شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
سجود السهو وغيره [1]
إن الكمال المطلق لله عز وجل، وقد خلق الله عز وجل الإنسان وفيه الكثير من
صفات النقص، ومن تلك الصفات صفة النسيان، وقد نسي آدم فنسيت ذريته، ومن
المواضع التي يهمنا فيها أمر النسيان باب العبادات، وقد جاء بيان ذلك من
النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى
الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، ولم
يجلس فقام الناس معه) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله بحديث ابن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
الظهر) .
والمؤلف هنا يجزم أنها صلاة الظهر، وتجدون في بعض المراجع: (إحدى صلاتي
العشي) والعشي: ما بين الزوال إلى غروب الشمس، والصلاتان الواقعتان في هذا
الوقت هما الظهر والعصر، ولذلك تجدون خلافاً طويلاً في تحقيق ما هي الصلاة
التي ذكرها ابن بحينة ولكن المصنف هنا صرح وجزم بأنها الظهر، فاسترحنا
والحمد لله، وسواء كانت الظهر أو العصر فالصورة واحدة؛ وهي أنه صلى الله
عليه وسلم دخل في صلاة رباعية، والمعروف من قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا
كما رأيتموني أصلي) أن نجلس للتشهد الأوسط في الركعة الثانية من الرباعية
أو الثلاثية وبعد جلسة التشهد نقوم إلى الركعة الثالثة، وهنا صلى الله عليه
وسلم في موضع الجلوس للتشهد الأوسط لم يجلس بل قام، فيكون ترك من الصلاة:
التشهد الأوسط والجلوس له، وسيأتي: هل سجود السهو لترك الجلوس أو لترك
التشهد، أو لتركهما معاً؟
متابعة المأموم
للإمام
قوله: (فقام الناس معه) : لماذا قام الناس معه وهم يعلمون بأن هذا موطن
جلسة؟ عند هذا يبحث العلماء مسألة: إذا كان المأمومون يعلمون نسيان الإمام
عند هذا الموطن: فهل يتابعونه مباشرة أو ينبهونه؟ قالوا: يتعين على
المأمومين أن ينبهوه.
وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنهم نبهوه وسبحوا، لكنه صلى الله عليه
وسلم لم يرجع، وفي بعض الروايات: (أشار إليهم أن قوموا، فقاموا) .
لماذا لم يرجع الإمام؟ قالوا: هناك مقياس للإمام وللمنفرد، إذا كان الإمام
قد نسي الجلوس ونهض للقيام فينبه، فإن كان أقرب إلى الأرض رجع، وإن كان
أقرب إلى الانتصاب استمر.
إذاً: لم يرجع صلى الله عليه وسلم حينما نبهوه؛ لأنه كان أقرب إلى الانتصاب
والقيام، فحينئذ من حقه عليهم أن يتابعوه، فهو قام نسياناً، وهم قاموا
متابعة.
قوله: (فقام الناس معه) .
هل قام الناس معه ابتداء؟ الجواب: لا، وإنما بعد أن نبهوه، وبعد أن قارب
القيام، وأصبح من حقه أن ينهض، ومن حقه عليهم أن يتبعوه ويتابعوه، لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
وفي سجود السهو حينما سجد وسجدوا معه، هو سجد لنسيانه، وهم ما نسوا، ولكنهم
تركوا الجلوس والتشهد فسجدوا معه، فإذا كان السهو من الإمام فقط ولم يكن من
المأمومين، فسجد الإمام لسهوه، فيسجد المأمومون معه، وسيأتي في بعض الصور:
لو قام الإمام في الخامسة والمأمومون يعلمون أنها الخامسة، فنبهوه فلم يسمع
لهم؛ لأنه لم يثق بكلامهم، وكان يقينه في نفسه أنها الرابعة، فمن قام من
المأمومين مع الإمام مع علمه ويقينه أنها الخامسة بطلت صلاته، وعلى أولئك
الموقنين بأنهم أتموا الأربع، وأن هذه ركعة زائدة عليهم؛ أن يبقوا في
مكانهم حتى يأتي الإمام بيقينه، ويتشهد ويسلم، وإذا علم أو تأكد أو ثبت
عنده بعد أن جاء بالخامسة أنها زائدة، فيتعين عليه أن يسجد للسهو، وأولئك
الجلوس الذين لم ينهضوا معه ولم يأتوا بزيادة سهواً ولا عمداً عليهم أن
يسجدوا معه تبعاً له، ثم يسلموا مع تسليمه.
إذاً: قام الناس معه اتباعاً وأداءً لحق: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
صفة سجود السهو
قوله: (حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه) .
(قضى) تأتي بمعنى انتهى، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ}
[الجمعة:10] يعني: انتهى وسُلم منها، وقوله هنا: (حتى إذا قضى) أي: أتى
ببقية الركعات بقرينة قوله: (وانتظر الناس أن يسلم) ، فكلمة (قضى) كما يقول
الأصوليون: ما قارب الشيء يعطى حكمه؛ لأنه أتى بالأعمال وأصبح قريب
التسليم، فانتظر الناس السلام، فعبر الراوي بقوله: (لما قضى الصلاة) وإن
كان ليس قضاء كاملاً؛ لأنه لم يسلم بعد، ولا تعتبر الصلاة قضيت إلا بعد
إكمالها ولم تبق لها أي جزئية، كما في النص الكريم: {فَإِذَا قُضِيَتْ
الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ومعلوم أن ذلك بعد التسليم، لكنه هنا
قال: (فلما قضى الصلاة) يعني: جاء بالباقي.
قوله: (وانتظر الناس تسليمه) يعني: أنه تشهد بعد أن أتى بالركعتين
الباقيتين، وعلم أنه ترك الجلوس، بل قد أشار إليهم: (أن قوموا) ، والآن جلس
يتشهد على حسب نظام الصلاة، والناس معه يظنون أن ترك الجلوس قد مضى لسبيله
وتمت الصلاة.
قوله: (كبر وهو جالس) .
أي: وهو جالس للتشهد كبر تكبيرة الانتقال للسجدة، ولهذا يقولون: سجدتا
السهو هما كأي سجدتين في صلب الصلاة: تكبر،وتسجد،وتسبح، وتطمئن، ثم ترفع من
السجود وتجلس وتدعو الدعاء الوارد، ثم تكبر وتسجد، ثم تكبر وترفع.
إذاً: سجدتا السهو في الهيئة والصورة والعمل كسجدتي الصلاة سواء بسواء،
فكما نفعل في السجدتين في صلب الصلاة نفعله في سجود السهو، سواء كان السهو
في فريضة أو نافلة، على ما سيأتي إن شاء الله.
قال: (وسجد سجدتين قبل أن يسلم) .
سجد سجدتين مرتبتين؛ سجد ثم رفع من السجود، أي: مكبراً أيضاً، وجلس حتى
اطمأن، ثم كبر وسجد الثانية حتى اطمأن وسبح أيضاً ثم كبر ورفع.
قال: (ثم سلم) .
وهذا سجود السهو كان قبل السلام، فلما أكمله سلم.
وسبب سجود السهو لا يخرج عن أحد أمرين: إما الزيادة في الصلاة كمن صلى
خمساً أو جلس جلسة زائدة، وإما النقصان، والذي حدث في هذه الصلاة في حديث
عبد الله بن بحينة هو نقصان التشهد، ونقصان الجلوس، والفرق بينهما: أن
الإنسان لو كان منفرداً وجلس تلك الجلسة بعد الركعة الثانية، وفي مدة قراءة
التشهد لم يقرأ التشهد وقام، فيكون قد ترك التشهد فقط والجلسة قد حصلت فهل
يسجد للسهو لأنه ترك التشهد؟ الجواب: إن قيل بأن السهو للتشهد فيتعين على
المنفرد إن جلس جلسة تكفي للتشهد ثم نسيه وقام؛ أن يسجد للسهو، وإن قيل:
بأن السهو هو للجلسة، فجلس جلسة التشهد ولم ينسها ونسي التشهد فعلى هذا
القول لا سهو عليه.
إذاً: هذا الفرق بين اعتبار السهو للتشهد أو للجلوس أو لهما معاً.
والصورة التي عندنا حصل فيها نقص، سواء قلنا: في التشهد أو في الجلسة
للتشهد، فما كان عن نقص يأتي سجود السهو جبراناً للنقص، وجبران الشيء يكون
منه، وهذه قاعدة عند أحمد: (كل سهو عن نقص يكون قبل السلام) .
وأما موضع السجود للسهو عند الأئمة الأربعة: فهناك من يقول: كل سجود للسهو
يكون قبل السلام؛ حملاً على هذا.
وهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون بعد السلام.
فأما الأول فهو قول الشافعي، وأما الثاني فهو قول الأحناف.
ومالك رحمه الله يقول: (ما كان عن نقص فقبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد)
.
وأحمد يقول: ننظر الخمس الصور التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم أين أوقع
السجود فيها، فنطبقها فيما لو وقع من إنسان واحدة منها، فكل سجود عن نقص
فهو قبل السلام، وكل سجود عن زيادة فهو بعد السلام، وإذا كان عن شك أو
تحير، أو عدم يقين فيكون قبل السلام كما سيأتي إن شاء الله، لكن لو جاء سهو
في مواطن خلاف المواطن الخمسة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فالإمام أحمد يقول: نجعلها قبل السلام.
إذاً: كل ما جاءت صورته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالذات نجعل سهوها كما
جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الصورة، وما كان في غيرها فنجعله قبل
السلام، فيكون القول بجعل السجود قبل السلام أكثر قائلاً، وأكثر اعتباراً،
وهذه مجمل أقوال العلماء في ذلك، وسيأتي لها زيادة إيضاح إن شاء الله.
يهمنا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية وترك
الجلوس، وترك الجلوس يستلزم ترك التشهد، فنبهوه فلم يرجع وقام الناس معه،
وعرفنا متى يقوم الناس؟ ومتى لا يقومون؟ ومتى يستتم ناهضاً؟ ومتى يحق له أن
يرجع؟ ثم بعد ذلك انتظر الناس تسليمه فلم يسلم، فسجد سجدتين وسلم بعدها،
وأتى في سجود السهو بما يأتي به في صلاته العادية؛ بأن كبر للانتقال وسبح
ودعا بين السجدتين، والله تعالى أعلم.
ينقل ابن عبد البر، وابن قدامة، والنووي، وعلماء الحديث الإجماع على أنه
مهما كان سبب السهو - وقلنا بأن السبب لا يخرج عن الزيادة أو النقصان -
فسجد الساهي قبل أو بعد السلام فصلاته صحيحة، وأما تعيين السجود للسهو هل
هو قبل السلام أو بعد السلام إنما هو للأفضلية، أما إذا سجد قبل السلام في
موضع يكون بعد السلام أو سجد بعد السلام في موضع يكون قبل السلام، فإن
الصلاة قد تمت، ولكنه ترك الأفضل في موضع السجود.
إذاً: التحديد بقبل أو بعد أو بأي صورة من الصور المذكورة هو بحث كبير،
ونحن إذا كنا حصلنا على الأساس والأصل وصحت الصلاة فالحمد لله، فهذا القول
من العلماء في هذه المسألة أو الجزئية يهون علينا مسألة السجود للسهو.
قال المصنف: [وفي رواية لـ مسلم: (يكبر في كل سجدة وهو جالس، ويسجد ويسجد
الناس معه مكان ما نسي من الجلوس) ] .
نقل الراوي: (ويسجد الناس معه) ليبين أن الناس لم يقع منهم سهو، بل هم
متذكرون ونبهوا الإمام من أجل أن يرجع ولكنه لم يرجع، فسجودهم معه إنما هو
متابعة للإمام.
شرح حديث: (صلى
النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى
الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم
المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج
سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة! وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه
وسلم ذا اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس
ولم تقصر، فقال: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل
سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو
أطول، ثم رفع رأسه وكبر) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم: صلاة
العصر] .
هذا الحديث من أهم الأحاديث النبوية، وكلها مهمة، ولكنه لموضوعه اهتم به
العلماء كثيراً، حتى إن بعض العلماء أفرده بتأليف خاص وإن كان لم يصلنا،
لكنهم نقلوا عنه الشيء الكثير، وبعضهم ينقل عمن كتب في هذا الحديث أنه
استخرج من هذا الحديث مائة وخمسين مسألة، وابن دقيق العيد رحمه الله لدقة
أسلوبه يقول: إن الكلام على هذا الحديث من ثلاث جهات: الجهة الأولى: جهة
أصل الدين والعقيدة.
الجهة الثانية: جهة علم الكلام.
الجهة الثالثة: جهة حكم الحديث فقهياً.
ثم أخذ يتكلم عن كل قسم منها في كتابه: (إحكام الأحكام في شرح كتاب عمدة
الأحكام) ، وللإمام الصنعاني صاحب سبل السلام حاشية تسمى: (العدة على شرح
العمدة) ، تعقب ما جاء به ابن دقيق العيد بزيادة التفصيل، والتنبيه على ما
يلزم التنبيه عليه.
أما موضوع علم الكلام: فإنه في هذه المحاورة والتي تعتبر عند المنطقيين
قاعدة في الفرق بين الكل والكلية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم لـ ذي
اليدين: (لم تقصر ولم أنس) ، وفي بعض الروايات: (كل ذلك لم يكن) ، وهذا هو
المبحث المنطقي.
ثم في أصول الفقه بحث فيما يتعلق بخبر الواحد، ويذكرون أن ذا اليدين أخبر
رسول الله، فلم يكتف بإخباره وسؤاله، بل استوثق من الحاضرين فقال: (أصدق؟)
فيبحث الأصوليون مدى قوة خبر الواحد والاستدلال به.
ثم يأتي فقه المسألة: أنه صلى الله عليه وسلم بعدما سلم سجد ثم سلم.
وهذا هو فقه المسألة، وهو ما يتعلق بسجود السهو.
وأرجو من الإخوة طلاب العلم أن يرجعوا إلى هذا الحديث سواء في الموطأ، أو
في إحكام الأحكام لـ ابن دقيق العيد، أو في العدة للصنعاني، أو في فتح
الباري، أو في جميع موسوعات الحديث التي تكلمت على هذا الموضوع بإسهاب،
وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً.
كتاب الصلاة - باب
سجود السهو وغيره [2]
الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، وهو نوعان: منه المحرم الذي لا يجوز
الوقوع فيه، ومنه الجائز الذي لا حرمة فيه، وهو قسمان: اختلاف تنوع،
واختلاف أفهام، وأكثر ما يقع هذان القسمان في المسائل الفقهية، ومن ذلك:
اختلاف أحاديث موضع سجود السهو، فالتحقيق أنه يجوز السجود للسهو قبل السلام
أو بعده، وقد اختلف الفقهاء في الأفضل، وكذلك اختلفوا في كثير من أحكام
سجود السهو.
شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم خمساً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما سلم قيل له: يا رسول الله! أحدث في
الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟) ] .
تقدمت بعض الأحاديث فيما يتعلق بسجود السهو من نقص أو زيادة، وهذا الحديث
فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الرباعية خمساً) قيل: هي العصر،
ولما قام إلى الخامسة لم ينبهوه على شيء؛ لأنه يجب عليهم الاتباع، فلما سلم
من الخامسة سألوه؛ لأن الذي حدث على غير العادة، فاستلزم الاستفسار والتأكد
فقالوا: أحدث في الصلاة شيء؟ أي: هل زيد فيها؟ وهذا أمر لا يستبعد؛ لأن
الصلاة أول ما فرضت ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، ومن
هنا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (ما حدث شيء، وما ذاك؟
قالوا: صليت كذا وكذا -يعني: أربعاً وزدت الخامسة-، فقال: لا.
لم يحدث في الصلاة شيء، ولو حدث فيها شيء لأخبرتكم) ، وهذه هي مهمة
التبليغ؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فلو
حدث في الصلاة شيء قبل أن يدخل فيها لأعلمهم بها، ليكونوا على علم بذلك،
فلما لم يعلمهم بذلك، دل على أن هذا الذي وقع سهو، ثم بين الراوي تداركه
لذلك: (وكان قد حنى رجليه -أي: كان قد جلس جلسة أخرى، ثم ثنى رجليه لجلسة
التشهد- فسجد سجدتين -أي: سجدتي السهو- ثم سلم، ثم قال لهم: إنما أنا مثلكم
أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) .
هل النبي صلى الله
عليه وسلم ينسى؟
وعند هذه الرواية: (أنسى كما تنسون) تأتي رواية أخرى وهي من بلاغات مالك
رحمه الله ومراسيله التي بلغت فوق الستين نصاً، ولم يذكر لها مالك سنداً،
ولكن العلماء تتبعوا تلك البلاغات والمراسيل فوجدوا لها أسانيد عند غير
مالك إلا أربعة أحاديث لم يجدوا لها سنداً كما يقول ابن عبد البر رحمه
الله، ولكن جاء وابن الصلاح وغيره فتتبعوا تلك الأربعة فوجدوا لها أسانيد
عند غير مالك، ومن تلك الأربعة على ما أذكر: ما يتعلق بليلة القدر؛ أنه صلى
الله عليه وسلم قال: (أُريت أعمار أمتي وأعمار الأمم) فاستقل صلى الله عليه
وسلم أعمار الأمة؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والأمم الذين قبلها كانوا
يعمرون طويلاًَ، فاستقل أعمار الأمة، وكيف تحصّل مع أولئك نصيباً في الجنة!
فأنزل الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا
أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ} [القدر:1-3] ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس: (كان فيمن
قبلكم رجل حمل السلاح ألف شهر يقاتل في سبيل الله! فقالوا: وماذا نحصل مع
هؤلاء من عمل الخير؟ فأنزل الله سبحانه سورة القدر، وفيها ليلة خير من عمل
الذين قبلهم) فهذا أحد الأحاديث الأربعة.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين
غديقة) .
يقول مالك: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نشأت) أي:
السحابة، وقوله: (بحرية) أي: من جهة البحر، والبحر في غرب المدينة، وقوله:
(ثم تشاءمت) لأن السحابة التي تنشأ غرباً إما أن تستمر إلى الشرق وإما أن
تنحرف إلى الجنوب، وإما أن تنحرف إلى الشمال، فهنا صلى الله عليه وسلم في
هذا البلاغ يقول: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت - أي: اتجهت إلى الشمال أو إلى
الشام - فتلك عين غديقة) يعني: هذه السحابة عين غدق ماؤها، أي: ممطرة بإذن
الله سبحانه.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أنسَى ولكن أنسّى لأسن) .
والرابع: أظنه قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (حسن خلقك للناس) الحديث
أو غيره.
فهذه أربعة بلاغات لم يوجد لها سند سوى إيراد مالك لها، وهذا كلام ابن عبد
البر، وابن عبد البر قد أفرد البلاغات والأسانيد في التمهيد في الجزء
الأخير؛ والكتاب مطبوع كله، فجاء -كما أشرنا- بعض العلماء وتتبع هذه
الأربعة، فوجد لها أسانيد عند غير مالك؛ منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو غير
ضعيف، والذي يهمنا هو هذا الأثر الثالث، والعلماء يبحثون هذه المسألة على
الروايتين؛ الأولى: (إنما أنا مثلكم) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] ، فبعامل البشرية قالوا:
يجري عليه صلى الله عليه وسلم ما يجري على عامة البشر من الأمور الجبلية،
والآخرون قالوا: كيف ينسى وهو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه من عند الله؟
فإذا قلنا: إنه ينسى، فقد ينسى ما يوحى إليه، وهذا طعن في الرسالة، فقالوا:
الجواب بتلك الرواية الثالثة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا أنسى
ولكن أنُسى) يعني: رغماً عني، ولأي شيء ينسى مع أن النسيان نقص؟ قال:
(لأسن) وأحسن من تكلم على هذه المسألة هو القاضي عياض في كتاب الشفاء، فمن
أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إليه.
والخلاصة: أن بعض العلماء قال: يكون منه صلى الله عليه وسلم النسيان في
أمور الدنيا؛ أكل أو لم يأكل، أعطى فلاناً أو لم يعطه، ذهب إلى فلان أو لم
يذهب، فهذه أمور عادية تجري على سنن البشر، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك
تجري عليه قوانين البشر، قالوا: وأما لو أطلقنا ذلك في العبادات فلا؛ لأنه
إذا نسي في العبادة فلا يقر على النسيان، بل ينبه، ولكن لماذا ينسى؟ قالوا:
ليسن، وإذا تتبعنا قضايا وقعت بالفعل نجد أن النسيان الذي يقع على النبي
صلى الله عليه وسلم إنما هو من أجل أن يبين السنة، فقد يكون واجباً عليه؛
لأنه إذا لم يقع هذا الفعل أو لم تحدث هذه الصورة منه صلى الله عليه وسلم
لم يبين الحكم فيها، ثم إذا وقعت بعد موته فماذا نفعل فيها؟ فقالوا: من
تمام التبليغ أن يقع عليه طوارئ الأحداث والمستجدات حتى يبين للناس ماذا
يعملون؟ ولهذا نظائر كثيرة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}
[البقرة:106] يعني: ننسيك إياها، وفي الآية الأخرى قال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] إذاً: قد يشاء الله أن
ينسيه، سواء مما أوحى إليه أو ما كان من الأعمال ليترتب عليه بيان الحكم،
وقد وقع له صلى الله عليه وسلم في هذا المجال وفي غيره ما لم يقع لغيره
لبيان التشريع.
قصة نومهم عن صلاة
الفجر حتى طلعت الشمس
كلنا يعلم أن في عودته صلى الله عليه وسلم من خيبر، سهر هو وأصحابه طوال
الليل ثم عرسوا قبيل الفجر، وقال: (يا بلال! احرس لنا الفجر، قال بلال:
فأنخت راحلتي، وأسندت ظهري إليها، ووجهت وجهي إلى المشرق أرقب الفجر، فما
مكثت إلا وجاءني الشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، وما أيقظنا
إلا حر الشمس) ، فلما استيقظوا كان عمر من أوائل من استيقظ، ولم يكونوا
يجرءون على إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه؛ لأنهم يعلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقد يكون في حالة يوحى إليه
فيها، لكن عمر أخذ يكبر، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عنده أبو
بكر، فقال: (يا أبا بكر! أين بلال؟! ما أراه إلا أن الشيطان أتاه وأخذ
يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، فقام أبو بكر ونادى بلالاً، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الصبح يا بلال؟! فقال: قبض روحي الذي
قبض أرواحكم) يعني: لماذا تلومونني أنا فقط، فكلنا قد نام؟ وقوله صلى الله
عليه وسلم فيه دعابة ولطافة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أخبرني، فقال: والله يا رسول الله، لقد أخذت أهبتي، وأنخت راحلتي، واستندت
إليها، واستقبلت المشرق بوجهي أنتظر الفجر، فإذا الشيطان يأتي ويهدهدني
-الحديث- فقام أبو بكر وقال: أشهد إنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارحلوا من هذا الوادي، فإن فيه شيطاناً)
فخرجوا، وأذن بلال، وأقام، وصلوا الفجر.
ففي هذه الحالة من يستطيع أن يقول: إن الرسول أراد أن تفوته صلاة الصبح؟ لا
أحد يقول ذلك، ولكن حصل هذا من أجل التشريع، وقد أخذ بأسباب البشر، بأن وكل
الأمر إلى شخص ليوقظه، ونحن الآن نوكل قيامنا بالمنبه، فإذا كان الإنسان قد
أخذ الأهبة فيما هو في وسعه، فما وراء ذلك فالله هو الذي يتولاه، فلما حدث
ذلك كانت النتيجة أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا من المكان، ثم أذن
المؤذن كما يؤذن في العادة، ومن هنا نعلم أن الأذان للصلاة مع الوقت، وهنا
الوقت قد خرج، والشمس قد ارتفعت، ثم بعد ذلك الأذان صلوا السنة، ومن هنا
نعلم تأكيد سنة الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتركها في سفر ولا
حضر، ثم أقيمت الصلاة وصلى الفجر أيضاً كما يصليها في العادة.
ومن هذه الحادثة نعلم ماذا نفعل إذا فاتنا وقت الصلاة، فلا نؤخرها إلى الغد
بل نصليها في وقتها، وقد كان بعض الناس يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:
(إن الله نهاكم عن الربا، وكيف يقبله منكم؟!) ، وقال صلى الله عليه وسلم:
(من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها) .
إذاً: كان هذا تقدير من الله ليبين للأمة فعل رسول الله فيقتدوا به صلى
الله عليه وسلم إذا وقع منهم مثل ذلك.
قضايا وقعت للنبي
صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين الحكم فيها للأمة
إن المتأمل في السنة يجد عدة قضايا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً
عنها كل البعد، ولكنها فرضت عليه فرضاً، وألزم بها ليبين للأمة بنص الكتاب
المبين الحكم فيها، وذلك مثل قصة زينب وزيد، ماذا كان موقفه منها؟ قال
تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] ، ليس هو الذي ذهب وتزوجها، وإنما فرض عليه
زواجها، لماذا؟ هل لأنها ابنة عمته؟ أم أنه كما يقول أولئك المغفلون أو
أولئك المتهمون: كان يراها ويريدها؟ أليس كانت ابنت عمته بكراً وهو قادر
على ألا يزوجها زيداً، وأن يمنعه منها؟ بلى والله! ومن هو زيد؟ زيد خطف من
الطريق وبيع فاشتراه شخص وأهداه لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته
لرسول الله، فجاء أبوه وعمه يتقصون الأخبار عنه حتى عرفوا أنه عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! جئناك في فداء ابننا زيد، فقد
علمنا أنه عندك، وأنت تأمر بصلة الأرحام، قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟
قال: أناديه وأعرض عليه، فإن اختاركما فلا أريد منكما فداء، وإن اختارني
فما أنا بمفاد من يختارني على أهله، قالوا: والله! لقد أنصفت، فدعا زيداً
فقال: هل تعرفهما؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا عمي، قال: إنهما أتيا لفدائك،
وقد أخبرتهما: إن اخترتهما فاذهب معهما بلا فداء، وإن اخترتني فما أنا
بمفاد من يختارني، فقال: والله! لا أختار عليك أحداً أبداً -وهذا قبل
البعثة وقبل الرسالة، من أجل تلك الأخلاق الفاضلة التي نشأه المولى سبحانه
وتعالى عليها- فقال له أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودبة على
الحرية؟ قال: ومالي لا أختاره؟ والله! منذ صحبته ما قال لي على شيء فعلته:
لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) فهل معنى هذا أن فعل الأمر ليس
مهماً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا والله! ولكنه كان يوجهه بمكارم
الأخلاق وباللطافة والإحسان والمروءة، فعرفوا مكانه وقالوا: إذن نحن نطمئن
على ولدنا، وانصرفوا.
فلما وجد منه صلى الله عليه وسلم هذا الوفاء، أخذ بيده وطاف به حول الكعبة
وقال: (يا معشر قريش! زيد هذا ابني، يرثني وأرثه) ، حتى جاء الإسلام وأنزل
الله قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
[الأحزاب:40] الآية، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] .
وكان صلى الله عليه وسلم قد زوج زيداً بـ زينب، وكان يدعى ابن محمد حتى جاء
القرآن ونسخ التبني، وكذلك نسخ تحريم زوجة الابن بالتبني، وبقي تحريم زوجة
الابن من النسب، وهذه القضية لو أنها وقعت مع أبي بكر أو مع عثمان أو مع
عمر أو مع أي أحد من الصحابة لم تهدم هذه العادة، ولم تقض على ما تعارفوا
عليه طيلة دهرهم، ولكن لما كانت في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
هدمت تلك العادة وانتهت، وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدفع ذلك عن
نفسه، قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ} [الأحزاب:37] ، وهذا عتاب كبير، لماذا زوجه الله تعالى؟ قال
تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] يعني: أن هذا الزواج للتشريع، فرض عليه لكي
يأتي التشريع الجديد في شخصيته صلى الله عليه وسلم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متطلعاً إليها ولم يكن راغباً في
زواجها، ولكن هذا الزواج فرض عليه من أجل التشريع، ولذلك كانت تقول لنساء
رسول الله: (زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات) ، وهذا والله
هو العقل.
إذاً: هذا العمل أجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الصلاة أجريت
على رسول الله، فلا مانع أن ينسّى، لكن لأي شيء؟ ليبين للناس.
ثلاثة أحداث في الحج
للتشريع
ومن ذلك: الحج، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، والله سبحانه
وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ،
وجاءت بعض التشريعات لبعض أركان الحج أو أعماله في كتاب الله، مثل قوله
تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، وقوله: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ، وقوله: {ثُمَّ
لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ، فهذه بعض تشريعات الحج، ولكن كون
الحائض تطوف أو لا تطوف، وكون الإنسان يحج عن الغير أو لا يحج، لم يأت له
في القرآن ذكر، وإنما جاءت وبينته السنة لشدة خطر موضوع الحيض والنفاس في
الحج تأتي ثلاثة أحداث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس
الحكم فيها: الحالة الأولى: في الميقات قبل الشروع في الإحرام.
الحالة الثانية: في أثناء الطريق وهم محرمون.
الحالة الثالثة: في يوم من أيام منى قبل العودة وقبل النفير.
أما الحالة الأولى: فهي حادثة أسماء زوجة الصديق، والصديق والرسول صلى الله
عليه وسلم في ركب واحد، وعلى مرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، نفست
أسماء عندما باتوا في بئر علي، فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: (مرها فلتغتسل ولتنوي) ، هي نفساء الآن، ولم تطهر من النفاس! ولكن
هذا الغسل ليس لطهر النفاس ولكن للإحرام، فهذا يدل على أن النفاس لا يمنع
المرأة أن تحرم.
الحالة الثانية: بعد أن وصلوا إلى سرف: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على
عائشة - وكانت أحب النساء إليه- فإذا بها تبكي، فقال: لعلك نفست؟ فقالت:
نعم، فقال: لا عليك، أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: حجة في عمرة) .
الحالة الثالثة: عندما نزل من عرفات إلى منى ورمى الجمار، وعندما رجع من
مكة إلى منى (سأل عن صفية، فقالوا: إنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ - أي: عن
العودة وطواف الإفاضة حتى تطهر، وبعدها تطوف طواف الإفاضة- فقالوا: لا.
لقد طافت من قبل- استأذنت فنزلت من منى، ورمت جمرة العقبة، ونزلت إلى مكة
وطافت ورجعت إلى منى- فقال: إذن نرحل ... ) .
فتأتي هذه الأحداث الثلاثة فيما يتعلق بأمر النسوة في بيت رسول الله، ليبين
صلى الله عليه وسلم للأمة في ذلك إذا وقع لهم مثله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إني مثلكم أنسى كما تنسون) لا مانع من ذلك،
ولكنه لم ينس شيئاً من التبليغ، وقد ينسى شيئاً من العبادة ولكنه لا يترك
عليه، وهذا بإجماع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على النسيان في
العبادة، بل لا يقر صلى الله عليه وسلم على الخطأ في العبادة، ولو لم يكن
نسياناً، كما في قصة خلعه صلى الله عليه وسلم لنعليه وهو ساجد في الصلاة،
فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم قال: (أنا خلعت نعلي، فما بالكم خلعتم
نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا - وهذا هو الواجب، فربما جاء تحريمه في
هذه اللحظة- قال: أما أنا فأتاني جبريل فأخبرني أن فيهما أذى، فخلعتهما)
فلم يقر على الأذى في نعليه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما يتعلق بالبلاغ فهو معصوم صلى الله عليه وسلم من النسيان فيه، بل
يقول القاضي عياض: أيهما أشد؛ النسيان الذي يتذكر به حالاً أو السحر الذي
وقع عليه؟ فقد وقع عليه السحر بإجماع المسلمين، سحره لبيد بن الأعصم،
وقضيته معروفة في تفسير سورة الفلق، فوقع عليه صلى الله عليه وسلم ما يقع
على البشر بسنة البشر، ولكن في حالة السحر بينت عائشة فقالت: (كان يخيل
إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله) ، ولم تقل: تكلم بكذا, ولا ألغى كذا، ولا
نسخ كذا، أبداً، وإنما هي أمور عملية فعلية في شخصه صلى الله عليه وسلم،
وهذا لا يضر الرسالة، ولا يتعارض مع العصمة، ولا يخدش في التبليغ عن الله
سبحانه وتعالى.
ونأتي إلى بلاغ مالك: (أنسّى) .
أقول: والله! إن تلك الأحداث لتشهد لرواية مالك: (أنسّى) ؛ لأن ذلك من تمام
التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وبيان التشريع، والله تعالى أعلم.
الفتح على الإمام
وقوله: (أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني ... ) .
في بعض الأحاديث الأخرى: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وترك آية،
فلما سلم قالوا: تركت آية كذا! فقال: أليس فيكم أُبي؟ فقالوا: بلى، فقال:
لماذا لم ترد علي؟ قال: خشيت أن تكون نسخت) .
وهذا الذي نبهنا عليه، وقد طُلب من الإمام مالك أن ينصب نافعاً إمام القراء
للصلاة بالناس، فقال: لا.
لا تجوز صلاته بالناس، فقالوا: يا مالك! هذا شيخ القراء، وقد قال صلى الله
عليه وسلم: (يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله) ، فلماذا لا تنصبه؟ قال: لو أخطأ
فلن يكون هناك أحد يرد عليه، فيظن الناس أنها قراءة فيسكتون، فيمضي الخطأ
على أنه قراءة، فاقتنعوا بذلك، وكذلك أُبي لم يرد على رسول الله؛ لأن الآية
قد تكون نسخت، وينبغي التنبه إلى هذه النقطة! قال: (أنسى كما تنسون) يعني:
أنا نسيت فذكرتموني، وأنتم كذلك تنسون، والنسيان يأتي بالشك؛ لأن الشك لا
يكون إلا نتيجة النسيان.
تحري الصواب عند
الشك في الصلاة
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب) معنى
التحري: أن ينظر ما يغلب على ظنه إلى أقصى حد ويدقق فيها تدقيقاً، فكأنه
وصل إلى خيط الحرير بين المسألتين، كما يقال: تحرير المسألة، أي: تنقيتها
إلى أقصى حد، فإذا تحرى عمِل بما ظهر له.
قوله: (فليتحر الصواب وليتم عليه) ، أي: يتم على ما توصل إليه في تحريه، (
{ثم ليسجد سجدتين) ، بعدما يتحرى يتم صلاته على هذا التحري، ثم يسجد
سجدتين.
هل السجدتان قبل أو بعد؟ بينه في الرواية الآتية: [وفي رواية للبخاري:
(فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد) ] .
يعني: يكون سجود السهو عند التحري بعد السلام.
شرح حديث: (سجد
سجدتي السهو بعد السلام والكلام)
قوله: [ولـ مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام
والكلام) ] المؤلف لم يسق هذا ليبين موضع سجدتي السهو هل هما قبل أم بعد؟
وإنما ساق هذا ليبين أن سجدتي السهو لا يمنعها الكلام، ما دام أنه في مصلحة
الصلاة، فإذا سلم ثم تكلم ونُبه وتبين له أنه سها، فكلامه هذا لا يقطعه عن
الصلاة، وإنما يجبر ما نقص منه أو زاد سهواً بسجدتين ولو تكلم قبلهما.
وساق المؤلف هذا هنا ليبين المسألة؛ لأننا نجد الفقهاء رحمهم الله قد
اختلفوا، فبعضهم يقول: السجود بعد السلام، وبعضهم يقول: إن طال الفصل
استأنف صلاته من جديد.
ثم اختلفوا في حد هذا الطول؟ فبعضهم يقول: يحدد عرفاً؛ لأنه لم يأت فيه
تحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: يحدد بقدر ركعة، وبعضهم
يقول: يحدد بقدر الصلاة التي سها فيها، ثم الآخرون يقولون: إذا كان الكلام
من مصلحة الصلاة فلا يضر، ولهذا جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وفيه:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع سجدتي السهو بعد أن سلم وتكلم) .
وهل المسألة قاصرة على الكلام فقط؟ وإذا تحرك وانتقل من مكانه فما هو
الحكم؟ قالوا: إن كان قريباً سجد، وهذا القرب ما حده؟ قالوا: يحدد عرفاً،
وبعضهم يقول: ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج من المسجد ونبه استأنف من
جديد.
إذاً: هذه المسائل كلها موضع بحث وتقدير واجتهاد عند العلماء رحمهم الله.
شرح حديث: (من شك في
صلاته فليسجد)
قوله: [ولـ أحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: (من
شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم) وصححه ابن خزيمة] في الحديث الأول
ذكر التحري، وهنا ذكر الشك، وهذا تنصيص في أن من شك في الصلاة فليتم- يعني:
يبني على اليقين- وليسجد بعد السهو.
شرح حديث: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين
فاستتم قائماً)
قال المصنف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فليمض ولا يعود،
وليسجد سجدتين، فإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) رواه أبو داود
وابن ماجة والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف] .
تقدم في قيامه صلى الله عليه وسلم من الركعتين أنه لم يجلس للتشهد الأوسط،
وإنما قام، ثم بعد أن سبحوا كان قد انتصب قائما، ً فأشار إليهم: أن قوموا،
ولم يرجع، فقاموا، ثم سجد سجدتي السهو؛ وفي حديث المغيرة هنا يبين النبي
صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة؛ أنه إذا سها الإمام أو المنفرد فلم
يجلس في التشهد الأوسط وجاء ناهضاً للقيام، نظرنا ما هي المسافة بين جلوسه
وانتصابه قائماً على سبيل التقريب، فإذا كان قد نهض فتذكر أو نبهوه، وكان
في هذه الحالة أقرب إلى جلوسه، جلس وتشهد ولا سهو عليه.
وإذا كان قد نهض وبقي من انتصابه (30 سم) ؛ بمعنى أنه انتصب (70 سم) ، أصبح
في هذه الحالة أقرب للانتصاب، فلا يرجع.
وإذا كان إماماً، ووصل إلى ما يقرب من انتصابه قائماً، فسبحوا له، فلا
يرجع، بل يمضي في قيامه، ويمضي في الركعة الثالثة، وبعد أن يتم صلاته يسجد
سجدتي السهو وقد تقدم أنها قبل السلام.
إذاً: في حالة ترك الجلوس للتشهد الأوسط، وسها المصلي منفرداً أو إماماً
فننظر هل يمضي في قيامة أو يعود إلى مجلسه؟ ننظر أي المركزين أقرب إليه،
فإن كان الجلوس أقرب إليه جلس ولا سهو عليه، وإن كان القيام والانتصاب أقرب
إليه قام ولا رجوع عليه، ويجبره بسجدتي السهو.
شرح حديث: (ليس على
من خلف الإمام سهو)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلف) رواه
الترمذي والبيهقي بسند ضعيف] يقول المؤلف: رواه الترمذي والبيهقي لكن بسند
ضعيف، لكن عليه عمل الناس, والعامة يقولون: الإمام يحمل سهو المأموم؛
بمعنى: حينما تقع الصلاة جماعة فالمأموم مرتبط بالإمام، فإذا سها المأموم
ولم يسه الإمام، فعلى المأموم أن يسلم مع الإمام؛ قال صلى الله عليه وسلم:
(وإذا سلم فسلموا) ، لكن هل يسجد المأموم سجود السهو عن السهو الذي وقع منه
وهو خلف الإمام بعد السلام؟ وهل يتصور أن يسهو المأموم خلف الإمام؟ نعم،
فمثلاً: الإمام جلس في التشهد الأوسط، والجلوس معه إنما هو للتشهد، لكن
المأموم يوقن في نفسه بأنه لم يتشهد سهواً، فتكون صلاة الإمام صحيحة لا سهو
فيها، والمأموم قد وقع عليه سهو في ترك التشهد الأوسط، فإذا سلم الإمام فهل
يسجد هذا المأموم سجود السهو لما سها عنه من تشهده؟ قالوا: لا، لأن الإمام
يحمله عنه، ولو قلنا: إن سجود السهو ليس للتشهد ولكن للقيام معه؟ فبعض
الأئمة كـ مالك يقول: إذا جلس يكفيه.
ومثل هذا أيضاً إذا كان الإمام جلس للتشهد الأوسط، بينما بعض المأمومين
قال: الله أكبر، وقام ناهضاً، وصار أقرب إلى القيام، فهل يرجع أو يظل
قائماً؟ يجب عليه أن يرجع ويتابع الإمام، فيكون قد وقع منه سهو في القيام
والجلوس، فهل يسجد لهذا السهو؟ قالوا: لا؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه
الذي بين أيدينا.
إذاً: إذا سها الإمام ولم يسه المأموم؛ كأن يكون بعد الركعة الثانية كبر
وقام ونهض ولم يجلس للتشهد، وسبحوا له فرجع، وكان من حقه أن يستمر، فيكون
قد سها في القيام وأخطأ في العودة، فيلزمه سجود السهو، فإذا سجد للسهو الذي
وقع منه فعلى المأمومين أن يسجدوا متابعة للإمام، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (لكل سهو
سجدتان)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) رواه أبو داود وابن ماجة بسند ضعيف] يختم
المؤلف رحمه الله مباحث سجود السهو بهذا الحديث، ويتناول هذا الحديث
مسألتين: المسألة الأولى: هل يتعدد سجود السهو بتعدد السهو؟ يعني: هل تعدد
السبب يستوجب تعدد المسبب أو لا يستوجبه؟ المسألة الثانية: عند قوله صلى
الله عليه وسلم في سجدتي السهو: (بعدما يسلم) من غير تفصيل فيما إذا كان
السهو عن زيادة أو كان عن نقص.
أما المسألة الأولى: إذا سها أكثر من سهو مثل أن يقوم ولا يتشهد التشهد
الأوسط، وأسر في الجهرية، فهنا تعدد منه السهو، فهل يسجد لكل سهو سجدتين أم
سجدتا السهو تجزئ عن كل النسيان الذي وقع منه في صلاته؟ الجمهور على أنه لو
تعدد من المصلي أسباب سجود السهو، فإنه يجزئ عن ذلك كله أن يسجد سجدتين
فقط، وقالوا: لهذا نظائر، كنواقض الوضوء، فلو أن إنساناً توضأ ثم أحدث
حدثاً واحداً من نواقض الوضوء، فإنه يتعين عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأحدث
عدة أحداث كل واحد منها يستوجب وضوءاً على حدة لو كان منفرداً.
فبإجماع المسلمين إذا أراد أن يصلي لا يتوضأ بعدد الأحداث التي أحدثها، بل
وضوء واحد يجزئه عن هذه الأحداث كلها، وله أن يصلي بهذا الوضوء، قالوا:
كذلك أسباب سجود السهو إن تعددت، يكفي عنها سجدتان فقط.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل سهو سجدتان) فقالوا: هذا للجنس أياً
كان السهو، فإنه يجزئه سجدتان، وما هي أنواع السهو؟ هذا فيه خلاف بين
العلماء طويل جداً، ويذكر بعض العلماء فيه آثاراً ضعيفة، منها: (لا سهو إلا
على من زاد قياماً أو نقص جلوساً ففيه السهو) ، ويحسن سجود السهو في القيام
وفي تركه، وزادوا في ذلك أشياء كثيرة، فمن شاء فليرجع إلى كتب الفقه، فإنه
سيجد أقوال العلماء فيما يستوجب سهواً أو لا يستوجبه.
وإلى هنا انتهى المؤلف رحمه الله من نصوص السهو، ونعود إليها بالإجمال مرة
أخرى فنقول: تقدم التنبيه عن أحمد رحمه الله أنه قال: المنصوص عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم السجود في خمسة مواطن: الأول: (إذا قام من ركعتين) ،
الثاني: (إذا سلم من ركعتين) ، الثالث: (إذا زاد خامسة) ، الرابع: (من شك
فليتحر) ، الخامس: (من شك فليبن على اليقين) .
هذه هي النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء عنه السجود فيها
تارة قبل السلام، وتارة بعد السلام.
ونأتي إلى الأئمة رحمهم الله: فنجد أبا حنيفة رحمه الله أخذ بالحديث
الأخير: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) فأخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأن
كل سهو أياً كان سببه فإنه يسجد له بعد السلام لعموم هذا الحديث.
وقال: إن السهو جبران, والجبران يكون بعد انتهاء الصلاة.
وعند الشافعي رحمه الله: أن كل سهو يسجد له قبل السلام، وقال: جبران الشيء
منه.
ومالك عنده قاعدة عامة، وهي: ما كان سببه نقصاناً في الصلاة فيسجد له قبل
السلام، وما كان سببه زيادة في الصلاة فيسجد له بعد السلام.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الحالات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
خمس حالات، فنسجد للسهو في تلك الحالات الخمس كما سجد فيها صلى الله عليه
وسلم، وإذا حدث سهو بصورة مخالفة للصور التي جاءت عن رسول الله فنسجد لها
قبل السلام.
إذاً: الأكثر يرجحون أن سجود السهو قبل السلام.
وقد تقدم أنه بإجماع المسلمين أن من سجد سجود السهو الوارد فيه بعد السلام
فسجده قبل السلام، أو سجد سجود السهو الوارد فيه قبل السلام فسجده بعد
السلام؛ فسجوده صحيح وصلاته تامة، يعني: أن ترتيب السجود قبل أو بعد إنما
هو من باب التفضيل في الأعمال، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
سجود السهو وغيره [3]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
هم صفوة الخليقة، فلا يجوز أن يساء إليهم، ولا أن يُقدح فيهم، ويجب الدفاع
عنهم، والتحري والتثبت في القصص والأخبار التي تنقل عنهم، ورد القصص التي
تتضمن الطعن والنقيصة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.
شرح حديث: (سجدنا مع
رسول الله)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}
[الانشقاق:1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ) رواه
مسلم] .
هاتان السجدتان لم يقل بهما مالك، ويرى أنه لا سجود في المفصل، والمفصل
بعضهم يقول: إن أوله الحجرات، فيدخل تحته سورة النجم، والانشقاق، والعلق،
فـ مالك يرى أنه لا سجود فيها.
وإتيان المؤلف بحديث أبي هريرة يدل على أن السجود فيهما ثابت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام مالك يقول هذا القول، فإنا نجد في
المذهب المالكي ثلاث روايات: رواية تقول كما قال مالك.
وراوية تقول: جميع الآيات الخمسة عشر كلها فيها سجدة، ما عدا الثانية من
الحج.
والراوية الثالثة تقول: جميع الآيات كلها بما فيها الثانية من الحج.
إذاً: جاء عن مالك في الموطأ عدم السجود في المفصل، وأما عند العلماء
المالكية فإنهم يذكرون في المذهب خلاف ما في الموطأ، وهي روايات عن مالك في
غير الموطأ.
فيكون مالك يثبت السجود في المفصل على بعض الروايات عنه.
شرح حديث: (ص ليست
من عزائم السجود)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ص) ليست من
عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها) رواه
البخاري] إذا أطلقت كلمة: عزيمة، فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح
تقابلها الرخصة، ولكن المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها
الحرص، وجاء فيها التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص) .
يقول الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب
يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها والتحريض عليها
والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها، وسيأتينا أن سورة الحج
تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما)
يعني: الآيتين اللتين فيهما السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد
فيهما يتركهما، فالطلب هنا أشد منه في (ص) .
قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص) ؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود
عليه السلام توبة، وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا
تبعاً لرسول الله.
وقالوا: قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ
اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع
اختلاف الاعتبارين: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فكانت استغفاراً، والرسول صلى
الله عليه وسلم لم يصدر منه ما يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن
سجدها اتباعاً واقتداء بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم.
إذاً: سجدة (ص) تجمع بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين
كونها سجدة شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي
سجدة، ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟ ما دام صلى الله عليه
وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (سجد
النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)
قال المصنف رحمه الله: [وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سجد بالنجم)
رواه البخاري] .
يأتي المؤلف بهذا النص أيضاً في سجدة النجم بياناً للخلاف الذي وقع، فـ
مالك رحمه الله لم يأخذ به.
سجدة النجم قد جاء في خبرها قصة الغرانيق، وبعض الناس يطعن في قصة
الغرانيق، ولكن أصل القصة موجود، وهو السجود، فسجود النبي صلى الله عليه
وسلم فيها عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]
إنما كان للتلاوة، وكان يقرؤها في مكة، فلما قرأ بها وكان المشركون حضوراً،
فكل من كان حاضراً في المجلس يسمع سجد، سواء كان مسلماً أو مشركاً، وكان
سبب سجود المسلمين اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سبب سجود
المشركين فاختلق له بعض الناس قصة الغرانيق، وهي أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما قرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى *
تِلْكَ} [النجم:19-22] إلى آخره، فالشيطان عند تلاوة ذلك قال: (تلك
الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) ، فلما سجد صلى الله عليه وسلم، قال
المشركون: محمد ذكر آلهتنا بخير اليوم، ولم يذكرها بخير قط قبل ذلك، فسجدوا
معه ظناً منهم أنه سجد لها في هذه الحالة، ولكن هذه القصة باطلة، وإذا جئنا
إلى كتب التفسير نجد أن أغلبها قد ذكر هذه القصة، لكن يجب على الإنسان أن
يحذر ويتحرى، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: كنت أقرأ للآية مائة
تفسير وأقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، يقرأ مائة
تفسير للآية! مع أن الله أعطاه من أداة العلم من أصول، ومن فقه، ومن لغة
ومن إلى آخره الشيء الكثير.
بيان بطلان القصة
الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود
نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض التفاسير، وإن
كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم يسوقون بعض تلك القضايا
على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية
الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي الله داود، ففي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا
أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] ، قالوا: النعجة كناية
عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة
واحدة، فأرسل داود زوجها إلى القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء،
بل إن أنصاف المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا
مراراً أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً،
ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك كله؛ لأن في
أول السياق يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] ، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا) على سبيل التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا
الأَيْدِ) وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات،
فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا) ، والله لا يصطفي للعبودية الخاصة
شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19]
سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله معه، ثم
ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو كان أعزب لا زوجة
له لما فعل هذا.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
[ص:20] ، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطَابِ} تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: {وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة:
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21] .
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ} [ص:26] ، بعدما بيّن القضية ما هي؟ {خَصْمَانِ بَغَى} [ص:22]-
وإلى أين جاء الخصمان؟ {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21] ، دخلوا عليه وهو
في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه.
وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه المحراب يتعبد،
ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس، فإذا باليوم الذي جعله
للقضاء لا يكفي، فـ (تسوروا المحراب) ، وهل الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن
يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا، إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا
في علم القضاء أن خصمين يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه
تسع وتسعون نعجة ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل
هذه تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع المظلوم:
{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}
[ص:22] ؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت
فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف يأتي
الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة، ومن غير إرسال
إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟! قد تجد الآن قضية في
عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد أن تتعدد الجلسات، وبعد أن
ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة، فكيف بهذا؟! ثم: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا
بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22] ،
وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية بينة من غير
شيء.
ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى
نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ} [ص:24] أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب،
ونحن لم نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة
وفصل الخطاب.
لما أن علم ونطق بـ: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} هنا تنبه {وَظَنَّ} [ص:24] يعني: علم: {أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} [ص:26] ، وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فتناه في
ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة الأساسية التي نصبه الله
لها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء
وبدأ بـ (الم) ، وصلى خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا
لا يركع حتى يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب
فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت الكلمة إلى
الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق، وقال: كذا وكذا، فناداه
النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان أنت يا معاذ!) .
فـ معاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه
وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله، فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله
لا يشق عليه، فهو بتلك اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل
في الصلاة مع أهل قباء، فطول وشق على المأمومين.
إذاً: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ} كانت فتنة
داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على
بعض خلف الأسوار.
أي الأمرين أولى: أن ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين
الخصوم؟ الأولى أن يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة
وفصل الخطاب.
إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان عليه، ولذا ترك
المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم.
وتجد بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل الذي
ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها على خطبة
غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على خطبة غيره، ونحن
منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) .
وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة
عندنا.
وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال: (وقد سوّد كثير من المفسرين
-أو قال بعض- في هذه القضية صحائف بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها)
، وسكت! فأقول: جزاه الله خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛
لأنها لا تليق بنبي من أنبياء الله.
ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل التنزيل للسبكي؛ وهو كتيب
صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي
مع هذه القضية: لما كنت أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في
أمهات كتب التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش
الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة لداود
عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما جئت عند الاختبار
واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية اللغة، وليست في الشريعة؛
لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً، فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم
هذه ذكرها شيخ المفسرين، فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل
بالتدريس يقرر القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له
سياق السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء جديدة،
فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله فيه خير، وعزمت
على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو عليه، حتى لا أكون ضده،
وأحتفظ بهذا لنفسي.
ومن العجب يا إخوان! أن تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في
الشرق الأوسط، وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به
يعجب به إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى
بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى.
يهمنا في هذا يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية
الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان.
وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن المشركين عرب،
وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول الله لسورة من كتاب
الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء، فلما قرأ القرآن على الحاضرين،
كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن
وبعذوبة تلاوة رسول الله.
ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول مرة
فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع، وهو لم يعلم
أنه قرآن أو غير قرآن.
إذاً: للقرآن تأثير على القلوب، وقد سمعت الشيخ م
شرح حديث: (قرأت على
النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها)
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (قرأت على النبي
صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) متفق عليه] .
هذا الأثر الثاني: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد
فيها) ، في الحديث المتقدم أنه سجد، وفي هذا الحديث يقول: لم يسجد، ومن هنا
قال مالك بعدم السجود فيها، وبعض المالكية يقول: إنما سجد في مكة ولما هاجر
إلى المدينة لم يسجد فيها، لأن راوي هذا الحديث زيد، هو مدني، والأول مهاجر
من مكة.
إذاً: الأخير ينسخ الأول، ولكن علماء الحديث يقولون: السجود ليس واجباً حتى
يقال: المتأخر ينسخ المتقدم، وما دام أن الحكم هو الجواز فليس بلازم أن
يسجد كلما قرأ، فيكون قرأ وسجد تارة، وقرأ وترك السجود تارة أخرى، والمثبت
مقدم على النافي، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويفصل الموضوع فيقول: (إن
الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، ولكن من سجد فقد أصاب - أي: أصاب السنة -
ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، وسبب ذلك أن عمر قرأ آية السجدة على المنبر،
فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم لما كان في الخطبة الثانية في الأسبوع الآخر،
قرأ آية سجدة فتهيأ الناس للسجدة فلم ينزل وقال: (يا أيها الناس! إن الله
لم يفرض علينا سجود التلاوة، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا شيء عليه)
.
إذاً: عمر بنفسه سجد وترك، فهل نقول: ترك عمر نسخ للفعل الأول؟ لا، ليس
نسخاً؛ لأنه قد بين أنه لم يفرض علينا، وإنما السجود دائر بين الفعل والترك
على سبيل الجواز.
إذاً: هذا الحديث لا ينسخ ما قبله، ولكن كما قدمنا مراراً أن من غايات
المؤلف رحمه الله في تأليف هذا الكتاب بيان أدلة الأحكام عند الأئمة
الأربعة، فمن قال: النجم فيها سجدة عنده الحديث الأول، ومن قال: النجم لا
سجدة فيها عنده هذا الحديث الثاني، ومن جمع بين النصوص وأحكم فيها العمل،
وأخضعها للقواعد عند المحدثين والأصوليين فسيخرج بنتيجة الجمع بين الأحاديث
المختلفة، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (فضلت
سورة الحج بسجدتين)
قال المصنف رحمه الله: [وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: (فضلت سورة
الحج بسجدتين) رواه أبو داود في المراسيل] .
يأتي المؤلف بهذا الحديث أيضاً، وفيه أن سورة الحج فضلت بوجود سجدتين فيها،
وهنا مسألة: هل يقال في سور القرآن وآياته: هذه السورة أفضل من تلك؟ اختلف
العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول: لا نفضل؛ لأن كله كلام الله.
وبعضهم يقول: قد تختص هذه السورة بما لا تختص به تلك، وهذا كلام معقول،
فمثلاً: آية الكرسي قالوا: هي أفضل آية في كتاب الله، لأنها تختص بصفات
الله كما تقدم في الذكر بعد الصلاة، وكذلك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
[الإخلاص:1] تختص بخصائص؛ لأنها محض صفات لله سبحانه، وهكذا الفاتحة تختص
بأنها أم الكتاب؛ لأنها جمعت علوم القرآن كله، والقرآن جمع علوم الكتب
قبله، فالفاتحة جمعت كل كتاب منزل من السماء.
ويقول بعضهم: لا مانع أن يقال: الكل فاضل، وهناك أفضل، فليس هناك ناقص بل
الكل فاضل، فكما تفاضلت الرسل كذلك تتفاضل السور، وكذلك تتفاضل الآيات،
ومما فضلت به -أي: خصت به- سورة الحج أن فيها سجدتين، فلا يوجد سورة تجمع
سجدتين إلا سورة الحج، وقد أتى بهذا المؤلف؛ لأن هناك خلافاً في السجدة
الثانية من سجدتي سورة الحج، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يعتبرها إلا إذا
قرأ بها في الصلاة، أما خارج الصلاة فلا يعتبرها سجدة.
إذاً: المؤلف رحمه الله يسوق لنا مواضع الاختلاف في سجود التلاوة.
شرح حديث: (فمن لم
يسجدها فلا يقرأها)
قال المصنف رحمة الله: [ورواه أحمد والترمذي موصولاً من حديث عقبة بن عامر،
وزاد: (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) ، وسنده ضعيف] .
في هذه الزيادة تنبيه وهو: أن من لم يسجد السجدتين في سورة الحج فلا
يقرأها، يعني: لا يقرأ السورة، والرواية الأخرى: (فلا يقرأهما) يعني: آيتي
السجدة.
وهنا بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا النص، هل يجوز للإمام أن يقرأ في
الصلاة ما شاء من آيات السجدة على غير عادة منه مع الناس؟ مالك رحمه الله
يقول: لا يجوز للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في الصلاة الجهرية ولا في
السرية ليسجد بنفسه؛ لأنه إن قرأ سراً بآية سجدة فسجد، فالناس لا يعلمون
لماذا سجد، وإن قرأ في الجهرية سورة فيها سجدة، فقد يسمع البعض ويعلم حكم
السجدة في تلك السورة فيسجد، والبعض قد لا يعلم حكم السجدة فيها أو لا يسمع
فلا يسجد، فيكون هناك اضطراب، وقد يقرأ الإمام السورة التي فيها السجدة ولا
يسجد؛ لأنه غير ملزم، ولكن المأموم يعلم أنها موضع سجدة فيسجد ظناً منه أن
الإمام قد سجد، إذاً: فيحصل الاضطراب، ولهذا قالوا: لا ينبغي للإمام أن
يقرأ سورة فيها سجدة على غير وفاق من المجموعين، والآن يعلم الناس
مشروعيتها.
ولا ينبغي أن يقرأ بها الإمام، والكل يعلم أن فيها سجدة، ويمر دون أن يسجد؛
مخافة أن يسجد المأموم لسماع آية السجدة ويكون الإمام لم يسجد، فإن كان
يريد أن يسجد فيها فليقرأ وليسجد، وإن كان لا يريد أن يسجد فيها فلا
يقرأها؛ لئلا يوقع ارتباكاً عند الناس.
حكم تخصيص قراءة
سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة
يأتي هنا سؤال: لماذا خصت سورة السجدة بصلاة الفجر يوم الجمعة؟ ينص ابن
تيمية رحمه الله وغيره من الأئمة؛ أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام،
ويوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه جاء في النصوص أن
الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم الجمعة، وأسجد الملائكة يوم الجمعة، وأسكنه
الجنة يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وتلقى الكلمات من ربه فتاب
عليه يوم الجمعة، ثم جاءت الأحاديث بأن (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد
قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) ، ويوم الإثنين جاء عنه صلى
الله عليه وسلم أنه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل فقال: (أما يوم الإثنين
فيوم ولدت فيه وأنزل علي فيه) ، وسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]
نزلت في يوم الإثنين، وهجرته ودخوله المدينة في الهجرة كان يوم الإثنين،
ووفاته صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين؛ فقالوا: يوم الإثنين يوم محمد
ويوم الجمعة يوم آدم، فتأتي سورة السجدة، والإنسان معها وفيها قصة الإنسان،
ويوم البعث، وكذلك فيما ذكر الدهر: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ
مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا
الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:1-2] ، ويأتي فيها بيان
الموعد ويوم القيامة والمصير؛ فقالوا: هذا يوم خلق آدم فتُقرأ السورتان
تذكيراً للمأموم بيوم القيامة وببدء وجود الإنسان؛ ليعمل لذلك اليوم، فكانت
هناك المناسبة لقراءة سورة السجدة؛ لأن فيها خلق الإنسان، والبعث والمعاد
والجزاء، وكذلك سورة الإنسان؛ لأن البعث والمعاد يوم الجمعة وهذه صبيحة
الجمعة، هكذا يقولون.
إذاً: من لم يسجدهما فلا يقرأها، وعليه أن يتجنبهما ويتركهما.
ومما ينبه عليه العلماء أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمد إلى نص السجدة
ويقرأها، مثل: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ، ويسجد، بل
يجب عليه أن يأتي بما قبلها.
حكم السجدة إذا كانت
في آخر السورة
ومن الأحكام: لو أن السجدة كانت في آخر السورة وقرأها في الركعة فسجد،
فسيكون السجود عند التلاوة قبل الركوع، فكيف يأتي بالركوع: أينهض من سجوده
راكعاً، أو أنه يقف معتدلاً بعد السجدة ثم يركع؟ قالوا: إن صادف في قراءته
آية سجدة في نهاية السورة فسجد لها نهض واستوى قائماً؛ لأن الركوع لا يكون
إلا من قيام لا من هبوط في الأرض، فإذا استوى قائماً يقرأ من السورة التي
بعد السجدة بعض الآيات ويركع عن قراءة وقيام، والله تعالى أعلم.
شرح أثر عمر: (إنا
نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)
قال رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس! إنا نمر
بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) رواه البخاري] .
بإجماع العلماء أن سجود التلاوة ليس بواجب؛ ولكن كما أشار عمر رضي الله
تعالى عنه: أن من سجد فقد أصاب، إذاً: الصواب هو مطلب كل إنسان، وأيضاً لو
تتبعتم -يصعب علي تتبعه الآن- مواضع السجود الخمسة عشرة في كتاب الله تجدون
أنها إما عند إعظام المولى سبحانه، أو إعظام كتابه الكريم، أو تنويهاً
بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت ما قبل آية السجدة في الخمسة
عشرة موضعاً فستجد ما يوجب السجود ولو لم يأت الأمر به.
أي: ستجد إعظاماً لله، أو إكراماً وتعظيماً لكتاب الله، أو تكريماً لرسول
الله وللدعوة في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونذكر بعض النماذج على ذلك، ففي أول سجدة في سورة الأعراف، تجد أن السجود
هناك يتعلق بسجود الملائكة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}
[الأعراف:206] ، والآية التي قبلها قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] ،
وقبلها: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] ،
فهناك الأمر باستماع القرآن، وهناك الأمر بذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ}
يعني: هناك قوم تشبه بهم: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وهم الملائكة
لا يفترون عن ذكر الله، ولا يستكبرون عن السجود، وقد استكبر من استكبر،
وطرد بسبب استكباره، فلا تستكبر أنت وبادر إلى السجود.
وهكذا -أيها الإخوة- لو تتبعنا كل مواطن السجود الخمسة عشرة في كتاب الله
لوجدنا المعنى والسياق يدعوك لأن تسجد طواعية وإعظاماً لله سبحانه، والله
تعالى أعلم.
قوله: [وفيه: (إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشأ) وهو في الموطأ] .
وهذا الأثر هو سبب كتابتي رسالة: (سجود التلاوة) ؛ لأنا لما مررنا على هذا
الأثر في الموطأ ونحن طلبة متأخرون، حاولت أن أجد رسالة مجموعة في سجود
التلاوة فلم أجد، لا للمتقدمين ولا للمتأخرين، ولكنهم ينبهون عليها منثورة
في سور القرآن كاملة، ولكن مباحثها، والخلاف فيها، والراجح في ذلك،
وأحكامها الفقهية؛ لم أجد شيئاً من ذلك، فحاولت بقدر المستطاع تقريباً
لنفسي ولإخواني أن أجمع فيها رسالة فجمعتها بعنوان: (سجود التلاوة) ، وإن
شاء الله من يحصل عليها سيجد كل ما يخطر بباله من مباحث سجود التلاوة من
مواضعها المتفق عليه والمختلف فيه، وقد يكون الخلاف في السجدة في موضعها:
هل هو في هذه الآية أو التي قبلها، وقد يكون الخلاف في أحكامها الفقهية: هل
تكون بطهارة أو بغير طهارة، وهل تكون بسلام أو بغير سلام، وسيأتي هذا وننبه
أن الرسول كبر فسجد.
شرح حديث: (كان يقرأ
علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى
الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه)
رواه أبو داود بسند فيه لين] .
هنا جاء المصنف بجزئية من الأحكام الفقهية المتعلقة بالسجدة، وهي في قوله:
(كبر وسجد) ، هو يقرأ وليس في صلاة، فلماذا كبر؟ بعضهم يقول: هي تكبيرة
للانتقال؛ لأنه انتقل من القراءة إلى السجدة.
وبعضهم يقول: هي تكبيرة إحرام، فيكبر للسجدة كما يكبر لدخوله في الصلاة.
ومن هنا قالوا: هل يسلم أو لا يسلم؟ وهل هي صلاة أو ليست بصلاة؟ والجمهور
بصفة عامة يقولون: إن سجدة التلاوة صلاة، بمعنى: أنك تكون على طهارة،
وتستقبل القبلة، مع ستر العورة، وأن تكون في غير أوقات النهي، ومن عجب! ما
ينقل عن ابن حزم -وقد نقلناه في الرسالة- أنه يقول: إن سجدة التلاوة لا
يشترط لها شيء، ويقول: أنتم تقولون: فيها تكبير، والتكبير في كل وقت، فإذا
قلتم: فيها تكبير كتكبير الصلاة، فالصلاة فيها قيام وقعود، فهل تقولون
بالسجود أو بالتكبير أو بالسلام لكل قيام وقعود؟ وأنا أستعجب من عقلية هذا
الإمام الكبير أن يجعل القيام والقعود كالتكبير للسجدة، فالسجدة خاصة
بالصلاة، ولا توجد سجدة في غير صلاة، أما التكبير فنجده في كثير من
العبادات: نجده في الذكر بعد الصلاة، نجده عند رمي الجمار، نجده عند أيام
العيد، فسبحان الله! بل حتى إذا شب الحريق نكبر، وإذا لقينا العدو نكبر،
فالتكبير ليس خاصاً بالصلاة، وكذلك القيام والقعود ليس خاصاً بالصلاة، بل
يأتي القيام والقعود للأكل والنوم والمشي والروحة والمجيء.
إذاً: هذه التي ذكرها ليست من خصائص الصلاة فلا تعطى أحكامها، وأما السجود
فلا يوجد سجود إلا في الصلاة، فسجدة التلاوة تشابه سجدة الصلاة، وقد تجمع
السجدة بين الأمرين: بين الصلاة وبين التلاوة، كما لو تلا سورة فيها سجدة،
فسجد وهو في الصلاة، فتكون جزءاً من الصلاة للتلاوة.
إذاً: قياس غير السجدة عليها ليس موافقاً، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
سجود السهو وغيره [4]
إن من أسباب دوام النعم الشكر، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، ومن
الشكر للنعمة السجود للمنعم عند حصولها، كما يشرع لمن أنعم الله عليه بنعمة
إظهارها فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما يشرع له بذلها لمن
يحتاجها على حسب الاستطاعة.
شرح حديث: (كان إذا جاءه خبر يسره خر
ساجداً لله)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد
الأنبياء والمرسلين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه، (أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) رواه الخمسة إلا
النسائي] .
يروي هذا الصحابي الجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استجد له
أمر يسره، أو جاءه أمر يسره سجد لله شكراً.
وسجود الشكر يكون على نعمة تتجدد أو نقمة تدفع -أي: لمجيء خير أو لدفع شر-،
وهذان العنصران -مجيء الخير واندفاع الشر- هما مطمع جميع العقلاء في
العالم، قديماً وحديثاً، فالإنسان أياً كان اتجاهه أو منهجه أو ديانته، لا
يتحرك ولا يعمل ولا يسعى إلا لتحقيق أحد هذين الغرضين؛ إما أن يجلب نفعاً
لنفسه، أو يدفع ضراً عنها، ولهذا قيل: لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء
غيره الدهر ساعياً وقال آخر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما
يضر وينفع ينفع نفسه وصديقه وأهله، ويضر خصمه وعدوه، والذي لا يستطيع أن
ينفع ولا يستطيع أن يضر فهو في حكم العدم، ولذا عاب الله على المشركين
عبادة الأصنام فقال سبحانه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72-73] ، هل جاءكم منهم نفع
فتعبدونهم طمعاً في نفعهم؟! وهل يدفعون عنكم ضراً فتعبدونهم ليدفعوا الضر
عنكم؟! إذا كانوا لا ينفعونكم ولا ترجون نفعهم، ولا يضرونكم ولا تخشون
مضرتهم، فلماذا تعبدوهم؟! يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا تجددت له نعمة -أي: جاءه شيء يسره- سجد شكراً لله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً كما ذكره صاحب المنتقى بشرح
الشوكاني: (أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة، فوصل
إلى موضع بسام أو إلى جهة الجحفة فسجد سجدة طويلة، ثم نهض ورفع رأسه ورفع
يديه ودعا، ثم سجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد
الثالثة، فقيل له في ذلك، قال: سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها فسجدت
شكراً لله، ثم قمت فسألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها الثاني فسجدت
شكراً لله، ثم سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني الثلث الثالث فسجدت شكراً
لله) ، هذا العطاء لا شك أنه عظيم، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في مواطن
أخرى أن: (لكل نبي دعوة مستجابة قد عجل له بها، وادخرت دعوتي عند الله
شفاعة لأمتي) ، ونحن نعلم جميعاً أن الشكر على النعمة من عوامل حفظها،
والله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا أن من حق المولى المنعم أن يُشكر فقال:
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] .
وهذا دعاء وتعليم للإنسان أن يشكر الله على نعمته، وكما جاء في الحديث: (إن
الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، ونحن في
قانون البشر، لو أن لك خادماً أو مملوكاً وأنت تحسن إليه وتعطيه كل ما
يحتاجه وزيادة حتى يكون في خير حالة، ولكنه يخفي هذا، ويظهر بمظهر من لا
شيء عنده، فيقال لك: يا فلان! أهملت خادمك، وبخلت عليه، فتقول: لا والله!
أنا قد أعطيته وأعطيته ولكنه لا خير فيه، ولا يثمر فيه معروف.
في غزوة تبوك نزلوا منزلاً، وجاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بغرارة فيها قثّاء، فقدمه لرسول الله فأكل ثم قال: (من أين لك هذا؟) قال:
جئت به معي من المدينة، فخرج غلام له ليذهب إلى الإبل وعليه ثياب رثة،
فقال: (أليس عنده ثوب خير من هذا؟) قال: بلى عنده في الغرارة، فدعاه وأمره
أن يغتسل، وأن يلبس الثوب الجديد، فلبسه فقال: (ضرب الله عنقه أليس هذا خير
من ذاك؟) فسمعها الغلام وقال: في سبيل الله يا رسول الله! قال: (في سبيل
الله) ، فضربت عنقه في سبيل الله في تلك الغزوة.
ونحن ننبه أن العادة في البر أن يلبس الإنسان الثياب العادية؛ لأنها معرضة
للتراب وللشق ولكذا ولكذا، وإذا جاء عند الناس يلبس الشيء الفاضل: كما فعل
سيد عبد القيس، عندما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة أسرع الوفد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بثياب السفر، فجلس هذا عند الإبلن وعقلها، وجمع
الأمتعة، وأخرج عيبته، وأخرج منها أحسن حلة عنده، فلبسها وقدم على النبي
صلى الله عليه وسلم في أحسن حال، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً
من بعيد، وسع له بجانبه، وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم
والأناة.
فقال: خلق تخلقت بهما أم جبلة جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلة، قال: الحمد
لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) .
يهمنا أنه عند مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج أحسن ثيابه، ولكن
هذا الغلام لم يتركه صلى الله عليه وسلم في ثياب السفر وثياب البر
والبادية؛ لأنه يعاني الإبل، ونحن نعلم أن من أساليب الحرب المظاهر، وقد
أباح الإسلام في ميدان القتال وأرض المعركة ما لم يبحه في أرض السلم وعدم
القتال: فأباح لبس الحرير، وأباح التحلي بالذهب في السلاح، وأباح البخترة
في المشي كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنها لمشية يبغضها الله إلا
في هذا الموطن) ؛ لأن العدو إذا رأى خصمه في أبهة النعمة، ومظاهر الخير،
انكسرت نفسه، وقال: هذا إنسان واقف بنفسه، شبعان بخيراته، أما إذا رآه
ضعيفاً هزيلاً رث الهيئة، فسيزدريه بنظره، فيتقوى عليه بنفسيته.
شكر النعم سبب في
دوامها وزيادتها
إن إظهار النعمة فيه شكر للمنعم، وسبب في دوامها، فشكر النعم موجب
لزيادتها، ونحن نعلم جميعاً قصة الثلاثة النفر الذين كانوا قبلنا، يقول صلى
الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ثلاثة نفر: أبرص وأقرع وأعمى، أراد
الله أن يبتليهم، فأرسل الله ملكاً إلى الأول فقال: يا هذا! ما هذا الذي
أراه بك؟ قال: ابتلاء، قال: ماذا تريد وتحب وتتمنى؟ قال: أتمنى أن يعافيني
الله من هذا البلاء الذي استقذرني الناس بسببه؛ فمسحه فإذا به معافى، قال:
ماذا تحب من النعم؟ قال: الإبل فأعطاه شيئاً من الإبل ودعا له بالبركة
فيها، ثم أتى إلى الثاني، قال: ما هذا الذي أراه بك، قال: ابتلاء، قال:
ماذا تريد؟ قال: أسأل الله وأتمنى على الله أن يذهب عني هذا الذي تجنبني
الناس بسببه، فمسح عليه فعافاه الله، فقال: ماذا تحب؟ قال: البقر فأعطاه،
وجاء إلى الأعمى فقال: من متى أنت كفيف البصر؟ قال: من كذا، قال: وماذا
تريد؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فمسح عينيه فأبصر، قال: ماذا تريد من
النعم؟ قال: الغنم، فأعطاه وصبر على الثلاثة مدة؛ ثم جاء إلى الأول على
الصورة التي كان عليها، جاءه في صورة رجل أقرع مستقذر، فقال: رجل مسكين قد
انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك
بعيراً أتبلغ به في طريقي؛ لأني منقطع وابن سبيل، فقال: الحقوق كثيرة،
فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله! فقال:
إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى
ما كنت، فرجع كما كان، وذهب عنه ماله، وجاء إلى الثاني كذلك، وجاء إلى
الثالث وقال له: غنيمات أتبلغ بها في الطريق، قال: اذهب فخذ ما شئت، ودع ما
شئت، والله! لقد كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله،
والله! لا أرد أحداً أخذ شيئاً لله أبداً، قال: أمسك عليك نعمك، واحمد الله
على ما أنعم عليك، وشكرت نعمة الله عليك فدامت لك، أما صاحباك فقد أنكراها
وتنكرا لها؛ فأذهبها الله عنهما) .
إذاً: شكر النعمة يحفظها، ومن هنا جاءت النصوص في كتاب الله وفي سنة رسول
الله بالحث على شكر النعمة لأي نوع من أنواعها، وأعظم نعم الله على الإنسان
هي نعمة الإسلام، بل هي أعظم من نعمة وجوده في الدنيا.
النعم التي لا كسب
للإنسان فيها
يقول العلماء: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، بل هي محض إنعام من الله
عليه: الأولى: إيجاد الإنسان من العدم فأنت -أيها الإنسان- قبل أن توجد إلى
الدنيا طفلاً؛ ماذا عملت حتى جئت إلى الدنيا؟ لم تعمل شيئاً، فإن قلت:
أبواي عملا، نقول لك: على رسلك، أبواك سعيا لقضاء حاجتهما، ولكن هل كل
التقاء رجل بامرأة يأتي منه ولد؟ لا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50]
إذاً: إتيان الإنسان إلى هذا الوجود نعمة من الله لا كسب له فيها.
النعمة الثانية: نعمة الإسلام، فالإنسان إذا كان مسلماً، ولو كان له ألف جد
في الإسلام، فإن الإسلام نعمة من الله عليه، وقد رأينا الذين عاشروا عصر
الرسالة والدعوة، فمنهم من أسلم، ومنهم من مات على الكفر؛ فهي منح من الله،
وكما نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد
العمرين) فاختار الله عمر بن الخطاب على أبي جهل عمرو بن هشام.
إذاً: كان هناك اختيار من الله، وقضية إسلام عمر مشهورة.
وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وكما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة،
فأبواه يهودانه أو يمجسان أو ينصرانه) .
إذاً: أنت حينما ولدت، وقدر الله مجيئك إلى الدنيا، هو الذي قدر مجيئك بين
أبوين مسلمين، أو نصرانيين، أو يهوديين، فالمولود الذي يولد بين أبوين
مسلمين؛ هل كان له كسب في هذا الاختيار؟ وهكذا المولود الذي ولد بين أبوين
نصرانيين: هل كان له كسب اختيار الأبوين؟ ليس لأحد في هذا اختيار.
إذاً: كل هذا من عند الله، وكونك تولد من أبوين مسلمين؛ أول ما يطرق سمعك:
الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، قد قامت الصلاة، لأن
المولود عند ولادته يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، وأن تقام الصلاة في أذنه
اليسرى، فاختيارك بين أبوين مسلمين، نعمة أعظم عليك من نعمة ولادتك؛ لأن من
ولد بين أبوين غير مسلمين يتمنى لو لم يكن وجد، كما قال الله: {وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، ولكن المسلم موته
امتداد لحياة أخرى.
النعمة الثالثة: دخول الجنة كما جاء في الحديث: (والله! لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ،
يقول العلماء في هذا: والأعمال هذه التي عملها الإنسان في عمره إذا كان
عمره عشرين، أو خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة، من صيام وعبادات، قالوا: هذه
لا تعادل نعمة الأعضاء التي في جسمه، مدة ستين أو سبعين سنة، أذنه يسمع بها
ستين أو سبعين سنة، قلبه ينبض في صدره ستين أو سبعين سنة، ولم يدفع في هذا
أي مقابل، قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
[الذاريات:21] فلو قابلنا عبادته بما أنعم الله عليه في نفسه وفي جسمه؛ لما
وفى حق جسمه الموجود، فضلاً عن نعمة الإسلام التي لا يوازيها شيء.
إذاً: عمله لا يوازي أن يكون ثمناً للجنة، وإنما هي منحة من الله سبحانه،
وأما قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ، فكما كنا نسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه يقول: المهم هو دخول الجنة بفضل من الله، فإذا دخلوا
الجنة فهناك يختصمون كيف شاءوا، ولكن المهم بطاقة الدخول، كما لو كان عندنا
مثلاً وليمة ترسل فيها بطاقات يكتب في أسفلها: الرجاء عند الحضور إبراز هذه
البطاقة، فإذا دخلت بالبطاقة هل هو محضور عليك موطن من مواطن الدعوة؟
الجواب: لا، المهم أنك قد اجتزت بالبطاقة؛ لأن البطاقة أتتك من صاحب
الوليمة وصاحب الدعوة والاحتفال، تفضل بها إكراماً لك أن تحضر هذا الحفل،
فإذا حضرت لا يحضر عليك فاكهة ولا طعام ولا شيء مما هو في الوليمة، ولله
المثل الأعلى، فقالوا: دخول الجنة فضل من الله، وقالوا: كل إنسان من بني
آدم له مقعدان؛ مقعد في النار إذا كفر، ومقعد في الجنة إذا أسلم، كل واحد
من جميع الأمم، وهذا يؤيده الحديث: (إذا مات ابن آدم، ووضع في القبر، إن
كان مسلماً فتح له باب إلى النار فيقال: هذا مقعدك لو لم تسلم ثم يقفل عنه،
ويفتح له باب من الجنة يقال: هذا مقعدك يوم القيامة فيقول: يا رب! أقم
الساعة، أقم الساعة، -والعكس- إذا كان كافراً فتح له باب إلى الجنة، ويقال:
هذا مقعدك لو آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له الباب الثاني فيقول: رب لا تقم
الساعة، رب لا تقم الساعة) ، وكما في الحديث الآخر: (من أحب لقاء الله أحب
الله لقاءه) .
إذاً: كل إنسان له مقعد مهيأ في كلا الدارين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛
فمقاعدهم في النار هل تكون خالية أو أن أحداً يحل محلها؟ وإذا دخل أهل
النار النار فمقاعدهم في الجنة هل تكون خالية أو أن أحداً ينزلها؟ الجواب:
لا تكون خالية، إنما بعد أن يستقر كل فريق في منزله -نسأل الله العافية
والمعافاة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجيرنا وإياكم من النار-
فتلك الأماكن التي خلت من أهلها في الجنة، وذهبوا عنها إلى النار، تقسم على
أهل الجنة، وهل تقسم على مبدأ المساواة؟ الجواب: لا؛ لأن أهل الجنة ليسوا
على مرتبة واحدة، وإنما (بما كنتم تعملون) ، فمنهم من يعطى مقعدين، ومنهم
من يعطى ثلاثة؛ لأنه في درجة عالية، ومنهم من يحصل على مقعد واحد، ومنهم من
لا يأخذ شيئاُ، ويكتفي بمقعده فقط، كما ورد في خبر آخر من يدخل الجنة: (آخر
من يخرج من النار رجل يقول: يا رب! قربني من الجنة، وباعدني من النار، ولا
أطلبك شيئاً غيره، فيقول له: لك مثل الدنيا ومثله معه ... ) .
إذاً: هذا الميراث أو التوارث إنما هو على درجة الأعمال بعد أن يستحقوا
الدخول، أما قبلها فالدخول فضل من الله، وقد جاء في الحديث ويذكره العلماء
في باب الشفاعات من كتب العقيدة: (أول من يطرق باب الجنة محمد صلى الله
عليه وسلم، فيقول خازن الجنة: من؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: نعم أمرت ألا
أفتح لأحد قبلك) .
إذاً: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، وهناك نعم أخرى قد لا يكون لك كسب
فيها، بل تكون منحة من الله، كما جاء في الحديث الثاني: (جاءني جبريل
فبشرني - بماذا بشره؟ - بأن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) ،
هل هذه من عند رسول الله؟ الجواب: لا، وإنما هي منحة من المولى سبحانه
وتعالى، وتكريماً له ولأمته في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
إذاً: سجود الشكر من دواعي الاعتراف بالنعمة، وإذا تأملنا تعداد النعم على
المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن في آخرها السجود: {وَالضُّحَى *
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3]
، وقد كنا دائماً نتأمل في أنواع القسم في القرآن وظهر لنا -والله تعالى
أعلم- أن كل قسم مع المقسم عليه بينهما ارتباط وثيق جداً، وهذا حري بأن
يبحث بحثاً علمياً متقصياً، وعلى سبيل المثال:
المناسبة بين القسم
والمقسم به في القرآن الكريم
إن الله سبحانه وتعالى أقسم بالنجم في سورتين، على مقسم عليهما مختلفين،
فقال سبحانه في سورة الواقعة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
[الواقعة:75] ، أقسم بمواقع النجوم، وأين مواقعها؟ مواقعها في السماء:
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ} [الواقعة:76] ، أي: أن القسم
بمواقعها وبُعدها وحفظها وصيانتها عظيم جداً {إِنَّهُ} [الواقعة:77] ، أي:
المقسم عليه {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] ، (في) ليس فقط قران كريم،
وإنما: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة:78-79] ، ونأتي إلى القسم الثاني في سورة النجم، قال تعالى:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، انظر أين المواقع! {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ
الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا}
[النجم:1-8] ، النجم هو النجم ولكن القسم الأول بمواقعه، وكم بعد مواقع
النجوم، وهل تستطيع قوة من جن أو إنس أن تصل إلى مواقع النجوم؟ وإذا وصلت؛
هل تستطيع أن تغاير في مواقعها؟ الجواب: لا تستطيع، فكما أن مواقع النجوم
بعيدة كل البعد عن اللمس والاقتراب والتغيير والانحراف؛ فإن القرآن الكريم
في صيانته وحفظه عن التغيير والتبديل كذلك، ولهذا قال سبحانه: {فِي كِتَابٍ
مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] أي:
الملائكة، إذاً: بين القسم بمواقع النجوم وبين القرآن المكنون في اللوح
المحفوظ مناسبة.
نأتي إلى القسم الثاني: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} هوي النجم حركته، وهوي
النجم عند العرب هو مثل الساعة الإلكترونية عندنا، كانوا يقيسون به الزمن
ليلاً في الظلام كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، فالنجم هو الهادي لهم في ظلمات البر والبحر،
والسالك الساري على ضوء النجم في سريانه وهويه لا يضل لا في بر ولا في بحر،
فلكأنه يقول: نجمكم محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا
غَوَى} كما لا يضل المهتدي بالنجم في هويه، فهل بينهما مناسبة أو لا؟
الجواب: بينهما مناسبة، بل -والله- إنها لمناسبة قوية، وهكذا لو تتبعنا كل
قسم في كتاب الله لوجد أن بين القسم والمقسم عليه مناسبة، وبهذا نعلم معنى
كلام المفسرين جزاهم الله خيراً: الله يقسم بما شاء على ما شاء، ولا يجوز
أن يقسم العبد إلا بالله، وإذا أقسم الله بشيء من مخلوقاته فإنما يقسم به
لدلالته على قدرته، فلو جئنا بقسم النجوم في مواقعها إلى قوله: {مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ} فهل يتناسب معه الجواب؟ لا يتناسب معه فالمسألة ليست مجرد
دلالة على عظمة الله ولكن لها دلالة خاصة في موضوعها.
وإذا جئت أيضاً إلى البلد في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ *
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1-4] ، وقوله تعالى: {وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1-4] ، سبحان الله!
الإنسان في أحسن تقويم وهو في كبد، والموضوع هذا يأخذ علينا شيئاً طويلاً،
وأرجو الله سبحانه أن يهيئ أحد طلبة العلم ليتتبع هذا في كتاب الله، وألا
يتقيد بأي تأليف قديم، وإن كان يستنير ويستفيد مما تقدم في التوجيه فهذا
خير كثير، ولكن ينظر إلى الربط بين القسم والمقسم عليه به ويستخلص ما
بينهما من مناسبة.
ونرجع إلى قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2]
، الضحى بالنسبة للزمن هو في النهار، فجاء بأفضل الأوقات وأهدئها وأنسبها
وأطيبها من طلوع الشمس إلى غروبها، وهو: وقت الضحى؛ ولذا كانوا يمتدحون
النساء في العرب، ويقولون: نئومة الضحى يعني: في أطيب الأوقات تنعم بالنوم
ولا تشتغل مثل الشاغلات {وَالضُّحَى} يقسم المولى بأطيب وأنسب وأحسن
الأوقات الزمنية في النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] الليل
الساجي هو الهادي الذي يغطي بظلامه دونما عواصف ولا رعود، بل هو شاجٍ كما
يقال: الطرف الشاجي أي: الهادئ الناعس إذاً: يقسم الله بخيري الزمن، ووحدة
الزمن هي حياة الإنسان: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ،
بل أنت في أحسن حالة عنده كأحسن حالتي الزمن ليلاً ونهاراً، كأنه يقول: أنت
في وداعة وفي لطافة وفي إحسان من الله طيلة الزمن ليلاً ونهاراً: {مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى *
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:3-5] ، وهل بقي عطاء أكثر
من هذا؟ حتى جاء أنه قال: (لا أرضى أحداً من أمتي في النار) ، ولاحظوا بهذه
المناسبة قصة أبي بكر الصديق: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ
يَرْضَى} [الليل:19-21] ، انظروا المشاركة هنا في قوله: {وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ} ، وهذه منزلة أكبر من قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، ثم
قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا
تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9-11] ، أي نعمة
أنعمها الله عليك، سواء من نعم الدنيا، أو من نعم الرسالة، أو من نعم
الآخرة.
إذاً: المولى سبحانه وتعالى يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم نعمه، ثم
يبين له شكرها من نوعها.
أنواع شكر النعمة
يقولون: شكر النعمة إما أن يكون بعين النعمة، مثل إذا أنعم الله عليك في
مزرعتك بثمار وخيرات، فشكر تلك النعمة أن تطعم المحروم منها، وأنتم تعلمون
قصة أصحاب الجنة وما كان يفعله أبوهم، ثم جحدوا ذلك وتعاهدوا:
{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] إلى
قوله: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا
عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:24-25] ، فجحدوا النعمة التي كان أبوهم
يشكرها، وكان يستثني للمساكين حقهم، فلما جاءوا وبخلوا بها: {فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] .
وتعلمون قصة صاحب المزرعة التي جاءت في حديث: (كان رجل يمشي في فلاة من
الأرض، فمرت سحابة فسمع صوتاً يقول: اذهبي فأمطري واسقي مزرعة فلان! انظر
الحديث (في فلاة) يعني: ليس عنده أحد حتى يتوهم بأن هذا الصوت جاء من يمين
أو يسار- فمشى في ظل السحابة حتى جاءت إلى حرة ووقفت وأمطرت، فتجمع الماء
من الحرة في شرجة، وتتبع الماء فإذا رجل يحول الماء في حياض مزرعته، فقال
له: يا فلان! فقال: كيف عرفت اسمي وأنت لست من أهل الديار؟! قال: أخبرني
ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: وما شأنك؟ قال: الذي أسمعني اسمك، قال: وماذا
سمعت؟ قال: كذا وكذا، قال: نعم أما إني أحصد الثمر وأقسمه ثلاثة أقسام: قسم
أقتات به أنا وعيالي طيلة العام، وقسم أرده فيها بذراً، وقسم أتصدق به،
قال: بهذا سقيت) .
إذاً: هناك: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ} [القلم:17] ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} كان الجزاء: {فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ} ، وهنا صاحب المزرعة لما كان يقسمها أثلاثاً ويتصدق
بالثلث كان الجزاء أن سقاها الله بالسحابة، إذاً: شكر النعمة قد يكون من
عينها.
ولهذا يقولون أيضاً: من شكر النعمة بعينها أن تعين أخاك فيما تعرفه وهو لا
يعرفه وفي الحديث: (وأن تعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها صدقة) ؛
لأنه في حاجة إلى نعمة العافية التي عندك فتستخدمها في حمله على الدابة،
تفيض عليه بزائد طعامك، بزائد مالك، تنصحه، تعلمه، والرسول صلى الله عليه
وسلم مر على رجل يسلخ شاة وهو لا يعرف السلخ فقال: (ألا أريك! وكشف عن كمه
صلى الله عليه وسلم وأدخل يده الشريفة بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا
فافعل) ، لا يعلم الناس كل شيء، فما تحسنه علمه أخاك، وكذلك طالب العلم إذا
أنعم الله عليه بشيء فليبذله ولا يكتمه، وهكذا إذا استنصحك إنسان وأنت تعلم
الحقيقة فعليك أن تنصح وأن تبين، وهكذا قد يكون شكر النعمة بعينها وقد يكون
باللسان إلى غير ذلك، ومن ذلك السجود لله شكراً على هذه النعمة.
ومما وقفنا عليه: أن النجاشي رضي الله تعالى عنه استدعى المهاجرين الأولين
الذين كانوا عنده فجاءوا إليه، فلما دخلوا عليه وفداً فزعوا لما رءوه في
ثياب رثة، حاسر الرأس، وجالساً على التراب، وليس على فراش، فقال له جعفر:
ما هذا أيها الملك؟ ماذا حدث؟ فقال: إن نبيكم محمداً لقي عدوه من العرب
بأرض يقال لها بدر، وأنا أعرف ذلك الوادي، فهو كثير الأراك، وقد كنت أرعى
به إبلاً، وقد نصره الله على عدوه، وإن مما أنزل على عيسى عليه السلام: إن
الله يحب من عبده إذا أحدث له نعمة أن يحدث له تواضعاً وشكراً، فهذا الذي
تراه مني تواضعاً لله وشكراً لله على نصره محمداً على عدوه، ففرح الصحابة،
وقد كانوا خائفين من حدوث شيء.
إذاً: شكر النعمة بالتواضع وبالسجود وبإظهار المذلة والفاقة والحاجة أمر
قديم مما أنزل على عيسى وعلى غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام
فأطال السجود ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (سجد
النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال: إن جبريل أتاني
فبشرني فسجدت لله شكراً) ، رواه أحمد وصححه الحاكم] .
وهذا يشهد له حديث التأمين ثلاثاً عند أن صعد صلى الله عليه وسلم على
المنبر وكان ثلاث درجات فقال: (آمين، وفي الثانية: آمين، وفي الثالثة:
آمين، فسئل فقال: أتاني جبريل عند الأولى وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت
عنده فلم يصل عليك، قل: آمين.
فقلت: آمين.
والثانية: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة، فقل: آمين.
قلت: آمين.
رغم أنف امرئ أدرك رمضان وخرج فلم يغفر له، وفي بعض الروايات: باعده الله
من النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين) ، وفي الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) ،
فهذه نعمة قابلها بأن سجد لله شكراً عليها.
شرح حديث: (سجود
النبي عليه الصلاة والسلام عندما بلغه إسلام أهل اليمن)
قال المصنف رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم (بعث علياً إلى اليمن، فذكر الحديث.
قال: فكتب بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر
ساجداً شكراً لله تعالى على ذلك) رواه البيهقي وأصله في البخاري] .
وهذه نعمة كبرى بأن قطراً بكامله يسلم حينما أرسل إليه علياً، وكان قد
أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً وأميراً وقاضياً، وفي قصة القضاء:
(قال: ترسلني وأنا حدث السن قال: لا تقضي بين اثنين حتى تسمع من الثاني كما
سمعت من الأول، قال: فعلمني القضاء آنذاك) ، إلى آخره، وشبيه بهذه القصة
قصة الصديق رضي الله تعالى عنه، عند أن جاءه خبر مقتل مسيلمة سجد لله
شكراً، وهناك آثار عن السلف في هذا الباب كثيرة.
الخلاف في حكم سجود
الشكر
أحمد والشافعي؛ يريان أن سجود الشكر مشروع لهذه النصوص، وأما أبو حنيفة
ومالك رحمهما الله فلا يريان سجود الشكر، ويقولون: لقد تجددت نعم كثيرة على
رسول الله صلى عليه وسلم، ولم يرد أنه سجد لها، والآخرون يقولون: إن سجود
الشكر ليس بلازم كسجود الصلاة، بل هو جائز، وهو إشعار بنعمة الله على
الإنسان، ثم كونه صلى الله عليه وسلم تتجدد له النعم؛ لا نستطيع أن نقول:
إنه لم يسجد لها؛ لأن النفي يحتاج إلى أدلة، وكما قالوا: المثبت مقدم على
النافي، فإذا جاءت أحاديث وآثار عن السلف أنهم فعلوا ذلك فلا مانع من
اعتبارها سجدة مشروعة.
هل سجدة الشكر مثل
سجدة التلاوة في الأحكام أم لا؟
من العلماء من يرى أن سجدة الشكر كسجدة التلاوة على الخلاف المتقدم: تحتاج
إلى طهارة، وإلى استقبال القبلة، وإلى ستر العورة، وإلى إباحة الوقت، ومن
العلماء من لا يرى ذلك، ويجيزها على أية حالة، واستدل على ذلك: بأن ابن عمر
كان يسجد للتلاوة وللشكر على غير طهارة، وقالوا: إن الإنسان يسجد للشكر ولو
كان على الدابة، أي: يومئ إيماءً، فعلى هذا قالوا: إن سجدة الشكر أقل في
التكليف والشروط من سجدة التلاوة.
وختاماً أيها الإخوة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعنا وإياكم شكر
النعمة، وأن يحفظها علينا وعليكم في ديننا، وفي دنيانا، وفي أبنائنا، وفي
بلدنا، وفي كل نعمة أنعمها الله سبحانه وتعالى علينا في هذا البلد الآمن
الطيب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|