شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [1]
درج النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه كل ما لا يحسنون فعله
بالقول والفعل ولو تطلب ذلك منه إعادته عدة مرات، وقد اشتهر عند أهل الحديث
حديث: المسيء صلاته، وفيه جمع الرسول عليه الصلاة والسلام أركان الصلاة
التي لا تصح إلا بها، وأكد في ثنايا الانتقال من ركن إلى آخر على أهمية
الاطمئنان فيه إشارة منه إلى أن الصلاة ليست مجرد حركات بلا معنى، ولكنها
أفعال خاصة يراد بها نيل رضا الرب عز وجل.
شرح حديث المسيء في
صلاته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ
الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع
حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم
ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك
كلها) ، أخرجه السبعة، واللفظ للبخاري، ولـ ابن ماجة بإسناد مسلم: (حتى
تطمئن قائماً) .
ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) .
ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) .
وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى
يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه)
وفيها: (فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله) .
ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب، وبما شاء الله) .
ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ] .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: باب صفة الصلاة، أي: من مباحث الصلاة بيان
صفتها، وصفة الشيء: هيئته التي يكون عليها، وبيان صفة الصلاة جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم بوسائل البيان المعروفة بالقول وبالفعل، أما بالفعل
فكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: أنه صعد المنبر -وكان من ثلاث درجات-
واستقبل القبلة وهو على الدرجة الثالثة فقرأ ثم ركع، ثم رفع من الركوع، ثم
رجع القهقرى حتى نزل إلى الأرض وسجد في أصل المنبر؛ لأن الدرجة التي كان
عليها لا تتسع للسجود، ثم رفع من السجود وهو في الأرض، ثم سجد السجدة
الثانية، ثم قام وصعد المنبر، وقرأ وركع ورفع، ثم رجع القهقرى وسجد
السجدتين، ثم تشهد وسلم ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فهذا بيان لصفة الصلاة بالفعل، وهي الحالة التي تكون أيسر تعلماً؛ لأننا
وجدنا أن الطفل يرى أبويه يصليان وهو لا يعرف شيئاً، فيأتي يحاكي كلاً
منهما في الفعل وإن كان لا يعرف القبلة من غيرها، فربما واجه أباه وسجد
تجاهه وليس تجاه القبلة، لأنه يرى حركات فيقلدها.
وهكذا الحيوانات الراقية قد تقلد ما ترى من حركات؛ فالتعليم إما بالرؤية
وإما بالسماع، والرؤية أقوى أثراً؛ لأن الإنسان بإمكانه أن يرى عدة مرئيات
في وقت واحد، بينما لا يسمع عدة أصوات في وقت واحد أبداً، ولهذا أمثلة مما
جاء في كتاب الله من إفراد السمع وجمع البصر كقوله: {السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، ونجد علماء التفسير يقولون: في
اللغة العربية السمع مصدر، والمصدر يستعمل للمفرد والمثنى والجمع، ونقول
بجانب ذلك: إن طبيعة الإنسان في السمع لا تمكنه من أن يصغي لصوتين أو ثلاثة
في وقت واحد ويعي ما قيل، بخلاف الرؤية، انظر إلى البساط الذي تجلس عليه،
في وقت واحد ترى لوناً أحمر وأخضر وأصفر وأسود وأبيض في نظرة واحدة.
ولذا تهتم دور التعليم بوسائل الإيضاح المرئية أكثر من المسموعة، فهنا صلى
الله عليه وسلم بين صفة الصلاة فعلاً، وكذلك في الحج قال: (خذوا عني
مناسككم) ، فكانوا ينظرون كيف يطوف، ويسعى، ويقف بعرفات، ويبيت بالمزدلفة،
ويرمي الجمرات، وينحر الهدي.
إلى آخره.
فيكون فعله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] .
وهذا الحديث بيان بالقول، ويعتني به علماء السنة والحديث، ويسمونه حديث
المسيء في صلاته؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً دخل المسجد
فصلى، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فقال له صلوات
الله وسلامه عليه: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، فرجع فصلى كما صلى أولاً، ثم
جاء فسلم فقال: (ارجع) ، وفي المرة الثالثة قال: والذي بعثك بالحق! لا أعرف
غير هذا فعلمني، فالرجل اجتهد ثلاث مرات وصلى كما يعلم.
إسباغ الوضوء
في هذا الحديث بدأ صلى الله عليه وسلم بتعليمه لازم الصلاة، وهو الطهارة
لها فقال: (إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء) ، فالرجل لم يتوضأ عندنا،
ولم يره الرسول يتوضأ، ولكن من حكمة المفتي وفقهه وفطنته أن يراعي مصلحة
المستفتي وكما تقدم حديث: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء،
فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فماء البحر يصلح للوضوء ولا
يصلح للشرب، فكان السؤال في خصوص الوضوء بماء البحر، فكان الجواب أبعد من
ماء البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، ما الذي أتى بالميتة هنا
والسؤال إنما هو عن طهارة ماء البحر؟ لماذا أفتاهم بحكم الماء وزادهم حكم
ميتة البحر؟ وهل هذا غير مطابق للسؤال؟ بل هذا هو الجواب الحكيم؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أدرك من حال السائل أنه إذا التبس عليه الوضوء من ماء
البحر وهو يداوم ركوب البحر، فمن باب أولى أن يلتبس عليه حكم ميتة البحر،
أو أنه في حاجة إلى معرفة حكم ميتة البحر؛ بحكم طول ركوبه البحر، فبيّن له
حكم ما لم يسأل عنه؛ لأنه من لوازم المسئول عنه.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الرجل في المسجد لم يحسن الصلاة، فبدأه
بتعليم لازم الصلاة، فإذا كان لا يحسن الصلاة فلعله أيضاً لا يحسن الوضوء،
فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ) والإسباغ التعميم، مثل قولك: صبغت
الثوب، أي: عممته بالصبغ، والدروع السابغات هي التي تغطي المقاتل وما يخشى
من إصابته في المعركة، ولما قالت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟! والخمار هو ما تخمر المرأة به
رأسها ووجهها، والدرع هو ما تلبسه على جسمها كاملاً، فقال: (نعم، إذا كان
الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) ، إذاً: الدرع يكون سابغاً إذا كان يغطي
ظهور القدمين، فإذا كان مرتفعاً عنها فليس بسابغ.
(فأسبغ الوضوء) أي: توضأ وضوءاً سابغاً، وفي غزوة تبوك توضئوا على عجل فرأى
النبي صلى الله عليه وسلم في أعقاب بعضهم لمعاً بيضاء، والعقب هو: مؤخر
القدم عند التقاء الساق بالقدم عند العرقوب، وهذا التجويف قد لا يغسل عندما
يمر عليه الماء، وقد يكون تجمع الهواء يمنع الماء من النزول إلى البشرة،
فنادى صلى الله عليه وسلم وقال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) ،
(أسبغوا الوضوء) ، أي: اجعلوا الوضوء سابغاً على أعضائه بحيث لا يكون فيه
عضو منكشفاً، ولا يترك جزء من العضو المراد غسله لا يصل إليه الماء، ولهذا
رأى المالكية وجوب الدلك؛ حتى يتأكد من أن الماء قد لمس جميع البشرة.
إذاً: (أسبغ الوضوء) بمعنى: أن تجعل غسل الأعضاء كاملاً، فإذا أسبغ وضوءه
تمت الطهارة، ولم يذكر له عدد الغسلات، وجاء في تعاليمه صلى الله عليه
وسلم: مرة ومرتين وثلاث، وأقل ما يجزئ في الوضوء مرة، وأكمل الغسلات ثلاث.
اشتمال الحديث على
أركان الصلاة
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم استقبل القبلة وكبر) ، هذا الحديث يقول فيه
بعض العلماء: هو أصل وأساس ما لا تصح الصلاة إلا به، وكل ما ذكر فيه واجب
في الصلاة، وتبطل بتركه؛ لأنه جيء به في معرض التعليم، والتعليم أهم ما
يكون لما تصح به الصلاة، ولا يجوز تأخير البيان للأمر الواجب عن وقت
الحاجة؛ لأن هذا الرجل لم يحسن الصلاة، وهو في حاجة إلى أن يتعلم ما
يصححها؛ فلا ينبغي أن يترك بيان شيء له يتعلق بصحتها، ولذا قالوا: كل ما
ذكر في هذا الحديث فلا تصح الصلاة إلا به، وهل ما لم يذكر فيه تصح الصلاة
بتركه؟ قالوا: إذا وجدنا عملاً زائداً عما جاء في هذا الحديث، وصح سنداً،
ولم يتعارض مع ما جاء في هذا؛ فنضيفه أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكر له ما يشترط في الصلاة، وترك ذكر بعض الأشياء التي تركها لا يبطل
الصلاة.
وتوسط قوم فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الرجل ما رأى أنه لم
يحسنه، وما رآه يحسنه سكت عنه، وذكر له الوضوء على مظنة أنه في حاجة إلى
تعليمه.
استقبال القبلة
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم استقبل القبلة) ، ومعلوم أن الرجل كان يصلي
إلى القبلة؛ لأنه رأى الناس يصلون إليها، ويعرف أن الصلاة تكون باتجاه
القبلة، لكن لما كان الحديث في سياق التعليم شملها، وجاءه بمقدمة الصلاة
وهو إسباغ الوضوء، ثم بأول حركة في الصلاة للإنسان وهي: استقبال القبلة.
وبالإجماع أن الصلاة لا تكون إلا للقبلة، ما عدا في بعض الأحوال الاضطرارية
أو التي يكون فيها تسامح، مثل النافلة في السفر، والفريضة في السفينة
والطائرة في الوقت الحاضر، فقد يتعذر على الإنسان استقبال القبلة، فيتسامح
فيها، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] .
إذاً: الأصل استقبال القبلة في الفريضة، ويسقط هذا الأصل في النافلة، كما
كان صلى الله عليه وسلم في سفره يصلي ورده بالليل على راحلته حيث توجهت به،
فقد تكون القبلة وراءه، مثل أن يأتي من مكة إلى المدينة ويريد أن يصلي صلاة
الليل، فلن يوقفها، وليس هو ذاهب ناحية مكة، فيصلي وهو مستدبر القبلة، وهذا
لظروف السفر، وهذه الصلاة نافلة، أما الفريضة فلا تكون على ظهر الرواحل،
ولا لغير القبلة، فينزلون ويصلون على الأرض، ويتمكنون من السجود، بخلاف
الراحلة فإنه سيومئ عليها إيماءً، اللهم إذا كان هناك مطر وطين ولا
يستطيعون السجود حتى في الأرض، فإذا كان ليس هناك سجود في الأرض فإنهم
يبقون على رواحلهم، ويومئون على الرواحل بدلاً من أن يومئوا على الأرض؛
بسبب المطر والطين، وقد تقدمت التفصيلات في استقبال القبلة، وأن الفرض على
البعيد هو استقبال الوجهة: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
[البقرة:144] {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ، فمن كان في
المدينة، لا يتأتى له أن يستقبل عين الكعبة، ويكون مسامتاً لها كالسهم، ثم
إن خطوط الأرض بطولها وعرضها لا يمكن أن تحصر في سمت الكعبة، فيكون هناك
مشقة بتكليف البعيد استقبال عين الكعبة، والفقهاء يقولون: الناس بالنسبة
إلى الكعبة من حيث القرب والبعد ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يصلي في
داخل المسجد الحرام، فهذا يتعين عليه أن يكون مسامتاً للكعبة، الصف حلقة
دائرة، وحيثما كان يكون صدره مقابلاً لبنية الكعبة، هذا إذا كان في نفس
المسجد.
القسم الثاني: من كان في بيوت مكة، فيجب أن يستقبل المسجد لا عين الكعبة.
القسم الثالث: من كان آفاقياً خارج مكة إلى آخر محيط الدائرة في الكرة
الأرضية، فإن قبلته شطر المسجد الحرام.
نحن الآن في المدينة شمال مكة، ومكة في الجنوب، فكل من توجه إلى الجنوب فهو
مستقبل القبلة؛ لأن الشطر الجهة، أو نصف الكرة، النصف التي هي فيه من هناك،
والنصف الذي نحن فيه من هنا.
(فاستقبل القبلة) ، أي: بالقدر الذي تستطيعه، بما يتوجب في حقك بالنسبة إلى
بعدك أو دنوك من الكعبة؛ لأن هذا تعليم عام؛ فيتوجب على كل من كان داخل
الحرم أن يستقبل عين الكعبة، ومن كان بمكة إلى موطن الحرم، ومن كان بعيداً
إلى شطر مكة.
تكبيرة الإحرام
وبعد استقبال القبلة يكبر، وهو المعروف عند الفقهاء بتكبيرة الإحرام؛ لأنها
تجعل المصلي في حرم الصلاة، وأصبح محرماً عليه ما كان جائزاً خارجها، فيحرم
عليه الكلام والطعام والشراب والمشي والالتفات، وكل هذا يحرم بمجرد
التكبير.
ومن هيئة التكبير: أن يكون مع التكبير رفع اليدين حذو المنكبين.
وهناك من يناقش في هندسة التكبير مع الرفع، هل أو يرفع ثم يكبر، أو يكبر ثم
يرفع، أو يرفع مع التكبير؟ الذي عليه الفقهاء: أن كل ذكر جاء مع حركة في
الصلاة، فإن الذكر الوارد يشغل بالحركة، فإذا كان قائماً يقرأ وأراد أن
يركع وسيكبر للانتقال، لا يقول: الله أكبر، ثم يركع، أو يركع ثم يقول: الله
أكبر، وإنما يكون نطقه: بـ (الله أكبر) مع حركته إلى تمام الركوع، قالوا:
ليشغل فراغ الوقت في الحركة بالذكر الوارد لها.
ويرفعهما: حتى يحاذي بهما منكبيه، وبعضهم يقول: إلى شحمتي أذنيه، وكما يقول
علماء الحديث: ليس هناك اختلاف؛ لأن من نظر إلى شحمتي الأذن نظر إلى أطراف
الأصابع، ومن نظر إلى المنكبين نظر إلى منتهى الكف، فإذا رفع الإنسان يديه
وكان منتهى الكف عند الكتف، كانت الأنامل عند شحمتي الأذن، فسواء قلنا: عند
منكبيه، فيكون فالنسبة لمنتهى الكف، أو قلنا: لشحمتي الأذن؛ فالنسبة لأطراف
الأصابع، وكلاهما سواء.
ما يقرأ في الصلاة
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وذلك بعد أن
تكبر، وجاء الوصف برفع اليدين في نص آخر مصاحباً لها، (ثم) كما يقولون:
للترتيب والتراخي، ولكنها هنا للترتيب، استقبل القبلة أولاً، ثم كبر، ولا
تكبر وأنت على الشرق ثم تستقبل القبلة، أولاً استقبل القبلة، ثم يترتب على
الاستقبال التكبير، ثم بعد التكبير القراءة، فتكون القراءة بعد أن يستوفي
استقبال القبلة والتكبير.
(ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وجاء في بعض الروايات: (إن كانت الفاتحة
معك تقرؤها، ثم ما تيسر من القرآن) ، وهنا ما تيسر، والله سبحانه وتعالى
يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
[القمر:17] ، فالقرآن كله ميسر، ولكن التيسير نسبي، فشخص يسر الله له حفظ
القرآن كله، وأنت تمكث مدة حتى تحفظ الفاتحة، ما تيسر لك، وما استطعت أخذه
وحفظه، وبعض العلماء يقول: أيسر المتيسر في القرآن الفاتحة، وبعضهم يقول:
الفاتحة مفروغ منها، ولكن ما تيسر معك بعد الفاتحة، والنص هنا بعد التكبيرة
مباشرة، على الترتيب: (اقرأ ما تيسر معك) .
فنقول: إن كان حافظاً للفاتحة فهي المتيسر، وهي المقدمة، وإذا لم يكن يحفظ
الفاتحة ويحفظ غيرها مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ،
فهل يقرأ بها أم لا؟ نعم، إذا لم يكن يحفظ الفاتحة، وقرأ سورة غيرها من سور
القرآن فتجزئه، فإذا لم يكن حافظاً للفاتحة ولا غيرها من سور القرآن
القصيرة، فماذا يفعل ولابد من ذكر هنا؟ إذا لم يكن يحفظ شيئاً من القرآن
فليحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره، هذا عندما يذكر المؤلف تلك الروايات،
فهنا العمل مسترسل، استقبل وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن.
في الحج ما ما استيسر من الهدي وهو شاة، وهنا ما تيسر من القراءة وهي
الفاتحة؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: إن حفظ الفاتحة فرض عين على كل
إنسان، فإلى أن يتعلمها لا يقول: أنا لا أعرف ولا أحفظ ويسكت، فإلى أن
يتعلمها يأتي وينتقل إلى التسبيح والتحميد كما سيأتي.
كيفية الركوع
والسجود والطمأنينة فيهما
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، لاحظوا هنا يا
إخوان: (كبر، ثم اقرأ ما تيسر، ثم اركع) هل هناك شيء من عمل الصلاة متروك؟
دعاء الاستفتاح بعد التكبير، وهذا وارد عنه صلى الله عليه وسلم؛ فـ أبي
هريرة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر: أراك تسكت بعد التكبير وقبل
القراءة، (قال: أقول: ... ) فهنا لم يذكره في هذا الموطن لأنه ليس بواجب،
فالرسول لم يعلمه للمسيء صلاته، ولكن ما دام قد جاء بنصوص أخرى ننظر في هذه
النصوص، وهل هي في درجة الإيجاب أو الندب أو غير ذلك؟ المهم هنا في هذا
السياق ترك ذكر دعاء الاستفتاح، فقال: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، هنا
وصف الركوع بأنه ملازم ومصاحب للاطمئنان، فقال: (حتى تطمئن) أي: وأنت في
حالة الركوع، وسيأتي حديث: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، وسيأتي أيضاً
أنه لم يصوب رأسه ولم يشخصه، يقول بعض السلف: حتى لو وضع القدح على ظهره
صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق، فقد كان معتدلاً اعتدالاً مثل
الزاوية القائمة، فاعتدال الظهر لم يكن فيه انحناء، فاركع واستمر راكعاً
حتى تطمئن، وليس بمجرد الهوي والوصول إلى مستوى الركوع ترفع، فإذا ركعت
واستوى الظهر منحنياً ووصلت إلى حد الركوع فعلاً انتظر قليلاً، واطمئن
واصبر في حالة ركوعك، يعني: انحناء في الحركة حتى تصل إلى درجة الركوع، ومع
هذا الانحناء والوصول إلى درجة الركوع تظل ثاتباً تنتظر مطمئناً في هذه
الحالة، إذاً: الطمأنينة تساوي الانحناء.
ثم قال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) ، أي: ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل
قائماً، وهذه النقطة ينبغي على بعض الإخوان أن يراعيها، وهي الرفع من
الركوع، والجلسة بين السجدتين؛ لأننا نجد في كتب بعض المذاهب من يقول: هو
ركن خفيف، ولم يأت خفيف ولا ثقيل في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم
علّم الرجل أن يطمئن بعد أن يركع، وعلمه أن يرفع حتى يعتدل وبعض الناس ليس
عنده طمأنينة في القيام، فبمجرد أن يصل إلى الاعتدال يهوي إلى السجود، وهذا
لا يصح، فالاطمئنان في الاعتدال بعد الركوع كالاطمئنان في الركوع نفسه،
فالركوع ركن، والطمأنينة في هذا الركن ركن.
ثم قال: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وهنا أراح الناس من معركة شكلية،
وهي: هل يبدأ يسجد بيديه أم بركبتيه؟ الصحيح أنه يسجد كيفما يتسهل له،
والمهم أن يسجد على الأعظم السبعة، ينزل بركبتيه أو بيديه على ما تيسر له،
بعض الناس ما شاء الله! رياضي ينزل بأطراف أصابعه على ركبتيه، ويقوم مثل
الغزال، وبعض الناس يريد من يساعده، فلا نضيق على الناس، ولا نحجر واسعاً،
واسجد كيفما تيسر لك، أما إذا كان الكل عندك سواء: فننظر ماذا صح من
الكيفيتين: هل ينزل على ركبتيه أو على يديه؟ لا يبرك كبروك البعير، وكيف
يبرك البعير؟ وهل ركبتاه في الأمام أم في الخلف؟ مسألة طويلة عريضة،
ومتفقون بالإجماع أنه كيفما نزل إلى الأرض فقد سجد.
فهنا قال: (ثم اسجد) ، ولم يذكر له التفصيلات، والسجود: هو تمكين الجبهة من
الأرض، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة
أعظم) ، أي: القدمين، واليدين، والركبتين، وهذه ستة، والجبهة وهي السابعة،
لكن جاء هنا ركن خفيف على ما قال الأحناف: (وأشار بإصبعه إلى الأنف) ، أي:
أن الأنف لا تساوي الجبهة في أعضاء السجود، لكنها لا تترك، كما جاء في حديث
ليلة القدر: (فأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) ، ويقول الراوي: والله!
لقد رأيت الطين على أرنبة أنفه، إذاً: وصلت الأنف إلى الأرض.
ويفسر العلماء كيفية السجود على سبيل الإجمال: أن يكون باسط الكفين، فلا
تضم، وبعض الناس يقول: يعجن، ووالله ما أدري ما هذا العجن! لكن حينما يكون
الإنسان طاعناً في السن، ويريد أن ينهض، فيضمها من أجل أن يستطيع النهوض،
لكن في كل الحالات سواء إذا كان مثل المرأة عندما تعجن، أو مثل الإنسان
عندما يعجن في العجين، فهذه لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة، إنما قال
بها بعض العلماء لوجود حديث عند أبي داود في ذلك، ولكنها حالة رئيت وصورة
نقلت! واتفقوا أنه في حالة السجود يكون باسطاً لأصابع كفه، ناصباً لقدميه
على رءوس الأصابع.
وهنا نرجع إلى سبعة أعظم، فقد ذكر القدمين وهما اثنان، مع أن كل قدم فيه
خمسة أصابع، لكن ليست هي المقصودة، فالقدمان عشرة أصابع، والكفان عشرة،
فصارت عشرين، فالرسول ذكر سبعة، وذكر اليدين والكفين وهي المعتبرة، وأن
تكون القدمان منتصبتين، وأطراف أصابع القدمين متجهة إلى القبلة، فإذا كان
يصعب عليه هذا الشيء، بأن كانت أصابعه قصيرة، فلا مانع لو ظلت قدمه على
رءوس أصابعه ولم يثنها إلى القبلة، ولو صعب عليه وثناها إلى الخلف فليس
هناك مانع، لكن إن أمكنه ذلك فهو الأفضل.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وليس بمجرد أن تصيب جبهتك الأرض فترفعها،
ولكن تطمئن، وحد الاطمئنان في السجود والركوع إلى متى؟ عن عائشة رضي الله
تعالى عنها: (أن الرسول سجد وأطال في السجود، ثم همت أن تغمزه، قالت: ظننت
أنك قبضت) ، أي: لطول سجوده، وهل كل إنسان يستطيع ذلك؟ لا، فإذا كان
الإنسان يصلي وحده فيطول كما شاء، لكن لا ينعس! والمالكية يقولون: إذا نعس
وهو راكع لا تبطل الصلاة، وإذا نعس وهو ساجد بطلت، قالوا: لأن النعاس مع
الركوع يكون خفيفاً، ولو زاد لسقط على الأرض، بخلاف النعاس مع السجود،
فيوجد سبعة أركان يعتمد عليها؛ فيشبع نوماً ولا يسقط.
فإذا كان الإنسان وحده فلا حد للطمأنينة، أما إذا كان يصلي بالناس فكيف
يكون الحال؟ يرى العلماء رحمهم الله أن أقل الطمأنينة بقدر ثلاث تسبيحات،
وأذكر عالماً كان في زمن الملك عبد العزيز، وكانوا ثلاثة من العلماء، واحد
في مكة واثنان في المدينة، وكان أحدهم مسئولاً عن التفتيش في التدريس،
وواحد ندبه للصلاة، فقال: بشرط أني في السجود والركوع أسبح ثلاث عشر
تسبيحة، فالملك عبد العزيز يغفر الله له قال: هذا تطويل على الناس، فجاء
الرجل وسألته: لماذا اشترطت هذا الشرط وفي السنة: (من أمّ بالناس فليخفف) ؟
فقال: أنا لا أريد أن أصلي بالناس، ولذا اشترطت هذا حتى يقولون لي: أنت لا
تصلح للصلاة! وفعلاً ما تولى الإمامة.
فجعلوا حد الطمأنينة أن الجسم -والعمود الفقري مركب من عدة فقرات- حينما
يكون قائماً ويتحرك الظهر إلى الركوع، فإلى أن تطمئن الفقرات في أماكنها
وتستقر هذه طمأنينة، وكذلك في السجود.
وهناك بحث أصولي: الزائد عن الواجب واجب أم ليس بواجب؟ فمثلاً: أقل الواجب
ثلاث تسبيحات، فإذا سبح عشرة وكان وحده وليس إماماً، فهل العشر تسبيحات
واجبة أم الواجب الإتيان بثلاث، والسبع ليست بواجبة؟ وماذا يترتب على هذا؟
هل يثاب على العشر تسبيحات ثوابه على الواجب؟ في الحديث القدسي: (أفضل ما
تقرب العبد إلي بما افترضته عليه) ؛ لأن أجر الواجب أعظم من أجر التطوع، أو
أن الكل واجب لأنه متصل ولا فاصل بينها، يهمنا أن أقل ما يصدق عليه طمأنينة
في الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين قدر ثلاث تسبيحات، وفي الاعتدال من
الركوع إذا أتى بالزمن الذي يسع الثلاث يكون قد اطمأن، وإن زاد زاد الله له
في حسناته.
(ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) ، أي: من السجود حتى تطمئن جالساً، ولا تقل:
هذا ركن خفيف، وترفع وتعود إلى السجود دون أن يستقر الجسم قاعداً، لابد أن
توجد هيئة الجلوس ومعها طمأنينة.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، أي: اسجد السجدة الثانية كما سجدت الأولى حتى
تطمئن ساجداً.
(ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وإذا فعل هذا في صلاته سواء كانت ركعتين أو
أربع، فهل بمجرد ما فعل هذا انتهت الصلاة؟! أين الجلسة للتشهد الأوسط
والأخير؟ وأين التسليم؟ فهل ذكر له جلستي التشهد؟ لم يذكرهما، وهل ذكر له
التسليم؟ لم يذكره؛ ولذا قال الأحناف -وإن كان هذا لم يتفق عليه في
مذهبهم-: أنه إذا انتهى من التشهد، وصدر منه ما ينافي الصلاة فقد تمت
صلاته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر له السلام كعلامة على
الخروج من الصلاة، والجمهور يقولون: افتتاحها التكبير، واختتماها التسليم.
فهنا يقول العلماء: إنما ذكر له الطمأنينة لما رآه يتعجل ولا يقيم للصلاة
طمأنينتها، وسكت عن الجلوس للتشهد السلام؛ لأنه رآه جلس وتشهد وسلم، فهو
ليس بحاجة إلى تعليم التشهد ولا السلام، فيكون حديث المسيء في صلاته إنما
فيما رآه صلى الله عليه وسلم من تقصير الرجل، وسكت عن الباقي المجزئ، وهذه
وجهة نظر من يرى أن هذا الحديث خاص بما جهله الرجل، وبما لم يحسنه في صلاته
التي رآه فيها صلى الله عليه وسلم.
وإلى هنا انتهى شرح الحديث في الجملة.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [2]
ورد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، ومن أجمعها وأشملها
حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، فقد ذكر فيه دقائق صفة صلاته عليه
الصلاة والسلام، سواء في القيام أو الركوع أو السجود أو حتى الجلوس للتشهد
الأخير.
ثم أتى المصنف رحمه الله بحديث علي في دعاء الاستفتاح للصلاة، وهو حديث
عظيم يحمل معالم الاستسلام والتوحيد لله عز وجل.
شرح روايات حديث
المسيء صلاته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
المؤلف رحمه الله أتى بروايات أخرى لحديث المسيء صلاته، فقال: [ولـ ابن
ماجة بإسناد مسلم: (حتى تطمئن قائماً) .
ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) .
ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) ] .
أي: حتى ترجع العظام إلى مواقعها، فقد كان راكعاً والظهر معتدلاً، فإذا ما
تحرك للرفع تحركت العظام؛ فيجب أن يظل قائماً حتى ترجع العظام إلى أماكنها
مستقرة، لأنها مفاصل والمفاصل قابلة للحركة عدة درجات، فإذا اعتدل يجب أن
يظل قائماً أو معتدلاً -على حسب الروايات- حتى ترجع العظام في أماكنها
وفقراتها.
قال: [وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم
حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ] .
في الحديث المتقدم قضية وهي: أن رجلاً رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي
على حالة لا تجزئ، ويحكى في بعض الروايات: (لو مت على ذلك لم ترح رائحة
الجنة) ، وفي بعضها: (دخلت النار) ؛ ولهذا يقول العلماء: إن هذا الحديث أشد
ما يكون تحذيراً من التراخي والتهاون في أداء الصلاة، والصلاة التي لا يتم
ركوعها وسجودها تلف كما يلف الثوب الخرق ويرمى بها في وجه صاحبها، ولا تفتح
لها أبواب السماء.
إذاً: يلزم كل إنسان في أداء صلاته أن يطبق هذا الحديث، وكله يدور على
الطمأنينة، وقراءة ما تيسر من القرآن.
وفي رواية النسائي توجيه الخطاب للعموم: (إنها لا تتم صلاة أحدكم) ، وقوله:
(أحدكم) ، تشمل الجميع بسبيل البدلية من الأحدية، أحد، أحد، أحد أحدكم: كل
واحد منكم.
وقال: (حتى يسبغ الوضوء) ؛ لأن الوضوء هو مفتاح الصلاة، وعليه تنبني، فإذا
كان الوضوء غير سليم بأن كان الماء متنجساً، أو مغصوباً -كما عند الحنابلة-
أو كان الغسل غير سابغ للأعضاء -كما عند الجمهور- فليس هناك فائدة من صلاته
حتى يسبغ الوضوء.
وقوله: (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ، بم أمره الله؟ {إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وهذا الحديث نص صريح في قضية يتنازع فيها
العلماء: هل الترتيب شرط في صحة الوضوء أم لا؟ الشافعي يرى أن الترتيب
واجب، وأخذ ذلك من إدخال الممسوح بين مغسولين في الآية {إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] ، فـ
الشافعي قال: إذا كانت المسألة ليس فيها ترتيب كان سيجعل الممسوح على حدة
بعد أن يكمل المغسولات؛ وذكر غسل الرجلين أنسب مع اليدين، ثم يذكر مسح
الرأس، أو يقدم مسح الرأس مع الوجه؛ لأنه أقرب إلى الوجه، ثم يأتي باليدين
وينزل إلى الرجلين، فلما أدخل مسح الرأس بين اليدين والقدمين وهما مغسولان
وجب أن نضع المسح في مكانه، ومن هنا وجب الترتيب.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ،
وبماذا أمر الله؟ وجوهكم، وأيديكم، ورءوسكم وأقدامكم، إذاً: من غير هذا
الترتيب لم يتوضأ كما أمره الله، ولا حاجة إلى ذكر ما روي عن علي على خلاف:
(لا أبالي إن غسلت قدمي قبل أو وجهي قبل) ، ولو صح هذا ونقل فيكون شاذاً؛
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ما توضأ إلا كما أمره الله، يبدأ
بالوجه ويختم بالقدمين.
(ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه) ، ثم يكبر الله تعالى ويحمده
بقوله: الحمد لله، ويثني عليه، والثناء هو مدح المثنى عليه، ويقولون: هناك
فرق بين الحمد والثناء، وبعض العلماء يفسر الحمد لغة بالثناء، لكن الحمد
شيء، والثناء شيء آخر، فالحمد هو: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، أما
الثناء على المحمود أو على المثنى عليه فلحسن صنيع صدر منه، ولو لم يصل
إليك، والشكر: ثناء عليه في مقابل نعمة أسداها إليك، فتحمد وثني وتشكر.
فالحمد لا يكون مطلقاً إلا لله، ولذا يقولون: (ال) في قوله سبحانه:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، فقد استغرقت جميع المحامد لله؛
لكمال ذاته وصفاته، ولو لم يصل إلى الخلق منه شيء، فهو في ذاته كامل الذات
والصفات، فكان الحمد كله إليه.
أما الثناء في اللغة فهو لحسن صنيع ممن يثنى عليه ولو كان غير مسلم، مثلاً:
سمعت بطبيب ماهر عالج المرض الفلاني، أو اخترع الدواء الفلاني، ونفع الله
به الخلق، وهو غير مسلم، هل تثني عليه أم تسبه؟ لاشك أنك تثني عليه؛ لأنه
صنع صنيعاً حسناً، سواء كان مسلماً أم كافراً.
إنسان صنع لك معروفاً وأوصله إليك فعلاً، ضاع ولدك مثلاً وأتاك به، سقط منك
شيء مهم وجاء إليك به، دفع عنك ضراً، ولو كان غير مسلم تشكره على هذا
الصنيع أم تجحده؟ تشكره.
طبيب يهودي أو نصراني، وعندك مرض خطير، وليس في العالم أحد يعالج هذا النوع
من المرض إلا هذا الطبيب، وهو على دينه الذي هو عليه، فعالجك، وأجرى الله
لك الشفاء في علاجك على يديه، هل تذكره بالخير أم بالسوء؟ تذكره بالخير،
وتدعو الله له بالإسلام.
إذاً: الحمد والثناء والشكر كلها أعمال في مقابل، فالحمد المقابل لكمال
الذات والصفات، والثناء لإحسان وإجادة فعل، والشكر لمن أسدى إليك معروفاً
وصل إليك عنه، فاحمد الله واثن عليه، وهل المراد بهذا في الفاتحة؟ الفاتحة
فيها حمد وثناء لأنك تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، وكل
هذا ثناء على الله.
وقوله: (وإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره) ، هذا التفسير في
رواية النسائي: (إن كان معك قرآن) ، وقرآن يشمل ما بين دفة المصحف الأولى
إلى دفته الأخيرة، من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس، معك شيء من هذا القرآن
ولو آية اقرأ بها، ولو لم يكن معك شيء من القرآن؛ فيجزئك أن تقول: سبحان
الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا
بالله، وتذكر الله بالتسبيح والتحميد إلى أن تحفظ الفاتحة.
ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله) ، اقرأ بأم الكتاب إن
كنت تحفظها، وإن كانت معك، وليس هناك معارضة مع ما قبلها: (إن كان معك من
القرآن) ، والفاتحة إن كان يحفظها فهي من القرآن.
ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ، ثم بما شئت بعد الفاتحة من آية أو سورة
صغيرة.
شرح حديث أبي حميد
في صفة صلاة النبي
قال رحمه الله: [وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه) ] .
حديث أبي حميد الساعدي هذا يكاد يكون أجمع الأحاديث في بيان صفة صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد ساقه ابن القيم رحمه الله تحت قوله: صفة صلاة رسول
الله من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم كأنك تراها.
وساقه بزيادة على بعض الألفاظ الموجودة هنا نوعاً ما، لكن بروايات أخرى.
رفع اليدين عند
تكبيرة الإحرام
يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر) ، وتقدم التنبيه على أن
هناك كلمات منحوتة من أكثر من لفظ، كبر: أي قال: الله أكبر، وسبح قال:
سبحان الله، وهلل: قال: لا إله إلا الله.
وأخذ العلماء فيه أن افتتاحية الصلاة إنما هي بقول: الله أكبر، وأشرنا إلى
مذهب أبي حنيفة رحمه الله في ذلك، وأنه يرى صحة افتتاح الصلاة بأي لفظ فيه
تعظيم لله؛ ونظر في ذلك إلى معنى التكبير، لكن الجمهور يقولون: الصلاة
تعبدية، والرسول صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته أن يكبر، وهنا كان
صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه، ويبين الغزالي رحمه الله
في هذه الحالة: أن رفع اليدين حذو المنكبين بجعل بطون كفيه إلى القبلة،
وظهورهما إلى الوراء، ويقول: فيه الإشارة إلى أن المصلي حينما يقف بين يدي
الله ويرفع يديه على هذه الحالة كأنه يشير إلى إقباله على الله، ورفض
الدنيا وراء ظهره؛ لأنه يجعل ظهور كفيه إلى الوراء، فكأنه يقول: أنا تركت
أمور الدنيا، وأقبلت على الله.
وتقدم أيضاً التنبيه على كلمة: (حذو منكبيه) ، وفي الرواية الأخرى: (شحمتي
أذنه) ، والجمع بين ذلك: أن حذو منكبيه لأول الكفين، وشحمتي أذنه لأطراف
الأنامل، وبعض العلماء يقول: المرأة كالرجل في ذلك، ولكن الأولى لها ألا
تتجاوز حذو منكبيها، لئلا يكون هناك مبالغة في رفع اليدين.
هيئة الركوع
قال: (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره) ، ولم يذكر لنا القراءة؛
لأنها معروفة، وغيره يذكر قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفريضة،
والاقتصار على المفصل، سواء من طوال المفصل أو قصاره أو أوسطه، وأم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تذكر لنا قراءته في قيام الليل، وأنه
ربما خفف القراءة، وربما أطال فيها، وربما قرأ البقرة وآل عمران والنساء في
ركعة واحدة.
إذاً: أبو حميد يذكر لنا الهيئة والكيفية العملية، فإذا ركع ماذا فعل
بركبتيه؟ (أمكن يديه من ركبتيه) ، ولم يستند على الركبتين ولكن أمكن،
وكيفية الإمكان كما يقول العلماء: ألقم كفيه ركبتيه، ويفرج الأصابع
ويقوسهما بحسب حالة الركبتين، وكأنه يمسك على الركبتين بأصابعه، فيصير
متمكناً من إمساكه الركبتين بكفيه، لا مجرد استناد أو وضع، ولكن بالتمكين؛
وذلك بتفريج الأصابع وقبضها على الركبتين.
(ثم هصر ظهره) ، هصر بمعنى: مداً معتدلاً، ليس فيه تقويس، ولا ارتفاع،
قالوا: لو أن إنساناً أتى بقدح من ماء ووضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم
وهو راكع لم يتدفق القدح، لاستواء الظهر تحت هذا القدح.
(فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه) ، فإذا رفع رأسه من الركوع
اعتدل، بمعنى: استوى قائماً معتدلاً لا منخفضاً إلى الركوع، ولا هوياً أكثر
من ذلك بل اعتدل، وفي حالة هذا الاعتدال تأتي الطمأنينة، وعبر عنها بقوله:
(حتى يعود كل فقار مكانه) أو يعود كل عظم مكانه، وأشرنا إلى أنهم يقولون:
إن ظهر الإنسان فيه ما يسمى العمود الفقري، وهو مركب من عدة فقرات، ومن
الممكن فصل بعضها عن بعض، وترى ذلك بوضوح في الهيكل العظمي، سواء كان في
الإنسان أو الحيوان، والنخاع الشوكي يمر في هذه الفقرات، فمراده بقوله:
(حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، أن يستوي ويستقر في موضعه.
هيئة السجود
قال: (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما) ، في عرض أبي حميد رضي
الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا من الحركات: رفع اليدين
حذو المنكبين، وتمكين يديه من ركبتيه، وهصر ظهره، ورفعه من الركوع، وبعد
الرفع من الركوع سجد! إذاً: ليست هناك حركة بعد الرفع من الركوع ورجوع كل
فقار مكانه وبين السجدة، رفع وانتظر حتى يرجع كل عظم مكانه، ولم يذكر وضع
اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وممكن أن نقول: لم يذكره أيضاً عند
قيامه للقراءة، قال: إذا كبر رفع، وإذا ركع أمكن، فلم يذكر وضع اليمنى على
اليسرى عند القراءة، مع أن ذلك من السنة.
فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابض، والافتراش منهي عنه كما في الحديث:
(نهى أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع) ، والافتراش هو: أن تجعل الذراع
كاملاً على الأرض، والصحيح أن ترفع مؤخر الذراع، فالمرفق لا يكون ملاصقاً
للأرض، وتضع اليدين فقط، أي: الكفين، وبقية الذراع لا تلصقه بالأرض؛ لأن
التصاق الذراع بالأرض هي صفة السبع حينما يكون باركاً، فيقول العلماء: جاء
النهي عن أن يتشبه الإنسان في صلاته بكثير من الحيوانات، فنهي عن افتراش
السبع، وإقعاء الكلب، ونقر الديك، والتفات الثعلب، وأن يقف وقوف الفرس
الشموس، وهو: أن يبادل بين قدميه؛ فمرة يعتمد على هذه ويرفع الأخرى، ثم
يعتمد على الأخرى ويرفع تلك، أو ربما رفع إحدى قدميه عن الأرض، فكل ذلك جاء
النهي عنه للمصلي، فلا يتشبه في صلاته بتلك الحيوانات.
(غير مفترش) أي: غير ممكن ذراعيه من الأرض، بل يكون مرتفعاً من الخلف، (ولا
قابض) أي: لا يكون قابضاً لهما إلى جنبه، ويسجد بين يديه، وليس مفترشاً
كالسبع، ولا ماددها طويلاً، ولا قابضها إلى جنبه.
وبعض الناس قد يغالي في وضع اليدين وعدم افتراشهما، وعدم قبضهما، ويجافي
بيديه عن ضبعيه، ويكون ما بين منكبه وشاكلته قدر الذراع، وهذا إذا زاد عن
الوضع الطبيعي يكون فيه شذوذ، لكن يكون معتدلاً، بخلاف المرأة فإنها تضم
نفسها؛ لأنه أستر لها، ونقول لهذا الذي يفعل هكذا: المجافاة لها حد، فإذا
كنت في الجماعة تفعل هكذا، والذي بجانبك يفعل هكذا، فأين يذهب الناس؟! إن
كنت منفرداً فنعم، ولكن بغير صورة خارجة عن المألوف؛ لأن هذا يستدعي
الانتباه، ويلفت النظر، وكل شيء جاوز حده فليس مطلوباً، لا إفراطاً ولا
تفريطاً، لا تضمها إلى جسمك، ولا تجافي بها إلى حد النشوز والشذوذ، فكان
صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه لا ذراعيه، ولا يفترش افتراش السبع.
قال: (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) ، أي: عند السجود يستقبل بأطراف
أصابع قدميه القبلة، فينصب القدمين، ولا يضع رءوس أصابع القدمين على الأرض،
فتكون الأظفار هي المرتكزة على الأرض، ولكن تنحني أصابع القدمين معها، هذه
هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هيئة الجلوس بين
السجدتين والتشهد
قال: (وإذا جلس في الركعتين: جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى) ، وإذا جلس
بين السجدتين جلس على رجله اليسرى، أي: على بطن قدم رجله اليسرى، ونصب
اليمنى على أطراف أصابعها إلى القبلة، وهذه الجلسة بين السجدتين، وعند
التشهد الأوسط.
(وإذا جلس في الركعة الأخيرة: قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على
مقعدته) ، في الجلسة الأخيرة التي فيها نهاية الصلاة والسلام لا يجلس على
قدمه اليسرى كما جلس بين السجدتين، ولا كما جلس في التشهد الأول، ولكن يقدم
رجله اليسرى، وينصب اليمنى كما نصبها في الجلسات الأول، وإذا قدم رجله
اليسرى عن مستوى جلوسه الأول، فسوف يجلس على إليته مباشراً للأرض، والرجل
اليسرى التي كان يجلس عليها خرجت من تحت اليمنى، واليمنى على ما كانت عليه،
وهذه يسمونها جلسة التورك، والعلماء يستنتجون من هذه الهيئة أنه كيفما فعلت
في هيئتك في الصلاة لا يستطيع إنسان أن يقول: إن صلاتك باطلة، فمن لم يمكن
يديه من ركبتيه ووضعهما على ركبتيه فقط، أو لم يجلس على اليسرى، وينصب
اليمنى، أو نصب ثنتين ولم يجلس على إليته في التشهد الأخير، وجلس كما يجلس
في التشهد الأول، فباتفاق العلماء أن الصلاة صحيحة، لكن لا ينبغي أن يتعمد
ترك السنة وهو يستطيع فعلها.
لماذا فرق بين الجلسة في التشهد الأوسط والجلسة في التشهد الأخير؟ قالوا
لأمرين: الأمر الأول: أن الجلسة في التشهد الأول خفيفة، ويمكنه أن يجلس على
قدمه اليسرى ولا يتألم لذلك ولا يحصل عليه ثقل، بخلاف الجلسة في التشهد
الأخير فإنها أطول، فيحتاج إلى جلسة أكثر راحة، والتورك لو أطال بهيئته
الجلوس لا يشق عليه، هذا من جهة المصلي.
الأمر الثاني: إذا جاء المسبوق ورأى الإمام جالساً، فهو لا يدري: أهو في
الجلوس الأوسط أم الجلوس الأخير؟ فإذا رأى هيئة الجلسة ميز بينهما، فإذا
كان على رجله اليسرى فهو في الأوسط، وإذا تورك وجلس على الأرض فهو في
الأخير، فهذه الهيئة تعطي المتأخر المسبوق إشارة في أي أنواع الجلسات، وفي
أي فترة من فترات الصلاة، والله أعلم.
قدر قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم في الصلاة
يقول أهل العلم: إن حديث أبي حميد هو أوفى وأوسع حديث في بيان صفة صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يجمعون في ذلك أطراف الأحاديث،
وابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة -وهو كتيب صغير- يقول: وإليك صفة صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم، وما ترك
جزئية ترد في الصلاة إلا وذكرها، وذكر سندها، واعتمد في عرضه على حديث أبي
حميد هذا، وعند كل حركة يأتي بما أتى فيه، فيأتي عند استقبال القبلة،
والتكبير ورفع اليدين، ثم ينتقل إلى الأذكار، ودعاء الافتتاح.
إلخ.
ومعلوم أن أي صيغة افتتحت بها الصلاة أجزأت، والمؤلف هنا لم يذكر لنا في
حديث أبي حميد صيغة من صيغ افتتاح الصلاة، وإنما أتى في ذلك براوية عن علي
وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم بعد التكبير وفي حالة الافتتاح يأتي ابن
القيم أيضاً وغيره بما ورد عنه، وقد ألفت كتب في صفة صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومن أدعية الافتتاح حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله: ما
هذه السكتة بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة؟ لأنه إذا كانت الصلاة جهرية
فكبر لم يباشر القراءة بعد التكبير بل هنا سكتة، فيقول: سألت رسول الله عن
هذه السكتة، فقال: أقول.
، وذكر دعاء الافتتاح بعد تكبيرة الإحرام، وقبل أن يبدأ بالقراءة، ثم يذكر
الركوع، وأنواع القراءة، وينبه على أنه صلى الله عليه وسلم في غالب أحيانه
لا يأتي بآية من نصف السورة ويركع، ولكن إما أن يقسم السورة بين الركعتين،
وإما أن يبتدأ بأول السورة، ويقول: لم يأت عنه أنه أخذ آيات من آخر أي
سورة، إما من أولها وينتقل إلى أخرى من أولها، أو يقسم السورة بين
الركعتين، أو يأخذ سورة من سور المفصل بكاملها في الركعة، وهذا عند مالك هو
الأحب: ألا يجتزئ ببعض الآيات، ويقول: الأولى أن يأخذ سورة كاملة.
وهذه في الواقع نظرة دقيقة جداً؛ لأن السور الصغار تجدها موضوعية في ذاتها،
وانظر مثلاً إلى (لإيلاف قريش) ، موضوعها مطالبتهم بعبادة رب البيت في
مقابل أنه أطعمهم وآمنهم، يعني قضية مستقلة بأدلتها، وكذلك: {أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، قضية في قصة
مكتملة في هذه السورة، وخذ مثلاً: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]
، موضوعها توحيد الباري سبحانه وتعالى، خذ (الفلق) ، (الناس) ، (الكوثر) ،
(التكاثر) ، (القدر) ، كل سورة من السور الصغيرة تجدها تشتمل على موضوع
مستقل مكتمل، ولكن لما تأتي وتأخذ من سورة الرحمن ستأخذ وصفاً جزئياً،
وتأتي إلى سورة الواقعة ستأخذ مثله أيضاً، وتأتي إلى سورة البقرة وتأخذ
أيضاً قضية جزئية؛ ولذلك مالك رحمه الله استحب أن المصلي يقرأ مع الفاتحة
سورة كاملة، فكونه وحده يأخذ سورة طويلة أو إمام يأخذ سورة صغيرة، فهذا
أولى عنده من أن يأخذ بعض آيات من بعض السور.
ويذكر ابن القيم رحمه الله وغيره أن قراءته صلى الله عليه وسلم لم تكن على
وتيرة واحدة، ولم يلتزم سورة معينة في صلواته الخمس، ولكن ربما أخذ شكلاً
معيناً في صلاة الصبح يوم الجمعة: (السجدة، وهل أتى) ، ويقولون: المناسبة
أن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه خلق آدم، وأسكن فيه الجنة، وأنزل إلى
الأرض، وتاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وسورة السجدة فيها تذكير بيوم
القيامة، وكذلك سورة هل أتى على الإنسان فيها تذكير بحياة الإنسان ابتداءً
ومنتهاه في يوم القيامة، فتناسب الزمان مع موضوع القراءة، وكذلك يمكن في
الجمعة قراءة سورة ق وغيرها، وفي العيدين سبح والغاشية، وهذا كان يتكرر منه
صلى الله عليه وسلم.
أما في الصلوات الخمس فلم يكن يعتاد قراءة سورة بعينها ويكثر من إيرادها في
الصلاة، وسورة (ق) كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الخطبة يوم الجمعة،
وبعض الصحابيات تقول: ما أخذت (ق) إلا من رسول الله على المنبر، تعني يوم
الجمعة، وكان كثيراً ما يقرأ بالطور في المغرب، لكن لا يلزمها في كل
الصلوات.
إذاً: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على وتيرة واحدة، بل جاء عنه
قوله: (كنت أدخل في الصلاة بنية الإطالة فأسمع بكاء الأطفال فأخفف شفقة
بالأمهات) ؛ لأن الأم إذا سمعت طفلها يبكي لم يعد يبق في الصلاة.
إذاً: مما يذكرونه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: موضوع القراءة.
ثم يركع، والذكر الوارد في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان
ربي الأعلى، وإذا رفع من الركوع قال: سمع الله لمن حمده.
ربنا لك أو ربنا ولك.
ويناقش بعض العلماء: هل هما سواء، أم أن زيادة الواو تدل على زيادة معنى؟
فبعضهم يقول: الواو عاطفة على جملة محذوفة: (سمع الله لمن حمده) ربنا اغفر
لي ولك الحمد، ما دام يسمع من حَمِده فنحمده ويسمعنا، وهناك من يزيد بعض
الألفاظ الأخرى، وكل هذا مدون ومذكور في كتب الحديث والأدعية: (حمداً طيباً
طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل
الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ... ) مما يشعر بأن الرفع من الركوع
يستغرق زمناً لمثل هذا الدعاء، وفي هذا رد على من يقول: إنه ركن خفيف بمجرد
الاعتدال منه يمكن أن يهوي للسجود.
شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفاً)
قال رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض، إلى قوله: من المسلمين) ] .
هذا يذكره علي رضي الله تعالى عنه إذا قام إلى الصلاة، وهل يقوله في الصلاة
أم خارجها؟ يقوله: في الصلاة بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام.
و (فطر) أو (خلق) كلاهما ورد في الشرع، وفطر بمعنى: أوجد على غير مثال:
{فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] ، وكذلك: {بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، بأن أوجد الشيء على غير مثال
يحاكيه، فطر السماوات والأرض، وفي هذا تعظيم لله واعتراف بربوبيته وقدرته
سبحانه وتعالى وجهت وجهي لمن يستحق أن أتوجه إليه بسبب عظمته وقدرته.
حنيفاً: أي: مائلاً عن الشرك مسلماً لله، (وما أنا من المشركين) يتبرئ من
الشرك في هذا المقام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، والنسك كل
العبادات، ومحياي، أي: مدة حياتي وما أتصرف به في الحياة.
إن بعت، أو اشتريت، أو كافأت، أو عاملت يكون كل تعاملي لله، بمعنى: أن
أراعي فيه ما شرع الله، وأقصد فيه رضا الله، وأتبع فيه ما شرع الله حياتي
لله، العالم كله لله رب العالمين، فهذا الإنسان يجدد الإقرار والشكر لله.
(محياي) مصدر ميمي أو اسم زمان أيضاً، وحياة الإنسان كلها لله، إن نام لله،
وينوي بذلك شكر الله على نعمة الصحة والعافية، والاستعانة على ما سيأتي من
عمل آخر، وإن قام وسعى لله، وإن اكتسب لله؛ لأنه يصرفه في سبيل الله.
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فمر شاب فتى قوي،
فقال أحد الحضور: لو كان هذا النشاط في سبيل الله؟! يعني: بقوته ينكأ في
العدو، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في
سبيل الله -أي: خير من أن يتكفف الناس السؤال- وإن كان خرج يسعى على أبويه
فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على زوجه وعياله فهو في سبيل الله) .
إذاً: معنى محياي: أنني ما تحركت حركة ولا اكتسبت مكسباً إلا لله، ولأجل أن
يصرف في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكذلك مماتي مرده لله رب العالمين لا
شريك له.
{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] {وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، وبذلك أمرت
بأن تكون حياتي كلها لله، كما في الحديث: (حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى
بها) ، هل الله سبحانه وتعالى سيحل في الإنسان، ويكون عينه وسمعه وبصره
ويده ورجله؟! حاشا لله! لكن المعنى: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني، فلا يتصنت
إلى ما لا يجوز له، ولا يستمع إلى ما حرم الله، ولا يشارك في غيبة ولا
نميمة، وبصره لا ينظر به إلى الحرام، بل ينظر نظرة اعتبار وتأمل في خلق
الله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191] ، فإذا عرض له محرم غض بصره،
وكذلك يده لا تمتد إلى ما حرم الله، ولكن تعمل وتسعى فيما هو لله، وكذلك
محياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين أو
وأنا أول المسلمين، إن قال: أول المسلمين فلا بأس تبعاً للنص، وإن قال من
المسلمين على العموم فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم.
هذا من صيغ الافتتاح ولك أن تأخذ بهذه الصيغة، أو أن تكتفي في افتتاح صلاتك
بما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه.
وفي رواية: (إن ذلك في صلاة الليل) ، وسواء في صلاة الليل، أو النهار أو أي
حالة من الحالات فإن هذا نوعاً من الدعاء الذي يأتي به الإنسان في افتتاح
صلاته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وحبيبه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [3]
كما وجد الأذان في الشرع لتهيئة العبد إلى ما هو مقبل عليه من أداء
للفرائض؛ كذلك شرع دعاء الاستفتاح لتهيئة أخرى؛ فهو يجمع في طياته جملاً
عظيمة من التوحيد تهيئ العبد للإقبال على الله تعالى بكل معاني الإخلاص
والتجرد له سبحانه، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، قد خلف
وراءه كل المعاصي وابتعد عنها واغتسل منها كل ذلك ليكون أهلاً لمغفرة الله
ورضوانه لما سيكون منه فيما بعد من دخول في الصلاة بخشوع.
شرح حديث: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي
... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ومن والاه وبعد: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فسألته فقال: (أقول:
اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من
خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء
والثلج والبرد) ، متفق عليه] .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما جاء في دعاء الافتتاح عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فقد لاحظ أبو
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام يسكت هنيهة،
فسأل: ما تقول في هذه السكتة يا رسول الله؟! فبين له ما يقول في هذه
السكتة.
وفي هذا الحديث يبحث العلماء في سكتات الإمام في الصلاة، فبعضهم يقول:
الأولى: السكتة للاستفتاح، وهي محل اتفاق، والثانية: بعد قراءته سورة
الفاتحة وقبل قراءة السورة التي بعدها، والثالثة: بعد قراءته السورة، فهذه
ثلاث سكتات: بعد تكبيرة الإحرام، وبعد قراءة الفاتحة، وبعد الفراغ من
القراءة كلية وقبل أن يركع، وبعضٌ ينازع في الثانية ويقول: إذا أنهى قراءة
الفاتحة شرع في قراءة السورة أو الآية التي بعدها، وبعض يثبتها حتى يعطي
المأموم الفرصة ليقرأ الفاتحة، وبعض يذكر الخلاف في السكتة الأخيرة قبل
الركوع، والسكتة التي قبل الركوع أثبت من السكتة بين الفاتحة والسورة
التالية.
طلب المباعدة بينه
وبين الخطايا
قوله: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) .
هذا الدعاء يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وهو لا خطيئة له:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}
[الفتح:2] ، وجاء التنبيه على لفظ (اللهم) : بزيادة الميم في الأخير بدل
ياء النداء، أي: (يا الله باعد) فيحذف ياء النداء ويأتي بالميم في الأخير:
(اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ، وهذه المباعدة لتلك الخطايا في الماضي أم
للمستقبل؟ إن كانت عن الماضي فهي بمعنى: اغفر لي وارحمني واصفح عني، ولا
تجعل بيني وبينها اختلاط ولا اجتماع بأن تغفرها لي: فإذا كان قد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فماذا يباعد؟ قالوا: هذا تعليم لنا، وهي زيادة رفع
له في درجاته صلى الله عليه وسلم، كما لو فرضنا أن إنساناً يستغفر الله
بكثرة وليس عنده ذنوب؛ فيكون استغفاره رفعه له في درجاته، والمصطفى صلى
الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة
مرة) ، سبحان الله! الرسول يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة! والتوبة لا
تكون إلا من ذنب، قالوا: ربما أن بعض التقصير يعتبره صلى الله عليه وسلم
ذنباً، ولذا فإنه يتوب منه، كما ثبت في دعاء الخروج من بيت الخلاء:
(غفرانك) ، غفرانك من ماذا؟ لأنه لما دخل بيت الخلاء امتنع من ذكر الله،
فلما خرج اعتبر فترة وجوده في بيت الخلاء المانع من ذكر الله خطيئة، فقال:
غفرانك ربي عن هذا الوقت الذي ذهب من غير ذكرك! ولكن هذا شيء.
والتحقيق: أنه تعليم للأمة، كما تقدم في الخطاب الذي يوجه إليه صلى الله
عليه وسلم، وليس هو المقصود به أبداً، كما في قوله سبحانه وتعالى في حق
الوالدين: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ، لمن يقول؟ أبوه قد
توفي وهو في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره سبع سنوات، من سيبلغ عنده الكبر من
والديه؟ ليس هناك أحد منهما، فيكون هذا قطعاً المراد به الأمة، فقد خوطبوا
في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاًَ: هنا كذلك: (باعد بيني وبين خطاياي) ، والحال ليس هناك خطايا، يقول:
(أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، والحال ليس هناك ذنوب يتوب منها؛ إنما
يكون تعليماً لنا، ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وهنا المباعدة إن كان المراد بها خطايا متقدمة يكون المراد غفرانها وسترها
ومحوها، لأن المشرق والمغرب لا يلتقيان أبداً، فكذلك هو والخطايا لا
يلتقيان، وإن كان للمستقبل فالمراد بها: باعد بيني وبين أسباب ارتكاب
الخطايا؛ حتى لا أخطئ كما باعدت بين المشرق والمغرب، فلا أجتمع أنا وخطيئة
أبداً كما لا يجتمع المشرق والمغرب أبداً.
التنقية والاغتسال
من الذنوب
قال: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ، كما قيل: إن
البياض لا يحتمل الدنس، فالغترة البيضاء إذا جاءت ذبابة ووضعت عليها نقطة
ظهرت فيها، أما الملونة لو جاء الفأر ما كان ليظهر فيها شيء، فهنا التشبيه:
(نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض) الذي لا يحتمل دنساً أبداً، وكما
ينقى الثوب الأبيض من الدنس نقني أنا أيضاً من خطاياي، واجعل صحيفتي بيضاء
نقية.
ثم قال: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) باعد، نقي، اغسل،
كل أنواع الابتعاد من الخطايا يكررها ويجمعها صلى الله عليه وسلم، وإذا كان
هذا في حقه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا نحن؟! ولهذا
في الحج حينما يطوف الحاج طواف الوداع يأتيه ملك يربد بين كتفيه ويقول:
استقبل عملاً جديداً فصحيفتك بيضاء نقية، وهنا يقول: (اغسلني من خطاياي
بالماء والثلج والبرد) ، وكان يكفي الماء فهو يغسل كل شيء، لكن معه الثلج،
ومعهما البرد، وما الذي أوجب مجيء الثلج والبرد؟ بعض العلماء يقول: إن
الخطيئة عند المؤمن تسبب له الندم، والندم يجعل عند الإنسان حرارة، فإذا
غسلت بالماء زال أثرها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، لكن تبقى حرارتها
فتغسل بالثلج فتذهب حرارة الخطيئة في نفسه، ويأتي البرد زيادة على ذلك،
ويمكن أن يقال: حبيبات البرد أقوى في إزالة الدنس، فعندما يكون لديك زجاجة
فيها زيت وغسلتها بالماء فإنه لا يذهب، فإذا أخذت قليلاً من الرمل ووضعتها
في الزجاجة ورجيتها، فالرمل بحركته في جدران الزجاجة يأخذ الزيت، فكأن
أجرام الرمل داخل الزجاجة تساعد على نظافتها، فكأن إمرار البرد على الصحيفة
يساعد على إنقائها أكثر من مجرد إمرار الماء.
فيقول العلماء: الحكمة من جمع الثلج والبرد: أن الماء منقٍ، والثلج والبرد
لأمر معنوي في أثر الخطيئة عند المؤمن؛ لأنه يشعر بأنه ارتكبها، والارتكاب
يجعل عنده الندم، والندم يبعث على الحرارة والأسى على ذلك؛ فيكون الثلج
والبرد يطفئ حرارة الأسى والندم من الخطيئة؛ فينمحي أثرها بالكلية.
نسأل الله أن يغسلنا من الذنوب، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه.
شرح حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك ... )
قال رحمه الله: وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك،
وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرك) ، رواه مسلم بسند منقطع، ورواه
الدارقطني موصولاً وموقوفاً] .
هذه صيغة أخرى من صيغ الاستفتاح، وهل كان يجمع الجميع، أو تارة يقول هذا
وتارة يقول هذا؟ يتفقون على أن الصيغ كلها مشروعة، وإن أتيت بالبعض، أو
الكل، أو اكتفيت برواية منها فإن ذلك جائز.
قوله: (سبحانك الله وبحمدك) ، مادة التسبيح كما في تتمة أضواء البيان عند
أول سورة الحشر جاءت في القرآن بكل تصاريفها: (سبح لله، يسبح لله، سبح اسم
ربك) صيغ الأفعال الثلاثة: الماضي والمضارع والأمر، وسبح الله نفسه:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وتسبح له الملائكة
والرعد بحمده، ويسبح له الجماد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، فالتسبيح عبادة جميع الكائنات، بل إن رب العزة
قد سبح نفسه كما تقدم.
والتسبيح معناه عظيم جداً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله
وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وعند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان
الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ، وهل ثواب كلمتين خفيفتين
على اللسان تملآن ما بين السماء والأرض -ومسيرة ذلك خمسمائة عام- لمجرد
أنها مرت على طرف اللسان: سبحان الله والحمد لله؟ بل لما تضمنته كلمة:
(سبحان الله) من جليل المعاني، ويذكر علماء اللغة أن الحروف قوالب المعاني،
بمعنى: أن الحروف تكوّن الكلمة، والمعنى في قالب، وكل معنى له قالب يناسبه،
كما أن كلنا له ثوب يناسبه، فالألفاظ بالنسبة للمعاني كالثياب بالنسبة
للإنسان.
يقول بعض فقهاء اللغة: كلما وجدت كلمتين متفقتين في أكثر الحروف فبينهما
صلة وارتباط في أصل المادة، ويقولون: الأصل في وضع اللغة للمادي المحسوس،
ثم ينتقل منه إلى المعنوي، فسبحان على وزن فعلان، والألف والنون زائدتان،
وأصل المادة: (سَبَحَ) وإذا جئنا إلى المعنى المحسوس في (سَبَحَ) ؛ فإن سبح
يسبح بمعنى الذي نزل إلى الماء ليسبح لئلا يغرق! فالسباحة وسيلة للنجاة،
والسباحة وسيلة لعبور النهر، لذا قالوا: المعنى الذي في سبحان مأخوذ من أصل
الوضع والترتيب للسباحة، فكما أن السابح في الماء بسباحته ينجو من هلاك
الغرق، فمن يسبح الله ينجو من هلاك التشبيه ووصف الله تعالى بما لا يليق
به، والسباح ينجو بنفسه، فكذلك المسبح لربه ينزهه عما لا يليق بجلاله،
وكذلك السابح يصل إلى غايته، وكذلك من يسبح ربه يصل إلى مرضاة الله.
إذاً: (سبحان الله) تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلال الله.
الفرق بين الحمد
والشكر والثناء
قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) ، ما معنى الحمد؟ الحمد: ثناء على المحمود
لكمال ذاته وصفاته، واللغة فيها: حمد وشكر وثناء، والحمد المطلق لا يكون
إلا لله سبحانه، ولذا يتفقون على أن (ال) في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، أي: استغرقت جميع المحامد كلها لله، ولا
يحمد لكمال ذاته إلا الله، بخلاف الشكر والثناء؛ إذ الشكر يكون في مقابل
نعمة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
[إبراهيم:7] ، يزدكم من نعمه، أي: ينعم عليك فتشكره، وفي الحديث: (من لم
يشكر الناس لا يشكر الله) ، فالشكر مقابل نعمة أسديت إليك، أما الثناء:
فتثني على من فعل الجميل ولو لم يكن لك أنت، فأنت ترى العمارة من الناحية
الهندسية فيها إبداع، وجمال، وقوة، فعندما تثني على المصمم والمنفذ لهذا
العمل، وهل وصلك شيء من ذلك؟ لا.
قد تسمع بطبيب يعالج أمراضاً نادرة مثل: جراحة المخ، وزرع القرنية، قام
بعدة عمليات ونجح فيها، فتقول: من هذا؟ فيقولون: الطبيب الفلاني، فتثني
عليه، مع أنك -الحمد لله- في عافية، ولست بحاجته في شيء، لكن سمعت بأنه فعل
فعلاً جميلاً فتثني عليه لجميل فعله؛ فالشكر في مقابل نعمة أسديت إليك أنت،
والثناء بسبب جميل فعله فتثني عليه، أما الحمد فلكمال الذات، سواء نظرت إلى
جميل فعله أم لا، وسواء أسدى إليك نعمة أم لا؛ فأنت تحمده لكمال ذاته، فهو
مستحق لكمال النعوت.
فإذا اجتمعت (سبحان الله) التي تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلاله، وتنزهه
عن كل نقص وعيب، معها (الحمد لله) التي تثبت له جميع صفات الجلال والكمال،
فقد اجتمع طرفا التوحيد لله في قولك: سبحان الله وبحمده، ومن هنا كانتا مع
خفتهما على اللسان ثقيلتان في الميزان، تملآن ما بين السماء والأرض.
أسماء الله مباركة
دلالة ومعنى
وأما قوله: (وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، فإن البركة تعني:
الزيادة، والمبارك كثير البركات، تقول: طعام مبارك، أي: كثير وفيه خير،
واسمه سبحانه مبارك، فإذا سألته باسمه أعطاك، وإذا دعوته باسمه أجابك،
وهنا: (تبارك اسمك) ، هل هذا خاص بمجرد لفظ الاسم (الله.
الرحمن.
الرحيم.
الملك.
القدوس.
السلام.
إلخ) ، أم أن المراد المسمى المعبر عنه بالاسم، ولا نريد أن ندخل في غمار
مخاضة: هل الاسم غير المسمى، أو المسمى غير الاسم، فهذه مناقشة لا طائل
تحتها، ولكن الاسم من حيث هو لفظ مركب غير المسمى، والاسم من حيث هو دال
على مسماه هو عينه.
وأي اسم من أسماء الله فهو مبارك، كـ: (الرحمن) ، وبركات الرحمن لا يحصيه
إلا الله، (إن لله مائة رحمة أنزل واحدة إلى الأرض فبها تتراحمون، ويتراحم
أهل الأرض، حتى إن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به) ، وقوله:
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، داخل تحت رحمة واحدة من
المائة، عطف الأم على ولدها، عطف الكبير على الصغير، شفقة الصغير على
العجوز الكبير، كل ما رأيت وما سمعت من معاني ومظاهر الرحمة فهي جزء من
مائة من رحمة الرحمن، أي بركة ممكن أن يحصيها الإنسان في هذا؟! (الرحيم)
قالوا: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وتجدون هذا في أول كتب التفاسير فكلها
تنقلها عند البسملة، ولا شك أن رحمة الآخرة دائمة وباقية، بينما الدنيا
تنتهي، وفي الآخرة: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ،
فهذا من بركة اسم الرحمن الرحيم، ولو جئت إلى كل اسم من أسماء المولى
سبحانه وتعالى: كـ: (الحي) ، فمن بركته وجود هذا العالم، وهو أثر من آثار
الحي، وتنظيم هذا العالم وإيجاد كل ما يحتاجه الإنسان في هذا المعنى أيضاً،
وإذا كان اسم الله مباركاً وتبارك في دلالاته ومعانيه هل نتجه إلى غير
الله؟! لا.
وقوله: (وتعالى جدك) ، تعالى بمعنى: تقدس وتنزه عن كل نقص، والجد يقولون
فيه: إنما هو الحظ، ويقولون: إنما هو العطاء، والله أعلم بالحقيقة.
(ولا إله غيرك) ، ما دام الأمر كذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك،
وتعالى جدك، نتجه إلى من؟ والله لا إله غيرك، وليس لنا مألوه نعبده ونقصده
ونرجوه ويستحق منا العبادة له وحده إلا أنت يا الله.
شرح حديث: (كان يقول بعد التكبير: أعوذ
بالله السميع العليم ... )
قال رحمه الله: [ونحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً عند
الخمسة: (وكان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم؛ من همزه ونفخه ونفثه) ] .
المؤلف رحمه الله يريد بإيراد تلك الروايات أن يبين لنا بأن الأمر فيه سعة،
كان يقول، وكان يقول، وما قال: إنه كان يجب أن يقول هذا كله، لا، فمما كان
يقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا
يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] ، سميع حتى لوساوس الشيطان، عليم بما يكون
منه، ولا يمكن أن ينجيك من الشيطان إلا رب العزة جل وعلا.
يقول والدنا الشيخ الأمين: بين لنا المولى كيف نتقي شيطان الإنس وشيطان
الجن، وذلك في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[فصلت:33-34] ، أي: عامل الناس بالتي هي أحسن، وادفع السيئة بالحسنة؛ فهي
الحرز من شيطان الإنس، فإذا عاملته بالمعروف كفيت شره، وينقلب من عداوة إلى
ولاية، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ} [فصلت:34] .
وبعض عشاق الأدب الغربي أو بعض الكتاب المشهورين يقولون: نراك تصانع
أعداءك، قال: ألست بمصانعتهم كفيت شرهم؟ قالوا: بلى، قال: وهذا هو المطلوب،
يعني: بدلاً من أن تدخل معه في حرب وتغلبه بالقوة، لكن بالمسالمة، {فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
[فصلت:34] ، وليست المسألة سهلة، وليس كل إنسان يقدر عليها: {وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، إلا ذو حظ عظيم أكرمه الله بذلك.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] ، فهنا يقول صلى الله عليه
وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ، فإذاً: أنت كفيت عداوة شيطان الإنس بحسن المصانعة،
بل وينقلب صديقاً لك، وكيف تتجنب أو تتقي عداوة الجن (الشيطان) ؟ لا تستطيع
أن تصانعه، وليس عندك طريقة له، ولو أنك صانعته زاد عليك، ولكن تلجأ إلى
ربك: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وهذا كما يقول الشافعي رحمه الله: (ما من حديث سمعته إلا وله شاهد من كتاب
الله) ، وهذا لا يستطيع أن يطبقه إلا مثل الشافعي، فيرد كل حديث سمعه من
رسول الله إلى ما يدل عليه من كتاب الله، (أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم) ، هو نفس نص الآية: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] .
وقوله: (من همزه ونفخه ونفثه) ، من همزه ونفخه ونفثه كل ذلك يدور حول
الوسوسة والتشكيك، والنفث هو الإيذاء وكما يقولون: به مس من الشيطان، وكذلك
نزعة الإنسان إلى الشر، كل هذا من أعمال الشيطان في كل مجالاتها ومعانيها.
شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير ...
)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن
بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع
رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التحية،
وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن
يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم) ، أخرجه مسلم
وله علة] .
هذا الحديث مع حديث المسيء في صلاته يعتبران أصلاً في بيان كيفية الصلاة،
ومن حسن ترتيب المؤلف أنه أتى به بعدما بين حالات دعاء الاستفتاح وأطال
فيها، ومن الناحية الفقهية: فإنهم يجمعون على أن كل هذه الأدعية إنما هي من
باب الاستحباب، فلو كبر وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب
العالمين، فالصلاة صحيحة، ما عدا ابن حزم رحمه الله فيرى أن دعاء الاستفتاح
واجب كالقراءة، ويتخير أي دعاء من هذه الأدعية الواردة الثابتة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
هذا، وينقل بعضهم عن بعض الهادوية أن هذه الأدعية عندهم تبطل الصلاة،
ويقولون: لأنها من كلام البشر، وخارجة عن موضوع الصلاة، إلا أن ما يثبت
بحديث رسول الله ويفعله رسول الله هل نقول: إنه خارج عن الصلاة؟ هذا تطرف
زائد.
وبالتأمل نجد أن كل هذه الصيغ التي وردت تعطي الإنسان تهيأة، وتجعله يستقبل
صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، فقد تباعد من ذنوبه وخطاياه، وطلب غسله
وتنقيته منها، وسبح ربه، وحمده، وتهيأ بعوامل متعددة ليصبح في وقفته بين
يدي الله مستعداً لكل تلقي فيوضات الرحمة في هذا الموقف العظيم، يعني ليس
الذكر مجرد ذكر، ولكنه تهيئة للإنسان.
وكما أشرنا سابقاً في حديث الأذان: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ،
لماذا، فهو يؤذن للناس ونحن نسمع؟ قال العلماء: لأن الإنسان يكون في أمور
الدنيا مستفرغاً حسه وشعوره في عمله مهندس في هندسته، صانع في مصنعه، زارع
في مزرعته، بأي حالة من الحالات، فهل نقول للإنسان: تعال صلِّ، ونأخذه من
الدوامة التي هو فيها ونوقفه في المحراب مباشرة؟ لا، وهذا انتقال مفاجئ ليس
له تمهيد، لكن لما يردد كلمات المؤذن، ويستشعر أن الله أكبر من كل شيء،
وينفض يديه عما هو فيه، ويسمع إلى داعي الله: (أشهد أن لا إله إلا الله، حي
على الصلاة، حي على الفلاح، إلى آخره) يتوجه إلى الله، ويتوضأ وهو مع الله،
فيكون هناك تحويل وتغيير في التفكير، فبعد أن كان متجهاً للدرهم والدينار
ومنغمساً في أشغاله إذا بنا نجده قد توجه إلى الله، وانقلبت الصفحة إلى
ناحية أخرى، وأصبح كأنه جزء من المسجد، ويحط خطاه في المسجد ويدخل في
المناجاة مع الله.
ولزيادة تهيئة عملية فعلاً، يأتي بهذه الأدعية الواردة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم يأتينا المؤلف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها،
وبدأ المؤلف يبين عملياً كيفية الصلاة.
ملازمة النبي صلى
الله عليه وسلم افتتاح الصلاة بالتكبير
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ما أحد أعرف بصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم منها، فطول الليل وهو عندها يصلي في حجرتها، والمسجد
بجانبها يصلي فيه، وسوف نأخذ هذا الحديث -إن شاء الله- جملة جملة؛ لأن كل
جملة فيه غالباً ركن من أركان الصلاة.
(كان صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير) ، لاحظوا كلمة (كان) ،
فهي تدل على التكرار والدوام وتقدم لنا استقبال القبلة فكبر، والتكبير
والتحميد والتهليل كلها ألفاظ منحوتة، التكبير من قولك: الله أكبر،
والتهليل من قولك: لا إله إلا الله، والتسبيح من قولك: سبحان الله،
والتحميد من قولك: الحمد لله، فيفتتح الصلاة بالتكبير، أي: بقول: الله
أكبر.
الخلاف في الجهر
بالبسملة والإسرار في الصلاة
قالت: (والقراءة بالحمد لله رب العالمين) ، وهنا وقفة طويلة نأخذ منها بقدر
المستطاع، فعند هذه اللفظة من هذا الحديث وأحاديث وآثار أخرى نبحث هذه
المسألة ليسهل علينا ما بعدها.
نحن عندنا في الصلاة قراءتان، قراءة عامة وقراءة خاصة، القراءة الخاصة:
فاتحة الكتاب، لحديث: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
إذاً: عندنا قراءتان، قراءة خاصة وهي: الفاتحة، وقراءة عامة وهي: ما يمكن
أن يقرأه المصلي بعد الفاتحة، فأم المؤمنين تقول: (كان يفتتح القراءة) ،
وهل هي قراءة الفاتحة الخاصة أم القراءة العامة بالنسبة للفاتحة وغيرها؟
إذا قلنا: كان يفتتح القراءة بمعنى الفاتحة، فلا يوجد في قولها: بسم الله
الرحمن الرحيم، معنى ذلك: أنها أسقطت البسملة، ومن هنا يؤخذ دليل من يقول:
البسملة ليست من الفاتحة.
ومن يقول يفتتح القراءة العامة معناها: أنه يقرأ أولاً بفاتحة الكتاب
المعنون عنها بالحمد، ولا يقدم السورة الصغيرة ولا الآية على الفاتحة،
فيفتتح القراءة في الصلاة من حيث هي بالفاتحة أولاً، ويثني بما تيسر معه من
القرآن، وإذا قلنا: يفتتح القراءة بمعناها العام، بأن يقدم الحمد لله رب
العالمين؛ تكون أم المؤمنين عنت بقولها: (الحمد لله) اسم السورة لا مستهلها
وأولها والآية الأولى منها، أي: كان يفتتح القراءة بسورة الحمد، والفاتحة
اسمها: الفاتحة، والحمد، والصلاة، والإيمان، والنعمة، والتامة ولها أكثر من
عشرين اسماً.
فإذا حققنا هذا الموقف في المراد من قول أم المؤمنين: (يفتتح القراءة) هانت
علينا المسألة، لأننا وجدنا من يقول: إن المراد بالقراءة الفاتحة فيدخل
فيها البسملة، ثم بعد هذا يأتي نقاش طويل جداً، حتى إن ابن عبد البر أفردها
برسالة خاصة موجودة في الرسائل المنيرية، ومن أرادها فليرجع إليها، ونأتي
في الموطأ وغيره ونجد من يذكر قول أبي هريرة لـ سلمان: (ائت بها سراً يا
فارسي، ومن يقول: (صليت خلف أبا بكر وعمر فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد
لله رب العالمين) ، و: صليت خلف فلان وفلان فلم أسمعهم يذكرون البسملة) ،
وليس معنى عدم السماع عدم القراءة، والجمع بين الأمرين أن تأتي بها سراً.
إذاً: النقطة التي منها الانطلاق لطالب العلم خاصة أن نقول: المسألة مفروغ
منها وانتهينا، ولكن حيث أوردها المؤلف نذكرها من ناحية منهجية كمسألة
خلافية لنتوصل إلى النتيجة بسرعة، ونخرج بنتيجة علمية: (كان يفتتح القراءة)
أي القراءتين؟ عندنا قراءتان في الصلاة: خاصة بالفاتحة، وعامة بما تيسر
بعدها، وإن حملناه على الخاصة أسقطنا البسملة، وإن حملناه على العامة تكون
أرادت اسم السورة، وعلى أنها الخاصة تنازعوا في البسملة، ما عدا الشافعي
فإنه يقول: البسملة آية من الفاتحة، ويروي عن ابن عباس: (من ترك البسملة في
الفاتحة فقد أسقط مائة وأربعة عشر آية من كتاب الله) ، أي: بعدد السور،
ويجمعون على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة من كتاب الله في سورة
النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} [النمل:30] .
وإذا جئنا إلى التحقيق من جانب عد الآيات، قال: أبي بن كعب (لقيني رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنا في المسجد فقال: ألا تريد أن أعلمك أفضل سورة
في كتاب الله قبل أن تخرج من المسجد؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بيدي
وسار إلى الباب، فأخذت أبطئ في الخطا أنتظر السورة، حتى قارب الباب فقلت:
السورة يا رسول الله! قال: فاتحة الكتاب، هي السبع المثاني والقرآن العظيم
الذي أوتيته) .
نعد سبع آيات من الفاتحة: إن قلنا من: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى الأخير صارت ست آيات، وإذا بدأنا بـ (بسم
الله الرحمن الرحيم) وجدناها سبع، وخذ المصحف تجد ذلك في الفاتحة خاصة،
أنتم تعرفون في العد لآي المصحف أن الرقم يوضع في آخر الآية، ولا تجد رقماً
في الأول، فإذا أخذت المصحف تجد بسم الله الرحمن الرحيم بعدها علامة الآية
رقم واحد، ثم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
[الفاتحة:1-7] ، تمت السبع.
فالذين يقولون: إن البسملة ليست من الفاتحة يقسمون الآية الأخيرة قسمين،
ويجعلونها آيتين، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ،
ويأتون بآية، لكن الرسم العثماني لا يمكن أن نغفله، وإن كان البصريون
والكوفيون والحجازيون يختلفون في عد الآي، والفرق بينهم حوالى ست أو عشر
آيات في كتاب الله كله، لكن في المصاحف الأم ما يجمع ذلك، فقال المثبتون:
البسملة آية من كتاب الله، وآية في الفاتحة خاصة، ثم يكون الخلاف بعد ذلك
في بقية السور، هل هي آية كما يقول الشافعي، أو تنزل فواصل لتبين اختتام
السورة وافتتاح سورة جديدة؟ سبق ما يجعل كلا الفريقين على حق في كونها منها
أو ليست منها؛ وبصرف النظر عن موضوع الصلاة، فالبسملة في موضوع الصلاة
حققته الأحاديث الثابتة من أنه يأتى بها سراً ولو في الجهرية، ويقول والدنا
الأمين رحمة الله علينا وعليه: بعض السور أو بعض الآيات قد تنزل مرة واحدة،
وقد تنزل السورة الكاملة فيها الخمسون والستون والسبعون آية مرة واحدة دفعة
واحدة، وقد تنزل الكلمة مستقلة بذاتها، قال: والفاتحة أنزلت مرتين، مرة
بمكة، ومرة بالمدينة، وفي كلتا المرتين مرة نزلت ومعها البسملة آية منها،
ومرة نزلت وليست معها البسملة آية منها، فيقول: من قال: إنها آية، نظر لبعض
النزلتين، ومن قال: ليست آية، نظر لبعض النزلتين، وإذا كان الأمر كذلك من
جهة النزول، وجئنا إلى الصلاة نجد النصوص موجودة وصحيحة وثابتة بين الصحابة
رضوان الله تعالى عليهم، لما قال القائل: (صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان
ولم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وكانوا يفتتحون القراءة بالحمد)
، كما قالت عائشة، لكن عندما يصرح: ما كانوا يقرءون بسم الله الرحمن
الرحيم، يأتي الآخر ويقول: كانوا يأتون بها ولكن في السر؛ ولهذا سلمان لما
سأل أبا هريرة ووقع النقاش قال له: (ائت بها سراً يا فارسي) .
وسيأتي لهذا زيادة روايات متعددة بأن القراءة في الصلاة على قسمين: قراءة
عامة، وقراءة خاصة، فإذا حملناها على الخاصة ننفي البسملة، وإذا حملناها
على البسملة يكون مرادها تسمية السورة باسم الحمد، ويأتي قوله صلى الله
عليه وسلم: (هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم) ، وسميت بالمثاني لأنها
تثنى في كل ركعة من الصلاة، وسيأتي الخلاف أيضاً في قراءة الفاتحة للمأموم
خلف الإمام، والله تعالى أعلم.
إذاً: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أعطتنا الافتتاحية في القراءة، وهل
الأحسن أن نحملها على العام أو الخاص؟ على العام وسيأتي زيادة بحث لهذا،
ونصوص أخرى في الموضوع توضحه لنا أكثر.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [4]
نقل لنا الصحابة رضوان الله عليهم صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام،
وبتعدد روايات هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يتبين لنا صفة صلاته وكأننا
نراها؛ ولهذا اهتم العلماء بتدوين الأحاديث الواردة في ذلك.
تتمة وصف عائشة
لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: عائشة رضي الله عنها، وقولها: (كان
يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين) .
وهل الأولى حملها على القراءة العامة أو القراءة الخاصة؟ العامة، وهذا أصح،
وهذا يجنبنا مشاكل كثيرة، ويقرب الطريق عندنا، فإذا قرأ سورة الحمد لله وما
تيسر معها، فبعد القراءة سيكون الركوع، وكيف كان ركوع رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟! قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) ، تقول: هذا الشاخص،
والعمود هذا يسمى شاخصاً، ويشخص بمعنى: يرفع، ويخفض بمعنى: ينزل، إذاً لا
هذا، ولا ذاك، ولكن بين الأمرين، يستوي رأسه صلى الله عليه وسلم مع ظهره،
حتى قالوا: لو وضعت قدحاً على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق
القدح لاعتداله.
(فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه؛ ولكن بين ذلك) ، بين أن يشخص وبين أن
يصوب، ومعناه: الاعتدال، لا زاوية منحرفة، ولا زاوية حادة، بل زاوية قائمة.
(وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) ، وهكذا بعد الركوع لا
يهوي إلى السجود حتى يستوي -والاستواء الاعتدال- قائماً، وهذا نص على الذين
يقولون: ما بين الركوع والسجود ركن خفيف، ويكفي فيه مجرد إشارة اللفظ،
فيكون راكعاً ثم يهوي إلى السجود، والحركة لم تنقطع بعد، وعند نقطة الصفر
من الاعتدال يبدأ بالنزول، لكن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها:
(إذا كان راكعاً لم يسجد حتى يستوي -أي: يعتدل- قائماً) يعني بعد الركوع.
إذاً: الاعتدال بعد الركوع ركن، وتأتي موضوع الطمأنينة، فليست مجرد اعتدال
إلى نقطة الصفر، بل طمأنينة مع هذا الاعتدال.
(وكان إذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي جالساً) ، كذلك بين
السجدتين، وهو مثل الاعتدال ما بين الركوع والسجود؛ لأن البعض أيضاً يقول:
الجلسة بين السجدتين ركن خفيف، فلو سجدت ثم رفعت رأسك وقبل أن تعتدل رجعت
وسجدت فلا بأس، والبعض ما يرفع يديه من الأرض بعد حتى يعود، وهذا خطأ في
الصلاة؛ إذ لابد أن يعتدل قاعداً بين السجدتين، ولابد أن يظهر منه هيئة
الجالس بين السجدتين.
(وكان يقول في كل ركعتين التحية) ، وهذا وصف عام، في كل ركعتين سواء كانت
الصلاة كلها ركعتين، أو كانت الصلاة ركعتين وزيادة، فكل ركعتين فيها تحية،
الصبح ركعتان وفيها تحية، والظهر أربع، وفي كل ركعتين تحية، تحية بعد
الركعتين الأوليين، وتحية بعد الركعتين الأخريين، والمغرب ثلاث، فيها تحية
بعد الركعتين الأوليين، وتحية عند الأخيرة ويسلم.
انظروا إلى هذا الإجمال في الصلاة! يقرأ التحية، وما هي التحية؟ لم تذكر،
ولها نص مستقل، كذلك يركع ويسجد، وماذا يقول في ركوعه وسجوده؟ لها نصوص
مستقلة، وإنما هي تصف الحركات الظاهرة من أعمال رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
الافتراش والتورك في
الصلاة
قالت: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) ، معنى يفرش: أي: يجعل ظهر
القدم على الأرض، ويجلس على بطن القدم اليسرى، ورجله اليمنى ينصب قدمها،
ويلاحظ في نصب القدم اليمنى: أن تكون أطراف أصابع القدم اليمنى متجهة إلى
القبلة، لا أن يجعلها مدبرة إلى الخلف، ما لم يكن هناك صعوبة أو مشقة، فبعض
الناس يكون الله معطيه بسطة في الجسم، وإذا أراد أن يجلس هذه الجلسة تصعب
عليه، فيجلس كيفما تيسر له، لكن الهيئة الأساسية من سنة النبي صلى الله
عليه وسلم هي هذه الحالة.
وهل هذا الصنيع في التشهدين معاً أم في التشهد الأول؟ هذا يكون في التشهد
الأول باتفاق، ويقولون: السنة في التشهد الثاني الذي يعقبه السلام والخروج
من الصلاة أن يتورك، بمعنى: أنه يدخل قدمه تحته ويفضي بإليته إلى الأرض،
ولماذا يغير في الجلسة؟ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء بحثوا عن
العلة والسبب والحكمة من وراء ذلك.
نقول: أولاً: أيهما أطول في الجلوس؟ التشهد الثاني؛ فهل نظل في التشهد
الثاني الطويل ناصبين للقدم وعاكسين الأصابع وننتظر متى يسلم أم نجلس
مرتاحين؟ الجلسة في التشهد الأخير تعطي فرصة راحة وطمأنينة، ويستطيع
الإنسان أن يدعو في التشهد بما يسر الله له.
هذه ناحية.
الناحية الثانية: لو أنك جئت والإمام في التشهد، فإنك لا تدري هل الإمام في
التشهد الأخير أم في الأوسط؟ قالوا: تنظر إلى هيئة الجلسة، فتعرف إن كان
هذا التشهد هو الأول أو الأخير، فإن كان متحفزاً للقيام ومستعداً لأن يقوم
علمت أنه في التشهد الأول، ولو رأيته جالساً على هدوء وهون علمت أنه ما بقي
إلا أن يسلم، وما هي الفائدة من هذه؟ وهل ندخل معه في الصلاة أو ننشئ جماعة
جديدة؟ الصحيح أننا ندخل معه.
أحكام عقبة الشيطان
والافتراش كالسبع
في آخر هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عقبة
الشيطان، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وفي لفظ: افتراش الكلب.
أما صفة عقبة الشيطان كما يفسرها علماء الحديث فهي أن ينصب ساقيه ويثني
ركبتيه، ويجلس على الأرض على إليتيه، كالذي يعقد الحبوة، وعقد الحبوة هو:
أن يأخذ الإنسان حزاماً أو نوعاً من الخيوط ويجعله خلف ظهره ثم يديره على
ساقيه ويعتمد عليه، وكان هذا المنظر كثيراً ما يرى في المسجد النبوي،
ويفعله الشيوخ وكبار السن خاصة بعد صلاة الصبح حينما ينتظرون في مجلسهم
يذكرون الله حتى تطلع الشمس، وأحياناً بعد المغرب والعشاء، وحينما يفعل مثل
هذا ويجعل يديه إلى الأرض، وركبتيه إلى الأعلى؛ فهذه عقبة الشيطان، وليس
فيها حبل ولا حبوة، وبعضهم يصف عقبة الشيطان بأن ينصب القدمين، ويجلس على
العقبين، ولكن هذه مردودة لأنها هيئة رواها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي قول أم المؤمنين: (كان ينهى عن عقبة الشيطان) ، ما خصصت رجلاً ولا
امرأة، فالنهي في هذه الهيئة في الجلوس ممنوع بصفة عامة، وافتراش الرجل
ذراعيه افتراش السبع يظهر هذا، ويتبين أكثر ما يكون في الكلب -أعزكم الله-،
والسبع يطلق على كل حيوان مفترس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه على
رجل: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، فقالوا: الكلب يطلق على السبع،
والسبع يطلق على الكلب، وقالوا: الكلب سبع؛ لأنه يفترس بنابه ويأكل اللحوم،
وافتراش الذراعين كافتراش السبع هو: أن يمكن ذراعيه مع المرفق على الأرض؛
فطبيعة السجود أن يسجد بباطن الكفين على الأرض، والمرفق مرتفع عنها، ولا
يكون ملامساً لها، والسنة أن يرفع المرفقين عن الأرض، ويكون معتمداً على
الكفين فقط.
وإذا كان معتمداً على الكفين فأين يكون المرفقان؟ يرفعهما، ويجافي بينهما
وبين ضبعيه، ولا يلصقهما بجانبيه، وتنصيص أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها
على الرجل يدل بمفهومه على أن المرأة بخلاف ذلك، وهو مفهوم المخالفة وليس
مفهوم صفة، والفرق بينه وبين مفهوم الصفة أن مفهوم الصفة لا حكم له في
التشريع، ومفهوم الصفة إنما يتعلق باسم الجنس، فعندما تقول: أكلت تفاحاً لا
يمنع أن تكون أكلت معه موزاً، وهل الإخبار بأكل التفاح يمنع أن تكون أكلت
غيره معه؟ لا، ولكن لم آكل إلا التفاح! هنا جاء الحصر، ومنع أن تكون أكلت
مع التفاح غيره.
لكن عندما تقول: بنى هذا البيت رجل، فمفهوم المخالفة: ليس امرأة، وإذا قيل:
من يوجد في هذا البيت؟ توجد فيه امرأة، ومفهوم المخالفة: أنه لا يوجد فيه
رجل، فإذا قلت: فيه امرأة، قالوا: هنا مفهوم الصفة، ومفهوم الصفة له عكسه،
وينفى عنه الحكم، تقول: الصغير لا تكليف عليه، إذاً: الكبير عليه تكليف؛
لأن مفهوم صفة الصغير عكسها الكبير، فيكون له عكس الحكم.
وأنصح الإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في هذه النقطة -وهي موضع خلاف عند
الأصوليين- لأضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
* رِجَالٌ} [النور:36-37] ، بعض الناس يقول: هذا مفهومه مفهوم اللقب، ولا
يمنع أن يسبح له فيها نساء، والشيخ يقول: التحقيق: أن المفهوم هنا مفهوم
صفة لا مفهوم لقب؛ لأن حضور الجماعات وإقامة الصلاة في المساجد إنما هو من
خصائص الرجال، فكون المرأة تحضر لا بأس وتصح صلاتها، ولكن صلاتها في بيتها
خير من حضورها المسجد، إذاً: هي ليست مرادة أصالة في هذه الآية الكريمة،
لمجيء امرأة من بني سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول
الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت ولكن صلاتك في مسجد قومك خير من
صلاتك معي) ؛ لأن فيه تقريب المشوار، واختصار الطريق (وصلاتك في عقر دارك
خير من صلاتك في مسجد قومك) ، فإذا كان هذا شأن المرأة فهل يناط بها الحكم
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ؟، ولكن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله) ، وجعل لها شروطاً.
وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تنبه هنا: أنه نهى عن عقبة الشيطان، لكن
نهى من؟ لم تعين المنهي المتوجه إليه النهي، فيكون عاماً في الرجال
والنساء، ولكن في افتراش السبع قالت: (نهى الرجل) ، إذاً: المرأة لها حكم
آخر، وما دامت المرأة لها حكم آخر، فذكر الرجل مفهوم صفة له عكس الحكم؛
ولذا اتفق العلماء على أن المرأة لا تفعل كما يفعل الرجل في الصلاة، الرجل
يجافي بين عضديه، وبين منكبيه وعضديه، ويكون هناك فجوة، وإن كان بعض الإخوة
ربما بالغ في ذلك، إذا صلى في الجماعة تمدد بيديه ونزل على كفيه، وجنح
بيديه يميناً ويساراً فيضايق من بجواره، وليس الأمر كذلك؛ إن كنت منفرداً
فلا بأس وافعل ما شئت، لكن مع عدم الخروج عن اللياقة، وإن كنت في الجماعة
فيجب أن تحافظ على الجماعة الذين يصلون عن يمينك ويسارك، فالسنة في الرجل
مهما كان ألا يلصق منكبه بجانبه، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها وتفرش
ذراعها، فالمرأة حكمها: أن تفترش الذراعين وتضمها إلى ضبعيها؛ لأن في
تفريجها شيئاً من إظهار جسدها، أما ضمها نفسها ففي ذلك زيادة في تسترها.
إذاً: نهي الرجل خاص به، بخلاف المرأة فلها أن تفترش افتراش السبع، ويكون
ذلك نوع من سترها في صلاتها، وكما يقال: كل له حكمه.
كيفية التسليم
قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم يختتم الصلاة بالتسليم) وهنا مبحث من
جهتين: كيفية التسليم، ونوعيته.
تسلم بعد التشهد والدعاء الذي يسره الله لك، أو ما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم في الدعاء بعد التشهد، مثل التعوذ بالكلمات الأربع: (اللهم إني أعوذ
بك من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح
الدجال) وقد قال ابن حزم: إنها فريضة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر
بهذه الكلمات الأربع، وبعضهم يقول: إنها من التوجيهات والتعليمات لما يقال
من الأدعية في الصلاة، وبعضهم يقول: إذا انتهيت من التشهد وذكرت الدعاء
الوارد تمت صلاتك، وتخرج كيف شئت، والجمهور على أن المصلي لا يعتبر خرج من
صلاته وأتمها إلا بالتسليم، وهذا نص الحديث: (كان يفتتح الصلاة بالتكبير
ويختتمها بالتسليم) ، وهنا كيف يسلم؟ هناك من يقول: يكتفي بسلام واحد،
فيجلس مستقبلاً القبلة ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، وبعضهم يقول: لابد
أن يسلم عن اليمين وعن اليسار، فإن كان في الجماعة فعن يمينه أخ مسلم، وعن
يساره أخ مسلم، فيسلم على من بجانبيه، وإذا كان منفرداً أو في الخلاء وليس
عنده أحد فإنه يسلم على الملائكة؛ لأن الملائكة تحضر صلاته، وقالوا:
الكيفية أن يبدأ بالسلام: السلام عليكم -ويبدأ بالالتفات يميناً- ورحمة
الله، ويعود إلى ما كان عليه، ويبدأ بالسلام عن اليسار أيضاً مستقبلاً
القبلة، ثم يلتفت يساراً ويكمل الصيغة في السلام.
وأما عن حكم السلامين معاً: فكلاهما واجب؛ لأنهما ورد عنه صلى الله عليه
وسلم، حتى قيل: (كان يلتفت حتى نرى بياض خديه) ، إذا التفت يميناً رءوا
بياض الخد اليمين، وإذا التفت يساراً رءوا بياض الخد اليسار، إذاً: هناك
التفاتة وصورة واقعية، وكانوا يجعلون السلامين معاً.
وهناك من يقول: الأول فرض وبها يخرج من الصلاة، والثاني سنة، وعلى كل سيأتي
تفصيل السلام في آخر الباب، إلا أنه كما تقدم في هذا الحديث عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها أوردت لنا صفة صلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم إجمالية: يفتتح الصلاة بالتكبير، وما قالت ما هي صيغة التكبير.
وكان يفتتح القراءة بالحمد، ولم تفصل لنا ما هي القراءة.
وإذا ركع، وإذا رفع، وجلس بين السجدتين، ثم نهى عن كذا وعن كذا، ويختتم
الصلاة بالتسليم، ما هو نوع التسليم؟ لم تفصل، وأشرنا إلى أن هذا الأسلوب
من الإجمال؛ ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، وهو من أرقى أنواع الأساليب
البيانية؛ لأن في الإجمال إيجازاً واختصاراً؛ فيقع هذا المجمل في ذهن
السامع، ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، ونستطيع أن نقول: هذا منهج الفقهاء، فهم
يكتبون المتن مجملاً، ثم يأتي بعد ذلك الشرح مفصلاً، وبعض يزيد بالحواشي.
إذاً: يهمنا الأسلوب العلمي الناجح القريب السهل، وهو أن يؤتى بالموضوع
مجملاً ثم يؤتى به بعد ذلك مفصلاً، وهذا ما سلكته أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها، وكل جزئية من تلك الجزئيات إما أن تقدم بيان لها، وإما أن
يأتي لها تفصيل وتحقيق وزيادة روايات في بيانها تفصيلياً.
شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا
افتتح الصلاة ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع
رأسه من الركوع) ، متفق عليه.
وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم
يكبر) ] .
هذه التكبيرات في حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقولون عنها: تكبيرات
الانتقال، ورفع اليدين عندها سنة، والتكبيرات واردة عند الانتقال من كل ركن
في الصلاة ما عدا الرفع من الركوع، فإن الذكر فيه: (سمع الله لمن حمده) ،
(ربنا لك) أو (ربنا ولك الحمد) ؛ على كلا الصيغتين.
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى
رفع يديه حذو منكبيه) ، والمحاذاة: المقابلة، والمنكبان هما: الكتفان عن
اليمين واليسار، فيرفع يديه حذوهما، ولا يرفعهما عند رأسه، ولا ينزلهما عند
صدره، وذلك في ثلاثة مواضع: عندما يفتتح الصلاة، وتقدم أيضاً في الصلاة،
وسيأتي زيادة إيضاح في رواية: (حذو منكبيه) ، ورواية: (أوائل أذنيه) ،
وأوائل الأذنين في الرأس، وأعلى الأذنين أي أواخرهما في الأعلى عند الرأس،
ولا خلاف بين رواية: (حذو المنكبين) ، وبين رواية: (أوائل الأذنين) ؛ لأن
من لاحظ الكف نظر لمحاذاة الكف إلى المنكب، ومن نظر إلى أطراف الأصابع فلن
تذهب الأصابع إلا إلى أوائل الأذنين، فقيل: الروايتان تصدق كل منهما
الأخرى، فهذا نظر إلى أدنى الكف، وهذا نظر إلى أعلى الأصابع، فأدناه منكبي
الإنسان وأعلاه أدنى الأذنين، هذا في الموطن الأول.
(كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة) ، وإذا افتتح الصلاة يقول:
الله أكبر، وتقدم شيء من التنبيه على ما يقوله العلماء في افتتاح الصلاة،
يقول: الله أكبر، فلدينا نطق باللسان: تكبير، وحركة باليدين: رفع، وهل هما
متلازمان أم أن أحدهما يسبق الآخر؟ تقدم بأنهما معاً سواء؛ فيبدأ بلفظ
الجلالة عند بداية الحركة، ويشغل زمن الحركة بالتكبير.
الموطن الثاني: إذا كبر للركوع، فإذا أراد أن يركع رفع يديه، ويكبر إذا
أراد أن يركع، وهذه تكبيرة الانتقال، والأولى تكبيرة افتتاح، ونلاحظ في كتب
الفقه التدقيق، فلو أن إنساناً كان متأخراً وأدرك الإمام ليركع وركع معه،
فكبر، هل نوى بتكبيرته تلك افتتاح الصلاة أو الانتقال والهوي إلى الركوع؟
إن نوى بتكبيرته افتتاح الصلاة فقد افتتح الصلاة وجاء بالتكبيرة التي هي
افتتاحية الصلاة وواجبة، وإن نوى الدخول في الركوع وتكبيرة الانتقال فلا
تجزئه، وإن نوى الأولى اندمجت معها تكبيرة الانتقال، وسيأتي هذا في الذي
يدرك الإمام راكعاً ماذا يكون حاله؟ إذاً: يرفع يديه حذو منكبيه مع التكبير
عند افتتاح الصلاة، ويكبر عند الهوي إلى الركوع.
(وإذا رفع رأسه من الركوع) ، الوارد في الرفع من الركوع: (سمع الله لمن
حمده) ، وهنا ابن عمر يريد رفع اليدين لا التكبير، فالمراد أن رفع اليدين
ورد في ثلاثة مواطن: عند تكبيرة الافتتاح، والتكبير للركوع، ورفع الرأس من
الركوع.
إذاً: في الافتتاح: الله أكبر، ويقرأ، وعند الركوع: الله أكبر، ويرفع يديه
ويركع، وكذلك عند الرفع من الركوع، وليس معنى ذلك أنه يكبر ويرفع، لا،
المراد أن هذا هو الموطن الثالث الذي ترفع فيه اليدان عند الانتقال، وهو
الرفع من الركوع، لكن هل يكبر عند الرفع؟ لا.
والوارد في ذلك: (سمع الله لمن حمده) ، يقولها المنفرد، ويقولها الإمام،
أما المأموم فله أن يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وله أن يكتفي
بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ويجيب على ذلك: ربنا ولك الحمد.
والواو مجيئها وعدم مجيئها نقطة بلاغية، ويتفقون على أن زيادة المبنى تدل
على زيادة المعنى، فالذي يقوله الإمام: سمع الله لمن حمده، ويقول من خلفه:
ربنا لك الحمد، إجابة على قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فأنا حمدته وسمع،
والذي يقول: ربنا ولك الحمد، الواو عاطفة على تقدير معنى جديد، ربنا استجب
لنا ولك الحمد على استجابتك لدعائنا أو لتحميدنا.
وبعد حركة الرفع من الركوع يأتي الهوي إلى السجود، هل يرفع يديه للهوي إلى
السجود؟ الحديث لم ينص عليها، ولم يصفها ولم يقل فيها شيئاً.
فإذا سجد وأراد أن يجلس بين السجدتين هل يرفع يديه كما رفع عند الرفع من
الركوع؟ ما ثبت شيء من هذا في هذا الحديث، وهل في تلك الحركات رفع لليدين؟
لا.
ولكن وردت حركة أخرى غير تلك الثلاث ألا وهي: حينما يقوم من تشهده الأوسط،
وهي قاعدة يذكرها الفقهاء: عند قيامه لركعة وتر في صلاته، وركعة الوتر في
صلاته هي الثالثة من الرباعية أو الثلاثية، فإذا أنهى التشهد الأول وأراد
أن يقوم للركعة الثالثة؛ سواء كانت هي الأخيرة في المغرب أو الثالثة في
الرباعية، فحينئذٍ يستوي قائماً للركعة الثالثة ويرفع يديه حذو منكبيه؛
لأنها في منزلة الصلاة الجديدة، لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين،
فأقرت في السفر وأتمت في الحضر، وعلى هذا جاءت السنة، والقول برفع اليدين
عند هذه المحلات الثلاث هو قول الجمهور، وهناك من يعارض فيها، وصاحب سبل
السلام يعزو ذلك للهادوية، ويرد عليهم رداً شديداً، ويعرض بمن يقول بعدم
رفعها، أو من يقول: إنها حركات زائدة تبطل الصلاة، ولا عبرة لشيء من هذا
كله ما دام أن النص قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة
رضوان الله تعالى عليهم.
قال: [وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه
ثم يكبر) .
ولـ مسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال: (حتى يحاذي بهما
فروع أذنيه) ] .
المؤلف رحمه الله يعدد هذه الروايات ليستكمل صورة رفع اليدين إلى حذو
المنكبين، وفروع الأذنين، وكل ذلك في منطقة واحدة، وكل الروايات يؤيد بعضها
بعضاً ولا خلاف بينها.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [5]
ضم اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنن الثابتة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في مشروعيته، فالجمهور يقولون بالضم، بينما
الإمام مالك لا يرى الضم، وهذه المسألة ومثيلاتها فيها دلالة على لزوم
معرفة وجهة نظر المخالف، وعدم التشنيع عليه في المسائل الاجتهادية.
شرح حديث: (صليت مع
النبي فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [وعن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله
عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) ، أخرجه ابن خزيمة] .
وائل بن حجر له خصيصة من بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم تكن
العادة أن نترجم لأحد، وإنما نحفظ أسماءهم فقط ولا نذكر تراجمهم، لكن يلفت
النظر هنا: أن وائل بن حجر من أبناء ملوك حضرموت، وأخبر صلى الله عليه وسلم
عن مجيئه قبل أن يصل، فقال: (يأتيكم وائل بن حجر وهو من بقايا أبناء
الملوك، جاء راغباً طالباً يبتغي فضل الله، وجاء إلى الله وإلى رسوله
راغباً في الإسلام) ، ولما وصل أفسح له النبي صلى الله عليه وسلم في
المجلس، وافترش له رداءه وأجلسه عليه، لماذا؟ في السنة النبوية مناهج
عديدة، ونأخذ من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم،
وليس في هذا محاباة ولا مغايرة، ولكن إكراماً، ويذكرون عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها أنه أتاها مسكين فأعطته كسرة خبز، ثم أتاها رجل ذو
هيئة يسأل، فأجلسته وقدمت له طعاماً، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن ذاك يكفيه
تلك الكسرة، وهذا ممن يصدق فيهم قوله: (أنزلوا الناس منازلهم) .
وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن محاسن الآداب التي علمنا
إياها، ونقول: الأصل أن الناس سواسية! وليس هناك مانع، فهم سواسية فيما
يتساوون فيه، ألا تراهم في صف الصلاة: أمير ومأمور، وغني وفقير، وصغير
وكبير، وكلهم في صف واحد سواسية، ليس هناك اختلاف، ورمضان يأتي على الجميع
فيصومون، لكن في أمور الدنيا هناك أمور يكون التفاوت بسببها؛ ثم أليس في
فعله صلى الله عليه وسلم ترغيباً له؟! هو من أبناء الملوك ويترك الملك
ويأتي وتقول له: اذهب أنت مثل فلان وفلان، أقل ما فيه شيء من المجاملة ومن
الترغيب، وفي تكريمه تكريم لمن وراءه.
ويهمنا أنه يذكر لنا هيئة من هيئات الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذا من حسن ترتيب المؤلف؛ فقد جاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع إذا رفع يديه حذو منكبيه عند
افتتاح الصلاة، ثم عند الركوع، وقبل أن يركع، ونحتاج إلى معرفة موقع اليدين
بعد هيأتهما في الافتتاح، فهل جعلهما حذو منكبيه حتى يركع؟ لا، فإما أن
يسدلهما أو يضمها، فجاء بحديث وائل هنا ليبين لنا موقع اليدين عند القيام.
هيئة وضع اليدين على
الصدر
ذكر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده
اليسرى على صدره في الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس كأنه يخنق نفسه، وكمن
يدليها على بطنه.
ويذكر ابن رشد في (بداية المجتهد) قاعدة فقهية عند قوله: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، وهي: هل العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟
بمعنى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} هل يجزئ أن أمسح أول الرأس أم لابد أن
أذهب إلى آخره؟ وينطبق ذلك أيضاً: أن يأتي إنسان ويقول: فلان له عليّ ألف
ريال أدفعها إليه في رمضان، وفي أي يوم من رمضان؟ لفظ عام، فصاحب الدين في
رمضان قال: أعطني الألف، قال: لا، في آخر يوم من رمضان، فأول يوم يصدق عليه
أنه رمضان، وآخر يوم يصدق عليه أنه رمضان.
إذاًً: العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ الواقع أنها قضية ليست مطردة،
ففي بعض الأشياء لا تحتمل تردد، وفي بعضها تحتاج إلى قيد وتحديد.
وهنا: (يضع اليمنى على اليسرى على صدره) : هل في أول الصدر من جهة البطن أم
في آخر الصدر من جهة العنق؟ يحتمل الحديث الوجهين، ولكن جاءت النصوص الأخرى
بالوضع الطبيعي، لا يرفعها إلى ترقوته، وهو العظم المستدير بالعنق، ومن
بعده الضلوع، فإذا رفعه إلى الترقوة خرج عن الصدر، وإذا نزل عن الضلوع فقد
نزل إلى القفص الصدري ومنه إلى البطن، وتأتي نصوص أخرى: فوق السرة، وعند
السرة، وكلها تدور حول وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
إذاً: نرجع إلى الهيئة المعتادة، والشيء العرفي الذي يتعارف عليه الناس،
والصورة التي ليست مستنكرة، فبعض الناس يكون مسترخي الأعصاب فيضعهما على
البطن، وكأنه تعبان أو كسلان، وبعضهم يضعها وكأنه لا يستطيع أن ينهض، وبعض
الناس يتعنت ويتشدد ويضع الأصبع على الأصبع، وبعضهم يذهب إلى نصف الساعد،
وبصورة لو رأيتها تستنكر أن تكون هذه هيئة للصلاة.
والأمر الوسط هو الوضع على وسط الصدر، وألا يكون على هيئة مستنكرة.
خلاف المالكية في
الضم
وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة يتفق عليه أصحاب المذاهب الثلاثة: أبو
حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، أما مالك رحمه الله وهو إمام المذهب
المالكي فإنه ينص على ذلك في الموطأ، فهو مذهبه، وأعتقد أن أسانيد أحاديث
الموطأ فوق التهمة وفوق البحث والتنقيب عنها، وإذا ذكر مالك فهو النجم،
والحديث الوارد عندنا هنا في السنن، فإذا كان مالك رحمه الله يذكر ما يسمى
بالقبض في الصلاة، ومع هذا نجد بعض المالكية يقول: هذا في النوافل وليس في
الفرائض، فله أن يقبض في النافلة ولكن يسدل في الفريضة، ولماذا؟ يروون في
ذلك أثراً عن مالك، وأنه في رواية عنه سدل اليدين، أو أنه صلى سادلاً لهما،
وأنه سئل عن القبض فقال: لا أدري، وكل هذه الأخبار ناقشها ابن عبد البر وهو
من كبار أئمة المالكية، ثم نصر القبض، جاء آخر وقال: يفعل ذلك في النافلة
وفي الفريضة بشرط: أن يفعل ذلك في الفرض استناناً، أي: عملاً بالسنة -لأن
أمامه الحديث كالجبل، وهو في الموطأ، ولا يستطيع أن يحيد عنه- ولكن لا
يفعله استناداً، وكيف استناداً؟ تعبان أو كسلان ويسند نفسه بهذا، فيقول: إن
فعلها استناناً وامتثالاً لسنة رسول الله فلا مانع، وإن فعلها استناداً
فهذه حركة زائدة عن الصلاة.
إذاً: نرجع ونقول: لا حاجة إلى هذه التفريعات، وما دام ثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وليس هناك فرق في
الحديث بين نافلة وفريضة، وأخذ بذلك الأئمة الثلاثة، ومالك نص على ذلك في
الموطأ، فلم يبق لهذه المسألة موضع للخلاف فيها، ولكن وجد تدوين هذا الخلاف
في كتب المالكية، ويكون النقاش بين المالكية مع غيرهم، لا مع مالك.
كيفية التعامل مع
الخلافات الفقهية
بهذه المناسبة، ونظراً لآثار الخلاف في الفروع، فقد يتخذ البعض هذه المسألة
بالذات -لأنها واضحة وعملية- سبباً للشقاق والفرقة بين المسلمين، ونسمع من
الإخوة الأفارقة أنه في بعض الأماكن يوجد هناك الخصومة، أو النزاع، وقد
يكون هناك التبديع، لماذا؟ لأنه خالف المذهب أو الإمام، أو لأنه خالف
الحديث؛ لأن الحديث يقول بالقبض، وهم يقولون بالسدل.
أقول: هذا الوضع وهذه الكيفية هيئة من هيئات الصلاة، وبإجماع المسلمين
ومنهم أئمة المذاهب الأربعة أن الفريضة والنافلة صحيحة؛ سواء قبض اليمنى
على اليسرى أو سدل اليدين بجانبيه، فإذا كانت الصلاة صحيحة على كلا
الحالتين فلماذا نختلف ونفترق، ونجعل جزئية فقهية في فرع من فروع الإسلام
سبباً للخلاف والشقاق والخصومات والفرقة؟ هذا غرض عدو الإسلام، أن يشغل
المسلمين بجزئيات عن أساسيات الدين، سواء عن جهاد، أو صلاة بعينها، أو طلب
العلم حقيقة، أو بحث العقائد والتوحيد وضرورة ذلك، ويشغلهم بجزئية يدورون
فيها، وخصومات، لماذا هذا كله؟ لا حاجة لهذا.
حكم الضم بعد الرفع
من الركوع
في هذا الحديث يقول الراوي فيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده
اليمنى على اليسرى على صدره، ولكن متى يضع؟ نجد الجمهور يتفقون على أن هذا
الوضع على الصدر بعد تكبيرة الإحرام حين القراءة قائماً، ثم جد أمر جديد،
وهو بعد الرفع من الركوع هل يضع اليمنى على اليسرى على صدره أو يرسل يديه؟
هذه مسألة جديدة، وسبق أن طلبت من الإخوة طلبة العلم أن ينقبوا في بطون
الكتب الفروع والأصول، والحديث، والتفسير، وأصول الفقه، والفقه؛ ليوجدوا
لنا نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً ولا أقول صحيحاً؛ فلو
وجدوا ضعيفاً لقبل؛ فلم يجدوا نصاً صريحاً بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضع
اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع.
إذاً: توجد مواضع في الصلاة لا توضع اليمنى على اليسرى فيها، وإنما توضع
اليدان في مواضع منصوص عليها: أما في الركوع فيلقم يديه ركبتيه، أما في
السجود فيضع يديه على الأرض، أما في جلسة التشهد فيديه على فخذيه.
إذاً: بقي عندنا الموضع الذي يمكن أن توضع اليمنى على اليسرى فيه في
الصلاة: إما قائماً للقراءة، وإما بعد الرفع من الركوع؛ فهل كان يضعهما في
الموقفين أم في موقف واحد؟ نختصر الطريق، وأمامنا أئمة أجلاء أوسع مجالاً،
وأتقى لله، وأصفى أذهاناً، وأطهر قلوباً، وأوعى للعلم، وهم أئمة المذاهب
الأربعة، فأولاً مالك: المالكية يقولون: حتى عند القيام للقراءة يسدل يديه،
فإذا كانوا يقولون بالسدل عند موضع الاتفاق فهل يقبضون بعد الرفع؟ هذا
مسقوط من الحساب.
نأتي إلى الأحناف والشافعية -وبدون تفصيل في المذاهب- يقولون: إن وضع
اليمنى على اليسرى بعد الرفع بدعة، ولا أصل له، وبعضهم لم يذكره ولم يتعرض
له.
وأما عند الحنابلة فقد نص صاحب المغني وصاحب الإنصاف على الروايات المختلفة
عن أحمد، فتوجد عن أحمد رواية بوضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الرفع
من الركوع، وإن شاء ترك، وأما صاحب الإنصاف فرجح الترك، ووافق الجمهور في
عدم القبض بعد الرفع من الركوع.
أرجع إلى التنبيه الأول وهو: أن وضع اليدين في القيام للقراءة، أو وضع
اليدين بعد الرفع من الركوع، أو سدل اليدين في الموضعين، لا علاقة له بصحة
الصلاة وبطلانها.
وثم نقطة أخرى: من اختار لنفسه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع لا يحق له
شرعاً أن يعيب من لم يفعل ذلك، أو أن يراه متعصباً جاهلاً، ولا ينبغي أيضاً
لمن لم يفعل ذلك أن ينظر لمن يفعل ذلك بأنه مبتدع، أو بأنه متعصب، والمسألة
خلافية، والخلاف فيها ضعيف جداً، وليس فيها سوى رواية عن أحمد مرجوحة، لكن
قولهم موجود، ولو نظر إنسان في القواعد وفي الأدلة وفي الأقوال واختار
لنفسه، فلا ينبغي أن نعيب عليه، لماذا؟ لأن له سلفاً، ولو أنه مرجوح، ولأن
الأمر لا يتعلق بصحة ولا بفساد.
والذي يهمنا كطلبة علم وكمسلمين في أي عمل من أعمال الصلاة: ألا نتخذ
الجزئيات مثار خلاف ونزاع وتفرق بيننا، هذا في الصف يقبض يديه بعد الركوع،
وإذا سلم نظر لصاحبه كأنه أخطأ! وهذا يسدل يديه بعد الركوع، وبجانبه أخ له
يقبض؛ فإذا خرج من الصلاة لا يسلم عليه! كل اختار لنفسه قولاً بعد أن سمع،
أو قرأ، أو وقف على ما يسر الله إليه، ولعل في هذا القدر كفاية فيما يتعلق
بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
صور وضع اليد في
هيئات الصلاة
لو تفقدنا حالة الصلاة وكيفيتها نجد لكل ركن من أركان الصلاة هيئة: تكبيرة
الإحرام وهي الدخول في الصلاة هيئتها رفع اليدين إلى المنكبين، ولو كبر
سادلاً اليدين أخل بالهيئة في هذا الركن، وبعد تكبيرة الإحرام يأتي ركن
القراءة باتفاق، ويضم يديه خلافاً لبعض المالكية، هيئة الركن الأول حركة
اليدين للمنكبين، وهيئة الركن الثاني القراءة قائماً واليدان على الصدر،
وهيئة الركوع اليدان مقبوضتان على الركبتين، وتكبيرة الانتقال فيها حركة
اليدين إلى المنكبين، وبعد ركن القيام والاعتدال بعد الركوع نعيد اليدين
إلى موضعهما، فيتشاكل هذا المنظر مع المنظر الأول، أو هيئة هذا الركن مع
الذي قبله، أو نسدلهما ليفارق بينهما، وفي حركة السجود اليدان إلى الأرض،
وفي الجلوس بين السجدتين اليدان على الفخذين.
إذاً: بقي حالة الرفع وحالة القيام، فإذا قبضنا بعد الرفع شاكلنا هذا الركن
مع ركن القيام، وإذا سدلنا غايرنا وأعطينا كل ركن هيئته التي تميزه عن
غيره، أرأيت لو أن إنساناً دخل المسجد وإمامه ممن يقبض في الموضعين، ودخل
الداخل والناس قيام، ووجد اليدين على الصدر مع قيام الناس، أيخطر بباله أنه
في القراءة أم قد رفع من الركوع؟ سيظن أنه في القراءة وينتظر الركوع، فهذا
كبر ودخل وأخذ يقرأ على أن الإمام في القيام في الركوع، فإذا به يهوي إلى
السجود، لكن إذا جاء ووجده واقفاً سادلاً يديه يعرف بأن الإمام في الرفع من
الركوع.
على كل هذا القدر والموقف أطلنا فيه، لا لمناقشة صحة وضع اليدين بعد الرفع
من الركوع وعدم الصحة، ولكن للنهي عن اتخاذ هذه الحالة موضع نزاع ونفرة بين
طلبة العلم، والعامة ليس لهم دخل في هذا، فكل يفعل ما تيسر له أو اقتنع به،
والعامة يقلدون غيرهم، إنسان تقول له: اسدل يديك! يقول لك: لا، رسالة عن
الشيخ ابن باز يقول فيها كذا، الحمد لله، ولكن ليس عند العامة أي نظرة
لتغليط الآخرين؛ لأنه يرى أن هذا صوابه، لكن طلبة العلم ربما يكون في
نفوسهم نظرات إلى الآخرين؛ لأنهم يريدون من كل الناس أن يكونوا مثلهم،
والآخرون أيضاً يريدونكم مثلهم، وهذا الذي حملنا على الإطالة في هذه
الجزئية، وإن لم تكن ركناً في الصلاة؛ لأن سلامة الصدور والألفة والتقارب
بين الجميع أهم من هذا كله، وبالله تعالى التوفيق.
شرح أثر: (صليت وراء
أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم)
قال رحمه الله: [وعن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذا الأثر عن نعيم المجمر وهو مولى لـ عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه، ووصف بالمجمر؛ لأنه كان يأتي بالجمر، ويجمر
-أي: يطيب- المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار.
يذكر لنا ما وقع له من صلاة خلف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهذا تتمة
لإثبات قراءة البسملة مع الفاتحة، فيذكر لنا نعيم أنه صلى خلف أبي هريرة
وسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ الفاتحة، وبعد الفاتحة يقول:
آمين.
ثم إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يخبر المأمومين خلفه، و (يقسم على ذلك
ويقول: (إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي
وابن خزيمة؛ لكأنه يقول: ما سمعتم وما رأيتم من صلاتي فليس من عندي إنما هو
اقتداء واتباع، وصورة لما رأيت وسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهكذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ينقلون لمن بعدهم ما أخذوه قولاً
وعملاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تطهير المساجد
وتطييبها
ذكر نعيم المجمر يستوقفنا عند العناية بالمساجد وأنها تطيب، وجاء في
الحديث: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور -كما في
رواية عائشة رضي الله تعالى عنها- وأن تطيب) ، وجاء القرآن الكريم في قوله
سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ} [النور:36] ، ترفع حساً ومعنى: حساً بالبناء، ومعنىً بالتكريم
والحفاظ والصيانة، وإبعاد ما لا يليق ببيوت الله، وجاء في الحديث: (عرضت
علي أعمال أمتي؛ حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، والنصوص في هذا
كثيرة، وأعظم من هذا كله ما جاء في كتاب الله من عناية المولى سبحانه
بالبيت الحرام؛ بما عهد به إلى الخليل وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة
والسلام في هذا الباب، فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، حيث أن عباد الله يأمون بيوت الله
لعبادة الله؛ فيجب أن تتوافر لهم عوامل الراحة والطمأنينة، وأن تنزه
المساجد عن كل ما يشوش على المصلي، (طهرا) : حساً ومعنىً من الأوثان ومن
غير ذلك مما يغاير معتقد المسلمين، ويكدر خاطرهم.
وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى امرأة مجذومة
تطوف بالبيت فهمس إليها: يا أمة الله! لو جلست في بيتك لا تؤذي الناس،
فانصرفت حالاً ولم تكمل شوطها، وبعد أن توفي عمر رضي الله تعالى عنه أتاها
آتٍ فقال: اخرجي! إن الذي كان قد منعك قد مات.
فقالت -وتعطي العالم درساً في السمع والطاعة وحقيقة الامتثال-: ما كنت
لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً.
هكذا الأمة تحترم الكلمة، وتحترم العلم والعلماء، وتوقرهم في الحياة
والممات.
وقد سمعت من ينقل عن الشافعي رحمه الله أنه حينما دخل بغداد إلى محمد بن
الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله قالوا: إنه صلى في الأعظمية، أي: محلة
الإمام الأعظم، وهي نسبية أي: بالنسبة للأئمة المذهب الحنفي: محمد وزفر
وأبو يوسف وأبو حنيفة، يقولون: إنه صلى الصبح ولم يقنت، فقالوا: لم تركت
القنوت في الصبح وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لـ أبي حنيفة رحمه الله، أو
احتراماً لصاحب هذا القبر، وهذه آداب فوق المستوى، وهكذا ينبغي احترام
الرأي، واحترام الكلمة والعلم، وتوقير العلماء.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم إيذاء الناس والملائكة: (من أكل من هذه
الشجرة -البصل أو الثوم- فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى
منه الإنسان) ، وفرع العلماء على هذا: كل ذي رائحة مؤذية مطلقاً، وعلماء
العصر الحاضر يمثلون ذلك برائحة التبغ والدخان، وبعضهم ينبه على الجوارب
إذا طالت مدته، وكثر فيه العرق وعفن، وبعض الفقهاء يقول: صاحب الجرح الذي
أنتن، وصاحب ثوب المهنة إذا كانت له رائحة، ومن هنا نجد الأمر بالاغتسال
يوم الجمعة.
ويروي الشافعي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة قالت: (كان الغسل للجمعة في
أول الأمر واجباً كغسل الجنابة) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها قالت: (كان الناس في أول الأمر يلبسون الخشن من الثياب، وهم في أرض
حارة، ويزاولون أعمالهم بأنفسهم؛ فيأتون وقد فاحت منهم روائح العرق، فأمرهم
أن يغتسلوا، ثم لما وسع الله عليهم، وجاءتهم العلوج، وكفتهم مئونة العمل؛
صار الغسل يوم الجمعة سنة) ، وذلك نظراً للحديثين: (غسل يوم الجمعة واجب
على كل محتلم) ، يعني: من بلغ سنه الحلم، لا لمجرد الاحتلام؛ لأن الاحتلام
موجب للغسل مطلقاً.
ثم جاء الحديث الآخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل
أفضل) ، وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم على العناية بالمظهر والمخبر في
المجتمعات العامة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ
ثوباً لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، ثوب المهنة اجعله للمهنة، جزار أو حداد أو
في أي عمل كان، قد يكون الثوب طاهراً، ولكن قد يؤذي الجليس أو المجاور، فلا
ينبغي أن يؤذي الناس بمثل ذلك، وكما روى البخاري في الأدب المفرد: (حسن
السمت جزء من النبوة) .
والعناية بالمساجد عناية بالمسلم وبالإسلام، وهي تعظيم لحرمات الله، فها هو
نعيم كان يجمر المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار، وحث النبي صلى الله
عليه وسلم المسلم إذا غسل واغتسل أن يصيب من طيب أهله، وقد كانت امرأة تقم
المسجد فمرضت، فسأل صلى الله عليه وسلم عنها فقالوا: إنها مريضة مرضاً
شديداً، فقال: (إذا ماتت فآذنوني) ، فماتت ليلاً ودفنوها، ولما أصبح صلى
الله عليه وسلم سأل عنها قالوا: إنها ماتت ودفناها ليلاً، فقال: (ألم آمركم
أن تؤذنوني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك بالليل، قال: دلوني على قبرها) ، ثم
ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبرها، وصلى عليها بعد أن دفنت، لأي شيء؟
لخدمتها للمسجد.
وهكذا ينص المؤلف هنا على عمل هذا الراوي بأنه كان يجمر المسجد يوم الجمعة،
ولا زالت السنة في هذا المسجد إلى اليوم، وللمجمرة في هذا المسجد النبوي
ميزانية خاصة للعود، بل كانوا في أوائل الستينات يؤتى بالمجامر في صلاة
التراويح وتجمر الصفوف بين كل ركعتين.
إن العناية بالمساجد باب واسع لنظافتها وصيانتها من العبث، بل بوب البخاري
رحمه الله: (الغلق للمساجد) ، وساق حديث الكعبة ومفتاح الكعبة.
سنية التأمين في
الصلاة
يذكر لنا المصنف هذا الحديث عن أبي نعيم رضي الله تعالى عنه أنه صلى وراء
أبي هريرة فسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ومبحث بسم الله الرحمن
الرحيم وهل هي من الفاتحة تقدم الكلام عليه، والجديد في هذا الحديث: أنه
إذا فرغ من قراءة الفاتحة يقول: آمين.
ومبحث التأمين في الصلاة قد أخذ حيزاً أيضاً ليس بالقليل، وناقشه كثير من
علماء الحديث والتفسير، فتجدون أن القرطبي وابن كثير قد أفردا له فصلاً
خاصاً في تفسير سورة الفاتحة، وأوسع من تكلم عنها في كتب الحديث لعله ابن
حجر في فتح الباري فيما بوب عليه البخاري: (الإمام يجهر بآمين) .
وجاء في فضل (آمين) نصوص سيذكر المؤلف بعضاً منها، فمما جاء فيها عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ما حسدتكم يهود ما حسدتكم على آمين، وفي صفوف الصلاة، وفي السلام) ،
أي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعض الروايات تزيد: (وفي الجمعة،
ضاع عليهم يوم الجمعة، وهديتم إليه) ، فقد بين صلى الله عليه وسلم: أن
اليهود والنصارى أضاعوا يوم الجمعة، فاختار اليهود السبت، واختار النصارى
الأحد، وهدى الله المسلمين إلى يوم الجمعة، وكذلك ضيعوا موعد الصيام
بالتقديم والتأخير.
إلى آخره.
وجاء في (آمين) أيضاً عند البخاري وغيره: (إذا قال الإمام: ولا الضالين،
فقولوا: آمين) ، أو: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا) ، وكلها تلتقي عند معنى
واحد؛ (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ويبحثون
في تأمين الملائكة، أي نوع من الملائكة هم، وأية موافقة؟ قيل: الملائكة هم
الحفظة الذين مع الإنسان يكتبون عليه أعماله، وقال الجمهور: الملائكة، عالم
السماء عامة، وجاء اللفظ صريحاً: (من وافق تأمينه تأمين من في السماء) ،
يعني: الملائكة، والموافقة كما يصححه الباجي: إنما هي في الزمن، وغيره
يقول: وافق تأمين الملائكة في الإخلاص في الاجتهاد في حسن النية.
إلى آخره، ولكن كما بين الباجي وغيره: يصعب أن تكون الموافقة تامة في ذلك،
ولكن الذي يمكن أن تكون هي الموافقة الزمنية.
إذاً: قول القارئ خلف الإمام: (آمين) ثابت بالسنة، والشوكاني في نيل
الأوطار يذكر عشرة أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في التأمين،
ويقول: وثلاثة أخبار عن الصحابة موقوفة عليهم، ومما جاء موقوفاً: أن عبد
الله بن الزبير كان يقول: آمين، وكان من خلفه يقولون: آمين، حتى يسمع
للمسجد رجة، وجاء أيضاً عن أم المؤمنين عائشة في هذا المسجد، وسيذكر المؤلف
رحمه الله النصوص الواردة.
أما موقف العلماء من قول المأموم: (آمين) ، فيذكره شراح الحديث والمفسرون:
أما الشافعي وأحمد رحمهم الله فيقولان: يقولها المأموم والإمام جهراً في
الجهرية وسراً في السرية، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: لا يقولها
الإمام، ولكن يقولها المأموم، وعن مالك رحمه الله روايتان: رواية توافق
الشافعي وأحمد، ورواية توافق أبي حنيفة بأن الإمام لا يقولها، والروايتان
بحسب علماء الأمصار، أما علماء المدينة فيروون عن مالك مثل الشافعي، أما
أهل الكوفة ومصر فينقلون عن مالك: أن الإمام لا يقولها وإنما يقولها
المأموم، وما عدا ذلك من الأقوال فهو خارج عن دائرة الأئمة الأربعة، ولا
حاجة إلى إطالة الكلام فيها.
يقول الشوكاني وابن عبد البر: النصوص الواردة تدل على أنها مشروعة، وأنها
سنة، وأن الإمام والمأموم يقولانها، ويتحرى المأموم تأمين الإمام ليكونا
معاً في وقت واحد؛ ليوافق ذلك تأمين الملائكة.
معنى قول: (آمين)
وموضعها
أما قول: (آمين) ففيها لغتان: الأولى المد (آمين) ، والثانية القصر (أمين)
، وبعضهم ينقل لغة ثالثة هي: (آمّين) بتشديد الميم، ولكنها شاذة وإن صحت
لغة، إلا أنها لا تتفق مع السياق والمعنى، لأن (آمّين) بمعنى قاصدين، كما
قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، والجمهور
على أن معنى (آمين) : اسم فعل بمعنى استجب، أي: استجب الدعاء المتقدم؛ لأن
الفاتحة حمد لله، ثم نعته بصفات الجلال والجمال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] ، ثم تأتي أعظم
مسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
[الفاتحة:6-7] ، فهذه مسألة عظمة تتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا
والآخرة، وهي منهج المسلم في حياته.
والسر في كون تأمينك يوافق تأمين الإمام مع الملائكة: أن تكون مترقباً
القراءة لست غافلاً ساهياً عما يقرأ الإمام، فتكون متابعاً للإمام من أول
تكبيرة الإحرام إلى أن يفتتح القراءة، وتتابعه كلمة كلمة، آية آية؛ حتى
تكون مترقباً لقوله: (ولا الضالين) ، فتنطق بـ: (آمين) .
وعندما يسمع المأموم الإمام يقول: (ولا الضالين) لا ينتظر حتى يقول الإمام
آمين؛ لأنه إن انتظر فاتته موافقة الإمام، إذاً: آمين بمعنى استجب، وآمّين
قالوا: قاصدين الهداية إلى الصراط المستقيم، لكن المشهور ما عليه الجمهور
وهو أن التأمين إنما هو بدون تشديد الميم، فهو: إما أن يكون بالمد وهو ما
عليه الجمهور، وإما أن يكون قصراً كما يرويه البعض.
وينبه بعض العلماء على أن المأموم إذا قرأ وكان منفرداً، أو أن الإمام إذا
قال: (ولا الضالين) يفصل بين نون (الضالين) وبين مد (آمين) ، لئلا يظن
الظان أن آمين جزء من الآية؛ لأنها ليست من السورة.
وجاء عنه صلى الله علي وسلم أنه قال: (أهدى إليّ جبريل آمين بعد الفاتحة) ،
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وأمنّ ببيان من جبريل عليه
السلام، وأمر الناس أن يقولوا: آمين، على ما تأتي النصوص الواردة عند
المؤلف رحمه الله.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [6]
قراءة سورة الفاتحة هي العمل الثالث في الصلاة بعد التكبير ودعاء
الاستفتاح، وهي ركن بدونه لا تجزئ الصلاة، يضاف إلى ذلك استحباباً ما ورد
عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قراءة سور زيادة عليها؛ فقد كان يطيل بحسب
الصلاة سرية أو جهرية وبحسب من خلفه من الناس، ورغم كل ما تحمله هذه السورة
من معان عظيمة إلا أن الشرع قد رخص لمن أسلم ولم يتسع الوقت له لحفظها
ودهمه وقت الصلاة أن يأتي بدلاً منها بأذكار تتضمن ما فيها من حمد وثناء
ودعاء لله عز وجل.
شرح حديث: (إذا
قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن واله وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى
آياتها) ، رواه الدارقطني وصوب وقفه] .
نعلم جميعاً أن ابن حجر من أئمة الشافعية، وهم من أشد الناس في إثبات الجهر
بالبسملة؛ ولهذا يورد نصوصاً عديدة ليثبت مذهبه، فهذا الحديث: أن أبا هريرة
يقول -ورفعه إلى رسول الله-: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن
الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها) ، ثم بين ابن حجر بأمانة العالم من روى هذا
الأثر، وبين بأن الصحيح وقفه على أبي هريرة، وفي المصطلح: أن الحديث
المرفوع هو ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم صادراً عنه، والموقوف هو
ما قاله الصحابي وليس معزواً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا
الموقوف عند العلماء قد يأخذ حكم المرفوع؛ وذلك حينما لا يكون للرأي
والاجتهاد فيه مجال، ولا يتأتى الإتيان به من عند نفسه، كما لو كان من
أخبار يوم القيامة، أو من أخبار الماضين وبعيداً عن الإسرائيليات، أو عملاً
يترتب عليه جزاء وثواب معلوم؛ فلذا قالوا: لن يتأتى لإنسان أن يخبر به من
عنده، ولابد أن يكون سمعه من النبي، ولو لم يقل فيه: قال رسول الله! وأما
هذا الحديث فقد صح عند علماء الحديث أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه، وإذا كنا في معرض خلاف بين قراءة البسملة في الفاتحة وعدم
قراءتها، وجاءنا عن أبي هريرة حديث موقوف فما موقفنا؟ كما لو جاءنا أبو
هريرة اليوم ووقف على المنبر وقال: يا مسلمون! إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا
بسم الله الرحمن الرحيم فإنها آية منها، هل هناك شخص يستطيع أن يقول له: من
أين أتيت بهذا يا أبا هريرة؟ لا يستطيع، وليس له حق في ذلك؛ لأنه صلى خلف
النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولما
انتهى من صلاته قال: (والذي نفسي بيده! إني لأشبهكم بصلاة رسول الله) ،
فذاك الحديث يقوي هذا.
وإن لم يكن سمعه من رسول الله فقد سمع ما يؤيده، فلما ذكر صلى الله عليه
وسلم أعظم سورة قال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم) ، والفاتحة لا تكمل
السبع إلا بالبسملة، فسواء قاله استنتاجاً من هذا الحديث أو سماعاً من رسول
الله، ولم يذكر رسول الله في الرواية، أو أنه مرفوع لكن كما قال المؤلف:
الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة، وهذا مما يؤيد ما قال به المؤلف والجمهور
من أن البسملة آية من سورة الفاتحة.
شرح حديث: (قل: سبحان الله ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً،
فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا
الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، الحديث رواه
أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم] .
المؤلف رحمه الله بعد مبحث قراءة الفاتحة بما معها من البسملة والتأمين
يأتي بهذا الحديث الذي فيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن، وكأن الرجل علم بأن الصلاة لابد فيها من
قراءة قرآن، فقال: أنا لا أحسن ماذا أفعل؟ ولعله سمع خبر المسيء في صلاته:
(فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، المهم أنه علم، ووجد في نفسه
العجز عن هذا، فهل قال له رسول الله: لا صلاة إلا بعد أن تحفظ؟ لا، فسماحة
الدين ويسر الإسلام، ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل لا
تتناسب مع هذا الموقف، وهل سيظل طوال عمره عاجزاً أن يحفظ الفاتحة؟ ليس
بمعقول، فهذا عربي وذكي ويحفظ، فهو يحفظ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله
إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والفاتحة
سبع آيات، وهذه خمس جمل، ويمكنه أن يحفظها، لكن في الوقت الحاضر هل يترك
الصلاة حتى يحفظ؟ لا، وهكذا التيسير في التعليم، والتدرج مع الجاهل، فالذي
يجزئ في الصلاة نيابة عن الفاتحة هو هذا.
الفاتحة كلام الله، والرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى حال الرجل، ونستطيع
أن نقول: الفاتحة كتاب الله، وهي سبع من المثاني والقرآن العظيم، وفي حديث
أُبي: (لن تخرج من هذا المسجد حتى أخبرك بأفضل سورة نزلت في التوراة
والإنجيل والقرآن) ، فتباطأ في المشي خوفاً من أن تفوته، (قال: فاتحة
الكتاب) ، أي: أنها أفضل ما نزل في الكتب السماوية.
إذاً: البديل عن هذا ماذا يكون؟ أعلى ما يكون في المنزلة من الذكر والدعاء،
وهذا شيء بديهي، يعني: لو أن إنساناً مطالب بجنيه ذهب فعجز عنه فهل يأتي
بحصاة؟ لا، لكن بفضة، أو بحديد أو نحاس.
بالتدريج، قال علمني ما يجزئ، أي: ما يقارب الإجزاء بدلاً عن الفاتحة، قال:
(قل: سبحان الله، والحمد لله.
إلخ) .
معنى التسبيح
والتحميد والتهليل والتكبير
هل تعلمون مكانة سبحان الله والحمد لله؟ ورد في نصوص خاصة بها: (كلمتان
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله
وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وقدمنا مراراً بأن العبرة ليست بمجرد خفة
اللسان، فالببغاء يقولها، ولكن يجب أن تربط اللفظ بمحتواه، كما يقول علماء
العربية: الألفاظ قوالب المعاني، فالمعاني جواهر توضع في ألفاظ تصونها،
فإذا كانت لديك جوهرة نفيسة أو حجر كريم غالي من زمرد أو ياقوت هل تضعه في
علبة كبريت وتضعه في جيبك؟ لا، بل تنظر له علبة مطعمة منظمة، بل يمكن أن
تأتي له بعلبة ذهبية تتناسب مع علو مكانة هذا الجوهر، فتخير الألفاظ
للمعاني من أسرار العربية.
وأما معنى (سبحان) ؛ فيقول علماء فقه اللغة: الأصل في وضع الألفاظ للمعاني
الأشياء المحسوسة الملموسة، ثم ينتقل بها إلى المعنويات، نعلم أن سبحان
الله هو تنزيه الله عما لا يليق بجلاله، ومادة (سبحان) أصلها من سبح، وسبح
المحسوس الذي يسبح في الماء، ولماذا يسبح الإنسان في الماء؟ لئلا يغرق،
فكذلك المسبح لله؛ لئلا يغرق في بحار الشرك، ولينزه الله ويبعده عما لا
يليق بجلاله كما يبعد نفسه عن مهالك الغرق.
والحمد لله: الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا ينبغي هذا
أبداً ولا يجمع إلا للمولى سبحانه؛ لأنه كامل الذات والصفات، فإذا قلت:
(سبحان الله) نزهته عن كل ما لا يليق بجلاله، وإذا قلت: (الحمد لله) أثبت
لله جميع صفات المحامد والكمال، وهذا أقصى منتهى التوحيد.
و (لا إله إلا الله) : في حديث البطاقة في الرجل الذي يأتي يوم القيامة
ولديه سجلات من الذنوب والخطايا قد ملأت الميزان وليس عنده شيء؛ فيظن أنه
هالك إلى النار، فيقال: لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة فيها (لا إله إلا
الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فيقول: ماذا تفعل هذه بتلك السجلات التي
كالجبال؟ فيقول: اصبر، فتوضع تلك البطاقة التي في عينه ولا شيء في كفة
الحسنات فترجح لا إله إلا الله.
(والله أكبر) ؛ أكبر من كل كبير.
(ولا حول ولا قوة إلا بالله) ، وزاد المؤلف كلمة (العلي العظيم) ، ورواية
الصحيحين ليس فيها ذلك، وإنما توجد في بعض السنن.
صلاة من أسلم حديثاً
هل يظل الرجل على هذا الذكر طيلة حياته أم أن هذا أمر مؤقت إلى أن يتعلم
سورة الفاتحة؟ يأتينا بعض الناس إلى المحكمة ليسلم من جنسيات متعددة،
وبالكاد ينطق بالشهادتين، ولم يحفظ الفاتحة بعد، فنقول له: اذهب مع الناس
الذين معك وصلِّ معهم ولو حتى تركع وتسجد بدون ذكر؛ ليرتبط مع جماعة
المسلمين، واليوم يحفظ كلمة وغداً ثانية إلى أن يحفظ الفاتحة، ولو قال: لا
إله إلا الله ومات في حينه يحكم له بالإسلام.
إذاً: لو أسلم إنسان ولم يحفظ شيئاً من كتاب الله نقول له: انطق
بالشهادتين، ويجب أن ينطق بهما باللفظ العربي ولو لم يفهم المعنى، ثم بعد
ذلك يذكر الله بما شاء بلسانه وبلغته إلى أن يتعلم الفاتحة، ومن هنا يقول
الشافعي رحمه الله: تعلم العربية فرض عين على كل مسلم بما يصحح به صلاته:
(الله أكبر، سمع الله لمن حمده، السلام عليكم، سورة الفاتحة) ومن نعم الله
وآلائه ومن خصائص القرآن: تيسيره على الجميع، ولعلكم تجدون هذا جلياً في
مسابقات حفظ القرآن عندما يأتي أفراد من العالم كله إلى مسابقات حفظ القرآن
الكريم في مكة؛ فنجد أشخاصاً إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم
الله الرحمن الرحيم، وقرأ من أي سورة من القرآن أحسن قراءة من بعضنا، وإذا
سألته عن كلمة واحدة مما قرأ لا يفهم معناها، سبحان الله!! إذاً: حفظ
القرآن ميسر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] ،
والفهم من الله! إذاً: هذا من باب الإرفاق والتيسير في التعليم، وأخذ
الجاهل بقدر ما يستطيع، وتدرج وبديل عما يمكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
وهل يقول ذلك مرة واحدة في صلاته كلها أو في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؟ بل
في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؛ لأنه تقدم لنا في حديث المسيء في صلاته في
قراءة الفاتحة: أن كل ركعة صلاة بذاتها، أي: محسوبة صلاة، وفي الحديث: (ثم
افعل ذلك في صلاتك كلها) .
وقوله: (إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني) الحديث، كلمة
(الحديث) ، تعني: إلى تمام الحديث، كما تجد في بعض العبارات: كذا وكذا.
إلخ، يعني إلى آخره، فكلمة (الحديث) يعني هذا الخبر في حديثه بقية، ما هي
تلك البقية؟ موجودة في الشرح.
حظ المصلي من الدعاء
في الصلاة
الرجل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قل: سبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله -وعلى
الروايةالأخرى-: العلي العظيم) ، قال: يا رسول الله! هذا لله، فماذا لي؟
هذا لله: سبحان الله، تسبيح لله، الحمد لله، حمد لله، لا إله إلا الله،
والله أكبر كذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله تذهب أيضاً لله، كلها تذهب لله؛
فما حظي؟ وهذا مما يدل على أن الرجل عاقل وفاهم، فمثل هذا هل يعجز عن حفظ
الفاتحة؟ لا، ولكن الوقت ضيق، فبم أجابه صلى الله عليه وسلم؟ قال: (قل:
اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، الرجل لما تأمل في هذا الذكر الذي
علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه، وعلم أنه ليس مجرد لفظ فقط،
فهو يعلم أن هذا من حق الله سبحانه، وماذا يعود علي؟ وهذا طمع.
ألا يكفيك أنك أديت حق الله عز وجل؟ أنت تقول: إنك عاجز وتريد ما يجزئ،
ولكن انظر إلى السماح! فقد جعل الرجل ينفسح أمله عند الله أكثر، علمه كيف
يصلي، وأعطاه ما يجزئ، فلم يقل: جزاك الله خيراً، ولكن أريد زيادة، هذا هو
التعليم وفضل الله.
قال: (إذا انتهيت من هذا قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، وهذه
له هو، الرحمة، والرزق، والمغفرة، (وعافني واهدني) ، لما سأل الرجل: ما هو
حظه من هذا الذكر؟ وجهه إلى جماع أبواب الخير: ارحمني، اغفر لي، وهل هذا من
أمر الدنيا أم الآخرة؟ وماذا بقي إذا غفر له ورحمه؟ والرزق مضمون في الدنيا
لكنه زيادة طلب، وإذا هداه إلى ما يرضاه فيكون مع الذين أنعم الله عليهم،
(وعافني) أما هذه فقد جمعت كل الخير، أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها أحب الناس إلى رسول الله من النساء، في أشرف ليلة -في ليلة القدر-
تقول: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) فالسؤال من أحب إنسان
لأحب إنسان في أفضل الليالي، فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: (قولي:
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .
المسألة في ليلة القدر أعظم مسألة وما عداها مقدمة وسيلة وقربة إلى الله عز
وجل، وهذا الواجب عندما يكون لك حاجة عند عظيم: هل تمسك به فتقول: أعطني؟!
لا، ولكن: اعمل معروفاً، انظر إلى حالتي، أنت كريم، أنت لا ترد أحداً، قد
لا يكون كذلك لكن أنت تأتي بها من أجل أن تغريه أن يعطيك (ولا أحد أحب إليه
المدح من الله) تأتي بالأول: (اللهم) ، يعني: يا الله، (إنك عفو) ، الأصل
أنك عفو لا تعاقب، (تحب العفو) ، قد يعفو الإنسان برغم عنه، إذاً: ما دمت
أنك عفو وتحب العفو فأنا أسألك العفو، سألتك ما تحب وهو من فعلك وصفتك.
يقول بعض العلماء: كنت أعجب من هذا اللفظ، فلما تأملته فإذا به جماع الخير
كله، من عوفي في بدنه ماذا يريد؟ ومثله من عوفي في دينه من الآفات والبدع،
من عوفي في ولده وماله، من عوفي يوم الحساب، ماذا يبحث بعد ذلك؟ قال:
فتأملته فوجدته جامعاً لكل خير.
ربما نجد شاهداً لفهم هذا الرجل من الحديث القدسي، وفي خصوص الصلاة وفي عين
الفاتحة؛ لأنه ثبت في الصحيح: أن الله سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة
بيني وبين عبدي نصفين، إذا قال العبد: الحمد لله، قال الله: حمدني عبدي،
وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: مدحني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين،
قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه
بيني وبين عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا لعبدي
ولعبدي ما سأل) ، العبد يسأل فماذا يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ؛ فكأن الفاتحة تشتمل على حق لله وحق للعبد
المصلي.
هذا الرجل وإن كان لم يحسن الفاتحة لكنه فقيه رشيد، أنار الله بصيرته؛ لما
سمع من رسول الله المجزئ والبديل عن الفاتحة، وتأمّل ذلك، وجد أن كله لله
فطلب حظه، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حظه من الدنيا والآخرة،
والله المستعان.
شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر
والعصر ... )
قال رحمه الله: [عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي بنا؛ فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة
الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في
الأخريين بفاتحة الكتاب) متفق عليه] .
رغم تنوع الصلاة إلا أن لكل منها نصوصها، فبدأنا بالظهر والعصر؛ لأن أول
صلاة جماعة في الإسلام هي الظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به
ليلاً، وفرضت الصلوات الخمس بليل، نزل الصبح، وجاءه جبريل عليه وعلى نبينا
الصلاة والسلام الظهر وصلى به، فكانت أول صلاة جماعة بعد فرضية الصلاة ليلة
الإسراء هي الظهر، فيقول أبو قتادة: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم
الظهر والعصر) فماذا قرأ؟ (بفاتحة الكتاب وسورتين) ؟ يقرأ أين؟ أجملها، ما
دام بفاتحة الكتاب وسورتين، أي: مع كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، هذا في
الأوليين؛ لأن الظهر والعصر أربع ركعات، فالفاتحة في كل ركعة مع سورة،
الفاتحة مكررة ومعها سورتان في كل ركعة؛ مع أنه سيأتي أنه يجوز أن يجمع
السورتين في الركعة الواحدة، ولكن ذلك ليس مراداً هنا.
(ويسمعنا الآية أحياناً) مع أن الظهر والعصر سرية، وهل الجهر من الفاتحة أم
من السورتين؟ من السورتين، ومن هنا علموا أنه كان يقرأ مع الفاتحة سورة
أخرى.
(وكان يسمعنا الآية أحياناً) ، يقول العلماء رحمهم الله: هذا منه صلى الله
عليه وسلم ليس على سبيل الصدفة، ولكن على سبيل التعليم، كأنه يعلمهم بأنه
يقرأ مع الفاتحة سورة وها هو يسمعهم الآية منها، ويقول: (أحياناً) يعني:
ليس بصفة دائمة؛ لأن التعليم يحصل بمرة أو بمرتين، ويذكرهم في بعض الحالات.
(ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، مفهوم ذلك: أنه
لا يطيل في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، وجاء التعليل عند بعض
العلماء: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الأولى قالوا: (كنا نظن أنه
يفعل ذلك ليدرك المتأخر الركعة الأولى) حتى جاء في بعض الروايات عند مسلم:
(كانت تقام الصلاة فيذهب الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي
فيدرك الركعة الأولى) .
(ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وهما الثالثة والرابعة، كان يقرأ
فيهما بفاتحة الكتاب، ثم سكت الراوي، وفهم من هذا: أنه يقرأ في الأوليين مع
الفاتحة سورة، وسكوت أبي قتادة عن ذكر قراءة سورة أو آية أو شيء سوى
الفاتحة في الأخريين أخذ بعض الناس منه بأن الركعتين الأخريين يقتصر فيهما
على الفاتحة وكفى.
إذاً: من يقول: لا يقرأ في الركعتين الأخريين سوى فاتحة الكتاب هذا دليله،
ولكن إذا جاءتنا نصوص أخرى تدل على أن في الركعتين الأخريين قراءة، فبأي
الحديثين نعمل؟ القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: إذا تعارض ناف ومثبت
فإننا نعمل بقول المثبت، وهذا لم ينف ولم يقل: لم يقرأ فيها، ولكن سكت،
والسكوت عن العلم ليس بعلم، فإذا جاء غيره وأثبت لنا قراءة في الركعتين
الأخريين عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب أن نعمل بقول من أثبت قراءته
في الركعتين الأخريين، لكن المؤلف رحمه الله إنما ألف الكتاب لا ليناقش
ولكن ليبين أدلة الأحكام عند الفقهاء، ولذا سماه: بلوغ المرام من أدلة
الأحكام، فيأتي بالأحاديث التي استدل بها كل إمام في مذهبه، أو كل عالم
فيما ذهب إليه، وكأنه يقول لك: من قال: لا يقرأ في الركعتين الأخريين إلا
بفاتحة الكتاب فقط؛ فهذا دليله، ثم يأتيك بالأحاديث الأخرى ليبين أدلة
الأقوال الأخرى.
شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في
الظهر والعصر ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نحزر قيام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر؛ فحزرنا قيامه في الركعتين
الأوليين من الظهر قدر: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ) .
أبو قتادة يقول: (ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وأبو سعيد الخدري
يقول: (كنا نحزر) أي: نقدر، والحزر أو الحرز أو الخرص: التقدير، فنحزر أي:
نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل قيامه في نافلة خاصة به أم في
صلاته بهم؟ النافلة ليس لنا دخل فيها؛ لأنه بإجماع المسلمين لا حظر عليك
فيما تقرأ فيها، فإن شئت قرأت القرآن كله في ركعتين، وإن شئت قرأت الفاتحة
والإخلاص؛ لأن المتطوع أمير نفسه، اللهم إلا في تطوع الجماعة مثل التراويح،
فيراعى فيها ظروف الناس، فإذا كان متطوعاً لنفسه فليصلي ما شاء.
والمقصود بصلاة رسول الله هنا الفريضة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي
صلاة الليل في بيته، قال أبو قتادة: (صلينا مع رسول الله) ، وهنا أبو سعيد
رضي الله تعالى عنه كأنه يقول: صلينا مع رسول الله وحزرنا قراءته في الظهر
والعصر، فالقضية لا زالت في الظهر والعصر، فـ أبو سعيد يقول: قدرنا ما
يقرأه في الركعتين الأوليين بـ {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ، هذا في
الركعتين الأوليين، (وفي الأخريين قدر النصف من ذلك) ، والنصف من قراءة
(الم تَنزِيلُ) هل سيكون النصف فقط أم الفاتحة ومعها غيرها؟ قطعاً: الفاتحة
ومعها غيرها، وهذا الحديث يدل على أن المصلي في الفريضة يقرأ في الركعتين
الأخريين بالفاتحة ومعها شيئ آخر، مع تطويل الأولى على الثانية، فيقرأ في
الركعة الأولى بقدر، وفي الثانية بقدر النصف من ذلك، وسيأتي قدر القراءة في
العصر.
فـ أبو سعيد يبين لنا مدى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ويفسر التطويل
الذي جاء في حديث أبي قتادة؛ فهو يطيل في الأولى إلى حد أن الثانية بقدر
النصف من الأولى، وسيأتي أنه يقارن بين الأولى والثانية من الظهر، والأولى
والثانية من العصر كما في نهاية حديثه.
وإذا جئنا إلى سورة السجدة فعددها (30) آية، وفي بعض الأحاديث: (سورة
ثلاثون آية شفعت لصاحبها يوم القيامة) ، فهل هي السجدة أم أنها تبارك؟
كلاهما ثلاثون آية.
إذاً: حديث أبي سعيد يبين لنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الأوليين قدر السجدة، وفي الأخريين قدر النصف، إذاً: الأخريان هل فيهما
قراءة مع الفاتحة أم ليس فيها كما قال أبو قتادة؟ فيها، ولكن مع التفاوت،
فالأوليان بقدر (السجدة) ، والأخريان بقدر النصف.
قال: (وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على قدر
النصف من ذلك) رواه مسلم، ففي العصر الأوليان منه بقدر الأخريين من الظهر،
قال: (والأخريين على قدر النصف من ذلك، والأخريين من العصر على قدر النصف
من ذلك) أي: نصف السجدة، وهو الربع.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [7]
سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لكل صلاة ما يناسبها من طول أو قصر في
القراءة، مراعياً فيها جانب المأمومين، وجانب الوقت الذي تكون فيه الصلاة.
شرح حديث: (ما صليت
وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن سليمان بن يسار قال: (كان فلان يطيل
الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء
بوسطه، وفي الصبح بطواله، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما صليت وراء أحد
أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد
صحيح] .
بدأ المؤلف يفصل مقدار ما يقرأ الإنسان في الصلاة، وذلك ابتداء من حديث أبي
سعيد؛ حيث بين لنا القراءة في الأوليين من الظهر بقدر سورة السجدة، وفي
الأخريين نصفها، وفي الأوليين من العصر نصف سورة السجدة، وفي الأخريين قدر
ربعها.
وهنا المسألة الثانية، ونقدم لها بمقدمة بسيطة: نعلم جميعاً -يا إخوة- أن
الإسلام بصفة عامة مبناه على التيسير، والصلاة كذلك مبناها على التخفيف
والتيسير، ومعاذ رضي الله عنه لما طول وقرأ البقرة، وخرج الرجل من الصلاة
وصلى منفرداً، وبلغ الخبر رسول الله قال: (أفتان أنت يا معاذ؟! من أم
بالناس فليخفف) ، وقال: (أين أنت من الشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى،
والضحى والليل إذا سجى) ؟ وتقدم لنا مبدأ في حديث المسيء في صلاته: (ثم
اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، إذاً: بداية تبدأ بما تيسر، وتنتهي بما لا
مشقة فيه؛ حتى وجدنا من لم يستطع أن يأخذ من القرآن شيئاً أنه يجزئه قول:
سبحان الله، والحمد لله.
إلى آخره.
إذاً: هذه المسألة، وهي: مقدار ما يقرأ المصلي في صلاته من سور مع الفاتحة
سرية أو جهرية إنما هو بحسب البيئة أو فئة الموجودين، ومقتضيات الحال، وقد
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأدخل في الصلاة بنية الإطالة؛
فأسمع بكاء الأطفال فأخفف رحمة بقلوب الأمهات) .
إذاً: هذه المسألة لا حد فيها، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في
المغرب بالطور، وقرأ فيها بالمعوذتين، فليس هناك حد، وكم هو الفرق بين
الطور وبين الفلق والناس، قالوا: يفعل ذلك أحياناً، ويفعل ذلك أحياناً؛
لأنه ربما علم بكثرة الناس خلفه، وكثرة العدد موحية بوجود ذوي الأعذار،
بخلاف إذا ما وجد عشرة أو خمسة عشر معروفون، وكلهم على نشاط، وكلهم يرغب في
الإطالة، فلا مانع من ذلك.
إذاً: كل النصوص التي تأتي في هذه المسألة من تحديد ما يقرأه الإنسان مع
الفاتحة مرجعه إلى حالة المصلين، فتارة جاء التطويل، كما جاء في بعض
الروايات: أنه قرأ الأعراف في ركعتين، إذاً: ليس هناك ضابط معين يلتزم به
الإنسان، وهذا الحديث يفصل بعض التفصيلات.
وعن سليمان بن يسار قال: (ويقرأ في المغرب بقصار المفصل) .
القرآن منه الطوال، ومنه المفصل، والطوال هي السور الطويلة، وفصل ما بين
السورة والسورة بعيد، فتجد البقرة جزئين ونصف، والفاصل في سورة آل عمران
كذلك، ولما تأتي إلى آخر المصحف تجد ثلاث سور في صفحة واحدة: (قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ النَّاسِ) ؛ فتجد ثلاث فواصل في صفحة واحدة.
وما هي طوال المفصل؟ لا تجد نصاً متفقاً عليه بين الفقهاء أو القراء أو
المفسرين فيه حد لبداية المفصل، ولكن بعضهم يقول: أوله الصافات، وقيل: أوله
الحَواميم من (غافر) ، وقيل: فصلت، وقيل: القتال، وقيل: سورة الفتح، ولكن
الذي في ذهني أن الجمهور على أن أول المفصل هو سورة الحجرات، وما يليها هو
من طوال المفصل، ويتفقون على أن قصار المفصل من الضحى، وعلى هذا: فقد كان
يقرأ بقصار المفصل، وهو ما جاء في بعض الروايات: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، وهذا في المغرب، بينما
الرواية الأخرى: (يقرأ بالطور) .
إذاً: هذا بيان لبعض حالات ما يقرأه الإنسان مع الفاتحة.
استحباب قراءة سورة
كاملة في الصلاة
كل ما سبق إنما جاءنا بسور كاملة، وجاءنا ما يوحي بأنه تنقسم السورة
الواحدة بين الركعتين، وأما قراءة بعض الآيات من سورة في ركعة، وبعض الآيات
من سورة أخرى في ركعة، فـ مالك رحمه الله في مبحث سجود التلاوة يكره أن
يقتصر الإنسان على بعض آيات من سورة طويلة، والأفضل عنده سورة قصيرة بقدر
تلك الآيات أولى من أن تأخذ بعض آيات من سورة، وما وجه النظر في هذا؟ وجهة
النظر عميقة جداً؛ لأنك إذا جئت وأخذت خمس أو أربع أو ثلاث آيات من سورة من
السور الطوال ربما تكون تلك الآيات التي أخذتها جزءاً من موضوع طويل، لكن
حينما تأخذ سورة صغيرة فكل سورة من القصار هي موضوع مكتمل بذاته، وحتى لو
طالت قليلاً فسوف تجدها تدور حول موضوع واحد، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا،
وأن هذا يحتاج إلى تأمل.
فلو جئت من أول المفصل وأخذت من سورة تبارك، انظر إلى افتتاحية السورة فسوف
تجد موضوعها يدور حول افتتاحيتها، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] ، فكل ما يأتي بعد
الافتتاحية يدور حول القدرة والعظمة الإلهية: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}
[الملك:3-4] ، إلى آخر السياق، وإذا جئت إلى الجزء الأخير فأوله: {عَمَّ
يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1-3] ، وما هو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه؟ قيل:
هو القرآن، وقيل: هو البعث، وهو الصحيح، ثم تأتيك بعد هذا أدلة البعث
مكتملة في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ
أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ
سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:6-10] ، إلى قوله:
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:17-18] ، فكل السياق في هذه السورة يمشي
تباعاً على النبأ العظيم ويبينه.
وإذا جئت إلى قصار السور مثل الضحى، رأيتها تدور حول تسلية النبي صلى الله
عليه وسلم، وتعداد النعم عليه، وتأتي بعدها سورة الانشراح وهي تابعة لما
قبلها بصيغ الاستفهام المتتالية، وهكذا تجد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
تدور حول وحدانية المولى سبحانه، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) تدور
على الاستعاذة بالخالق من المخلوقات، فوجهة نظر مالك رحمه الله فيما يقرأه
القارئ مع الفاتحة أنه يختار سورة قصيرة خير من أن يختار عدة آيات من سورة
طويلة، مع أن الكل جائز لعموم ما تيسر، والذي تيسر آية أو أكثر.
مقدار القراءة في
صلاتي العشي والصبح
قوله: (وفي العشاء بوسطه) ، إذا اتفقنا على أن أول المفصل سورة الحجرات،
فإن وسطه من عم إلى الضحى، هذا من وسط المفصل.
(وفي الصبح بطواله) وطواله طوال المفصل، إن قلنا: من الصافات أو غافر أو
القتال أو الفتح كل هذا من طواله، يعني من السور الطويلة التي هي في أوائل
المفصل.
إذاً: هناك مغايرة، وعلى هذا التقسيم فأطول صلاة هي الصبح، لماذا؟ يقول بعض
العلماء: الصبح يكون عند قيام الناس من النوم، والناس في غفلة، فإذا قرأ
الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم سلم فالذي في بيته يكون لم يتوضأ
بعد، لكن إذا قرأ من طوال المفصل فتوجد فرصة للذي يتأخر؛ عله إن لم يدرك
الأولى أن يدرك الثانية، فقالوا: إطالة القراءة بغية أن يدرك المتأخر
الصلاة، ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أن الصبح ليست وقت عمل، وهو أرجى
أوقات العبادة، حتى أن علماء الاجتماع يقولون: أقوى ما يكون الذهن والذاكرة
في الصباح؛ لأنك تنام ليلاً طويلاً وتستريح عن التفكير، والعقل في راحة،
وكلما أخذ الجسم راحته كلما كانت جميع أعضائه أقوى على ما يقوم به فيما
بعد؛ لأنها في فترة راحة؛ فإذا استيقظ من النوم يكون أقوى وأشد استعداداً
لتلقي كل خير، ولذا يوصون الطالب إذا أراد أن يحفظ الدرس أن يحفظه بعد صلاة
الصبح؛ فالمذاكرة والفهم يكون في وقت خال، وفي جو هادئ.
فإذا كان الأمر كذلك فيكون صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الصبح؛ لأن
الناس لديهم استعداد أكثر لسماع القرآن، وهذا بخلاف العصر ويقولون أيضاً:
وقت الظهر وقت القيلولة، وكانوا يفطرون في الضحى، ويقيلون قبل الصلاة،
فيقومون أيضاً على نشاط، ولكن صلاة العصر أكثر الناس في أعمالهم، فهم في
حالة انشغال فيخفف عليهم، وإذا جاء إلى العشاء يعقبها النوم وليس هناك عمل،
فكان هذا مراعاة لحالات الناس لئلا يشق أو يضيق عليهم.
إذاً: يذكر لنا أبو هريرة بصلاة هذا الرجل أن الصلاة في الصبح بطوال
المفصل، والصلاة في المغرب بقصارها، والعشاء بأوسطها، وهكذا يقولون في
تفاوت القراءة ما بين صلاة وأخرى.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
وهذا مما يعطي الحديث حكم الرفع، وكأن أبا هريرة يقول: هكذا كانت صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور) متفق عليه] .
أين قصار المفصل من الطور؟
شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في صلاة
الفجر يوم الجمعة ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: ((الم)) * ((تَنزِيلُ)) و ((هَلْ
أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)) ) متفق عليه] .
كأن المؤلف يقول: صلاة الرجل التي قال عنها أبو هريرة أشبه بصلاة رسول
الله، وأنه يقرأ في الصبح بطوال المفصل، ما عدا صبح الجمعة؛ لأن للرسول
فيها قراءة مستقلة، ما هي؟ (الم) السجدة، و (هَلْ أَتَى) ، وهل يقرأهما
معاً في ركعة أم يقسمها في ركعتين؟ هما سورتان، والصلاة ركعتان، إذاً: كل
واحدة في ركعة، وتأتي بعض النصوص في أنه كان يديم ذلك، ويرى بعض العلماء
عدم الاستدامة.
ولماذا خص صبح الجمعة بهاتين السورتين؟ لأن كلتا السورتين تتحدث عن خلق
الإنسان ابتداءً، وعن مآله انتهاء: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:8-9] ، ثم بين حالة الإنسان في آخرته وما يؤول
إليه، وفي السورة الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ
مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
[الإنسان:1-2] إلى آخر السورة، ويقولون: يوم الجمعة هو يوم خلف آدم، كما أن
يوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، فيوم الجمعة فيه خلق آدم،
وفيه أسكن الجنة، وفيه نزل منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة،
وفيه ساعة لا يصادفها عبد قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
إذاً: يوم الجمعة يدور معه أخبار خلق الإنسان والجنة والنار والبعث؛ فهي
فرصة لتقرأ فيها هذه السورة على مسامع المسلم فيتذكر بدايته، ونهايته،
ويتهيأ للجنة التي أخرج منها أبوه آدم ليعود إليها، وهكذا السورة الثانية.
إذاً: نستطيع أن نقول: إن هناك اختيار لبعض السور لبعض المناسبات، لكن لا
نستطيع أن نقرر أو أن نقول: إن هذه سنة، وهذه بدعة، ولكن هذا من عمل النبي
صلى الله عليه وسلم الذي شرعه للأمة، فقد كان يقرأ في الصبح من يوم الجمعة
بهاتين السورتين، وتأتي بعض النصوص بالمداومة عليها، ولكن نجد بعض الأئمة
لا يداوم عليها، وخاصة أيام الموسم، وإذا سألته قال لك: هناك بعض الناس لا
يعرف هذه السورة ولا القراءة فيها، ولم يعودهم أئمتهم، فإذا كبر الإمام
وسجد للتلاوة ركعوا، فيكون ساجداً وهم ركوع، وإذا قام من السجود رفعوا من
الركوع، وإذا كبر للركوع كانوا هم سجود؛ فيحصل اختلال في الصلاة، فإذا وجدت
شدة زحام، والوافدون كثر، وخيف الارتباك؛ فلا مانع من الترك؛ حفاظاً على
صحة الصلاة واتباع الإمام، أما في الأيام العادية فلا مانع من قراءتها،
وبعض العلماء يقول: لا ينبغي الاستدامة عليها؛ حتى لا يظن العامي بأنها فرض
في كل يوم جمعة، وأن صبح الجمعة لا يصح إلا بهما.
فينبغي أن يتبين للناس أنها سنة في هذا اليوم، وأن الغرض منها ليس مجرد
السجدة، ولا أن أي آية من آيات السجدة أو سورة من سور السجدة تجزئ، والقرآن
فيه عشر سجدات متفق عليها، والباقي مختلف فيها، ولكن المراد موضوع ومضمون
السورتين، وهو التذكير ببدأ خلق الإنسان وبعثه ومآله يوم القيامة ليتأهب
لذلك، وخاصة في يوم الجمعة الذي تتضاعف فيه الأعمال، ويندب فيه فعل الخير،
وهذه من السنة المعمول بها، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [وللطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يديم ذلك) ] .
هذه الزيادة يأتي بها المؤلف، وهو شافعي المذهب، والشافعية يؤكدون عليها
ويرون دوامها، ولو اقتصر على آية السجدة منها فقط لأجزأ، إلا أنه لو اقتصر
على آية السجدة فإنه يضيع الغرض المطلوب من قراءة سورة السجدة؛ لأن الغرض
هو عرض السورة بكاملها لتمام موضوعها في خلق الإنسان وبعثه.
أحكام سجود التلاوة
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما مرت
به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب ... ) .
هناك مباحث عديدة فقهية تتعلق بالسجود في التلاوة في سورة السجدة، ملخصها:
أن ما ثبتت فيه سجدة عنه صلى الله عليه وسلم إذا قرأها الإنسان وحده فهو
بالخيار؛ فإن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد، والسجود ليس بواجب، ولا فرض عليه؛
أخذاً بعمل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عندما خطب وقرأ آية سجدة،
فنزل من المنبر وسجد وسجد الناس معه، ثم قرأ مرة أخرى بتلك الآية، وتهيأ
الناس للسجود، فلم ينزل ولم يسجد، وقال: هي آية سجدة فمن شاء فعل، ومن شاء
ترك.
أما إذا كان الإنسان يستمع، فيقولون: القارئ والسامع كلاهما يسجد إلا أن
القارئ على نفسه، وبعضهم يجعل سجدة التلاوة كالصلاة يشترط فيها: الطهارة،
واستقبال القبلة، ويرون عدم السجود في وقت النهي عن الصلاة، وآخرون يقولون:
هي عبادة مستقلة لا علاقة لها بالصلاة، فحيثما سجد ولو بغير وضوء فلا بأس،
أما المستمع فهو بين حالتين: أما القاصد فهو متابع للقارئ فإن سجد القارئ
سجد معه، وإن لم يسجد فلا سجود عليه، وأما من استمع عفواً بدون إلقاء سمع
فلا سجود عليه.
ويذكرون في ذلك: أن رجلاً قرأ آية سجدة عند عثمان رضي الله تعالى عنه، فسجد
القارئ فسجد معه، ثم جاء شخص آخر وقرأ السجدة من أجل أن يسجد عثمان ولكن
هذا القارئ لم يسجد فما سجد عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين! قرأ فلان فسجدت
وقرأت فلم تسجد؟ قال: لأنه قرأ فسجد فسجدنا معه، وأنت قرأت فلم تسجد فلم
نسجد معك، ومن هنا قالوا: المستمع الملقي السمع للقارئ إن سجد القارئ سجد
معه.
وهنا نقطة عند الأحناف دقيقة جداً: قالوا: لا سجود لسامع الصدى، والصدى هو:
رجوع الصوت من جرم يصطدم به، وهذا يظهر عند الجبال، إذا كان الجبل مرتفعاً،
وخاصة إذا كان قائماً ليس مدرجاً ولا بسفح طويل، أو إن كنت تمشي وأمامك
جدار، فإذا اقتربت من الجدار تسمع صوتك، من أين جاء هذا الصوت؟ الصوت يذهب
مع الهواء فيصطدم بالجرم الذي أمامه فيرجع، وكذلك الأذن إنما تأخذ صدى
الصوت؛ لأن الصوت يأتي مع الهواء فيصطك بطبلة الأذن من الداخل، وكما يقول
الأطباء: هناك شاقوص وسندان، فتتحرك إبرة الأذن بهذا الصدى فتنقل الصوت إلى
الدماغ، والآن الصدى موجود معك في كل بيت، وهو: المذياع أو (الراديو) ، وهو
عبارة عن جهازين: جهاز استقبال وجهاز إرسال، وجهاز الاستقبال يأخذ الصدى من
المحطة التي ترسل، وجهاز الإرسال الذي يسمعك، فعند الأحناف لا سجود مع
الصلاة هنا، فلو سمعت عبد الباسط أو الحصري يقرأ آية سجدة ومشى، فليس عليك
سجود؛ لأنه هو بنفسه ليس ساجداً في الإذاعة ولا في القراءة.
مبحث سجود التلاوة مبحث واسع، وكنا قد جمعنا فيه بعض الأبحاث، وخلاصة ما
يدور حوله في سجود التلاوة: أواجب هو أم سنة؟ ويذكرون في ذلك أخباراً عديدة
منها: أن أبا قتادة أو غيره قرأ بسورة فيها سجدة، فسجد وكان بالدار شجرة
فسجدت بسجوده، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالسجود من الشجرة) ، لكن
الحديث فيه مقال.
ويهمنا: أن سجود التلاوة مشروع، وقد ورد في القرآن في خمسة عشر موضعاً
ويختلف الأئمة في موضع الآية؛ أهو قبلها بآية أو بعدها بآية؟ وهذا بحث فقهي
توجد مباحثه في كتب الفقه جميعاً.
شرح حديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع
قال: اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم لك الحمد ملء
السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال
العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا
ينفع ذا الجد منك الجد) ، رواه مسلم] .
هذا الإعجاز النبوي بهذا الأسلوب العظيم نجد بعض العلماء يقول فيه: إن
الدعاء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والتسبيح بمثل هذه العمومات
لا يصلح؛ لأنك بكلمة واحدة تريد أن تملأ السماوات والأرض؟ (الحمد لله ملء
السماوات والأرض) ، وإذا ورد النص في هذا لم يبق لأحد مقال، والباب هو باب
فضل الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الآخر عند مسلم: (الحمد لله
تملأ الميزان) ، هذه كلمة واحدة ملأت الميزان، وجاء في وصف الميزان: (لو أن
السماوات السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا
الله) .
إذاً: لا نستطيع أن نتحكم بالعقل ما دام قد ثبت هذا بالنص.
(والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والحمد لله وسبحان الله تملآن ما
بين السماء والأرض) ، (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،
حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
إذاً: ما دام النص ثابت فلا كلام لأحد، وهنا في الحديث: (ملء السماوات وملء
الأرض) .
تصور بإدراك العقل أن هذا الحمد ملأ السماوات والأرض، ثم قال: (وملء ما شئت
من شيء بعد) ، وهنا يتساءل العقل عند قول: (ما شئت من شيء بعد) ماذا بعد
السماوات والأرض؟! هل يمكن لنا أن نتساءل هذا التساؤل ونحاول أن نصل إلى
جواب، أم نترك ذلك إلى علم الله سبحانه وتعالى؟ ما دام أن النص يقول: (وملء
ما شئت من شيء بعد) ، فلا مانع، وأوسع من هذا كله قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، إذاً: يوجد شيء آخر
غير السماوات وغير الأرض وهي الجنة، وهل هناك شيء آخر؟ في الحديث الآخر:
(ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، وما
الكرسي في العرش إلا كدراهم في ترس، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل
في كف أحدكم) .
إذاً: عالم الملكوت لا يمكن لعقل أن يحيط به، وهذا الذي جاءتنا به النصوص،
ولم يقل: ملء السماوات وملء الأرض، وانتهينا، ولكن أين الكرسي؟ وأين العرش؟
وأين ما وراء ذلك؟ الله أعلم.
المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوسع مجال الذكر إلى هذا الحد؛ فهل
فكرت في هذا حينما ترفع من الركوع وتقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك
الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ؟ هل تتذكر هذا
المعنى؟ وليس مجرد السعة فقط، ولكن نتذكر عظمة هذا الكون وبالتالي عظمة
الخالق.
(أهل الثناء) : يا رب أنت أهل للثناء، هناك الحمد وهنا الثناء؛ لأن ملء
السماوات فيه بيان القدرة لخلق السماوات، والخالق بديع السماوات والأرض،
وقد تثني على مهندس صمم هذا المسجد، أو على طبيب ناجح، وبديع السماوات
والأرض أحق بالثناء سبحانه جل جلاله، فتجمع الحمد أولاً لكمال ذاته، وتأتي
بالثناء ثانياً لملء السماوات والأرض وما شئت من شيء بعد، وأنت تعلم بذلك،
فيكون اجتمع منك لله الحمد والثناء.
(أهل الثناء والمجد) : المجد: العزة، والسلطان، والقدرة، مثلما يقولون: سهل
ممتنع.
(أحق ما قال العبد) : هذه الألفاظ أحق ما يقولها العبد لمعبوده؛ أن يحمده
بهذا الحمد المتسع، وبكل ما يمكن أو هو كائن في الوجود، والثناء على الله
بما هو أهله من حسن الفعال والقدرة والإيجاد والإبداع.
إلخ.
فإذا كان الله خلق السماوات ودبر أمرها، وسير فعالها، وما فيها من ملائكة
كواكب، ليس فقط مجرد سماء وبنيت، وأديرت، وكذلك الأرض وما فيها من عوالم،
حق الثناء لله، وأحق ما قاله العبد لربه مقابل هذا الملك بكامله.
(وكلنا لك عبد) ، أحق ما قال العبد -وأنا منهم- (وكلنا لك عبد) ، وبهذا في
هذه الحركة أعتقد أنه لا يتأتى لإنسان أن يقول: الله أكبر، ثم ينزل إلى
السجود ويفوت على نفسه الخير الكثير، وهذا يبين خطأ من يقول: أركان الصلاة
ركن طويل وركن قصير، أو ركن ثقيل وركن خفيف، بل كلها أركان مستوية، وتقدم
لنا مبحث الطمأنينة، وأن الإنسان يطمئن في كل أركان الصلاة.
(اللهم لا ما نع لما أعطيت) : عطاء المولى سبحانه وتعالى عظيم، وإذا أراد
الله سبحانه وتعالى لإنسان عطاء فلا راد له، وقد جاء هنا عطاء مطلق: (لا
مانع لما أعطيت) ، سواء كان العطاء مادياً محسوساً من غنى وصحة وولد ومنصب.
إلخ، أو كان عطاء معنوياً من مكارم أخلاق وتوفيق للعبادة وعلم نافع،.
إلخ.
لا مانع يا رب لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، فالعطاء من الله، ولا موجود
في هذا الوجود يمنع عطاء الله عمن أراد له خيراً، كما في الحديث: (لو اجتمع
أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو
اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك بشيء لن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله
عليك) ! إذاً: في هذا الجزء من هذا الحديث وأنت قد توجهت إلى الله سبحانه
وتعالى، وحمدته ملء السماوات والأرض، وأثنيت عليه سبحانه؛ تقف مقراً بين
الرجاء والخوف، ولا تتوجه في حاجة أياً كانت إلا له سبحانه، إذ لا مانع لما
أعطى ولا معطي لما منع، وقد جاء في الحديث: (كل شيء بقضاء الله وقدره حتى
العجز والكيس) ، يعني الذكاء والغباوة، الفطنة والجهالة، كلها بعطاء من
الله وبقدر منه.
والقرآن الكريم فيه توبيخ لعباد الأصنام وبيان لباطلهم: {أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] ، لماذا تعبدونهم؟ هل لديهم
منفعة ترجونها؟ هل تخافون من ضر يوقعونه بكم؟ هم لا يملكون نفعاً يجلبونه
إليكم، ولا يقدرون على ضر يوقعونه بكم، فما هو موجب العبادة؟ وتقدم مراراً
الإشارة إلى قول العلماء: كل عاقل في هذه الدنيا إنما يسعى لأحد أمرين: إما
لجلب نفع، وإما لدفع ضر، قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى
كيما يضر وينفع مع ملاحظة اختلاف الجهة وانفكاكها، إذا أنت لم تنفع صديقك
تضر عدوك، يعني لابد أن تفعل شيئاً، فإذا كنت لا تستطيع نفعاً ولا ضراً،
{كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}
[النحل:76] ما قيمة هذا؟ وفي هذا الموقف بين يدي الله الاعتراف بأنه: لا
مانع لما أعطيت قليلاً كان أو كثيراً، ولا معطي لما منعت قليلاً كان أو
كثيراً، إذاً: وأنت بين يدي الله في الصلاة تزداد رغبة وإيماناً ويقيناً
بأن العطاء من الله ولا يدفع الشر إلا الله، وهذه أيضاً وقفة جديدة مع
الوقفة الأولى: (ربنا ولك الحمد؛ حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء
السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) .
ثم يعقب ذلك بما يشبه التذييل والتكملة، لا معطي لما منع، ولا مانع لما
أعطى، ولا ينفع ذا الجد، والجَد بمعنى الحظ، تقول لإنسان: فلان محظوظ، ومن
أين جاء له الحظ؟ صاحب الحظ مهما قلت فيه فإن حظه لن يأتيه بشيء إلا من عند
الله، وبالكسر (الجِد) بمعنى الاجتهاد، والمعنى الآخر (للجَد) الذي هو أبو
الأب؛ لا دخل له في هذا.
(ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، يعني: ذا الحظ والذكاء والفطنة، عقله وفطنته
وحظه لا ينفعه بشيء.
ولو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجى لماتت من جهلهن البهائم والغنى والفقر
ليسا بالذكاء أو بالحظ، والآن يوجد جهاز بحجم الكف يحسب قدر مائة شخص،
ومائتا ألف كلمة تترجم في جهاز مثل الكف من الإنجليزي إلى العربي ومن
العربي إلى الإنجليزي، ويُخزِّن أرقام أكثر من مائتي رقم تلفون، وآلة
حاسبة، وكلها قدر الكف، أين ذهبت عقولنا؟ مائتا ألف كلمة تترجم من
الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، وأكبر شخص مترجم الآن لا
يحفظ مائتي ألف كلمة.
إذاً: العقل كآلة إذا كان أوتي شيء من الذكاء فمن الله، هذا الذي ركب أو
اخترع هذا الجهاز من أين؟ من العقل والعقل مَنْ خلقه ووهبه وأعطاه هذا إلى
أن توصل إلى ذلك؟ الله، إذاً: الكل راجع إلى الله.
قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ، والعلم
من أعطاك إياه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] من الذي علمك بعد أن خرجت من بطن أمك؟!
إذاً: العاقل يتأمل حقيقة وجوده، وحقيقة وجود الكون من حوله، وهذه لفتات أو
لمسات تأتي من الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة توجه الإنسان بكليته إلى
الله، واستعداد استقبال هذا التوجيه أكثر مما لو جاءه وهو ماش في السوق، أو
ذاهب إلى البيت، أو نائم في غرفته، أو جالس يأكل ويشرب، لكن يصلي ويناجي
ربه، فيعلمه حقيقة علاقته بالله: يا رب! أنا جئت إليك وأقررت أنك رب
العالمين، تصرفهم كيفما شئت، وأنا فرد من أفراد تلك العوالم كلها، وأقررت
بأنك مالك يوم الدين ومآله إليك، ثم رجوت وسألت بذله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، اعتراف، {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] ،
فيبين حقيقة علاقة الإنسان بالله في هذا الحديث.
ولهذا نقرأ: (الدعاء مخ العبادة) ؛ لأنك لو تأملت في ألفاظ الدعاء الوارد
عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت العمق والبعد إلى حد بعيد جداً، ولا
ينفع ذا الجد منك الجد.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [8]
في كل هيئة من هيئات الصلاة لابد أن تكون الأعضاء بشكل يناسب تلك الهيئة،
ما لم فلن تتم هذه الهيئة، ففي السجود لابد من تمكين الأعضاء السبعة من
الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم في السجود يفرج بين عضديه وجنبيه حتى يرى
بياض إبطيه، بينما المشروع للمرأة في السجود عكس ذلك.
شرح حديث: (أمرت أن
أسجد على سبعة أعظم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة
-وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) متفق عليه] .
بيّن المؤلف كيفية الصلاة، وبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم جاء بقراءة الفاتحة،
ثم الخلاف في البسملة، ثم التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الانتقال،
وما يقول حال رفعه من الركوع، وما يقول وهو قائم بعد الرفع، ثم سيهوي إلى
السجود، فكيف يكون السجود؟ هناك حديث في كيفية الهوي إلى السجود، ولكن
الحديث هنا في كيفية السجود.
قال: (أمرت) ، وهذا الحديث ورد بصيغ ثلاث: (أمرت) ، (أمرني ربي) ، (أمرنا)
، كل هذه من صيغ هذا الحديث، وأصحها هذه الرواية: (أمرت) ، وهذه عند علماء
اللغة من صيغ المبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله، (أمر) من الأفعال
المتعدية، تقول: أمر زيد عمراً بفعل كذا، فهنا الفعل يحتاج إلى فاعل،
ويحتاج إلى مفعول به، وما هو مأمور به، أمر علي زيداً: فهنا الفاعل علي،
والمأمور زيد، والمأمور به موضوع الأمر.
وهنا: (أمرت أن) ، ومعلوم أن ما بني للمفعول يكون قد حذف فعله، وأغراض حذف
الفاعل تدرس في علم البلاغة، إما لمعرفته أو لا يذكر اختصاراً، كما جاء:
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، لم يذكر الفاعل، وليس هناك مبني
للمجهول ولا للمعلوم، ولكن حذف الفاعل لبيان السياق للمطلوب، بدليل الحجاب،
توارت يعني الشمس.
وهنا: (أمرت) ، إما أن يكون لمعرفته ولا يحتاج إلى تنصيص عليه، وإما لعدم
إرادة ذكره، وحذف الفاعل: لعدم إرادة ذكره، أو عدم معرفته؛ حفاظاً عليه، أو
خوفاً منه، وقد يكون لحقارته، وقد يكون لإعظامه وعدم تسميته باسمه، كل ذلك
من أغراض حذف الفاعل، وإقامة المفعول به مقامه، وهنا من باب حذف الفاعل
للعلم به، لما المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت) ، من في الدنيا له
أن يأمر رسول الله؟ أظن ليس هناك حاجة إلى سؤال؛ لأن الذي يأمره هو المولى
سبحانه، إذاً: أمرت، معناها: أمرني ربي.
(أن أسجد) ، السجود هو: وضع الجبهة على الأرض، وقد يسمى الركوع سجوداً، وقد
يسمى السجود ركوعاً، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] .
قال: (على سبعة أعظم) وأعظم جمع عظم، والعظم واحد العظام في الجسم، ثم ذكر
وفسر، وهذا من الأساليب البليغة، وهي كثيرة في أسلوب النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو أن يأتي بالمجمل ثم يفصل، (أمرت أن أسجد على سبعة) فتعد السبعة
على يدك ثم تنتظر تفصيلها، فتحفظ السبعة لأنها سهلة، ثم تبدأ بالجزئيات
التفصيلية.
ذكر الخلاف في
السجود على الجبهة والأنف
(الجبهة) أعضاء الجسم كلها معروفة ومحددة ومسماة حتى موضع الشعرة، والجبهة
من المجابهة، والوجه من المواجهة، والقفى من التقفية، كل هذه عرفت من واقع
الحال، والجبهة والجبين سواء، والجبهة مقدم الرأس، أو العضو الفاصل ما بين
الوجه والرأس.
(وأشار بيده إلى أنفه) ، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب
فعل إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة يقول:
السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر بهما؟ أي: هل
الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك مغايرة بينهما؟ ولو كان
هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟ الجبهة؛ لأنه نص صريح في العضو، وأشار
إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا،
لأنها لو كانت تساويها لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛
وقوله: (سبعة) ، تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة،
فالتنصيص على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية.
إذاً: الأنف ليس عضواً مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛
فنجد من العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى
الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ.
وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي
للتخيير، فما قال: على الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح،
وأشار إلى الأنف على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو
اقتصر على الجبهة فقط ما صح سجوده.
القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على
الأنف يروى عن أبي حنيفة، ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما
قال: إنه يجزئ عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل
النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض، وقال:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس: (أنهما رأيا النبي صلى الله
عليه وسلم يسجد على أنفه وجبهته) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر
قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) ، وجاء في الحديث: (ورأيت
الطين على أرنبة أنفه) ، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة، والأرنبة في
المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في وقت الطين.
فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف تجزئ وحدها قول
مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف الصحيح، والصحيح أنه يجمع
بين الجبهة والأنف.
ولو جئنا إلى معنى جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف
والرفعة من الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ} [العلق:16] ، فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية
فيه كمال الخضوع للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو
عندك- بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم من
الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم أنفك تفعل
كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس بعد هذا إهانة،
فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا رب
أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي
بذلك.
إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو
عليهما تقع الإهانة، فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها
طواعية لوجه الله تعالى.
النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده فاشتد عليهم الأمر:
ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً على التراب حاسر الرأس لابساً
حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض، في حالة في غاية من التذلل والتواضع،
فقال له جعفر: أيها الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي
حدث؟ يريد: هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله
عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على أعدائه، ومما
جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من عبده إذا أحدث له النعمة
أن يحدث له تواضعاً) ، ونحن بفضل الله في كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا،
فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة، ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة
تجديداً للصلة بين العبد وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما.
وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة
التشريع فيها واضحة.
كيفية تمكين الجبهة
من الأرض
بقي عند الفقهاء تحقيق المناط وهو: كيف يتم السجود حقيقة على الجبهة؟ إذا
كانت الغترة، أو عمامة، أو قلنسوة أو أي شيء على الحواجب، وسجدت على الأرض،
فهل الجبهة باشرت الأرض أم أن بينهما حائل؟ الفقهاء يبحثون عن أثر وجود
عازل أو حاجز بين الجبهة وموضع السجود على السجادة أو التراب أو الحصى، هل
هو سجود على الجبهة أم سجود على الحائل دون الأرض؟ فنجد النزاع أو الخلاف
يرجع إلى تحقيق المناط في حقيقة السجود، فنجد بعض العلماء وخاصة الشافعية
يشددون في هذا ويقولون: لا يصح السجود إلا على الجبهة، ولا يصح على خارج عن
الجبهة أو شيء يتحرك بحركة المصلي، هل تتحرك معك الغترة أم لا؟ نعم، إذاً:
لا يصح أن تسجد على طرف الغترة، لابس درّاعة كبيرة واسعة أو برنس أو ثوب
البادية وكمه يُدخل اثنين معك، أو أي شيء يتحرك بحركتك في قيامك وقعودك؛ لا
يحق لك أن تسجد عليه عند الشافعي.
وغيره يقول: الأمر أوسع من هذا؛ لأن السجود يتحقق بالانحناء ووضع الجبهة
إلى الأرض، وكونه يوجد حائل أو لا يوجد حائل فإن ذلك لا يمنع من كونه سجد،
لكن يذكر الصنعاني في شرح هذا الحديث، وابن حجر في شرحه في الفتح روايات
-وإن كان يضعفها البيهقي رحمه الله-: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن
يسجد على كور العمامة) ، والكور: هو التكوير، والعمامة تلف مثل عمامة الرجل
السوداني وأمثالها، فالاستدارة التي توجد على الرأس إذا كانت إلى الجبهة
وسجد، فهل سجد على الأرض أم على كور العمامة؟ يقولون: هذا سجد على كور
العمامة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً سجد على كور
العمامة فأشار إليه أن يرفع) ولكن كما قلنا: البيهقي ضعف كل هذه الروايات.
حكم كشف أعضاء
السجود في الصلاة
بقية الأعضاء السبعة التي جاء ذكرها هل يجب كشفها حتى تباشر الأرض كما
تقولون في الجبهة: لا يصح السجود عليها مع وجود حائل؟ قالوا: لا، فيستحيل
كشف الركبتين للسجود؛ لأن فيه كشفاً للعورة وإبطالاً للصلاة، ولا تنسوا
القاعدة التي يقولها ابن دقيق العيد: الفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال كان
باطلاً.
إذاً: هذا الفرع باطل لأنه سيبطل الأصل.
إذا قلتم بأن الركبتين كشفها عورة؛ فإذا كان لابساً الخف ومسح عليه، وله
يوم وليلة أو ثلاثة أيام، ومعلوم أنه سيصلي في اليوم والليلة خمس صلوات؛
فهل يصح أن ينزع الخفين ليباشر بقدميه الأرض؟ لا؛ لأن من نواقض الوضوء
لماسحٍ على الخفين نزع الخفين، هذا عند الجمهور بصرف النظر عن المخالف، فهل
تقولون لمن لبس خفين: انزعهما لتباشر بالقدمين الأرض؟ لا.
إذاً: تسامحتم مع صاحب الشراب، ولو توضأ وغسل القدمين، لا تقولون: اخلع
الشراب حتى تصح الصلاة.
فإذاً: يجوز ستر الركبتين والقدمين، وهل يمكن لإنسان يهذي ويقول: إذا لبس
قفازات ما جاء النص أن يخلعها حتى تباشر بيديه الأرض، ولكن جاء حديث آخر
يذكره ابن حجر، ويذكره في نيل الأوطار بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا
يصلون وأيديهم في ثيابهم، وكون اليد من داخل الثياب وهو ساجد، فالثياب
حائلة بين يده وبين محل السجود، وهذا نص مختلف في رفعه ووقفه، والموقوف
أصح، وسواء كان مرفوعاً أو موقوفاً على الصحابة؛ فإذا فعل ذلك أصحاب رسول
الله، فليس من المعقول أن يفعلوا ما يبطل الصلاة.
والرد على من يقول: لا يصح السجود على متحرك بحركة المصلي يذكره مالك في
الموطأ قالوا: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم
يشكنا) ، أي: لم يسمع شكوانا، بمعنى: كان المسجد تأتيه الشمس فتكون أرضه
حارة، فإذا سجدوا كانت حرارة الحصوة على الجبهة لا تحتمل، (فكان أحدنا يسجد
على طرف ثوبه -أي: على كمه- وكان بعضنا يأخذ القبضة من الحصباء) ، أي: إذا
سجد وقام للركعة التالية ملأ يده حصباء وأبقاها في كفه حتى يقرأ ويرفع
ويركع (فإذا أراد السجود بسطها وسجد عليها) وهذه متحركة بحركته وهي أيضاً
حركة زائدة، فالثوب لعله بضرورة الحال، لكن هذه قصداً يحملها معه في كفه،
ثم يطرحها ويسجد عليها؛ لأنها تكون بعامل وجودها في كفه قد بردت من تلك
الحرارة الشديدة.
وخروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً للمعنى، وإبعاداً لشبهة احتمال الكبر كما
في قصة الغرانيق، فالمشركون كلهم سجدوا مع رسول الله إلا واحداً رفع قبضة
من الأرض ووضع جبهته عليها، فكان ذلك كبراً منه عن السجود؛ فنقول: إن كشف
الجبهة أولى، خروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً لمعنى الخضوع والخشوع بين يدي
المولى سبحانه، وإبعاداً عن احتمال الكبر، وحتى لا يتذرع البعض بأن فلاناً
يفعل كذا، وفلان يفعل كذا، وهذا جائز، وهو لا يفعلها على سبيل الجواز، ولكن
يفعلها كبراً، خروجاً من هذا كله، فإنه يبتعد عن تغطية جبهته عند السجود.
معنى قوله: (أعظم)
قوله: (أسجد على سبعة أعظم) ، صريح كلمة: (أعظم) ، وإن كان العظم ليس بظاهر
فالمراد به: الجلد واللحم، ولكن حقيقة العضو العظم: {فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14] ،
فالأصل في خلقة الإنسان الهيكل العظمي، وليس هناك هيكل لحمي؛ فحقيقة هيكل
الإنسان وتكوينه الهيكل العظمي، مثلما يقولون على المسلح غير المشطب: عظم،
وليس فيه ولا حتى قد درهم واحد من عظم، ولكنه حديد وأسمنت، لكن لشبهه
بالهيكل العظمي في الإنسان شبهوه به ثم يأتي الجسم ويكسى لحماً.
إذاً: الحديث ممكن نقول: فيه نوع تجوز.
وهل في اليدين عظم واحد؟ كل إصبع فيها ثلاثة مفاصل، وأكثر سلامى الجسم في
القدمين والكفين، وسمى اليدين عظمين، وفيهما عشرات العظام، إذاً: الحديث
فيه مجال للتجوز والتوسع.
ونص على العظم الأول بأنه الجبهة، فالأولى أن يحاول الإنسان أن تكون الجبهة
مكشوفة ما أمكن كشفها، ولا محذور فيها كالركبتين، وكالقدمين عند لبس
الخفين، والله تعالى أعلم.
كيفية السجود على
الكفين
قال: (واليدين) ، نعرف بأن جسم الإنسان فيه تسمية مجملة ومفصلة، فاليد من
المنكب إلى الظفر، والرجل من الفخذ أو المفصل الذي بين الحوض والفخذ إلى
أصابع القدمين، وكل جزء من اليد له اسم مستقل، فلدينا العضد، ثم الساعد، ثم
الكف، وفيه عدة عظام تتحرك، ثم الأصابع، ولكل إصبع عظام، وكذلك الأصابع كل
إصبع له اسم، حتى الإصبع الواحدة أجزاؤها لها أسماء: الأنملة والوسطى.
إذاً: لفظ اليدين هنا مجمل كما جاء الحد في قطع يد السارق، والتيمم، وجاءت
مفصلة في الوضوء، قال في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
[المائدة:6] ، لكن في التيمم قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة:38] ، ثم تأتي السنة وتبين إلى أين؟ وما المراد بمسمى اليد؟ هل هي
بكاملها نبطحها ونمدها على الأرض؟ لا قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما
رأيتموني أصلي) ، ووجدنا أن المقصود بالعضوين هنا الكفين فقط، وستأتي نصوص
تمنع أن يلامس الزند الأرض، وأن يفترش ذراعيه.
وهنا أيضاً مباحث للفقهاء في الكفين: كيف تسجد على الكفين: أتطبق يديك؟ لا،
بل تبسط أصابعك، مفرجة أم مضمومة؟ مضمومة؛ لأن في تفريجها انحراف لبعض منها
عن القبلة؛ لأن زاوية الأصابع زاوية حادة، وهذه الزاوية الحادة لو قسناها
يمكن أن تكون ثمان درجات أو سبع، وستكون المسألة سهلة إذا كان الفارق عشرة
سم، الآن الإصبع يتجه ربما إلى ركن المسجد هذا، وسيذهب إلى الشرق عن نقطة
تلاقي الإصبع من هنا، إذاً: لو أن الإصبع الوسطى تلقاء الكعبة فعلاً كما هو
محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فستكون التي تليها منحرفة عنها فعلى
ذلك قالوا: ببعد المسافة يكون الانحراف بعيد جداً، يمكن أن تذهب أصبع إلى
بلاد المغرب والأخرى إلى الهند.
فإذا كان مضموم الأصابع وسجد بسط كفيه وضم أصابعه، بخلاف وقت الركوع: فإن
الأصابع تفرج وتقبض على الركبة، كما جاء: (كأنه قابض على الركبة) .
إذاً: وضع الأصابع بين الضم والتفريج يختلف بوضعهما في مكانهما.
وهنا أيضاً بحث آخر: أين تكون الكفان من الجبهة؟ هل بعدها أم قبلها، أم على
مساواتها؟ تكون الكفان مضمومتا الأصابع مقاربة للصدغين، لا تتقدم على
الجبهة، ولا تتأخر بعيداً عنها؛ لأن هذه هيئة تنافي طبيعة الإنسان في سجوده
العادي، وفيه تكلف أو تقصير.
هيئة الركبتين
وأطراف القدمين في السجود
قوله: (والركبتين) ، تقدمت الإشارة بأنه لا يشترط أن تكون مكشوفة أو مباشرة
للأرض في حالة السجود، فلو نزل على اليدين وأطراف القدمين ورفع ركبتيه
كحركة رياضية ما تم السجود، فلابد من وضع الجبهة والكفين والركبتين.
قال: (وأطراف القدمين) ، لم يقل: والقدمين؛ لأنه لو قال: (القدمين) فحيثما
كانت القدمان أجزأا، وأطراف القدم هي الأصابع، وأحياناً ترى -وخاصة في
مواسم الحج والعمرة- بعض الناس لم يتمرن كثيراً على الصلاة، وربما أنه بدأ
يصلي لما عزم على الحج، فتجده يسجد ويرفع قدميه من الخلف، فهذا ما أكمل
السجود؛ لأن عضوين من أعضاء السجود لم تستخدم في السجود.
وأطراف القدمين في السجود لها ثلاث حالات: إما أن يسجد على الأصابع، وإما
أن يثنيها متجهة إلى القبلة ناصباً القدمين، وإما أن يثنيها إلى الخلف، وأي
الأوضاع مطلوب؟ أن تكون الأصابع مثنية إلى الأمام متجهة إلى القبلة، ولو
جعلها واقفة على أطراف الأصابع على الأظافر فقد سجد لكنه ترك الأولى، كما
لو ثناها إلى الوراء، وما دام أنه معتمد في السجود على الأصابع، فالسجود
وافي، لكن الهيئة الأكمل أن تكون الأصابع متجهة إلى القبلة.
شرح حديث: (كان إذا
صلى وسجد فرج بين يديه)
قال رحمه الله: [وعن ابن بحينة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، متفق عليه] .
إذا عرفنا أن المراد بالكفين اليدين، وأن نص الفقهاء على أن تكون منضمة
الأصابع، وجئنا إلى القدمين؛ وعرفنا بأن موضع السجود هو أطراف الأصابع
وهناك حركة وهيئة تتعلق باليدين مرة أخرى جاءت هنا: يقول ابن بحينة: (كان
إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، ما المراد باليدين؟ انظر
إلى قوله: (حتى يبدو بياض إبطيه) ، أي جزء من اليد الذي يغطي الإبطين؟ إنه
العضد، فإذا سجد الإنسان وضم عضديه على الكتاب أو العصا أو أي شيء، تضم
العضدين على الجانبين فتلصقهما، ولا يمكن أن تسجد هكذا، لكن فرج بينهما حتى
يبدو بياض الإبطين، وبعض الإخوة -أكرمنا الله وإياهم- يأتي فيصلي فإذا بهذا
المرفق هناك، وهذا الآخر هنا، وآخذ نصف متر عن اليمين، ونصف متر عن الشمال،
تعود هذا منفرداً، وإذا كنت منفرداً لك حرية، ويجب أن يكون المظهر بصفة
عامة مظهر لائقاً، ولا يكون فيه تكلف، فتجد البعض قد يشدد على نفسه أكثر من
اللازم في سجوده؛ حتى يكون الوركان منفرجان، واليدان ممدودتان، ويكون على
سبيل الفطرة غير لائق، فإذا صلى في جماعة يظن أن السنة أن يفرج ليرى بياض
إبطيه؛ فيؤذي هذا، ويؤذي هذا، وإذا كنت منفرداً أو إماماً فبقدر المستطاع،
فالغاية القصوى من تفريج اليد عن الجنب حتى يُرى بياض الإبط، ولو فعل أقل
من ذلك لأمكن، والمحظور هو أن تسجد ملصوق العضدين بالجانبين؛ لأنه لما تأتي
تسجد وأنت هكذا تكون هيئتك هيئة هرة، دعك من الهرة لكن أنت تحكم عليه في
شخصيته كأنه كسلان يصلي وهو عاجز، كأنه يقول: دعني أنتهي منها، لكن يفرج
العضدين، والفقهاء يقولون: ليتميز كل عضو بسجوده لله سبحانه، وأحسن من هذا
ما ذكره صاحب سبل السلام الصنعاني: لئلا يكون في مظهر الكسلان، فالغرض من
هذا ألا تكون في صورة العجز والكسل، وليس الغرض من هذا كما يقولون: فتل
الأعضاء والعضلات، لا، الصلاة خشوع، والصلاة خضوع، ومراعاة اللائق.
والحديث يشير: (حتى يُرى) رؤية الإبطين كانت سهلة؛ فلم يكن هناك ثوب وفنيلة
كم، بل كان هناك الإزار والرداء والقميص، وكم القميص كان قصير وواسع، وأقل
لفتة تبين الإبطين، والإبط ليس بعورة، ونحن الآن لا يستطيع أحد أن يرى إبط
الثاني وهو ساجد، وأصبحت الثياب على وضع آخر بحسب ظروف الحياة، فلو كان
رأساً إزاراً ورداءً أو محرماً فسوف يرى بياض إبطيه، وسيكون من السهل جداً
أن يراه، وأدنى تفريج ولو سنتيمتر واحد سيرى بياض الإبط.
إذاً: ليست المسألة مغالاة ولا تفريطاً، وإنما المراد هو الخروج عن هيئة
الكسلان الذي يأتي الصلاة بدون نشاط، وهذا خاص بالرجال، بخلاف المرأة فهي
تضم نفسها، لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأتين تصليان فقال:
(ضما اللحم إلى اللحم) ؛ لأن ذلك أستر للمرأة.
شرح حديث: (إذا سجدت
فضع كفيك وارفع مرفقيك)
قال رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم] .
معنى الحديث: أن يبقى الكفان مرفوعين ولا يضعهما على الأرض؛ لأنه تقدم أن
أعضاء السجود سبعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة
أعظم) ، فذكر الجبهة وأشار بإصبعه إلى الأنف، وذكر الكفين واليدين
والركبتين والقدمين، (ضع كفيك) ، أي: على الأرض، (وارفع مرفقيك) ، المرفق:
هو المفصل الذي يفصل بين العضد والزند، وهو المنصوص عليه: {وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، وسمي هذا العضو مرفقاً؛ لأن الإنسان إذا
أراد أن يستريح ارتفق على هذا العضو، وجعله على وسادة أو الأرض أو غير ذلك،
فهو من الارتفاق والمساعدة في راحة الإنسان، ورفع المرفقين، أي: لا تكون
اليد بكاملها مسطحة على الأرض، ويكون المرفق واصلاً إلى الأرض كما تصل
الكف، هذه الصورة منهي عنها، بل يضع الكفين، ويرفع المرفقين بحيث لا يكونان
ملامسين للأرض، وهذه الصورة جاء النهي عنها بصريح العبارة أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن افتراش كافتراش السبع، والسبع إذا ربض بسط يديه من
المرفق إلى المخالب على الأرض، وفي الحديث: أنه إذا رفع المرفقين لا
يلصقهما بعضديه، ولكن يجافي بينهما، كما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يجافي بين العضدين حتى يرى بياض إبطيه.
إذاً: من هيئة السجود: أن الساجد يضع كفيه على ما يسجد عليه سواء كان في
الأرض أو على فراش أو نحو ذلك، وأن يرفع المرفق من أعلى لا أن يجعله
مساوياً للكف على الأرض، فيسجد يضع الكفين ويرفع المرفقين، وأن يجافي بين
العضدين لا أن يضمهما.
وتقدمت الإشارة إلى أن مجافاة العضدين على سبيل الاعتدال، وأن من سجد ضاماً
عضدية يكون كالمنكمش في نفسه، ويكون في هيئة الكسلان؛ لأن هذه الحالة لا
تصلح لمن أتى الصلاة عن رغبة ونشاط، كما بين صلى الله عليه وسلم وقال:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ونبهنا على أن هذا بالنسبة للرجال دون النساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم رأى امرأتين تصليان، فأمرهما أن يضما العضدين إلى الجنبين، وقال:
(ضمَّا اللحم إلى اللحم) ، فكلما كانت تضم بعضها إلى بعض كان ذلك أدعى إلى
سترها، ولو كانت مغطاة.
وأشرنا إلى أن الإنسان إذا كان منفرداً أو كان إماماً فإنه يجافي العضدين
مع رفعهما في هيئة معتدلة، لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان في صف الجماعة
فإنه يراعي من على جانبيه؛ فلا يجافي بين العضدين مجافاة تؤذي الجار، وتجعل
الفجوة بين الأفراد، ولا يضمهما كما تفعل النسوة، والله تعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [9]
لقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم لمن بعدهم كل هيئات النبي صلى الله عليه
وسلم في الصلاة؛ حتى إنهم نقلوا شكل الأصابع ووضعها في حال الركوع والسجود.
وبعض هيئات الصلاة اختلفوا فيها، مثل: جلسة الاستراحة، والقنوت في الفجر
والوتر، والظاهر أن هذا كله من خلاف التنوع، وعلى ذلك فكله جائز.
شرح حديث: (كان إذا
ركع فرج بين أصابعه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن وائل بن حجر رضي
الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه، وإذا
سجد ضم أصابعه) ، رواه الحاكم.
هنا هيئة الأصابع في حالة الركوع والسجود، يقول وائل بن حجر رضي الله عنه
وهو من أمراء اليمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع ألقم كفيه
ركبتيه، وفرج بين الأصابع.
إذاً: وضع الأصابع على الركبتين حال الركوع تكون مفرجة، ليتمكن من قبض
الركبة كاملة، وليس هذا من باب الاستناد على الركبة، ولكنه هيئة من هيئات
الصلاة، وهو أدعى لمن يطيل الركوع أن يساعده، وعلى هذا: إذا سجدت فضع كفيك
مضمومة الأصابع.
ومن مجموع الحديثين نأخذ هيئة وضع الكفين على الأرض مع الأصابع.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون لنا من صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم الجزئيات: كيف كانت أصابعه حال الركوع مع الركبتين؟ كيف
كانت أصابعه حال السجود مع الكفين؟ وقد تكون تلك الحالات خفية؛ فمفرج
الأصابع وضامها مسائل لا يدركها إلا من تأملها وقصدها، فهم ينقلون إلينا
ذلك حتى إنه ليرى بياض إبطيه، إذاً: هذه صورة من الصور المنقولة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تأتي صورة أخرى وقد تكون أدق، وتَقدَّم لنا في قراءة الفاتحة وبعض
الآيات أو السورة بعد الفاتحة: أنه كان يقرأ بعد الفاتحة سورة صغيرة أو ما
تيسر من القرآن في السرية، أما الجهرية فهي مسموعة، قالوا: كيف كنتم تعلمون
قراءته في السرية وأنتم لا تسمعونها؟ قالوا: نعرفها بتحرك لحيته، وكان يرفع
صوته أحياناً، فنقلوا لنا تحرك اللحية، ورؤية بياض الإبط، ووضع الأصابع على
الركبة، وضع الأصابع عند السجود؛ فهل هذه الأشياء أظهر أم وضع اليمنى على
اليسرى بعد الرفع من الركوع؟ وأيهما أوضح؟ وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع
من الركوع أوضح بلا شك، حتى إن ضعيف النظر يدركها، لكن الأصابع مفرجة
ومضمومة واللحية تتحرك لا يدركها إلا من تأملها، وكان قوي النظر.
ولذا نقول: لا تشددوا فيما لم يثبت به أثر، ولم ينقل عنه صلى الله عليه
وسلم مفصلاً، فكل ما جاء في وضع اليمنى على اليسرى هو في حالة القراءة، أما
نص صريح ولو حتى ضعيف في أنه كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يرفع من الركوع
يضع اليمنى على اليسرى، فأعتقد لو بحثا ليلاً ونهاراً فلن نجد ذلك، وطلبنا
من الإخوة أن يبحثوا في كتب الحديث والفقه، وأن يأتونا بنص صريح ولو ضعيف
على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع من الركوع وضع اليمنى على اليسرى
فلم نجد، وسننتظر لعل الله ييسر لأحد ولو في مخطوطة من المخطوطات.
إذاً: الأمور الفقهية تجمع لها أطراف الصور، وصفة صلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم نقلت لنا بهيئاتها، ونعلم أنه إذا لم يقبض بعد الركوع ولا قبل
الركوع فالصلاة صحيحة، لكنه ترك هيئة من هيئات الصلاة، أو فعل شيئاً ظنه
هيئة من هيئاتها، والذي نؤكد عليه: أنه لا ينبغي لمن رأى وضع اليمنى على
اليسرى بعد الرفع من الركوع وفعل ذلك أن يعترض على من لم يفعل، ولا من لم
ير ولم يفعل أن يعترض على من فعل، لماذا؟ لا من جهة الثبوت وعدمه ولكن من
جهة صحة الصلاة.
شرح حديث: (رأيت رسول الله يصلي متربعاً)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي متربعاً) رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة.
] .
المتأمل في ترتيب هذا الكتاب المبارك يرى أنه كان من الأولى تأخير هذا
الحديث إلى ما بعد عدة أحاديث؛ لأنه سيأتي بيان كيفية صلاة العاجز عن
القيام، ومجمل ذلك إلى أن نصل إليه إن شاء الله.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي متربعاً) ، ولم تُعْلمنا هل كانت تلك الصلاة فريضة أو نافلة، ولكن إذا
كان الخبر عن أم المؤمنين عائشة فإن تلك الصلاة تكون في البيت، والقرائن
تدل على أن رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم في البيت، وصلاته في البيت هي
نافلة.
إذاً: نحمل هذا الحديث على صلاة النافلة، وبإجماع المسلمين أن النافلة تصح
من مؤديها قائماً وقاعداً، وجاء الحديث بأن: (صلاة القاعد على النصف -أي:
في الأجر- من صلاة القائم) وهذا في النافلة بلا نزاع.
أما الفريضة فيجمعون على أن القيام ركن فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة:238] .
على هذا بقي الكلام في هيئة: (متربعاً) ؛ لأنه سيأتينا البحث فيما بعد عمن
عجز عن الصلاة قائماً ماذا يفعل، وستأتي النصوص في بيان الهيئة والكيفية
لصلاة المريض أو العاجز عن القيام، وهي عدة روايات وأحاديث مفصلة سيتم
الكلام عندها إن شاء الله، لكن يهمنا صورة التربع في الصلاة.
أنت لو كنت قائماً منتصباً شاخصاً، أو نائماً متمدداً أيضاً كخط مستقيم، لو
جلست كجلسة التشهد وأرجلك تشكل حرف (L)
أو كما يقولون: زاوية، لكن إذا ثنيت الساقين أمامك، وجئت بمقياس؛ وجدت
جلستك على هيئة تربيع؛ الطول بعرض الفخذ، والعرض بطول الساق، والظهر تجد
الجلسة على شكل مربع، هات مقياس وقس من الأربع الجهات، ستجد أن المقياس
متقارب، هذا هو الجلوس متربعاً، ولكن عند الفقهاء: أن هيئة التربيع أن تضع
قدم الرجل اليمنى تحت فخذ اليسرى، ظهر القدم إلى الأرض، وبطن القدم تحت
الفخذ، والساق اليسرى تجعل قدمها تحت الفخذ اليمنى، جاعلاً ظهر القدم إلى
الأرض، وبطن القدم إلى الفخذ، هذه صورة الجالس المتربع.
أما حالة العاجز والمريض فكما أسلفنا سيأتي لها نصوص تبيّن حالة العاجز
والمريض عن القيام كيف يصلي، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال، ولو متكئاً
على عصاً أو مستنداً على جدار على تفصيلات جزئية يذكرها العلماء في كتب
الفقه، وعلماء الحديث في شرح الأحاديث الواردة، ولعلها تأتي بعد عدة أحاديث
إن شاء الله.
وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله) ، من نعم
الإسلام، ومن النعم علينا أن يكن أمهات المؤمنين ينقلن لنا ما كان في داخل
بيت النبوة، من كان سيراه داخل ذلك البيت؟ حتى أخص أصحابه ممن يصحبه في
المسجد لن يراه، ولكن من فضل أمهات المؤمنين علينا أن يذكرن لنا هذا، كما
قال الله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] ، والحكمة هي: ما يتلقونه قولاً أو فعلاً من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجح عندنا بالقرائن: أن هذه الصلاة التي
رأته فيها عائشة إنما هي نافلة.
شرح حديث: (اللهم اغفر لي وارحمني ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ،
رواه الأربعة إلا النسائي، واللفظ لـ أبي داود وصححه الحاكم.
] .
المؤلف رحمه الله بعد أن بين لنا السجود (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)
، بين ما سيفعله من سيرفع من السجدة الأولى، وقبل أن يعاود إلى السجدة
الثانية؛ فجاءتنا الصلاة بهذا الترتيب الفعلي، وهيئة السجدة: أن يضع كفيه
مضموة الأصابع رافعاً مرفقيه، فإذا رفع من السجدة وجلس تلك الجلسة ماذا
يقول؟ هنا جاء الدعاء: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ،
وهناك ألفاظ أخرى (واجبرني) بدل: (وارحمني) .
طلب المغفرة والرحمة
من الله
هذه الجمل الخمس لو نظرنا في مجموع دلالتها: نجد المغفرة وهو طلب أخروي
شامل، وارحمني: زيادة في المغفرة؛ لأن الغفران هو الستر والتغطية، والرحمة
إنما هي إغداق النعمة على العبد، شاءت رحمة الله إدخاله في رحمة الله،
فيمكن كما يقال: المغفرة أمر سلبي، والرحمة أمر إيجابي.
(واهدني) : الهداية أمر عام في أمور الدنيا والآخرة، والهداية في الدنيا
هي: التوفيق لأعمال الخير والنجاح والمساعي، يهدى إلى طريق البر، وإلى فعل
الخيرات مع الناس، والهداية في أمور الدين هي: التوفيق بالعمل الصالح
والنتيجة كما جاء القرآن الكريم في أعظم مسألة في أعظم سورة في كتاب الله،
وفي أعظم موقف بين يدي الله، وبعد التحميد والتمجيد والثناء على المولى
سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
طلب العافية من الله
قوله: (وعافني) : العافية أعظم مطلوب للإنسان، وكما جاء في ليلة القدر؛ لما
سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم:
ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)
، تأمل هذا الموقف! أحب الناس إلى رسول الله، وتسأله عن أعظم مطلب عند
المسلم وفي ليلة القدر: ماذا تقول فيها؟ وخير الخلق صلى الله عليه وسلم
يقول هذا لأحب الناس إليه، أي: أنه سينصح لها كامل النصح، (قولي: اللهم ...
) ، وهذا التعليم ليس خاصاً بها، وإنما نقلته لنا لنتأسى بها فيكون للجميع،
كما جاء الحديث: (قولي لواحد منكم كقولي لألف واحد) ، تشريع عام، ونجد
أيضاً المقدمة بين يدي الحاجة والسؤال: (اللهم إنك عفو ... ) ، هذا ثناء
على الله بالصفة التي تريد الباب منها، كأنك عندما تريد أن تطرق باب العفو
عند الله، فإنك تثني عليه بهذه الصفة، فلا أقول: اللهم يا رزاق اعف عني، يا
رحمان يا رحيم اعف عني؛ لأن هذه لها أبواب مستقلة، يا رحمان يا رحيم
ارحمني، يا رزاق يا كريم ارزقني، يا هادي اهدني، فتكون هذه من بابها، فجئت
إلى باب العفو وطرقته وأثنيت على الله بتلك الصفة التي تريد أثرها يصل إليك
أنا عفو ماذا تريد؟ أريدك أن تعفو عني.
وإذا تأملنا هذا المطلب! فإن الإنسان في الدنيا والآخرة يريد المعافاة،
والمعافاة: السلامة من الابتلاء، ويكون في عافية، والإنسان بماذا يبتلى؟
يبتلى إما في بدنه بالمرض، أو ولده وماله وزوجه بالفتنة، فإذا عوفي في بدنه
فالحمد لله، وإذا عوفي في ولده بأن كان رضياً موفقاً مهدياً، وعوفي في
زوجه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
[التغابن:14] ، وإذا عوفي في سلوكه مع الآخرين وفي كل أمور دنياه، فإذا جاء
إلى الآخرة وحظي بعفو الله سبحانه كان مآله إلى الجنة، إذاً: هو في دنياه
معافى من البلاء، وفي أخراه معافى من العذاب؛ فتكون قد جمعت له هذه الكلمة
خيري الدنيا والآخرة.
وقد جاء في الحديث: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه) ؛ لأن الأمن في
السرب أيضاً من المعافاة، معافى من اللصوص والاعتداء والظلم، (عنده قوت
يومه وليله؛ فقد حيزت له الدنيا بحاذفيرها) ، وماذا في الدنيا أكثر من هذا؟
البدن متعافٍ، والقوت الذي يشبعه عنده، والمأوى موجود فهو آمن مطمئن، ولو
بحث وراء ذلك من متعة لم يجد بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلها بين يديه بمتعها.
طلب الرزق من الله
وعلاقته بالقدر
قوله: (وارزقني) : هذا الرزق مضمون فعلاً عند الله، قال تعالى: {وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] ،
(لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) ، وفي الحديث الآخر: (إن الرزق
ليطلبك كما تطلبه، ولن تموت نفس من الدنيا حتى تستوفيه، فأجملوا في الطلب)
اجعل الطلب جميلاً، والله سبحانه وتعالى قد وعد بالرزق عنده: {وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، ومع ذلك يأمرنا بأن نسأل
الرزق، ونقول لأولئك الذين يتكلمون في القدر: إنما قدره الله سبحانه وتعالى
وخفي علينا، وما شرعه الله فهو واضح إلينا، ونحن مكلفون بأن نأخذ ونعمل بما
كلفنا به، أما ما وراء ذلك فلا دخل لنا فيه.
كم شوشت على كثير من الناس علاقة العلم والقدر من المولى والأمر والتكليف
من العبد، والله يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] إن الله سبحانه قد قدر كل شيء
قبل إيجادك بآلاف السنين، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
[الحديد:23] ،.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25] ، وهي
المعجزات الموضحة لصدق رسالتهم، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] .
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا
فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] ، هل اطلعنا عليها؟ أرسل الرسل بالبينات ومعهم
الكتاب يقرأ، وميزان العدالة يطبق، ماذا علينا نحن في هذا الموقف؟ هل نحن
مأمورون بمقتضى ما كتب في اللوح المحفوظ، أم أننا مطالبون بتطبيق ما في
الكتاب والميزان؟ بالكتاب والميزان، وهنا الرزق مضمون، ويكلفنا المولى أن
نسأله الرزق، فهل هو تحصيل حاصل؟ لا والله، هناك أمر وقدر في علم المولى
سبحانه، وهنا تشريع يجب الامتثال له، وهناك صورة قد يتيه الإنسان سنوات حتى
يحصل عليها، وهي أن يكون الأمر عند الله وفي قدر الله على خلاف ما أمر به،
وإنما يأمر به لتظهر نواحي اختيار العبد في القبول أو الرفض.
الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاء إلى إسماعيل
وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] ، وفي هذا تكليف
لإبراهيم أن يذبح إسماعيل؛ فهل امتثل إبراهيم وأطاع إسماعيل أم رفضا؟ بل
شهد الله لهما بالطاعة: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] ، أي: استسلما
لأمر الله {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ، إلى الخطوة الأخيرة في
عملية التنفيذ لأمر الله، ولم يبق إلا جرة السكين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] ، افتحوا آذانكم يا إخوان! واتجهوا إلى
المولى أن يشرح صدورنا، إن المولى عز وجل حينما أمر إبراهيم أن يذبح
إسماعيل عليهما السلام كان في علمه وقدره أنه لن يذبح، ومع ذلك يقول له:
اذبح! كيف يقول له: اذبح وهو يعلم أنه لا ذبح، وهو لم يقدر ذلك؟! حينها
علمنا بأن الله يعلم بأنه لا ذبح، ولم يقدر الذبح، وأمر إبراهيم بأن يذبح
حال علمه سبحانه أن لا ذبح؛ لتظهر تلك الوقفة الكريمة من إبراهيم وإسماعيل
عليهما السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي * فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، وكانت النهاية:
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104] ، وهناك: {قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
[الصافات:105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ، إحسان
إبراهيم وإسماعيل على أي شيء وهو لم يفعل؟ في القدر أنه لن يذبح، وهو نفذ
خطوة القدر، وكان من المحسنين؛ لأنه أجاب وأطاع الله في الأمر الذي وجه
إليه، وأمر القدر كان غائباً عنه.
إذاً: الأمر والقدر من جانب الله، والتكليف والفعل يختص بالعبد، وإثابة
العبد أو عقوبته على اختياره لأمرين هما سواء: {وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، لو كان غير إبراهيم وقيل له: اذبح! لقال: ما
أنا بذابح! ولو كان غيره إسماعيل لقال: لست بمذبوح، ولن أسلم نفسي لك!
ولكنهما تلقيا أمر الله التكليفي كأنه أمر كوني لا محالة منه، فكانا من
المحسنين.
وهنا الرزق مضمون: (ويؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أم
سعيد) ، رزقه مكتوب قبل أن يولد وهو نطفة في الرحم، وهنا قال: (وارزقني) ،
وإذا كان رزقك مكتوباً فلِمَ تسأل الله؟ نعم، أنا أُِمرت أن أسأل الله
الرزق مع أنه مكتوب لأكون ممتثلاً أمر الله فيما كلفني به.
ومن هنا نجد أن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر ودعاء؛ ولذا جاء: (الدعاء مخ
العبادة) ، وليس هناك عبادة تخلو من الدعاء، لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا
حج ولا جهاد، ولا أي عمل من العبادة لله إلا الدعاء فيه مثل تيار الكهرباء
في الجهاز مخ العبادة، والإنسان بلا مخ هيكل، والعبادة بلا ذكر ولا دعاء
هيكل، لذا كان الدعاء مخ العبادة، وجاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة) ؛
لأنه إنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
الرد على من يقول
بخفة ركن الجلسة بين السجدتين
هذا الدعاء الذي مر بنا بين السجدتين كم يستغرق من الوقت؟ لو قلتها بالسرعة
المتوسطة لا بطيئة ولا سريعة هل يستغرق ذلك نصف دقيقة؟ أريد أن أقول: هذا
يرد على من يقول: الجلسة بين السجدتين والرفع من الركوع ركن خفيف، وتقدم
لنا أنه جاء عنه صلى الله علي وسلم بعد الرفع من الركوع: (سمع الله لمن
حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه ملء السماوات وملء
الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) وفي هذا أيضاً رد على من يقول: إنه ركن
خفيف، ونجد من يقوم قائماً للقراءة فيركع، ثم عند الرفع لا يستقر قائماً
ولا ثانية واحدة! وهذا مخالف لهذه السنة النبوية الكريمة، وكذلك يكون
ساجداً ويرفع من السجدة، وقبل أن يستقر جالساً يهوي مرة أخرى، متى دعا؟ لم
يدع بشيء، إذاً: المحروم من حرم نفسه من هذا الدعاء في هذين الركنين.
شرح حديث جلسة
الاستراحة
قال رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً)
، رواه البخاري.
] .
هذه يسمونها جلسة الاستراحة، يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي،
فإذا كان في وتر) بمعنى: الصبح ركعتين شفع، والركعة الأولى وتر، فالأولى من
الصبح وتر، والظهر أربع ركعات، والأولى والثالثة منه وتر، والثانية
والرابعة منه شفع، وهكذا، فالأولى من الصبح والأولى والثالثة من الرباعية
والأولى والثالثة من المغرب هذه وتر، فتأتينا قاعدة: لم يقل الأولى من
الصبح والظهر والعصر والمغرب والثالثة من كذا وكذا لا هذه جملة قاعدة
مطردة: (إذا كان في وتر من صلاته) ، والوتر في الصلاة يتحقق بالأولى في
الصلوات الخمس، وفي الثالثة من غير الثنائية.
(لم ينهض حتى يستوي قاعداً) ، هذه يسميها الفقهاء جِلسة الاستراحة، ولا
مشاحة في الاصطلاح، لأننا لو قلنا: لماذا الاستراحة؟ أين التعب الذي جاء؟
ما زلنا في الركعة الأولى، وليس هناك موجب للتعب الآن؛ لأن الاستراحة تكون
نتيجة للتعب، فهي ليست الجلسة بين السجدتين بل بعد سجود السجدتين في الركعة
الأولى، ويريد أن ينهض ليأتي بالركعة الثانية، ولكن قبل أن ينهض ويستوي
قائماً فإنه ينهض من سجوده إلى قعود، ثم ينهض إلى القيام من قعود لا من
سجود.
ونجد بعض الفقهاء يقول: هذه الجلسة لا يجوز فعلها؛ لأنها زيادة في الصلاة،
وكلمة استراحة تكون عن كسل، ولكن لا ينبغي وجود خلاف؛ لأنهم متفقون على أن
هذه الفعلة هيئة من فعله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فإن السنة في هذه
الصورة إذا سجد السجدتين في الركعة الأولى وأراد أن ينهض فلا ينهض من سجوده
إلى قيامه، ولو تأملنا الحركة الطبيعية لإنسان ساجد: الجبهة والكفين في
الأرض، ثم أردنا منه أن ينهض من سجوده قائماً، هل كل إنسان يستطيع أن يفعل
هذا؟ ليس من السهل، لكن حينما ينهض من السجود إلى قعود؛ فهذه هيئة تتناسب
مع طبيعة الإنسان، وأيسر له في قيامه من كونه يقوم من سجوده، والذين قالوا:
إنها لا تجوز، وأنها عمل زائد عن الركوع والسجدتين، يجاب عنهم بأن النص جاء
عنه صلى الله عليه وسلم وهو يتمشى مع الإرفاق بالمصلي، ولا ينبغي أن يقال
فيه: إنه عمل خارج عن الصلاة أو زائد عن الصلاة، بل نقول: إنه السنة، وكما
قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
شرح حديث: (قنت شهراً بعد الركوع)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت
شهراً بعد الركوع؛ يدعو على أحياء من العرب ثم تركه) ، متفق عليه] .
حديث أنس هذا أصح الأحاديث التي وردت في الباب، وأنس له عدة روايات في
النوازل وفي غير النوازل، وله حديث أنه بعد الركوع، وحديث أنه قبل الركوع،
فـ أنس له دور كبير في باب القنوت، وهذا الحديث هو من المتفق عليه.
(قنت صلى الله عليه وسلم شهراً) ، أي الشهور هذا؟ إذاً: قبل ذلك لم يكن
قنوت، وعليه فالقنوت ليس مشروعاً ابتداءً مع الصلاة، وإنما هو أمر عارض،
وتاريخه أشار إليه أنس، ولكن في الجملة: (يدعو على أقوام) .
سبب قنوت النبي صلى
الله عليه وسلم على أحياء من العرب
يتفق الجميع بأن سبب مشروعية القنوت في النازلة التي قنت فيها صلى الله
عليه وسلم شهراً في الصلاة: أنه كان يدعو على أقوام، وتاريخ هذا القنوت
وتلك النازلة بعد غزوة أحد بأربعة أشهر، وهي حادثة القراء، عندما جاء رجل
من قبل نجد وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يقبله ولم
يبعد، ثم قال: يا رسول الله! لو أرسلت رجالاً قبل نجد يدعون إلى ما تدعو
إليه لعلهم يجيبونك، قال: (أخشى عليهم أهل نجد؟ قال: أنا كافل لهم) ، فتخير
صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً من القراء، وليس معنى القراء: أصحاب
التجويد المحترفين القراءة، لكن كان يقال لطلبة العلم ولحملة كتاب الله
قراء؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم أربعين بإمرة رجل منهم، فلما جاءوا إلى بئر
معونة قدموا خطاباً لـ أبي الطفيل، فلما رأى الخطاب وقبل أن يقرأه قتل هذا
الصحابي، ثم استعان على الرفقة البقية بجماعته فأبوا عليه، وقالوا: قد
أعطينا فلاناً عهداً في حفظهم يعنون الصحابة، فاستعان برعل وذكوان وعصية،
فأجابوه، وكان القوم في مقيلهم، فإذا بهؤلاء الناس يحيطون بهم، فتناولوا
سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا جميعاً، ما عدا رعيان الإبل ورجل كان ضمن الجرحى،
فالرعيان رءوا الطيور تحوم حول المكان؟ فقالوا: ما حامت هذه الطيور إلا على
شيء، فجاء اثنان ووجد أصحابهم على تلك الحالة، فقال واحد: نرجع إلى رسول
الله نخبره، وقال الآخر: والله ما أذهب وأترك أصحابي، بل أموت على ما ماتوا
عليه، وأخذ يقاتل القوم حتى قتل، والثاني أخذ أسيراً، والذي كان في الجرحى
حسبوه من القتلى، ففي الليل تحامل على نفسه وجاء وأخبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما أخبر رسول الله حزن حزناً شديداً -كما في رواية البخاري
رحمه الله- ثم أخذ يدعو عليهم.
وتعددت الروايات في هذا، فمنهم من يقول: (في الصلوات الخمس) ، ومنهم من
يقول: (في المغرب والفجر) ومنهم من يقول: (في الفجر فقط) ، فنجد الروايات
متعددة في موضع قنوت تلك النازلة.
إذاً: مبدئياً سبب وتاريخ مشروعية القنوت كان بعد أحد بأربعة أشهر، وبسبب
مقتل القراء، فحزن عليهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ يدعو على الذين قتلوهم.
وحديث أنس هذا أول حديث يورده المؤلف، وفي هذا لفت نظر طيب جداً؛ فبدأ
بحديث بدء المشروعية، وعرفنا متى وجد القنوت ولأي سبب، ومما يتعلق بعلم
الحديث: أن لفظ الحديث هنا يدعو على أحياء من العرب، وأحياء فيها عموم
وخصوص عام من جهة عموم أفراد الحي، وخاص من جهة أنه ليس على العرب جميعاً.
بحث فيمن يحق له
القنوت
هنا يأتي بحث الفقهاء: هل في القنوت يدعو الإمام على مجمل جماعة أم يسمي
أفراداً بأعيانهم؟ هذا خاص بالإمام؛ لأن الرسول بصفته إمام المسلمين هو
الذي دعا، ولا يجوز لفرد من أفراد الناس أن يدعو أو أن يقنت في النوازل
بمفرده؛ لأن الرسول لم يأمر الناس أن يفعلوا، وفعله بنفسه، وهذه من أبحاث
الحديث وفيها الخلاف، وجاء في بعض الأحاديث الأخرى: أن الرسول صلى الله
عليه وسلم في قنوته في بعض النوازل سمى أشخاصاً، مثل نازلة سلى الجزور في
مكة، وفي أحد سمى: أبا سفيان وصفوان، فسمى أشخاصاً بأعيانهم، وقد يكون
الدعاء في نازلة للمؤمنين بنصرهم وتأييدهم، وقالوا: روت عائشة وغيرها: (أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قنت لغيبة عثمان حينما قيل: إنه قتل) ، فقنت
ورفع يديه، ودعا لشخص بعينه.
(يدعو على أحياء من العرب) : أحياء جمع حي، وهم الجماعة القاطنون بمنزل
مستقل، وجاءت تسميتهم بـ: رعل وذكوان وعصية.
وهم قبائل تلك المنطقة الذين طوقوا أولئك القراء وقتلوهم.
تحرير النزاع في حكم
القنوت في الفجر
قال رحمه الله: [ولـ أحمد والدارقطني نحوه من وجه آخر، وزاد: (وأما في
الصبح؛ فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) .
] .
في حديث أنس: (قنت شهراً ثم ترك) لماذا؟ انتهت المهمة، وإلى هنا محل اتفاق،
لكن بجمع أطراف الحديث وطرقه ورواياته زيادة على ما اتفق عليه البخاري
ومسلم، فروى أحمد رواية أخرى: (أما الصبح ... ) ، ولماذا ذكر الصبح هنا،
نفهم من قوله: (أما الصبح) أن القنوت السابق لمدة شهر في جميع الصلوات ثم
ترك، أما الصبح وهو إحدى الصلوات الخمس فلم يزل يقنت فيها حتى فارق الدنيا.
إذاً: حديث أنس خاص في النوازل، وقوله: (حتى فارق الدنيا) عام في نوازل
وغير نوازل، وحديث أنس فيه عموم الصلوات الخمس، وفيه خصوص صلاة الصبح، لكن
نجد علماء الحديث يقولون: إن القنوت في النوازل فقط على ما جاء في المتفق
عليه من حديث أنس، وينفون القنوت في غير النوازل، ففريق قال: أما الصبح فلا
زال يقنت بصفة دائمة نوازل أم غير نوازل حتى فارق الدنيا، والآخرون يقولون:
انتهت بانتهاء الشهر، ونتنبه إلى دقة مآخذ الفقهاء من الألفاظ في هذا
السياق.
إذاً: انتهينا إلى مسألتين: الرواية المتفق عليها، وفيها القنوت في النوازل
فقط، وهذا مما لم يختلف فيه أحد، والرواية التي عند أحمد زيادة على ما عند
الشيخين، وفيها إثبات القنوت في الصبح خاصة، وهذا الذي أخذ به من أخذ أن
القنوت في الصبح، وستأتي الأحاديث الأخرى تبين أن القنوت كان في الوتر،
والشافعي والمالكية أخذوا من هذه الرواية القنوت في الصبح، وإن اختلفوا هل
هو قبل الركوع كالمالكية، أم بعد الركوع كالشافعية، وسيأتي تفصيله إن شاء
الله.
شرح حديث: (كان لا
يقنت إلا إذا دعا لقوم)
قال: [وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا
إذا دعا لقوم أو دعا على قوم) صححه ابن خزيمة.
] .
أنس رجع مرة أخرى لقنوت النوازل، وهناك: (أما الصبح فلا زال يقنت حتى فارق)
، من هنا قال بعض العلماء: أنس يقول: ما كان يقنت إلا إذا دعا في النوازل،
ولكن هذا الأثر يُعارض بآثار أخرى على ما سيأتي إن شاء الله، ويهمنا
الروايات المختلفة عن أنس نفسه، وهنا قال: (إلا إذا دعا على قوم من
الأعداء، أو دعا لقوم من المسلمين والمستضعفين) ، وكونه صلى الله عليه وسلم
يدعو على قوم في نازلة؛ فهذا محل اتفاق بين العلماء، وعلي رضي الله تعالى
عنه كان في حربه مع أهل الشام، وعمر رضي الله تعالى عنه كان إذا أرسل جيشاً
يدعو له ويقنت.
إذاً: القنوت في النوازل عند الدعاء لقوم أو على قوم ماضٍ في طريقه، وهو من
عمل الخلفاء الراشدين.
شرح حديث: (أي بني!
محدث)
قال: [وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: (قلت لأبي: يا أبت! إنك
قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي،
أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني! محدث) رواه الخمسة.
] .
هنا سؤال: أكانوا يقنتون في الفجر؟ وهو سؤال عن القنوت في تلك الأزمنة، وعن
خصوص القنوت في الفجر، فقوله: (أي بني محدث) هل هو في الفجر أم في عموم
القنوت؟ في الفجر؛ لأن عموم القنوت ثبت عندنا، إذاً: قوله: (أي بني محدث)
منصب على كونه في الفجر، ولذا قال قوم: القنوت دعاء، وكلام البشر ينبغي أن
يكون في النافلة لا في الفريضة، لكن إذا ثبت بأنه صلى الله عليه وسلم كان
يقنت في الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة فلا حاجة لرده، ولذا يتكلم
المؤلف وغيره على ضعف هذا الأثر.
شرح حديث: (علمني
كلمات أقولهن في قنوت الفجر)
قال: [وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله
عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر) .
] .
هذه لطيفة من لطائف المؤلف، فلما أورد (أي بني محدث) موجهة للصبح؛ أراد أن
يبين لنا متى يكون، فجاء بحديث الحسن بن علي، وقنوت الوتر إذا ثبت لا ينفي
قنوت الصبح، ولكن يهمنا أنه أثبت قنوتاً في الوتر، ومن هنا: أخذ الأحناف
والحنابلة أن القنوت محله الوتر، وأخذ المالكية والشافعية أن القنوت محله
الصبح، وبهذا يكون التسلسل مع المؤلف على هذا السياق.
ومن قوله (علمني كلمات أقولهن) : قال بعض العلماء: ينبغي ألا يتعدى الإنسان
في قنوته على هذه الكلمات التي علمها رسول الله للحسن، وقالوا: هذا دعاء في
الصلاة ينبغي أن يتقيد به المسلم، والآخرون قالوا: وهل نهى عن غيرها؟
قالوا: لا، قالوا: إذاً: علمنا، كما جاء في التشهد كان يعلمنا التحيات كما
يعلمنا السورة من القرآن، ولما جاء معها (كما يعلمنا السورة من القرآن) هل
تكون مثل هذه المطلقة؟ لا، هناك يجب أن يتقيد؛ لأن السورة من القرآن، لا
يصح فيها الزيادة ولا النقص، بخلاف علمني، لا مانع أنه علمه هذه وقد يعلم
غيره غيرها، لكن يهمنا ثبوت القنوت في الوتر، وبه أخذ من قال من الأئمة
رحمهم الله.
قال: (اللهم اهدني فيمن هديت) ، هذه ألفاظ يحفظها الشافعية خاصة ومن أخذ
بهذا الدعاء، ومن أخذ بدعاء علي فإنه أوسع من ذلك، والذي يهمنا أنه جاء
تعليم كلمات تقال في قنوت الوتر، وجوهر الموضوع عندنا إثبات القنوت في
الوتر، وأن الرسول علم الحسن كلمات فيه، فإذا كان علم كلمات في قنوت الوتر
فهذا دليل على إثبات القنوت في الوتر.
ومثله: (ماذا أقول إن أنا زرت المقابر؟ قال: قولي: ... ) وعلمها ما تقول،
فهذا أخذ منه العلماء تقرير جواز زيارة النساء للمقابر ما لم يتكلمن بما هو
مناف للشرع.
قال:: ( [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت،
وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا
يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت) ، رواه الخمسة.
] .
أعتقد أن أمثال هذه الألفاظ مرت علينا مراراً، ولكن يهمنا الجديد فيها:
(فإنك تقضي ولا يقضى عليك) ؛ لأنه سبحانه مالك الملك، وهو يجير ولا يجار
عليه، فهذا من هذا الباب، ومن أجاره الله لا أحد يستطيع أن يصل إليه بشيء،
(ولا يجار عليه) : لا يمكن لكل الخلائق في الدنيا أن يجيروا إنساناً من
عذاب الله على الله، لا يقولون: يا رب لا تعذبه ونحن أجرناه! من أنت حتى
تجير على الله؟.
قال: [وزاد الطبراني والبيهقي: (ولا يعز من عاديت) ، وزاد النسائي من وجه
آخر في آخره: (وصلى الله تعالى على النبي) .
] .
كل هذه الزيادات موضع خلاف؛ فهناك من يقتصر على ما اتفق عليه ويترك ما
انفرد به الراوي، ولكن القاعدة الأصولية والحديثية: زيادة الثقة مقبولة،
فإذا جاء النسائي بزيادة: (وصلى الله على النبي) فهي مقبولة، وإذا وجدت
قرائن وشواهد لها تكون مؤيدة أكثر، ونحن عندنا من آداب الدعاء ومن شروط
قبوله: أن تبدأ فتحمد الله وتصلي على رسوله، وتختم أيضاً بالصلاة على
رسوله؛ فإنه حري أن يستجاب لك.
إذاً: الزيادة التي زادها النسائي لا تعارض معها بل يوجد في عموم الأحاديث
ما يؤيدها.
شرح حديث: (كان رسول
الله يعلمنا دعاء ندعو به)
قال رحمه الله: [وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) ، وفي
سنده ضعف] .
الحسن يقول: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الوتر) ، وهذا يقول: (ندعو به في
القنوت من صلاة الصبح) ، وكما ذكرت لكم أن مبحث القنوت وجدت فيه آثار شبه
متعارضة، منها ما يصح سندها، ومنها ما لا يصح، وما يثبت في موضع ينفى في
موضع آخر، فهذا بعدما أثبت لنا كلمات في قنوت الوتر يأتينا بكلمات في قنوت
الصبح.
ونجد الأئمة رحمهم الله يختلفون في مواقع القنوت، وهل يكون اختلافهم هذا من
عندياتهم ومرئياتهم أم إزاء هذا السيل من الأحاديث؟ بل إزاء هذه الروايات،
ومن أخذ برواية الوتر أو برواية الصبح هل يعاب عليه؟ لا، وهذا أهم ما يكون
في المسألة.
وكنت أود لو تضاف هذه لمسائل ابن القيم رحمه الله التي قال فيها: (ألفاظ
الأذان والإقامة وأنواع -النسك الثلاثة- وضربات التيمم، لا ينبغي لإنسان أن
يعترض على من أخذ ببعض الروايات فيها) ؛ فمن أخذ بالإفراد لا يعاب عليه،
ومن أخذ بالتمتع لا يعاب عليه، ومن أخذ بالقران لا يعاب عليه؛ لأن في كل
نوع من أنواع هذه الأنساك الثلاثة أحاديث صحيحة، وكذلك ألفاظ الأذان: جاء
الأذان بالتربيع وبالتثنية، وجاءت الإقامة شفعاً ووتراً، فمن أخذ بالتثنية
فلا يعاب عليه، ومن أخذ بالتربيع لا يعاب عليه، ومن تيمم بضربة فلا يعاب
عليه، ومن تيمم بضربتين فلا يعاب عليه، وأقول كذلك: تضاف إليه هذه المسألة:
من قنت في الوتر لا يعاب عليه، ومن قنت في الصبح لا يعاب عليه، والله تعالى
أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [10]
التشهد في الصلاة ركن من أركانها أو واجب من واجباتها على خلاف بين
العلماء، وقد اشتمل على معان عظيمة ينبغي للمسلم تأملها وتدبرها.
شرح حديث: (إذا سجد
أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك
البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، أخرجه الثلاثة، وهو أقوى من حديث وائل بن
حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، أخرجه
الأربعة، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وصححه
ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً] .
هذا الحديث وما يأتي بعده يتناول هيئة من هيئات الصلاة ألا وهي: حالة الهوي
إلى السجود، وقدم المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك
البعير) ، إلى هنا نص الحديث، وإلى هنا أداء المعنى المطلوب في هذا
التشبيه، تأتي الزيادة: (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، هذه الزيادة أوجدت عند
العلماء الخلاف، حتى قال ابن القيم: إن في الحديث قلباً، ودعوى القلب أو
الغلط في الحديث تشوش، وإذا انقلب اللفظ في هذه الرواية فقد ينقلب في
غيرها، ونأتي إن شاء الله بشيء من التفصيل في هذه المسألة.
ونقدم قبل كل شيء: بأن هوي المصلي بعد رفعه من الركوع إلى السجدة بأية حالة
من الحالات لا يتعارض مع صحة الصلاة في شيء، إن نزل على ركبتيه أو كفيه
فالصلاة صحيحة، ولا يمكن أن ينزل على رأسه أو مرفقيه؛ إما أن ينزل على كفيه
أو ركبتيه، ولا تخرج حالة المصلي من هذه، والحالات الأخرى التي للرياضيين
غير داخلة في الصلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) ، لو
جئنا إلى هذه الصورة فقط: كيف يبرك البعير؟ في هذه الصورة التشبيه العملي
بصورة البعير، وكل إنسان قد رأى بعيراً يبرك، وكل حيوان من ذوات الأربع
عنده أربعة أرجل، لكن نحن نسمي المقدمتين اليدين، والمؤخرتين الرجلين،
ويقولون في الزرافة: طويلة اليدين قصيرة الرجلين، وكلهن أرجل.
فإذا كان البعير بصورته العملية عند بروكه لا ينزل بالخلفيتين ولكن ينزل
بالمقدمة، نسميها رجلين، فبروك البعير: أن يقدم المقدمتين اللتين نسميها في
غيره اليدين، إذاً: هو لا يبرك كما يبرك البعير، فمن نزل إلى السجدة على
يديه يكون برك بروك البعير وخالف الحديث؛ فإذا نزل إلى السجدة بركبتيه وبدأ
بالخلفيتين، -أي: القدمين المقابلة في البعير بالخلفيتين- فإذا نزل على
ركبتيه من قدميه خالف البعير وصادق الحديث.
إذا اكتفينا إلى هذا القدر نكون قد انتهينا من المشكلة وتم الحديث، ولكن
جاءت عبارة: (وليضع) ، وكأنها تفصيل للمنهي عنه، (وليضع يديه قبل ركبتيه)
فإذا وضع يديه قبل ركبتيه يكون شابه البعير وكأن الحديث يناقض آخره أوله،
(لا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه) ؛ لأن البعير يقدم يديه.
ولهذا التعارض يرى بعض الناس أن قوله: (وليضع) سائلة فيحاول أن يلغيها؛
لأنها ستأتينا بإشكال فتتعارض مع المتفق عليه عندهم وتنقض الصورة المتقدمة،
وبعضهم أعلّ الحديث بها، وهو ظاهر البخاري رحمه الله في صنيعه كما أشار
إليه المؤلف بأن حديث وائل بن حجر له شاهد، وحديث وائل يتعارض مع حديث أبي
هريرة في: (وليضع) ، ولكن البخاري قال: وابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه،
إذاً: هناك مناقشة، وإيرادات على كلمة: (وليضع) ، فمنهم من يلغيها، ويقول:
إنها مدرجة في الحديث، ومنهم من يُعل بها الحديث، وذكروا ذلك ونسبوه
للبخاري، وهو لم يذكر الحديث ولكن نسب إلى ابن عمر الفعل موقوفاً عليه،
وسنأتي له على الكلام على حديث وائل لاحقاً.
فنحن الآن نأخذ الجزء الأول من الحديث وندع لفظه: (وليضع) ، مع حديث وائل،
مع ما نسب إلى ابن عمر موقوفاً عليه، ونص الحديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك
كما يبرك البعير) : يقتضي أن الإنسان لا يقدم يديه، وبهذا النص يأتي حديث
وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه)
، ووضع الركبتين مخالف البروك البعير.
إذاً: حديث وائل يتفق مع حديث أبي هريرة في أن الإنسان لا يقدم اليدين،
قبل: (وليضع) .
فإذا جئنا إلى كلام المؤلف قال: وإن الأول -يعني: حديث أبي هريرة - له شاهد
مما ساقه البخاري تعليقاً بدون سند: وكان ابن عمر يضع يديه، أعتقد أننا
كطلبة علم فعلاً نتساءل، هل هذا فعل عموم الصحابة أم خاص من ابن عمر؟ النص
هنا: (وكان ابن عمر) أين بقية الصحابة؟ إذاً ممكن أن نقول: إن هذا الصنيع
من البخاري يشعر بأن فعل ابن عمر إما أنه مقصور عليه أو أنه قليل جداً،
وأنه تخير ابن عمر من ضمن من يرى ذلك، ويكون بقية الصحابة على خلاف هذا،
وإلا لو كانوا يفعلون مثله ما خصينا ابن عمر بالذكر، ويقال: (وكانوا يضعون)
كما هو الحال في كثير من العبارات عندما يكون العمل عاماً، وعلى هذا يكون
فعل ابن عمر في جانب، وحديث أبي هريرة دون (وليضع) مع حديث وائل بن حجر
معاً في جانب، وبقي كلمة: (وليضع) فإن قلنا: إنها مدرجة، ولما سببت هذا
الاضطراب نلغيها، وإن قلنا: واردة لا يمكن أن نلغيها، ولا نملك أن نلغي
شيئاً ثابتاً ولو عن الصحابي، واضطروا إلى أن يقولوا -كما يذكرون عن ابن
القيم في الهدي- وقع في الحديث قلب والأصل فيه (وليضع ركبتيه قبل يديه) ،
لكن نحن عندنا النص: (وليضع كفيه) ، فنحن نأتي بالقلب حتى يتفق معنى الحديث
آخره مع أوله، ويتفق حديث أبي هريرة مع حديث وائل، وعندها لن يبقى أي
مخالفة إلا فعل ابن عمر، ويمكن أن نقول: هذا رأي ابن عمر، ورأي بقية
الصحابة مع الحديثين، والقضية منتهية على هذا الحد، وتكون المسألة قريبة،
ولا خلاف فيها بعيد.
وإذا قفزنا قفزة إلى الأمام وجئنا إلى المذاهب الأربعة: وجدنا الأئمة
الثلاثة أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله على حديث أبي هريرة وحديث
وائل، والرواية عن مالك مختلفة، فأصحاب مذهبه -كما ينص في الشرح الصغير-
على أن من مندوبات الصلاة: أن يضع كفيه قبل ركبتيه، فلنجعل هذا الرأي مع
ابن عمر ونجعل المذاهب الثلاثة مع الحديثين.
ونعلم جميعاً كما قدمنا: أنها هيئة من هيئات الصلاة، ولكن هل كل الناس في
هويهم إلى السجود سواء، وهل الإنسان في ذاته وفي جميع حالاته سواء، ولذا
يقول العلماء: إن هذه الحالة ينظر فيها إلى ما يناسب المصلي، ولو أن
إنساناً بدين الجسم كبير السن وحركة النزول على أعصابه صعبة، ويشد أرجله
حتى ينزل على ركبتيه، وأراد أن يقدم كفيه ليستريح في النزول، وهل نقول له:
لا، قدم ركبتيك؟ لا، إنسان نشيط وبحركة عادية يمكن أن يفعل هذا ويفعل هذا،
نقول له: ماذا ترجح عندك؟ عندك حديث أبي هريرة بدون (وليضع) وحديث وائل،
وعندك انفراد ابن عمر فقط بأنه كان يضع كفيه قبل ركبتيه، ماذا تختار؟ لو أن
المسألة بالمكيال أو بالميزان نجد كفة أوفى في الكيل وأرجح في الوزن.
إذاً: على هذا لا ينبغي أن نطيل النقاش في هذه المسألة، ولا حاجة إلى أن
نكثر ونقول: حصل في الحديث قلب أو انقلب على الراوي، وأهون عندي أن نقول:
إن الرواية مضطربة من أن ندعي بأن هناك انقلاباً في الرواية من حديث رسول
الله يقلبه الصحابي علينا؛ لأنه يفتح باب شر في تغيير الروايات عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأول الحديث يغني عنها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كان إذا
قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على
اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه السبابة) رواه مسلم، وفي رواية
له: (وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) ] .
هذه هيئة الجلوس في التشهد (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على
اليمنى) ، ولم يجلس على فخذه لا قابضاً ولا مرسلاً ولا بين فخذيه.
(وعقد) العقد في الحساب عند المتقدمين، هو علم قد اندثر، وكان لهم في
الحساب من بُعد بالإشارة رموز لم يبق عندنا منها إلا ما حفظه لنا هذا
الحديث، والأصابع الخمسة كل واحد عقد فهو عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين،
خمسين، (ثلاثاً وخمسين) ، والثلاث دون العقد كانوا يرمزون إليها، كما جاء
في الحديث، والإبهام مع الوسطى تلي السبابة، والوسطى بالنسبة للأصابع هي
الثالثة، فلما جاء العقد بالإبهام وهو الخامس كان العقد خمسين، فيأتي
بالإصبع الذي هو العقد على المفردات، ويضع الإبهام على الوسطى وينصب
السبابة، وفي بعض الروايات: (حلّق بين الإبهام والوسطى) ، حلّق، أي: عمل
حلقة، والأولى أن تكون بطن الإبهام على جانب الوسطى أو تحتها، والمشهور
فوقها، فالإبهام مع الوسطى تشكل العدد، والسبابة يشير بها، بقي عندنا
الخنصر والبنصر، كيف يكون وضعهما؟ بعضهم يقول: مقبوضتان على الركبة، وبعضهم
يقول: أصل اليد اليمنى على الركبة مفرجة الأصابع، فإذا عقد يبقى الإصبعان
الأول والثاني منفردين ويقبض الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة، ولكن قبض
الإصبعين مع هذا العقد والإشارة بالسبابة قد يكون أيسر.
ويأتي خلاف عند الفقهاء هو: متى يعقد وإلى متى؟ والسبابة هل تتحرك أم أنها
ساكنة؟ ونجد للأسف أن هناك في بعض الجهات من يرى في إشارة السبابة جناية،
وقد يسيئون إلى من يفعل ذلك، وقد يدعون بطلان الصلاة، ولكن الآخرون يقولون:
هذا العمل للسبابة لأنها في اتصال خلقتها بعروقها وأعصابها لها علاقة في
التكوين بنياط القلب، فإذا ما تحركت نبهت القلب حتى لا يقع في غفلة ولا
نسيان وهذا داخل في علم التشريح، والله تعالى أعلم.
إن لم يكن هناك نص صحيح صريح مرفوع إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
فهي قابلة للنقاش، والبعض الآخر يقول: هي حركة لئلا يغفل أو ينام؛ لأنه ما
دام يحرك أصبعه فإنه ليس بنائم؛ لأن النوم يغطي الأعصاب، ولكن لا نقول هذا
ولا ذاك، نقول: السنة جاءت بهذه الصورة وبهذه الهيئة: أن الإنسان في التشهد
إذا جلس فيده اليسرى على ركبته اليسرى، ويده اليمنى على ركبته اليمنى
عاقداً (ثلاثاً وخمسين) ، وأخذها لاحق عن سابق بأن وضع الإبهام ببطنها على
جانب الوسطى، وإصبع يقولون فيها أكثر من عشر لغات: أُصبع، وإِصبع، وأُصباع،
وأصبوع.
إلخ.
وبعضهم يقول: يضع يده إلى أن يقرأ في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله،
وعندها يرفع إصبعه كأنه يشير بالإصبع الواحدة إلى حقيقة الوحدانية، وإذا
كان الأمر كذلك فلعل هذا التعليل يكون أقرب ومناسب للفظ، أما كونه متعلق
بنياط القلب أو كونه لا يغفل أو لا ينعس فهذه أشياء الله أعلم بها، فهو
يشير إلى الوحدانية، كما أشارت الجارية لما سألها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أين الله؟ أشارت إلى السماء) ، فتكون الإشارة رمز وبيان للاعتراف
عملياً بالنطق مع الفعل: أشهد أن لا إله إلا الله.
وإلى متى يظل هذا الإصبع هكذا؟ قالوا: حتى إذا انتهى من التشهد، وبعضهم
يقول: ينتهي من الشهادتين يرد الإصبع إلى ما كانت عليه، والبعض يقول: إلى
أن يسلم، ومهما يكن من شيء أيها الإخوة -كما أشرنا- فإنها هيئة من هيئات
الصلاة لا يتوقف عليها صحة ولا بطلان، ولكنها السنة وينبغي على المسلم أن
يتحرى في صلاته فعل السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني
أصلي) .
شرح حديث تشهد ابن
مسعود
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (التفت إلينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله
والصلوات والطيبات، السلام عليك -أيها النبي- ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) متفق عليه، واللفظ
للبخاري.
وللنسائي: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) .
ولـ أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلم الناس)
] .
التشهد جاءت فيه أحاديث تعليمية، منها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه،
بعض روايته: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا
السورة من القرآن) ، وجاءت ألفاظ عديدة في التشهد، ومن الروايات المتعددة
أيضاً صيغة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي
زيادة إيضاح فيما يتعلق بلفظي الصلاة والتسليم، كما جاء عن كعب بن عجرة:
أنه أتى أهل قباء فقال: (يا أهل قباء! ألا أهدي لكم هدية؟ قالوا: بلى، قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل: يا رسول الله! عرفنا كيف
نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟) ، وكانوا في السابق يقولون: السلام على الله،
السلام على عباد الله الصالحين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا
السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، قولوا: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين، فقالوا: عرفنا كيف نسلم، فعلمنا كيف نصلي -وفي بعض الروايات: كيف
نصلي عليك- إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا) وعلمهم الصلاة
الإبراهيمية، فهنا فضيلة العلم والتناوب فيه، فهذا رجل من أهل قباء حضر
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع فيه علمه، فذهب به وأهداه إلى أهله
وقومه، وأي هدية أعظم من التعليم في الدين.
إذاً: التحيات أو التشهد أخذ حيزاً في النصوص.
معنى (التحيات)
ولزوم صرفها لله خاصة
التحيات: جمع تحية، والتحية التكريم قولاً وفعلاً، وهو في الصلاة قول،
وتشمل كل عبارات التحية من الحمد والثناء والعرفان بالجميل والتكريم كل
أنواع التحيات لله وحده، والتحية لله موقعها موقع الحمد لله؛ فهو لا يكون
إلا لكامل الذات والصفات، وليس ذلك إلا لله سبحانه؛ لكمال ذاته وصفاته،
وكذلك التحيات لله، وموجب ذلك موجود؛ لأن الله سبحانه وتعالى صاحب الإنعام،
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والإنس فرد من أفراد
العوالم، والجن فرد من أفراد العوالم، والنباتات، والحيوانات، فربوبية الله
للمخلوقين كلها لله، فاستحق الحمد، وكل ما جاء للإنسان من إنعام ابتداء من
إيجاده من العدم ثم هدايته أو إنعامه عليه بالإسلام والتوفيق إلى تلك
الصلاة التي هو يصليها، وكل ما كان من إنعام في الدنيا وفي الآخرة من الله
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، وكما أنك في
الفاتحة تقول: {الْحَمْدُ} [الفاتحة:2] ، أي: كل الحمد مجموع لله رب
العالمين؛ فأنت في التحيات تقول: التحيات لله.
معنى قوله:
(والصلوات الطيبات)
قوله: [والصلوات والطيبات] .
الصلوات: جمع صلاة، كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] ، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، كما قال ذاك:
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم يعني: دعا عليه ألا يفسد،
وكذلك {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ،
يعني: وادع لهم، فالصلاة من العبد دعاء، فتدعو الله لمن تصلي عليه، (اللهم
صلِّ على آل أبي أوفى) ، يعني: ارحمهم وأكرمهم، والصلاة من الله على العبد
رحمة وإكرام، (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) .
وجاء معها الطيبات، وهي كل الأفعال الطيبات من عبادة بدنية، أو مالية، أو
كلمة طيبة كل الطيبات ترجع إلى الله، والله هو الذي يثيب عليها، وهي أيضاً
لله يمنحها من شاء والطيبات لله.
السلام على النبي
صلى الله عليه وسلم ومعانيه
قوله: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته] .
هذه الجملة تكلم بها الرسول أمام ابن مسعود، ولماذا لم يقل بدلاً عنها:
(السلام عليّ) ، عليك راجعة لمن؟ وعليّ راجعة لمن؟ لأن عليك كاف خطاب من
المتكلم إلى المخاطب، وعليّ من المتكلم إلى نفسه، وهنا يعلمهم ماذا يقولون،
فلو قال: السلام علي، فلو أن إنساناً قال: السلام عليّ، يكون بهذا سلم على
نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ما قال: (ثم صلوا عليّ) ، فهو
يعلمنا أنه جرد من نفسه شخصية التعليم، بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله
عليه وسلم، فقال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي) ، صحيح أنا النبي، ولكن
واجب عليكم أنتم أن تسلموا على النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: علمهم عندما كانوا موجودين أن يخاطبوه، سواء كان موجوداً عنده أو من
غاب عنه، وكيف يخاطب من انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخطاب لكل موجود؟ قال
بعضهم: نقول: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ولا تقل: (السلام
عليك) ؛ لأن هذه كاف الخطاب، وتكون للحاضر الموجود.
لا والله؛ لأنك حينما تقول: السلام عليك أيها النبي، ذهنك وشعورك وقلبك
وروحك وإحساسك يتصور شخصية رسول الله وكأنك تخاطبه، وتجدد العهد بإيمانك،
وتقوي الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وإن لم يكن حاضراً عندك في
مجلسك فهو حاضر في قلبك وإيمانك حيثما كنت في الدنيا كلها، فأنت تخاطب من
آمنت به: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا تصح عبارة أخرى
قطعاً.
ثم نجد أن بعض العقلانيين يقولون: أنتم في القرآن في السور الثلاث تقرءون:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] {قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
[الناس:1] ، وليس هناك داعٍ لكلمة: (قل) ، ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم،
أعوذ برب الفلق ((أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) لأنها تحصيل حاصل وأنت
قائلها.
هل هذا العقل سليم؟ لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله، إذاً:
(أعوذ بالله) .
جاءت منك أنت أو من وحي سبق؟ عندما نقول: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ،
كأنه منك أنت، لماذا تتعوذ؟! قال: لأني أريد أن أعوذ، لكن لو قلت: بسم الله
الرحمن الرحيم.
قل.
فهذا أمر من الخالق سبحانه الموحي، فلكأنك تقول: أنا أقول ما أمرت أن
أقوله.
إذاً: الرسول ما أتى بشيء من عنده، بل هو مأمور بأن نقول: هو الله أحد،
فكلمة (قل) جاءت بالوحي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون في
موقف المنفذ لما قيل له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويكون
القائل هو الله سبحانه، وأنت تقول ما قال الله سبحانه وتعالى.
وهكذا هنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) .
ونحن نقول لهؤلاء العلمانيين: في حياة رسول الله وهو إمامهم في الصلاة
ويصلي خلفه آلاف الرجال كما في فتح مكة، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم،
من في آخر الصفوف يقول سراً: السلام عليك أيها النبي، هل أسمع رسول الله؟
وهل خاطبه بذاته؟ لا والله، إنما يقول ما أمر أن يقوله، وحتى في المسجد
الأول كما ترونه من خلف المنبر بسارية واحدة إلى الحجرة، كان سبعين ذراعاً
في سبعين ذراعاً، وفي الصف الأخير النسوة اللاتي خلف صفوف رجال لما يقلن:
السلام عليك، هل كان يسمع أصواتهن؟ والذي في الصف الأول في طرفه من هناك هل
الرسول يسمع صوته حينما يقول: السلام عليك أيها النبي؟ لم يسمع منه، إذاً:
هذه ألفاظ تعبدية يجب أن يقولها الإنسان ويلتزم بها ولا تتعارض مع العقل
الصحيح.
من معاني السلام بين
المسلمين
قوله: [السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] .
كان يقول الصحابة: السلام على الله، السلام على رسول الله، السلام على فلان
فعلمهم أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا) ، والسلام: هو الدعاء بالأمان، وهو تحية الإسلام، وتحية أهل الجنة
في الجنة، وهو شعار المسلم، مع المسلم بأن يعلن له أنه آمن، السلام عليك:
أي أنت سالم مني، وكأنه أعطاه عهد بالأمان والسلامة فلا يخاف شراً.
وهذا أعظم ما يكون بين المتلاقيين ولو لم يعرفه، ولذا معلوم في الفطرة
والجبلة: لو أن إنساناً لقي آخر ولم يسلم عليه عرف أن عنده نية شر؛ لأنه ما
بدأ بالسلام.
والسلام في التحية له آدابه، وقد عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد،
وجاءت النصوص في السلام العادي والتحية بين الناس بـ (السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته) ، وهي أكملها، جاء أن رجلاً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم
وهم جلوس فقال: (السلام عليكم، وجلس، فردوا عليه، وقال الرسول: عشر -أي:
عشر حسنات-، وجاء الثاني وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال
الرسول: عشرون -أي: عشرون حسنة- وجاء الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، فردوا عليه التحية، فقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثون، قالوا: ما
عشرة وعشرون وثلاثون يا رسول الله؟! قال: الأول قال كلمة واحدة: السلام
عليكم، والحسنة بعشر أمثالها، والثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال
كلمتين، والحسنة بعشر أمثالها، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته فهي ثلاث كلمات بثلاث حسنات، والحسنة بعشر أمثالها) .
أو كما قال رسول الله.
ودائماً يا إخوان! إذا وجدت في الحديث النبوي متفرقات فاعلم بأن هناك
رابطة، كحديث: (آمين آمين آمين) على درجات المنبر الثلاث، وهنا: (السلام
عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى ... ) ، موجود الارتباط القوي، بل هو
أقوى ما يكون، وظاهر وواضح جداً.
وبدأ بالنبي؛ لأن الفضل كله من الله على يديه، وجلوسنا في التشهد وتلفظنا
بالتحية وسلامنا المبدأ الأول فيه من الله على يدي رسول الله فهو الذي
علمنا ذلك.
يلي هذا (علينا) ، وفي الحديث لما جاء رجل وقال: (عندي دينار، قال: أنفقه
على أهلك، على زوجك، على على وقال: أولاً: ابدأ بنفسك) ، وهنا الحديث بدأ
بالرسول، ولِم لم يقل: السلام علينا، والسلام على النبي، والسلام على عباد
الله؟ كما هو الترتيب الطبيعي، لا، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
نفسه) ، فهو مقدم على النفس.
شرح حديث: (عجل هذا؛
إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه)
قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: (سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحمد الله؛ ولم يصلِّ على
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجل هذا! ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم
فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم
يدعو بما شاء) ، رواه أحمد والثلاثة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] .
كيف تكون الصلاة؟ وما الصيغة التي يلتزمها الإنسان فيها؟ النبي صلى الله
عليه وسلم سمع رجلاً يصلي، وهذه الصلاة إما أن تكون نافلة وهو الأغلب، وإما
أن تكون فريضة فاتته، المهم: أن هذا الرجل دعا الله في صلاته دون أن يصلي
على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (عجل
هذا) ، أي: تعجل في الدعاء ليحصل على الإجابة المطلوبة، ثم دعاه فقال له:
(إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء على الله، وليصل على النبي) انظروا الصيغة
هنا ما هي؟ (وليصل على النبي) ، ولم يقل يصل عليّ؟ لأن الغرض ليست الصفة
الشخصية الذاتية لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الغرض
الصفة المندمجة من شخصيته الذاتية وصفته النبوية.
انظروا يا إخوان هنا! لتنظروا المغايرة، وما يسمى في البلاغة بالتجريد في
قضية الحفاظ على الحدود وإقامتها لما قال: (أتشفع في حد من حدود الله، لو
أن فاطمة بنت محمد) لم يقل بنت النبي؛ لأن النبوة بعيدة عن هذا، ولأنها
ستكون حالة شخصية، ومن محمد يا رسول الله؟ أليس أنت؟ لا، هنا الحدود ليس
فيها نبوة ولا رسالة ولا شيء، النبوة رسالة معصومة من ذلك، ولكن محمد الذي
تعرفون نسبه وشرفه ومنزلته بغض النظر عن جانب النبوة.
قال: [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه] .
يبدأ بتحميد ربه سواء أراد البداءة في الفاتحة أو التحيات؛ لأنه حمد لله،
وهذه مقام: (التحيات لله) .
قوله: [والثناء عليه] هذه مقام: (الطيبات المباركات) .
[ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم] .
هنا الحديث: (إذا صلى أحدكم) : تعليم متعلق بالدعاء في الصلاة: بأن يحمد
الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله
حاجته، وجاء هذا التعليم أيضاً خارج الصلاة مطلقاً، مثلاً: مشيت في الطريق
ولك حاجة، وتريد أن تسأل الله إياها: ابدأ فاحمد الله واثن عليه، وصل على
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله حاجتك، واختم الدعاء بالصلاة على
النبي، وهذا.
(قمنٌ أن يستجاب له) أي: حري بالإجابة، ويقول العلماء: لأن الحمد لله
والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات إلى
الله، ويكفينا قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيُِّ} [الأحزاب:56] ، ويكفينا بأن الله يصلي عليه بالمرة عشر مرات،
فهي من أعظم القربات إلى الله، وورد حديث في الصلاة، (أجعل نصف صلاتي لك،
أجعل كل صلاتي، فقال: كفيت أمرك) ، وهذا باب واسع مستقل لا يحتاج إلى
إيضاح، فإذا قدّم بين يدي حاجته هذه القربات لله سبحانه بالحمد والثناء
عليه، والصلاة على رسوله، ودعا وختم بالصلاة قالوا: هذا الثناء في أول
الدعاء والصلاة في أولها وآخره كالجناحين يرتفع بهما السؤال إلى الله،
فإذاً عنده آلة رفع ترفعه إلى المولى سبحانه، فإذا قُدم السؤال في باقة من
الزهور والورود بين دعاء وثناء على الله سبحانه معطر ومطيب بهذه الطيبات
حري أن يستجاب، لكن جئت ورفعت يدك وقلت: اللهم اغفر لي، حسناً، دق الباب
واستأذن، تلطف قليلاً، استعطف، أظهر الحاجة والفاقة.
مثاله: (اللهم إنك عفو تحب العفو) .
فهنا قدمت مقدمة لحاجتك وسؤالك، وهي قولك: (اللهم) ، وتريد عافني واعف عني،
ولكن أيها ألطف؟ يا رب! أنت عفو وتحب العفو، وبعفوك ومحبتك للعفو اعف عني،
يكون السؤال ملطفاً ومقدماً له بمقدمة، وحري بإجابته هكذا.
إذاًَ: المقام هنا يتعلق بالصلاة، وجاء المقام عاماً خارج الصلاة، فإذا كان
الأمر كذلك تكون قاعدة مطردة في الصلاة وفي غير الصلاة: إذا سأل الله أحد
من الناس فليقدم بين المسألة ما يقربه إلى الله، وبيّنه صلى الله عليه وسلم
بالحمد والثناء والصلاة على النبي، هذا عام وإذا كان في الصلاة كذلك، وبيّن
صلى الله عليه وسلم أنه لا يعجل، بل يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على
النبي، ثم يتخير المسألة.
وبعد أن قدم المؤلف رحمه الله هذا الأمر كأنه يشعر بفعل النبي صلى الله
عليه وسلم لهذا الرجل، هو سمعه في الصلاة أو خارج الصلاة؟ أين سمعه؟ الرجل
يصلي، قال: (عجل هذا ثم دعاه فأخبره) هل رده ليعيد الصلاة لعدم صلاته على
النبي أو أقره على صلاته؟ إذاً: الصلاة على النبي التي تركها في تلك الصلاة
مندوب إليها، ومن هنا قدم المؤلف هذا الحديث ليعطي مقدمة فقهية، وهي: أن
الصلاة ليست واجبة مع الخلاف الموجود عند العلماء.
إذاً: أخذنا من هذا الحديث ما ينبغي على الإنسان أن يُقدم على الدعاء من
الصلاة على النبي والثناء على الله.
(ثم يدعوا بما شاء) .
وتقدم في حديث ابن مسعود: (وليتخير من المسألة أعجبه) ، وتقدم أيضاً
التنبيه على قوله: (يتخير) وهنا: (بما شاء) ، ولكن هل المشيئة مطلقة أو
مقيدة بأقل شيء بالأدب الشرعي؟ المشيئة مقيدة، وفي الحديث: (والله لا يؤمن
أحدكم حتى أكون هواه -مشيئته، إرادته، رغبته- تبعاً لما جئت به) .
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [11]
الصلاة الإبراهيمية في التشهد، والاستعاذة بعدها من أربع، من أعظم الأذكار
والأدعية؛ ولذا شرعا في كل صلاة، وينبغي للمسلم تدبر ألفاظهما، ومعرفة
معانيهما، حتى يدعو الله بهما بخشوع وخضوع، ولمعرفة المعاني التي يشتملان
عليها يرجع إلى كلام أهل العلم الذين بينوه.
شرح حديث: الصلاة
الإبراهيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (قال بشير بن
سعد: يا رسول الله! أمرنا) ] .
كثيراً كانوا ينبهوننا عن الفرق بين ابن مسعود وأبي مسعود، وأبو مسعود
يقولون فيه: أبو مسعود البدري، ونسبته إلى بدر بالسُكنى وليس بحضور الغزوة،
وهو أنصاري.
يقول: بشير: (كنا في مجلس سعد -أبوه- فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم
فقلنا: يا رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك) أين أمرهم الله؟ في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا}
[الأحزاب:56] ، وهنا للأصوليين مجال واسع، فأمره سبحانه هنا مجمل، كيف
نصلي؟ ومن الذي يبين هذا المجمل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أُجمل في كتاب الله واجب الاتباع،
ويقولون: حكم المبيِّن من حكم المبيَن، المبيَن مجمل فيأتي المبيِّن ويفصل،
إن كان المبيَن سنة فالبيان سنة والأخذ به سنة، وإن كان المبيَن واجب
فالمبيِّن واجب والأخذ به واجب.
فمثلاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وعندما دخل ابن
عمر وسأل: أين صلى؟ قيل: هنا، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة
مجملة، وفعله إياها في المكان المعين بينه، وكذلك الصلاة في البيت مسكوت
عنها؛ ففعلها صلى الله عليه وسلم لبيان المشروعية، وهكذا فيما يتعلق بنوافل
العبادات، فلما جاء هنا: (أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟) ،
والسؤال بالكيفية يكون عن حقيقة الماهية ووصفها، فهل هنا استفهام: كيف نصلي
عليك؟ أو لماذا نصلي عليك؟ أو أنه علمنا الكيفية التي أمرنا بها؟ وهذا هو
المطلوب، ليس سؤال استعجاب ولا استغراب، ولكن سؤال استيضاح عن الكيفية
والصورة التي بها ينفذون أمر الله.
اجتهاد النبي عليه
الصلاة والسلام في الشرع
جاء في الرواية: (سكت طويلاً حتى تمنينا أنه لم يسأله) ، ولكل إنسان أن يقف
عند هذه السكتة الطويلة، لأن هذا أمر يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وقد
أشرنا إلى نظير لهذا، وهو: الصلاة مكتوبة، جاء في القرآن: {إِذَا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، فالنداء
موجود، وأخذوا يصلون مدة طويلة، ويُنذر بعضهم بعضاً لوقتها، ثم تعبوا من
هذه الطريقة وقالوا: تعالوا نتخذ علامة تنبه الجميع، ندق الناقوس، قال: لا،
هذا حق النصارى، ننفخ في البوق، قال: لا، هذه حق اليهود، نشعل نار: قال،
لا، هذه للمجوس.
هذه هي الشعارات الموجودة عند الآخرين، الآن يضربون المدفع من أجل الإعلام
بوقت الإفطار والإمساك، وهذه أمور يتفقون عليها لكن كره صلى الله عليه وسلم
أن يُحاكى أو يشابه الأمور الباطلة، من الأديان الباطلة أو المنتهية،
وقاموا ولم يتفقوا على شيء، يعني: الجلسة كلها والرسول معهم، والخلفاء
الراشدون والصحابة بكاملهم يجتمعون ويتآمرون وينفضون على غير نتيجة، نحن
الآن نقول: اجتمعت اللجنة الفلانية وخرجوا بدون أي نتيجة، ولم يتوصلوا إلى
قرار حاسم، ونعيب ذلك عليهم، وهنا رسول الله وخيرة الصحابة اجتمعوا من أجل
أمر في الدين، ومع ذلك انتهى الاجتماع ولم يتوصلوا إلى قرار، ماذا كانت
النتيجة؟ أتى عبد الله بن زيد يقول: يا رسول الله! رأيت كأني في المنام
-يعني: بين النوم واليقظة- ورأيت رجلاً عليه حلة خضراء يحمل ناقوساً، وقلت
له: ألا تبيع هذا الناقوس؟ فقال: ماذا تصنعون به؟ قلت: نعلن به للصلاة،
قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ -وذكر الأذان- ثم تنحى قليلاً وقال:
ثم تقولون: وذكر له الإقامة.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا من عبد الله قال: إنها رؤيا حق، قم
فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فصعد بلال ونادى، فإذا عمر يأتي يجر
رداءه، ويقول: والله! لقد رأيت مثلما سمعت.
اجتمعوا ليصلوا إلى وسيلة فلم يتوصلوا ويترك الأمر، أبو بكر مع ما بينه
وبين رسول الله ما رأى شيئاً، عثمان صهر رسول الله ما رأى شيئاً، عمر فيما
بعد حفصة لم تأت إلى الآن، فإذا عبد الله بن زيد رجل من الأنصار يقول: أنا
رأيت كذا وكذا، وهو شعار المسلمين في صلاتهم، وأهم ركن في الإسلام، يُترك
ليراه إنسان بين النوم واليقظة، قالوا: نعم، وهذا عين الواقع والحقيقة
المناسبة، لماذا؟ لأن في ألفاظ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمداً رسول الله، وليس هناك إعلان بعلو منزلة النبي وعظيم شرفه كقران اسم
رسول الله باسم الله المولى سبحانه، وذلك في الشهادتين على المنارة ينادى
به في كل مسجد في كل يوم خمس مرات، بل في بعض المساجد كل منارة ينادي عليها
مؤذن، ثم تثنى في الإقامة، لو أراد إنسان أن يحصي هذا في العالم لا يقدر أن
يحصيه، فهذا العمل لما كان متعلقاً بشخصية رسول الله، والمدينة فيها من أهل
الشر الذين يترقبون زلة أو ثُلمة فيها أدنى شبهة ليشككوا المسلمين في رسول
الله؛ سد عليهم هذا الباب، والله أنا لم آت به، ولم أقل لكم: أوحي إليّ
بهذا؛ مع أنه لو قاله فهو صادق، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه قوله، لكن
عندما يأتي به رجل من عامة المسلمين، هل أحد يستطيع أن يلوح بشبهة في
الأفق؟ لا أحد يستطيع.
حكم الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد
قال: (أمرنا الله أن نصلي عليك) جاء التعليم، فسكت طويلاً؛ لأن فيه أمراً
يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم، وأين؟ في العبادة التي هي خاصة لله،
الصلاة لله ويأتي فيها ذكر رسول الله.
إذاً: هذا أمر خطير، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي
لِلَّهِ} [الأنعام:162] ، فخطورة ذكر رسول الله في الصلاة جعلته صلى الله
عليه وسلم يسكت، ولكن هذا مما يستنتج من السياق والموقف العام، حتى إن
الصحابة قالوا: ليته لم يسأله؛ لأنهم ظنوا أن هذا يُثقل رسول الله.
ثم قال: (قولوا) وهذه العبارة صيغة أمر، أخذ منها بعض العلماء أن الأمر
للوجوب، ولكن المؤلف قدم لنا: (عجل هذا) ، ولم يأمره بالإعادة، ولا بسجود
سهو، وأقره على تلك الصلاة التي عجل فيها عن الصلاة على رسول الله،
والعلماء بالإجماع يقولون بأنها مطلوبة، لكن على أي مستوى: الوجوب أو
الندب؟ الجمهور يقولون: الندب، ونجد الشافعي رحمه الله يقول: الوجوب،
ويختلف في مذهبه: هل الوجوب في التشهد الأول (إذا صلى أحدكم) ، أو الوجوب
في التشهد الأخير؟ ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه فرق بين الجلوسين؛
فالصلاة على محمد دون الآل في التشهد الأول، فيقول: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل على محمد ثم ينهض، والصلاة على
محمد وعلى الآل يكون مجموعاً في التشهد الأخير.
حكم زيادة لفظ:
(سيدنا)
بقي عندنا مناقشة العلماء في الأسلوب والتركيب: عرفنا بأن الصلاة من العباد
دعاء، ومن المولى رحمة، ومن الرسول شفاعة.
أما قول: (سيدنا) فلم يتعرض لها المؤلف، ولكن تعرض لها غيره، وبعض الناس في
هذا المقام يقول بالتسييد (اللهم صل على سيدنا محمد) ، وقد رأيت رسالة
مخطوطة قديمة سابقاً، وفي ذهني بعض منها وهي للشافعية، ويرون بأن لفظ:
(السيد) من باب التكريم والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمهور
يقولون: جاءت الصيغة في معرض التعليم جواباً على سؤال؛ فلا تحتمل الزيادة
ولا النقصان، فيجب الالتزام بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يُعلم
الأمة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة.
ولا شك أنه سيد الأولين والآخرين، كما قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ،
وقال: (إن الله اختار العرب من الناس، واختار من العرب قريشاً، واختار من
قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار) .
إذاً: خارج الصلاة قل: سيدي وسيدنا وسيد الثقلين وسيد الأولين والآخرين، لا
أحد يعارضك، لكن في الصلاة لا تقل لأمرين: الأمر الأول: أنهم قالوا: الصلاة
حق لله، وهي تعظيم لله بالحمد والثناء والركوع والسجود، وتقول: الله أكبر،
أي: من كل كبير جاء في خاطرك، فما دام أنها للتعظيم والتمجيد والثناء
للمولى سبحانه، فما تحتمل أن تثني على غيره معه، فقولك: سيدنا، معناه: أنك
دخلت في باب التكريم والتعظيم بغير الله مع الله، وهذا لا يصح، بل أفرد
التكريم والتكبير والإجلال في الصلاة لله.
والأمر الثاني: قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) جاءت بصفة العبودية
لتلتزم بها، والجمهور يقولون: تقولون: إنكم تُسيدون إكراماً لرسول الله؟
قالوا: نعم، قالوا لهم: لا، التكريم الحقيقي هو الالتزام واتباع ما علمنا
به، يُعلمك كذا وأنت تفعل كذا، هذا ليس تكريماً، لأنك خرجت عن التعليم،
وحقيقة التكريم هي: أن تمتثل ما أمرك به، والبحث قد يتوسع فيه بعض الناس،
واخترعوا له قاعدة: هل الأدب الأولى أم الامتثال؟ والصحيح أن الامتثال
أولى.
توجيه قوله: (كما صليت على إبراهيم ... )
الصيغة التي جاءت منه صلى الله عليه وسلم تعليماً للسائلين: (قولوا: اللهم
صلِّ على محمد وعلى آل محمد) ، من هم آل محمد؟ بعضهم يُجمل ويقول: كل من
حرمت عليه الزكاة، وبعضهم يقول: بنو هاشم وبنو المطلب، وهل الزوجات من الآل
أم لا؟ الجمهور يخرجونهم من ذلك لحديث غدير خم.
إلى آخره، وهذه مسألة جانبية.
(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في
العالمين إنك حميد مجيد) .
المعروف في قانون البلاغة: أن المشبه به أقوى من المشبه، تقول: زيد كالأسد
في الشجاعة، المشبه زيد، والمشبه به الأسد، وجه الشبه الشجاعة، وهل الشجاعة
أقوى في زيد المشبه أو في الأسد المشبه به؟ في الأسد وتقول: فلان الأمير
أكرم من حاتم، أفعل التفضيل، فتكون نسبة الأفضلية للأمير على حاتم، ويبقى
الأمير أكرم من حاتم، فإذا جاءوا هنا يقولون: من أفضل محمد أو إبراهيم؟
بإجماع المسلمين أن محمداً أفضل الخلق بلا شك ولا نزاع، فإذا كان هو الأفضل
كيف يقال: صلِّ على الأفضل كما صليت على المفضول.
والغرض من التشبيه: إلحاق المشبه بالمشبه به في الصفة، يعني المشبه أقل صفة
من المشبه به، وأنت تقول: (صلِّ على محمد) وتلحقه به (كما صليت على
إبراهيم) ، فأنت هنا جعلت المشبه وهو محمد أقل وتلحقه بإبراهيم، فجعلت
إبراهيم هو الأفضل والصلاة عليه أكثر، وكيف يصير هذا؟ وأخذوا يحاولون
الإجابة إلى ما شاء الله، ولكن: هل الصحابة عندما سمعوا هذه الصيغة ناقشوا
هذه المناقشة؟ قولوا فقالوا وانتهى، والذي قالها سيد الخلق وسكت طويلاً،
ونجزم بأنه كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ
إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ، إذاً: لا حاجة إلى النقاش، ولكن من
باب ما قيل: هي صلاة مستقلة لا علاقة لها بإبراهيم ولا إسماعيل، ويبقى
التشبيه منصب على آل محمد كما صلى على آل إبراهيم، وهذه فيها تكلف، ولكن
للخروج من هذه الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم، من الذي قال لكم تناقشوا؟
(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)
ومن هم آل إبراهيم؟ قالوا: جميع الرسل من ذرية إبراهيم، فتكون الصلاة على
آل إبراهيم، ومن ضمنهم محمد، ألم يقل: إن جده إبراهيم؟ أليس هو ولد
إسماعيل, وإسماعيل ولد إبراهيم؟ فمحمد من آل إبراهيم، وآل يعقوب كلهم من آل
إبراهيم، فتكون الصلاة على محمد وآله كالصلاة على إبراهيم وعلى جميع
الأنبياء من ذريته ومنهم محمد، إذاً: صارت الصلاة الأكثر على محمد.
إذاً: ليس هناك مناقشة، ولعل هذا يكفينا في هذه المسألة.
(في العالمين إنك حميد مجيد) وهذه جاءت في بعض الروايات.
(والسلام كما علمتم) .
والسلام كما علمتم أو كما عُلِّمتم؛ لأن السلام كانوا يقولونه قبل أن تفرض
التحيات: السلام على الله، السلام على النبي، على جبريل، على ميكائيل،
فقال: (لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: السلام عليك) كما تقدم في
الدروس الماضية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رواه مسلم وزاد ابن خزيمة فيه: (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في
صلاتنا؟) .
شرح حديث: (إذا تشهد
أحدكم فليستعذ بالله من أربع)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ
بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة
المسيح الدجال) .
متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] .
ولعله من باب الإرشاد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتخير من السؤال
أعجبه) ، أو: (من السؤال ما شاء) قد يقف الإنسان حائراً بماذا أدعو؟ ماذا
أسأل؟ فقال: (إذا تشهد أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (في آخر التشهد) ، وفي
بعضها: (في الصلاة) واتفقوا جميعاً: على أنه يكون في التشهد الأخير وقبل
السلام.
(فليستعذ بالله من أربع) أربعة أمور، وهذه الأمور الأربعة يطول فيها
الكلام، ولكن نأخذ بعضها على سبيل الإجمال، والبعض قد يحتاج إلى إرجاء إلى
أن يأتي محل أوسع منه، فنأخذ قدراً من الوقت المتبقي.
الاستعاذة من عذاب
جهنم
قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) .
أعوذ: بمعنى ألجأ وأحتمي وألوذ؛ لأن هذه الأمور الأربعة لا يُجير الإنسان
منها ولا يُعيذه إلا الله، وكلها أمور غيبية، والأمور الغيبية لا قدرة
للإنسان فيها، لا في جلبها ولا في دفعها، وكلها مرجعها إلى الله، أمور جهنم
والجنة والصراط والآخرة كلها أمور غيبية لم يشاهدها إنسان، اللهم إلا إذا
قلنا: لقد أكرمنا الله برؤيتها عن طريق رؤية رسول الله في الإسراء والمعراج
وهو الصادق المصدوق.
أما جهنم: فيقولون أصلها كهنم، بالكاف، ولكن بالجيم من التجهم، والتجهم: هو
انكسار الوجه عند رؤية ما يسوء، والشخص إذا استقبل صديقاً أو عزيزاً هش له
وبش له وجهه واستبشر أمامه، وإذا كان العكس تجهم في وجهه ليكفحه عن نفسه،
وقد تكون جبلة وبغير اختيار؛ حينما يرى شيئاً يكرهه أو إنساناً لا يستريح
إليه فلا يملك نفسه؛ لأنه عامل نفسي، فجهنم تتجهم للناس، وسُميت بذلك من
هذا الوجه، والله أعلم، ولا يعيذ من عذاب جهنم إلا الله، سواءً كان برحمة
من الله، أو توفيقاً للعبد في الدنيا، أو بشفاعة من رسول الله، أو بشفاعة
من الله كما جاء في الحديث: (شفع النبيون والصالحون والأولون والآخرون وبقي
أرحم الراحمين، أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من
خردل من إيمان) ، فيخرج من النار كل مؤمني الأمة برحمة الله سبحانه.
إذاً: لا يجير من النار إلا الله، حتى الشفاعة {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ
لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}
[الزمر:44] .
إذاً: الأمر كله لله، ولذا يلجأ الإنسان إلى الله بأن يستعيذ من جهنم،
وسبحان الله! في كل صلاة تقولها حتى لا يغيب عن ذهنك ذكرها، فتكون دائماً
على حذر منها، وتكون دائماً ملتجئ إلى الله في شأنها.
هذه الجملة الأولى.
الاستعاذة من عذاب
القبر
قوله: (ومن عذاب القبر) .
عذاب القبر يثبته كل طوائف المسلمين، ولم ينفه إلا المعتزلة، وقيل: البعض
منهم فقط، وهذه مسألة مفروغ منها، ويذكر كثير من العلماء بأن النصوص في
إثبات عذاب القبر تصير إلى حد التواتر، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه يقول: عذاب القبر يثبته العلماء من القرآن الكريم
في قوله سبحانه في حق فرعون وآله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وإدخالهم غدواً وعشياً متى
يكون؟ قبل يوم القيامة، وهو في القبر, وقد جاء الحديث صريحاً: (القبر إما
روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار) ، وروى مالك في الموطأ حديث
عائشة، في اليهودية التي جاءت تسألها، وقالت: (أعاذك الله من عذاب القبر،
فجاء الرسول وسألته، وقال: صدقت، يا عائشة!) .
إلى آخره.
أريد أن أقول: يا إخوان! عذاب القبر، ونعيم القبر، وسؤال القبر كل أحوال
القبر، رغماً عنا جميعاً نقر بأنها أمور غيبية، وعالم البرزخ عالم غيب،
وليس للعقل ولا للتجربة ولا للمعمل ولا لجانب من جوانب الدنيا حتى أشعة
الليزر وكل ما اخترعه الإنسان طريق إلى التوصل إلى شيء من أمره، وقد جاءتنا
نصوص فيما يتعلق بما لا يمكن أن يتكلم به إنسان، جاء في حق موسى عليه
السلام: (مررت على موسى في قبره قائماً يصلي) فهل كان له غرفة يصلي فيها؟
أو هل يوجد لحد عليه طوب اللبن، ويسعه وهو نائم؟ كيف يقوم يصلي فيه؟ تنص
كُتب شرح العقيدة الواسطية على وقعة الحرة التي امتدت ثلاثة أيام، وعطل
فيها الأذان والصلاة في المسجد النبوي، ولم يقو أحد أن يأتي إلى المسجد إلا
سعيد بن المسيب، فهو أربعون عاماً لم تفته الجماعة، ولم ير قفا إنسان
أمامه، دائماً في الصف الأول، يقول: كنت أسمع الأذان من الحجرة، من كان
يؤذن؟! لا تقدر أن تقول شيئاً.
ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية في فتح البحرين أن العلاء بن الحضرمي
لما كانوا راجعين أصيب بالغدة فمات، فلما مات دفنوه حيث مات في الدهماء،
فجاء أهل تلك الأرض فقالوا: يا أيها القوم! إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا
تتركوه؛ فإن هذه الأرض تلفظ موتاها، لا تقبلهم تردهم، والله امتن على الناس
بالأرض كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25-26] ، وهذه الأرض لا تقبل الموتى، فقالوا: ما
من حق ابن الحضرمي علينا أن نتركه نهباً للسباع، فرجعوا يحفرون القبر
لينقلوه إلى أرض تقبل الموتى، فإذا بهم يجدون القبر خالياً من صاحبه، وإذا
به امتد مد البصر، أنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لا أتدخل في
هذا، هذا قول ابن كثير، وهو عالم سلفي، وهو تلميذ ابن تيمية.
لقد جاء في الحديث: (ثم يمد إليه مد البصر) ، (إما روضة من رياض الجنة وإما
... ) إذاً: عالم البرزخ لا يقوى إنسان أن يتكلم فيه بالعقل، ولكن بمقتضى
ما جاءت به النصوص الصحيحة، وهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ
بالله من عذاب القبر كما نستعيذ من عذاب جهنم، ولا يشك أي عاقل حتى في
الديانات الأخرى النصرانية واليهودية بأن النار موجودة: {وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] ، فكما
أننا أُمرنا أن نستعيذ بالله من النار، أمرنا أن نستعيذ بالله من عذاب
القبر، فهما قرينان.
موضع الاستعاذة في
التشهد
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم) ، جاء هذا مطلقاً، ثم جاءت
الرواية الثانية: (إذا فرغ من التشهد الأخير) ، والمؤلف رحمه الله جاء بقيد
التشهد الأخير؛ لأن بعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يرى الاستعاذة من
تلك الأربع في التشهدين الأول والأخير، ولكن الذي عليه الجمهور: أن المطلق
يحمل على المقيد، عندنا تشهدان، وهذا مطلق، ولكن جاء القيد في التشهد
الأخير، إذاً: محل الاستعاذة من تلك الأمور إنما هو في التشهد الأخير،
وأيضاً القيد الثاني: (إذا فرغ من التشهد) ، وبعض العلماء يرى أن قوله:
(إذا فرغ من التشهد فليقل أو فليستعذ) قيد أيضاً فيما تقدم من قوله صلى
الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من المسألة أعجبه) قالوا:
يتخير بعد الاستعاذة؛ والاستعاذة محلها إذا فرغ من التشهد، وعلى هذا
الترتيب إذا فرغ من التشهد يستعيذ بالله منها، ثم يتخير من المسألة ما شاء،
وأشرنا بأن مجيء عموم: (يتخير من المسألة ما شاء) يترك للإنسان الاختيار،
ولكن اختيار المسلم مرتبط ومشروط لما اختاره له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، وهواه بمعنى
اختيار رغباته تبعاً لما جئت به؛ فكأن الاستعاذة بالله من تلك الأمور توجيه
لأن يكون مجال استعاذته، وسؤاله، واختياره يدور في فلك مصلحة الدين والدنيا
والآخرة، ولا ينزل إلى مستوى لا يليق بأمر الصلاة.
نزغ الشيطان بين بني
آدم
تقدم بأن الإعاذة هي الالتجاء واللواذ؛ ولذا الأمور العظام التي لا يقوى
عليها الإنسان ليس له ملاذ ولا ملجأ إلا الله، ويقولون: عدو الإنسان إما من
الإنس وإما من الجن شياطين الجن والإنس، وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف
نتقي شر عدو الإنس، وعلمنا كيف نتقي شر عدو الجن، وذلك في قوله سبحانه
وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، ادفع من؟ الإنسان الذي يريدك بشر، إساءته
وحسنتك لا يستويان، هو يسيئ إليك، وأنت ادفع إساءته بالتي هي أحسن، ماذا
تكون النتيجة؟ {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] .
إذاً: تتقي عداوة الإنسان بالإحسان إليه، ولذا يقولون: مصانعة العدو وقاية
من شره، ويذكرون عن شخص أوروبي مشهور عند أهله، أنه قيل له: نراك تصانع
أعداءك، قال: أليس واجبي أن أتقيهم وأتقي شرهم؟ قالوا: بلى، قال: ما وجدت
أحسن من اتقائي شر العدو من مصانعته، أي: إذا صانعته صار صديقاً {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، ولكن بيّن القرآن الكريم أنها
منزلة وليس كل إنسان يقوى عليها، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا} [فصلت:35] ، صبر على أذية الخصم، ولجأ إلى الله سبحان وتعالى لكي
يعينه على الإحسان إليه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت:35] .
وكما جاء في الحديث: (تهادوا تحابوا) ، لو كان لك خصم ألد، وجئت في مناسبة
وقدمت إليه هدية بسيطة جداً، تجدها تسقط ثلاثين في المائة أو أربعين في
المائة مما في قلبه من شحناء عليك، وعندها يذهب وحر الصدر.
ثم جاء إلى القسم الثاني: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تصانع
الجن، ولا تنفع معه المصانعة؛ لأنك كلما صانعته كلما استضعفك، إذاً: لا
ينفع معه إلا السلاح، ولا تنفع معه مصانعة، إنما تلجأ من شره ومن كيده إلى
الله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ} [الأعراف:200] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}
[الأعراف:201] ، يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى حالاً، وهنا الاستعاذة
بالله سبحانه وتعالى هي اللجوء إليه بأن يحميه ويقيه ويدفع عنه ويرعاه مما
استعاذ به منه، ونجد الأمور الأربعة كلها خفية وغيبية لا يقوى كل من على
وجه الأرض أن يحفظ الإنسان أو يعيذه منها، ولا يقوى على ذلك إلا الله.
إذاً: فاستعذ بالله، وبدأ أولاً بعذاب جهنم، وفي بعض الروايات: (من عذاب
النار) ، وتقدمت الإشارة إلى أن لفظ جهنم مشتق من التجهم، وهو عبوسة الوجه
وهي كذلك، ومن يقي الإنسان من عذاب النار إلا الله سبحانه وتعالى.
من عجائب عذاب القبر
أمر البرزخ أمر غيب، ولا يعلم أحد حقيقة أمر البرزخ إلا الله، ولم نقف على
شيء من أخباره إلا ما جاءنا عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛
لأنه أمر غيب، ولا أحد يعلم الغيب {إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن:27] ، فقد يطلع الله بعض
رسله على بعض الغيب، فما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أحوال
القبر وأحوال البرزخ فعلى العين والرأس، وقد أخبرنا بما يسعه العقل حينما
وقف على أهل قليب في بدر، فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا قد وجدنا
ما وعدنا ربنا حقاً، فقال عمر: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟! -بعد
ثلاثة أيام تخاطبهم- قال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون) .
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [12]
شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم المصلي الصلاة بدعاء مهم فيه
الاستعاذة من أربعة أشياء من الغيبيات، ولا يقدر دفعها عن الإنسان إلا الله
عز وجل، ويشرع بعده أن يسأل العبد ربه من خيري الدنيا والآخرة، ولا يشترط
في ذلك التقيد بالألفاظ الواردة.
عذاب القبر حق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: من
الغرائب ما يذكره بعض المتوسعين في السيرة في غزوة بدر: أن ابن عمر كان مر
ببدر بعد الوقعة، فرأى رجلاً يخرج من الحفرة ويقول: يا عبد الله! وخلفه رجل
يضربه بسوط ويجره بسلسلة، ويقول: يا عبد الله! لا تسقه إنه كافر، فيقول ابن
عمر: فوالله لا أدري أعرفني أني عبد الله بن عمر أو ناداني بنداء العرب، يا
عبد الله! وكل الناس عبيد الله، فذكر ابن عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: (أنت رأيته؟ قال: نعم، أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: ذلك أبو جهل
يعذب بذلك إلى يوم القيامة) ، وأخبار القبر من أراد أن يتوسع فيها فليراجع
فيها كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الروح لـ ابن القيم، وأحوال أهل القبور
فيها أشياء مسطرة كثيرة جداً، منها ما صح سنداً، وما ضعف فيه السند، أشياء
فوق العقل، وليس لنا إلا أن نسلم لكل ما صح سنده، وقد جاءت النصوص الصريحة
عنه صلى الله عليه وسلم في أن القبر أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة،
وإما -عياذاً بالله- حفرة من حفر النار، وفي الحديث: (إذا وضع المؤمن، جاءه
الملكان وسألاه -في باب طويل جداً- فإن كان مؤمناً وأجاب، فتحت له فتحة من
النار، ويقال: ذاك مقعدك لو لم تكن آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له باب من
الجنة، ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم
الساعة) ، وإن كان العكس بالعكس.
وما أنكر عذاب القبر إلا بعض من يُلغي الغيبيات غير معقولة المعنى، وهذا
خطأ، وبعضهم ينسب ذلك إلى عموم المعتزلة، وبعضهم يقول: إنه رأي للبعض منهم
وليس للجميع، ومما يوردون من الشبه: كيف يكون القبر روضة من رياض الجنة أو
حفرة من حفر النار والقبور متقاربة متلاصقة؟ وفي بعض الروايات: (يمد له مد
البصر) ، كيف يمد مد البصر والمقبرة مائة متر في مائة متر؟ واحد فقط لو مد
له مد البصر أخذ المقبرة كلها، ثم أين يذهب البقية؟ ولكن ما دام الأمر
غيباً والله لا نستطيع أن نقول: كيف يمد؟ ويستحي الإنسان الآن أن يقول هذا،
نحن في الوقت الحاضر ربما نجلس أمام الشاشة، ونجد منظر بواخر في المحيطات،
وطائرات تطير، وغواصات في باطن الماء، ونجد ونجد والشاشة كلها أربعة وعشرون
بوصة، فهل نقول: كيف جاءت هذه؟ لا والله ما نقول، وهذا تقريب للواقع، وقد
توجد شاشة ثانية بجوارها فيها خلاف ذلك، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا كله،
ولكن نقول: يجب على المسلم إذا سمع خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يقول: سمعاً وطاعة، كيف نؤمن بالجنة والنار؟ {جَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، الروم تساءلوا: إذا كان عرضها
السماء والأرض فأين تكون النار؟ فجاءهم الجواب.
إذاً: كل ما كان غيباً لا يمكن للعقل أن يدركه؛ لأنه إذا أدركه لم يعد
غيباً، وكل المغيبات فوق قانون التصور العقلي، وهنا فرق بين المسلم وغير
المسلم، فالمسلم بإيمانه ويقينه وتصديقه بالوحي عن الله يقول: سمعاً وطاعة،
وكما نقل عن كعب الأحبار عندما سأله عمر: ما هذا العلم الذي تعرفون به
محمداً أكثر من أبنائكم؟ كما قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ، قال: والله! إن لمعرفتي بمحمد أشد من معرفتي
بولدي، قال: كيف ذلك؟ قال: لأن نعت محمد وتعريفه جاء بالوحي، والوحي صادق،
أما ولدي فإن النسوة يُحدثن -انظر إلى أي مدى- فيخطئن، وأنا لا أحرس امرأتي
وآخذها معي، فهي تغيب عني ولا أدري ما يكون، ولكن الوحي لا يعتريه شك، فأنا
أعرف بمحمد لصفاته عندنا بالوحي، وأشد اطمئناناً إليه من اطمئنان نسبة ولدي
إليّ.
إذاً: نحن نستيعذ بالله من عذاب القبر، وأشرنا لما قاله والدنا الشيخ
الأمين: إن العلماء يقولون: عذاب القبر ثابت بنص القرآن، كما جاء في حق آل
فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46] ، وهذا العرض غدواً وعشياً قبل
أن تقوم الساعة، ولا يكون ذلك في الحياة وهم أحياء، إذاً: لم يبق إلا فترة
البرزخ، ونسأل الله جميعاً أن يعيذنا من جهنم ومن عذاب القبر، ونسأل الله
السلامة والعافية، والعالم مهما اجتمع وأوتي من قوة وإمكانيات ومستحدثات لا
يمكن أن يدفعوا عذاب القبر عن صاحب القبر وأرادوا مرة أن يقفوا على سؤال
منكر ونكير، وفي بعض البلاد لا يوضع لحد ولا قبر إنما توجد غرف يضعون فيها
الموتى، وهذا موجود في البقيع في حالة -عافانا الله وإياكم- الطوارئ، عندما
يحدث موت بالجملة، ولا يستطيع الناس أن يحفروا حالاً لكل شخص قبراً،
فيجعلون مكاناً واسعاً ويرصون فيه الموتى، وكل مقبرة كبيرة فيها شيء
للطوارئ من هذا، فبعض البلدان يجعلون هذا للأسر، وقد تكون هناك بعض البلاد
فيها تكليف، المهم جاءوا بجهاز تسجيل ووضعوه في تلك الغرفة وسحبوا السماعة
إلى الخارج، وجلسوا ينتظرون ما يسمع بعدما دفنوا ميتهم، والمسجل يسجل، لكن
لا يوجد أي شيء، إلى أن مضت أربعة وعشرون ساعة، ورجعوا فوجدوا المسجل على
ما هو عليه، والشريط انتهى ولم يلتقط أي شيء.
إذاً: شيء فوق تصور العقل، والميت يسمع ويعقل، والأحاديث في سؤال القبر شبه
المتواترة، ومن ينفي عذاب القبر يلزمه أن ينفي عذاب جهنم؛ لأن الحديث جاء
بالاستعاذة منهما معاً، فإذا كان يؤمن بعذاب النار، ويستعيذ بالله من عذاب
جهنم؛ فما الذي يجعله يمتنع من أن يثبت عذاب القبر، ويستعيذ بالله من عذاب
القبر؟ إن أثبت هذا فليثبت هذا معه، وإن نفى هذا يلزمه أن ينفي الثاني معه،
ولا أحد ينفيهما حتى أهل الكتاب.
الاستعاذة من فتنة
المحيا والممات
قال: (ومن فتنة المحيا والممات) .
هناك عذاب وهو شيء واقع، وهنا فتنة، ويقول علماء اللغة: أصل الفتنة: إدخال
الذهب في النار لتخليصه من الشوائب العالقة به؛ لأن الذهب لا تحرقه النار،
وإنما تحرق ما علق به؛ ولهذا حينما يريدون معرفة عيار الذهب في المصاغ
يأخذون جزءاً من المصاغ وليكن سنتي من مائة سنتي من الجراب، ويدخل هذا
الجزء إلى نار حرارتها فوق المائتين لكي تذيب كل المعادن الموجودة مع
الذهب، وقد يكون معه نحاس أو قصدير أو النحاس الأحمر وأشياء كثيرة، فتذوب
ويبقى الذهب خالصاً بعد إدخاله في تلك الدرجة العالية من الحرارة؛ فيعيدون
وزنه بعد ذلك.
وبقدر ما نقص بعد الوزن الأول وقبل الإحراق فيقولون: عيار كذا، فتكون
السبيكة أو الجرم الذي أخذ منه العينة فيها من المعدن غير الذهب بقدر ما
أحرقته النار وبقي الصافي، وعلى هذا قالوا: استعملت الفتنة ونقلت من الاسم
المادي؛ على قواعد فقه اللغة، فأصل المادة اللغوية توضع للمحسوس أولاً، ثم
تنتقل من المحسوس إلى المعقول المقارب لها، كما قالوا في الصلاة والصيام
والزكاة: كل هذه وضعت للأمر اللغوي أولاً.
فالصلاة مأخوذة من الصلوين، أو من المصلي وهو الفرس الثاني، الأول مجلي
والثاني مصلي؛ لأن عنقه عند صلوي الفرس، وهما مؤخر الفرس، وصلو الإنسان عند
حقوه؛ لأنه يثني ظهره إلى حقوه في الركوع، ثم جاء أصلها الدعاء ونقلت إلى
الصلاة.
وكذا الأُذن، أصل مادة الأذان والآذن والمأذون والإذن راجع إلى حاسة الأذن؛
لأن الخبر يلقى فيها، إلى غير ذلك من علم أصل الاشتقاق، فهنا الفتنة الأصل
فيها لأمر محسوس وهو إحراق الذهب لمعرفة خالصه من شائبه، ثم انتقلت بعموم
الاختبار، وأصبحت الفتنة الامتحان والاختبار، ولذا جاء في قوله سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] ،
قيل: أحرقوهم؛ لأن أصل الفتنة الإحراق بالنار، وقيل: فتنوهم عن دينهم بهذا
التعذيب، والعامل المشترك بين معاني الفتنة: الشدة والعجز عن التحمل.
حقيقة فتنة الدنيا
يستعيذ الإنسان بالله من فتنة الدنيا، وهل في فتنة الدنيا إحراق أو شدة؟
قالوا: لا، لكن بجامع الشدة في التحمل، والفتنة في الدنيا، انتقل استعمالها
مرة ثالثة فيما يختبر به الإنسان ويُمتحن من التكاليف أو مما يعرض له من
ظروف الحياة من شدة ورخاء، قد يفتن بالمال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ، وقد يفتن بالغنى: {كَلاَّ إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وبعض العلماء
يقول: الصبر على العافية أشق على النفس من الصبر على المرض والضعف؛ لأن
المريض خامد ليس عنده شيء، لكن المتعافي يتحرك بالقوة وقد يعتدي بأدنى
مناسبة، وهكذا زيادة المال تُطغي.
يقول ابن دقيق العيد: كل ما يرد على الإنسان من خير أو شر لامتحانه، وهنا
يأتي مبحث بعض المربين: أيهما أفضل: الغني الشاكر الذي يصبر على النعمة
التي افتتن بها لكنه يحفظها ويشكر الله عليها فلم يفتن أو الفقير الصابر
الذي اختبر وامتحن بقلة المال فصبر؟ يُرجح الغني الشاكر؛ لأن الغني الشاكر
شكره لغناه يجعله يعدي تلك النعمة إلى الآخرين، ويحسن إليهم بصدقة وبفعل
الخير، لكن الفقير الصابر هو صابر، والناس ما نالهم من صبره شيء، وكما
قالوا: الخير المتعدي أولى من الخير اللازم على صاحبه، وعلى هذا قالوا:
فتنة المحيا كل ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيراً امتحن فيه،
هل يؤدي شكر النعمة؟ وإن كان شراً؛ هل يصبر عليه؟ كما جاء في حديث عيادة
المريض: (انظروا ماذا يقول لعواده؟ هل يشتكيني عليهم: أمرضني وأسقمني وسوى
وسوى معي؟ أم يحمد الله على ما أعطاه، فإذا سمعوا منه أنه يشتكي الله عليه
قال: دعوه مع الذي اشتكى لهم، وإذا سمعوا منه أنه يحمد الله على ما أصابه،
وأنه رضي بقضاء الله وقدره فيقول: أمهلوه) فالله قد يحب أنين العبد الصالح
في ابتلائه فيتركه على حاله ليصعد هذا الأنين الصادر من القلب إلى الله
وحده.
يهمنا هنا أن فتنة المحيا تشمل كل شيء، وكما قدمنا في المال والولد: أنه قد
يكون فتنة ولا يدري الإنسان ما هو الخير.
فتنة الممات وما
تطلق عليه
فتنة الممات تحتمل أمرين: إما فتنة ما يقع فيه الإنسان عند آخر حياته، وبما
يُختم له به، ونسبت إلى الممات؛ لأنها قريبة في مماته، وما قارب الشيء أعطي
حكمه، وفي الحديث: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها
إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل
بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها) ؛ ولذا قالوا: الافتتان هنا عند آخر حياته، هل
يكون آخر كلامه لا إله إلا الله؛ أم أنه يعجز عنها وينصرف ويشغل بأمور
أخرى؟ فبعضهم يقول: وفتنة الممات تحتمل أن تكون عند لحظة النزع والاحتضار
فهناك يفتن، وقد يأتيه الشيطان ويسول له أشياء كثيرة، وإما الفتنة بعد
الموت فهي السؤال في القبر، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك: (إذا وضع
العبد في قبره أتاه ملكان فأجلساه) ، وجاء أن الملكين يسألانه: عن ربه
ودينه ونبيه؛ فإذا كان مؤمناً صالحاً وفق للجواب، وقد جاء في الحديث أنه
صلى الله عليه وسلم (حضر جنازة وبعد أن انتهوا من دفنها قال: سلوا الله
لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من
يحضر دفن الجنازة بعد أن يفرغوا من دفنه وتسوية التراب عليه أن يسألوا الله
له الثبات في الجواب عن السؤال.
عمرو بن العاص أوصى عند موته فقال: (إذا أنتم دفنتموني، فأقيموا عند قبري
بقدر ما تنحر الجزور، -يعني: تذبح وتسلخ وتقسم- فإني أستأنس بوجودكم عند
سؤال الملكين) .
إذاً: عند السؤال الله أعلم بمن كان مخلصاً في دينه، صادقاً في إيمانه،
فيلهمه الله الجواب الصحيح، ومن كان منافقاً -عياذاً بالله- أو كان أو كان،
قال: هاه هاه لا أدري، هاه هاه سمعت الناس يقولون فقلت، وهنا الفتنة حقاً.
ويقول بعض العلماء: هل هذا السؤال وتلك الفتنة عامة في جميع البشر من آدم
إلى الآن وفي جميع الأمم؟ قالوا: لا، هذا خاص بهذه الأمة فقط، وما كان أحد
من الأمم يسأل عن هذه الأمور في قبره، ولماذا امتحنت هذه الأمة مع أنها خير
الأمم؟ ولماذا فتنت في قبرها؟ قالوا: لأن الأمم السابقة كانت إما أن تستجيب
لنبيها فتسلم، وإما أن تعاند فيعاجلها العذاب، وكم من أمة جاءها العذاب
واستأصلها لأنهم كذّبوا، أما هذه الأمة فقد رفع الله عنها العذاب إلى يوم
القيامة، فهم يمضون في طريقهم الصادق على صدقه، والكاذب على كذبه، والمنافق
على نفاقه، ومن هنا تأتي الفتنة والسؤال والفرز الأول في القبر، نسأل الله
السلامة والعافية.
في القبر من يمكن أن يساعد الإنسان هناك؟ لا أحد، وكما قيل: ثلاثة تصحب
الميت، اثنان يرجعان، ويبقى واحد، ماله وأهله وعمله، ماله يذهب في فخر
الناس ومجاملاتهم، وأهله يحزنون عليه، وعمله هو الذي يصحبه ويلازمه في
قبره، فلا يملك أحد له شيء إلا الله.
كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأربع في كل صلاة، وعلمنا ذلك؛ لئلا
تغيب عن البال، دائماً وأبداً إذا استعذنا بالله من عذاب النار تجنبنا
موجبه، إذا سألنا الله الاستعاذة من عذاب القبر أيضاً تجنب سببه، وقد جاءت
بعض الأحاديث تؤكد على بعض أسباب عذاب القبر، مر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما
أحدهما فكان لا يستنزه من البول) ؛ يعني: ليس بكبير لأنه يستطيع أن يتحرز
منه، (بلى إنه كبير) ؛ لأن عليه تتوقف صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين،
(وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة بين الناس) ، ليس بكبير، يستطيع أن يمسك
لسانه ويكفه عن الغيبة، ولكنه كبير؛ لأن الغيبة تفسد ما بين كل اثنين أو
جماعة أو الجميع، والحديث هنا صحيح الإسناد، وهناك زيادة فيها مباحث (فأخذ
جريدة فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم
ييبسا) ، ويأتي بحث العلماء: هل لنا أن نفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه
وسلم، الكثير يقولون: نعم، والبعض يقول: لا، لأننا لم نطلع كما اطلع صلى
الله عليه وسلم على أهل القبر، ولا ندري أنه يعذب أو ينعم، لذا لا نضع
احتياطاً، قالوا: وهل وضعنا نحن بأيدينا كوضع رسول الله؟ قالوا: لا،
والمسألة تدور بين جواز فعل مثل ذلك عند القبور ومنعه، والذي عليه الاتفاق:
أن ندعو له، وعند الدفن نسأل الله له التثبيت، وهذا ما يتعلق بفتنة الممات
على إحدى المعنيين: إما أن يكون عند احتضاره مخافة سوء الخاتمة -عياذاً
بالله- وإما ما يتعلق بسؤال القبر وهو فتنة عظيمة، نسأل الله السلامة
والعافية.
الاستعاذة من فتنة
المسيح الدجال
قال: (ومن فتنة المسيح الدجال) .
مسيح على وزن: فعيل، من المسح، ويقول بعض العلماء: لقد جمعت له وجه في
الاشتقاق ولم نقف على ذلك، ولكن كلمة المسيح من حيث اللغة يقول بعضهم:
المسِّيح بتشديد السين تكون للدجال، والمسيح بدون أي وصف آخر هو عيسى بن
مريم عليه السلام، قال الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ
رَسُولٌ} [المائدة:75] وكيف نسبة الاسمين لهذين مع بعد ما بينهما؟ قالوا:
المسيح تطلق بالتخفيف على الجانبين، ولكن إذا أُريد به عيسى بن مريم عليه
وعلى نبينا الصلاة والسلام جاءت مجردة وإذا أُريد الدجال لابد من القيد،
كقولنا: جاء بأن المسيح الدجال يفعل كذا، فقالوا: سبب التسمية من أصل مادة
المسح.
أما الدجال: فلأنه يمسح الأرض كلها، ويأتي على جميع أماكن الأرض، ويطوف
الكرة الأرضية ما عدا مكة والمدينة فلا يدخلهما، وقد جاء في رواية الموطأ
في حق المدينة أن بها ملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون؛ فالله سبحانه
وتعالى حفظ المدينة من أن يدخلها الدجال، ولكن فتنته تصلها، بمعنى يأتي
فينزل بملتقى الأسيال وراء بئر رومة -كما جاء في نص الحديث- فينصب خيامه
ويدق طبوله، ويخرج له من المدينة كل منافق يخرجون إليه والمدينة معصومة منه
وهي حرام عليه، وكذلك مكة المكرمة.
إذاً: سمي المسيح لأنه يطوف في العالم بالمساحة السطحية ويجوبها كلها ما
عدا الحرمين الشريفين.
أما عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقالوا: مسيح بمعنى
فعيل، ومسيح بمعنى فاعل، فقالوا: بمعنى فعيل ممسوح؛ لأنه نزل ممسوحاً، وما
معنى ممسوح؟ قالوا: لأن النصارى من مبادئهم: أنهم يمسحون الطفل بما يسمى
المعمدانية، فعيسى نزل ممسوحاً من عند ربه ولا يحتاج إلى مسحهم، وقيل: مسحه
وعمده زكريا، وقيل: مسيح بمعنى فاعل أي: ماسح؛ لأنه كان يمسح المعتل فيبرأ.
واللفظ هنا جاء مقيداً بالدجال، واللفظ يطلق فيشمل عيسى عليه السلام ويشمل
الدجال، ولكن إذا أريد بالاستعمال المسيح الدجال لابد أن يأتي بهذا القيد.
تحذير النبي صلى
الله عليه وسلم من فتنة الدجال
شدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من فتنة المسيح الدجال وقال: (إن
ظهر فيكم وأنا بينكم فأنا حجيجه، وإن يظهر وأنا لست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه)
وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤها كل مؤمن) ،
وبأي لغة أو بأي حروف أو بأي مداد تكتب؟ الغ العقل هنا، وصدق الخبر، فسوف
تراها في جبينه، وكيف كتبت وكيف رضي بذلك؟ هذا رغماً عنه.
إذاً: فتنته بينها صلى الله عليه وسلم، وقضية تميم الداري مشهورة، حينما
نزل بالسفينة وانكسرت بهم وجاء إلى جزيرة ورأى ورأى إلى آخره، وكتب الحديث
والفتن والملاحم مليئة بأخباره، وفتنته: أن يأتي والناس في محل وشدة فيقول:
يا سماء! أمطري فتمطر، يا أرض! أنبتي فتنبت، يا زرع! استوي فيستوي اطحنوا
كلوا، في موقف واحد: تمطر السماء وتنبت الأرض ويطحنون ويأكلون، ويقول: أنا
إلاهكم، أنا ربكم ها قد فعلت، أما المؤمن فيقول: لا، إنك كافر، قد أخبرنا
بذلك رسول الله، وأما الكافر فلا يدري، ويقول: نعم، إنك كذلك؛ لأنك فعلت
وفعلت، ثم يأتي بمسلم ويشقه نصفين بالسيف، ويمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم،
فيقوم ملتحم الشقين إنساناً سوياً، ويقول: أنا ربكم أُحيي وأميت، فالكافر
يفتن به -عياذاً بالله- والمؤمن يقول: لا، قد أخبرنا بذلك رسول الله ولا
يفتن به، ولأن المسألة تتعلق بلقمة العيش وبالحياة والموت كانت الفتنة به
خطيرة، وتخشى على كثير من الناس، ومن هنا من يستطيع أن يدفع تلك الفتنة؟
إنه الله، فكانت الاستعاذة من المسيح الدجال بالله سبحانه وتعالى؛ لأنها
فوق مستوى العقل، وفوق قدرة البشر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا
جميعاً من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة
المسيح الدجال، ومن كل فتنة تقع بالناس، والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله: [وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] .
تقدمت فائدة هذه الزيادة، وبأن موضع الاستعاذة يكون بعد الفراغ من التشهد
الأخير، وقبل سؤال الله ما أعجبه.
ومن الناحية الفقهية: يرى بعض العلماء كالظاهرية: بأن الاستعاذة من هذه
الأربع واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ فليقل أو فليستعذ) ،
وهذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب، ولكن الجمهور على أنها ليست على
الوجوب، ولكنها للتعليم والإرشاد؛ فهي للندب، وأعتقد أن العاقل لا ينبغي له
أن يتركها إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إليها، وبيّن لنا
صلى الله عليه وسلم أنسب وقت لها، وهو: إذا فرغ من التشهد؛ فكيف يتركها
الإنسان؟ وهل أمن على نفسه؟ لا والله، إذاً: لا ينبغي له أن يتركها.
شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً
كثيراً ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت
نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك
وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، متفق عليه] .
كأنه يقول: كل ما أعلمه لا يساوي ما يعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهذه من خصائص الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع رسول الله، فقد كانوا يتلقون
الأمر عنه مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ويقول العلماء: الإنسان مهما كانت منزلته، ومهما بلغ فضله؛ فليس في غنى عن
التعليم، فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله تعالى عليه، وقد شهد له الله في
كتابه، وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة
لرجح بها) ها هو في حاجة إلى من يعلمه، ولكن من؟ رسول الله؛ لأنه لا يوجد
أحد أعلم منه إلا رسول الله، فأدرك الحاجة إلى التعليم، وأدرك أنه ليس هناك
أحد يعلمه إلا رسول الله، فقال: (علمني كلمات أقولهن في الصلاة) ، والرسول
صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه طلب وجيه.
وكلمة: (به في صلاتي) تدل أن الدعاء في الصلاة عقب التشهد ليس مقيداً
بالأربع، وليس مانعاً من غيرها، وكلمة في الصلاة مطلقة.
(قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي) .
هل حدد له موطناً في الصلاة؟ لم يحدد، يكون في سجوده، بعد الفراغ بعد
التشهد، ضمن: (تخير من المسألة ما تشاء) ، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره
بعموم.
أبو بكر الصديق ظلم نفسه، وعلي وحسين وعطية ومحمد وحسن عملوا ماذا؟ ظلموا
أنفسهم وظلموا الناس معهم، من أحق وأولى بهذا الدعاء أبو بكر الصديق الذي
قال الله فيه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] أو
كل الحثالات الذين جاءوا من بعده؟ ولذا يقول العلماء: لا يسلم مخلوق مهما
كان على وجه الأرض بعد الرسل من ظلم النفس، الرسول يقول له: (قل يا أبا
بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي) ، وكيف يقع الظلم من الإنسان لنفسه؟ قالوا: أصل
الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهنا العبد مكلف، ضع العبادة هذه هنا،
ابتعد عن المعصية هذه هناك، فإذا لم يضع العبادة في موضعها فقد وضع الشيء
في غير موضعه؛ وبذلك ظلم نفسه؛ لأنه قصر في حق نفسه، وإذا لم يتباعد عن
المعصية ظلم نفسه؛ لأنه وضع نفسه في غير ما ينبغي أن يوضع فيه، ولهذا
قالوا: ظلم النفس إما بتقصير فيما يجب أن يفعله، أو في اعتداء بفعل ما لا
يجوز أن يفعله، فهذا ظلم نفسه بحرمانها من فعل ما أمر به، وهذا ظلم نفسه
بفعل ما نهي عنه، فحملها ما لا تطيق، ولهذا يأتي إنسان ساعة الاحتضار وهو
حزين أسف، لماذا؟ إن كان محسناً حزن على التقصير في الإحسان، وإن كان
مسيئاً حزن على التفريط في الإساءة.
ولكن الظلم يتفاوت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ؛ فأعلاه
الشرك، وأدناه اللمم.
(ظلماً كثيراً) ليس مرة أو مرتين، بل ظلم متوالي، قد يرى العبد الصالح
التفريط في المندوبات، أو الإفراط في المباحات؛ ظلماً، كما يقال: حسنات
الأبرار سيئات المقربين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء لقضاء
الحاجة وهو أمر جبلي، فيخرج فيقول: (غفرانك) ، وما موجب طلب المغفرة هنا؟
وما الذنب الذي يحتاج إلى مغفرة؟ قالوا: لامتناعه من ذكر الله أثناء وجوده
في الخلاء، فكأنه يرى جزءاً من عمره خلا عن ذكر الله، فيطلب مغفرة من الله
لذلك، سامحني في هذه اللحظة؛ لأنها كانت لحظ نفس، وبعضهم يقول: لأن ما يحصل
للإنسان في ذاك المكان تتوقف عليه حياته، ولا يقوى على شكر نعمة الإخراج،
كما لا يقوى على شكر نعمة الإدخال؛ لأنه لو حبس فيه مات، فكأنه يقول: هذه
أيضاً نعمة أعجز عن شكرها فغفرانك، ولكن الأول أولى، والله تعالى أعلم.
وفي بعض الروايات: (ظلمت نفسي ظلماً كبيراً) ، فنجد بعض العلماء يقول: نجمع
بينهما: (ظلماً كثيراً كبيراً) ، والبعض يقول: تارة تقول: كبيراً، ولا تأتي
بكثيراً، وتارة تقول: كثيراً، ولا تأتي بكبيراً؛ لأن الرسول لم ينطق بهما
معاً في وقت واحد، وإنما جاء تعليمه مرة ظلماً كثيراً وحدها، أو جاء تعليمه
ظلماً كبيراً وحدها، فأنت لا تجمعهما؛ لأنه لم يجمعهما، فتأتي بهذا تارة،
وتأتي بذاك تارة أخرى، والله أعلم.
(ولا يغفر الذنوب إلا أنت) ، أنا رجعت إليك؛ لأن ظلمي لنفسي هو بحق التشريع
الذي أمرتني أو نهيتني، فالمرجع إليك أنت.
(فاغفر لي مغفرة من عندك) .
لا بعملي، ولا باجتهادي، ولا بعباداتي، سبحان الله! أبو بكر الذي يخرج من
الدنيا بكاملها لله ولرسوله، ويأتي بكل ما يملك من ماله، يخرج به مهاجراً
إلى الله ورسوله، يأخذ كل ما يملك في مكة -أربعمائة درهم- ولم يترك لعياله
شيئاً، ثم يأتي إلى المدينة، وبعد أن يأتي ويجتمع عنده المال، ويحض النبي
صلى الله عليه وسلم على الصدقة، يأتي بكل ماله فيقال له: (ماذا تركت لعيالك
يا أبا بكر؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، هذا أبو بكر مع عمله هذا كله
الشخصية الصادقة في الرسالة، وفي صحبته له في مكة، وعرضه على القبائل،
وتهيئته للهجرة، وخروجه معه إلى الغار، ومجيئه إلى المدينة، ومؤازرته،
وشراء أرض المسجد الذي بني فيه، ومرافقته في كل غزواته، ولم يتخلف عنه قط
ولا في غزوة من غزواته، ومع هذا كله: (واغفر لي مغفرة من عندك) ثم هذا الذي
قدمته ما هو؟ قال: لا، كله من عند الله، هدايته، وتوفيقه لصحبة رسول الله،
وجوده بنفسه وبماله، كل ما فعله الأصل فيه أنه من الله.
(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني
الله برحمته) ، قال عبد الرحمن بن عوف: (رأيت كأني مت، وكأن القيامة قامت،
وقد جئت ونوقشت الحساب؛ حتى ظننت أني هالك، وما أنجاني إلا صحبتي لرسول
الله) ، ابن عوف الذي يأتي يتصدق بالعير وبما تحمل في سبيل الله، ويأتيه
التُجار لشرائها بربح عشرة في المائة، وهو يرفض ويقول: هناك من أعطاني ألف
في المائة، قالوا: ليس هناك تاجر في المدينة حاضر يعطيك هذا، قال: الله
أعطاني،،الحسنة بعشرة أمثالها، هي بما فيها في سبيل الله، ومع ذلك يقول:
(نوقشت الحساب حتى ظننت أنني هالك، وما أنجاني الله إلا صحبتي لرسول الله)
، هذا فضل من الله.
ولهذا لا ينبغي أبداً أن يرى الإنسان لعمله قدراً، ويعقد رجاءه وأمله وحسن
ظنه بالله، ويذكرون عن شخص كان مسرفاً على نفسه، فحضرته الوفاة فبكى
الحاضرون عنده، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: والله! نخشى عليك لأنك كنت وكنت،
قال: أرأيتم لو عدت ورجعت إلى والدتي أكانت تحرقني بالنار، قالوا: لا
والله، قال: الله أرحم بي من أمي، انظر الرجاء! والصديق بنفسه يقول:
(والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة، والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) .
إذاً: في هذه الكلمات التي علمه رسول الله إياها وهي تعليم لنا: بيان
وتوجيه فيما ينبغي أن يعقد العبد مع الله من قوة الرجاء، ويجتهد بقدر ما
استطاع لطلب المغفرة من الله.
(وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه.
انظروا الترتيب والمقابلة، (اغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت
الغفور الرحيم) ، وهكذا في الدعاء: الإنسان يسأل الله من أسمائه الحسنى بما
يتناسب مع حاجته؛ لأن الصديق طلب المغفرة والرحمة فقال: اغفر لي وارحمني
إنك أنت غفور رحيم، ولم يقل: رزاق كريم، ولا قادر علي عظيم؛ لأن حاجته
المغفرة، وكأن كل اسم من أسماء الله باب مفتوح للخير، فتطرق ذلك الباب بتلك
الصفة وبهذا الاسم.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [13]
الدعاء هو العبادة، والصلاة هي الدعاء؛ ولذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم
لأمته أدعية كثيرة في الصلاة، منها ما يكون في كل صلاة، ومنها ما يمكن
التناوب في الإتيان به، وعلى كل مسلم الحرص على الإتيان بها؛ لأن الدعاء
خير كله.
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من البخل ...
)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من
البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك
من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر) ، رواه البخاري.
تعوذ النبي صلى الله
عليه وسلم من الجبن والبخل
تقدم الكلام على طرفٍ من هاتين الخصلتين المقترنتين: البخل والجبن، وتبيّن
لنا أن البخل من أشد الأدواء، ويذكر بعض الناس عوامل قد تطرأ على الإنسان
تُبخله، إما كثرة عيال وإما قلة المال، ولكن الحد الوسط في هذا هو: ألا
يمتنع عن حق شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوق الله فيما في يده من
المال من زكاة أو مساعدة ضعفاء أو إحسان إلى الجار أو صلة ذي رحم؛ فلا
يقال: إنه بخيل، ولكن إذا كان يمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شحاً
بماله فهذا هو البخيل، كما أن الإسراف هو: أن يُبذر المال في غير وجهه، كأن
ينفقه في أدوات لهو أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يعطيه السفهاء
يبذرونه ويضيعونه، فهذا تبذير ولا يجوز.
وكلا طرفي الأمور ذميم إفراط أو تفريط هذا مذموم، لكن توسط واعتدال هذه هي
الفضيلة.
أما الجبن: فيرى بعض الناس أنه لا يستطيع الجبان أن يتكلف الشجاعة، ولا أن
يتدرب ويكتسبها، قد يستطيع البخيل أن يتخلص من بعض شدة الشح عليه ويبذل،
ولكن الجبن غريزة ذاتية لا يستطيع أن ينفك عنها، ويذكرون عن حسان رضي الله
تعالى عنه الجبن، وهو الذي يُظهر الشجاعة في أشعاره، وهو القائل: عدمنا
خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يتهدد قريشاً، وهو لا يستطيع أن
يقتل إنساناً، ويذكرون في غزوة الخندق لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم
أن يخرج بالصحابة إلى حفر الخندق، خافوا على النساء والأطفال من اليهود؛
لأنهم كانوا لا زالوا موجودين، وكان لـ حسان حصن منيع؛ فجمعوا النساء
والأطفال في ذلك الحصن، ولفت نظر صفية رضي الله تعالى عنها أن رأت يهودياً
يطوف بالحصن، فقالت لـ حسان: هذا يهودي يطوف بالحصن أخشى أن يطلع على ثُلمة
فيؤذينا، انزل إليه فاقتله، فقال لها: ما أنا هناك يا ابنة عمي! وهي خافت
على من عندها، فاحتزمت واعتجرت عمامة، وأخذت خشبة، ونزلت وترصدت به، فضربته
على رأسه فقتلته، ثم قالت لـ حسان انزل وخذ سلبه، والله ما منعني أن آخذ
سلبه إلا أنه رجل، قال: لا حاجة لي بسلَبه، فهذه حالة ما استطاع أن يتخلص
منها.
ويذكرون في بعض مواقف الشجعان أن الشخص يكون من أشجع خلق الله، لكن في
البداية قد يكون من أجبن خلق الله، فإذا ما زج به إلى الخطر كان كالأسد
الهصور، ويقولون: إن بعض الصحابة كان في بعض الغزوات، وحاصروا أهل تلك
الجهة، فإذا بهذا الشخص يقول: لفوني في لفائف وألقوا بي إلى العدو، فلما
لفوه في اللفائف، أحدث على نفسه من شدة الخوف، ولكن لما ألقوا به وراء
السور قام وقاتل العدو حتى فتح الباب للمسلمين، فهذه مسائل هبة لا يستطيع
إنسان أن يتحكم فيها، ولا ينبغي أن يُعاب على إنسان ابتلي بشيء غريزي لا
يستطيع أن يتخلص منه.
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من هاتين الخصلتين مما
يدلنا على أنها صفات مذمومة، ولكن يقول العلماء أو الأدباء -وهو عجيب-:
البخل والجبن منقصة في الرجال ممدحة في النساء، ما كان نقصاً في الرجال
يعابون به، فهو مدح في المرأة، كيف هذا؟ قالوا: المرأة البخيلة تحفظ مال
زوجها في غيبته؛ لأنها تشح به، والمرأة الجبانة تخشى أن تخرج من بيتها
فتبقى في بيتها، إذاً: الرجل البخيل مذموم، والمرأة البخيلة ممدوحة، وليس
فقط بخيلة على عيالها أو زوجها، بل تكون بخيلة على الأجانب، وكذلك الرجل
الجبان مذموم؛ لأنه يجب أن يكون شجاعاً ويقاتل ويحمي عرضه وماله ووطنه، إلى
غير ذلك، والمرأة الجبانة هذه صفة مدح فيها؛ لأنها تخشى على نفسها أن تخرج
ليلاً، أما في النهار فهي تحت أعين الناس، أما في الليل فالمرأة الجريئة
تخرج ولا تدري ماذا يصادفها، إذاً: هما خصلتان مذمومتان في الرجال ممدوحتان
في النساء.
الاستعاذة من أرذل
العمر
الخصلة الثالثة التي كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها، هي: أن
يُرد إلى أرذل العمر، أي: يمضي به العمر، وامتداد العمر يرد الإنسان إلى
أوله؛ لأن من وصل إلى أرذل العمر، يصبح قليل الإدراك، قليل القوى، ضعيفاً
كالطفل سواء بسواء؛ فإذا وصل إلى ذاك الحد كان امتداد العمر به ومضيه به
إلى الأمام كأنه في حلقة بدأ بالصفر وهو طفل لا يعي شيئاً، ومشى في الدائرة
حتى جاء إلى القمة؛ فكان في قوته ومنعته وذكائه وفطنته بلغ جهده كاملاً، ثم
بدأ ينحرف مع الدائرة حتى إذا وصلت به إلى نقطة البداية رد إلى ما كان عليه
في ضعفه لا يفقه شيئاً، والشخص إذا كبر لا يحسن التصرف، وربما يبكيه الشيء
القليل كالطفل، ولا يستطيع أن يُحكم أمره، ويكون في حاجة إلى قوامة عليه في
أكله وشربه وما يحتاجه، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم أن يمتد به العمر إلى
أن يواصل السير حتى يعود إلى ما كان عليه في بداية عمره، وهي حالات
الطفولة، وإذا كان الأمر كذلك، فطول العمر مذموم: (خيركم من طال عمره وحسن
عمله) ، ما دام أنه في حسن العمل فالحمد لله، وإذا وصل إلى حد يسقط عنه
القلم لا يُحسن أن يصلي ويعقل أو يصوم ولا يدرك أن يزكي؛ فحينئذ لا يوجد
عمل، ويكون طول العمر حينئذ عبئاً عليه، ونسأل الله السلامة والعافية.
والعمر رزق من عند الله، وليس لأحد فيه تصرف، ربما نسمع أن بعض الأشخاص
تجاوز المائة، وهناك من عاش إلى مائة وخمسين إلى مائتين إلى ثلاثمائة سنة،
ولا نبعد فنوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه فقط، وقبل
هذا كم؟ لا نعلم، ويقولون: كلما طال الزمن كلما قصرت الآجال، فكانوا في
السابق يعيشون المائة والمائتين والثلاث والأربع، والآن تقاصرت الأعمار،
والله تعالى أعلم.
يهمنا في هذا: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من تلك الحالة،
إذاً: وأنت في شبابك أو شيخوختك وقواك يجب أن تعمل؛ لأنك لا تدري فربما
يمتد بك العمر حتى لا تستطيع أن تعمل؛ ولهذا كانت استعاذة النبي صلى الله
عليه وسلم من هذه الصفة، والله تعالى أعلم.
الاستعاذة من فتنة
الدنيا
وقوله: (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) ، كان يستعيذ صلى الله عليه وسلم من فتنة
الدنيا، والفتنة الأصل فيها الوضع في النار، يقولون: فتنت الذهب، أي:
أدخلته النار ليتميز الصافي والخالص مما علق فيه من معادن أخرى أو تراب أو
غير ذلك، فالفتنة انتقل استعمالها إلى الشدة التي تظهر حقيقة الإنسان،
وفتنة الدنيا يذكرون لها مجالات عديدة: إما في المال أو الأولاد أو التقاصر
في العمل كل ما يمكن أن يشغل الإنسان عن واجبه فهو فتنة، فقد يكون الإنسان
في مال، وولد، ومنصب، وعافية، وكل هذا امتحان وفتنة.
هل يكون في تلك الحالات محافظاً على الواجب مؤدياً لحق الله؟ أو هل ما بيده
يزيده شراً ويتعدى به حده فيطغيه؟ بعضهم بالعافية يطغى على الضعيف فيؤذيه،
أو بالمال يطغى ويتطاول على الفقراء، وبالجاه يتطاول ويزدري الآخرين،
وهكذا.
وتقدم لنا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] ، أن هذا ابتلاء،
وقد يكون الابتلاء أيضاً بالغنى، ليس بالنقص وإنما بالزيادة، والابتلاء
بالزيادة أشده، سمعنا شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول فيه:
علماؤنا يقولون: الفتنة بالغنى وبالصحة أشد ابتلاءً على الإنسان من الفتنة
بالفقر والمرض لأن الفقير والمريض، لا يدري ما يفعل، لكن الفتنة بالصحة
وبالمال شديدة، وذاك الذي يقول: إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي
مفسدة لم يقل: الهرم ولا الفقر، لا، إن الشباب والفراغ والجِدة بمعنى
المال، شباب ومعه مال ومتفرغ، وليس معه شيء يضيع وقته فيه، ولا يصرف قوة
شبابه فيه، معناها: أنه يعود على الناس بالبطش وبالإيذاء، والله سبحانه
وتعالى بيّن {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}
[العلق:6-7] .
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة الدنيا سواء بعرض من أعراضها
أو بأي حالة من حالاتها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم فتنة
الدنيا.
الاستعاذة من عذاب
القبر
قوله: ( {وأعوذ بك من عذب القبر) .
تقدم بيان الاستعاذة من عذاب القبر وفيه إثبات وجود عذاب القبر بالفعل،
والنصوص قد تقدمت في هذا، ومنها الإشارة من كتاب الله، وتقدم هذا الأمر بما
يغني عن إعادة الكلام فيه.
ودائماً وأبداً يا إخوان! إذا وجدنا مقترنات متعددات مختلفة جاءت في حديث
نبوي، ونعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم والحكم؛ فلو
تأملنا في تلك المتعددات التي جاءت في نسق من حديث رسول الله نجد بينها
ارتباطاً، وقد أشرنا إلى ما يقوله العلماء من الارتباط بين البخل والجبن؛
لأنهما مقترنان لا ينفكان؛ فكل بخيل جبان وكل جبان بخيل، بخلاف الشجاع
والكريم، كل شجاع كريم، وكل كريم شجاع، ثم بعد ذلك أُرد إلى أرذل العمر؛
لأن الرد إلى أرذل العمر يجعل الإنسان في حالة لا يعي شيئاً مما حوله، وهو
كالذي جمع البخل والجبن سواء، ثم يأتي بعد هذه الأشياء التعوذ من فتنة
الدنيا سواء كانت في المال بالتبخيل أو بالتبذير والتعدي، أو كانت في الجبن
من التقصير من الواجب أو التهور في التعدي على الآخرين، فجاء التعوذ من
فتنة الدنيا ليعم كل ما تقدم، ثم جاء التعوذ من عذاب القبر لأنه النهاية،
وهو البرزخ بعد الحياة.
شرح حديث: (كان إذا انصرف من صلاته استغفر
ثلاثاً ... )
قال رحمه الله: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا انصرف من صلاته: استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام،
ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) ، رواه مسلم.
] .
قوله: (استغفر) الهمزة والسين والتاء للطلب، مثل استنجد: طلب النجدة،
واستعاذ: طلب العوذ واللواذ، واستغفر: طلب المغفرة.
كنا في الصلاة في مناجاة مع الله: حمدنا وشكرنا وركعنا وسجدنا وقرأنا
وسألنا كل ما يمكن من العبادات تكون في الصلاة، والاستغفار: طلب المغفرة،
وطلب المغفرة إنما يكون من خطيئة أو ذنب، أين الخطيئة، وأين الذنب الذي
حالاً نستغفر منه؟ يرى بعض العلماء بأن الاستغفار مباشرة عقب الصلاة تتمة
لأمر الصلاة؛ لأن المطلوب في الصلاة أن العبد يكون في رحلة مناجاة مع الله،
وقد جاء عن بعض السلف: أنه كان يغيب عن وعيه عما حوله إذا دخل في الصلاة،
ويجمع كل إحساسه ومناجاته في صلاته، ويقولون عن علي بن الحسين بن علي رضي
الله تعالى عنهم: كان يصلي، وبعد ما انتهى من الصلاة نظر فإذا غبار في جانب
من المسجد، قال: ما هذا الغبار؟ قالوا: ألم تعلم؟ قال: ما الذي حصل؟ قالوا:
جدار المسجد سقط، يسقط جدار المسجد الذي هو فيه وهو لم يشعر، لماذا؟ كان في
مجال آخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: تشغل
الإنسان عن كل ما حوله، ويذكرون عن عروة بن الزبير -ولم أجدها في ترجمته-
أنه لما سافر إلى معاوية بالشام أصيب بجرح، ودخلته الغرغرينة إلى أن جاءه
الطبيب وقال: لابد من قطع القدم؛ لئلا يسري الداء إلى الجسم فيقتلك، وفي
بعض الكتب أنه قال: ائتوا به لكي نبنجه قال: لماذا؟ قال: حتى تغيب عن وعيك
فنقطع رجلك، فرفض، وقال للطبيب: اقض عملك، فقطعوا رجله دون أن يبنجوه، ولم
يتأوه، ولا مرة، وبعضهم يقول: كان معه بعض أولاده، فقال لهم: تريدون قطعه؟
قالوا: نعم، قال: انتظروا حتى يدخل في صلاة، فإذا دخل في صلاة فشأنكم برجله
فلن يشعر بكم، وفعلاً تركوه حتى كبر للصلاة وجاءوا بأدواتهم ونشروا ساقه،
ولم يقل لهم شيء، حتى انتهى من الصلاة فإذا برجله بجواره، قال: ما هذا؟
قالوا: رجلك الذين نريد أن نقطعها، قال: متى؟ قالوا: وأنت في الصلاة، أعتقد
أن مقاييسنا لا تحتمل هذا، وأي ميزان في العالم له طاقة خمسين كيلو لو وضعت
عليه زيادة لابد أن يخسر ويفسد، فموازيننا العقلية لا تتحمل هذا، كيف نقيس
بها ذلك؟ ولو وجدت شوكة أو إبرة وأنت في الصلاة لابد أن تشعر بها.
إذاً: هذه أمور يمنحها الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده حتى يكونوا في
حالات الله أعلم بها، وكما قال عمر بن عبد العزيز أو غيره: إذا أردت أن
تدخل على ربك بغير استئذان وتخاطبه بلا ترجمان: فأسبغ الوضوء، واستقبل
القبلة، وكبر للصلاة، الآن عندما دخلنا المسجد استأذنا من؟ لا أحد، فقط
قلنا الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم
اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك) فكبرتَ وقرأتَ، وكل مسلم يتعين عليه
أن يقرأ الفاتحة بالعربية، لكن غير العربي في الأدعية هل يتعين عليه أن
يدعو باللغة العربية؟ إن لم يستطيع فبلغته، خاطب ربه بدون ترجمان، ويكون
الصف فيه مئات الأشخاص يدعون بمئات اللغات، ولا يحتاج الإنسان مع الله إلى
ترجمان؛ لأنه منه إلى ربه.
فإذا كان الأمر كذلك، فيعلمنا صلى الله عليه وسلم: أنه يقع من الإنسان بعض
التقصير في حق الصلاة سواء من كمال خشوعه وخضوعه فيها أو من سهو عن بعض
سُننها أو شروطها أو لوازمها؛ فحينما يفرغ منها ويخشى أن يكون هناك تقصير
ما الذي يجبر هذا التقصير؟ ليس شيئاً معيناً كسجود السهو، ولكن أشياء لا
تدخل في الجبران التشريعي التكليفي، وإنما تدخل في الجبران الروحي المعنوي،
فلكأن النبي صلى الله عليه وسلم بتشريعه للاستغفار عقب الصلاة إنما يرشد
إلى أن ما كان من تقصير في الصلاة، تسريح في الذهن أو غير ذلك فإنما يجبره
الاستغفار؛ فهو يستغفر الله عما كان منه من ذلك التقصير، وإلا فالرسول صلى
الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الخاشعين والمتواضعين لله يقول: (إني
أدخل في الصلاة، وأريد أن أطيل، فأسمع بكاء الطفل، فأخفف شفقة أمه) ليس
جدار يطيح ولا يدري عنه، لا، طفل يبكي عند أمه فيسمعه ويدرك بكاءه، فيخفف
شفقة على الأم، وتلك أمور نادرة، ولكن التشريع هنا للاستشعار بأن الاستغفار
عقب الصلاة هو جبران لما يكون من تقصير فيها، والله تعالى أعلم.
ويقول بعض العلماء: لا يمكن لإنسان أن يصلي ركعتين دون أن يقع منه تقصير
فيها ويذكرون مثالاً لذلك: أن شخصاً جاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وقال: أنا
كان لي مال ودفنته ثم نسيت أين دفنته، ماذا أعمل؟ أبو حنيفة هل كان يعلم
الغيب أو سينجم؟ لا، لكن بفقهه قال: إذا كان ثلث الليل الأخير؛ فقم وتوضأ
وصل ركعتين، وأخلص فيها النية لله، ولا تحدثن نفسك ولا بشيء، ثم بعد ذلك
تأتيني، وفي الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً، قال: ما بك؟ قال: وجدت المال،
الحاضرون عجبوا من هذا، وقالوا: كيف وجده؟ كيف أرشدته إلى هذا؟ قال: إن
الشيطان لن يدعه يمضي في صلاة من هذه النوعية، ويهون على الشيطان أن يعثر
على المال بدلاً من أن يصحح ركعتين بهذه الصفة، فلما استمر في صلاته جاءه
الشيطان، وقال: أنت دفنته في المحل الفلاني، ولما يتذكر موضع المال هل
سيستمر في ذلك النوع من الصلاة؟ لا، فذهب ووجد المال.
ويقولون: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (إني لأجهز الجيوش في
الصلاة) ، يعني: أفكر فيها، وهو والله لا يلام؛ لأن عشرات الآلاف من
المسلمين يخرجون من المدينة إلى أقطار الدنيا، كل يحمل روحه في كفة، والدين
في كفة ابتغاء وجه الله، من يتحمل مسئولية هؤلاء؟ ووجدنا أن الرسول صلى
الله عليه وسلم في بدر كان يرفع كفيه إلى السماء ويناجي ربه ويناشده حتى
يسقط الرداء عن كتفيه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض)
، فهل كان يبتهل لنفسه أو من أجل تلك العصابة؟ بل من أجل غيره، وبعض الناس
كلموه، فقال: من منكم يصلى ركعتين لا يُحدث فيهما نفسه فله فرسي الفلاني،
فقام شخص وأخذ يُجرب، فذهب ومن غد جاء وقال: يا أمير المؤمنين! أنا فعلت،
قال له: كيف؟ قال: قمت وأنا خالص النية وليس على بالي شيء، ولكن قبل أن
أسلم فكرت: عندما آخذ الفرس ماذا سأفعل به؟ أنا لست فارساً حتى أقاتل عليه،
وليس عندي كلفة الفرس، وكلفة الفرس أكثر من كلفة الإنسان، قال له: هذا من
التفكير في الصلاة.
إذاً: حينما يدخل الإنسان الصلاة ويخرج منها يستشعر بأن هناك بعض النواقص،
ويمكن أن يشهد لهذا المعنى الذي ذهب إليه العلماء: أن الرسول صلى الله عليه
وسلم أخبرنا أن أول ما يُنظر في عمل العبد من الحقوق الدماء، ثم من
العبادات الصلاة، فإذا كان هناك نقص على العبد في صلاته من غفوات وقعت منه،
فيقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم،
له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وعلى هذا المقياس يكون
الاستغفار جبراً لما كان من نقص في صلاته، والله تعالى أعلم.
(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) .
هذا الذكر المبارك لعله يوحي به السلام في الصلاة، وأيضاً حينما فرغ من
صلاته سيتجه إلى دنياه فيطلب السلامة، (أنت السلام، ومنك السلام) ، وأسألك
السلامة في ديني ودنياي وكل أحوالي (تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ، يا ذا
العظمة والكبرياء، فيه كل معاني العظمة لله سبحانه وتعالى.
شرح حديث: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً
وثلاثين ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً
وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين؛ فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير،
غفرت له خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (أن
التكبير أربع وثلاثون) .
] .
تقدم هناك قراءة آية الكرسي ومعها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]
، وهنا التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة؛ فلا مانع أن يكون كلا
الأمرين بعد الصلاة، والأنسب أن يُقدم آية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لأنها نص من القرآن، وجاء في حقهما: (لا يمنعه من
دخول الجنة إلا الموت) ، وهنا كذلك: كان يتعوذ بأربع كلمات دبر كل صلاة) ،
فسواء قدّم هذا أو أخر هذا، المهم أن يكون الجميع بعد الصلاة لا في حالة
الصلاة ولا بعد الانصراف عن مكانه.
هذا الذكر المبارك: (من قال دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله
أكبر) ، وإذا وجدت متعددات في نسق واحد في حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاعلم أن بينها مناسبة.
(سبحان الله) ، ما معنى التسبيح؟ تقول كتب فقه اللغة: أصل المادة السين
والباء والحاء، سَبَحَ، والألف والنون زائدتان كما هما في عثمان، وأصل مادة
سَبَحَ إنما هي حركة الإنسان في الماء، وحركة الإنسان في الماء لأي شيء؟
إذا ألقينا بإنسان في نهر فلكي لا يغرق ماذا يفعل؟ يسبح، ولو لم يستطع فإنه
يحاول السباحة، فقالوا: كذلك العبد حينما يقول: سبحان الله، كأنه يُسبح
الله ويبعد عن ذاته سبحانه كل ما لا يليق بجلاله، أو هو يسبح في بحر
المعرفة وتقديس المولى عن كل نقص؛ ليسلم من مهلكة الشرك والنقص في حق الله،
وعلى كلا الأمرين؛ فإن سبحان الله، معناها: أُنزه الله وأُقدس الله من كل
عيب أو نقص، فبقولك: سبحان لله نفيت عن ذات المولى سبحانه كل ما يمكن أن
يكون فيه نقص لله، وبعد التنزيه تأتيه بالحمد والثناء، وهو المحمود لكمال
ذاته لا لشيء يصدر منه لك أو لغيرك، ولذا يقولون: اللغة فيها الحمد والمدح
والثناء، والكل ذكر للمحمود والممدوح والمثني عليه بالخير، ولكن الثناء
إنما يكون لمن أصابك منه خير، والمدح يكون لإنسان نبغ وفاق وتفوق على
أقرانه في مجاله، فتمتدح مخترعاً ولو كان غير مسلم؛ لأنه اخترع ما ينفع
الإنسانية، وتمتدح طبيباً ماهراً أجرى عملية دقيقة خطيرة، وتمتدح مهندساً
قدم شيئاً نادراً ممتازاً في مهنته، ولكن من أسدى إليك نعمة تثني عليه،
وتشكره على ذلك، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فإذا طبيب عالجك تشكره
على معالجته لك، أما طبيب حاذق فتمدحه وتثني عليه لحذقه ونجاحه في عمله،
وأما الحمد فلا يكون مقابل نعمة أسداها إليك، ولا بسبب فعل نادر تفوق به
على غيره، وإنما يكون لكمال ذات المحمود في ذاته، ولو لم يصلك منه شيء أو
يصدر منه لغيره شيء، فهو في ذاته محمود، وهذا لا ولن يكون إلا لله؛ لأن ما
عداه فهو ناقص، وما عداه يثنى عليه أو يمتدح لجزئية في حياته، وقد يكون فيه
عيوب من جهات أخرى عديدة.
إذاً: بالجمع بين (سبحان والحمد لله) جمعت أطراف التوحيد للمولى، وكما يقول
الأصوليون: درء المفسدة مقدم، لذا بدأت بتنزيه الله عن كل نقص أو عيب، ثم
جئت بالحمد والثناء عليه؛ فتكون جمعت للمولى سبحانه كل أنواع التوحيد من
نفي ما لا يليق بجلاله، وإثبات جميع المحامد له، وبهذا تأتي بعد ذلك بـ:
(الله أكبر) ، ومن اجتمعت له كل معاني التنزيه والمحامد فلا أكبر منه، فهو
أكبر بالأمرين.
فإذا جئت بهذه الأعداد المنصوص عليها -تسعة وتسعين- وهي وتر، وختمت المائة
بالذكر الجامع: لا إله إلا الله- كنت ممن جمع التنزيه والتحميد والكبرياء
والكمال لله وحده، وبهذا تكون ألممت بكل ما يتعلق بتوحيد المولى سبحانه
وتعالى.
وهنا نجد المحققين من العلماء يقولون: ائت بهذا العدد ثلاثاً وثلاثين، ولو
جئت بأربعة وثلاثين من كل واحدة أو بخمسة وثلاثين قال لك: لا؛ لأن الدعاء
توقيفي، والذكر المحسوب بالعدد توقيفي ولا يحق لك أن تزيد فيه، كما لا يحق
لك أن تنقص منه، فقالوا: التركيب العددي في الذكر الوارد كالتركيب المادي
في الدواء، الصيدلي يكتب له الطبيب: ركب الدواء من المواد الفلانية
الثلاثة: من الأول عشرة جرام، ومن الثاني ثمانية، والثالث خمسين.
لو زاد جراماً أو أنقص أفسد الدواء، وهكذا يقول لك الطبيب: ملعقة في
الصباح، وملعقة في الظهر، وملعقة في المساء.
لو أخذت ملعقة في الصبح وملعقة في المساء نقصت فعالية الدواء، ولو أخذت
ملعقتين ملعقتين زاد الدواء على مفعولية الداء وقد يضرك، وعلى هذا يقول ابن
دقيق العيد: هذا الذكر الوارد بالعدد المعين يجب أن تلتزم به ليؤدي النتيجة
التي رتبها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غير هذا التركيب لك أن
تقول: سبحان الله ألف مرة ألفين، لا أحد يمنعك تقول: الحمد لله، مائة ألف
مرة، لا أحد يمنعك، الله أكبر، تقولها طول عمرك لا أحد يمنعك من ذلك كله،
لكن لا تنتظر النتيجة التي رتبها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العدد
المعين، إن كنت تريد النتيجة المرتبة على عدد معين فيجب أن تلتزم بهذا
العدد، ولا تزيد فيه ولا تنقص منه، والله تعالى أعلم.
(له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
تقدم نظير هذه الجملة.
(غُفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) .
النتيجة المترتبة على هذا الذكر ما هي؟ (غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد
البحر) ، زبد البحر يعرفه الذين يعيشون على السواحل، حينما يضطرب الموج
تجده يأتي مع اضطرابه إلى الساحل بزبد لا يعلم قدره إلا الله، فلو كانت
ذنوب الإنسان كزبد البحر -وهي من الرغاوي التي تكون على وجه الماء من
تفاعله- لغُفرت بهذا الذكر المركب بهذا العدد المعين، ونظير هذا الحديث:
لما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا
رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات في الجنة، قال: وما ذاك؟
قال: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال
عندنا) يعني تساوينا في العبادات البدنية، وهم زادوا عنا في العبادات
المالية، قال: (ألا أدلكم على ما إن فعلتموه تزيدون عليهم، ولا يكن مثلكم
إلا من صنع صنيعكم؟ قالوا: بلى، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة
ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فذهبوا
حين قال لهم هذا، وهذه عملة جديدة، وسيحصلون منها على أجر كما يحصل
الأغنياء على أجور من أموالهم، فأصبحوا يقولون مثلهم، يعني رجعنا وتساوينا
ولا زالوا هم مفضلون ببقايا أموالهم.
انظروا الحكمة النبوية اللطيفة هذه، كان ممكن يعطيهم ذكر طيب ولكن إلى متى،
أليس كل ما يعطيهم سيصل إلى الآخرين ويقولونه، فحسمها، وقال: (ذلك فضل
الله) ، كونه أعطاهم مالاً زائداً فهذا فضل منه، وكونه يعطيهم ثواباً على
الذكر كما يعطيكم هذا فضل الله، وما دام أنه فضل الله فلا أحد له دخل: (لا
مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) .
ولكن هل يقصر الأمر على الفقراء لقلة مالهم؟ لا والله، إنهم ليحصلون على
الأجر بنيتهم في رغبة الإنفاق، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما
الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وأعطاه علماً؛ فهو يعرف حق الله في
المال، ويؤدي حق الله فيه فهو في أعلى عليين) أعطاه الله مالاً وعلماً، ما
أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ فهو في أعلى عليين: (ورجل أعطاه الله علماً
ولم يعطه مالاً فقال: لو أن لي مالاً لفعلت فيه كما يفعل فلان، فهو معه
سواء) معه في المرتبة بالنية، (ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً؛ فلا
يعرف حق الله فيه؛ فهو في أسفل السافلين) لأنه ضيع حق الله في المال، ولم
يتعلم حق الله، ولم يؤد حق الله، (ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً،
فقال: لو كان بيدي مال لفعلت فيه كما يفعل فلان؛ فهو معه سواء) فالثاني
أدرك الأول بالنية، والرابع أدرك الثالث بالنية، والحديث العام: (إنما
الأعمال بالنيات) .
إذاً: هؤلاء رغبوا في أن يكون لديهم المال وأن يتصدقوا كما يتصدق الآخرون،
ولكن لم يعطهم الله؛ فهم على نياتهم يؤجرون بفضل الله.
وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) .
تكون التكبيرة أربع وثلاثين لتكمل المائة، أو أن يختم المائة بلا إله إلا
الله، وهذه أولى؛ لأنها ذكر زائد، وهي تتناسب مع ما تقدم من التنزيه
والتحميد والتكبير؛ فتكون لا إله إلا الله أجمل وأشمل، وزيادة في المعنى
وأرجح في الرواية، والله تعالى أعلم.
أيضاً يا إخوان: جاء أن هذا الذكر يقوله الإنسان مجموعاً أو مفرقاً، في بعض
الروايات: (سبحان الله والحمد الله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين) ، يعني:
يأتي بالألفاظ الثلاثة مجموعة في جملة، أو أن يأتي بكل لفظ على حدة ثلاثاً
وثلاثين، والثاني: هي الرواية الراجحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [14]
رغم أن الصلاة هي من أعظم الذكر إلا أنها أتبعت بأذكار أخرى عظيمة، منها:
(اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وأعلى منه شأناً وجلالاً: آية
الكرسي بما تحمله من صفات وأسماء لله جل وعلا، وكلها تشعر بعظمة وكبرياء
المولى سبحانه وتعالى.
شرح حديث: (اللهم أعني على ذكرك ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه
وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال له: (أوصيك -يا معاذ -: لا تدعن دُبر كل صلاة أن
تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) ، رواه أحمد وأبو داود
والنسائي بسند قوي] .
حديث معاذ رضي الله تعالى عنه من النصوص الواردة في الذكر بعد الصلوات
الخمس.
ترجمة معاذ بن جبل
ومع أننا لم نتعرض لأحد من الرواة ولكن معاذاً له شأن خاص به، وفي مقدمة
هذا السياق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك،
وأريد أن أوصيك، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: وأنا والله أحبك -يا رسول
الله- فأوصني) ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أحبك) ، تعطيه
خصوصية، وقد أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كما أفرد غيره، فقال
صلوات الله وسلامه عليه: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، ومعاذ كان
يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل
اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كتب زيد من الشام
إلى أمير المؤمنين عمر: إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام،
فأرسل إليه معاذ بن جبل.
وتجدون ذلك في الموطأ في باب المتحابين في الله، فيروي مالك عن شاب يقول:
دخلت مسجد دمشق، فوجدت شاباً براق الثنايا يجتمع الناس عليه، ويصدرون عن
رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل، فبكرت من الغد إلى المسجد
فوجدته قد سبقني إليه وهو قائم يصلي، فجلست حتى صلى فسلمت عليه وقلت: إني
أحبك في الله، فجذب بردائي وقال: اجلس، آلله ما أحببتني إلا في الله؟
-يعني: والله ما أحببتني إلا في الله- قلت: آلله أحببتك في الله، قال:
أبشر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة للمتحابين في الله) .
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه أحبه رسول الله، ومع ذلك أدركته فاقة ولحقته
ديون؛ فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يصيب من أجر العمالة ما
يُسدد دينه.
يهمنا في هذا الحديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي
ذلك فضلاً لـ معاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة
خيبر لما استعصى حصن مرحب، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم:
(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقول عمر:
فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله!
ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك الليلة؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: ويحبه الله ورسوله) ؛ لأن هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول
له: (أريد أن أوصيك) ، فهو أعلن من جانبه أيضاً: (وأنا والله يا رسول الله
أحبك) ، وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، (والله لا يؤمن أحدكم حتى
أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) {قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] ، ولا
ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً أو مالاً؛ على
محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار الإيمان.
طلب العون من الله
للعبد في العبادة
قال: (أوصني، قال: أوصيك إن استطعت -يعني بقدر ما تستطيع- ألا تدع -بمعنى:
لا تترك- أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني) تطلب العون من الله على ماذا؟
(أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .
المتأمل في أكثر الأدعية والأذكار الواردة عقب الصلوات يجدها مرتبطة
بجزئيات في صلاته، فالتسبيح والتحميد والتكبير، والاستعاذة من النار ومن
عذاب القبر ومن فتنة ومن ومن، وكذلك افتتاحية صلاتك بالفاتحة، ففي سورة
الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، (أعني
على) أعني: بمعنى الاستعانة، استعن بالله على ذكره، إياك نعبد، فهي جزء من
الصلاة في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وما لم
يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته فليست هناك فائدة، فلا حول
ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة على طاعة إلا بالله سبحانه.
(أعني على ذكرك) والصلاة من الذكر، أي: استعن بالله على الحفاظ على الصلاة،
والصلاة عون هي بذاتها، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
(وعلى شكرك) شكر النعم بحسبها: تكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، وكما يقال:
شكر النعمة عامل دوامها وحفظها، وبشكرها تدوم.
الوسطية في العبادة
وقوله: (وحسن عبادتك) ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء السيل،
وكما في الحديث: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع قيامهم، لم يمرقون
من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، والمولى سبحانه يقول: {الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
[الملك:2] ، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه
وسلم كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز.
كما في قصة النفر الثلاثة الذين تساءلوا فيما بينهم: نحن مقصرون، فلنذهب
ونسأل أم المؤمنين عن عبادة رسول الله في بيته؟ فسألوها، فقالت: في الليل
يقوم وينام، وفي النهار يصوم ويفطر، ويأتي زوجاته، قالوا: هذه حالة عادية،
لا، إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخذوا يتفاوضون، فشخص منهم
قال: أنا أتخصص في الصوم، وشخص قال: أقوم فلا أنام، وشخص قال: أنا أعتزل
النساء، هذا وأم المؤمنين تسمع، ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبرته بما وقع، فغضب وأسرع إلى المسجد يخطب: (ما بال أقوام يقولون
ويقولون، أما والله! إني لأتقاكم لله، وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأنام
وأقوم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) لماذا؟ لأنه يعجز، وإذا عجز
ترك الجميع، لا (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) .
والرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ورد عليه السلام
وسكت، وكأن الرجل وجد شيئاً ما كان متوقعه، قال: (ألم تعرفني؟ قال: لا،
قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا، قال: لقد تغيرت عما رأيتك من
قبل، قال: مذ فارقتك لم أفطر يوماً! قال: أجهدت نفسك، صم وأفطر) ، وقال
لآخر: (صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر، قال: صم كذا، صم كذا، إلى
أن جاء إلى صيام نبي الله داود) ، أخذه وبعد ذلك عندما كبر ثقل عليه، وقال:
ليتني قبلت رخصة رسول الله من كل شهر ثلاثة أيام، إذاً: الكثرة غير مطلوبة،
كما أن النقص غير مطلوب، والمطلوب الوسط: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن
قل) ؛ لأن القليل مع الدوام خير من الكثير مع الانقطاع؛ ولذا كان المدار في
الأعمال على الإحسان، ولذا نجد الترتيب والتدرج في تعليم جبريل عليه وعلى
نبينا الصلاة والسلام للدين (أخبرني -يا محمد- ما الإسلام؟ خمسة أركان:
شهادة وصلاة وصيام وزكاة وحج، ثم سأله عن الإيمان؟ ستة، وكلها أمور غيبية
واعتقادية، الإيمان بالله وباليوم الآخر والكتب والرسل والقدر إلى آخره،
أخبرني عن الإحسان؟ ركن واحد: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه
-لعدم إمكانيتك لذلك- فهو يراك) ، فكان الإحسان هو الخاتمة.
شروط صلاح العمل
وإحسانه
وقوله في هذا الحديث: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، متى يكون
العمل حسناً؟ هذا الذي ينبغي الحرص عليه، ويكون ذلك بثلاثة أمور: الشرط
الأول: أن يكون مشروعاً مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله، فلا تأتي
بعبادة لله من غير ما شرع الله، فيقول لك: أنا ما شرعت هذا، ولما تعبد الله
بغير ما شرعه رسول الله يقول: أنا ما جئتك بهذا، إذاً: المبدأ الأول في
صلاح العمل وإحسانه: أن يكون مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله؛ لأنها
عبادة لله، فالله الذي تعبدنا هو الذي بيّن لنا كيف نعبده، وهل ندري ما
يرضيه وما لا يرضيه؟ لا نعلم؛ فلما بيّن لنا وشرع لنا وأمرنا ووجهنا يجب أن
نلزم ذلك، ومن هنا نعلم: أن كل من تعبد الله بغير ما شرع الله أو بغير ما
سن رسول الله فهو خارج عن هذا الباب، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل
عمل ليس من أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه.
وإمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه يقول: (لن يصلح أمر آخر الأمة إلا ما
أصلح أولها) ، فما كان عليه السلف الصالح من منهج في العبادة واقتصاد في
العمل فهو المبدأ الأساسي.
الشرط الثاني: أن الإنسان يأتي بهذا العمل خالصاً لوجه الله، {وَمَا
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ} [البينة:5] ؛ ولذا شرع أن يقول المصلي عقب الصلاة: (لا إله إلا
الله وحده لا شريك له) .
الشرط الثالث: أن يكون العمل صادراً من مؤمن لا منافق أو كافر؛ لأن الكافر
قد يطعم المسكين، ويكسو العريان، ويبني الطرق والمدارس والمستشفيات، ولكن
هل يُعد له عملاً صالحاً كما يعد للمؤمن؟ لا، وهل يضيع عمله؟ لا، فالله
سبحانه وتعالى حكيم عليم، عادل لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فإذا عمل الكافر
عملاً قال له: لك عملك، ويعطيه ويعوضه في الدنيا بقدر ما أحسن فيها، أما في
الآخرة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ؛ لأنه لم يكن على قاعدة، ولم يعمله إيماناً
بالله، وإنما عمله مجاراة للناس أو لجلب مصالح، أو لأمر آخر؛ فيأخذ أجره
عاجلاً.
فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاث كان العمل صالحاً حسناً.
ملازمة العبد للذكر
في كل حال
قوله: (اللهم أعني على ذكرك) الذكر يكون باللسان وبالعمل، والذكر في العمل
يفسره قوله سبحانه في سورة الجمعة: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ذكر الله
النداء إلى الصلاة حي على الصلاة، وذكر الله الإمام الذي يصلي ويخطب، هذا
كله ذكر الله، سعينا إليه، {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي
الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً}
[الجمعة:10] .
وقد أشرنا فيما مضى بأن أشمل وأعم العبادات في الكون هو الذكر؛ لأنه
العبادة التي لم تقتصر لا على ملائكة السماء، ولا على مؤمني الإنس والجن،
بل اشترك فيها الجماد والنبات والحيوان، كما جاء العموم: {وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ؛ فهي تسبح بحمده
سبحانه، وإذا جئنا إلى كل العبادات {أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ،
سواء كان لتذكري أو كان لتذكرني فيها، فكلها من أولها من النداء إليها إلى
الافتتاحية: (الله أكبر) ، إلى قوله: (السلام عليكم) ذكر لله، والصائم طول
وقته يكون ذاكراً لله، وإن كان أبكم أو أصم؛ لأنه إذا صام في شدة الحر،
والماء البارد عنده، ويده تمتد في الماء يتبرد، ويشتهي قطرة واحدة؛ فما
الذي يمنعه وليس عنده أحد، ما الذي يمنعه؟ لأنه يذكر قول الله: (يترك طعامه
وشرابه من أجلي) ، كذلك في الزكاة: يخرج المال بدون عوض، لماذا؟ لأنه يذكر
الله، وينتظر العوض بسبعمائة، ومضاعفة إلى ما يشاء الله سبحانه، الحج من
أوله: (لبيك اللهم لبيك) ذكر لله إلى أن تنتهي من طواف الوداع وأنت في ذكر
لله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] (أفضل ما قلته أنا والنبيون في يوم
عرفة: لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، في السعي تذكر الله، في الطواف ذكر
لله، حتى بعد رمي الجمرات: باسم الله، الله أكبر، إرضاءً للرحمن، وإرغاماً
للشيطان، ليس هناك خطوة قدم واحدة في الحج إلا وفيها ذكر الله، إذاً: ذكر
الله في جميع العبادات.
ولهذا كانت وصية الرسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (لا يزال
لسانك رطباً بذكر الله) لا تجعل اللسان يفتر عن ذكر الله، وهذا لا يمنعك لو
كنت صانعاً أن يبقى لسانك في فمك يذكر الله، وإذا لم تستطع بلسانك فبقلبك
وهو مراقبة الله: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الجمعة:10] ، إما باللسان: اجعل لسانك رطباً
بذكر الله.
وإما في العمل: أنت ذهبت تسعى في طلب الرزق، وعملك فلاح تحرث الأرض، تضع
البذرة باسم الله، وتدفنها، وتنتظر إنباتها من أين؟ تقول: يا رب أنبتها،
طلع النبات.
يا رب تثمرها، طلعت الثمرة.
يا رب تحفظها، جاءت الثمرة.
يا رب تبارك فيها، فأنت دائماً على ذكر لله، وأشد الناس ذكراً لله الفلاح،
ولو لم يكن متعلماً يضع الحبة ويرميها وهو لا يعرف على جنبها أو ظهرها أو
بطنها، ثم تجد الحبة في بطن الأرض نبتت عودين عود إنبات وعود جذر، من الذي
وجه الإنبات إلى سطح الأرض حتى يظهر، والجذر إلى بطن الأرض حتى يغوص فيها
ويمتص لها الغذاء، كنت أنت تعدلها في الليل أو النهار؟ لا والله، فإذا أنبت
النبات {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا
حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ
غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}
[عبس:24-32] ، من الذي فعل هذا؟ فهو دائماً مع الله سبحانه وتعالى، إن كنت
صانعاً كانت لك صناعة مضبوطة، إن ذكرت الله تركت الغش: (من غشنا ليس منا) ،
وإن غفلت عن ذكر الله جعلت الحابل مع النابل، إن كنت تاجراً تبيع وتشتري
فأمامك المكيال والميزان كل عمل للإنسان فيه طلب للرزق يذكر الله فيه، إما
بلسانه، وإما بفعله يراقب الله فيما يعمل، وهكذا.
(أعني على ذكرك) باللسان بالمراقبة، (وعلى شكرك) بالقول وبالفعل، وببذل
النعمة وشكرها (وحسن عبادتك) وأحسن ما يكون من الإنسان في العبادة: أن يكون
مطابقاً لما شرع الله، ولما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً
لوجه الله سبحانه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من قرأ
آية الكرسي دبر كل صلاة)
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة
إلا الموت) ، رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني و {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]] .
هذا مما يدل على فضل هذه الآية الكريمة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه
وسلم سأل أُبي بن كعب: (أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي، قال:
ليهنهك العلم) ، وقالوا: آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت
على صفات المولى سبحانه وتعالى، فموضوعها ذات المولى عز وجل، كما أن سورة:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} موضوعها ذات الله سبحانه وتعالى، وهي تعدل ثلث
القرآن تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، هذا أول التوحيد {الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} ، أي: القائم على كل شيء، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}
، السِنة: النعاس، والنوم الاستغراق؛ فسبحانه لا ينام، وفي الأثر: أن نبي
الله موسى قال: (يا رب! أنت لا تنام؟ قال: لا أنام يا موسى! ولا ينبغي لي
أن أنام، أتريد أن تُدرك ذلك يا موسى؟ قال: نعم، قال: خذ قدحاً من الماء
وأمسكه في يدك، فأخذ قدحاً من الماء وأمسكه بيده، فأرسل الله عليه النعاس
فسقط القدح من يده ثم أيقظه، قال: يا موسى! أين القدح؟ قال: سقط عندما نمت؟
قال: وهكذا الكون) ، سبحان الله العظيم! عظمة المولى سبحانه في كل صفة وفي
كل آية، وهذا كما يقال: تقريب للمعنى، فالكون بيده سبحانه {فَسُبْحَانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] ، لم يقل: ملك، قال:
ملكوت، يعني في الأمور الحسية والمعنوية، ولو نظرت لرأيت شيئاً فوق
الإدراك، أنت بنفسك لو وكلت إلى ذاتك ما استطعت أن تعيش، كما يقولون:
الإنسان فيه عدة عوالم.
إذا جئت إلى حواسك: اليد تنام وتهمد، والعين تنام وتغمض، الأذن لا تنام؛
لأنها على استعداد لتلقي السمع في أي لحظة، ولكن هل الكبد ينام؟ لا ينام؛
لأنه يفرز دائماً ويغذي هذا الجسم النائم، هل الكلى تنام؟ لو نامت تعطل
الجسم، فشل كلوي كما يقولون -نسأل الله السلامة- أو تليف كبدي؛ هل القلب
ينام؟ من الذي يُنظم دقات قلب المرء في صدره؟ لو وكل إليك أنت لكي تراقب
قلبك.
شغلته وأنت صاحي، وبعد ذلك جاءك النوم، هل تقول له: نم حتى أصحو؟ إذا نام
نمت النومة الأخيرة، إذاً: كل حيوان لا يستطيع أن يؤمن حياته لو وكلت إليه.
هذا القلب الذي ينبض منذ مائة أو تسعين أو ثمانين سنة، وفي كل دقيقة ستين
مرة في الوضع العادي، الله أكبر! وهو قلب واحد أو عالم واحد، البعوضة عندها
قلب ينبض، حتى أصغر الحيوانات إلا الجراثيم، الله أعلم بتكوينها لا نعلم
عنها، ولكن نجد العصفور الصغير ينبض قلبه في الدقيقة مائتي نبضة، الفيل
ينبض قلبه في الدقيقة عشرين مرة، وكلما كبر الجسم وتضخم كلما قلّت الدقات؛
لأن القلب يصبح كبيراً، ومثال ذلك تجربة في يدك: انظر إلى الساعة، الساعة
الصغيرة التي قطرها (1 سم) ، والساعة الكبيرة التي قطرها (50 سم) ، هل توجد
واحدة تزيد في الأربعة والعشرين ساعة أو تنقص أم أن كلها سواء؟ كلها سواء،
خذ واحدة صغيرة في يدك وأخرى كبيرة على الجدار، تجد الصغيرة سريعة الضربات،
وأما الكبيرة على مهلها، لماذا؟ لأن الواحدة بالتأني تقطع مسافة مثل هذه.
إذاً: الفيل له دقات، والعصفور الصغير له دقات، والحيتان كذلك في البحر، من
الذي يُنظم كل هذا؟ المولى سبحانه فضلاً عن أمور أخرى.
انظر إلى عالم النبات: طلعت الشجرة جاءت الزهرة، من أين جاءت الثمرة
وتنوعت؟ بستان واحد وحوض واحد وجدول ماء واحد من بئر واحد أو من سماء
واحدة، هذه تثمر أصفر، وهذه أحمر، وهذه أزهار خضراء وصفراء وحمراء.
إذا جئت إلى الإناث في العالم: كيف تحمل الأنثى من كل نوع؟ الإنسان الحيوان
الطيور الـ الـ إلى آخره، وكيف ينشأ ويتطور هذا الحمل الجنين في داخل ظلمات
بعضها فوق بعض، ظلمات ثلاث، من الذي شق العينين والأنف والفم؟ سبحان الله،
من الذي أنبت هذا كله في تلك الظلمة؟ أصله من تراب، ثم جاءت النطفة وصارت
علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، والتخطيط هذا والتنظيم هذا،
والشبه الذي يعطى كل فرد ولا يوجد له شبه يطابقه مائة في المائة في العالم،
حتى التوأمين اللذين جاءا من بطن واحدة مختلفين، ولابد من الاختلاف، بصمات
الأصابع مئات الملايين في العالم ليس هناك بصمة تعادل بصمة ثانية، من الذي
غير في هذا؟ وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في
هذا: إذا أردت أن تدرك عظمة الخالق سبحانه: قف عند جمرة العقبة وانظر إلى
الوجوه أمامك؛ لن تجد وجهين متطابقين في الصورة قط، وهكذا العالم كله.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} ، هو في ذاته قيوم على العالمين،
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، القيومة له سبحانه وحده {لَهُ مَا
فِي السَّمَوَاتِ} [البقرة:255] ، وماذا الذي في السماوات؟ يعجز البشر كله
أن يُدرك ما في السماء الأولى فقط، بل ما دونها من أبراج وأفلاك، والمجرة
يقولون: فيها ملايين النجوم، والله لا نستطيع أن نقول: لا، لو قلنا: لا،
يقولون: اذهبوا عدوا، ولكن يتفق الفريقان على كثرة النجوم فيها، وعلى
أضوائها، وأنه يصل ضوء بعض النجوم في كذا سنة ضوئية، الإنسان فقط يترك
التفكير في هذا، له ما في السماوات عوالم لا نعلمها ولا ندركها إلا ما
جاءنا فيها الخبر، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بالكتاب
وبالسنة، وذهب بنفسه ونظر وأتى وأخبرنا، فيخبرنا عن مشاهدته، السماء
الدنيا، ويطرق الباب الثانية وو إلى آخره، إلى سدرة المنتهى.
إذاً: له ما في السماوات من تكوين وأوامر.
إلى آخره.
{وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، وإن كنا قريبين منها، وهي أقرب لنا من
السماء لكننا نعجز أن نُكيف ما في الأرض، فماذا في الأرض؟ عوالم الحيوانات
والنباتات والجبال والطيور والزواحف وو إلى آخره، كل ذلك خاضع لسلطانه
سبحانه، فإذا كان الأمر كذلك فـ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، الشفاعة هي: أن تتقدم وتطلب من المشفوع
إليه مصلحة للمشفوع فيه، وهل أحد له سلطان أو له ملك أو أي شيء في السماوات
أو في الأرض؟ لا شيء إلا بإذن الله سبحانه.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي} انظر
{مَنْ ذَا الَّذِي} لم يقل: من الذي، من الذي يرفع رأسه؟ من يقول: أنا؟ من
يدعي شيئاً في هذا العالم؟ لا أحد، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} ،
قد تشفع عند أخيك أو زميلك أو قريبك أو أميرك أو أو، لك حق في أن تشفع، وله
حق في أن يقبل أو يرد، وقد يضطر إلى قبول شفاعتك اضطراراً؛ لأنه يخشى إن رد
شفاعتك حجبت مصلحته أو دبّرت مكيدة له، ولكن المولى له ما في السماوات وما
في الأرض، ولا يُقاس عليه، وإمعاناً بعد ذلك قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] .
القدرة الإلهية للعلم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]
؛ فهو يحيط بهم علماً وهم لا يحيطون، ولكن قد يدركون البعض، وفرق بين
الإحاطة والإدراك، فمن الإحاطة الحائط المبني حول البستان، فإنه يشمله
جميعاً، فالإحاطة بالشيء إدراكه كاملاً كإحاطة الجدار بالبستان، فالعالم لا
يحيطون بشيء من علم الله، ولكن الله سبحانه يُحيط بعلمهم.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة:255] ، الكرسي جاءت فيه أخبار عديدة، منهم من
يقول: الكرسي العلم، وهذا روي عن ابن عباس، ولكن الجمهور على ما في الحديث
الصحيح: أن الكرسي بين يدي العرش، وجاء الحديث: (ما السماوات السبع
والأرضون في الكرسي إلا كدراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في
فلاة) ؛ فالكرسي مخلوق مادي له سعته، ولو أن السماوات السبع والأرضون السبع
وضعت في الكرسي ما كانت إلا كأن تأخذ حلقة وتلقي بها في الربع الخالي، ما
تكون نسبة هذه في الربع الخالي؟ إذاً: لا يعلم قدره إلا الله، وما الكرسي
هذا بهذه السعة في العرش إلا كدراهم (وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل
في كف أحدكم) .
أقول يا إخوان: إن هذه النصوص بهذه المضاعفات لا ولن توجد قوة على وجه
الأرض حسابية الآن تعطينا النتيجة ولا الجواب عن سعتها، ولا ينبغي للإنسان
مهما أوتي من ذكاء حرص على العقيدة وسلامتها أن يخوض خوضاً بعيداً، ويكفي
أن يسمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصور التصور
الإجمالي، ويكف عما وراء ذلك.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وسعها على أي حجم وأي مقدار؟
جاء في الحديث بأن السماوات السبع سمكها مسيرة خمسمائة عام هي والأرض،
سبحان الله! سبع سماوات، من الذي يتصور هذا الجرم؟! أما الأرض فهي مثل
البيضة تحت القبة، فكم يكون مساحة هذا الكرسي؟ لا نستطيع أن نقول شيئاً،
ولكن يكفينا النص القرآني الكريم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، وهناك ناحية
بيانية لطيفة، لم يقل: (وسع الكرسي) ولكن جاء بالإضافة إلى الله {وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ} ، مجرد نسبة وإضافة الكرسي إلى الله تُعطيه عظمة أكثر.
{وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] ولا يثقله، ولا يشق عليه، {حِفْظُهُمَا}
[البقرة:255] (ما) ألف تثنية راجعة فيها لـ: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، ولا يثقله ولا يشغله حف
كتاب الصلاة - باب
صفة الصلاة [15]
هذا الدين يسر، وليس فيه طريق مسدود أبداً، ومن القواعد الفقهية أن المشقة
تجلب التيسير، ومن فروع هذه القاعدة صلاة المريض وطهارته، والصلاة في أرض
المعركة، وقد جاء بيان ذلك كله من طريق أهل العلم.
شرح حديث: (صلوا كما
رأيتموني أصلي)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى
آله، وبعد: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، رواه البخاري] .
كأن المؤلف رحمه الله اكتفى بما أورده من النصوص بما يتعلق بالأذكار عقب
الصلاة، وهذا الباب باب واسع، والأولى لكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يعنى
بهذا الباب، وهو الأذكار والأدعية؛ لأنها غذاء القلوب، وهي تكسي الروح
برداء يستطيع به أن يكون دائماً على صلة مع المولى سبحانه وتعالى، وإذا
تأمل الإنسان في الأدعية والأذكار يجدها تخاطب الأرواح دون الأشباح، ولهذا
عني بعض العلماء بجمع ما يتعلق بالأذكار في مؤلفات أذكار اليوم والليلة،
والصباح، والمساء، والأسفار، واللباس، والطعام، والنوم، والاستيقاظ، ولبس
الثياب، وخلعها كل حركة تجد فيها دعاء أو ذكراً عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وذلك ليكون الإنسان دائماً في كل شئونه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] ، كل
حركة في حياته صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله، إن شربت الماء سميت الله،
إن رفعت الكأس حمدت الله، إن اضطجعت في فراشك ذكرت الله، إن نهضت أثناء
نومك بالليل ذكرت الله.
وضعت قدمك في نعلك أو خلعتها لبست ثوباً جديداً حتى دخول الخلاء تستعذ
بالله، وتكف عن ذكر الله في الخلاء؛ فكل حركة للإنسان في هذه الحياة يجد
لها ذكراً وارداً، والأولى أن يتقيد بذلك بقدر المستطاع.
وبعد أن أنهى المؤلف ما اختاره من تلك النصوص جاء إلى حديث جامع شامل يعتبر
أصلاً من أصول الدين وقاعدة ترجع إليها أعمال الصلوات كلها، وهو التعليم
العملي، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكما قال في
الحج: (خذوا عني مناسككم) .
إذاً: التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم هو أعلى وسيلة في التعليم،
وأعتقد أن علماء التربية يتفقون على ذلك؛ ونحن نشاهد الطفل الصغير وهو لا
يعرف أن يتكلم وهو يحبي ينظر أمه قامت للصلاة فيأتي أمامها ويصلي مثلما
تصلي، هو لا يعرف أنها صلاة ولا قبلة ولا أي شيء، ولكن يأخذها تلقائياً
وتلقيناً.
وأصل هذا الحديث كما جاء في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى
المنبر -ونعلم بأن المنبر ما صنع إلا في السنة الثامنة من الهجرة- وكان صلى
الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ على جذع من جذوع النخل التي كانت بداية لبناء
المسجد، وبعد خيبر وسع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى جدرانه من
الحجر والطين، وصنع له المنبر فتحول إليه -وقصة الجذع معروفة- وكان من ثلاث
درجات، والكبرى عريضة، فوقف على الثالثة واستقبل القبلة وكبر وهو مستقبل
القبلة، فقرأ وركع ورفع من الركوع وهو على المنبر، ثم نزل القهقرى عن
الدرجتين الأخريين حتى كان في أصل المنبر ووسع لنفسه قدر السجود فسجد في
أصل المنبر، ثم جلس ثم سجد ثم نهض فرقى المنبر وقرأ ورفع، ثم نزل القهقرى
وسجد وجلس وسجد وتشهد وسلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
هل يحتاج أحد بعد هذه الصورة والمشاهدة أن يسأل عن كيفية الصلاة؟ لا يحتاج.
ومن هنا يقول العلماء: هذا الحديث أصل في الصلاة، فكل ما روي عنه صلوات
الله وسلامه عليه في كيفية تلك الصلاة المنبرية -إن صح أن نسميها كذلك- أو
غيرها من أحوال الصلاة، والمنبر ليس شرطاً، فما رأيتموني أفعله في الصلاة
فافعلوا مثله، فيقولون: كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
صلاته فهو واجب، اللهم إلا إذا جاء ما يرفع الوجوب إلى الندب، والقاعدة
الأصولية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له سبع حالات كما هو مذكور في
مذكرة الأصول وتسهيل الوصول إلى علم الأصول، وكتب الأصول كلها تقول: إذا
كان الفعل بياناً لمجمل في كتاب الله فحكم الفعل حكم الحكم المجمل في كتاب
الله، إن كان مُبيناً لواجب فالبيان واجب، وإن كان مبيناً لمندوب فالبيان
مندوب، والصلاة واجبة، وهذا العمل مُبين للمجمل هناك في قوله: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، أقيموا الصلاة على أي صفة؟ هناك أشياء:
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] {طَهِّرَا بَيْتِي
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ،
ولكن: نسجد أولاً أم نركع أولاً؟ وكيفية الركوع والسجود ما هي؟ وكم نصلي
ركعات؟ جاءت السنة وبيّنت لنا الأوقات والعدد والهيئة والكيفية وما نقول
فيها، إذاً: البيان الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق الصلاة يكون
حكمه حكم الصلاة ما لم يكن هناك صارف عن الوجوب.
ورأينا للنبي صلى الله عليه وسلم مغايرات بين الفرض والنافلة؛ قد نجده يصلي
النافلة جالساً ولا يصلي الفرض إلا قائماً، قد نجده في حالات السفر يخفف
الصلاة أو يطيلها، ويدخل بالجماعة بنية التطويل ثم يخفف رحمة بقلوب
الأمهات.
إذاً: قراءته، تسليمه، كل ما جاء ونقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم في
الصلاة؛ فهو واجب ما لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب.
وبعض العلماء يربط بين هذا الحديث في عمومه وبين حديث المسيء في صلاته في
جملته، وأعتقد أنه لا حاجة إلى الربط بينهما، والقاعدة العامة: كل ما جاء
عنه صلى الله عليه وسلم في أفعال الصلاة يجب أن نأخذها بالوجوب، فإذا كان
يبدأ الصلاة بالله أكبر، فافتتاحية الصلاة بالتكبير، ولا يجوز غيرها؛ لأنه
افتتحها بها، وإن كان يسكت هنيهة بعد التكبير والقراءة أحياناً ويترك
السكوت، إذاً: السكتة الهنيهة ليست بواجبة إنما يمكن أن يأخذ بها ويمكن أن
يتركها؛ لأنها غير مضبوطة، وقد يطول أو يقصر، بعد هذا كان يقرأ الفاتحة،
إذاًَ: الفاتحة واجبة، وكان يقرأ السورة من القرآن إذاً: هي واجبة، ولكن
وجدنا الصارف عنها، ثم اقرأ ما تيسر، وما تيسر هذا يصرف عن الوجوب، وإذا لم
يتيسر فلا شيء عليك، إذاً: وجدنا هناك مفارقة بين الفاتحة وبين ما يقرأ
معها في ركعة، إذاً: الركوع واجب، رفع من الركوع، إذاً: الرفع واجب، اطمأن
في الركوع اطمأن في الرفع، إذاً: الطمأنينة واجبة، وجاء عنه ذكر في رفعه
وركوعه، وجاءت روايات أخرى متعددة من الأذكار، إذاً: تتخير منها ما شئت،
وهكذا إلى أن تسلم من الصلاة.
شرح حديث: (صل قائماً، فإن لم تستطع
فقاعداً)
قال رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب،
وإلا فأومئ) ، رواه البخاري] .
هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً في صلاة أهل الأعذار بصفة عامة،
والعذر قد يكون مرضاً، وقد يكون خوفاً، وغير ذلك، وفي الحديث التدرج في
كيفية الصلاة، وهو يُبيّن لنا إلى أي مدى وصلت سماحة الإسلام في خفة
التكليف، وفي بعض روايات هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ) ، ونحن
جميعاً في حاجة ماسة إلى دراسة هذا الحديث بتوسع إلى حد ما يشمله من أصناف
الناس في صلاتهم، فقد يكون العذر يعتري الإنسان بنفسه، وقد يكون يعتري
إنساناً يخصه، وقد يكون إنسان مسئولاً عن جماعة، وفي الجملة بعد هذا كله
تأتي النتيجة الحتمية؛ لأن فريضة الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، والأصل
في القيام: (صل قائماً) كما جاء في قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، والقنوت يكون بمعنى الخشوع، ويكون بكثرة
الدعاء؛ فالقيام ركن في الصلاة، فإذا عجز الإنسان عن إتيان ركن القيام
انتقل إلى ما بعده، فإذا عجز عما بعده انتقل أيضاً إلى بعد ما بعده، وهكذا
نجد في أركان الإسلام جميعاً.
نجد في الصيام {مَنْ كَانَ مَرِيضاً} ، أي: لا يستطيع الصوم، {أَوْ عَلَى
سَفَرٍ} ، يشق عليه، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
والزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب بغنى؛ بحيث أنه يبقى عنده حتى يحول
عليه الحول وهو لا يحتاج منه إلى شيء.
والحج من استطاع إليه سبيلاً.
والجهاد يسقط عن الأعمى والأعرج وأصحاب الأعذار، وهكذا نجد التكليف في كل
أركان الإسلام بقدر المستطاع، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
[التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}
[البقرة:286] .
كيفية صلاة الجالس
هنا تأتي مباحث صلاة المريض، أو المعذور بأي نوع من أنواع الأعذار، وهذا
الحديث يرشد إلى عدم الاستطاعة للقيام، إما عجز طبيعي لكبر، وإما عجز طارئ
لمرض؛ فالمبدأ الأساسي أن يصلي قائماً، بمعنى: أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو
قائم، ويقرأ ويركع ويرفع ثم يهبط إلى السجود ويكمل سجدتيه ثم ينهض قائماً
وهكذا؛ فإن عجز عن هذا القيام ليقرأ ويركع ويرفع ماذا يفعل؟ يأتي الحديث
يسقط عنه هذا القيام، ويصلي قاعداً.
ومع هذا أيضاً تذكر مباحث النوافل؛ فيمكن أن يصليها قاعداً أو قائماً
صحيحاً أو مريضاً، ما دامت الفريضة تجزئ بالقعود عند الحاجة ولكونها فريضة
لم تسقط، والنافلة مطلوبة، ولكن إذا لم تكن نافلة إلا من قادر على القيام
ربما ضاعت كثير من النوافل، وحرم الكثيرون من فوائد وفضائل النافلة، فخفف
في أمرها ترغيباً فيها، بقي إن عجز عن الصلاة قاعداً كيف يصلي؟ مضطجعاً،
وإن عجز مضطجعاً كيف يصلي؟ مستلقياً، وإن عجز عن الإيماء كما قال: (فأومئ)
ماذا يفعل؟ الفقهاء رحمهم الله فصلوا في هذا الباب إلى أبعد ما يمكن أن
يخطر ببالنا، أما هيئة صلاة العاجز عن القيام ومتى يكون عاجزاً؟ وهل كل مرض
يسقط عنه القيام؟ قالوا: القاعدة في ذلك: إن كان عاجزاً فعلاً أو ليس
عاجزاً فعلاً إلا أن صلاته قائماً وهو مريض تزيد في مرضه أو آلامه أو تُطيل
مدة برئه، ويرى بعض العلماء كما يذكر ابن قدامة في المغني: ننظره في أمر
دنياه، هل هو في أمر دنياه يقوم ويجلس ويذهب ويأتي وعند الصلاة يقول: أنا
لا أستطيع إلا أن أصلي جالساً؟! إن كان في أمر دنياه يأتيها قائماً، ويتحرك
حركة طبيعية بدون مشقة؛ فهذا لا يسقط عنه القيام في الصلاة، وإذا كان يأتي
أمور دنياه قائماً بتكلف نقول: لا، أمر الدنيا قد يضطر إليه، ولكن أمر
الدين للرحمن الرحيم، فرحم الله عباده فخفف عنهم، فإذا كان كبير السن لا
يقوى أو ممن عجز ولا يرجى زواله، أو كان مريضاً، والمرض له حالات: هناك
أمراض يستطيع صاحبها أن ينهض ويقوم ويذهب ويأتي، ولكن بمشقة عليه فيعفى من
القيام، وهناك مريض لا يكلفه القيام شيء، وقد تكون أمراضه مستوطنة أو طارئة
أو عضوية وهو في تلك الحالة مستطيع القيام دون مشقة عليه؛ فلا عذر له، فإذا
وجد العذر وثبت العجز عن القيام فيصلي على ما قال الفقهاء، وكيف تكون هيئته
في صلاته؟ لو فكرنا في الهيئات التي يمكن أن يأتي بها الإنسان إما متربعاً
وإما كجلسته في التشهد، أو قائماً على ركبتيه أو جالساً على مقعدته ورافعاً
ركبتيه وضامم ساقيه بيديه محتبياً، أو ناصباً إحدى رجليه والثانية للأخرى،
كل هذه الصور يمكن أن نجد إنساناً قاعداً على هيئتها، فالقاعدة عند الجميع:
ما كان أيسر له يفعله، الأيسر في حقه يكفيه، حتى ولو على ظهره، ولو كان لا
يستطيع الركوع ولا السجود، ويستطيع أن يكون قائماً أو متكئاً على العصا لا
مانع أن يظل قائماً ويومئ بركوعه أقل من سجوده وهو قائم؛ لأن هذا الذي تيسر
له، فإذا كان يستطيع فعل عدة صور مما ذكرنا فأولى الصور وأولاها في ذلك
كله: أن يكون في الركن الذي فيه القراءة يؤديه وهو متربع، وركن القراءة
يكون في القيام، إذاً: حينما يكون في أداء القراءة يقرأ وهو متربع، وركن
الركوع ليس هناك تربيع، ولا يثني حقوه ناصباً ركبتيه وهو لا يستطيع هذه
الهيئة، إذاً: يكون ثانيَ الركبتين لا يومئ وهو متربع؛ لأن حالة التربع
لحالة القيام والقراءة، والركوع يثني ركبتيه ما دام يقدر على الجميع، وإن
عجز عن ثني الركبتين للركوع والسجود بقي متربعاً وأومئ وجاء بسجود أخفض من
ركوعه.
فالمريض العاجز عن القيام ينظر ما هو أيسر له من الحالات مما جاءت به من
هيئات صلاة العاجز؛ فإن كان لا يقدر إلا بها فهي مجزئة، وإذا كان يستطيع
لعدة حالات فالأَولى أن يكون في حالة ما يكون قائماً للقراءة متربعاً، وفي
حالة الركوع والسجود إن كان مستطيعاً أن يعدل تربيعته، وأن ينهض على ركبتيه
كجلسته للسجود ويومئ بالركوع أقل من إيمائه بالسجود؛ فهذه أولى الحالات
للمريض أو للعاجز الذي لا يقدر أن يصلي قائماً.
كيفية صلاة المضطجع
إذا كان الشخص لا يستطيع أن يتماسك نفسه جالساً متربعاً، نظرنا لقواه
العقلية، وهل الإدراك موجود أو لا؟ إن فقد الوعي والإدراك سقطت عنه الصلاة،
وإن كان متوافر العقل مدركاً، ويفهم معنى الصلاة والمرض بدني وليس عقلياً،
نقول له: ما الذي يريحك؟ يقول: دعوني اضطجع على شقي الأيمن، ويتمدد ويجعل
وجهه تجاه القبلة، فإذا كان على جنبه الأيمن له عذره فعلى جنبه الأيسر،
ويجعل أيضاً وجهه تجاه القبلة، وهناك من يقول: إن عجز عن القعود يستلقي على
ظهره، وهو أولى من أن يتكأ على جنبه، ولكن في الحديث: (فإن لم يستطع
فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه) ، فالحديث قدم الجنب، وهناك من يقول:
الجنب في المرتبة الثالثة، وبعد القعود مباشرة يستلقي على ظهره على أن تكون
قدماه تجاه القبلة.
إذاً: نبهوا الذين يرون إنساناً نائماً مستلقياً على ظهره في المسجد فيوقظه
فيقول له: ماذا بك؟ قال: كيف توجه رجلك للقبلة، ويستنكرون هذا، ويفزعون
النائمين المساكين، لماذا؟ هذه كما يقال: الضجعة الصحيحة، وقالوا في ذلك:
حينما يصلي مستلقياً على ظهره سيومئ برأسه للركوع والسجود، فإذا أومأ
للركوع أو للسجود فإنه وجهه سيكون على القبلة، ولا يجوز أن يُدير رأسه إلى
القبلة؛ لأنه إذا أومأ يكون مومئاً إلى غير القبلة.
الآخرون قالوا: لا يضطجع على شقه الأيمن كما يضطجع الميت في لحده على شقه
الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأنه حينما يكون الإنسان على شقه الأيمن ويريد أن
يومئ وهو نائم ووجهه إلى القبلة يومئ إلى جهة غير القبلة، ومن هنا قالوا:
يضطجع على ظهره أولى، ولكن النص في الحديث: (على جنبه) ، وأصحاب الاضطجاع
قالوا: لا، أو أصحاب الجنب قالوا: هو وإن كان في إيمائه سيتجه لغير القبلة،
لكن السليم الذي يقوم ويركع ويسجد في حالة القيام مستقبل القبلة تماماً؛
وحينما يركع وجهه إلى الأرض، إذاً: انصرف عن القبلة إلى الأرض، قالوا: هذه
حالات تطرأ على المصلي، وليس فيها انصراف عن القبلة يبطل الصلاة؛ لأنها
طبيعة الركوع والسجود، فإذا كان المصلي مضطجعاً فقد استقبل القبلة بوجهه،
وما يطرأ عليه من اتجاه بوجهه عند الإيماء لغير القبلة فهو نظير الراكع
الساجد ينصرف وجهه عن القبلة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن من صلى مضطجعاً على جنبه وسيومأ وستكون
إيماءاته لغير القبلة، ومع ذلك قال: (مضطجعاً) .
هذه حالة العاجز عن القيام ويريد أن يصلي مضطجعاً أو مستلقياً.
هناك ناحية أخرى: إن لم يستطع القيام ولا الجلوس متربعاً أو متحافزاً أو
محتبياً أو أو وتمدد في الأرض مضطجعاً أو مستلقياً، لكنه لا يستطيع أن يومئ
برأسه محل الركوع والسجود، ماذا يفعل؟ نرجع أيضاً إلى الأصل: إذا كان
الإدراك موجوداً ويفقه معنى الصلاة ويتكلم بها وبمعانيها، ولكن الرأس ثقيل،
ولا يقدر على حراكه، أو المرض في عنقه أو بأي حالة؛ قالوا: يرمش برمش
العين، في الركوع نصف غمضة عين، وفي السجود يغمضها، فسبحان الله! إلى هذا
الحد، إذاً: أي عذر في الدنيا لا يُسقط الصلاة.
طهارة المريض ووضوؤه
سؤال: هذا المسكين الذي ليس قادراً أن يحرك رأسه كيف يتوضأ أو يتيمم؟ نقول:
إن عجز عن القيام بالطهارة بنفسه ووجد من يقوم بتطهيره وضوءاً أو تيمماً
-على حسب حالته- وجب عليه ذلك، فإن لم يجد يُصلي على حالته كما يُصلي فاقد
الطهورين، فليس هناك عذر، لا في الطهارة ولا في أداء الصلاة.
بعض الناس يقول: حركة العين خفية، وليس هناك تمييز بين الركوع والسجود،
فالأولى أن ينصب يده ويحرك أصابعه، فيأتي بحركة اليد بدلاً من حركة هذا
الجسم الطويل.
نرجع إلى المبدأ الأول: الصلاة واجبة، والقيام ركنها؛ فإن عجز عن هذا الركن
انتقل إلى ما دونه بالتدريج، ويأتي في النهاية بأقل ما يمكن أن يشعر بأنه
صلاة، ولعل في هذا القدر خلاصة ما جاء به شراح الحديث وما يأتي به الفقهاء،
ولكن هناك حالة لم يتعرض لها لا النووي ولا ابن قدامة في المغني ولا كثير
من كتب الفقه، وهي: إنسان ليس مريضاً يسقط عنه القيام، بل متعافياً يستطيع
أن يأتي بكل القيام، وكان خلف الإمام، والإمام يقوم يقرأ الفاتحة وسورة
البقرة، ولا يراعي من وراءه، ولا حالهم، قالوا: إن عجز عن مواصلة القيام مع
الإمام جلس، وإذا ركع الإمام قام وركع مع الإمام من قيام، إن كان لا يستطيع
أن يظل قائماً مع الإمام.
صلاة المأموم خلف من
يطيل الصلاة
بالمناسبة: في تاريخ أئمة المسجد النبوي كان شخص دعي للإمامة -توفي قريباً-
فاشترط على الملك عبد العزيز الله يرحم الجميع: أن أُسبح ثلاثة عشرة تسبيحة
في الركوع، وفي السجود مثلها، وجاء الرجل ولقيته وقلت له: كيف تشترط هذا
على الملك؟ قال: هذا حق الصلاة، قلت: تريد أن تتهرب من الإمامة، فإذا كان
الإمام يطيل الركوع، والمأموم يعلم من نفسه ومن حالة إمامه أنه إن ركع معه
في أول انحنائه لا يستطيع أن يواصل معه، فله واحد من اثنين: إما أن يركع
قبل الإمام أو يقف؟ يقول الباجي رحمه الله في شرح الموطأ: من علم أن هذه
حالة إمامه إذا ركع الإمام لا يركع ويبقى قائماً؛ لأن القيام أريح له، إلى
أن يعلم من حال إمامه ما يغلب على ظنه أنه لم يبق له إلا ثلاث تسبيحات أو
أربع، أو الذي يستطيعه هو؛ فيركع قبل أن يرفع الإمام ويُدرك الإمام في
الركوع بقدر ما يثبت له به الركوع، وعند الرفع يرفع معه؛ لئلا يتأخر عن
الإمام ولا يصح أن يتقدم عليه، وكذلك إذا سجد الإمام إن شاء هوى للسجود، أو
جلس وانتظر الإمام حتى يأخذ راحته، وعلى قدر ما يعلم من حالة الإمام
وتقديره فيسجد قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجدة، ويدرك مع الإمام قدر
السجدة التي تجزئه، ويرفع الإمام فيرفع معه، يبقى هناك نطاق: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
بقي من المباحث: إنسان صلى مع الإمام وعجز عن مواصلة صلاته ماذا يفعل؟ بهذه
الطريقة التي ذكرها الباجي لا يعجز، ولكن بالطريقة التي يقولها الآخرون
يعجز، ويقولون: إن قدر على الصلاة قائماً منفرداً وعجز عنها مؤتماً وجب
عليه الانفراد؛ لأن القيام ركن في الصلاة والجماعة سنة.
هل توافقون على هذا الرأي أم أن الأول أفضل؟ الوجه الذي يريد أن يُضيع
الجماعة منفي وليس بسهل، ثم التفضيل بأن الجماعة سنة هناك من يقول: إنها
واجبة، أو يقول: شرط في الصلاة لا شرط في صحتها، يهمنا أن فيها نقاشاً، لكن
لو أخذنا هذه الطريقة التي يذكرها الباجي: بأن المأموم إذا كان مريضاً أو
عاجزاً يقدر لنفسه مع إمامه ما يستطيع أن يأتي به؛ فتتم له فضيلة الجماعة،
ويسلم من المشقة عليه.
الاتكاء في الصلاة
على العصا ونحوها
ومن المباحث: أن المصلي قائماً لا يجوز له أن يتكئ على العصا أو على العمود
أو الجدار، إلا إذا كان اتكاءً خفيفاً لا يعتمد في القيام عليه، ويقول بعض
العلماء: كيف نعرف إذا كان الاتكاء خفيفاً أو كلياً؟ قالوا: لو أنه كان
متكأ إلى جدار لو قدر أن الجدار سقط سيسقط معه، فلذلك لا يصح قيامه، وإن
كان اتكاءاً خفيفاً بحيث لو سقط الجدار هو لا يسقط، فهذه ركنة فقط وليست
اتكاء، نحن يهمنا أكثر من هذا: كيف أن سلف الأمة فصلوا في الجزئيات ما لا
يخطر على البال؟! إذاً العاجز على القيام له أن يتكئ ويصلي مع الإمام
متكئاً أو منفرداً، وبقدر ما يستطيع مع إمامه، هناك حالات طوارئ كإنسان جاء
بحمد الله بعافية وكبر ووقف في الصف مع الإمام وقرأ ويستمع بصحة وكمال،
وعندما ركع شعر بمغص -نسأل الله السلامة والعافية- وطرأ عليه ما يعجزه عن
القيام في الركعة الثانية، هل له أن يكمل صلاته قاعداً أم لا؟ قالوا: إن
جاء إلى المسجد وإلى الصف ويعلم بأنه مريض ولا يستطيع القيام وكبر وهو
جالس، ولما تحرك وركع بالإيماء وسجد قدر المستطاع، وجد أن الألم الذي كان
يشكو منه قد زال ووجد من نفسه خفة ويستطيع أن يقوم مع الإمام؛ فإذا قام مع
الإمام في بقية الصلاة تكون الصلاة كلها صحيحة، أما إن قام ثم عجز أو كان
عاجزاً ثم استطاع فيكمل صلاته على الحالة التي هو عليها؛ لأنه في حالة
قيامه أتى بما استطاع، وعندما طرأ عليه العذر كانت هذه حالته، وعندما بدأ
الصلاة بعذره كان هذا مشروعاً في حقه، وعندما زال العذر رجع إلى الأصل؛
فالصلاة تكون صحيحة، ويبني على ما مضى منها، ولا يستأنف صلاة جديدة.
ومما تدعو الحاجة إلى ذكره: صلاة الخوف، أليس من شروط صحة الصلاة استقبال
القبلة؟ بلى، فإذا كانوا في ظروف لا يمكن أن يكونوا مستقبلين القبلة، بأن
كان العدو في جهة أخرى، ولا يمكن أن يعطوا العدو ظهرهم، أو لا يستطيعون أن
ينقسموا قسمين: قسم يصلي مستقبلاً القبلة، وقسم يواجه العدو، فإن اضطروا
إلى الصلاة تجاه العدو صلوا وهم منصرفون عن القبلة؛ لأن هذه حالتهم.
صلاة المتترس في
خندقه ونحوه
ومما ينبغي أن نتعلمه، ما يحدث لإخواننا وأبنائنا الجنود في الميادين،
فهناك من يكون في خندقه أو دبابته أو آليته أو في مخفر يرقب العدو مستتراً،
وجاء وقت الصلاة، إن خرج من الخندق انكشف للعدو، وإن أراد أن يصلي لا
يستطيع أن ينهض قائماً، ماذا يفعل؟ هل يمكن العدو من نفسه ويدل العدو على
جنده وجيشه أو يُصلي على الحالة التي هو عليها على الحالة التي هو عليها؟
ولو قُدر أنه في ذلك المكان لا يجد ماء يتوضأ: سقط عنه الوضوء بالماء وتيمم
بالتراب في الخندق، ولو كان في مصفحته أو آليته ولا ماء عنده، والماء الذي
عنده للشرب، ولا يجوز أن يتوضأ به ويعطش، يبقيه، وإن كان ليس عنده ما يتيمم
به يصلي على حالته وهو في كرسيه أو عليه رباط أو على أي حالة من حالاته
إنسان خائف وجاء واستتر وراء حجر خائف من حيوان، أو إنسان يتتبعه قطّاع
طريق أو لصوص أو عدو.
إلخ، إن قام يصلي قائماً انكشف، فله إن يبقى في مكانه ويصلي على حالته،
إنسان يُطارد العدو في معركة الكر والفر، ونحن نعلم جميعاً: أن صلاة الخوف
في القتال إن لم توجد مسايفة فهي كر وفر، فهم يصلون في مواضعهم في حالة
طبيعية، لكن إذا كانت الحركة قائمة، والدبابات تمشي، والمصفحات والمشاة وو
إلى آخره، هل عليه استقبال القبلة؟ هل عليه ركوع وسجود ويركع ويسجد والعدو
وراءه؟ لا، بل يصلي وهو على حالته، كيف يصلي؟ يغمض عينيه، ويستحضر في قلبه
تكبيرة الإحرام، وينطقها: الله أكبر، ويده على الزناد، والحمد لله رب
العالمين، وهكذا يطارد العدو أو من أمامه ويقول: الله أكبر، على هيئة
الركوع، ويستحضر معنى الركوع في ذهنه، وبعد ذلك: سمع الله لمن حمده، وهو
يجري ويركض، وهكذا في حالة الخوف يفعل هذه الحالة، سواء كان يطرد فريسة له
أو كان مطروداً من غيره يخاف منه.
وهكذا صلاة أهل الأعذار، الأصل في الصلاة القيام، ولكن إذا طرأ على الإنسان
عذر فإنه يسقط عنه القيام، وينتقل إلى غيره، وهناك حالة: ربما بعض الناس
يطرأ له مرض وعذر يبيح له الصلاة قاعداً، أو يُجهد نفسه ويكلفها ويتحمل فوق
طاقته فيقف قليلاً ثم يسقط، أو يزيد عليه الألم فيمتنع من قبول الرخصة، ورد
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حينما أصيبت عينه، جاءه طبيب يهودي
أو نصراني وقال له: أستطيع أن أعالجك وأتوقع لك البرء إن مكنتني منك
أسبوعاً لا تجلس وتكون مستلقياً على ظهرك، فـ ابن عباس فكر في الصلاة، وسأل
أم المؤمنين عائشة وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهم: هل يجيب الطبيب لذلك أم
لا؟ فقالا له: إذا أتاك الموت وأنت في الأيام السبعة هذه ماذا تفعل في
صلاتك؟ فامتنع، نقول: ابن عباس حبر الأمة، ولكنه تورع من أن يترك القيام
لأمر شخصي، ويعتذرون عن ذلك بأن الذي أخبره ليس بطبيب مسلم مؤتمن، ولعله
لكون الطبيب غير مسلم لم يثق بكلامه، فلم يقبل منه، فبعضهم يقول: لعله طبيب
واحد، مع أن الفقهاء يتفقون في باب الجنايات لو أن طبيباً واحداً ولو غير
مسلم قدّر جناية في جراح يُقبل قوله، ويقولون: بأن الطب مهنة إنسانية لا
دينية ولا سياسية ولا إقليمية؛ لأن موضوع الطب هو الإنسان، والإنسان من حيث
هو هيكل بشري لا أثر للهيكلية في أمر الدين ولا السياسة ولا الموطن ولا ولا
إلى آخره، ولو جئت بأسير حرب أو عبد أو بأضعف خلق الله وأعلى إنسان على وجه
الأرض ما اختلف تركيبه الجسماني، إذاً: الطب مهنة إنسانية، يؤخذ بقول من
عرف الأمانة فيها.
وعلى هذا لو أن إنساناً جاء إلى المستشفى وقيل له: يلزمك عملية، هل يسأل:
العملية كم يوم، وكيف أصلي؟ نحن لا نعلم، الطبيب يقول: اسأل العلماء، أنا
عليّ أن أجري العملية، وأنت عن صلاتك اسأل العلماء، فقال العلماء: نعم، إذا
عملت العملية صلِّ وأنت جالس إن استطعت؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك، وإن لم
تستطع فمستلقياً وو إلى آخره، أعتقد أن هذا هو الإنصاف، وهو من حق بدنك
عليك، (إن لبدنك عليك حقاً) فيقبل الرخصة كما أخبر صلى الله عليه وسلم
(صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك وإلا فأومئ) ،
وبالله تعالى التوفيق.
شرح حديث: (صل على
الأرض إن استطعت)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لمريض صلى على وسادة فرمى بها وقال: (صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ
إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو
حاتم وقفه] .
تتمة لحديث صلاة صاحب العذر جاء المؤلف رحمه الله بأثر جابر رضي الله تعالى
عنه، سواء أكان موقوفاً على جابر أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
يقول جابر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عجز عن السجود إلى
الأرض، فجاء بوسادة وسجد عليها، فأخذ الوسادة وألقى بها وقال: صلِّ على
الأرض، وإلا فأومئ واجعل سجودك أخفض من ركوعك) ، هنا يبحث العلماء: هذا
المريض الذي عجز عن القيام وصلى وهو جالس، إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى
الأرض في سجوده، ويستطيع أن يأتي بالوسادة أو ما في معناها من مسند أو
كرسي، فهل يكون موضوعاً على الأرض ويسجد عليه أو يرفع الوسادة إلى جبهته؟
ستجدون من الفقهاء من يُجيز السجود على وسادة أو ما هو مرتفع من الأرض كحجر
ونحوه، والحديث هنا يقول: (رمى بها) .
وتفصيل القول: إن رفع الوسادة لجبهته ليسجد عليها، وتكون الوسادة على يده
وليست على الأرض؛ فالجمهور يمنعون من ذلك، ويذكر ابن قدامة في المغني من
يقول بهذا، لكن من غير الأئمة الأربعة، ولا علماء السنن الستة، وإذا كانت
الوسادة على الأرض متصلة بها، ثم هو في سجوده يضع جبهته عليها، فلا بأس،
ويذكرون عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن مالك: أن هذا يصح.
إذاً: الحديث هنا: (فأخذها وقال: صلِّ على الأرض؛ فإن لم تستطع فأومئ) ،
على أن الوسادة -على رأي الأئمة- قد رفعها، وما هو المانع من كونها على
يده؟ قالوا: إذا سجد على الوسادة وهو يحملها يكون ساجداً على ما هو محمول
له متحرك بحركته، ولو أخذ كفيه ورفعهما ووضع جبهته على كفيه، فما الفرق بين
الوسادة والكفين أو شيء مرفوع إلى الجبهة لكي تصل إليه؟ وهذا بالاتفاق لا
يجوز.
إذاً: الخلاف بين كون الوسادة أو ما شابهها على الأرض وهو يسجد عليها، وكون
الوسادة وما شابهها يرفعه على يده ليصل به إلى جبهته، فالأخير ممنوع عند
الجميع، والأول مشهور أو أكثر الأئمة يقول به.
يقول أحمد: لأن يسجد على شيء يصل إليه أولى من أن يومئ بدون شيء، ولكن
النفس فيها شيء من هذا، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بالصلاة، والرسول
صلى الله عليه وسلم هو الذي أُمر ببيانها وأخذ الوسادة وألقاها؛ سواء كانت
على يده أو على الأرض، وذكروا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت
تصلي على الوسادة المطروحة في الأرض، ومن هنا جاء الخلاف، يهمنا في هذا أن
من رأى إنساناً يسجد على شيء مرتفع أمامه ثابتاً على الأرض لا يُنكر عليه،
ومن رأى من يصلي على شيء رافعاً إياه بيده فلا يقره عليه، وبالله تعالى
التوفيق.
|