شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الطهارة - باب التيمم [1]
لقد خص الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص جمة، وهذه الخصائص لا يشركه فيها أحد من الأنبياء، ومنها: أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وأحل له أخذ الغنائم، وأعطي الشفاعة، وبعث إلى الناس كافة، ومنها: أنه جعلت له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، فإذا لم يجد أحد من أمته الماء ليتوضأ أو ليغتسل فليتيمم وليصلِّ حيث شاء.


مشروعية التيمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب التيمم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراًً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، وذكر الحديث.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ، وعن علي رضي الله عنه عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] .
انتقل المصنف رحمه الله إلى الطهارة الترابية وهي التيمم، والتيمم لغة: القصد، يقال: يممت جهة كذا أي: قصدتها، أو تيممت إلى جهة كذا قصدتها.
وشرعاً: القصد إلى الصعيد الطيب عند عدم وجود الماء، لمسح الأعضاء على صفة مخصوصة.
وهذا الباب مما يدل على مدى سماحة الإسلام، ومجيء البدائل من الأصل المفروض، وهذا أولها.
فالأصل في الطهارة أن تكون بالماء، ولكن إذا عدم الماء أو تعذر استعماله فلا يتعطل التشريع، ولا تتوقف العبادة، بل يأتي البديل وهو التيمم، سواء كان التيمم رخصة أو عزيمة، فإنه نيابة مؤقتة، أو دائماً على حسب الظروف في استعمال الماء.
ونجد البدائل في الإسلام عندما تأتي الشدائد أو المضايقات والعجز، وفي بعض الأحيان تسمى رخصة، وأحياناً تكون عزيمة.
فإذا انتهينا من الطهارة وجئنا إلى الصلاة فإن الأصل فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا عجز الإنسان عن القيام جاءته الرخصة في أن يصلي جالساً، وإذا عجز عن الجلوس صلى وهو على جنبه، أو مستلقياً على ظهره.
وإذا جئنا إلى الصيام فإن الأصل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فإذا كان عاجزاً عن الصوم أو تلحقه به مشقة من مرض أو سفر أو ما يلحق بالمرض والسفر، فإنه تأتي الرخصة في الفطر والقضاء في أيام أخر: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] .
وتأتي الزكاة ولا تجب إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده مال وهو مستغنٍ مستغنياً عنه حتى يحول عليه الحول في يده، فحينئذٍ يثبت غناه فتفرض عليه الزكاة.
ونأتي إلى الحج فنجد من أول مشروعيته: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] .
ونأتي إلى الجهاد فنجد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [الفتح:17] وهكذا.
ومن هنا لم يكن في التشريع الإسلامي ما يسمى طريقاً مسدوداً، بل كلما عجز الإنسان جاءته الرخصة، والتيمم يختلفون فيه على ما سيأتي إن شاء الله: هل هو عزيمة أو رخصة؟ كما اختلفوا في إباحة الميتة، إذا نفد الطعام ولم يجد ما يسد رمقه ووجد الميتة، وهي محرمة في الأصل، فإنه أبيح للمضطر: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] فإباحة الميتة عزيمة أم رخصة؟ قالوا: إنها رخصة، ولكن قد تكون عزيمة إذا خاف على نفسه الموت ولم يجد غيرها.
وهنا في التيمم مباحث كثيرة من حيث العزيمة والرخصة، ومن حيث أنه مبيح للصلاة أو رافع للحدث، وهذه كلها جوانب فقهية تتعلق بموضوع التيمم، وسيذكر المؤلف بعض النصوص الموجودة في هذا الباب، وسنشرحها إن شاء الله تعالى.


من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
والتيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فلا حاجة إلى بحث جوازه أو مشروعيته، وقد بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بشيء من بيان المشروعية مع خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنها: حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، قوله: (أعطيت) فعل مبني للمجهول، أو لنائب الفاعل، ومعلوم أن الذي أعطاه هو الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله: (لم يعطهن أحد قبلي) ، وقد اعتبروا هذه الخمس من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصر ما أعطيه دون الأنبياء في الخمس، وإنما قال: (أعطيت خمساً) ، ويمكن أن يعطي خمساً أخرى أو عشراً، ولهذا ذكر السيوطي أنه عد ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم فوصل إلى مائتي صفة، وذكر ابن حجر في فتح الباري ثمانية بنصوصها.
وهناك أمور تمر على الإنسان وقد لا يعلم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في بيان خصائصه: إما أن يأتي النص عليها، كما جاء في الواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن بالتنصيص: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، فهذا نص قرآني على أن هذه الصورة من صور الزواج خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن المرأة إذا رغبت في زواجها من رسول الله، فجاءت ووهبت نفسها لرسول الله، فإنه يحق له أن يتزوجها بدون صداق ولا ولي ولا شهود، وهذا من خصائصه، قيل: لأن الولي لا حاجه إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أما غيره فلا يحق له أن يتزوج امرأة بالهبة كما هو معلوم.
ونرجع إلى الخمس المذكورة في هذا الحديث، فنجد أنه صلى الله عليه وسلم استهل حديثه بقوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، وفي رواية: (أحد من الأنبياء قبلي) ، وإذا كان لم يعطهن أحد قبله فهل يعطى أحد بعده شيئاً منها؟ الجواب: لا؛ لأن الرسالة انتهت، والعطاء والإكرام من الله سبحانه وتعالى بتخصيص فرد من الأفراد بشيء لم يكن لغيره قد انتهى أمره، اللهم إلا أمور ليست في التشريع، كما قالوا عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنه كانت تمر به الملائكة فتسلم عليه وكان يراها، فحدث، أن اكتوى، فامتنعت الملائكة عن التسليم عليه، وعن رؤيته، فلما ترك الكي عادت إليه، وقال: قد عاد إليَّ ما كان أولاً.
وكذلك العباس رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى بيت رسول الله، واستأذن على رسول الله فلم يأذن له، والباب مفتوح، وهو يراه في داخل البيت، فغضب العباس، وكان في بني هاشم نوع حدة، فجاء راجعاً إلى بيته، فقال له عبد الله: لا تغضب يا أبي! لعله مشغول عنك بالرجل الذي كان يتحدث معه، فقال: وهل معه رجل؟ قال: بلى، قال: ما رأيته، فرجع العباس مرة أخرى، فاستأذن على رسول الله فأذن له، فدخل وقال: (ما شأنك يا ابن أخي استأذنتك أولاً ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: إنه كان عندك رجل تحادثه؟ فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس وقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: ذاك جبريل كان عندي آنفاً) ، فهذا قد يكون من خصوصياته، ولكن وجدنا في مجلس عام في حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل) ، وذكر من صفاته، فهذا في مجمع عام، وفي النهاية قال لهم صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) .
فقد يخص الله بعض العباد ببعض الخصائص التي ليست للآخرين، كإجابة الدعوة، فليس كل إنسان مجاب الدعوة، ولكن يوجد من بعض عباد الله الصالحين كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أقسم على الله لأبره) .


قذف الرعب في قلوب الأعداء
قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) .
والرعب: هو الخوف، والمسيرة نسبة إلى موضع السير، والمعنى: مسافة ما يسير الإنسان شهراً بالسير العادي على الأقدام أو على الإبل، قالوا: مسيرة شهر أمامه، ومسيرة شهرٍ وراءه، ومسيرة شهر عن يمينه، ومسيرة شهر عن يساره، فكل من سمع به على بعد شهر فإنه يخاف منه، وجاء في بعض الروايات: (نصرت بسيفي) أي: بالسمعة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم، والرءوف الرحيم لا يخاف الناس منه، إنما يخافون الناس من البطاش والجبار والظالم، ولكنه رءوف رحيم ومع ذلك يخافون منه! وقوله: (نصرت) ، هذه النصرة كما يقولون: لو كان وحده وليس معه من الجيش أحد فإنه بمجرد وجوده في مكان ويسمع به أي إنسان ولو على بعد مسيرة الشهر فلابد أن يرتجف قلبه خوفاً من رسول الله؛ لما أعطاه الله من النصر على أعدائه.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات كما يقول الراوي: نزلنا منزلاً وكان الظل شحيحاً، فكنا نترك الشجرة المظلة لرسول الله ونتجنب عنه -أي: ليقيل وينام- فجاء إلى ظل شجرة وعلق سيفه بغصنها ونام، فجاء أعرابي وأخذ السيف واستله من جرابه، وأيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! من يعصمك مني؟ -السيف في يده، وهذا أعزل وجالس في الأرض وهو متمكن بقيامه- قال: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي فتناوله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أعرابي! من يعصمك مني؟ فقال: العفو يا محمد.
فهذا من نصرة الله، فإنه لم يأتِ أصحابه حوله، ولم يستصرخ أحداً، ولا استنجد بأحد، ولا نادى أحداً، ولكنه استعان بالله.
ومن المعلوم أن نصرة الأنبياء في مثل تلك الوقائع ليست بدعاً من الأمر، فالقرآن الكريم قد ذكر عدة وقائع، فهذا الخليل عليه السلام عندما وضعوه في المنجنيق وأرادوا إلقاءه في النار وهي ملتهبة مستعرة، ويأتي جبريل ويقول: ألك حاجة؟ فيقول له: أما منك فلا، وأما من الله فنعم، قال: أفلا تدعوه؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤاله، فكانت نصرة الله له أقرب من كل شيء، وقد جاء في الحديث: (ضجت الملائكة لما رأته في المنجنيق وقالوا: إن سألكم عوناً فأعينوه إن استطعتم) ، ولم يسأل أحداً شيئاً، وكانت نصرة الله له بقوله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] .
وموسى عليه السلام لما وقف على حافة البحر، ونظر من معه فإذا فرعون وجنوده وراءهم، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وكلمة (معي) نجدها في الغار عندما وصل الطلب من قريش لرسول الله إلى فم الغار وقال الصديق: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما بالك باثنين الله ثالثهما) ، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
وهكذا نجد نصرة الله للرسل عامة، ولكن أن يكون النصر على مسيرة شهر، فهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] .


جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً
قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً) .
والجعل: التصيير، تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الخشب باباً، وجعلت الطحين خبزاً، والأرض موجودة من قبل، ولكن الجعل منصب على الوصف الطارئ، و (الأرض) جنس -كما يقولون- الكوكب الذي نعيش عليه، و (أل) هنا للاستغراق، فتشمل جميع أجزاء الأرض مشارقها ومغاربها، شمالها وجنوبها، أعلاها وأسفلها، وكلمة (لي) مفهومها أنها لم تجعل لغيره، وقوله: (مسجداً وطهوراً) هل المسجد والطهور خصلة واحدة؟ التحقيق في العدد أنها خصلة واحدة؛ لأننا لو عددناهما خصلتين لكان المذكور في الحديث ست خصال، والمذكور في الحديث في الجملة خمس، وهذا من الأساليب النبوية، وهو الأبلغ، أن تذكر القضية مجملة ثم يفصل في أجزائها.
و (مسجِد) على وزن مفعِل، من سجد يسجد فهو مسجد، على خلاف القياس، وهو موضع السجود، كمجلس، يقال: هذا مجلس زيد أي: مكان جلوسه، وهذا مسجد زيد أي: مكان سجوده، وهل المراد بالمسجد هنا المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي؟ بمعنى هل المراد أن يجوز أن يبنى المسجد في أي جزء من الأرض، أم المراد أن جميع أجزاء الأرض مسجد بمعنى موضع للسجود، ولو لم يكن هناك مسجد مبني؟ المعنى الثاني أعم، وكأن الأرض كلها مسجد كبير جداً في جميع أجزاء الأرض.
وقوله: (وطهوراً) ، والأرض تكون طهوراً، وكلمة (الأرض) تشمل جميع طبقاتها، والأرض أنواع كما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثلي ومثل ما بعثني الله به من الحق كمثل أرض خصبة شربت الماء وأنبتت، وأرض قيعان لم تمسك ماءً ولم تنبت كلأ، وأرض أمسكت الماء ولم تنبت واستفاد بها غيرها) ، فقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، يعم كل أرض، وسيأتي بيان هذا الطهور وكيف نتطهر بالأرض.
إذاً: التعميم هنا والمجيء بـ (أل) وهي لجنس الأرض، أخذ العلماء من ذلك أن طهور الأرض يصلح بكل أنواع أجزائها، سواء كانت رملاً، أو حصى، أو صخرة ملساء، أو أرضاً طيبةً منبتة، أو غير ذلك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، كما تصح الصلاة في جميع أجزاء الأرض، سواء كانت صخرة ملساء، أو رملاً بيضاء، أو حصوة، أو حجارة، أو حتى على رأس جبل فإنه تصح الصلاة فيه، وكذلك تصح الطهارة منه، وهذا هو ما أخذ به من يقول بأن التيمم يصح أن يكون على جميع أجزاء الأرض.
وقوله: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، (أي) من صيغ العموم، و (ما) هنا موصولة وهي من صيغ العموم، فتعم كل رجل وكل امرأة (أدركته الصلاة) في أي بقعة من بقاع الأرض، (فعنده مسجده وطهوره) مسجده أي: الذي يصلي فيه، وطهوره الذي يتطهر للصلاة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل) أي: من أمته، فالأمم الماضية ما كانت تصح لهم الصلاة في عموم الأرض؛ لأن هذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه ولأمته معه، وكان الأنبياء والأمم من قبل لا تصح صلاتهم إلا في أماكن العبادة، سواء كانت البيع، أو الكنائس، أو مواطن العبادة التي تختص بهم، أما عموم الأرض فلم يرخص لهم فيها، وجاءت هذه الأمة فكانت صلاتها تصح في المساجد التي بنيت للصلاة، وتصح في أي جزء من أجزاء الأرض، فأيما رجل أدركته الصلاة في سفر أو في حضر، وليس عنده مسجد فعنده مسجده، أي: وجه الأرض، وإذا لم يجد الماء فعنده الأرض يتطهر بها ويصلي عليها، أي: أنه لا يعفى أي رجل من أداء الصلاة، فلا يقول: لا يوجد مسجد، فعنده مسجده، ولا يقول: ليس عندي ماء أتوضأ، فعنده طهوره.
إذاً: لا عذر لأي رجل كان في أي بقعة كانت أن يترك الصلاة لعدم وجود مسجد مقام، أو لعدم وجود ماء يتطهر به، فعنده في أي مكان كان مسجده وهو وجه الأرض، وعنده طهوره الذي هو جزء الأرض المكشوف لنا.
وقوله: (فأيما رجل) تلحق به المرأة أيضاً، فلو أن عائلة بكاملها رجالاً ونساءً، أو قبيلة في رحلة، أدركتهم الصلاة ولم يجدوا الماء، فإن الجميع رجالاً ونساءً يتيممون ويصلون.


حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض
[وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ] .
من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء باللفظ الأول: (وجعلت لي الأرض) ، والأرض عامة، ثم جاء باللفظ الآخر: (وجعلت تربتها) يقولون: إن التربة والأرض سواء، وتربة كل جزء من الأرض بحسبها، يقال: هذه الأرض تربتها خصبة، وهذه الأرض تربتها رمل، وهذه الأرض تربتها حصى، وهذه الأرض تربتها صخر، فتربة كل مكان بحسبه.
إلا أن البعض قال: (تربتها) نوع خاص منها هو الذي يمكن أن يكون منه التيمم، وهنا سنبدأ في تخصيص عموم الأرض، ويبين ذلك الأثر الذي يأتي بعد هذا، وهو عن علي عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] ، وهذا نص صريح، والتراب متميز عن أجزاء الأرض من غيره؛ لأن الأرض ليست كلها تراباً، وكذلك الطين، والرمل الأبيض الناصع، والحصا والصخرة الملساء، فالتراب: ما كان من الأرض صالحاً للزرع والإنبات، وكان له غبار.
فمن هنا لوجود هذه الروايات هناك من أخذ بالعموم وقال: يصح التيمم على جميع أجزاء الأرض، كـ مالك وأبي حنيفة رحمهم الله.
وقال الشافعي: لابد من وجود تراب، وإذا وجد التراب ولو في غير الأرض صح التيمم، كما يقول النووي رحمه الله: لو جاء إلى كيس من الحب معرض للهواء والغبار والتراب، أو إلى مفرشة مليئة بالغبار، فضرب عليها، وتصاعد غبار التراب من هذا الكيس أو من هذه المفرشة؛ صح التيمم عليه؛ لأن الغرض هو التراب.
والجمهور يقولون: إن الله يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] ، فلا بد من القصد للصعيد، وهو وجه الأرض.
إذاً: العلماء مجمعون على مشروعية التيمم، ولكنهم اختلفوا في هل عموم الأرض على النص الأول العام أم على التربة؟ وهل التربة تتميز عن عموم الأرض؟ وإذا كان التراب على جدار أو على كيس أو على مفرشة أو نحو ذلك فهل يصح التيمم؟ فـ الشافعي رحمه الله أخذ بأثر علي، وجعل التراب حيثما كان ولو لم يكن مباشراً للأرض؛ لأن التراب عوض عن الماء.
والآخرون قالوا: الذي يصح منه التيمم هو وجه الأرض؛ لقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:43] ، والصعيد: ما تصاعد وارتفع عن وجه الأرض، حتى قال المالكية: صعيد الأرض ولو كان حجراً أملساً، فلو أن صخرة بالوادي كانت مليئة بالتراب وجاء السيل وغسلها، ثم جاء إنسان في وقت من الأوقات ولم يجد ماء، ووجد تلك الصخرة الملساء، فإنه يصح التيمم عليها ولو لم يكن بها ذرة غبار ولا تراب.
إذاً: إلى هنا بيان اختلاف العلماء رحمهم الله في نوعية ما يصح منه التيمم من الأرض، وهم مجمعون على أن جميع أجزاء الأرض تصح الصلاة عليه، فلو كان هناك إنسان في قمة جبل، ثم حان وقت الصلاة، فلا نلزمه أن ينزل إلى بطن الوادي ليصلي، بل يصح أن يصلي في قمة الجبل ولو كان أملساً مثل الرخام المنعم.
وقالوا: كما تصح الصلاة وتكون الأرض مسجداً بعمومها وجميع أنواع أجناسها، سواء في رملة، أو في حصوة، أو في صخرة، أو في تراب، أو في غير ذلك، فكذلك الطهور قرين المسجد، فعنده مسجده وطهوره، فإذا كان عنده مسجده والأرض صخرة ملساء وقلنا: لا يصح التيمم، صار عنده مسجده فقط، وعليه أن يبحث عن طهوره، وهذا ينافي الحديث.
وعلى هذا يكون الراجح من هذه الأقوال: أن أي جزء من أجزاء الأرض بطبيعته فإنه يصح التيمم عليه كما تصح الصلاة فوقه.
والمؤلف لم يذكر من الخصائص الخمس إلا اثنتين، ثم قال: (وذكر الحديث) ، أي: أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ذكر بقية الحديث، ولكن المؤلف اقتصر من الحديث على ما هو محل الشاهد هنا، وهو قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وما دام أن المؤلف قد ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) فلا بأس أن نقف على بقية الخصال الخمس التي اختص بها خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه.


إباحة الغنائم
قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم -وفي لفظ: المغانم- ولم تحل لأحد قبلي) .
الغنائم والمغانم: هي ما يناله الجيش المنتصر من ممتلكات الجيش المنهزم، من أموال وحيوانات وسلاح وغيرها، فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا أول من أحلت له الغنائم، أما الأمم الماضية فلن تكن حلالاً لهم، والأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على قسمين: قسم أمر بالقتال ووعده الله بالنصر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] .
وقسم لم يؤمر بقتال فليست عنده مغانم، فالذين أمروا بالقتال وكانوا يغنمون من العدو، كانوا يجمعون المغانم والغنائم في مكان واحد، فإن كان عملهم خالصاً وسلم من الغلول -أي: لا يوجد شخص من الجيش أخفى شيئاً لنفسه- نزلت عليه نار وأحرقته، كما حدث في قضية قابيل وهابيل لما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وهو أن نزلت نار فأحرقت القربان الذي قبل عند الله.
فكانت تنزل نار فتحرق تلك الغنائم، ولا يمتلك الجيش المقاتل منها شيئاً، ويُذكر عن نبي من الأنبياء أنه قاتل وجنده فغنموا مغانم ووضعوها، فلم تنزل نار لتحرقها، فقال لرؤساء القوم: فيكم غلول منع من نزول النار لإحراقها، فكان كل واحد يقول: لا يوجد عندنا الغلول، فدعا رؤساء الجند وقال: ليبايعني كل واحد على قومه، فبايعوه، إلا واحد لصقت كفه بكف نبي الله، فقال: في قومك الغلول، ائتني بهم ليبايعوا واحداً واحداً، فجاءوا وبايعوه، فلصقت كف الغال بكف النبي عليه السلام، فقال: أنت عندك الغلول، فأخرج رأس ثور من ذهب وألقاه، فنزلت النار وأحرقته.
فكانت الأمم الماضية والرسل المتقدمون إذا غنموا لا يقتسمون الغنائم، ولكن هذه الأمة أحلت لهم الغنائم، وكلمة (أحلت) تشعر بأنها لم تكن حلالاً من قبل، كما في آية الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] ، وقبل نزول الآية لم يكن الرفث -وهو الجماع- حلالاً.
وبعض العلماء يقول: المراد بالمغانم هنا بعضها وهو الخمس، فيتصرف فيه صلى الله عليه وسلم كيفما شاء، كما جاء في الآية: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] الآية.
وبعضهم يقول: بل المراد جميع الغنائم، كما جاء في سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] ، فما أعطى للآخرين شيئاً وهو الذي يعطي المقاتلين حصتهم، ثم جاء التقسيم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] ، والأربعة الأخماس تكون للمقاتلين، وهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الشفاعة العظمى
قال صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة) ، الشفاعة هنا جنس عام، وأصل الشفاعة: من الشفع، والشفيع يأتي مع الشخص المفرد فيجعله شفعاً، فإن الشخص وحده وتر فرد، فإذا ضم إليه من له حاجة إليه فإن هذا الذي جاء معه يشفعه، فصار هو والذي جاء شفعاً وليس وتراً، والشفيع: هو الذي يأتي مع المشفوع فيه فيكون شفعاً معه.
وعرفاً: هو الذي يسأل من عنده الحاجة للمشفوع له، وغالباً يكون الشفيع أو الشافع ذا منزلة عند المشفوع عنده؛ لأن الشخص بذاته قد لا يعنى به من عنده الحاجة، وإذا أتاه قد لا ينظر إليه أو لا يقضيها له، فإذا أتاه من له مكانة عنده ربما قضى حاجة المشفوع له بموجب وجود الشافع الذي أتى معه.
والشفاعة يوم القيامة: هي أن يشفع الشافع في غيره، إما بعدم دخول النار وقد استحقها، وإما بدخول الجنة وهو لم يستحقها، وإما بإخراجه من النار وقد دخلها.
والشفاعة من حيث هي بهذه الصفات يشارك فيها الكثيرون، فالعالم يشفع في جيرانه وفي أهله، والطفل يشفع في أبويه، والشهيد يشفع في سبعين من أهله، فهناك من الأشخاص من يعطيهم الله حق الشفاعة في الأفراد.
ولكن الشفاعة هنا للجنس، وإذا أطلق الجنس انصرف إلى أكمل أفراده، يقال: جاء الرجل، والرجل هو إنسان في مقابل المرأة، لكن إذا أطلق وقيل: جاء الرجل، فالمعنى: الأمثل في الرجال الذي ينصرف إليه الاسم كعلم عليه لتميزه، وقد يكون نسبياً، فيقال: جاء الرجل الشجاع، جاء الرجل الكريم، جاء الرجل العاقل، وذلك إذا كنا في قضية حول الشجاعة والجبن، وحول الكرم والشح، وحول الحلم والغضب، فيقال: جاء الرجل، أي: الرجل الذي هو أحق بهذه الصفة عند الناس.
واسم الجنس قد يكون علماً للغلبة على فرد، مثل كلمة (المدينة) ، فإذا أطلقت المدينة التي هي في أصل اللغة نكرة ودخلتها (أل) التعريف، فيراد بها المدينة المنورة، مع أنها تصدق على كل مدينة من مدن العالم، ولكن أصبحت علماً على المدينة المنورة.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت الشفاعة) ، تصرف الشفاعة عند الإطلاق على أعلى فرد من أفراد الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى.
والشفاعة المذكورة هنا هي الشفاعة التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل والأنبياء وجميع الخلق، وهي ما يسمى عند العلماء: بالشفاعة العظمى، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة، وتدنو الشمس من الرءوس بقدر الميل، ويشتد الأمر بالناس، حتى يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون مجيء الرب لفصل القضاء؟ ألا تجدون من يشفع لنا؟ فيذهبون إلى أبي البشر آدم عليه السلام ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما نحن فيه؟ اذهب فاشفع لنا عند ربك ليأتي لفصل القضاء، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولقد نُهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها؛ فإني أستحي أن أسأل ربي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، وأنت وأنت وأنت.
فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الله، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، فيقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فيقول: أنا لها أنا لها) .
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، وقد تعجل كل بني بدعوته على قومه في الدنيا، -قال: (وأنا ادخرت دعوتي إلى يوم القيامة) ، فاخرها لذلك اليوم، يقول: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعلمها) ، ونحن نذكر في الدعاء: (اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فهناك يعطي الله رسوله في ذلك المقام مما استأثر به في علم الغيب عنده، فيحمد الله بتلك الأسماء في ذلك المقام، وهي المناسبة لذلك لهذا الموقف الحرج الشديد، إلى أن يقبل الله منه فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) ، فيسأل المولى سبحانه المجيء لفصل القضاء، أو أن يعجل فصل القضاء.
وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعده الله، والذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسألها من الله له عندما قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا هو) ، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى؛ لأنها تشمل جميع الأمم وجميع من في الموقف.
إذاً: الشفاعة في قوله: (وأعطيت الشفاعة) وإن كانت اسم جنس عام إلا أنها تصرف لأعلى أفراد الجنس، وبقية الشفاعات يذكرون أنها سبعة أنواع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن لا يستحق الجنة فيدخلها، ويشفع ثلاث أو أربع مرات لمن دخل النار بالفعل أن يخرجه الله منها، كما في الحديث: (يا رب! أمتي، فيقول: اذهب فأخرج من تعرف من أمتك من النار) ، وفي بعض الروايات: (فيحد لي حداً في النار ويقول: اذهب فأخرج من وجدت من أمتك في النار) أي: في هذا الحد، ثم يرجع مرة ثانية وثالثة وهكذا.


بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة
قال صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) .
هذه هي الخامسة، وهي عموم وشمول الرسالة، فقد كان النبي يبعث في قومه خاصة، فلوط بعث في قومه، وإبراهيم بعث في قومه، ونوح بعث في قومه، وإن كان نوح عليه السلام بعد الطوفان أصبح لجميع من على وجه الأرض؛ لكن هذا العموم طرأ بعد أن غرق كل من عدا من آمن معه؛ ولكن أصل بعثته لقومه خاصة: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح:2] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] ، فبعد أن وقع الطوفان، وغرق سوى من لم يؤمن، أصبح لا يوجد على الأرض إلا من تبعه، فلا نقول: إن رسالته عامة للناس؛ لأن هذا العموم طارئ بعد فناء من لم يؤمن، فأصل رسالته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام خاصة لقومه.
وهكذا صالح أرسل إلى ثمود، وهود أرسل إلى عاد، وهكذا كل واحد من الأنبياء أرسل لقومه، إلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] ، فرسالته عامة للأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وكل بشر على وجه الأرض شملته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (ما من أحد سمع ببعثتي ولم يؤمن بي إلا دخل النار) ، (سمع) من أي الأجناس، في أي بقعة على وجه الأرض، وأعتقد أنه لا يوجد على وجه الأرض بشر إلا وقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا -في نظري- أولئك البشر الذين يعيشون في بعض الغابات في آسيا، ولم يتعرفوا على البشر، ويعيشون عراة تحت الأشجار، وبعض الدول هناك تذهب وتأخذهم كما يؤخذ الصيد، وتأتي بهم إلى المدن وتحاول أن تلبسهم فيمزقون اللباس، فجعلت لهم بيئة كبيئة الغابة بالفعل، وجعلت أنهاراً في وسط الأشجار، فتأتي أول ما تأتي بهم وتطلقهم في هذه الغابة المصنوعة، وبعد فترات تجعل لهم أكواخاً صغيرة، وتضع أطعمة في بعض الصحون، فيأكلون الأطعمة ويكسرون الصحون، وعندما يتآلف الشخص منهم يأتون إليه بنوع من القماش، ويفتحون فيه فتحة من الوسط ويدخلون رأسه، ويتركونها عليه جزء منها من الأمام، وجزء منهما من الوراء، فإذا بهم يخلعونها ويرمونها، ويعودون إلى العراء، وبعد فترة يألفون هذا اللباس، ثم بعد ذلك يعطون قميصاً واسعاً، ثم بعد ذلك يخاط القميص والسراويل ويألفون عليها وهكذا.
ويحكون عنهم أنه إذا برز واحد من طرف الغابة التي يعيشون فيها ورأى بشراً من بعيد هرب ودخل إلى الغابة، فهؤلاء لا أدري هل بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم؟! الله أعلم، ولكن الذي يهمنا أن دعوة رسول الله عامة حتى لهؤلاء، وعلى ولاة المسلمين أن يعملوا على إبلاغها لهؤلاء ما استطاعوا لذلك سبيلاً.
وهذه الخصيصة تعتبر من الخصائص المتميزة التي ذكرت، ومن أراد الوقوف على أكثر من ذلك فليرجع إلى فتح الباري، أو إلى الخصائص للسيوطي، أو إلى الخصائص النبوية للبيهقي، فهناك أشياء عديدة في شخصه صلى الله عليه وسلم، وفي قوته وشجاعته وكرمه، وفي بيته مع نسائه، وأشياء عديدة يمكن أن تمر بالإنسان في بعض الأحاديث فيدرك خصوصيتها.
أما ما لم يأت التنصيص على خصوصيتها لرسول الله فإن العلماء يقولون: كل ما أمر به ولم يفعله فعدم الفعل له من خصائصه، وكل ما نهى عنه وفعله فهو من خصائصه ولا يقتدى به في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.


كتاب الطهارة - باب التيمم [2]
من رحمة الله بعباده أن فرض عليهم الفرائض وأوجبها على قدر الاستطاعة، وجعل لكل ما لم يقدر عليه العبد بديلاً، ومن ذلك: الطهارة للصلاة بالماء، فإن لم يجد العبد ماء ليتوضأ كي يصلي أو ليغتسل إن كان جنباً، أو لم يستطع أن يستعمل الماء لمرض أو خوف، فإنه يعدل إلى التيمم.


شرح حديث عمار بن ياسر في صفة التيمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم.
وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) .
] .
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، في حاجة، ولم أقف على تلك الحاجة، يقول: فأصابتني جنابة وليس عندي ماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، وهذا الفعل منه رضي الله تعالى عنه يعتبر من استعمال القياس، فإن التيمم جاء في الوضوء وجاء أيضاً في الجنابة، وهو لا يعلم الكيفية، فقاس التيمم من الجنابة على الغسل من الجنابة بالماء، والغسل من الجنابة يعمم فيه جميع البدن، بخلاف الوضوء في الحدث الأصغر، فإنه تغسل أعضاء خاصة من البدن، فهو ظن أن التيمم ينبغي أن يعمم جميع البدن كما يعممه الغسل بالماء، ففعل تلك الصورة، فلما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما وقع منه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا!) ، أي: أن تفعل هكذا، والقول قد يأتي محل الفعل، يقال: قال بيده هكذا وفعل، قال برجله هكذا ودفع الأمر، قال برأسه هكذا، أي: أشار وفعل.
قال: (فضرب بيديه الأرض) ، فيتعين هنا إحداث الضرب، أما أن يمسها أو يجرها على الأرض فليس من صورة التيمم، فعليه أن يضرب بيديه الأرض، واليد تطلق من الكف إلى الذراع إلى الزند إلى المنكب، ولكن الذي يضرب به الأرض إنما هو الكفان.


ضرب اليدين في الأرض للتيمم
والضرب باليدين على الأرض هي أول حركة في التيمم، وهذا متفق عليه، ولكن يأتي البحث في: ماذا يمسح؟ وفي عدد الضربات، وهذا هو ما يدور القول فيه في كيفية التيمم، أهو ضربة واحدة أم هو ضربتان؟ وهل يمسح الكفان والوجه فقط أم يمسح إلى المرفقين أم يمسح إلى المنكبين؟ وهل هي مسحة واحدة أو مسحتان؟ كل ذلك ورد، أما عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يأت إلى المنكب، ولكن جاء عن بعض السلف.
أما مسح الكفين والمرفقين فجاءت فيه النصوص، كما في حديث عبد الله بن عمر الذي ساقه المؤلف بعد حديث عمار، وبعض روايات عمار أيضاً إلى المرفقين.
إذاً: حديث عمار فيما يتعلق بالجنابة انتهينا منه، وذكرنا أن التيمم يشرع للجنابة كما يشرع للحدث الأصغر، ثم يأتي هنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم والبيان، ولا يجوز تأخير التعليم أو البيان عن وقت الحاجة؛ لأن عماراً لم يعلم كيف يتيمم من الجنابة، والرسول بين، والبيان في معرض التعليم هو الأساس والأصل.


مسح اليد اليسرى على اليمنى
قال: عمار: (فضرب بيديه الأرض ثم مسح الشمال على اليمين) .
أي: أنه مسح اليمنى أولاً، ثم مسح الشمال، فذكر عمار هنا التيامن بين اليدين، فاليمين تمسح قبل الشمال، ثم تمسح الشمال.
وهنا يقول عمار: مسح الشمال على اليمين، أي: قدم مسح اليدين على مسح الوجه، وهذا في ترتيب حديث عمار الذي ساقه المؤلف في معرض التعليم.


مسح الوجه والكفين
قال: (وظاهر كفيه ووجهه) .
باطن الكف حده ما تنكف عليه الأصابع، فالجزء الذي لا تقع عليه الأصابع عند قبضها ليس من باطن الكف؛ لأنه لا تأتي عليه الأصابع، والكف من بعد أطراف الأصابع إلى نهايتها، وظاهر الكفين يبدأ من الرسغ، وهو موضع الحركة والاتصال بين الكف وبين الذراع، فهذا هو ظاهر الكف مع الأصابع.
فـ عمار ذكر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يضرب بكفيه الأرض، أي: ضربة واحدة، ثم يمسح الشمال على اليمين، أي: أنه قدم اليدين وقدم اليمنى على اليسرى، ثم يمسح ظاهر الكفين، ولم يذكر هنا إلى المرفقين، ولكنه لما قال: (ثم مسح الشمال على اليمين) ، يمكن أن يقال: إن هذا يشمل اليدين إلى المرفقين، على ما سيأتي في الرواية الثانية.
ثم بعد مسحِ اليدين مسحَ وجهه وظاهر كفيه، فيكون عاد إلى الكفين ومسح ظاهرهما وذلك بعد الوجه.


نفخ الكفين بعد ضربهما في الأرض للتيمم
وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما) .
قوله: (وضرب بكفيه الأرض) هذا متفق عليه في كل الأحاديث، وقوله: (ونفخ فيهما) أي: بعدما يضرب الأرض بيديه يقربهما من فيه وينفخ فيهما، وفي بعض الروايات: (فنفض بعضهما ببعض) ، وهذه النفخة وافق عليها الأئمة الثلاثة، وخالف في ذلك الشافعي؛ لأنه يقول: النفخ يذهب التراب الذي علق باليدين، والآخرون يقولون: إن النفخ ليس قوياً، إنما الغرض منه -سواء النفخ أو ضرب الكفين بعضهما ببعض- أنه قد يعلق بالكفين حصاة أو قذاة أو عود صغير، فلو مسح به وجهه فقد يؤذيه هذا الذي علق باليد، فالنفخ فائدته أنه يذهب هذا الذي علق باليد، إذاً ليس المراد بالنفخ إذهاب ما علق باليدين من تراب إن كان على أرض ترابية، فهذه النفخة يوافق عليها الأئمة الثلاثة رحمهم الله، ويأخذون بها، والشافعي يقول: لا ينفخ؛ لأنه يذهب أثر التراب من يديه.
قال: (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) ، إذاً رواية البخاري تقدم الوجه على اليدين، ولهذا ساقها المؤلف ليبين أن الصحيح والراجح هو تقديم الوجه على اليدين، والله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، فذكر الوجه قبل اليدين، وهذا هو المشهور والمعمول به عند الجميع.


شرح حديث: (التيمم ضربتان ... )
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ، رواه الدارقطني وصحح الأئمة وقفه] .
إذاً: حديث عمار رضي الله تعالى عنه متفق عليه، وتتفق الروايات كلها عن عمار بأن التيمم ضربة واحدة، وفيه روايتان: رواية تقديم اليدين على الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى، ورواية أخرى صحيحة عند البخاري فيها تقديم الوجه على اليدين، ورواية عمار في الموضعين ذكر فيها الوجه والكفين، ولكن جاء عن عمار أيضاً -كما ذكر ذلك ابن عبد البر - المسح إلى المرفقين.
وهنا يأتي المؤلف رحمه الله برواية عبد الله بن عمر وقد اختلفوا في رفعها وإرسالها ووقفها عليه، فيقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (التيمم ضربتان) ، وهذا ليس من باب الاجتهاد بالرأي، فلو لم تكن مرفوعة نصاً فهي مرفوعة حكماً، وكونها مرسلة -المرسل هو سقوط الصحابي- هذا لا يطعن في الحديث؛ لأن الصحابي ولو لم نعرفه فهو عدل مقبول.
إذاً: رواية عبد الله بن عمر قوية يحتج بها، وقد قال فيها: (التيمم ضربتان) ، وفي حديث عمار: (ضربة واحدة) ، ثم فصل ابن عمر في هاتين الضربتين، فقال: (ضربة للوجه) ، فقدم الوجه على اليدين، (وضربة لليدين إلى المرفقين) ، فزاد على حديث عمار رضي الله تعالى عن الجميع بأن ذكر أن التيمم ضربتان، وزاد أن مسح اليدين ليس إلى الكفين فقط، ولكن إلى المرفقين مثل الوضوء.


خلاف العلماء في عدد ضربات التيمم وفي المسح إلى المرفقين
وهنا يأتي العلماء إلى البحث في هذه المسألة: فـ الشافعي وأحمد يقولون: لابد من الضربتين، ولابد من المسح إلى المرفقين، ومالك رحمه الله يقول: التيمم ضربتان، ولكن ضربة للوجه وضربة للكفين فقط، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: ضربة واحدة للكفين.
فكما وجدنا الاختلاف السابق في المسح، وجدنا هنا تعدد الضرب، ووجدنا بلوغ المسح إلى المرفقين، وكما وجدنا الخلاف في نوعية ما يتيمم عليه من أجزاء الأرض، وجدنا الخلاف هنا بسبب الألفاظ الواردة، فحديث ابن عمر يقول: (إلى المرفقين) ، وحديث عمار يقول: (ومسح بهما وجهه وكفيه) .
ونجد بعض الروايات عن مالك رحمه الله يقول: إن اقتصر على الكفين أجزأه، وأحب إليَّ إلى المرفقين، والذين قالوا بالمسح إلى المرفقين أخذوا طريق القياس أيضاً وقالوا: إن التيمم بديل عن الوضوء، واليدان يغسلان إلى المرفقين، فيكون المسح في التيمم كالغسل في الوضوء يبلغ بهما إلى المرفقين.
والآخرون قالوا: إن الآية الكريمة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] ، جاءت فيها اليد مطلقة فيما يتعلق بالتيمم، ولم يأت تحديدها في كتاب الله، وجاءت الآية في الوضوء الذي هو الأصل بقيد المرفقين، وجاءت أيضاً اليد مطلقةً في حكم قطع يد السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، ولم تحدد موضع القطع، وجاءت السنة وعينت موضع القطع من الرسغ، أي: الكف.
فهنا يقول بعضهم: تحمل اليد المجملة في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] على آية القطع في السرقة، وأن السنة حددتها بالكف فقط.
وقال الآخرون: إن كانت القضية قضية قياس فقياس التيمم على الوضوء أولى؛ لأن كلاً منهما طهارة، فقياس طهارة التيمم على طهارة الماء أولى من قياس اليد في التيمم على اليد في قطع يد السارق.
ولكن المحققين من أهل الأصول يقولون: لا يصح القياس في كلا الأمرين؛ لأن من شرط القياس أن يساوي الفرع الأصل، والفرع هنا ليس مساوياً للأصل؛ لأن الأصل: طهارة مائية بغسل، والفرع هنا: تيمم تعبدي في الصورة والهيئة، ونحن لا ندرك الحقيقة، ولو قال قائل كما قال أبو حنيفة رحمه الله: إن الوضوء من الوضاءة وهو النظافة، فماذا يقول في التيمم وهو من تعفير الوجه بالتراب؟ هو إذاً أمر تعبدي، وقد يقال: إنه سد فراغ، وإشباع للروح والتطلع؛ لأن الماء يتطهر به للصلاة، فإذا لم يجد الماء ولم يكن للماء بديلاً كان في النفس شيء، فلما أعطي التراب تيمماً بدلاً من الوضوء، كأنه أعطي بديلاً عن مفقود، والبديل عن المفقود تطمئن إليه النفس وتستريح، فالمجال ليس مجال قياس.
إذاً: بقيت النصوص التي تذكر تارة ضربة واحدة وإلى الكفين، وتارة ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وأحسن ما قيل في ذلك هو ما قاله مالك رحمه الله: أنه من حيث الإجزاء تجزئ ضربة واحدة، ويجزئ الاقتصار على الكفين، ومن حيث الكمال والأوفى والأتم والأحسن في التيمم ضربتان وإلى المرفقين.
إذاً: أقل ما يجزئ في التيمم ضربة واحدة، والاقتصار على الكفين، وأكمل التيمم ضربتان، وليس ثلاثاً كالوضوء، وأن يبلغ بالمسح المرفقين.


الأسلوب البلاغي في حديث عمار
بقي جانب الأسلوب البلاغي، وهو ما ينبغي على طالب العلم أن يمعن النظر فيه، ولنأت مرة أخرى إلى حديث عمار تصور كأنك تشاهد المنظر رجل أجنب في الخلاء، وهو لا يعلم حكم التيمم، فأتى بأقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره، وهو أن يتمرغ في التراب من شعره إلى ظفره، فعل أقصى ما يمكن أن يفعله إنسان في العقل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد النبي من عمار مبالغة وزيادة على الواجب، ولو بالغ إلى المنكب فقط فقد يقال: ما زال في حدود اليد، ولكن جسمه كله! فيكون صلى الله عليه وسلم قابل المبالغة من عمار والزيادة الكثيرة عن المطلوب بأقل ما يجزئ، وقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ، فضرب الأرض ضربة واحدة في مقابل تمرغه في الصعيد، ويكون ذلك مقابلة للمبالغة في الزيادة عن المطلوب بمبالغة في أقل ما يجزئ.
أما في الأمر العادي فليس هناك صورة بلاغية، كحديث ابن عمر فإنه جاء على الأمر العادي، والتشريع ابتدائي، فيكون التيمم على أوفى ما يكون وأكمل أن يكون ضربتين، وعلى هذا كما قال مالك رحمه الله: أقل ما يجزئ ضربة واحدة وإلى الكفين، والشافعي يقول: لا يجزئ إلا ضربتان وأن يبلغ بالمسح إلى مرفقيه.
إذاً: القضية في الكيفية دائرة بين ضربة وضربتين، وبين الاجتزاء بالكفين أو البلوغ إلى المرفقين.
ومما يتعجب منه أننا نجد بعض المشايخ عند الشافعية يمسح على اليدين في التيمم بشكل هندسي، يقول: ضرب أولاً ومسح بها وجهه، ثم ضرب الثانية ومسح الشمال على اليمين، فيبدأ ببطن كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى، أي: ببطن أصابع اليد اليسرى على ظهور أصابع اليد اليمنى، ثم يمر بأصابع يده اليسرى حتى يأتي إلى المرفق، ثم ينقلب ببطن الكف اليسرى على بطن اليد اليمنى، ويصعد بها إلى أن يلتقي الكف بالكف، ويمسح الإبهام بالإبهام، والأصابع بالأصابع، ثم يعود إلى اليسرى فيفعل بها مثلما فعل باليمنى؛ لأنهم يقولون: الجزء الذي يمسح به اليد اليمنى باليسرى يجب أن يكون موزعاً بين ظاهر اليد وبين باطنها، ولا يمسح هنا ثم يرجع ويمسح هناك؛ لأنه سيصير كأنه استعمل المستعمل، ولم يبقِ للبطن مما كان يمسح به ظاهر اليد، وهكذا حتى يأتي إلى المرفق، ثم يبدأ مرة أخرى باليمنى على اليسرى.
ونخلص من هذا كله: بأن من اقتصر على ضربة واحدة للوجه والكفين فلا نعيب عليه، ومن زاد وأخذ ضربتين واحدة للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين فلا نعيب عليه، وكلاهما فيه سنة، وكلاهما قال به أئمتنا رحمهم الله، والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب التيمم [3]
من المسائل المتعلقة بالتيمم: جواز التيمم لمن لم يجد الماء ولو كانت المدة طويلة، ومنها: لو تيمم رجل وصلى، ثم وجد الماء، فإنه لا يعيد الصلاة، وإن وجد الماء أثناء الصلاة فإنه يقطعها ويتوضأ ويصلي، ومن تلك المسائل: جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من استعمال الماء، لمرض ونحوه، كأن يكون الماء شديد البرودة، ولم يستطع استعماله، ونحو ذلك من الاعذار.


شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) رواه البزار، وصححه ابن القطان، لكن صوّب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه] .
بعد ذكر المؤلف بيان مشروعية التيمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً) ، وبيان نوعية ما يتيمم به في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) ، وبيان الكيفية وهي ضربة أو ضربتان إلى الكفين أو المرفقين، أتى هنا إلى التوقيت في التيمم، وهل التيمم مؤقت بوقت، أو أنه مطلق الزمان؟ فقد وجدنا توقيت المسح على الخفين بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فجاء المؤلف رحمه الله بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد) ، ولم: يقل التراب ولا التربة على عموم ما تقدم.
(طهور المسلم) ، كلمة (طهور) جاءت في قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] ، وهي وصف للماء الذي يتطهر به، فالصعيد طهور المسلم، ولذلك قالوا: إن التيمم طهور كطهور الماء، ولفظ (المسلم) هنا للأغلبية، فإذا كانت أسرة أو عائلة أو جماعة ولم يجدوا الماء فالتيمم للمرأة وللرجل سواء.
وأصل الحديث أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك أبو ذر يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟! قال: كنت أكون في الخلاء ومعي أهلي وتصيبنا الجنابة وليس عندي ماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) ، وهنا إلى أسلوب المبالغة، فهل سيعيش الإنسان في فلاة لا يجد الماء عشر سنين؟! وإذاً كيف تكون حالته وحياته؟! لابد أنه سيقيم في مكان لا ماء فيه عشر سنين ويتيمم للجنابة وللحدث، أو يكون الماء قليلاً لا يكفي إلا لطعامه وشرابه؛ لأنه من المتفق عليه أنه إذا كان الإنسان في الخلاء وليس معه من الماء ما يكفي إلا لشرابه، وطهي طعامه، ولدابته التي يركبها ليسقيها، ولم يزد على ذلك؛ وفّر الماء لشرابه، ولإنضاج طعامه، ولعجينه ولدابته وتيمم، ويعتبر فاقد الماء؛ لأنه ليس عنده ماء زائد عن حاجته، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته، وحاجة كل حيوان محترم معه، فله أن يوفر الماء للحيوان؛ لأنه سوف يموت إذا لم يشرب، ولنفسه من باب أولى في مصالحه: في الشراب، والقهوة، والطعام، والعجين، وإذا لم يزد عن ذلك شيء تيمم ووفر الماء للضروريات تلك.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع (لم يجد الماء عشر سنين) هذا هو أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان أنه لن يجد الماء في تلك المدة، فإذا كان لأسبوع أو لشهر أو لشهرين فمن باب أولى أنه لا مانع في ذلك.
إذاً: لا توقيت في استعمال التيمم ما دام أنه على ما وصف الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وكما أجمع العلماء: أن من كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء فإنه له أن يتيمم.
إذاً: إن عدم الماء أو عدمت الاستطاعة على استعمال الماء وكان موجوداً؛ فإنه حينئذٍ يعمد إلى التيمم، وإلى متى؟ لا تحديد في ذلك ما دام مريضاً لا يستطيع استعمال الماء، وما دام على غير ماء لم يجده، فإنه يستعمل التيمم دون تحديد بزمن، لا يوم وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا شهر ولا شهران، ولا غير ذلك.


هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟
ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هذا الحديث من المشكلات.
فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟ ومن هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ والإشكال في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة، والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن وجد الماء.
إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة.
ولكن يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار, إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت له إبقاءً على حياته، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فهي محرمة ولكن: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم.
وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول العلماء: يمسه بشرته للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟ نقول: أما للمستقبل فلا يحتاج؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه عليه هنا.
إذاً: قوله: (فليمسه بشرته) ، إنما هو للحدث المتقدم الذي تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء، فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي: من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله، فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من الماء.
وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: الصعيد وضوء المسلم) ، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟ يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك) ، وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة فقط.
وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا، وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على المزادتين) ، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم، ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا.
والذي يهمنا في هذه القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟ لا؛ لأن الوقت قد خرج.


حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء
[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له, فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: (خرج رجلان) فكونه لم يسم الرجلين لا يضر في الحديث؛ لأن الرجلين ليسا موضع تشريع خاص بهما، ولكنه يحكي ما وقع منهما، وما بينه صلى الله عليه وسلم من فعلهما، وهذا من أهم أحاديث التيمم.
هذان الرجلان خرجا في سفر وليس عندهما ماء، وأدركتهما الصلاة، فتيمما وصليا، وإلى هنا فعلا شيئاً عادياً, صليا بطهارة مشروعة وهو التيمم عند انعدام الماء، ثم مضيا في طريقهما فوجدا الماء الذي كان مفقوداً عند التيمم، والوقت باقٍ لم يخرج، وهنا اجتهد الرجلان، وكما يقول العلماء: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في غيبته لا في حضوره، أما في حال حضوره فلا اجتهاد لأحد، ولا يقدم أحد شيئاً بين يدي رسول الله.
ولنفرض أنهما سافرا ودخل وقت العصر وليس عندهما ماء، فتيمما وصليا في أول الوقت، وفي أثناء المسير عند اصفرار الشمس وجدا الماء، فهم الآن في وقت العصر التي صلياها، فحينئذ اجتهد الرجلان، أما أحدهما فرأى أن الوقت باقٍ, وهو مطالب بالصلاة بطهارة مائية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فتوضأ وأعاد الصلاة بهذا الوضوء، ليوقع الصلاة بطهارة مائية كما أُمر, والآخر نظر إلى شيء آخر وقال: لقد صليت بطهارة مشروعة، تيممت كما أمرني الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وقد أديت الصلاة بوجهها المشروع وانتهيت من أدائها ومضت، فكوني أجد الماء بعد ذلك لست مطالباً بإعادة الصلاة؛ لأنني صليتها بطهارة مشروعة جائزة لي، إذاً أنا عملت عملاً صحيحاً شرعياً, أما أن أوجب على نفسي إعادة الصلاة بطهارة الماء فأنا لا أرى ذلك ولم أفعل.
إذاً: اختلاف وجهات النظر فيما لا نص فيه أمر وارد, ولم يعب الذي توضأ وصلى على من لم يتوضأ ولم يصلِّ, ولم يقل له: أنت مقصر، وإنما قال: هذا اجتهادي أنا في نفسي, والثاني لم يقل له: أنت مبتدع أو مخالف، ولم يعب عليه؛ لأن كلاً منهما عمل باجتهاده الخاص، وليس عند أحدهما نص يوقف الآخر عنده, وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه رجلان فقال: من أين جئتما؟ قالا: من عند فلان, قال: ماذا تصنعان عنده؟ قالا: كنا نحتكم إليه في قضية كذا, قال: بم حكم لكما؟ قالا: حكم بكذا, قال: لو كنت أنا لحكمت بغير ما حكم به, فقالا: وما الذي يمنعك أن تحكم بيننا وأنت أمير المؤمنين بما تراه؟ فقال لهما: -وهذا محل الشاهد, وينبغي على طالب العلم الحرص كل الحرص على هذا المنهج؛ لأنه هو الذي يبقي المودة والأخوة، وصفاء النفس، وطهارة القلب بين طلبة العلم- قال: لو كنت أردكما إلى نص رسول الله أو كتاب الله لفعلت، ولكني سأردكم إلى رأيي، وليس الرأي بأولى من الرأي.
مع أنه أمير المؤمنين، وهو خليفة راشد، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فلما لم يكن عنده نص من كتاب ولا سنة توقف، وقال: ولكني سأردكم إلى رأيي.
وقد بين لنا القرآن الكريم في قضية داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] ، فداود عليه السلام حكم لأهل الحرث بالغنم عوضاً عن الحرث الذي أتلفته, وسليمان قال: أنا سأحكم بغير هذا، وعندي وجهة نظر أخرى، قال: تكون الغنم عاريةً عند أهل الحرث ينتفعون منها، وأصحاب الغنم يقومون على الحرث حتى يصلح على ما كان عليه من قبل، فمثلاً: إذا أكلت الغنم القمح في صغره، فهو يمكن أن ينبت ويطلع، فالشجر الصغير يمكن أن يورق وتطلع أغصانه، ويأتي بالثمار، فإذا ما استوى الحرث على ما كان عليه رد الحرث لأصحابه، وردت الغنم لأصحابها، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] ، ثم قال: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] .
فكما قال الفقهاء: صوب الله حكم الاثنين؛ فحكم داود صحيح، وحكم سليمان صحيح، ولكن حكم سليمان أكثر فهماً وأجمع للمصلحتين، ونحن لو نظرنا في قضائنا اليوم: (على اليد ما أخذت، وعلى العين ضمان ما أتلفت) ، فداود حكم بهذه القاعدة، وسليمان عليه السلام رأى إلى ضمان مصلحة الطرفين.
وهنا عمر رضي الله تعالى عنه الملهم المحدث يقول: لو كنت أردكما إلى نص من كتاب أو من سنة فعلت ونفذت؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولكن رأيي، وليس الرأي أولى من الرأي) ، ولهذا في نظام القضاء لو أن قضية عرضت على قاض، وهي مسألة اجتهادية لا نص فيها، وحكم فيها، فإن حكمه يمضي، ولا يحق لحاكم يأتي بعده -ولو كان أعلى منه رتبة- أن ينقض ذلك الحكم؛ لأنه سوف ينقضه لرأيه الخاص، وليس رأياً بأولى من رأي، أما إذا كان مخالفاً نصاً فينقض لمخالفة النص.
فهذان رجلان مستويان في الدرجة، أدركتهما الصلاة ولا ماء عندهما، وهما يعلمان الحكم بأن الصعيد طهور المسلم، فتيمما وصليا، ثم طرأ عليهما ما جدد الفكر، واستوجب النظر، وهو أنهما وجدا الماء في الوقت، فحينئذٍ لو لم يكونا صليا بالتيمم فسوف يكون الواجب عليهما الوضوء والصلاة، لكنهما صليا وأديا ما عليهما، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، والثاني لم يعد، وإلى هنا عمل كل منهما مغاير للآخر، والمرجع في هذا إلى الله ورسوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، وهذا مما يبين منزلة صدر الإسلام وسلف الأمة، وأصحاب رسول الله الذين يتلقون العلم مبدئياً حياً طرياً من رسول الله مباشرة، فإذا جاءنا حكم عن صحابي عن رسول الله وجب أن نرفع به رأساً، ويجب أن نسترعيه الانتباه، ونعلم بأن هذا أحق ما يمكن أن يؤخذ فيه الأحكام.
فأجابهما صلى الله عليه وسلم على ما كان منهما، وقال للذي لم يتوضاً والصلاة لم يعد: أصبت السنة، والسنة هي الطريقة، وقد تستعمل السنة في مقابل الفرض في ذلك الوقت، وهو أمر اصطلاحي، كما جاء في حق رمضان: (إن الله افترض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، وليس قيام الليل يعدل صيام النهار، فالصوم فرض: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، ولكن القيام من النوافل والسنن، فهنا نص صلى الله عليه وسلم على الفرق بين العملين، العمل الذي هو فرض وعين على كل مكلف، والعمل الذي هو سنة مندوب إليه، فقال للذي لم يعد واكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، والسنة: هي الطريقة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام أي: لكل معشر طريقة وإمام يقتدون به، وقوله: (سنت لهم آباؤهم) أي: رسمت لهم الطريقة والمنهج في حياتهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، يدل على أن صلاته صحيحة؛ ولهذا أخذ العلماء أن من تيمم في أول الوقت لانعدام الماء، ثم وجده في الوقت، فإن صلاته صحيحة؛ لأن إصابة السنة معناها إصابة الصواب، فهو نص على أن الصلاة صحيحة مجزئة، وأنه أصاب السنة بعمله ذلك.
وقال للآخر: (لك الأجر مرتين) .
وذلك لأنه فعل الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالوضوء، وبعضهم يقول: (لك الأجر مرتين) أي: لاجتهادك، ولكن الأول كذلك اجتهد في اكتفائه بالتيمم وصلاته التي مضت، فالتحقيق كما يقوله الكثيرون: (لك الأجر مرتين) ، لأنه أعاد الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالطهارة المائية.


المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين
وهنا يأتي نقاش العلماء النقاش الطريف: أيهما أفضل: الذي أصاب السنة أو الذي حصل على الأجر مرتين؟ نقول: الذي حصل على الأجر مرتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه قال للذي لم يعد: (وأجزأتك صلاتك) ، ولفظ الإجزاء هو أقل ما يمكن أن يحصل عليه، وليس بعد الإجزاء من نقص فيكون ذلك قد أجزأته صلاته، ولكن الذي أصاب الأجر مرتين أجزأته وزيادة.


مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي
وهذه مسألة يبحث الفقهاء فيها وهي: إدراك المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي، فيقولون بالتقسيم العقلي: تيمم وقبل أن يصلي وجد الماء، فهل يصلي بتيممه، أم أن الماء موجود وهو ما شرع في الصلاة فيتوضأ؟ نقول: يتوضأ، وهذا باتفاق العلماء، إلا قول لـ داود الظاهري.
فإذا تيمم ووجد الماء قبل الشروع في الصلاة، فالجمهور على أنه يبطل التيمم بوجود الماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وقد وجده.


مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة
مسألة: تيمم وشرع في الصلاة، ثم وجد الماء أثناء صلاته، فهل يخرج من الصلاة ليتوضأ ويأتي بالصلاة بوضوئها أو يستمر في صلاته؟ يبطل التيمم بوجود الماء؛ لأن التيمم مشروط فيه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] وقد وجد فألغي التيمم.
والشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ، فهو قد دخل في الصلاة بوجه شرعي معلوم، وأصبح مطالباً أن لا يبطل صلاته بالخروج منها.
ولكن الجمهور يقولون: الطهارة المائية شرط أساسي، والتيمم ما جاء إلا نيابة عن الماء عند فقده، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة لم يبق للتيمم سبب.
وفي بعض المذاهب يقولون: إذا نهق الحمار بطلت صلاة المتيمم، وما هو الذي أبطل الصلاة بنهيق الحمار؟ قالوا: كأن طلب الماء فلم يجده، فأرسل شخصاً بحمار ليأتي بالماء، فاستبطأه فتيمم، ثم دخل في الصلاة، فإذا هو بالحمار ينهق من ورائه، فعلم أن الماء قد حضر، فحينئذ تبطل صلاته بالتيمم لحضور الماء، وهذا من نواقض التيمم زيادة على نواقض الوضوء.
إذاً: إن أدرك الماء وهو في أثناء الصلاة بطلت صلاته، وعليه أن يخرج من تلك الصلاة؛ لأنها لم تعد صلاة؛ لعدم استيفائها الطهارة المائية، وقد وجد الماء.
وإن وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى، فهذه قضية هذا الحديث الموجود عندنا، وباتفاق الأئمة الأربعة أنه قد أجزأته صلاته؛ لأنه صلاها وأداها، وخرج من عهدتها، فبقاء الوقت مع وجود الماء أمر جديد يكون لما يستقبل من الصلوات الأخرى.
وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت ثم وجد الماء، فلا إشكال أن الصلاة التي صلاها مضت لطريقها، وعليه أن يستعمل الماء لما يستقبل من الصلوات الآتية.


حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم] .
هذه قضية من العقد في باب التيمم، يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم، لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فـ ابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم.
ولكن إذا كانت الجراح مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة، والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟ تحمل برودة الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه، وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح وحي الطبيعة: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه، هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل: عيون المها بين الرصافة والجسر قتلنني من حيث أدري ولا أدري ففرق بين التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال: لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء، فلا أقوى عليه الآن.
إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس بالتيمم.
ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو؟ قال: بلى، قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة) .
إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد.
إذاً: من أجنب وخاف على نفسه الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون له حق التيمم.
لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟ لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب التيمم [4]
من المسائل المتعلقة بالتيمم: أن الإنسان إذا كان واضعاً جبيرة على جرح أو كسر جاز له المسح عليها لخوف ضرر الماء، وإذا كان به جرح يخشى ضرره من استعمال الماء فيتيمم ويعصب على جرحه ويمسح عليه.


شرح حديث علي بن أبي طالب في المسح على الجبائر
[وعن علي رضي الله عنه قال: (انكسرت إحدى زندي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر) رواه ابن ماجة بسند واه جداً] .
يذكر الفقهاء أن من أشكل مسائل الفقه على طلبة العلم مسألتين: المسألة الأولى: المبتدئة في الحيض التي لم تستقر حيضتها، ولذلك يقول الشوكاني: جاءوا بالمتحيرة فتحيروا فيها.
والمتحيرة: هي المبتدئة في حيضها التي لم تستقر حيضتها، فتارة تحيض خمسة أيام، وتارة تحيض ثلاثة أيام، وتارة تحيض عشرة أيام، وتحيرت في مدة حيضتها، فماذا تفعل؟ المسألة الثانية: المسح على الجبيرة، ويبحث موضوع المسح على الجبيرة من عدة جهات، وفيها المكثر والمقل.
يقول: علي رضي الله تعالى عنه: (انكسرت إحدى زندي) والزند: عظم، فاليد من المرفق إلى الرسغ فيها عظمان يسميان الزندان، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: انكسرت إحدى زندي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم (فأمرني أن أمسح على الجبائر) .
ومعنى ذلك: أن علياً رضي الله تعالى عنه وضع جبيرة على الكسر، ومعالجة الكسر بالجبيرة أمر طبي معروف من قديم، وهذا من خصائص طب العرب أنهم يجبرون الكسر، وقد يكون هناك شخص متمرس في ذلك عملياً أحذق من طبيب متخرج في غرفة العمليات، وطالما جاء إنسان إلى المستشفيات وأعطي العلاج اللازم، وعملت له الجبيرة على أحسن ما يكون في الطراز الحديث، فيلتئم الكسر على غير مثال، فيأتي إلى شخص تعلم الطب العربي، فيكسر ذلك العظم مرة أخرى، ويعيده ويجبره، فيصبح على أحسن ما يكون.


وضع الجبيرة على الكسر لا يشترط له طهارة مسبقة
قال علي رضي الله عنه: (فأمرني -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- أن مسح على الجبيرة) ، فإذا كان في حدث أصغر فإنه يغسل أعضاء الوضوء ما عدا الموضع الذي عليه الجبيرة فإنه يمسحه مسحاً فقط، والمسح على الجبيرة يبحث فيه من الجهات الآتية: أولاً: هل يشترط أن يكون وضع الجبيرة وهو على طهارة من الحدث -كما في لبس الخفين، أم لا يشترط؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخفين: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ، فمسح على الخف، إلا أن الخف مؤقت بيوم وليلة أو ثلاثة أيام، أما الجبيرة فيمسح عليها مدة وجودها.
فبعض العلماء يقول: إن كان وضع الجبيرة على طهارة هذا العضو من الحدث فإنه يمسح ولا إعادة عليه، وإن كان وضعها على العضو وهو محدث فهو مطالب بغسل العضو، ولكنه قد تعذر الغسل، والمسح إنما هو لاستباحة الصلاة، فيعيد الصلاة، ثم ينظر مرة أخرى إلى الجبيرة هل هي موضوعة للجرح أو للكسر حينما وضعها، وهل أخذت من السليم أكثر ما يمكن أن تمسك به أم لا؟ لنفرض مثلاً: أن طول الكسر (5سم) ، فوضع جبيرة تحتاج إلى زيادة (3سم) من طرف، وإلى (3سم) من الطرف الآخر لتثبت على محل الجرح، فأصبح طولها بمجموعها (11سم) للإمساك، لكن الذي وضع الجبيرة -على الكسر (5سم) - جعل طرفها من جهة يستغرق (10سم) في السليم، ومن الجهة الثانية يستغرق (10سم) من السليم، فزاد واستغرق من السليم (7سم) من كل طرف، فإذا مسح فيكون قد مسح زيادة على محل الكسر.
وهناك من يقول: إن زاد في الجبيرة على قدر ما يمسكها على الصحيح فهو متعدٍ، ويكون قد مسح على ما لا يحق له المسح عليه لسلامته، فكان عليه أن يغسل الزائد عن قدر ما يمسك الجبيرة، فإذا أزيلت الجبيرة فعليه أن يعيد الصلاة، وتكلموا في ذلك كلاماً كثيراً.
ولكن إذا نظرنا إلى عموم قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فإذا مكثت الجبيرة -كما يحصل في بعض الأحيان- شهراً أو شهرين فإن أمره بأعادة الصلوات لهذه المدة فيه مشقة، وأيضاً عندما يريد أن يضع الجبيرة على الكسر هل يقال له: اذهب فتوضأ ثم ائت نضع الجبيرة؟ مع أنه في حالة يحتاج فيها إلى المبادرة بالعلاج.
إذاً: الرسول صلى الله عليه سلم لم يستفسر من علي عن حالة الجبيرة على كسر زنده، لم يقل له: هل كنت متوضئاً أم لا؟ ولم يقل له: هل استغرقت من السليم أكثر من الحاجة أم لا؟ بل إنه رأى جبيرة وضعت على كسر فأمره أن يمسح عليها.


الجبيرة التي يمسح عليها
ما نوع الجبيرة التي يمسح عليها؟ هل تعتبر الجبيرة مجرد رباط شاش طبقة واحدة على الجرح، أم أن الجبيرة تكون سميكة كما يجعل الآن أجزاء من الخشب أو من الجريد، ومعها أنواع من الجبس كما هو معروف في المستشفيات، أو تلف بخرق من الصوف، أو يجعل معها مثلاً من البيض والنورة ومن المواد الأخرى كما في الطب العربي؟ فإذا كانت سميكة بالجبس أو بالخشب ولفافات الصوف وتلك المتانة فهي التي يمسح عليها، أما إذا كانت خفيفة والجرح والعضو بين، فهذه قالوا: لا يمسح عليها؛ لأنها لا تحتمل المسح، وإذا كان الجرح لا يقوى أن يباشر بالماء فهل يمسح؟ قالوا: إذا كان الجرح خفيفاً كأن يكون في اليد، ويمكن أن يمر يده على الجرح بدون تألم فليفعل، وإذا احتاج إلى الجبيرة بالوضع الذي تقتضيه حالة الجرح فيمسح على الجبيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث جابر في الرجل الذي شج فاغتسل فمات
[وعن جابر رضي الله عنه -في الرجل الذي شج فاغتسل فمات- قال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) ، رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته] .


خطر الفتوى بغير علم
قدم لنا المؤلف رحمه الله كلام ابن عباس: فيمن تكون به الجراحة في سبيل الله وخشي على نفسه الهلاك فماذا يفعل؟ ثم جاء بهذا الحديث الذي فيه أن الرجل هلك بالفعل، رجل شج في سبيل الله، فأجنب فسأل من بحضرته: ماذا أفعل هل أتيمم أم أغتسل؟ فقالوا: لابد من الغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فسمع الرجل الكلام واغتسل مع شجة الرأس، فتأثر الدماغ، فمات الرجل بسبب وصول الماء إلى الشجة في الدماغ، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذ لم يعلموا، إنما دواء العي السؤال!) ، وهذا هو الخطأ والخطر في تولي الفتيا بغير علم، لما سألهم هذا المسكين فتقدموا وتبرعوا بالفتوى، وقالوا: عليك أن تغتسل، وكان ذلك خطأ منهم، فبخطئهم قتلوه، ومن هنا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يتدافعون الفتوى كل المدافعة، ويخشون منها كل الخشية، ويقولون: (أجرأ الناس على الفتوى أجرأهم على النار) .
فهؤلاء بكلمة خرجت منهم قتلوا الرجل، واستحقوا الدعاء عليهم من رسول الله: (قتلوه قتلهم الله!) ، أي: مجازاةً على إفتائهم بغير علم، (هلّا سألوا إذا لم يعلموا) ، فالواجب على من لم يكن عنده علم، وسُئل عن شيء، أن لا يبادر إلى الفتوى فيه، وعليه أن يسأل من عنده علم في ذلك، ونحن نعلم قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما خرج إلى الشام ووصل إلى بلدة بين المدينة والشام، وأخبره الناس بأن الطاعون بالشام، فنظر وتحير هل يمضي إلى الشام وفيها الطاعون أم يرجع حتى يرتفع الطاعون عن الشام؟ ثم استشار الناس، فقال: يا ابن عباس! ادع لي شيوخ المهاجرين، فدعاهم، فسألهم فاختلفوا عليه، فقوم قالوا: نرى أن ترجع؛ لأن معك أصحاب رسول الله فلا تقدمهم على الطاعون فيهلكهم.
وقوم قالوا: إنك خرجت لأمر الله فتوكل على الله وامض، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، وقال لـ ابن عباس: ادع مشيخة الأنصار، فجاءوا فاختلفوا عليه أيضاً، فقال: قوموا عني، ثم قال: ادع لي مشيخة قريش، فدعاهم إليه فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى معك وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون، ولما اتفقوا مع عمر في ذلك ومعه بعض الناس الذين قالوا: لا تدخل عليهم، ترجح عنده ذلك، ثم أعلن وقال: إني مصبح على ظهر، أي: راجع، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً، وقال: يا أمير المؤمنين! عندي علم في ذلك، قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فحمد الله سبحانه وتعالى على إصابته للوجهة السليمة، بأنه أراد العودة، فأكد ذلك عنده، فجاء راجعاً.
الشاهد: أنه لما لم يكن عند عمر نص في الموضوع استشار وسأل، ولما اختلفوا عليه، وجاءت القرائن، وترجح عنده العودة، قرر أن يعود، فجاءه العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك، كما جاء عن ابن مسعود وغيره في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها، وقضى فيها بالصداق والعدة والميراث، ثم قام قائم وقال: لقد قضى بذلك رسول الله، فحمد الله على موافقته لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا رجل أصيب ولم يعلم الحكم، وسأل الحاضرين، فكلهم اجتهدوا وأخطئوا، وهذا لا يغتفر في الاجتهاد، فلا يقال لكل مجتهد: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد في هذا الموضوع، وإنما يكون الاجتهاد من أهل الخبرة، والذين لديهم خلفيات في النصوص، ويستطيعون أن يردوا الفرع إلى الأصل، وأن يقيسوه على غيره، أو يدخلوه ضمن قاعدة من قواعد الفقه، أما أن يأتي شخص بدأ يطلب العلم بالأمس، واليوم ينصب نفسه مفتياً ومجتهداً، فهذا يؤدب ولا يحق له ذلك، وإذا أخطأ فإنه يحاسب على خطئه، كما لو جاء إنسان ودخل كلية الطب وأخذ قلماً، ثم بعد ذلك أخذ حقيبة وأخذ أدوات وقام يعمل عمليات جراحية، فإذا أتلف شيئاً فإنه يغرمه؛ لأنه لم يتأهل بعد لأن يكون جراحاً يجري العمليات الجراحية.
وهكذا الفتوى في الدين إذا لم يكن مؤهلاً للفتوى وأفتى بخطأ فلا يقال: له أجر في اجتهاده؛ لأنه لم يتأهل.


ماذا يفعل من أصيب بجرح وأراد أن يغتسل أو يتوضأ؟
لقد دعا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس، ثم بين فقال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة) أي: يتيمم للموضع الذي لا يستطيع أن يغسله، وليست عليه جبيرة يمسح عليها، إنما يضع خرقة للجرح لمداواته ودفع الماء عنه، ولهذا قالوا: إذا كان في عضو من أعضاء الوضوء جرح ليست عليه جبيرة، ولا يستطيع أن يسمح عليه، فيغسل السليم ويتيمم للجرح ويصلي بذلك، فيأتي بما يستطيع له.
فهذا الذي شج يتيمم لموضع الشجة التي لا جبيرة عليها تمسح، ولا يمكن إمرار الماء عليها، ثم يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، إن كانت الخرقة سميكة صالحة للمسح، (ثم يغسل سائر جسده) أي: الموضع السليم الذي يقبل الغسل وإمرار الماء عليه، والله تعالى أعلم.


شرح حديث ابن عباس في عدد الصلوات التي تصلى بالتيمم الواحد
[وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف جداً.
] في نهاية باب التيمم يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: (من السنة) ، وإذا قال الصحابي: من السنة فإنه يصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما إذا كان الموضع ليس موضع اجتهاد، ولا تقبل فيه آراء الرجال؛ لأن كون الصلاة تصح أو لا تصح، وصحة الصلاة وعدمها لا يحكم به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (من السنة) : أي: المعروفة عندنا، والتي عليها العمل عندنا، أن المتيمم لا يصلي بتيممه إلا صلاة واحدة، ويتيمم للصلاة الأخرى التي تأتي.


خلاف العلماء في مسألة كم يصلى بالتيمم الواحد؟
وهذه المسألة تباعد الخلاف فيها، حتى قال ابن عبد البر رحمه الله: لقد جمعت فيها كتاباً، أي: جمع الآراء والأقوال، واستدلال كل فريق لما ذهب إليه.
وغالب ما يبنى عليه الخلاف في هذه المسألة هو ما تقدم بحثه: هل التيمم مبيح للصلاة أو رافع للحدث؟ فمن اعتبر التيمم رافعاً أعطاه حكم الوضوء، ومن اعتبره مبيحاً قصره دون الوضوء، ومجمل الأقوال في ذلك هي: عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا تيمم صلى ما شاء من الصلوات المفروضة ما لم يحدث، فهو عنده كالمتوضئ تماماً.
وأبو حنيفة رحمه الله، مبناه في ذلك على أن التيمم حكمه حكم الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم) ، فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصعيد وضوءاً، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد، ومن هنا قال أبو حنيفة رحمه الله: يجمع بالتيمم الواحد عدة فروض كما يجمعها بالوضوء، ولا يبطل الوضوء إلا الحدث، وهو الذي يبطل التيمم من باب أولى، وبالتالي له أن يصلي بالتيمم الفرض والفرضين والنوافل التابعة لها، ويفعل بالتيمم كل ما يفعله بالوضوء، ولا يتعين بنية، فلو تيمم للمغرب ودخل المسجد الحرام وصلى المغرب وقام وطاف بذلك التيمم، وصلى ركعتي الطواف، وتنفل بين المغرب والعشاء ما شاء، ثم صلى العشاء بذلك التيمم؛ صح، فهذا قول أبي حنيفة.
ويقول الإمام مالك رحمه الله: إذا تيمم للفريضة فلا يصلي نافلتها قبلها بهذا التيمم، ولو تيمم لصلاة الصبح فصلى ركعتي الفجر قبل الصبح بذلك التيمم فعليه أن يتيمم للصبح مرة أخرى، بخلاف النافلة بعد الفريضة، فإذا تيمم للظهر فله أن يصلي سنة الظهر التي بعدها.
والشافعي رحمه الله يقول: يصلي الفريضة وراتبتها قبلها أو بعدها، فلو كان سيجمع بين فريضتين في سفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فتيمم للظهر وأقام الصلاة للعصر، فيتيمم للعصر في مكانه، وإن كان في مكان واحد وفي وقت واحد، ولكن لفريضتين.
والإمام أحمد كذلك يقول: يصلي الفريضة ونافلتها قبلها أو بعدها، وعند أحمد أيضاً كما يذكر صاحب المغني: إذا تيمم للفريضة صلى النافلة وصلى على الجنازة بذلك التيمم؛ لأن نيته في التيمم للفريضة، وهي أقوى من النافلة، والنافلة أقوى من الصلاة على الجنازة؛ لأنه كما قال ابن عمر: (إنما هي دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود) .
وبهذا نرجع مرة أخرى إلى أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكونه بسند ضعيف جداً أُخذ العمل به على ما قدمنا؛ لعدم معارضته لما هو أصح منه أو أقوى.
نأتي إلى مناقشة من يقول: التيمم لا يصلى به إلا فريضة واحدة حتى في الجمع في السفر، وقالوا: الأصل في ذلك أنه عندما تيمم لصلاة الظهر مثلاً، لم يتيمم إلا بعد أن بحث عن الماء فلم يجده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أولاً قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فأمر بالوضوء عند القيام لكل صلاة، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] إذاً: عدم وجود الماء يكون بعد البحث والطلب، فهو قد بحث عن الماء وطلبه فلم يجده، فجاز له أن يتيمم؛ لأن التيمم مشروط بعدم وجود الماء، فإذا تيمم للظهر وصلاها، ثم جاء وقت العصر، فعليه أن يعيد الكرة بأن يطلب الماء، فإن وجده استعمله، فإن لم يجده فعنده النص: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] .
إذاً: عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، وله أن يتيمم إذا لم يجد الماء بعد الطلب.
وقالوا: اتفق العلماء على أنه لا يحق لمن يصلي بالتيمم أن يتيم قبل دخول الوقت؛ لأن التيمم ضرورة تبيح الصلاة، والصلاة لم يأت وقتها بعد.
وقالوا كذلك: لا يحق له أن يصلي الصلاة الثانية بالتيمم الأول؛ لأن تيممه قبل دخول وقت الثانية، فيكون كالذي تيمم للحاضرة قبل وقتها، وهذا لا يصح.
ثم قالوا أيضاً: كان الأصل في الطهارة مبدئياً (إذا قمتم فاغسلوا) و (إذا قمتم) تقتضي التكرار، أي: كلما قمتم فاغسلوا، وهي الطهارة الأساسية المائية، فقد كان الأمر في البداية إفراد كل صلاة بوضوء، ثم خفف ذلك وجازت عدة صلوات بوضوء واحد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عدة صلوات بوضوء واحد، كما في حديث عمر في فتح مكة.
ولكن لم يأت في التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بتيمم واحد، فيبقى الوضوء في طريقه ما لم يحدث: (إذا توضأ صلى ما شاء ما لم يحدث) ، ويبقى التيمم في طريقه عند عدم وجود الماء، وعدم الوجود يكون بعد الطلب، والطلب يكون بعد دخول الوقت.


مباحث متعلقة بالنية في التيمم
مسألة: لو أن إنساناً بعد ما صلى الفريضة في مكانه تذكر صلاة فائتة عليه، نسيها بالأمس وأراد أن يقضيها الآن، فهل يصليها بتيمم الفريضة التي صلاها الآن أم يتيمم لها؟ قالوا: يتيمم لها؛ لأنه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، وهناك تفريعات على هذه المسائل في هذا الأثر وغيره، فهم مجمعون على أن النية في التيمم ركن، وكذلك في الوضوء، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: النية ليست شرطاً في الوضوء؛ لأن الوضوء نظافة، أمر معقول المعنى، فكيفما غسلت أعضاء وضوئك تم الوضوء، والجمهور يقولون: الوضوء عبادة، والعبادة لابد فيها من النية: (إنما الأعمال بالنيات) ؛ لأنك قد تغسل أطرافك، وقد تغتسل ولم تنو طهارة، وقد تتبرد من الحر.
إذاً: يمكن غسل الأعضاء والجسم بدون إرادة الطهارة، والنية هي التي تميز بين الطهارة والعادة، والنافلة والفريضة، ففي صلاة الصبح السنة ركعتان، والفريضة ركعتان، وما الذي يفرق بينهما؟ النية هي التي تعين النافلة من الفريضة، وإن اختلفت الصورة، ففي الفريضة يجهر بالقراءة، وفي النافلة يسر بها، لكن عدد الركعات سواء، فالنية هي التي فرقت.
إنسان عليه قضاء من رمضان، وجاء يوم الإثنين، وأراد أن يصوم، فصام يوم الإثنين على أنه نافلة ونسي القضاء الذي كان عليه، فهل يجزئ صومه بنية يوم الإثنين عن القضاء الذي عليه سابقاً؟ لا يجزئ.
إذاً: إذا اتحدت صورة العمل بين الفرض والنافلة، وبين العبادة والعادة، فالذي يفرق في ذلك هو النية، فالأئمة الثلاثة قالوا: النية فرض في الوضوء والغسل والعبادات، والإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: إنما هي أعمال معقودة المعنى بالنظافة، فإذا حصلت ولو لم ينو أجزأت.
لكن التيمم حتى عند الإمام أبي حنيفة تتعين فيه النية؛ لأنه ليس نظافة، وليس تبرداً كما في الوضوء، فقال: تتعين النية في التيمم، وتكون النية للصلاة، والنية للطواف، والنية لقراءة القرآن، والنية لحمل المصحف، والنية للمكث في المسجد، كل هذه من الأمور التي يشرع لها الطهارة، فهناك من يعتبر قاعدة: (إذا نوى الأعلى جاز له به الأدنى، وإذا نوى الأدنى لا يصح له به الأعلى) ، فإذا بحث عن الماء فلم يجد ماء، ويريد أن يقرأ في المصحف، فتيمم لمس المصحف، فهل يطوف بهذا التيمم؟ وأيهما أقوى في مشروعية الطهارة الطواف أم مس المصحف؟ لاشك أن الطواف أقوى؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، والطهارة لصلاة النافلة أقوى من الطهارة لمس المصحف؛ لأن الصلاة منصوص عليها، وإذا أراد أن يصلي الفريضة في الوقت، قالوا: إن نوى الظهر مثلاً جاز له ما كان دون الفريضة بنوافلها، كمس المصحف، والطواف بالبيت، والمكث في المسجد، والصلاة على الجنائز؛ لأنها في مرتبة أدنى من مرتبة الفريضة في الطهارة، أما إذا تيمم لما هو أقل كما ذكر مالك، كأن تيمم وصلى ركعتي الفجر، فركعتا الفجر أقل من الفريضة، فلا يصلي بهذا التيمم الفريضة، وعليه أن يتيمم للفريضة؛ لأنها أقوى من النافلة، وإذا تيمم للطواف فلا يصلي به الفريضة؛ لأن الفريضة أقوى من الطواف وهكذا.
إذاً: لابد من النية في التيمم، وهل تكون النية برفع الحدث أو باستباحة الصلاة؟ من اعتبره وضوءاً فيكون عنده بنية رفع الحدث، ومن لم يعتبره وضوءاً فينوي به استباحة الصلاة، ولذا يقول صاحب المغني: من تيمم بنية رفع الحدث فإن التيمم باطل؛ لأنه لا يرفع الحدث؛ فـ أحمد عنده التيمم لا يرفع الحدث.
إذاً: ينوي في التيمم استباحة ما يتيمم من أجله، كأن يستبيح به الطواف، أو مس المصحف، أو المكث في المسجد، أو الصلاة على جنازة، هذه كما قيل رخصة يستبيح بها هذا العمل الممتنع عنها بدون طهارة، إذاً لا ينوي بتيممه رفع الحدث؛ لأن الحدث باقٍ.
ووجدنا الإمام أبا حنيفة رحمه الله يعتبر التيمم والوضوء سواء، يفعل بهذا ما يفعل بذاك، ولا ينتقض التيمم إلا بنواقض الوضوء أو وجود الماء.
ووجدنا مالكاً رحمه الله يقول: إنما التيمم مبيح لفريضة وقتها، ونافلتها التي بعدها، أما التي قبلها فلا.
ووجدنا الشافعي رحمه الله يزيد على مالك: النافلة التي قبلها.
وبالله التوفيق، والله أعلم.