يختلفون فيها؟ نعم، ولا مانع، وعمر يتوقف ويسأل علياً،
ويسأل أمهات المؤمنين، فيخبره أبي بأن ذلك الأمر كان في بادئ الأمر رخصة ثم
عزم علينا.
إذاً: انتهى الخلاف في هذه القضية بذلك المجلس العلمي الذي ترأسه أمير
المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وبنوا رأيهم وحكمهم على ما أتاهم من أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهى الأمر بوجوب الغسل.
حجة القائلين بعدم
نسخ حديث: (الماء من الماء)
حديث: (الماء من الماء) ، هناك من يقول: قد نسخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها
الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) .
، والصحيح أنه ليس منسوخاً؛ والمؤلف أدرك ذلك؛ ولذا جاء بحديث المرأة التي
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل على المرأة غسل إن هي احتلمت؟
فقال: نعم، إذا رأت الماء) .
إذاً: للمرأة ماء، وللرجل ماء، وكانت أم سلمة موجودة فغطت وجهها وقالت:
فضحت النساء، وهل المرأة تحتلم؟! استنكرت ذلك؛ لأنها ما احتلمت ولم تسمع
بأن المرأة تحتلم، ولكن وجد ذلك من عدد من الصحابيات رضوان الله تعالى
عليهن، وفي بعض الروايات: (النساء شقائق الرجال) ، يعني: يجري على النساء
في المنام ما يجري على الرجال، فقال: (نعم، تغتسل إن هي رأت الماء) ، لا
لمجرد الاحتلام بل لرؤية الماء.
وهل قوله: (رأت) رؤية علم إذا أحست بخروج الماء؟ قالوا: رؤية المرأة للماء
لا يتعين خروجه؛ لأن ماءها يجد مكاناً يكمن فيه ولا يبرز إلى الخارج، فإذا
أدركت أنه خرج ماؤها وانفصل عن مكانه ولو لم يبرز إلى الخارج فعليها غسل،
بخلاف الرجل فإذا جاوز ماء الرجل مكانه فليس عنده مكان في الداخل يكمن فيه،
بل يخرج إلى الخارج حالاً.
وهكذا حديث: (إذا رأت المرأة ما يرى الرجل) ليس هناك جلوس بين الشعب، وليس
هناك جهد، وليس هناك مجاوزة ختان لختان، ولكن شيء في المنام رأته تسبب في
خروج الماء، فعليها غسل، وسيأتي تتمة الحديث.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) شمل المرأة؛ فالمرأة إذا
رأت ماءها باحتلام أوبغيره فعليها الغسل مثل الرجل في ذلك.
إذاً: حديث: (إنما الماء من الماء) لا يصح ادعاء نسخه؛ لأنه يبقى معمول به
في غير الجماع؛ وهو الاحتلام، سواء كان للرجل أو كان للمرأة.
وبالمناسبة يقولون: إذا رأى الرجل المني في ثوبه ولم يذكر احتلاماً، فيغتسل
لقوله: (الماء من الماء) ، وقد وقع لأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه
أنه بعد أن صلى الصبح ذهب إلى الجرف، وبعد أن طلعت الشمس وجد في إزاره
المني، فقال: ما أراني صليت الصبح إلا وأنا جنب.
وفي بعض الروايات قال: لما أصبنا الودك لانت العروق وجرى الماء؛ لأنه في
عام الرمادة آلى على نفسه ألا يأكل دهناً ولا يأكل لحماً حتى يأكل ذلك كل
المسلمين؛ فلما أخصبت الأرض وعادت الأمور إلى مجاريها وأكل، قال: فلما
أصبنا الودك- والودك هو: الشحم المذاب- لا نت العروق - كانت يابسة - فجرى
الماء، فغسل إزاره وأعاد صلاته، ولم يأمر الناس الذين صلى بهم أن يعيدوا
صلاتهم.
ومن هذا أخذ العلماء: أن الصلاة إذا وقع فيها شيء من جانب الطهارة والنجاسة
فخرج وقتها فلا إعادة.
هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن
كلاً منهما صلاته مستقلة؟
ابن عبد البر يتساءل في التمهيد: هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة
وبطلاناً، أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؟ رجح أن كلاً منهما
صلاته مستقلة عن الآخر؛ بدليل: أن الإمام لو نابه شيء في الإمامة، وخرج من
الصلاة فالمأمومون لا شيء عليهم، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم
بنفسه: (كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا فذهب ثم رجع
وعلى رأسه أثر الماء) .
أي: اغتسل- فعندما كبر كأنه كان قد وجب عليه غسل ونسي، وتذكر وكان الناس قد
كبروا وراءه، فلما تبين أن تكبيرته التي وقعت واقتدى به الناس فيها غير
صحيحة؛ ما بطلت تكبيرات المأمومين، وقال: مكانكم.
وبقوا على تكبيرة الإحرام السابقة قياماً حتى دخل فاغتسل فجاء وكبر لنفسه
وأتم الصلاة.
إذاً: صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام في الطهارة صحة وبطلاناً.
وهذا لا يخلو من خلاف عند العلماء كما نعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) وفي رواية أخرى: (إنما الماء من
الماء) ، وبعضهم يقول: من أدوات الحصر تعريف الطرفين بأداة التعريف أل،
وتعريف الطرفين يدل على الحصر، تقول: الشاعر زيد، فالمبتدأ المحلى بأل
معرف، والخبر علم معرف، ومن أدوات الحصر، تقديم ما حقه التأخير، مثل قوله
تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أصلها:
نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب قدم وجيء معه (بإيا) لينطق بالكاف معه؛ لأنه
لا ينطق به وحده، فلما قدم ما حقه التأخير بعد الفعل دل على الحصر:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لا نعبد سواك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة:5] لا نستعين بغيرك وهكذا، فيتفق الأسلوب الأول مع الثاني إلا
أنهم يقولون: أشد أدوات الحصر (إنما) لأنها بذاتها أداة مستقلة، وكذلك
النفي والإثبات مثل: لا شاعر إلا زيد.
(لا) هذا نفي، و (إلا) إثبات، وهي أقوى من (إنما) لأنها جاءت في (لا إله
إلا الله) فلا إله: نفي لجميع الآلهة، وإلا الله: إثبات للمولى سبحانه
وتعالى.
إذاً: {الماء من الماء} ، كان في أول الزمن رخصة، والمعنى: لا ماء -غسل- من
جماع دون إنزال، ثم عزم عليهم وأصبح الحديث خاصاً بالاحتلام إذا خرج الماء،
والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (المرأة
ترى في منامها ما يرى الرجل)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل) متفق عليه.
زاد مسلم: (فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم.
فمن أين يكون الشبه؟) ] أنس رضي الله تعالى عنه اختصر الحديث، ومن هي
المرأة؟
أم سليم بنت أبي طلحة، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض مجيئه:
(يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وأبو عمير أخو أنس، فكان الرسول يغشاهم
بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سليم تصحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا
رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم؟! قالت: إذا
جاءني كافر أبعج به بطنه) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم،
وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في روايات الحديث
مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول
الله! إن الله لا يستحي من الحق، -كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وتسأل في أمر يستوجب الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين
كثيراً من الحقوق من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن
هي رأت ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) ، وكانت أم سلمة
رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت: فضحت النساء عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت: أوتحتلم المرأة يا رسول
الله؟! تستنكر سؤال أم سليم، والإنسان إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو
ما مر عليه يستنكره، كما جاء عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر:
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] ، شيء
يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها صلى الله عليه
وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟) أي شبه؟ شبه المولود من أبويه؛ لأن
المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن
الجنين إما أن يحمل خصائص الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث
صاحب الإبل لما رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه
وسلم فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم.
قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها جمل أورق؟ قال: نعم.
قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده
الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً نزعه عرق) أي: من أجداده أو أعمامه أو
أخواله.
وعلى هذا يقولون في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل
جينات في مذنبه - يعني: مثل الجيوب -، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي
الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله، إلى آخره.
فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين.
ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟ في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة
أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن هذا كما يقولون
من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية حديثة لم تكتشف إلا متأخرة،
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل
معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض
المتأخرين: إنها اجتهاديات منه صلى الله عليه وسلم لا تصدق.
نقول: لا، الاجتهاديات في أمور الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما
يكون فيه الاجتهاد لما قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره
يشيص، فقال: إن كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً،
فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) ؛ لأن الدنيا
مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم
عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم ظنية.
فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم يأتينا في الطب
جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا بسبب إجراء العلماء تجربة
كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي
هو الذي يتابع الدورات، ونتائج المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد
بتجدد التجارب.
والأمور العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (1+1=2، 6-5=1)
ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها.
وأما الظنيات: فما يقال عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية
على الظنيات، وقد تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن-
لوجود الاكتشافات الحديثة.
وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح عن المعصوم، وكل ما يتعلق
بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}
[التوبة:94] ، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فما كان غيباً
فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل، ولكن بالنص الإلهي من
الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة.
إذاً: الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى الله
عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما الأب، وأما
التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه وتعالى جعل في ماء
الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة في ذلك أبداً، جاء في آية
النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ
نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:46] فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل،
وماء الرجل هو الذي يحدد الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ.
} [البقرة:223] والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد
قمحاً بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل
ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يغتسل من أربع ... )
قال رحمها لله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( {كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن
غسل الميت) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
] .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع
... ) هل لهذا العدد مفهوم مخالفة؟ يعني: هل هذا حصر لاغتسالاته صلى الله
عليه وسلم أم أنه مجرد إخبار؟ جاء في هذا الحديث أنه كان يغتسل من أربع،
وفي حديث أم سلمة أنه كان يغتسل من خمس.
، وفي حديث صفية أنه كان يغتسل من عشر، وهل هناك معارضة؟ لا توجد معارضة،
كل تخبر بشيء مما كان يغتسل منه، فهنا: (كان يغتسل من الجنابة، ويوم
الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) ونحن نعلم أنه كان يغتسل للعيدين،
وكان يغتسل لإحرامه، وكان يغتسل لدخول مكة، وكان يغتسل لوقوفه في عرفات.
إذاً: هناك مواطن للاغتسال عديدة، وعلى هذا: إخبار أم المؤمنين عائشة لا
يدل على حصر موجبات الغسل في هذه الأربعة، ثم هي جمعت لنا كما يقال:
كشكولاً، وهل كل هذه الأربعة سواء في الحكم؟ فهل غسل الجمعة كغسل الجنابة؟
وهل غسل الجنابة كالغسل من الحجامة؟ وهل غسل الميت كغسل الجمعة؟ كل هذه
مختلف في حكمها إلا غسل الجنابة فهو متفق عليه.
إذاً: كان يغتسل من أربع، مبدئياً لا مفهوم لهذا العدد، من أربع من خمس من
عشر على حسب ما جاء النص وثبت.
فالموضع الأول هو غسل الجمعة: وسيأتي المؤلف إلى تفصيل هذه الأربعة، فكأنه
قدم حديث عائشة بهذه الأربعة مجملة ثم يشرع في تفصيلها، فإذا كان المؤلف
سيشرع في تفصيل هذه الأربعة، فنترك الكلام على تفصيلها إلى ما سيأتي به
المؤلف؛ لأنه سيذكر الخلاف، سواء في غسل الجمعة، أو في غسل الحجامة، أو غسل
الميت، أما الغسل من الجنابة فقد انتهينا منه، وهذا موضع إجماع.
إذاً: بقي علينا بيان الكلام التفصيلي في هذه الأمور الأربعة.
شرح حديث: (أمر
ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة ثمامة بن أثال عندما
أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يغتسل) رواه عبد الرزاق، وأصله
متفق عليه.
] تجاوز المؤلف تلك الأربعة وجاء بقضية أخرى ليلحقها بالأربعة، ثم يأتي إلى
التفصيل.
يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثمامة بن أثال أمره أن يغتسل) .
ثمامة سيد بني حنيفة، وكان في طريقه إلى مكة معتمراً، فأخذته خيل المسلمين
وجاءوا به أسيراً، فربط في سارية المسجد، وكان يؤتى بحلب سبع شياه فيشربها،
وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول: (كيف بك يا ثمامة؟) فيقول: يا
محمد! إن تمنن تمنن على كريم، وإن ترد فداءً أعطيتك ما يرضيك، وإن تقتل
تقتل ذا دم، يعني: دمي لا يصير هدراً، فأهلي سيطالبون به، فما زال على ذلك
ثلاثة أيام، والرسول يسأله ويجيب بهذه الإجابة، وفي اليوم الثالث قال:
(اتركوا ثمامة) فأطلقوه، فلما أطلقوه أتى إلى الصحابة وقال: ماذا يفعل من
أراد أن يدخل دينكم؟ قالوا: يغتسل، فذهب فاغتسل، فجاء فنطق بالشهادتين بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لِمَ لَمْ تفعل ذلك من أول
يوم؟ قال: لا، خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، فلما أطلق سراحي جئت
بحريتي.
إذاً: الرواية هنا في قصة ثمامة أنه سأل وأخبره الصحابة فذهب إلى بيرحاء،
وكانت عند مقدمة المسجد في الجهة الشمالية، -وكانت موجودةً إلى وقت قريب
قبل هذه التوسعة الأخيرة- فاغتسل هناك وجاء إلى صلاة الظهر وجلس بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم.
هنا يقول (إن الرسول أمره أن يغتسل) ، وهل كل من أسلم جديداً نأمره
بالاغتسال أم لا؟ نعم على قول الجمهور ما عدا أبا حنيفة رحمه الله فإنه
يقول: لا غسل عليه؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
وبعضهم يقول: إن كان قد وقعت عليه جنابة ولم يغتسل أمرناه بالغسل.
وبعضهم يقول: يغتسل، أجنب أو لم يجنب.
والجمهور على أن غسل من أراد الإسلام ليس بفرض؛ لأنهم في غزاتهم وفي
إسلامهم وفي دخول الناس في الدين أفواجاً ما ثبت أن الرسول أمر إنساناً
أسلم أن يغتسل، كما يفعل بعض المتأخرين؛ يلزم من يريد الإسلام أن يختتن،
فلربما ترك الإسلام من أجل ذلك.
الذي يهمنا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يغتسل، وهل
هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ قالوا: ليس للوجوب؛ لأننا وجدنا صوراً
عديدة ممن دخل في الإسلام ولم يأمرهم قادة الجيوش وأمراؤهم أن يغتسلوا،
وجاءت الوفود وأسلموا في المدينة -وفد ثقيف، ووفد تميم- وما أمروا أن
يغتسلوا قبل أن يسلموا.
إذاً: الأولى أن يغتسل، ولكن ليس بشرط في صحة إسلامه، فيصح الإسلام ويقبل
منه ولو لم يغتسل.
ثم كان من شأن ثمامة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت
معتمراً فأخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، قال: امض فاعتمر - أو:
أتمم عمرتك) ولما جاء مكة وعلم أهل مكة أنه أسلم آذوه هناك، فتوعدهم ورجع
إلى بلاده ومنع الميرة -الطعام- أن تأتي إلى مكة، وكان وادي حنيفة يمول مكة
بالحنطة، فجاء أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه: أن يأمر
ثمامة أن يسمح للميرة أن تأتي إلى مكة، فإن فيها الخالات والعمات، وذوي
الأرحام وقد منعها، فكتب إليه بذلك ففعل.
إذاً: الموضوع هنا زائد عن الأربعة، وهو أمر من أراد أن يدخل في الإسلام أن
يغتسل، وهذا بصرف النظر عن الوجوب أو عن الندب، فيغتسل من أربع، وهذه زيادة
على الأربع، فصار إلى الآن خمس اغتسالات، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه السبعة.
] نعلم جميعاً أن يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، وقد جاء أن اليهود ما
حسدوا المسلمين على شيء كما حسدوهم على يوم الجمعة، وقول: آمين.
ويوم الجمعة اختصت به هذه الأمة وضيعته اليهود والنصارى، فاليهود أخذوا يوم
السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله هذه الأمة ليوم الجمعة.
ويوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بيوم العروبة، وقد صلى بعض الصحابة يوم
الجمعة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة؛
وسبب ذلك أن اليهود كانوا يجتمعون يوم السبت لعبادتهم ولأذكارهم، فيخصون
ذلك اليوم بالعبادة وينقطعون عن العمل، فرأى بعض الأنصار الأولين أن يتخذوا
يوماً يجتمعون فيه، ويذكرون الله كما يفعل اليهود، فدعاهم شخص فذبح لهم شاة
وصنع لهم طعاماً، وصلوا الجمعة - أي: ركعتين- في المدينة قبل أن يأتي النبي
صلى الله عليه وسلم.
وأحكام هذا اليوم كثيرة جداً، وسبق أن نبهت عليها، ومن أراد استقصاء أحكام
يوم الجمعة فإنه يطول عليه، والكلام عن يوم الجمعة أشبه ما يكون بالكلام عن
الحج، وأشرنا إلى أكثرها في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] مع قوله: {فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الجمعة:10] .
ومن أحكامها التي تعرض لها المؤلف هنا: الغسل ليوم الجمعة، فعن أبي سعيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .
مما نلاحظه في هذا الحديث مدى عناية الإسلام بالمظهر والنظافة، وخاصة في
أيام الأعياد والمجتمعات، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا
على أحدكم إذا اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوب مهنته؟) وهذا تنظيم عجيب! أعمال
المهنة سواء كانت زراعة للمزارع، أو نجارة للنجار، أو حدادة للحداد، أو أو،
كل إنسان له مهنة يحتاج إلى لباس يناسبها يتحمل ما يجري عليه أثناء العمل،
فإن أتى الجمعة فمن باب حسن المظهر، ومن باب حسن السمت أن يلبس من أحسن ما
يملك، وقد ذكر البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، ومشهور
عن كثير من العلماء أنهم يعنون بسمتهم، وكما جاء عن ابن عمر في التجمل
للزوجات قوله: إنهن يردن منا ما نريد منهن.
وجاء عن مالك رحمه الله أنه ما كان يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ليكون في
أحسن هيئة، وذكرنا في قصته مع هارون الرشيد، حينما أتاه هارون الرشيد فلم
يفتح له حالاً ولكن ذهب واغتسل، وأبدل ثيابه وتطيب ثم أذن له، فقال له
هارون الرشيد ما شأنك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك،
فقال له: علمت أنك لم تأت لدنيا ولكن للحديث، فكرهت أن أجلس للحديث وأنا
على غير هيئة مكتملة.
والله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
[الأعراف:31] .
وعمر رضي الله تعالى عنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأخذها لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال: اشتر هذه، لتلبسها في الأعياد، وتتجمل بها عند
الوفود.
وجاء في بعض الآثار: إذا اجتمعتم فتجملوا.
إذاً: عناية الإسلام بالمظهر أو بالهيئة أو بحسن السمت عناية فطرية
وطبيعية، وتدل على الذوق والرقي في الإسلام.
كتاب الطهارة - باب
الغسل وحكم الجنب [2]
ينبغي للمسلم معرفة الأحكام التي لها تعلق بحياته سواء منها اليومية أو
الموسمية، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بيوم الجمعة: كحكم الغسل يوم الجمعة،
وحكم الأذان الأول لها، وغير ذلك.
أحكام غسل يوم
الجمعة
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم
أما بعد: فقد وصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (غسل يوم الجمعة واجب
على كل محتلم) .
نجد الظاهرية يقولون: الغسل لليوم، واليوم: من الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن
اعتبار اليوم في الصوم من الفجر إلى غروب الشمس، وقيل: الغسل لصلاة الجمعة،
فلا يشرع بعد انقضائها.
ولكن إذا نظرنا إلى مشروعية الغسل يوم الجمعة من بين بقية الأيام؛ نجد أن
العلة المناسبة للغسل في هذا اليوم إنما هي لاجتماع الناس، وقد سماه
الرسول: يوم عيد، أما لو كان للنظافة ونحو ذلك فأيام الأسبوع كلها تستوي في
ذلك.
إذاً: في هذا الحديث حث للمسلمين على الاغتسال في يوم الجمعة.
ثم نأتي إلى التحديد؛ قال: (غسل يوم) ، فأضاف اليوم إلى الجمعة، ومن هنا
أخذ الجمهور أن علة الغسل هي الاجتماع للجمعة.
أقوال العلماء في
وقت الغسل للجمعة
ومن مباحث هذا الغسل: متى يكون وقته؟ فنجد مالكاً رحمه الله يستحب أن يكون
في أول لحظة يذهب فيها المصلي إلى المسجد، وأن يذهب إلى الجمعة بطهارة هذا
الغسل.
والجمهور يقولون: كلمة (يوم) يبدأ من طلوع الفجر، فلو اغتسل بعد طلوع الفجر
وقصد به الغسل ليوم الجمعة أجزأه.
ولكن إذا جئنا إلى الغرض كما بينته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها،
نجد أن قول مالك هو أنسب الأقوال؛ لملاحظة الوصف المناسب لترتب الحكم عليه.
والغسل عند الجمهور -الأئمة الأربعة وغيرهم- إنما هو من أجل حضور الجمعة،
فإذا فاتت الجمعة أصبح الغسل ليس ليوم الجمعة؛ ولكن غسلاً عادياً كما لو
اغتسل من الحر أو من غيره.
حكم الاغتسال للجمعة
قوله: (واجب) ، الواجب هو: اللازم، فوجوب الغسل هنا مقيد على كل محتلم -أي
بالغ-.
ونظير ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بدرع
وخمار) ، وهل الحائض وقت الحيض تصلي؟ لا تصلي، ولا تصح صلاتها، ولكن قوله:
(حائض) أي: بلغت سن الحيض؛ لأنها أصبحت بالغة مكلفة، وعلامة بلوغها: أن
يأتيها الحيض، وهنا كذلك: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل
من بلغ سن الحلم.
نص الحديث يدل على أن غسل يوم الجمعة واجب، فهل يوجد صارف يصرف هذا الوجوب
إلى الندب؟ نجد المؤلف رحمه الله تعالى يسعفنا حالاً، ويأتي بحديث سمرة بن
جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) ،
هل توضأ لصلاة الصبح أو لصلاة العصر؟ لو استثنينا الجمعة سيتوضأ أربع مرات،
إذاً: من توضأ يوم الجمعة للجمعة، وهذا يؤيد ما ذكرناه: من أن الغسل للجمعة
هو من أجل الجمعة.
قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) لا مانع، أجزأه
(ومن اغتسل فالغسل أفضل) .
إذاً: كون الغسل يوصف بالأفضلية يخرجه عن حد الوجوب، لكن قالوا: ماذا يمنع
أن يكون واجباً وأفضل؟ لكن مقدمة الحديث: (من توضأ فبها ونعمت) ، ونعم: من
أفعال المدح، وبئس: من أفعال الذم، فالحديث امتدح من توضأ يوم الجمعة، ولكن
أرشد إلى ما هو الأفضل، ومن هنا اختلف العلماء في حكم الغسل للجمعة لكل
محتلم: أما الظاهرية فإنهم على وجوب الغسل على كل محتلم يوم الجمعة، ويجزئ
عندهم الغسل ولو بعد العصر؛ لأنه يصح وينطبق عليه أنه اغتسل يوم الجمعة،
فهم يرونه واجباً على الإنسان لليوم.
أما الجمهور فقد اتفقوا على أن الغسل يوم الجمعة للجمعة ليس بواجب، والذي
صرف حديث الوجوب عن وجوبه حديث: (فبها ونعمت) .
وإذا كان الأمر كذلك، فإن القضية قد جرى فيها الخلاف والنزاع، وجاء عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ما يحل هذا النزاع، وهو أن الغسل في
بادئ الأمر كان واجباً، وإنما رخص في تركه فيما بعد.
إذاً: الغسل ليوم الجمعة أخذ مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الإيجاب
لزوماً.
المرحلة الثانية: مرحلة الندب تفضيلاً.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان المسلمون عملة أنفسهم،
وكان المسجد ضيقاً، ويأتي الحر، ويأتي الناس من العالية يصلون مع النبي صلى
الله عليه وسلم فيأخذهم العرق، فتظهر منهم روائح يؤذي بعضهم بعضاً، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: (لو اغتسلتم لهذا اليوم) ، ثم جزم فقال: (غسل
يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، فلما وسع الله على المسلمين - هذا قول
عائشة رضي الله تعالى عنها - وكفوا مئونة العمل بما أتاهم من العلوج من
الأسارى، وتوسع المسجد، صار الغسل مندوباً، ورخص في تركه صلى الله عليه
وسلم.
إذاً: الأمر بالغسل كان في بادئ الأمر واجباً لعلة، ولما زالت العلة تحول
الوجوب إلى الندب، هذا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
والذين يقولون ببقاء الوجوب يقولون: هذا اجتهاد منها، وهذا ربط للواجب بعلة
ما ندري هل هي صحيحة أم لا؟
أدلة الجمهور على
نسخ حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)
ومما أرده الجمهور كدليل على النسخ وبقاء الندب: ما يرويه مالك رحمه الله
تعالى في الموطأ: أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخطب للجمعة، فدخل رجل،
والرواية الأخرى تسميه: عثمان بن عفان، فقطع عمر الخطبة وقال: (أية ساعة
هذه؟) ما الذي أخرك إلى هذا الوقت حتى جئت أثناء الخطبة؟ فقال: (يا أمير
المؤمنين! انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت) ، يعني: ليس
واجباً علي أن آتي قبل أن ينادى لها، وإلى هنا احتجاج على ظاهره، فما أن
سمع عمر رضي الله تعالى عنه قوله: إلا أن توضأت وجئت؛ قال: (والوضوء؟!)
يعني: تأخرت واكتفيت بالوضوء ولم تغتسل، (وقد علمت أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يأمر بالغسل) .
وهذا بعض من يقول بالوجوب يحتج به، ومن يقول بالندب يحتج به أيضاً.
فالذين قالوا بالوجوب قالوا: لولا أن غسل يوم الجمعة واجب ما أباح عمر
لنفسه أن يعاتب مثل عثمان على تركه.
وأجاب الآخرون فقالوا: أترون عمر يترك عثمان يجلس للصلاة مع تركه لواجب ولا
يأمره بالذهاب للاغتسال؟ وقبل ذلك: أترون عثمان يترك واجباً عليه، ويأتي
بالوضوء ويترك الغسل؟ ثم مجموع الصحابة الحاضرين يسمعون من الطرفين، فهل
عابوا على عثمان، وقالوا له: ارجع فاغتسل.
إذاً: عمر أقر عثمان على ترك الغسل، وعثمان جاء بغير اغتسال، والحاضرون من
الصحابة أقروا عثمان على مجيئه بغير اغتسال، ولا يمكن لـ عثمان ولا لـ عمر
ولا للحاضرين أن يقروا إنساناً عادياً على ترك واجب يتوقف عليه أمر الجمعة.
إذاً: اعتبر كإجماع من الحاضرين على إقرار ما كان من عثمان رضي الله تعالى
عنه.
الأذان الأول للجمعة
وتتمة لهذه القضية: لما تأخر عثمان واعتذر وقال: سمعت النداء فتوضأت وجئت،
وكان مكانه وراء الزوراء، فتوضأ وجاء، ففاته جزء من الخطبة، ولما آلت إليه
الخلافة أنشأ أذاناً جديداً قبل الوقت، وجعل المؤذن في السوق على الزوراء،
وأين كانت الزوراء؟ الذين عاصروا المدينة قبل هذه التوسعة التي استوعبت
المدينة بكاملها يعرفون الباب المصري، ويعرفون مسجد فاطمة الزهراء، وهذا
محرف عن الزوراء، وقد اطلعت على صك في المحكمة للأشراف يحدد طريق الزوراء،
ويحدد وقف الأشراف، وكان موجوداً داخل السور هناك.
إذاً: الزوراء كانت خارج سور المدينة وراء الباب المصري إلى جهة سوق
القفاصين، إلى تلك الجهة، أي: في الشمال الغربي عن المسجد.
فعلى هذا: عثمان أوجد أذاناً قبل أذان الوقت الذي تصح فيه الصلاة في السوق؛
لينبه أصحاب السوق إلى أن الوقت قد دنا وقرب، ليرجعوا إلى بيوتهم ليغتسل
المغتسل، ويتأهب المتأهب، فيصل إلى المسجد قبل أن يؤذن للوقت وقبل أن يشرع
الإمام في الخطبة، وكانت هذه سنة سنها عثمان رضي الله تعالى عنه.
والشيء بالشيء يذكر: الأذان الأول الذي أوجده عثمان رضي الله تعالى عنه كان
ينادى به على المنائر، وكان الأذان الذي هو للوقت حينما يصعد الإمام
المنبر، وهذا الأذان الذي هو للوقت تبتدأ بعده الخطبة.
وقد تعبت في البحث عن الوقت بين الأذان الأول والثاني للجمعة، وأنسب ما
يقال في ذلك: إنه يكون بما يكفي من كان في السوق أن ينقلب إلى بيته ويأتي
إلى المسجد، لكن تحديده بالساعات والدقائق لم أقف عليه.
حكم الصلاة بين
الأذان الأول والثاني يوم الجمعة
مسألة: من كان جالساً في المسجد ثم يقوم ويصلي ركعتين بين الأذان الأول
والثاني الذي تصح فيه الصلاة، هل هذا مشروع؟ هذه المسألة مستجدة، وقد سئل
ابن القيم عن ذلك، فقال كلمة أود ألا يستعملها طالب علم: من ظن أنها سنة
فهو أجهل من حمار أهله، وسئل عنها ابن تيمية رحمه الله -وهو شيخه- فكتب
فيها رسالة وهي موجودة ضمن المجموع، وكان جواب ابن تيمية رحمه الله جواب
داعية، وأنا أقول: إن في هذه الرسالة فلسفة الدعوة، وحكمة الداعي؛ فقال
رحمه الله: ليعلم كل إنسان أن تلك الصلاة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم، ولا عهد أبي بكر ولا عمر، ولكنها وجدت في عهد عثمان؛ لأن
عثمان هو أول من أنشأ هذا الأذان، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر أذان واحد عند دخول الوقت، وكان بلال عندما يذهب يسوي الصفوف
يقول للرسول صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة: لا تسبقني بآمين، وكان في
يوم الجمعة يفرغ من الأذان على سطح المسجد أو البيت المقارب له، ويشرع
الإمام في الخطبة، وجاء في صحيح البخاري في باب: رجم المرأة، أن عمر لما
جلس على المنبر وفرغ المؤذن من الأذان قام يخطب.
إذاً: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر كان أذاناً
واحداً، وحينما يفرغ المؤذن وقبل أن ينزل من السطح يشرع الخطيب في الخطبة،
فما كان هناك وقت يمكن لإنسان أن يصلي فيه، وإنما وجد الوقت حينما جاء
عثمان رضي الله تعالى عنه وأوجد الأذان الأول، وأصبح هناك أذانان.
فـ ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضوان الله تعالى عليه، وجزاه الله أحسن
الجزاء في هذه الحكمة في الدعوة قال: ينبغي لطالب العلم وقد علم ذلك ألا
يفعلها في نفسه، وإذا رأى من يفعلها فماذا يكون الحال؟ لينظر: إن كان ممن
يظن فيه قبول النصيحة بين له، وإن كان يخشى إن هو بين له أن يجفوه ويتهمه
بمحاربة السنة أو الصلاة فالترك أولى، وليلتمس له عذراً من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، والأذان الأول الذي شرعه عثمان
دخل في حيز المشروعية؛ لأنه مشروع من خليفة راشد، والرسول صلى الله عليه
وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فما أوجده عثمان رضي الله
تعالى عنه أصبح مشروعاً لأنه سنة خليفة راشد.
يهمنا في هذا التوجيه الكريم: أخذ العذر لمن يصلي في ذلك الوقت.
حكم الأذان الأول
يوم الجمعة
يقول بعض العلماء: إن عثمان لم يأت بجديد، ولكن كرر صورة أصلها ثابت عن
رسول الله، وذلك ما وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود
أذانين للصبح، وقوله: (إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن
أم مكتوم) ، فكان بلال يؤذن قبل الوقت، وبين صلى الله عليه وسلم علة ذلك:
(ليرجع القائم، ويتسحر الصائم) ، فعندما يسمع أذان بلال يعلم أن الوقت قد
قرب؛ ولذا ينص الفقهاء على أن من أحيا تلك السنة، وجعل مؤذنين للفجر، فيجب
ألا يتغايرا ولا يتبادلا، بل يكون الذي يؤذن أولاً شخصاً معروفاً، وصوته
معروف؛ حتى إذا سمعه الناس عرفوا أنه الأذان الأول الذي لا يحل الصلاة ولا
يحرم الطعام، وإذا جاء الأذان الثاني فهو الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على
الصائم.
فقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه وجد السنة النبوية أوجدت أذاناً قبل
وقت الفجر لعلة؛ وهي: أن يرجع القائم؛ أي: الذي يقوم الليل إذا أراد أن
يجدد طهارة، وإذا أراد أن يصوم يتسحر، فلما وجد الناس اشتغلوا في أسواقهم
حتى وألهتهم عن الوقت، ولو انتظر الإنسان حتى ينادى للجمعة ربما فاتته نصف
الخطبة أو الخطبة كلها؛ والله سبحانه يقول: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] فـ عثمان عمل بهذا؛ كما في
قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلو أن إنساناً كان منزله بعيداً
عن مسجد الجمعة ولو أنه تأخر حتى يسمع النداء ثم توجه، تفوته الصلاة،
فيتعين عليه وجوباً أن يسعى إليها قبل أن ينادى لها، فلو أن إنساناً في
العالية أو قباء- وكانوا يأتون إلى الجمعة هنا- جلس هناك حتى سمع الأذان،
ثم أخذ يتوضأ ومشى على قدميه إلى أن يأتي، فهل يدرك الجمعة؟ لا يدركها،
إذاً: يتعين على من حاله كذلك أن يسعى إليها قبل وقت النداء إليها بما
يكفيه أن يصل إلى المسجد، فلا ينادى إليها إلا وهو موجود فيه.
ونرجع إلى موضوع الغسل ليوم الجمعة، وقد وجدنا فيه حديثين: الحديث الأول:
(غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، والحديث الثاني: (من توضأ يوم الجمعة
فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) فبعضهم يقول: الأول نسخ بالثاني، نقول:
لا، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الغسل واجباً عليهم
مراعاة لظروف حياتهم، فلما تغيرت الظروف تغيرت الفتوى، وتغير الحكم، فأصبح
الغسل مندوباً إليه، ومن تركه صحت جمعته، كما استدلوا بقضية عثمان رضي الله
تعالى عنه مع أمير المؤمنين عمر بحضرة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم،
والله تعالى أعلم.
حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله
وأما حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله فجمهور العلماء على أن ذلك
ليس بواجب عليه، وإنما هو مندوب إليه، وقالوا: حديث متكلم فيه: (من حمل
ميتاً فليتوضأ، ومن غسله فليغتسل) متكلم فيه، وجاءت آثار عن السلف رضوان
الله تعالى عليهم أنهم حنطوا موتى ولم يغتسلوا، ومن أشهر ذلك: ما جاء في
موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما يوم أن
توفي رضي الله تعالى عنه هي التي تولت غسله، ثم خرجت على الناس وقالت: أيها
الناس! لقد غسلت أبا بكر وأنا اليوم صائمة، وهذا اليوم شديد البرد، فهل
تجدون علي من غسل؟ إذاً: عندها خبر عن تغسيل الميت والغسل، وهذه قضية
متداولة، لكنها لم تتأكد من الإيجاب على أن من غسل ميتاً يغتسل، فكلهم
أجابوها: لا نرى وجوباً عليك.
وقد عدد ابن عبد البر في الاستذكار آثاراً منها: (من غسل ميتاً فأصابه منه
شيء فليغتسل، ومن غسل ميتاً فلم يصبه منه شيء فلا شيء عليه) .
وهكذا يستحب الوضوء لمن حمل ميتاً، لا لحمل الميت لأن الميت -أصلاً- طاهر،
وهو لم يباشره، إنما يباشر خشب النعش وقالوا عن علة ذلك: ليكون على استعداد
للصلاة عليه عندما توضع الجنازة، لكن إذا جاء وهو بغير وضوء ووقف الناس
يصلون فهو يقف منعزلاً عنهم، وإن ذهب وتوضأ فقد تفوته الصلاة.
إذاً: قوله: (من حمل ميتاً) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ ليكون على
استعداد للصلاة على الميت حينما يصلي عليه المصلون.
وذكروا عن عبد الله بن عمر أنه حنط طفلاً له؛ أي: غسله وكفنه، ودخل المسجد
وصلى عليه، ولم يغتسل ولم يتوضأ، وكذلك سعيد بن العاص حنط فلاناً ولم
يغتسل، بل ولم يتوضأ وصلى، فذكروا آثاراً عديدة تدل على أن الوضوء لحمل
الميت، أو الغسل من تغسيله، إنما هو على سبيل الندب والتهيؤ للصلاة عليه مع
المصلين، والله تعالى أعلم.
حكم الاغتسال لمن
احتجم
أما الحجامة: فلم يأت نص صحيح صريح في الغسل منها، وإنما جاءت النصوص بأنه
غسل الدم، وجاءت النصوص بأنه احتجم وهو صائم، وجاءت النصوص بأنه توضأ،
وقيل: الوضوء بمعنى الغسل، وقيل: لا ندري هل كان متوضأ قبل أن يحتجم أم لا؟
وهل كان وضوءه للحجامة؟ لم يأت من قوله عليه الصلاة والسلام نص قولي بأن من
احتجم يغتسل، إنما اغتسل صلى الله عليه وسلم بعد الحجامة، فهل كان ذلك عن
الحجامة أم لأمر غير ذلك؟ جاء عن بعض السلف أنه غسل ميتاً فاغتسل، فقال: لا
تظنوا أني اغتسلت لأني غسلت الميت، بل اغتسلت للحر.
فهذه نصوص ترجح رأي الجمهور بأن من غسل ميتاً ليس بواجب عليه أن يغتسل كغسل
الجنابة الذي جاء في هذا الحديث.
وعلى هذا: يأخذ العلماء أن دلالة الاقتران ليست قوية، ولا تؤدي إلى الوجوب
أو المساواة؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها جمعت بين الغسل للجمعة
وللجنابة وللحجامة ولتغسيل الميت، فكلها قرنتها في سياق واحد، فهل الاقتران
يدل على أن حكمها واحد؟ نجد الفرق بين الغسل للجنابة، والغسل للجمعة،
والغسل للحجامة، والغسل للميت، فليس هناك غسل متفق على وجوبه إلا غسل
الجنابة، وتقدم التنبيه على تلك الأنواع الأخرى المذكورة في الحديث، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (كان يقرئنا القرآن مالم يكن
جنباً)
قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) رواه الخمسة، وهذا لفظ الترمذي وصححه،
وحسنه ابن حبان.
] هذا الحديث يكثر السؤال عنه، وخاصة ممن يحفظن القرآن من النساء عندما
تطرأ عليهن الدورة الشهرية؛ لأن الحيض والجنابة لهما نفس الحكم، فالجنب
ممنوع من الصلاة، وممنوع من المكث في المسجد، وقد قرنهما صلى الله عليه
وسلم في قوله: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، وساوى بينهما، وقد
ذكرنا أن دلالة الاقتران لا تستوجب المساواة في الحكم، ولكن النصوص الأخرى
تدل على أن الحائض تمنع من المكث في المسجد لا مجرد العبور.
وهنا قال علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) .
علي رضي الله تعالى عنه يحكي لنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم: (كان
يقرئنا) أي: يقرأ علينا ونسمع منه القرآن، ما لم يكن جنباً، إذاً: ما لم
يكن جنباً يقرئنا، وإذا كان جنباً فلا يقرئنا.
وقد يكون هذا حكاية فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل علي أيضاً
عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه توضأ وقرأ القرآن، ثم قال: هكذا من أراد
أن يقرأ القرآن، أما إذا كان جنباً فلا ولا حرفاً) وكلمة: (ولا حرفاً)
الحرف: يطلق على الجملة، وعلى الآية، وعلى الكلام الكثير من القرآن، يقول
صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) ، أي: على هيئة
من القراءة، ومثال حرف واحد في عرف هذا الحديث: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1]
{ص وَالْقُرْآنِ} [ص:1] ، فلو قرأ حرفاً يقصد به التلاوة فهو آثم، ولكن إذا
قرأ أو ذكر على لسانه لفظاً من القرآن كدعاء كقوله: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد
إذا هديتنا.
على أنه يدعو ويسأل الله، ولا يريد به تلاوة؛ فلا شيء عليه لأنه يعتبر ذكر،
والجنب والحائض كل منهما يذكر الله بغير القرآن.
وفي قصة أسماء لما حاضت عند أبيار علي، وسأل أبو بكر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال له: (مرها فلتغتسل وتفعل كل ما يفعله الحاج غير أنها لا
تطوف بالبيت حتى تطهر) .
والحاج يلبي، ويحمد الله، ويسبح، ويدعو، ويأتي إلى عرفات، ويذكر الله هناك
وعند المشعر الحرام، ويرمي الجمرات.
إذاً: الحاج له أذكار في مواطن متعينة، فالحائض تفعل كل ما يفعله الحاج إلا
الطواف بالبيت حتى تطهر.
واتفقوا على أنها إن كانت طاهرة وطافت بالبيت وذهبت لتسعى، ثم على الصفا
لأول وهلة فاجأتها الحيضة؛ فإنها تكمل سعيها عند الأئمة الثلاثة، ومالك
يستحب أن يكون الساعي على طهارة، لكنهم أجمعوا على أنها لو سعت وهي حائض
بعد أن طافت وهي طاهر فسعيها صحيح، وهي في سعيها تذكر الله.
إذاً: الحائض لها حكم الجنب في هذا الأمر.
أقوال العلماء في
حكم قراءة الحائض والجنب للقرآن
ما موقف العلماء من ذلك: أما الجنب فمتفق عليه، وأما الحائض فالأئمة
الأربعة -عدا مالك - منعوها من قراءة القرآن، ومالك يقول: المنع للجنب
باتفاق؛ لأن وقت الجنابة محدود، واغتسال الجنب في يده؛ وبإمكانه رفعه في أي
وقت أحب، بخلاف الحائض: (حيضتك ليس في يدك) فأمرها ليس إليها {حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] .
إذاً: مدة الحيض للحائض طويلة، فـ مالك ينقل عنه أنها إذا كانت تحفظ من
كتاب الله، ولها ورد يومي حتى لا تنساه؛ فلها أن تقرأ وردها ولو كانت في
حيضتها؛ لأنه تعارض النهي عن قراءتها والنهي عن نسيان القرآن.
والجمهور يقولون: لا.
حكم مس القرآن
للحائض
الفتاة في المدرسة إذا كان عندها حصة قرآن، وكانت حائضاً، فهل لها أن تعتذر
وألا تسمِّع ما عليها من حفظ؟ أقول: لو فتح هذا الباب لاعتذر به أكثر
الفتيات، ولهذا فلا بأس بأن تسمع الفتيات في المدرسة القرآن، لكن دون أن
تمس المصحف، ولا بأس بأن تكون معها إحدى زميلاتها غير حائضة وتمسك لها
المصحف، أو أن يُفتح لها وتنظر إليه بعينها دون أن تلمسه.
وهي لا تقرأ ولا تمس المصحف، ولكن تنظر وتتابع، لكن الفتاة ماذا تفعل؟ إن
قلنا: تعتذر وتسمِّع ما وجب عليها في الحصة الأولى أو في الحصة الثانية
حينما يرتفع العذر، فهذه يمكن نعالجها.
ولكن إذا صادف وقت حيضتها يوم اختبارها، وجاء اختبار القرآن وهي حائض، فلو
اعتذرت ضيعت على نفسها سنة واعتبرت راسبة، وهي حافظة! فماذا تفعل؟ الله
تعالى أعلم قبل كل شيء، ولكن لو نظرنا إلى الضروريات، وأن مالكاً يرى أن
التي تخشى النسيان لها أن تقرأ، وأيهما أشد عذراً.
التي تخشى من النسيان مع أنها يمكن أن تتدارك ذلك في طهرها، فبدل أن تكرر
وردها مرة تكرره عشراً، أم هذه التي ستقدم على الاختبار؟ هذه الأمور أعتقد
لو اعتبرناها فيمكن القول بالسماح لها بأن تقرأ من حفظها دون أن تمس
المصحف، فتقرأ موضع السؤال فحسب ولا تزد على ذلك، وقد وجدنا إمام دار
الهجرة يجيز لها ذلك لعذر أقل من هذا، وأعتقد لو قيل بهذا لكان حلاً
عملياً، ويرفع الحرج عن الناس، والله تعالى أعلم.
كتاب الطهارة - باب
الغسل وحكم الجنب [3]
مما يهم المسلم في حياته الزوجية معرفة أحكام الجنب، كالوضوء عند إرادة
العود مرة أخرى، والوضوء عند الأكل والشرب، والوضوء عند إرادة النوم،
وكيفية غسل الجنابة، وحكم استعمال المناشف بعد الغسل.
شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن
يعود ... )
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه.
ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود
فليتوضأ بينهما وضوءاً) رواه مسلم، زاد الحاكم: (فإنه أنشط للعود) ] .
لا زلنا فيما يتعلق بالجنب من الأحكام، ومنها إذا أتى الرجل أهله -وهذا
كناية عن الجماع- ثم أراد أن يعود في تلك الليلة إلى أهله، وهذه أمور شخصية
تعود إلى ذات الإنسان نفسه وإمكانياته، فهل له أن يعود دون أن يحدث غسلاً
أو وضوءاً مكانه؟ هنا الحديث يقول: (إذا أتى أحدكم أهله وأراد أن يعود
فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وهذا النص أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى
أهله، ثم وجد في نفسه رغبة للعودة مرة أخرى، ألا يعود مباشرة بل يتوضأ ثم
يعود، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليتوضأ بينهما) إلى هنا كان يكفي في
التشريع، ولكن قال: (وضوءاً) ، وعلة ذلك كما يقول العلماء: تأكيد بالمصدر
لينفي المجاز، ويدل على حقيقة الماهية، كما جاء في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] أي: ليبين أن الله كلم موسى
كلاماً حقيقياً، وليس من باب المجاز، كأن يكون نفث في روعه، فقوله:
(فليتوضأ بينهما وضوءاً) يؤكد أن المقصود هو الوضوء الشرعي المعروف، وجاء
في بعض الألفاظ: (وضوءه للصلاة) ، فيكون هذا التصريح صارفاً المعنى اللغوي
وهو غسل اليدين والوجه إلى المعنى الشرعي الذي يبدأ بغسل اليدين وينتهي
بغسل القدمين وقبل ذلك غسل الفرج.
وقد نبه كثير من الأطباء على ضرورة غسل الفرج بعد المباشرة؛ لأن في الفرج
رطوبة، ويخرج من الرجل ماء، فإذا ترك ذلك وجف على المحل فإنه قد يؤلم ويضر،
وأقل شيء يبقى في الجلد فيسبب حساسية أو حرارة أو شيئاً من هذا، فإذا أتى
أهله ولو لم يرد أن يعود فليغسل فرجه، ثم جاءت الزيادة على هذا الحديث
مبينة الحكمة من وراء هذا الوضوء والثمرة منه، لأن هذا الوضوء لا يرفع
حدثاً ولا يبيح صلاة؛ ولذا من ألغاز الفقهاء: ما هو الوضوء الذي لا ينقضه
إلا الجنابة؟ هو هذا الوضوء إذا أراد أن يعود، فإذا عاد وأراد أن يعود مرة
ثالثة فليتوضأ أيضاً بينهما وضوءاً، والجنابة في العود الثاني قد نقضت ذلك
الوضوء، فهذا الوضوء لا يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة، ولكنه لأي شيء؟ قالوا:
أولاً: للنظافة، وثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه أنشط
للعود) يا سبحان الله! إلى هذا الحد يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في
الأمور الشخصية، وهذه -يا إخوان- أخطر ما يكون في الحياة الزوجية؛ لأن من
أتى أهله وليس عنده نشاط، فلربما تتراخى قوى الرابطة الزوجية، وكم من مشاكل
تحصل بسبب ذلك؛ ولذا في مسألة العنين ذكر العلماء أنه يمهل سنة، حتى تمر
عليه فصول السنة الأربعة، فإن كان متأثراً من الحرارة، تأتي البرودة في
الشتاء، وإن كان متأثرا من البرودة تأتي الحرارة في الصيف، وهكذا، فإذا مرت
عليه السنة بفصولها الأربعة وعجز في الوصول إلى أهله فحينئذ يعتبر عنيناً،
وللزوجة حق المطالبة بالفراق، والمهلة بعد أن ترفع أمرها للقضاء، والقاضي
هو الذي يمهله تلك المهلة، وقد تختلف الأمور، ويكون للقاضي وجهة نظر، فيجعل
المدة أقل أو أكثر.
حكم الوضوء للجنب
إذا أراد العود
نأتي إلى الحكم الفقهي في هذا الوضوء: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود
فليتوضأ) ، اللام هنا: لام الأمر؛ لأنه عند الأصوليين: لام الأمر مع
المضارع من صيغ الأمر الذي يقتضي الوجوب، وأكده بالمصدر ليدل على أن
المطلوب هو الوضوء الكامل، وليس مجرد غسل الفرج فقط؛ لأن الوضوء لغة يطلق
على النظافة، وغسل الفرج يكون من النظافة، فجاء بالمصدر (وضوءاً) ليؤكد على
أن الوضوء الشرعي هو المقصود.
وهل معنى (فليتوضأ) وجوب الوضوء أم له أن يأتي أهله ولو لم يتوضأ؟ يقولون:
إن هذا الوضوء ما قال بوجوبه إلا داود الظاهري ومن تبعه، والجمهور على أنه
سنة؛ لأنه من باب الإرشاد، وبين الحكمة والنتيجة منه وهو أنه أنشط للعود،
فكأن قائلاً يقول: وإذا كان نشيطاً فهو ليس بحاجة إلى منشط، ولكن يستثنى من
ذلك غسل الفرج، ويتحتم غسل الفرج إذا أتى جاريته ثم أراد أن يأتي الزوجة،
فإنه يتعين عليه أن يغسل ذكره، وهذا من حق الزوجة عليه؛ لأن إتيانها بعد
إتيان غيرها من غير غسل الفرج فيه إيذاء لها، وقد يكون فيه مضرة عليها.
يأتي هنا بحث آخر، لو كان عنده عدة زوجات، وأراد أن يطوف عليهن في ليلة
واحدة، قالوا: (جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مرة طاف على نسائه ولم
يغتسل إلا عند الأخيرة) ، ولم يذكر عنه أنه غسل فرجه، وجاء عنه صلى الله
عليه وسلم أنه طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم قيل له: ألا
تجعل هذا في الآخر؟ قال: (هذا أطيب وأطهر) أي: الاغتسال بعد كل واحدة على
حدة، ومن هنا قالوا: إن الوضوء هنا إنما هو للندب والاستحباب، وليس للوجوب؛
لأن حكمته أنه أنشط للعود مرة أخرى، والله أعلم.
شرح حديث: (كان رسول الله ينام وهو جنب ...
)
قال رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وهو معلول) ] .
من أحكام الجنابة: إذا أجنب الرجل فهل ينام وهو جنب؟ وهل يأكل وهو جنب؟ وهل
يشرب وهو جنب؟ كل هذه الأمور جاءت فيها النصوص، وبدأ المؤلف بموضوع النوم
الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء) ، وجاءت أحاديث أخرى كحديث عبد الله
بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام الجنب قبل أن يغتسل يا رسول
الله؟! قال: نعم، إذا توضأ) ، وهنا: (من غير أن يمس ماء) ، قال بعض
العلماء: ماءً هنا عام؛ ماء الغسل أم ماء الوضوء؟ فالجمهور على إطلاق الماء
لا لوضوء ولا لغسل، والآخرون قالوا: لا، لو لم تأت الأحاديث الأخرى لكان
الحمل على الإطلاق واقع، ولكن جاءت أحاديث أخرى (نعم إن هو توضأ) ، وجاء في
حديث عائشة: (وكان جنباً يتوضأ وينام يتوضأ ويأكل) ، فإذا أثبتت الوضوء،
والوضوء مس ماء، ثم نفت الماء؛ فيكون الماء المنفي هو ماء الغسل، ويكون ماء
الوضوء ثابتاً بحديث عائشة نفسها، وبحديث ابن عمر وغيره أنه صلى الله عليه
وسلم أباح للجنب أن ينام قبل أن يغتسل إذا هو توضأ.
وجاء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يذكره السيوطي في
تعليقه على موطأ مالك - سئل: (أينام الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو
توضأ، فإني أخشى أن يموت في تلك الليلة وهو جنب فلا يحضره جبريل) ، فبين
صلى الله عليه وسلم العلة في وضوئه عند نومه، وهنا قالوا: ما الغرض من
الوضوء، فالوضوء لا يرفع حدثاً ولا جنابة؟ قالوا: أولاً: مع الوضوء غسل
الفرج، وهذه النقطة الأساسية الحساسة.
ثانياً: إذا توضأ فهو بين أحد أمرين: إما أنه بوضوئه خفف حكم الجنابة، أو
إنه إذا لامس الماء وباشر الماء وتوضأ، فلعل ذلك يدفعه إلى الغسل، فيكون
الوضوء مقدمة وتنشيطا لما هو المطلوب من أن يغتسل.
يهمنا في هذه الجزئية: أن الجنب ممنوع من تلاوة القرآن، ومن حمل القرآن،
ومن الطواف, وهنا هل تمنعه الجنابة من النوم؟ بين صلى الله عليه وسلم أنها
لا تمنعه، ولكن قال: (إن توضأ) .
وهل الوضوء من الجنابة واجب كالوجوب للصلاة أم أنه من باب الإرشاد
والتوجيه؟ رواية ابن ماجة: (أخشى أن يموت فلا يحضره جبريل) تدل أن الأمر
هنا من باب الإرشاد وبيان الأفضلية، ومن الذي لا يريد أن يحضره جبريل عند
الوفاة؟ كل إنسان يرجو ذلك.
إذاً: الأولى أن ينام الجنب بعد أن يتوضأ، فإذا توضأ فلعله يخطو خطوة أخرى
وينشط ويغتسل وينتهي الأمر.
حكم الأكل والشرب
حال الجنابة
بقي التساؤل عن الأكل والشرب للجنب، وقد وسع هذا البحث صاحب المنتقى، وفصل
فيه الشوكاني تفصيلاً طيباً جداً، وهو موجز من فتح الباري في شرح صحيح
البخاري، وقد جاءت النصوص أيضاً في الأكل والشرب، فقالوا: (هل يأكل الجنب
يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو توضأ) ، فجمهور العلماء حمل الوضوء هنا على
الغسل نظافة؛ لأنه لم يأت تأكيده بالمصدر كما جاء في النوم، وقالوا: إن
الأكل يحتاج إلى نظافة في يديه، فقد يكون مس فرجه، وقال بعضهم: إن الوضوء
هنا هو الوضوء الشرعي المعروف.
وروى عند البيهقي رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أن أبا موسى -أو
شخصاً آخر- سألها قال: يا أم المؤمنين! إني أستحي، -أي: إنه يجول بخاطري
أمور وأستحي أن أواجهك بها- هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو
جنب؟ قالت: نعم، كان أحياناً يغتسل وينام، وأحياناً ينام ويغتسل.
قال: هل كان يغتسل في أول الليل أو في أوسطه أو في آخره؟ قالت: كان أحياناً
يغتسل في أول الليل، وأحياناً يغتسل في أوسطه، وأحياناً في آخره، قال:
الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، وهل كان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: نعم،
كنت آكل معه فآخذ العظم فأتعرقه ثم أناوله إياه فيتعرقه بفمه بعد فمي، وكنت
آخذ القدح فأشرب ثم أناوله إياه فيضع فاه موضع فيَّ فيشرب، وكان في كل مرة
يقول: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، ثم سألها هل كان يوتر عليه الصلاة
والسلام قبل أن ينام؟ فقالت: أحياناً وأحياناً.
ففي هذا الحديث رد على اليهود، فقد جاء في الحديث: (قدمنا المدينة فإذا
اليهود إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، فقال صلى الله عليه
وسلم: اصنعوا كل شيء غير الجماع) ، وعلى هذا فمن أراد العود بعد الإتيان،
فيستحب له الوضوء قبل العود، وكذا الوضوء للأكل، وكل ذلك مندوب إليه وهو
أولى، ولكن لم يقل بالوجوب إلا داود الظاهري ومن وافقه، وبالله تعالى
التوفيق.
المؤلف ذكر أن كثيراً من أحكام الجنب، وهو ألا يقرأ القرآن، وكذا حمل
المصحف، كما جاء في الحائض في رواية مالك أن ابن عمر قال لجارية: (ناوليني
المصحف، قالت: إني حائض، قال: حيضتك ليست في يدك، ناوليني من العلاقة)
وعلاقة الكيس هو الذي فيه المصحف، أما أن تباشره فلا.
شرح حديث: (صفة غسل
النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيده على شماله
فيغسل فرجه ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء، ثم يدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حفن
على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه) متفق عليه
واللفظ لـ مسلم.
ولهما من حديث ميمونة: (ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب بها الأرض) ،
وفي رواية: (فمسح بها التراب، وفي آخره: ثم أتيته بالمنديل فرده، وفيه:
فجعل ينفض الماء بيده) .
] هذا شروع في كيفية الغسل من الجنابة: كيف يغتسل من الجنابة؟ أما الوضوء
فقد جاء القرآن الكريم ببيان كيفيته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وجاءت السنة النبوية وبينت هذه الأعضاء،
فأضافت إلى غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، وأضافت إلى مسح الرأس مسح
الأذنين، وأضافت تخليل الأصابع، وهذا تأكيد في الغسل، أما غسل الجنابة فلم
يأت فيه تفصيل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فهنا
تأتي السنة فتفصل ما أجْمل القرآن في أمر الغسل.
جاء حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث ميمونة، وحديث حفصة، وكل هذه الأحاديث
بمجموعها تبين لنا كيفية الغسل من الجنابة.
غسل الكفين
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه أشمل وأجمع،
ولا شك أن أمهات المؤمنين هن أعرف الناس بغسل رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ لأنهن يشاركنه في هذا العمل، ماذا قالت عائشة؟ قالت: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه) والمراد
باليدين: الكفان وليس الذراع، وجاء في بعض الروايات أنه يأخذ الحلاب - وهو
الإناء الذي يحلب فيه - فيصب على يديه ويغسلهما، كما جاء في غسل اليدين في
الوضوء لمن كان نائماً، (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء
حتى يغسلهما ثلاثاً) فكان أيضاً صلى الله عليه وسلم يأخذ هذا الإناء الذي
كان يحلب فيه، ويغترف من الإناء الذي فيه ماء الغسل، ويصب على يديه
ويغسلهما ثلاثاً، هذا أول الأمر.
غسل الفرج
(ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) .
يفرغ من الحلاب أو يقترب فيأخذ بيديه من الإناء بعد غسلهما.
ولكن هنا تقول: (يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) ، لأنه ورد حديث: (لا
يمسن أحدكم فرجه بيمينه) ، فاليمين لا تباشر هذه الأماكن، بل يفرغ باليمين
على الشمال فيغسل فرجه، ويقدم الوضوء على الغسل؛ لأنه ألزم لنظافة المحل
قبل أن تجف رطوبته، وليكون احترازاً لئلا يعود إلى مس هذا المحل فينتقض
وضوءه بمس فرجه، فيغسل فرجه قبل أن يتوضأ وقبل أن يفيض الماء على جسده؛
لتبقى الطهارة بلا ناقض.
نأتي إلى حديث ميمونة، وفيه زيادة أنه بعد غسل فرجه عليه الصلاة والسلام
يضرب يديه بالتراب، وفي بعض الروايات: بالجدار، قالت ميمونة: (ولو شئتم
لأريتكم أثر يده في الجدار من ذلك الغسل) ، وأخذ العلماء من هذا أن التراب
يزيل ما يمكن أن يكون قد علق باليد من لزوجة آثار الوطء، أو أنه فعل ذلك
ليزيل ما بقي من الرائحة.
الوضوء
في البداية غسل كفيه، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ.
وهل المقصود الوضوء اللغوي -غسل الكفين مع الوجه- أم الوضوء الشرعي -غسل
أعضاء الوضوء كاملة-؟ الجمهور على أن المقصود هو الوضوء الشرعي، لأنه جاءت
التفصيلات بأن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فقوله: (ثم يأخذ الماء فيدخل
أصابعه في أصول الشعر، ثم يؤخر غسل رجليه بعد أن يفرغ الماء) ، المقصود من
ذلك الوضوء الشرعي لا اللغوي.
وهنا مسألة: عندما يتوضأ هل يغسل القدمين في هذا الوضوء أم يؤخر غسل
القدمين حتى يفيض الماء على سائر جسده؟ سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
تخليل الشعر
وقولها: (ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، بعد أن
يتوضأ يأخذ الماء ويصبه على رأسه، ويدخل أصابعه إلى أصول الشعر، ومن
المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له جمة تضرب إلى منكبيه إن
أطالها أو إلى شحمة أذنه إن قَصَّرها، ويدلكها ثلاثاً حتى يغلب على ظنه أن
الماء قد وصل إلى أصول منابت الشعر.
صب ثلاث حفنات من
الماء على الرأس
وقولها: (ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات) ، الحفنة: هل هي بكف واحد أو بكفين؟
اللغة الدارجة: الحفنة بالكف، والحفان بالكفين، تقول: هذا من الإحفان،
فقال: حفن بكفه ثلاث حفنات، وجاء في بعض الروايات: (بكفه) ، على الإفراد،
وجاءت بعض الروايات: (بكفيه) ، على التثنية.
إفاضة الماء على
سائر البدن
وقولها: (ثم أفاض على سائر جسده) أي: بعد أن غسل يديه غسل فرجه، ثم دلك
يديه بالتراب، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بدأ بالرأس فأدخل الماء إلى أصول
الشعر، حتى ظن أنه أرواه -كما في بعض الروايات- ثم أخذ ثلاث حفنات فأفرغها
على رأسه.
وهل يثلث الغسل كما يثلث الوضوء أم أن هذا من باب تأكيد غسل الرأس فقط؟
الجمهور أنه يستحب أن يثلث كما في الوضوء، فأخذ ثلاث حفنات للحيطة والتأكيد
وأفاضها على رأسه.
إذاً: الرأس بدأ بتخليله حتى يصل إلى أصول منابت شعره، وإذا كانت لديه لحية
كثة فهل يخللها أم لا؟ قالوا: نعم يخللها إلحاقاً لها بشعر الرأس، خاصة إذا
كانت كثة، فإذا أفاض على رأسه ثلاث حفنات فماذا بعد ذلك؟ قالت: (ثم أفاض
على سائر جسده) .
الإفاضة: تعميم الجسد بالماء، وقولها: (على سائر) أي: الباقي بعدما تقدم؛
لأن سائر ليست بمعنى الجميع، بل بمعنى الباقي، فكأن سائر جسده بقية الأعضاء
التي لم يمسها الماء، وقال بعضهم: الإفاضة على سائر الجسد تشمل الرأس
وأعضاء الوضوء، ويكون غسلها أولاً بصيغة الوضوء تكريماً لأعضاء الوضوء ثم
يشملها الغسل مع سائر البدن.
وجاءت بعض الروايات بأنه يبدأ بشقه الأيمن، يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم
يفيض الماء على شقه الأيسر، ثم يتأخر ويغسل قدميه تتمة للوضوء الذي أوقعه
قبل غسل رأسه وإفاضة الماء على جسده.
وهنا مسألة: هل الدلك واجب في هذا الغسل؟ الجمهور لا يقولون بوجوب الدلك،
بل يقولون: إنه إذا جرى الماء على الجلد، وتأكد الإنسان من أن الماء قد وصل
إلى أصل كل شعرة؛ فإن ذلك يكفي، ومالك يقول: لا بد من الدلك، ويتعين على
المغتسل من الجنابة أن يدلك جلده بقدر ما تطول يداه، قالوا: لماذا تشترط
هذا؟ قال: لنتأكد من تعميم الماء على سائر الجسد، وفي أثر موقوف على علي:
(تحت كل شعرة جنابة) فإذا كان كذلك فلا بد من التأكد من إيصال الماء إلى
جميع البشرة.
وبعض الروايات تقول: (ثم غسل رجليه) ، وبعض العلماء يقول: إن قلنا: إن
الوضوء السابق للغسل كالوضوء للصلاة فيتعين غسل القدمين أولاً، وقال بعضهم:
حتى وإن قلنا: إنه كالوضوء للصلاة فيمكن تأخير بعض الأعضاء، وفصلها بجزء من
الزمن، وقال مالك رحمه الله: إن كان المكان الذي وقف ليغتسل فيه نظيفاً
فإنه يغسل قدميه مع الوضوء أولاً، وإن كان غير ذلك بأن كان تراباً أو كان
طيناً وسيعلق فيهما من أثر الغسل فيؤخرهما، ثم بعد أن ينتهي من الغسل ينتقل
إلى مكان آخر جاف فيغسلهما فيه.
وهكذا يتم من مجموع حديث عائشة مع حديث ميمونة كيفية غسل النبي صلى الله
عليه وسلم من الجنابة، وتبقى بعض الجوانب في اغتسال الرجل مع المرأة في وقت
واحد وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو
المرأة بفضل الرجل) .
حكم استعمال المناشف
بعد الوضوء
وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: (ثم أتيته بالمنديل) المنديل: (المنشفة) ،
يقول علماء اللغة: سمي هذا النوع من القماش باستعماله منديلاً (مفعيل) من
الندل، والندل: الخسيس -عافانا الله وإياكم- لأن المنديل دائماً يستعمل
للتنظيف، ولا يستعمل في أشياء مشرفة، بل يستعمل في الأشياء الدنية؛ ولذلك
سمي منديلاً، قالت: (فأتيته بالمنديل) ، وفي رواية: (وأتيته بالخرقة فردها
وجعل ينفض الماء بيده) ، وهنا يقول العلماء: ما حكم استعمال المناشف بعد
الغسل؟ قال بعض العلماء: هذا عائد لاختلاف الجو، ففي الشتاء ينبغي ذلك؛
مخافة التعرض للمرض، بخلاف الصيف، وقد جاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة
والسلام استعمل المنديل كما في رواية أم سلمة.
والخلاصة: أن استعمال المناشف -المناديل- بعد الغسل راجع للمصلحة، والله
أعلم.
كتاب الطهارة - باب
الغسل وحكم الجنب [4]
يجب على كل مسلم ومسلمة معرفة أحكام الغسل من الجنابة والحيض؛ لأن الناس
يتكرر منهم الغسل من الجنابة أو من الحيضة بالنسبة للمرأة، وقد بين أهل
العلم أحكام ذلك ومستحباته وآدابه اعتماداً على الكتاب والسنة.
شرح حديث: (إني امرأة أشد شعر رأسي ... )
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه.
ثم أما بعد: فلا زلنا في باب الغسل وحكم الجنب، وقد وصلنا إلى قول المؤلف:
[وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد شعر
رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ - وفي رواية: والحيضة - قال: لا، إنما يكفيك أن
تحثي على رأسك ثلاث حثيات) رواه مسلم] .
أتى المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه
وسلم قائلة: (إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي رواية:
والحيضة؟ - فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا، يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث
حثيات) ، وهذا الحديث موضوعه في نقض المرأة شعرها إذا كان مشدوداً، وشد
الشعر يكون بظفره ظفائر، وسيكون الكلام هنا على حكم نقض ظفائر الشعر عند
غسل المرأة من الجنابة والحيض، وبهذا الحديث يستدل من يقول: إن المرأة لا
تنقض شعر رأسها للغسل سواء كان للجنابة أو كان للحيض، ولكن الجمهور على
المغايرة بين غسل المرأة ونقض شعرها للجنابة وغسلها للحيضة، وفي الجملة
تقدم لنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة غسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع حديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم
حيث قالت: (فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، والنبي صلى الله عليه وسلم أدخل
أصابعه في شعر الرأس إمعاناً وتأكداً من وصول الماء إلى أصول الشعر، فإذا
كان الشعر بذاته مظفراً فهل يصل إليه الماء أو لا يصل؟ ظاهر قوله صلى الله
عليه وسلم: (يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) أنه يكتفى بذلك سواء دخل
الماء خلال الشعر أو لم يدخل، وكما يقولون: إن الشعر غضروفي لا يمنع دخول
الماء، ولكن الماء يمر عليه بملامسته، وكذلك ريش الطير، فحينئذ يقول البعض:
إن المرأة لا تنقض شعر رأسها، ولكن وجدنا في حديث آخر لأم المؤمنين عائشة
رضي الله تعالى عنها في الحج حينما حاضت قال لها: (لا عليك، انقضي شعرك -
وفي بعض الروايات: وامتشطي - واغتسلي، وقولي: حجة في عمرة) ، وكان غسل
عائشة رضي الله عنها وهي محرمة، وهذا الغسل ليس لرفع حدث الحيضة، أما
الحيضة فلم تطهر منها إلا بعد النزول من عرفات، فكونه يأمرها وهي حائض أن
تفك ظفر شعرها، فلأن يكون فك ظفر الشعر لرفع حدث الحيضة من باب أولى، وقد
جاء في بعض الروايات في غسل الحائض: أنها تنقض شعرها، وفرق بعض الفقهاء بين
الغسل للجنابة والغسل للحيضة؛ لأن الجنابة أهون أو أخف من حدث الحيضة، وحدث
الجنابة يتكرر، أما حدث الحيضة ففي الشهر مرة، فلو كلفت المرأة بنقض شعرها
عند كل جنابة لكان في ذلك مشقة عليها، أما نقضها لشعرها عند غسل الحيضة فلا
يكون إلا في الشهر مرة، وهذا لا مشقة فيه، وهذا هو خلاصة القول في ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأمر النساء بنقض
شعرهن إذا اغتسلن من الجنابة ومن الحيض، فبلغ ذلك أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها، فعابت عليه ذلك وانتقدته كما سيأتي.
وأما أقوال العلماء في حكم نقض المرأة شعرها عند غسل الجنابة والحيض:
فالجمهور على التفرقة بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وأنها لا تنقضه من
الجنابة، وتنقضه للحيض، وجاء في بعض الروايات -في صفة الغسل للجنابة- أنها
تجمعه بين كفيها، وتضغطه بيدها ليتخلل الماء داخل الشعر، وقال مالك رحمه
الله: إن كانت الظفيرة مشدودة شداً قوياً تمنع تخلل الماء داخل الشعر فإنها
تفكها، سواء كان ذلك في جنابة أو كان في حيضة.
وهل الرجل يلحق بالمرأة إن كان له ظفائر؟ قيل: إنه يلحق، وإن كان النص لم
يأت فيه، ويوجد خلاف في قياسه على المرأة، وفي بعض البوادي بعض الرجال يطيل
شعره ويظفره كما تظفره المرأة، فيكون حكمه وحكم المرأة في هذا سواء.
والقول الثاني في حكم ظفائر المرأة أنها لا تفكه كما سيأتي في حديث عائشة
الأخير، وهناك من يقول: تفكه فيهما كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله
تعالى عنهما، وهناك من يفرق بين الجنابة وبين الحيضة، وهناك من يفرق بين
شدة الظفر وقوته وبين سهولته وليونته، وهذا حاصل ما جاء في هذه المسألة.
شرح حديث: (إني لا
أحل المسجد لحائض ولا لجنب)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود وصححه ابن
خزيمة] .
حديث أم سلمة السابق في كيفية الغسل، وماذا تفعل المرأة في شعرها؟ وحديث
عائشة هذا من أحكام الجنابة، وكان من حقه أن يكون مع حديث المنع من قراءة
القرآن ونحوه، ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر خرج
على الناس، وكانت البيوت المجاورة للمسجد مفتحة أبوابها إلى المسجد،
وطريقهم إلى بيوتهم من المسجد دخولاً وخروجاً، فأمر بتحول هذه الأبواب عن
المسجد.
ولما أراد عمر أن يوسع المسجد، أراد أن يشتري من العباس داره فامتنع وقال:
إنها دار أقطعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبيعها، فألح عليه عمر؛
لأن المسجد ضاق على المسلمين، ولا سبيل إلى التوسعة من المشرق، وأما جهة
المغرب ففيها حجرات أم المؤمنين، وقال له عمر: إن بعتني أعوضك عنها الثمن
التي تريد، أو أعطيك أرضاً أينما تريد، وأبني لك داراً فيها كيفما تريد،
قال: لا، لا أعطيكها أبداً، وأخيراً قال: سآخذها، قال: لأنك أمير المؤمنين؟
لن تأخذها! قال: اختر من شئت نحتكم إليه، فاختاروا أبي بن كعب، وتحاكما
إليه، وذكرلهما قصة بناء بيت المقدس، وأن الله أوحى إلى نبيه داود: أن ابن
لي بيتاً، قال: يارب! وأين أبنيه لك؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً
سيفه، فأرسل الله له ملكاً في صورة فارس شاهراً السيف واقفاً في حوش، فضرب
داود عليه السلام صاحب الحوش بيده وقال له: ثامني على حوشك، قال: اشتر،
قال: بمائة ألف، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم
الأرض؟ قال: لا، الأرض خير، قال: أقلني.
قال: أقلتك، قال: مائتي ألف، قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك، الأرض خير أم
الثمن؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، قال: ثلاثمائة، وهكذا خمس مرات
حتى وصل الثمن إلى خمسمائة، ثم قال له نبي الله داود: سل ما شئت أقدمه
إليك؛ لأني أريد أن أبني فيه بيتاً لله، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأ
علي بيتي نعماً؛ إبلاً وبقراً وغنماً، فنادى نبي الله داود في بني إسرائيل:
أن املئوا له بيته إبلاً وبقراً وغنماً، ولما جاء الليل ذهبوا إليه في بيته
يهددونه، فلما أصبح قال: يا نبي الله! أبيعاً أم غصباً؟ قال: بل بيعاً،
وسأله: ما الذي حصل؟ قال: إن بني إسرائيل جاءوني وهددوني بكذا وكذا، قال:
لا، بيعاً ورضاً، فقال: يا عمر أتأخذه غصباً من العباس؟ قال: لا آخذه
غصباً، ولكن يتخير العوض الذي يريده، قال: لا أريد، قال: إذاً انتهينا،
فعندما خرج عمر استوقفه العباس وقال: انتهيت؟ قال: نعم، قال: لا سبيل لك
علي، قال: نعم، قال: إذاً: البيت تبرعاً مني لمسجد رسول الله وللمسلمين
عامة، قال: ولماذا من قبل؟ قال: في الأول كنت تأتي بسلطانك وسلطتك، فامتنعت
عليك، والآن بالرضا وبالطيبة أنا أقدمه للمسلمين توسعة للمسجد.
ودار العباس كانت بالجهة الغربية، وكذلك دار أبي بكر رضي الله عنه، وكان في
الجهة الشمالية بعض حجر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجر أخرى
لأناس، وقد كانت أبواب تلك البيوت المبنية حول المسجد كلها مشرعة إلى
المسجد، وكان طريق أهلها إلى بيوتهم من المسجد، ففي آخر الأمر نادى صلى
الله عليه وسلم -كما جاء في رواية عائشة - بأعلى صوته: (حولوا هذه الأبواب
عن المسجد) ، ومن الغد لم يحصل شيء، وانتظروا لعله يأتي تغيير لهذا الأمر
أو تأتي رخصة، ثم من الغد وقف ونادى بأعلى صوته، ولم يفعل أحد شيئاً، وفي
اليوم الثالث قال: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض
ولا جنب -ثم استثنى- إلا باب أبي بكر) .
وحد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤشر عليه بالتاج الأخضر
المقابل لمجلسنا الآن: هذا حد مسجد النبي، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم
من غزوة خيبر، قال صلى الله عليه وسلم: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني
لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، والعلة أنه عندما تكون البيوت مشرعة
أبوابها إلى المسجد، والبيوت فيها الجنب والحائض فيمرون من المسجد للوصول
إلى بيوتهم، فلما تتحول تلك الأبواب إلى الخارج يستقلون عن المسجد، وتكون
البيوت بأبوابها خارجة عن المسجد، إلا بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه،
وقال بعضهم: كان بيت عمر وبيت عثمان وبيت العباس كلها مشرعة إلى المسجد،
فكلها تحولت، وبقيت خوخة أبي بكر.
وبعضهم قال: هذا من التنبيه ولفت الأنظار إلى مكانة أبي بكر وقوة ارتباطه
برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: (إني لا أحل) معناها: أن المسجد حرام على الحائض وعلى الجنب.
هل المقصود من
الحديث المكث أم المرور؟
مسألة: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا أحل) ، هل هو المكث على الدوام أم
المرور؟ قوله سبحانه: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43]
قالوا: هذا في السفر، وقوم قالوا: هذا في الصلاة، فالجنب والحائض يمكن أن
يكونا عابري سبيل، وبعضهم يقول: ليس على الاختيار لكن عند الاضطرار، فلو أن
امراة حائضاً أفزعت ولم تجد ملجأً إلا المسجد، فلا بأس أن تدخل المسجد
فراراً من الفزع، أو تريد أن تأخذ ماء من المسجد؛ لأن المسجد فيه بئر، ولا
تجد ماء قريباً منها إلا في المسجد؛ فلا بأس أن تعبر وتأخذ الماء وتخرج،
فهذا عبور سبيل، وكذا الجنب كأن يكون نائماً واحتلم فيعبر حتى يخرج.
وعلى كل: فإنهم أجمعوا على أن الجنب والحائض لا يمكثان في المسجد، فلا يأتي
أحدهما يقول: أريد أن أستريح أو أستظل أو أن أنتظر فلاناً، لا، أما مجرد
العبور فلا مانع، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة:
(ناوليني الخمرة من المسجد) وابن دقيق العيد يقول: وجاءت رواية: (من المسجد
ناوليني الخمرة) وبينهما فرق: لأنه إذا قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد
-والخمرة: هي التي تشبه السجادة التي نصلي عليها- تكون (من) لانتهاء
الغاية، قالت: (أنا حائض، قال: حيضتك ليست في يدك) ، إذاً: هي ستدخل المسجد
وتأخذ الخمرة وتأتي بها إليه، ويكون هو عند هذا القول في بيتها، وهذا يقتضي
أنها ستدخل المسجد وهي حائض، ولكن لا تمكث فيه، بل مجرد عبور سبيل، أما
الرواية الثانية: قال لها: (من المسجد) (من) هنا لابتداء الغاية، فحينما
قال لها ذلك كان هو في المسجد، (قال لها من المسجد: ناوليني الخمرة) كان هو
في المسجد كانت هي في بيتها، فتأتي بالخمرة، وهو عند باب الحجرة، والحجرة
مشرعة على المسجد، فيكون هو في المسجد وهي في حجرتها، ويتناول منها الخمرة.
وجاء عن إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم قالت: (كانت إحدانا تكون حائضاً،
فتقوم فتأخذ الخمرة وتفرشها في المسجد لرسول الله) ، وهذا نص صحيح صريح بأن
الحائض تدخل المسجد.
قالوا: والجنب لا يمكث في المسجد على حدثه، لكن كونه يمر مروراً للحاجة فلا
مانع من ذلك، وقد كره بعض الفقهاء أن يتخذ المسجد طريقاً؛ لأنه امتهان
للمسجد، ومرورٌ به دون أن يؤدي تحية المسجد؛ لأنه عابر سبيل.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد) ، هذا عام في جميع
المساجد، (أل) للجنس، سواء كان في مسجده صلى الله عليه وسلم أو غيره،
فالحكم لجميع المساجد، فلحرمتها لا ينبغي للجنب ولا للحائض أن يمكثا فيها،
أما للضروريات فلها أحكام تخصها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كنت
اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد)
قال رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة) متفق عليه.
وزاد ابن حبان (وتلتقي أيدينا) .
] عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم من إناء واحد - وفي بعض الروايات: من الجنابة -وتختلف
أيدينا فيه) أي: في هذا الإناء، والحديث له تتمة تتعلق بفك ظفر الشعر،
وقولها في نفس هذا الحديث: (وإني أشد شعر رأسي وأغتسل أنا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف فيه أيدينا، ولا أزيد ثلاث حفنات على
شعري) ، وكأنها تقول: ولا أنقض شعري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراني،
وهذا الحديث قالته جواباً على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد بلغها أن
ابن عمر كان يأمر النساء أن ينقضن ظفائر شعورهن في غسل الجنابة وغسل الحيض،
فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! يأمر النسوة أن ينقضن شعرهن عند الغسل،
أفلا يأمرهن بحلق رءوسهن؟! وهذا نوع من التأنيب على الفتوى على غير ما يراه
الإنسان، ثم جاءت بالخبر وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه
وسلم من إناء واحد -يعني: وهو يراها- وكنت أشد شعري، ولا أزيد على أن أصب
على رأسي ثلاث حثيات) فذكرت شد شعرها، وأنها لا تزيد على ثلاث حثيات، وذكرت
أنها تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ومقتضى ذلك أن
الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك العمل لها، وهو غسلها ظافرة شعرها ولم
تنقضه، واكتفاؤها بثلاث حثيات.
إذاً: أتانا أثر عن عائشة رضي الله عنها في عدم نقض الشعر المظفر، ووجدنا
أثراً لـ ابن عمر أنه كان يأمر النسوة أن ينقضن شعر رءوسهن، فوجدنا القولين
مختلفين، فبأيهما نأخذ؟ جاء عنه صلى الله عليه وسلم -في بعض الروايات- أنه
أمر النسوة أن ينقضن شعرهن لغسل الحيضة، وقد جمع صاحب المنتقى فيه آثاراً
كثيرة، وكذلك ابن عبد البر في الاستذكار أورد آثاراً عديدة، والجمهور
يفرقون بين غسل الجنابة وغسل المرأة من الحيضة، فيوجبون نقض شعرها من غسل
الحيضة دون غسل الجنابة، وأما الإمام مالك رحمه الله فقال: ننظر إن كان شد
الشعر شديداً يمنع وصول الماء إليه فتفكه، وإن كان شد شعر الرأس ليناً يسمح
بوصول الماء فلا حاجة إلى نقضه.
ما يستفاد من الحديث
ما يستفاد من الحديث؟ أولاً: جواز اغتسال الزوجين معاً في وقت واحد.
ثانياً: صحة اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس، وقد تقدم معنا في باب المياه
نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة
أن تغتسل بفضل الرجل، ووجدنا البحث هناك إذا خلت به لغسل حيضة أو إذا خلت
به لغسل جنابة، أما إذا كانا معاً كما في هذا الحديث فلا بأس؛ ولهذا يقول
ابن دقيق العيد: النهي هناك إذا خلت به فلا يستعمله الرجل بعدها، ومذهب ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما إذا خلت به في غسل حيضتها، وعلل الفقهاء بأن
المرأة الحائض عندما تريد تنظف المحل فلربما أفسدت الماء بشيء من ذلك
المحل، ولكن إذا أفسدته أفسدته على نفسها أيضاً، فقالوا: المنع إذاً خلت به
المرأة لغسل الحيضة أما غير ذلك فلا مانع، وهنا قالت: (نغتسل معاً) قال
العلماء: إذا شرعا معاً، ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا معاً لابد أن أحدهما
ستسبق يده إلى الإناء فيغترف، ويأتي الآخر ويغترف من بعده، وهكذا تتابع
الأيدي من الطرفين على ذلك، فإذا اغترف الزوج أولاً اغتسلت هي بفضل مائه،
وإذا اغترفت هي أولاً اغتسل هو بفضل مائها، وعلى هذا يكون هذا الحديث
ناسخاً لحديث (لا تغتسل المرأة بفضل الرجل، ولا الرجل بفضل المرأة) .
شرح حديث: (إن تحت
كل شعرة جنابة)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: (إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) رواه أبو داود
والترمذي وضعفه.
ولـ أحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول.
] أتى المؤلف رحمه الله بهذا بعد موضوع نقض الشعر للمرأة، وكأنه يلمح إلى
ضرورة نقض شعرها، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فإنهم يقولون: هذا الحديث
موقوف على علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، والموقوف إذا لم يكن موضوعه محل اجتهاد يعطى حكم الرفع؛ لأن إثبات
حكم الجنابة تحت كل شعرة، ليس من الاجتهاد، وإن كان موقوفاً على علي فيقال:
يعطى حكم المرفوع؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه ليست عنده الإمكانيات لأن
يحكم بأن تحت كل شعرة جنابة، إذاً: فلا يكون قد قال ذلك إلا بعد أن سمعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح بسماعه من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقالوا: سواء كان مرفوعاً كما هو هنا، أو كان موقوفاً على علي
-كما في بعض الروايات- فإن الموقوف هذا يعطى حكم الرفع؛ لأن موضوعه
لايستفاد بالاجتهاد والرأي.
إذا كان تحت كل شعرة جنابة، فإن هذا من باب التأكيد، وإن لم تكن هناك شعرة،
كأن يكون المغتسل أقرعاً، فكل جزئية تعادل شعرة في الجسم تحتها جنابة؛ ولذا
أردف الخبر بأن تحت كل شعرة جنابة بما هو أعم فقال: (فاغسلوا الشعر، وأنقوا
البشر) ، فغسل الشعر إذا كان مظفوراً مشدوداً لا يتأتى، وهذا يرجح أولوية
نقض الشعر المظفور ليتمكن من غسله، وقوله: (وأنقوا البشرة) ، البشرة: من
المباشرة، وسمي الآدمي بشراً؛ لأن بشرته مكشوفة بخلاف الحيوان فجلده مغطى
بشعر أو صوف أو غير ذلك، ولا يوجد حيوان مكشوف البشرة إلا الإنسان، ومن هنا
كانت البشرى، إذا سمع خبراً ساراً تغيرت أسارير بشرة وجهه، وظهرت على وجهه
علامات الاستبشار، فهي مأخوذة من البشرة.
وبشرة الإنسان هي جلده، فكل ذرة من ذرات الجلد الظاهرة يجب إنقاؤها، وليس
مجرد غسلها، ومن هنا أخذ مالك رحمه الله ضرورة الدلك؛ ليتحقق الإنسان في
غسله أنه أنقى البشرة، وذكر ابن عبد البر عن كثير من المالكية أنه يبذل
جهده؛ لأن المالكية المتأخرين يقولون: إذا لم تلتق يديه من وراء ظهره، ولم
يشمل ظهره كله؛ يأخذ خرقة أو يأخذ منديلاً ويمرره على ظهره؛ ليتأكد أنه دلك
جميع بشرته، وقال ابن عبد البر عن أصحاب مالك: لو أنه لم يفعل هذا التدليك
المطلوب وكرر إضافة الماء فإن ذلك يجزئه عن الدلك، كما يحصل الآن عندما تقف
تحت الدش والماء ينصب متوالياً، فيقول: إذا تكررت إفاضة الماء وتوالت فهي
مظنة وصول الماء إلى جميع البشرة، أو إذا انغمس في ماء ومكث مدة، أو تحرك
في الماء فإن هذا مظنة تعميم الماء إلى جميع البشرة.
وعند الآخرين يكفي إذا تأكد من وصول الماء ولو من صبة واحدة، وقد جاءت
السنة أنه أفرغ على جسده ثلاث مرات.
وعلى كل: فما يتعلق بالتدليك وما يتعلق بإنقاء البشرة إنما هو تأكيد لرفع
الجنابة عن جميع الجسم، وقد رأينا في الوضوء أنه إن ترك لمعة فقد جاء
الوعيد (ويل للأعقاب من النار) وابن عبد البر يقول: إن الله سبحانه أمر
المسلم أن يغسل أعضاء الوضوء، وغسلها لا يتأتى إلا بإمرار الماء عليها مع
الدلك كما تغسل الثوب أو الإناء، أما مجرد مرور الماء على العضو فهذا ليس
بغسل وإنما هو صب للماء، ولا يتحقق الغسل إلا بالدلك والفرك، ويقول: إن
الله سبحانه وتعالى قال: في الغسل: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] ، فكيف يكون الاغتسال الذي جاء مجملاً في
كتاب الله مع الوضوء الذي جاء مفصلاً؟ فكما أمر الله المتوضئ أن يغسل أعضاء
الوضوء، ولا يتحقق غسل الأعضاء إلا بإمرار اليد عليها، وعدم إمرار اليد لا
يسمى غسلاً، بل يسمى إفاضة الماء على العضو؛ وكذلك في الغسل عليه أن يمر
يديه على سائر بشرته كما يمر يده على أعضاء الوضوء التي جاء التنصيص عليها،
والجمهور أنه كيفما اغتسل أجزأه.
حكم الوضوء بعد غسل
الجنابة
وبقي مسألة في هذا الباب: إذا اغتسل، هل يصلي بهذا الغسل أم يتوضأ؟ تقدم في
حديث عائشة (توضأ وضوءه للصلاة) يعني: مثل وضوئه للصلاة سواء بسواء، ثم
أدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم أفاض الماء على رأسه وحثى على رأسه ثلاث
حثيات، فقالوا: إذا توضأ أولاً ثم اغتسل على ما قالت أم المؤمنين عائشة،
وفي أثناء الغسل لم يمس فرجه بعد وضوئه، فإنه يصلي بهذا الغسل المسبوق
بالوضوء.
ويقول ابن عبد البر: لم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ
بعد الغسل، ولكن إذا حدث أثناء الغسل ما ينقض الوضوء الأول، فإنه لابد له
من أن يتوضأ، وأكثر العلماء يقولون: إن الحدثين يتداخلان: الحدث الأصغر مع
الحدث الأكبر، فإذا اغتسل وعمم البدن أثناء الغسل ناوياً رفع الحدثين معاً؛
فإن الحدث الأصغر يتداخل مع الحدث الأكبر، ويصبح طاهراً من الحدثين، فيصلي
بهذا الغسل، والله تعالى أعلم.
|