شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [1]
فرض الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، وجعل لها من النوافل والسنن ما يجبر
نقصها، ويكمل خشوعها، ومن هذه السنن: ركعتا الفجر وأربع قبل الظهر وبعده،
وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فمن حافظ على هذه
النوافل بنى الله له بيتاً في الجنة، وحرمه على النار، فيا فوز الفائزين!
ويا نجاح المفلحين!
فضل كثرة السجود لله
تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه
قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: سل.
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ فقلت: هو ذاك، قال: فأعني
على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
هذا الصحابي الجليل في بعض أخباره كما سمعنا من المشايخ رحمهم الله خدم
النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدى له أمراً فأراد النبي صلى الله عليه وسلم
أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم، قال: أمهلني، فرجع
إلى زوجه وأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يسأله أي شيء
مكافأة له على عمل ما، قالت: أويفعل؟ قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله
مرافقته في الجنة.
لم تقل: سله عملاً أو منصباً أو مالاً، وهي ما هو الذي يخصها من مرافقة
زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لو سأل مالاً أو منصباً يمكن أن
تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين: إما من باب: النصح لله
ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها ووفائها لزوجها، أنها
تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم
من امرأة أعقل من عشرات الرجال! وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] إذاً: تكون
الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا دخل الجميع الجنة
مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله الزوجة إلى مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء
بالأبناء والأزواج بالزوجات.
يهمنا في هذا التوجيه: أن الرجل أخذ بهذا الرأي فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال له: طلبتني أن أسألك؟ قال: نعم، قال: ووعدتني أن تعطيني؟ قال:
نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة.
لم يطلب مجرد دخول الجنة، بل طلب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها،
وهذه مسألة غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، قال
له: أوغير ذلك؟ اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك، فتمسك
الرجل بوعد رسول الله.
انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، هل قال له: أنا أضمن لك هذا؟ بل وجهه إلى
ما يفعله هو، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فهو يقول له: يمكن أن يكون
لك ما أردت بمساعدة من عندي، بما له صلى الله عليه وسلم من حق الشفاعة،
وبما له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى أمر
فقال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) كثرة السجود توحي بزيادة سجود مطلقة
سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة مطلقة غير مقيدة لا
بزمان ولا بمكان، وهل السجود مراد لوحده فقط؟ السجود هنا بمعنى الصلاة.
إذاً: يفتتح المؤلف رحمه الله هذا الباب بهذا الحديث ليبين أن كثرة التطوع
تؤهل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم
فيمن يكون قريباً منه في الجنة، أنه قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في
الجنة) ، وقال: (أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) ، (أكثروا
من الصلاة عليَّ يوم الجمعة ... ) إلى آخره، فهناك مميزات وأعمال تدني من
تلك الدرجة، ولكن يهمنا في هذا الباب -باب التطوع في الصلاة- قوله: (أعني
على نفسك بكثرة السجود) .
النوافل التي حفظها
ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت من النبي
صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين
بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح) متفق
عليه.
وفي رواية لهما: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) .
ولـ مسلم: (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله يفصل في أنواع التطوع، وبدأ بالأهم أي: بالسنة
الراتبة مع الفريضة؛ لأن هذه السنن كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها ولا
يتركها، حتى إنه فاته بعض منها فقضاها في غير وقتها، وفاته بعضها حين اجتمع
ببعض الوفود فقضاها بعد خروج وقتها، كما حدث في فوات الركعتين بعد الظهر،
عندما جاء وفد عبد القيس فشغلوه عنهما حتى صلى العصر، فلما دخل بيته ذكرهما
فصلاهما، فسئل في ذلك: كنت تنهى عن الصلاة في هذا الوقت، وأنت الآن تصلي؟
فقال: (ركعتان بعد الظهر شغلت عنهما مع وفد عبد القيس فأنا أقضيهما) .
وكذلك ركعتي ما قبل الفجر، في عودتهم إلى المدينة لما عرسوا في الوادي،
فقال: (يا بلال! اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فعذره رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (ارتحلوا من هذا الوادي؛ فإن فيه شيطاناً)
فخرجوا من الوادي، وأمر بلالاً بأن يؤذن، فأذن، ثم صلوا سنة الصبح مع
فريضتها، فما تركها حتى وهو في سفر، وكذلك صلاة الوتر.
إذاً: هذه السنن تسمى الرواتب، أي: راتبة مرتبة منتظمة مع الصلوات الخمس،
وابن عمر رضي الله عنه له عدة روايات بعدة صلوات، وابن عباس وغيره.
فبدأ المؤلف بـ ابن عمر فقال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر
ركعات) وأخذ يفصلها، وهذا في أسلوب البيان من باب التفصيل بعد الإجمال،
وهذا مما يعطي الإنسان انتباهاً، ويسهل على الإنسان ضبطه، قال: (حفظت عشر
ركعات) ، ثم أنت الآن تنتظر التفصيل، هل يأتي بعشر أم بثمان؟ فعندما يأخذ
الإنسان الجملة، ثم يبدأ يأخذ التفصيل فإن ذلك يكون أدعى للمتابعة، وللضبط
عند السامع، وهذا أسلوب بياني رفيع يأتينا به ابن عمر رضي الله عنه، قال:
(حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين
بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين
قبل الصبح) وجاءت روايات بزيادة ركعتين سواء كان مع الظهر أو مع العصر، لكن
يهمنا في عدد العشر ركعات، فحديث ابن عمر: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين
بعدها، ثم ذكر ركعتين بعد المغرب) ، أين العصر؟ لم يذكر له شيئاً لا قبله
ولا بعده، وسيأتي له بيان آخر، قال: (وركعتين بعد المغرب في بيته) ، أين
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في مسجده، ولكن كان متحيزاً عن المسجد،
وهل كل إنسان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته أم أنه إذا ذهب إلى البيت شغل
فذهب الوقت، أم يصليها في المسجد؟ ومن كان بيته بمنزلة بيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم من المسجد كـ أبي بكر مثلاً حيث كان بيته بجوار المسجد،
والعباس كذلك ومروان، فمن كان بيته بمنزلة أو مقارباً لبيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم من المسجد، إن كان سيجلس في المسجد ولن يخرج إلى بيته فهل
يذهب ويصلي في بيته ويعود إلى المسجد، أم يصليها في المسجد حيث هو؟ يصليها
في المسجد، لكن إن كان صلى المغرب وسيخرج، إن كان بيته بمثابة بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أو قريباً من المسجد، وسيخرج فليصلها في بيته،
ولكن لماذا الصلاة في البيت؟ هل البيت مسجد؟ المسجد هذا يختص بـ (صلاة في
مسجدي هذا بألف صلاة) فلماذا لم يصلها في المسجد لكي يظفر بألف صلاة وذهب
وصلاها في بيته؟ قالوا: البيوت ينبغي أن يكون لها حظ من الصلاة سواء صلاة
النساء اللاتي تسقط عنهن الجماعة، أو صلاة الرجال من السنن والنوافل، وجاء
في الحديث: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) والمكتوبة تؤدى في
المسجد مع الجماعة، والسنن في البيت، فبعضهم يقول: خير صلاة المرء في بيته
ويدخل فيها الراتبة، وبعضهم يقول: لا، لا يدخل فيها إلا الصلاة المطلقة فقط
كقيام الليل والضحى؛ بعداً عن الرياء والسمعة، أما الراتبة فالكل يؤديها،
ولكن عندما يصلي الفريضة في المسجد ويخرج إلى البيت يصلي، هل البيت خال أم
أن فيه أناساً؟ لا شك أن البيت فيه أناس، وأقل ما يكون فيه الزوجة
والأولاد، فتكون صلاة النافلة في البيت بمثابة التعليم، ويأخذ البيت حظه من
بركة الصلاة: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ؛ لأن البيت الذي لا يصلى فيه
كالقبر المهجور، لكن الذي تكون فيه صلاة، ويسمع فيه القرآن وذكر الله
سبحانه وتعالى، هذا تحصل فيه البركة.
إذاً: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يذكر لنا من النافلة مما حفظه هو عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها) ثم تخطى
العصر، وجاء إلى المغرب فقال: (ركعتين بعد المغرب في بيته) ، وذهب إلى
العشاء فقال: (وركعتين بعد العشاء في بيته) رغم أن هناك نوافل مطلقة بعد
المغرب، وكذلك نوافل بعد العشاء وهي الوتر، ثم ذهب إلى صلاة الصبح.
وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر ابن عمر النوافل من أول النهار؟ ولماذا لم
يبدأ بالصبح؟ لعل ابن عمر نظر إلى أول صلاة فريضة من الصلوات الخمس، ونعلم
أن الصلوات الخمس فرضت ليلة الإسراء في الليل والرسول صلى الله عليه وسلم
نزل قبل الفجر وما صلى الصبح، ونزل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم
الصلوات الخمس، وكان أول نزوله لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة
الظهر، فكانت من جهة الفرضية كلها فرضت خمس صلوات كما في حديث موسى عليه
السلام، ولكن التطبيق العملي كانت بدايته من الظهر.
فأقول: لعل ابن عمر رضي الله عنه راعى هذه الناحية والله أعلم.
إذاً: هذه عشر ركعات نسميها: (عشر ابن عمر) وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان
قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
والمؤلف سيأتي بزيادة عن ذلك، سيأتي بأربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع
قبل العصر، فلماذا قدم بعشر لـ ابن عمر؟ لعل المؤلف رحمه الله -وهذا
استنتاج فقهي- ذكر العموم في التطوع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على
نفسك بكثرة السجود) ثم جاء يبين أقل الرواتب، وأقل صلاة راتبة هي ما جاءت
في حديث ابن عمر، وما جاء بعد ذلك لا ينهض في القوة بأن يساوي حديث ابن
عمر، لأنه سيأتي ويذكر لنا أربعاً قبل الظهر، وهي ليست في التوكيد
كالركعتين، وأربعاً بعد الظهر وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأيضاً سيذكر
أربعاً قبل العصر، وليست في التوكيد كالركعتين كذلك.
إذاً: المؤلف بدأ بالعشر وعلى هذا الترتيب الموجود ليبين أقل الراتبة في
اليوم والليلة.
قال: [وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) ] .
عندما قال: وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فكم زاد على العشرة؟
لا توجد زيادة في عدد الركعات، لكن هي زيادة تفصيل، أي: كأنه يقول: إذا كان
ظهره جمعة، وصلى الجمعة محل الظهر تكون النافلة ركعتين في بيته، وأما قبل
الجمعة فقد جاء الحديث مطلقاً: (من بكر وابتكر، وصلى ما تيسر له) فلم يحدد
لا ركعتين ولا أكثر ولا أقل.
إذاً: نقول: إن المؤلف رحمه الله من فقهه وإتقانه قدم حديث ابن عمر في
الصلوات الخمس في بيان أقل الراتبة، والجمعة لها صلاة قبلية وبعدية، ولكن
يختلفون فيها، فمنهم من يقول: نافلة الجمعة كالظهر تؤدى قبل وبعد، وبعضهم
يقول: لا، نافلة الجمعة قبلها ليس لها حد، وبعدها ركعتان، وبعضهم يقول:
أربع ركعات بعدها في المسجد وركعتان في البيت؛ لأن خير صلاة المرء في بيته.
هدي النبي صلى الله
عليه وسلم في سنن الظهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة) رواه البخاري] .
هذا نوع من التفصيل والزيادة، تقول أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان صلى
الله عليه وسلم لا يدع) بمعنى: لا يترك، (أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل
الغداة) ، والغداة: الصبح.
فهي تخبر بصورة شاهدتها، وسكتت عن بقية الأوقات الأخرى، كبعد الظهر وقبل
العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، ففي هذه الرواية تقول: (ما كان يدعهما) ،
لكن نستفيد من هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً ومداوماً
عليها، وابن عمر يقول: (حفظت عشراً وذكر ركعتين قبل الظهر) ، وعائشة تقول:
(ما كان يدع أربعاً) ، كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ يقول الفقهاء رحمهم
الله: رواية عائشة جاءت بزيادة أربع، وزيادة الثقة مقبولة، فقالوا: لعلها
تذكر أحياناً أنها رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً، وابن
عمر يذكر أحياناً أنه رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ركعتين ولا
معارضة في ذلك، أو أنه كان يصلي ركعتين في المسجد وركعتين في البيت، فـ ابن
عمر يرى ركعتي المسجد، ولا يرى ركعتي البيت، فيكون المجموع الذي كان يصليه
النبي أربع ركعات.
والذي يهمنا في هذه الرواية هو المواظبة والتأكيد عليها، أما ما يتعلق
بالصبح فقد جاءت روايات وأحاديث عديدة تبين أنه صلى الله عليه وسلم ما كان
يترك ركعتي الفجر والوتر لا في سفر ولا في حضر؛ ولذا قال الشافعية: إن سنة
الصبح سنة مؤكدة، وقال الأحناف: إن الوتر واجب لا كوجوب الفرض في الصلوات
الخمس، بل واجب على اصطلاح الأحناف، ومعنى ذلك: ما ثبت بنص قطعي من كتاب
الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً فهو الفرض، وما ثبت
بأخبار الآحاد فهو الواجب، فيرون أن الوتر قد أتت فيه أحاديث عديدة، وجاء
التحذير من تركه كحديث: (من لم يوتر فليس منا) قالوا: هذا أمر خطير، فهو
أمر واجب، والواجب على هذا الاصطلاح منزلة بين الفريضة في الصلوات الخمس
وبين النافلة مع الظهر والمغرب أو العشاء، والجمهور على أن الوتر ليس بفرض
وله مبحث سيأتي فيه كيفية وعدد ركعاته إن شاء الله.
وقدمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان بعد رجوعه من غزوة خيبر
عرسوا ليلة، فناموا حتى طلعت عليهم الشمس، وفارقوا ذلك الوادي، ثم أمر
بلالاً فأذن، فصلوا سنة الصبح وما تركوها، وإن كان قد خرج وقتها، وإن كانوا
في سفر والسفر تقصر فيه الفريضة، ومع ذلك لم يترك الرسول صلى الله عليه
وسلم ركعتي الفجر، وفي رواية: (صلوها ولو طاردتكم الخيل) ومع ذلك ليست
فريضة؛ لأنه جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم
والليلة) إذاً: لا يمكن لإنسان أن يأتي بصلاة يدعي أنها مفروضة مع الصلوات
الخمس لهذا الحديث، فالوتر وسنة الفجر والضحى كل ذلك خارج عن الفرضية،
بمعنى: الواجب عند الجمهور.
فضل ركعتي الفجر
الراتبة
قال المؤلف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله
عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) متفق عليه]
.
هذا تأكيد لما تقدم، فلم يكن صلى الله عليه وسلم أشد تعاهداً -يتعهده
ويداوم عليه- من تعاهده لركعتي الفجر، وهذا يدل على أن ركعتي الفجر من
المؤكدات في النوافل، وهي آكد من غيرها، وقد أشرنا سابقاً بأن كلمة (نافلة)
عامة، ويدخل تحتها السنة والمندوب والتطوع، وأشرنا بأن بعضها يتفاضل عن
بعض.
[ولـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ] .
(ركعتا الفجر) يعني: سنة الفجر، (خير من الدنيا) سبحان الله! ما أقل الدنيا
فيما يتعلق بالعبادة عند الله! وبعض العلماء ينبه تنبيهاً لطيفاً، فيقول:
الدنيا فيها فضائل كثيرة: كالنبوة، والرسالة، والعبادة، وكل أنواع الخير،
ولكن المراد بهذا: ما فيها من الزخارف الملهية كالأشجار والأنهار والبيوت
والقصور والأموال إلخ، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ
وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] إذاً: (خير من الدنيا وما فيها) أي: من
الأمور الدنيوية، أما العبادات فلا تدخل في ذلك.
فضل من صلى اثنتي
عشرة ركعة في اليوم والليلة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها،
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في
يومه وليلته بني له بهن بيت في الجنة) رواه مسلم.
وفي رواية: (تطوعاً) ] .
نحن حفظنا عن ابن عمر عشر ركعات، وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها تقول:
(اثنتي عشرة ركعة) .
فجاءت هنا زيادة، وكما أشرنا أن الزيادة إذا كانت من ثقة فهي مقبولة؛ لأنها
تتضمن ما كان أقل منها وتزيد عليه، فالاثنتا عشرة ركعة تتضمن العشر، فهي
تشتمل على العشر وتأتي بالزيادة، لكن لو أنها قالت: ثماني ركعات، فإن في
ذلك معارضة لحديث العشر، فإذا قالت: اثنتا عشرة أو أربع عشرة لا مانع؛ لأن
العشر المحفوظة داخلة ضمن الزيادة، وهو أيضاً على سبيل الإجمال ثم التفصيل.
قالت: (اثنتي عشرة ركعة) ، وسيأتي تفصيلها في رواية عند غير مسلم، الحديث
الأول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، وهنا (اثنتي عشرة ركعة
بنى الله له بيتاً في الجنة) ، يا سبحان الله! هل نقول: ما أهون بيوت الجنة
أم نقول: ما أعظم أجر الصلاة؟ الجنة ليست رخيصة، ولكن الثمن يقابل المثمن،
والمثمن هنا بيت في الجنة، لو قيل: لك بيت في المدينة، أو في الحرة من
اللِّبن، أو من الحجر أو عمارة على أن تصلي ألف ركعة المسألة صلاة ما فيها
مال ولا دينار، ولكن الصلاة رأس الإسلام وعموده وهي الحق المفروض لله
سبحانه وتعالى؛ ولأن الصلاة هي أكبر عون للعبد في دينه ودنياه، ولأنها أكبر
حرز للمسلم من الخطايا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}
[البقرة:45] ومما يلاحظ أنه قد أتى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] مرتين في حق بني إسرائيل، فجاء في حق
بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى
الْخَاشِعِينَ} [البقرة:44-45] إذاً: الصلاة كبيرة على بني إسرائيل هذا في
الأول، ثم تأتي في حق هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
[البقرة:153] فرق بين هذه الآية وبين الآية الأخرى، كأنها ليست ثقيلة، وإن
كانت هي في ذاتها لا شك أنها عبء وتكليف، ولا أقول: ثقيلة في قوله سبحانه:
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:5-6] الوحي تكليف ثقيل،
ولكن ناشئة الليل تقاوم وتعادل ذلك، فيكون هناك استعداد، وإمداد بأن يتهيأ
لناشئة الليل التي هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً، فيتحمل ما سيلقى إليه من قول
ثقيل، لكن المغايرة تعطينا نوعاً من المفاضلة، ففي حق بني إسرائيل ثقيلة
إلا على الذي اتصف بالخشوع بين يدي الله فإنه لا يستثقل شيئاً، وجاء في بعض
أخبار الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلي، فسقط ركن من المسجد،
فلما انتهى من صلاته وجد غباراً، فقال: ما هذا الغبار؟ قالوا: أولم تسمع
ركن المسجد عندما سقط؟ قال: والله ما دريت عنه، كنت في الصلاة.
وجاء عنه أنه كان إذا جلس يتوضأ يصفر وجهه، فقيل: لماذا يصفر وجهك عندما
تتوضأ؟ قال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ فيهمنا بأن الصلاة
لأهميتها إذا حافظ الإنسان على نافلة فيها يؤجر عليها كما في الرواية
الأخرى: (بنى الله له بيتاً في الجنة) وبيت الجنة لا يستطيع أن يعلم أحد
بمواصفاته إلا الله، وجاءت أحاديث أن بعض بيوت الجنة من لؤلؤة واحدة يرى
داخلها من خارجها، كما جاء في حديث زيد بن ثابت مع رسول الله، وجاء في خبر
عمر رضي الله عنه إلى غير ذلك.
إذاً: الصلوات هي عماد الدين، وتعود على المصلي بكل خير، وكما أشرنا أنها
أكبر حرز له من الخطايا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] هذا إذا أديت بواجباتها، ورزق الله العبد حسن
التلذذ وارتياح النفس، وطمأنينة القلب بالمناجاة بين يدي الله.
إذاً: اثنتا عشرة ركعة ثمنها بيت في الجنة، ومثل هذا لا يستكثر على المولى،
لأن عطاءه كلام: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللترمذي نحوه وزاد: (أربعاً قبل الظهر،
وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة
الفجر) ] .
وماذا زادت أم حبيبة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر قال: (ركعتين قبل الظهر،
وركعتين بعدها) ، وأم حبيبة اتفقت مع ابن عمر في كل الأوقات ما عدا قبل
الظهر، فزادت ركعتين فيما قبل الظهر، فاتفقت مع ابن عمر في العشر الركعات،
وزادت ركعتين، واتفقت مع عائشة في أربع قبل الظهر، وبهذا تكون مجموع السنة
أو النافلة على ما سيأتي إجماله اثنتا عشرة ركعة.
ويهمنا أن أم حبيبة زادتنا بما تتفق فيه مع عائشة وابن عمر ركعتين، وهما في
الأربع التي قبل الظهر.
وهذا سؤال: كيف تكون كيفية هذه الركعات؟ أهي أربع ركعات بتكبيرة واحدة
وسلام واحد أم أنها مفصولة ركعتين ركعتين؟ نجد الخلاف في هذا بسيطاً، فقال
البعض: يصلي أربعاً مجموعة، وقال البعض الآخر: لا، هذه صورة الفريضة، فيجب
أن تكون الأربع مفرقة ركعتين ركعتين، وسيأتي المؤلف بحديث: (صلاة الليل
مثنى مثنى) ، وفي بعض الروايات زيادة: (صلاة الليل والنهار) , لكن زيادة
(والنهار) يردها علماء الحديث بأن سندها غير ثابت، ويرى الجمهور أن الأربع
قبل الظهر ركعتين ركعتين لحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا حديث صحيح
ثابت، وإذا كانت صلاة الليل مثنى مثنى قالوا: قياساً على صلاة الليل تكون
أيضاً مثنى مثنى، وقالوا أيضاً: لعدم تشبيه النافلة بالفريضة، وقالوا
أيضاً: إن في تفريقها زيادة عبادة، فلو جمعناها لم يكن فيها إلا تكبيرة
إحرام واحدة، ولو فرقناها كان فيها تكبيرتان، ولو جمعناها ما كان فيها إلا
تسليم واحد، ولو فرقناها كان فيها تسليمان، وكذلك التشهد في الجمع يكون
تشهداً أوسطاً، وفي التفرقة يكون تشهداً كاملاً، وإضافة إلى ذلك يؤتى
بالدعاء المأثور بعد التشهد الأخير.
إذاً: تفرقتها أكثر أجراً من جمعها لأنه أكثر عملاً، وهذا ما يرجح أن صلاة
النهار لتلك الأربع تصلى مفرقة.
فضل من حافظ على
أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها
قال المؤلف رحمه الله: [وللخمسة عنها: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع
بعدها حرمه الله تعالى على النار) ] .
هذه خطوة ثانية، جاءنا حديث ابن عمر وحديث عائشة في جزئية، وحديث أم حبيبة
في المجموع، ثم في خصوص الظهر جاء حديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع
بعدها حرمه الله تعالى على النار) هذا دعاء أم إخبار؟ بعض العلماء يقول:
هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، وهو الصادق في خبره
المصدوق فيما أخبر به، وبعضهم يقول: هذا دعاء، كأن الرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: اللهم حرمه على النار، وسواء كان إخباراً فخبره صدق، أو دعاءً
فدعاؤه مقبول عند الله.
إذاً: من وفقه الله وأعانه وحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها فهذا سبيل
خير أوسع من الذي قبله، وإذا اقتصر على اثنتين واثنتين فقد أتى بأقل
التطوع، وإذا زاد إلى أربع، نقول: أتى بأكثر ما جاء به النص.
فضل من صلى قبل
العصر أربع ركعات
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر) رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه] .
خص الظهر بأربع قبلها وأربع بعدها، وجاء في العصر فقال: (رحم الله امرأً)
فهل هذا إخبار أم دعاء؟ إن كان خبراً فهو خبر صدق، وإن كان دعاءً فهو
مقبول؛ ولذا يقول العلماء: ينبغي للإنسان أن يتعرض لدعوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر) أما ما بعدها فيأتي المنع
من النافلة.
إذاً: جاء في فريضة العصر أنه يصلي أربعاً قبلها، وكأنه عندما يقول: (رحم
الله امرأً صلى) كأنه يقول: الأمر أهون من غيره، ولكن إن شئت الرحمة والفضل
فصل أربعاً قبل العصر، ولابد أن يعلم أنها في قوة الطلب ليست كركعتي الفجر،
وليست كركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها؛ لأن الطلب هنا فيه ترجيح وترغيب من
جهة التعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [2]
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب، وجعل
هذا الأمر تحت مشيئة الإنسان؛ لئلا يحرج أمته، أما صلاة ركعتي الفجر فكان
صلى الله عليه وسلم يحرص على أدائهما في الحضر والسفر، ويحض على أدائهما
مبيناً أنهما خير من الدنيا وما فيها، والأصل في هاتين الصلاتين التخفيف
إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
استحباب صلاة ركعتين
قبل المغرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مغفل المزني
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب
صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن
يتخذها الناس سنة) رواه البخاري] .
هذا الحديث يتعلق بصلاة قبل المغرب، وتقدم في حديث ابن عمر وأم حبيبة
ركعتين بعد المغرب، وأم حبيبة أطلقت في الحديث، وابن عمر قيد الصلاة في
البيت، ولكن الجديد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هل
المراد: قبل وجوب المغرب أم قبل صلاة الفريضة؟ قبل صلاة الفريضة؛ لأن قبل
وجوبه عند الغروب الصلاة فيه ممنوعة، إذاً المعنى: صلوا قبل أن تصلوا
المغرب، ثم كررها صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال: (لمن شاء) كراهية
أن يتخذها الناس سنة أي: أن يداوموا عليها.
بعض العلماء يرى أن هذه الصلاة مطلوبة من جانبين: الأول: قوله: (قبل
المغرب) معناه: بعد الأذان، أي: أن الإقامة لم تأتِ فهي ما بين الأذان
والإقامة.
الجانب الثاني: قوله صلى الله عله وسلم: (بين كل أذانين صلاة) .
وهذا الحديث ينطبق على الصلوات الخمس؛ لأن سنة المغرب القبلية تصلى بين
الأذان والإقامة، وعلى هذا كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يصلون قبل
المغرب.
وبعض الفقهاء يفصلون فيقولون: ما دامت المسألة: (لمن شاء) فهذا يرجع فيه
إلى طبيعة الناس في صلاتهم، فعند المالكية لا صلاة قبل المغرب؛ لأن وقت
المغرب عندهم ضيق، وهو كذلك عند الجمهور فالمغرب وقته واحد؛ لأن جبريل عليه
السلام لما نزل يصلي بالرسول صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الأول فصلى
الصلوات الخمس على أول وقتها: الصبح عندما طلع الفجر، والظهر حين زالت،
والعصر إذا كان الظل قدر مثله، والمغرب إذا غربت، والعشاء إذا غاب الشفق،
ومن الغد جاء فأخر الصبح إلى قرب طلوع الشمس، وأخر الظهر إلى آخر وقتها،
وأخر العصر إلى اصفرار الشمس، والمغرب صلاها في وقتها الذي صلاها فيه
بالأمس، ولم يغاير في وقتها، والعشاء أخرها إلى ثلث الليل، فإذاً: كل فريضة
من الصلوات الخمس لها وقت واسع ما عدا المغرب، فالصلوات الأربع لها أول
وآخر، ولكن المغرب صلاها في اليومين المتتاليين في وقت واحد، وجاء هذا عنه
صلى الله عليه وسلم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما وقت
الصلاة يا رسول الله؟ قال: أقم معنا إلى الغد) فأقام اليوم، في هذا اليوم
صلى النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات في أول وقتها، ومن الغد صلاها
كلها في آخر وقتها إلا المغرب صلاها في نفس الوقت الذي صلاها بالأمس، ثم
قال: (أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: الوقت ما
بين هذين) يقول المالكية: إذاً: المغرب لها وقت واحد، وعندهم يخرج وقت
الفريضة بما يساوي الوضوء وركعتين مباشرة وصلاة المغرب ثم ينتهي الوقت،
فيقولون: إذا كان الإنسان يصلي لنفسه أو الإمام بجماعته والكل حضور في
المسجد، فأذن للمغرب أقام الصلاة فريضة حالاً، ولا صلاة قبلها، وإذا كان
الإمام يتأخر، أو جئت إلى المسجد بعد الأذان ولم يأت الإمام، وتعلم أنه
سيتأخر قدر ركعتين فصل الركعتين.
وعلى هذا فالصلاة قبل المغرب جائزة عند الجمهور ما لم يكن فيها تأخير لصلاة
المغرب عن أول وقتها.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا أتوا المسجد لصلاة المغرب وقد أذن
ابتدروا السواري يصلون النافلة، حتى لو دخل إنسان لظن أن الصلاة قد انتهت
-يعني: صلاة الفريضة- لكثرة ما يرى من صلاة الناس، كأنهم يصلون السنة
بعدها.
وعلى هذا يأتي التخيير، والربط بالمشيئة في هذه النافلة بالذات لظروف وقت
المغرب: (صلوا المغرب) كررها ثلاثاً ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) .
قال رحمه الله: [وفي رواية لـ ابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
قبل المغرب ركعتين) ] .
يريد أن يثبت المؤلف رحمه الله أن هذه الصلاة قبل المغرب ثبتت بالسنة
القولية، وبالسنة الفعلية منه صلى الله عليه وسلم، إذاً: ينبغي للأئمة ألا
يضيقوا على الناس، وأن يكون الإمام حاضراً في المسجد، وإذا تأخر يأتي
بسرعة، ليس هناك تأخير للفريضة، فصلاة ركعتين فيها فرصة لمن كان متأخراً
لأن يحضر، وفيها إحياء للسنة النبوية بالصلاة قبلها، أما إذا جاء متأخراً
فلا ينبغي له أن يقدم السنة على الفريضة، بل يبدأ بالفريضة حالاً.
قال رحمه الله: [ولـ مسلم عن ابن عباس قال: (كنا نصلي ركعتين بعد غروب
الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا) ] .
أي: لم يكن يأمرنا ولم ينهنا بعد غروب الشمس وبعد الأذان للمغرب، ما دام
أنها لمن شاء لا يأمر أحداً ولا ينهى أحداً، وإلى هنا تكون السنة تقريرية
وفعلية وقولية، والسلف منهم من يفعل، ومنهم من يترك.
تنبيه: جاء في الشرح لهذا الكتاب المبارك أن مجموع النوافل التي ثبتت عشرون
ركعة، ولنأخذها بالجملة: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعد
الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان
قبل المغرب لمن شاء، إذاً: مجموع النوافل تطوعاً مع الصلوات الخمس عشرون
ركعة.
ويضيف المؤلف من باب الطرفة العلمية أن ابن القيم قال: مجموع الصلوات في
اليوم والليلة فريضة مع نافلة سبع وثلاثون ركعة، ويضاف إليها ثلاث ركعات
الوتر، فيكون المجموع أربعين ركعة، ولكن أحب التنبيه على أن الصحيح أن
مجموع النافلة مع الفريضة خمسون ركعة؛ لأن المؤلف اعتبر الوتر ثلاث ركعات
فقط، ولكن جاء في حديث: (أوتروا بثلاث بخمس بسبع بتسع بإحدى عشرة ركعة)
وجاء في حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة
ركعة) ، فسبع وثلاثون ركعة بالإضافة إلى ثلاث عشرة ركعة وتراً تصبح خمسين
ركعة، أقول ذلك لأن بعض العلماء يقول: فرضت الصلاة في أول الأمر خمسون
صلاة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين المولى وبين موسى عليه
السلام في التخفيف حتى خففت إلى خمس، وقيل: هي في العدد خمس، وفي الأجر
خمسون، فقال بعض العلماء: لو جمعنا مجموع النافلة مع الفريضة لبلغت
الخمسين، إذاً: فرضت الخمسون، وبقيت ليس على سبيل الفرض، الفرض سبعة عشر
والباقي تطوعاً، لماذا؟ زيادة فضل من الله على العبد، لأنه أعطاه ثمن بيت
في الجنة، أعطاه: (رحم الله من صلى كذا) ، أعطاه: (خير من الدنيا وما فيها)
، وهذه كلها ذكرت مع النافلة، والله تعالى أعلم.
مشروعية التخفيف في
سنة الفجر
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله
عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني أقول: أقرأ بأم
الكتاب؟!) ] متفق عليه.
لم يأخذ من رواتب النافلة حيزاً في البحث عند الفقهاء، ولا نصوصاً عند
العلماء؛ كركعتي الفجر والوتر، أما ركعتا الفجر فتقدم قول أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أشد
تحرياً لصلاة كركعتي الفجر) ، وتقدم أيضاً: (صلوا ركعتي الفجر ولو طاردتكم
الخيل) فهذه نصوص في التأكيد عليها , وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم
أنه حافظ عليها في الحضر والسفر، وتقدم في قصة بلال أنه قال له: (اكلأ لنا
الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فارتحلوا عن ذلك الوادي، فأمر صلى الله
عليه وسلم بلالاً بأن يؤذن للصلاة، فأذن ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقام وصلى
الفريضة، وكذلك جاء في الحديث: (من فاتته ركعتا الفجر حتى صلى الصبح
فليركعهما بعد طلوع الشمس) ، وكذلك جاء إقراره صلى الله عليه وسلم لمن
صلاهما بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الفجر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم
أنه لما انصرف من صلاة الصبح وجد رجلاً يصلي، فأخذ بيده وقال: (آلصبح
أربعاً؟ فقال: يا رسول الله! هذه ركعتا الفجر فاتتني فأنا أصليهما، فقال:
إذاً: لا بأس) وهكذا ما يتعلق بالفرائض.
ثم جاءت الكيفية وما يتبعها، فنجد هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها
تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، وتبين من هذه الصورة
قولها: (حتى إني لأقول: أقرأ بأم الكتاب؟) أي: هل قرأ بأم الكتاب أم لم
يقرأ؟! ومن المعلوم أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولكنها رضي الله تعالى
عنها تبين لنا إلى أي مدى كان هذا التخفيف، وسيأتي النص بأنه كان يقرأ بـ
(قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) يعني: ليس مجرد الفاتحة فقط بل
ومعها سورة أخرى، ولكن لو تأملنا موقع ركعتي الفجر هاتين مع صلاته صلى الله
عليه وسلم بالليل -وهما من آخر ما يصلي، كان يقوم الليل إلى أن يوتر قبل
الفجر ثم يؤذن ثم يصلي الركعتين- لوجدنا النسبة بينهما بعيدة جداً، ولهذا
عندما نقارن بين صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وما وصفته به أم المؤمنين
بنفسها تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن)
، وفي الحديث أنه (كان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ البقرة، والنساء وآل عمران، ثم
يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك) ، وذكرت
الركعة كلها في أركانها نحواً من ذلك، فكم تستغرق الركعتان من قيام الليل؟
فإذا جئنا إلى ركعتي الفجر بـ (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)
وجدناها إلى جانب صلاة الليل كالصفر على الشمال، شيء بسيط جداً.
إذاً: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يخفف) ليس معنى ذلك التخفيف
الذي يخرج الصلاة عن قواعدها أو يخل بصحة الصلاة، ولكنه تخفيف في القراءة
مع الطمأنينة في الصلاة بأكملها، لكن بالنسبة إلى صلاته صلى الله عليه وسلم
ليلاً تكون خفيفة جداً، بدليل أنه يجتزئ بهاتين الخفيفتين عن هذه النافلة
التي شدد فيها، وهذا له نظير: في منصرفه صلى الله عليه وسلم من عرفات نزل
ليريق الماء، فصب عليه أسامة الوضوء، فقال: (توضأ ولم يسبغ الوضوء) ، هذا
الحديث كثر فيه كلام الفقهاء منهم من يقول: إنه غسل يديه واستنجى فقط،
والآخر يقول: إنه غسل مرة مرة واحدة، ولكن نحن نعلم بأن إسباغ الوضوء واجب
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) ، وإسباغ الوضوء ينقسم
إلى قسمين: قسم يترك خللاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل
للأعقاب) لما رأى في أعقابهم لمعاً -أي: بياضاً لم يصبه الماء - فكان هذا
نقصاً في الوضوء، ومن عدم إسباغ الوضوء أيضاً أن يتوضأ مرة مرة؛ لأن السنة
جاءت بالوضوء ثلاث مرات، ونعلم بأنه لو توضأ مرة مرة فغسل كامل العضو
المطلوب فإن هذا الوضوء تصح به الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة
مرة ثم قال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاة بغيره) ، يعني: بأقل منه،
ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (هذا وضوء من قبلنا) ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً،
وقال: (هذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فعرفنا أن أقل ما يجزئ غسلة، ووضوء الأمم
قبلنا غسلتان، ووضوءنا الكامل ثلاث غسلات ما عدا المسح فإنه لا يكرر.
ويقول النووي: لو تكرر المسح لشابه الغسل، وأصبح الماء على الشعر كأنه غسل.
إذاً: قول الراوي: (لم يسبغ الوضوء) ، مثل قول أم المؤمنين هنا: (حتى أقول:
أقرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟) ، والجواب عمن يقول: إن عدم إسباغ الوضوء
ينصرف إلى الوضوء اللغوي، أن نقول: لا، لأن نص الحديث: (لم يسبغ) لا يقال
في الوضوء اللغوي أسبغ أو لم يسبغ؛ لأن الذي يقال فيه: إسباغ هو الوضوء
الذي تصح به الصلاة، فلما قال: (لم يسبغ الوضوء) فهمنا أن هذا الوضوء
المذكور مما من شأنه أن يوصف بالإسباغ، وما لا يوصف بالإسباغ لا ينفى عنه،
وهذه قاعدة -كما يقولون عند الأصوليين وعلماء المنطق- تسمى: (العدم
والملكة) ، أي: لا ينفى الشيء عما لا يتصف به.
فإذا قلت: هذا العمود لا يسمع، ولا يبصر، كان هذا خطأ؛ لأنه ليس من شأنه أن
يسمع أو يبصر حتى تقول: لا يسمع ولا يبصر، فكذلك غسل اليدين والاستنجاء،
والوضوء اللغوي لا يقال: فيه إسباغ، فلا تحمل كلمة (وضوء) عليه، ولكن الذي
يقال فيه إسباغ: هو الوضوء الذي تقع به الصلاة.
إذاً: هناك اقتصر واكتفى بالوضوء مرة مرة، وعندما جاء مزدلفة توضأ وأسبغ،
إذاً: الوضوء الأول كان معتمداً أم لا؟ البعض قال: غير معتمد، ولكن الصحيح
أنه معتمد وقالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع
أحيانه، فلما أراق الماء وانتقض الوضوء , وهو سيذكر الله وخاصة في تلك
اللحظات: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: في طريق المشعر الحرام، فهي موضع
لذكر الله، فكره أن يذكر الله على غير وضوء، ونظير ذلك ما ثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه مر بسباطة قوم -السباطة: هي موضع القمامة- فوقف يبول وهو
قائم، فمر رجل عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، حتى إذا جاء إلى جانب جدار
تيمم ثم رد السلام على الرجل وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة)
لكن هذه الطهارة ليست طهارة صلاة؛ لأنه في الحضر، وحكمه وجوب الوضوء
بالماء، ولكن التيمم هنا للتخفيف.
ننتقل إلى حديث ركعتي الفجر، وقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (حتى
أقول -في نفسي- أقرأ بأم الكتاب أم لا؟) ومعلوم أنه كان يقرأ، ولكن ليس
بترسل ولا بتمهل، ولم يقرأ معها من طوال السور كما يقرأ في صلاة الليل.
ما يقرأ في ركعتي
الفجر من السور
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ) رواه مسلم] .
هذا من فقه المؤلف رحمه الله حيث أورد لنا قول عائشة الذي يمكن أن يشكك في
عدم قراءة الفاتحة، فيأتينا بعده مباشرة بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان
يقرأ الفاتحة فقط، بل يقرأ الفاتحة ومعها تارة: {قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وتارة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
[الإخلاص:1] ، فإذا كان يقرأ بهاتين السورتين فهل يترك الفاتحة ويقرأ
بهاتين السورتين أم قطعاً نقول: إنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بهاتين
السورتين؟ نقول: قطعاً أنه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وإحدى هاتين السورتين.
إذاً: رداً لما عساه أن يقع في الذهن من قول أم المؤمنين رضي الله تعالى
عنها، نقول: نعم قد قرأ ولم يقتصر على الفاتحة فقط، بل قرأ معها بسورتين
قصيرتين، في كل ركعة سورة، وهنا يرد السؤال: السنة أن تقرأ في كل يوم في
ركعتي الفجر مع الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون) ، ومع الفاتحة في
الركعة الثانية (قل هو الله أحد) ، وهذا له نظير، ففي ركعتي الطواف السنة
أن تقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكذلك في الوتر تقرأ في الأولى:
{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
إذاً جاءت سورة الإخلاص مع سورة الكافرون في الوتر في آخر الليل، وجاءت
أيضاً مع سورة الإخلاص في ركعتي الفجر في أول النهار، وجاءت سورة الكافرون
مع سورة الإخلاص عقب الطواف، فمن مجموع هذه الحالات يرى البعض -وهو رأي
سديد-بأن حياة الأمة وصلب الإسلام وصميمه إنما هو بتوحيد الله، قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]
لكي يظل الإنسان على طريق مستقيم من القيام بعبادة الله وحده، والإقرار لله
بالوحدانية، كان يأتيه هذا التذكير يفتتح يومه صباحاً بـ {قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] ،
أي: تلك الأصنام التي تعبدونها أنا أرفضها، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] أي: عبادتكم التي تؤدونها أنا لا أعبدها: {وَلا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] ، ولا أنتم بمصلين ولا
صائمين كما أصلي وأصوم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ،
انفصال وتميز، تميزت الأمة عن غيرها في منهجها وعلاقتها بربها، فإذا جاءت
الركعة الثانية جاءت سورة الإخلاص، فالسورة الأولى جاءت بإفراد الله
بالعبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات:56] والسورة الثانية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ} [محمد:19] تفرد الله سبحانه بالوحدانية في ذاته وصفاته وأسمائه
وأفعاله، فتصبح وأنت تعلن هذا الأمر: وهو إفراد الله بالعبادة، وتوحيده
سبحانه في أسمائه وصفاته، مؤمناً وافياً، تعلنها في الصباح وتبني حياتك
اليومية عليها، وهكذا في آخر اليوم عندما تسلم نفسك للنوم، وتنتهي من جميع
أعمالك، والوتر أوله من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا أوترت بعد العشاء
وأنهيت النهار بهذا المعنى، وبه استقبلت الليل، وكذلك هناك أنهيت الليل،
وبه استقبلت النهار فتكون موحداً بين ليلك ونهارك: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وهذا كما قالوا في
المناسبة في فجر يوم الجمعة: الغالب أن يقرأ فيها بسورتي السجدة والإنسان،
ويقول ابن تيمية رحمه الله: شرعت قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم؛ لأن
يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه تقوم الساعة، وجاء في الموطأ في ذكر فضائل
يوم الجمعة في آخره قال: وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة
بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر خوفاً من قيام الساعة، فالحيوانات تصيخ بسمعها
بعد الفجر، وتتذكر هذا اليوم، ونحن أولى؛ لأن الحيوانات والجمادات والسموات
والأرض عرضت عليهن الأمانة فأبينها، وحملها الإنسان، فهو أولى من أن يشفق
من الساعة، وخاصة من اليوم الذي جاء التحديد من أنها ستأتي فيه وهو يوم
الجمعة.
إذاً: قراءة السجدة و (هل أتى على الإنسان) مناسبتان لصلاة الصبح في يوم
الجمعة؛ ليتذكر الإنسان بنفسه أن أول خلقه كان من تراب ثم نطفة ثم.
إلخ وقصة السجود وعدم السجود، وليتذكر أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فيهما قصة
حياة الإنسان ومآله يوم القيامة، ليتأهب ولا ينسى مبدأه، ولا يغفل عن
معاده، وكذلك: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) تناسبان صباح
الإنسان ومساءه.
الشبهة الواردة فيما
يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود
نحن نبدأ طوافنا بالتكبير عند استلام الحجر مع تقبيله، ونحن نقبل الحجر
ونطوف حول الكعبة وهي من الحجارة، ألم تكن مصيبة العرب في الجاهلية هي
تعظيم الأصنام؟ فبعض أمراض القلوب يقول: كيف تعيبون على المشركين تكريم
أصنامهم التي من حجارة أو ذهب أو خشب، وأنتم تأتون تقبلون الحجر وتطوفون
حول الحجارة؟ ما الفرق بينكم وبينهم؟ يعني: هل حجارتكم أفضل من حجارتهم؟
وهذه كما يقال: شبهة رهيبة جداً؛ لأن أعداء الإسلام دخلوا على ضعاف النفوس
بهذه الشبهة، وقالوا: تلك وثنية في الدين، وأقول وللأسف: بعض المشايخ -أول
ما طرق سمعي شيء من الفقه، ونحن صغار في المدارس الابتدائية- من كبار
العلماء في منطقته، جاء إلى الحج ولم يستلم الحجر، فأخبرني بعض من كان معه،
وقال لي: سله، فسألته لماذا لم تقبل الحجر؟ فقال: هل صحيح أن النصوص فيه
صحيحة؟ قلت: إذا كان مثلك يسأل في هذا فما بال العوام؟! أما رأيت الملايين
من الناس يستلمونه، وأنت وحدك تنفرد في ترك ذلك؟! قال: لم أقتنع بصحة
الحديث، فماذا تقول لمثل هذا؟ وكتبت كتابات في ذلك مثل: وثنية الإسلام،
وكتبت ردود عليه: لا وثنية في الإسلام، ويأتون بأشياء بعيدة عن صلب
الموضوع، ونحن عندنا أمران: الأمر الأول: أن الإسلام استسلام، إذا أمرنا
الله أن نقبل حجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للحجر، وإذا أمرنا أن نقبل
شجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للشجر، فنحن كما وجهنا الله: {قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، وقد بين الله ذلك على لسان الملهم المحدث
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وبكل جرأة يرشد العالم
عليها حينما جاء يقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع
-يعني: لا أرجو فيك خيراً، ولا أرهب منك ضراً، سواء قلنا: نزل من الجنة فهو
حجر أو كان من جبل أبي قبيس فهو حجر -ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهنا لنعلم ولنتأكد ولتكن قاعدة في كل الأمور
التي ترتفع عن مستوانا: عمر هل عمل بهذا المعقول الذي عنده أم أنه ألغاه؟
ألغاه، لماذا؟ لما هو أصدق وما هو آكد وأعلم.
فمن لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ
شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] جاء وقبله، إذاً عنده من العلم ما ليس عندي،
وعنده ما يعتمد عليه، وأنا ملزم باتباعه، فـ عمر قبل الحجر استسلاماً
وتأسياً واقتداء بمن هو أعلم منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أو أمرنا المولى في كتابه بأمر،
وعقولنا لم ترتفع إلى مستواه، ولم تدرك معناه؛ نلغي العقل، ونعطيه إجازة،
ونمضي في الطريق الذي لا مرية فيه ولا شك.
الأمر الثاني، وهو الجانب الأصولي: عندما تطوف تبدأ تقبل الحجر، ثم تطوف
بالحجارة المرصوصة، وتأتي تصلي ركعتي الطواف خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وتقرأ: (قل يأيها
الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، فأنت تأتي وتصلي لمن؟ لله؛ إذاً: لا وثنية،
عندما تجعل الركعتين خلف مقام إبراهيم لله، ومن هو إبراهيم؟! قال تعالى
عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ
يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ، إذاً: أنا مقتد بإبراهيم ولم أعبد الأصنام،
بمجرد ما تتجه للصلاة خلف مقام إبراهيم، فإذا كنت في هذه الصلاة تعلنها:
(يا أيها الكافرون) يا عباد الأصنام! حجارة أو ذهباً أو خشباً أو ما شابه
ذلك، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] فتعظيمكم للأصنام
والحجارة هذا شرك لأنكم لم تؤمروا به، وتقبيلي للحجر عبادة لأنني أمرت بها،
لكم دينكم مع أصنامكم، ولي دين مع ربي، وتأتي بعد ذلك بسورة الإخلاص، ومعنى
ذلك أعلنها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل بعد هذا من ادعاء
شبهة وثنية في تقبيل الحجر أو الطواف بالبيت؟ لا والله، ومقام إبراهيم فيه
آيات بينات، وهي آثار القدم، يقول الفخر الرازي: أقدام إبراهيم في الحجر
آية لوحدها، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}
[آل عمران:97] ، فجعل مقام إبراهيم آيات، وموضوع المقام أن القدمين غاصت في
الحجر وعملت فيه، قال: نعم، عندما يكون الحجر صلباً، ثم تأتي بمثقل، فإذا
بحدود الحجر تلين ويغوص فيها المثقل، وبقية الحجر بقيت على ماهيتها، إذاً:
موضع القدمين في ليونتهما وانطباع القدم فيها آية، وبقاء بقية الحجر صلباً
آية؛ لأن الليونة لو وقعت عليها جميعها يمكن أن يقال: هذا عامل كيماوي أو
عامل سحري.
، نحن نعلم إذابة الحجر والنحت على الحجارة كيف يكون، بالألفونيا مع
النشادر، تسحق بمقدار معين أو متساو ثم تحطها، هذه الكتابات التي على
الرخام عملها يكون بتغطية صفحة الرخام بالشمع ثم تأخذ الريش، وتكتب ما تريد
بأي نوع من الكتابة، فتحفر الشمعة حتى ينكشف الرخام، ثم تملي هذا المحفور
بالألفونيا مع النشادر بمقادير متساوية، ثم تقطر عليها من حمض الكبريت،
فإذا به يتفاعل ويأكل الرخام تحته، فإذا انتهى إلى العمق الذي تريد صببت
عليه الماء فيتوقف عن التفاعل، ثم تزيل الشمع بعد ذلك، فتخرج الرخامة
مكتوباً عليها بأحسن ما يكون، ما حفرت باليد وإنما صنع لها مواد كيماوية،
فلو أن الحجر كله ذاب يمكن أن يقال: هذه مادة كيماوية أكلته، لكن لا، البعض
يلين وينطبع فيه القدم، والبعض يبقى على حجريته، إذاً: فما لان الحجر إلا
بقدرة الله، فهذه آية، وقد وجدنا قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ
مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: لا وثنية.
ونرجع ونقول: إن القراءة للفاتحة في ركعتي الفجر ثابتة بهذا الحديث، وقراءة
السورتين والمداومة عليهما ربط بين حياة الإنسان العملية، وبين عقيدته فيما
بينه وبين الله، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [3]
من النوافل التي حث الشارع على المداومة عليها صلاة الليل التي هي أفضل
الصلوات بعد الفريضة، ولا يداوم عليها إلا المجاهدون الصابرون، الطامعون
بما عند الله سبحانه من الرضا والنعيم المقيم، وما من عبد داوم على قيام
الليل إلا أظهر الله ذلك في جوارحه وعلى صفحة وجهه، وكان ممن يناديه الله
في كل ليلة ليتوب عليه ويغفر له.
مشروعية الاضطجاع
بعد صلاة ركعتي الفجر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) رواه
البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن) رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وصححه] .
هذه المسألة لها عند الأئمة رحمهم الله منزلة من حيث المنهج في البحث فيها،
فقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم، كان
إذا صلى ركعتي الفجر -أي: قبل الفريضة- اضطجع على شقه الأيمن) وهذا حديث
صحيح متفق عليه.
بعدما ساق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم
-والفعل قد يكون خاصاً به- جاء بالحديث الذي يعم الأمة بصيغة الأمر: (إذا
صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) هذه صيغة من صيغ الأمر، والأمر يقتضي
الوجوب.
ومن خلال هذين الحديثين نجد الخلاف عند العلماء، ونجد منهج البحث: أولاً:
من حيث الفكرة نجد من السلف من يقول بذلك ويفعله، ومنهم -وهم الأكثر- من لا
يقول بذلك وينكره، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: (ما بال أحدكم إذا صلى
ركعتين تمعك كما يتمعك) وذكر حيواناً من الحيوانات يضرب به مثل الخسة، ولا
حاجة لذكره، وهذا مبالغة في الإنكار.
تقسيم أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية
ونجد الأئمة رحمهم الله تتبلور عندهم المسائل الخلافية؛ لأنهم رحمهم الله
يأخذون النصوص ويمحصونها ويجمعون أطرافها، وينظرون ما هي النتيجة، فما وصل
إلى الأئمة الأربعة يكون هو خلاصة ما وجد وقيل من خلاف أو وفاق قبلهم.
فنجد عند الشافعي أنه يستحب فعل ذلك، ونجد عند الحنابلة كذلك الاستحباب،
ونجد عند غيرهم من ينكرها بالكلية كالأحناف، ومنهم من يفصل وهم المالكية
فيقولون: إن فعلها استناناً كره، وإن فعلها جبلة فلا بأس، وسنرجع إليها إن
شاء الله.
وقد أبعد ابن حزم رحمه الله فأوجبها، قال: يجب ويتعين على الإنسان ما لم
يكن به عذر أن يضطجع على شقه الأيمن، وإذا لم يضطجع فصلاته باطلة، ثم قال:
إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يضطجع على الأيمن لا يضطجع على الأيسر؛ لأنه
لا يجزئه، ولكن ويومئ إيماء.
أفعال النبي صلى
الله عليه وسلم الجبلية
قول مالك: من فعلها جبلة، ما معنى الجبلة؟ الجبلة: الفطرة، وهي طبيعة خلق
الإنسان، فمثلاً: الإنسان من جبلته وتكوينه ومن فطرته التي فطره الله عليها
أن يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش، وينام إذا تعب، فهنا قالوا: إن أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: جبلي وتشريعي.
والتشريعي ينقسم إلى خمسة أقسام، والجبلي كونه يأكل يشرب ينام يأتي النساء؛
لأنه كان يفعل هذه الأشياء بالجبلة والفطرة قبل أن يوحى إليه، ولأن هذه
الأفعال يفعلها المسلم وغير المسلم لا بتشريع ووحي ولكن بطلب الحاجة إلى
الحياة، هذه هي الجبلة، فأعماله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين
أساسيين، وقسم ثالث يدور بين الجبلة والتشريع.
أفعال النبي صلى
الله عليه وسلم التشريعية
أما التشريع: فبيانه صلى الله عليه وسلم لما أجمل من كتاب الله، وحكم
البيان حكم المبين، جاء قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة:43] لا ندري كيف نصلي! ولا كم نزكي! فلما صعد المنبر،
واستقبل القبلة، وكبر وقرأ وركع، ورفع من الركوع، ونزل القهقرى بظهره حتى
وصل إلى الأرض، وسجد في أصل المنبر، وسجد السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل
كذلك حتى تشهد، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا بيان منه لركن من
أركان الإسلام، فيكون هذا البيان حكمه كحكم هذا الركن.
وكذلك الزكاة، بيّن صلى الله عليه وسلم أن من ملك عشرين مثقالاً وحال عليها
الحول ففيها الزكاة وهي ربع العشر، ومن ملك مائتي درهم من الفضة وحال عليها
الحول ففيها العشر، وبين لأصحاب الأنعام أن من ملك أربعين شاة سائمة طوال
العام ففيها شاة، إلى مائة وعشرين ففيها شاتان، ثم بعد ذلك في كل مائة شاة،
وبين لأهل الإبل أن في كل خمس من الإبل شاة إلى عشرين، فإذا وصلت خمساً
وعشرين ففيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وأنصبة الإبل مسلسلة، وأصحاب البقر
في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة.
إذاً: بيانه صلى الله عليه وسلم للواجب في كتاب الله حكمه حكم المبين،
فمثلاً: من الأعمال التي تدور بين الجبلة والتشريع في يوم عرفة، قال: (خذوا
عني مناسككم) فطفنا كما طاف، وسعينا كما سعى، ووقفنا كما وقف من حيث الزمان
والمكان، وأفضنا من عرفات إلى المشعر الحرام، ونزلنا إلى وادي محسر
وأسرعنا، وجئنا إلى منى فرمينا ونحرنا وطفنا الإفاضة، ورجعنا فمكثنا في منى
الأيام الثلاثة، وأخذنا عنه النسك، ولكن لما كان يوم عرفات: (والحج عرفة)
رأيناه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن ظهر راحلته، جاء إلى عرفة قبل الزوال
فنزل بالوادي تحت شجرة أراك، فلما زالت الشمس اغتسل وجاء إلى المسجد فخطب
وصلى، ثم جاء إلى الموقف ووقف عند الصخرات، وظل على راحلته حتى غربت الشمس.
وهنا يقال: هل السنة أن نقف في عرفات على الراحلة؛ لأنه قال: (خذوا عني) أم
أنه وقف على الراحلة لأمر جبلي لا للتشريع؟ وما هي الجبلة؟ أنه أرفق به
وأريح له.
فبعضهم يقولون: وقوفه على الراحلة أمر خارج عن حدود الحج.
وهو: لما أراد الحج بعث إلى القبائل: (إني حاج، فمن أراد أن يوافيني،
فليوافني وليحج معي) ، فتوافدت القبائل إما إلى المدينة ورافقوه، وربما
تلاقوا في مكة أو في الطريق، فهؤلاء الذين قدموا ليروا رسول الله أين
يطلبونه في عرفات؟ اختار مكاناً معلماً وهو عند الصخرات، حتى إذا أتى آت
يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشار إليه من بعيد أنه ذاك الذي عند
الصخرات واقف على راحلته.
إذاً: فعله هذا دائر بين هذا وهذا، وليس واجباً على كل إنسان أن يقف على
راحلته أو على سيارته.
تحقيق الخلاف في حكم
الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وبعدها اضطجع، هل هذه
الضجعة تابعة للسنة فنتأسى به فيها، أم أنه فعلها لمطلب الجبلة عنده صلى
الله عليه وسلم؟ يقول الشوكاني: فيها خمسة أقوال: من الأقوال التي جاءت
فيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل، وإلى متى يمتد قيامه؟ كما
تبين أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليصل ركعة
توتر له ما قد صلى) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ثم يوتر، ثم
يضطجع حتى يأتيه المؤذن، ثم يقوم يصلي كما جاء في حديث أم المؤمنين: (كان
ينام حتى ينفخ، ثم يقوم فيصلي، فأقول له: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ فيقول:
يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) أي: أنه صلى الله عليه وسلم جعل النوم
مظنة انتقاض الوضوء؛ لأنه قال: (العين وكاء السه) والسه: حلقة الدبر، فإذا
نامت العينان استطلق الوكاء، فالنائم يخرج منه الريح وهو لا يدري، لكن إذا
كان القلب مستيقظاً فإنه إذا حدث منه حادث أدركه، ومن هنا كان لا يتوضأ
لنومه.
وكان أبو موسى الأشعري عندما كان في الكوفة أميراً عليها يقيل في المسجد
بعد صلاة الظهر، وكان عنده إخوانه، فإذا جاء وقت العصر أيقظوه، فيقول لهم:
أسمعتم شيئاً أو شممتم شيئاً؟ فيقولون: لا، فيقوم يصلي.
أي: أنه لم يخرج منه شيء.
والفقهاء يقولون: من قعد متمكناً ثم نعس وهو على تلك الحال فلا وضوء عليه،
وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، والمالكية يقولون: إذا
نام وهو راكع فلا وضوء عليه، وإذا نام وهو ساجد فعليه وضوء؛ لأنه وهو راكع
متوازن، وحافظ لتوازنه، فإذا خرج منه شيء أدركه، أما الساجد فإنه ينام ولا
يدرك شيئاً.
فهنا تقول عائشة رضي الله تعالى عنها عنه إنه كان يقوم الليل، فإذا كانت
نهاية الليل في طول القيام فإنه يحتاج إلى راحة، فقالوا: تلك الضجعة
للارتياح بعد قيام الليل، من قال: إن كل من قام الليل فتعب فاضطجع فلا
مانع، لكن هل اضطجاعه سنة أو اضطجاعه جبلة؟ والله لا تقدر أن تحكم بشيء،
أقول للإخوة: ارجعوا في هذه المسألة إلى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، فقد
روى هناك حديثاً عن أم المؤمنين عائشة - أعتقد أنه الفيصل في القضية -
تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة جلس
يحدثني، وإن كنت نائمة اضطجع) ، ومن هنا أجمع العلماء -ما عدا ابن حزم فيما
انفرد به -على أن هذا الاضطجاع ليس بواجب، ويختلفون هل هو مباح أو مكروه أو
سنة أو جبلة.
ولكن وجدنا من ينقل عن الخلفاء الراشدين الأربعة النهي عن فعلها، ومن ينقل
عن بعض السلف كـ ابن عمر أنه كان يفعلها، ومنهم من يروي أنه كان لا يفعلها.
والخلاف موجود على هذا النحو المتقدم، فمن فعلها جبلة فلا بأس، لكن لا يكون
ذلك في المسجد فيؤذي الناس، ويأخذ مكان ثلاثة أو أكثر، لأنه لا ضرر ولا
ضرار، فإذا في بيته، وكان البيت قريباً من المسجد فكيفما شاء، أما في
المسجد فإن فعلها يكون فيه تضييق على الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فعله صلى الله عليه وسلم على منهج البحث العلمي دائر بين الجبلة والتشريع،
ووجدنا ترجيح جانب الجبلة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه تارة
يحدثها، وتارة يضطجع.
أما حديث الأمر الموجه للأمة: (فليضطجع) وجدنا أن هذه صيغة أمر، وصيغة
الأمر تقتضي الوجوب مالم تجد صارفاً، ووجدنا حديث عائشة رضي الله عنها فيه
الصارف عن الوجوب، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه، وإنما كان يفعله
تارة ويتركه أخرى، فانتفى الوجوب بصيغة الأمر الموجه للأمة.
والله تعالى أعلم.
صفة صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له
ما قد صلى) متفق عليه.
وللخمسة -وصححه ابن حبان - بلفظ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وقال
النسائي: هذا خطأ] .
في سياق هذا الحديث الأول: (صلاة الليل مثنى مثنى) معروف في اللغة أن (مثنى
مثنى) معدول عن اثنين اثنين، مثنى وثلاث ورباع وخماس وسداس معدول بها عن
الأصل، ولذا يقولون: إنها ممنوعة من الصرف للوصفية والعدل.
والمراد هنا: (مثنى مثنى) أي: كل ركعتين معاً، ويتفق العلماء على هذا
الحديث، وربما وقع خلاف في الزيادة، ونريد أن نجعل البحث في مطلق صلاة
الليل دون التعرض للوتر؛ لأن الوتر له بحث مستقل.
البحث الآن في مطلق قيام الليل وهو التهجد، لنعرف كيف يقوم الليل من وفقه
الله سبحانه لذلك! ثم ننتقل من صلاة الليل إلى صلاة النهار، فقيل: الحديث
المذكور كان جواباً لسؤال، سأله رجل: كيف أصلي الليل يا رسول الله؟! قال:
(صلاة الليل مثنى مثنى) أي: ركعتين ركعتين، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأحد أن
يزيد في صلاة الليل عن ركعتين دون أن يسلم.
قياس صلاة النهار
على صلاة الليل
ولنأت إلى صلاة النهار، وقد جاءت الزيادة فيه هنا (صلاة الليل والنهار) جاء
ابن خزيمة والنسائي وقالا: هذا غير صحيح، أي: إضافة (والنهار) ، على أن هذه
الإضافة غير صحيحة، فبعض العلماء جاء وقال: (صلاة الليل) ، مفهوم ذلك كيف
تكون صلاة النهار؟ هذا الجواب وارد، فقالوا: إن لم تصح زيادة: (والنهار) ،
ونقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وقفنا عند
الصحيح، فما حكم صلاة النهار؟ فقوم قالوا: مفهوم المخالفة صلاة الليل خلاف
صلاة النهار، وصلاة النهار خلاف صلاة الليل، يعني: صلاة النهار أربعاً
أربعاً، أو ركعتان أنت مخير فيها، فيقولون: مفهوم المخالفة: أنه ترك صلاة
النهار ولم يتعرض لها، وإنما نص الحديث على صلاة الليل، فنحن نعمل الحديث
نصاً في صلاة الليل، ونذهب نجتهد في مفهوم المخالفة في صلاة النهار؛ فإن
شئنا جعلناها مثنى، وإن شئنا جعلناها أربعاً أربعاً، وقد جاءت النصوص: (من
صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها.
الحديث) (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهل هي مفرقة أم مجموعة؟ بل
هي مطلقة لم يأت نص يبين حالها، فقوم قالوا: نقيسها على صلاة الليل،
ونجعلها مثنى مثنى، وتكون كل صلاة النهار مثنى مثنى لا بالنص الزائد:
(والنهار) ، ولكن قياساً على صلاة الليل.
إذاً: منهج البحث العلمي هنا: قوم قالوا بالقياس دون الاعتماد على الزيادة:
(والنهار) والقياس معتمد.
وآخرون قالوا: لا، هذا نص خاص بصلاة الليل، فهي مقيدة بمثنى مثنى، والنهار
نحن غير ملزمين لا بأربع ولا بركعتين ركعتين.
ولنأت إلى التفصيل عند الأئمة رحمهم الله، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه
الله، لك أن تصلي الأربع ركعات مجموعة، والأئمة الثلاثة يقولون: الأولى أن
تفرقها كما فرقت صلاة الليل؛ لمرجحات كثيرة؛ لأن القاعدة في المسائل
الخلافية إذا لم يوجد نص يرفع الخلاف، ولم يوجد ما يرجح أحد الجانبين من
النصين بحثنا عما يرجح الخلاف من بعيد، قالوا: إذا صليتها أربعاً بدأت
بتكبيرة الإحرام، وجلست في الثانية وقرأت التشهد الأول وقمت، وفي الرابعة
تشهدت ودعوت وسلمت، فحصلت الأربع الركعات بتكبيرة واحدة، وسلام واحد، وتشهد
كامل واحد، فإذا صليتها مفرقة كانت كل ركعتين بتكبيرة إحرام وتشهد كامل،
وتسليم ودعاء مع التشهد، ويمكن دعاء الاستفتاح أيضاً، وإذا كانت مفرقة فهي
أكثر لذكر الله، فمن هنا قالوا: الأولى والأرجح أن تصلى مفرقة.
وجماعة وسعوا قليلاً وقالوا: ما دام أنها مثنى مثنى، وجاء في النهار صلاة
أربع مجملة، فنحافظ على مثنى مثنى في الليل، وأما في النهار فيكون ممنوعاً
صلاة ركعة وتسليمة، أو ثلاث ركعات وتسليمة، أو ست ركعات وتسليمة، لأن غاية
ما جاء به النص أربعاً، والنص الآخر: (مثنى مثنى) ويقاس عليه، فليس عندنا
نص يفيد أن نتطوع بست ركعات في تسليمة واحدة، فإذا تجنبنا الركعة الواحدة
المفردة في النهار والثلاث والست بسلام واحد كان كل صورة بعد ذلك إما أربع
كما جاء في سنة الظهر والعصر، وإما اثنتان كما جاء في صلاة الليل، هذا
خلاصة ما يقال في صلاة الليل والنهار.
فضل صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل) أخرجه مسلم] .
هذا فيه بيان المفاضلة في النوافل، ونحن نعلم بأن صلاة الليل نافلة، والنص
الكريم يقول: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}
[الإسراء:79] نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لك) وبقية المسلمين
هل تكون لهم نافلة أم تطوعاً منهم؟ يقول علماء التفسير في التدقيق في هذه
المسألة: إن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والنافلة
بمعنى: الزيادة، لماذا كانت صلاة الليل زيادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه
وسلم؟ قالوا: لأنه صلوات الله وسلامه عليه قد غفر ما تقدم له من ذنبه وما
تأخر، وصلاة الفريضة قد تنقص في حق الأمة، فجاء قوله: (انظروا هل لعبدي من
تطوع؟ فاجبروا بها فريضته) ، فريضة الأمة كأفراد من حيث هم محتملة للنقص،
فإذا وقع نقص في فريضة جبر من النافلة، وقد تستغرقها، ولكن بالنسبة للنبي
صلى الله عليه وسلم هل يحتمل في فريضته نقص يحتاج إلى جبران؟ لا، إذاً:
صلاته كاملة، فالتطوع الذي سيكون منه سيتوفر له كاملاً، وهل هذا يكون
لغيره؟ لا، إذاً: التنصيص القرآني: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تلك
النافلة في جبران فريضته، بينما آحاد الأمة يحتاجونها، فقد لا تسلم تلك
النافلة.
وهنا يرشدنا صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الليل،
وصلاة الليل تجمع عدة مسائل أو صفات تؤهلها وتجعلها فعلاً أفضل صلوات بعد
الفريضة: أولاً: ما يلحق الإنسان فيها من مشقة؛ لأن صلاة الليل يرى كثير من
العلماء أنها لا تعتبر تهجداً إلا إذا كانت بعد نوم، أما إذا كان سهران وما
جاءه نوم حتى الساعة الثالثة أو الثانية والنصف بعد نصف الليل وقال: أصلي،
فهو لم يتهجد بعد نوم، وما كلفته، لكن إذا كان نائماً مستغرقاً في النوم،
وفي حاجة إلى هذا النوم، ويقهر نفسه ويغالب غريزته، ويجتذب نفسه من فراشه،
ويتوضأ ويصلي، كان هذا عملاً فيه جهاد كبير، وهنا يصادف قيام الليل الثلث
الأخير من الليل، وفيه الحديث النبوي: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا
إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من
داع فأجيبه؟) ، في هذه اللحظات المولى سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده،
فالذي يصلي من الليل يصادف تلك اللحظات التي فيها النداء من الله سبحانه،
إذاً: تصادفه من حيث الزمن والملابسات من تجلي المولى سبحانه لعباده، وتدل
على شدة الرغبة في الخير، وكذلك أيضاً الناس نيام، فهذا قام من ليله، بينما
الآخرون مستغرقون في نومهم، وفرق بين من ينعم في نومه وبين من ينعم بمناجاة
ربه.
كان ابن عمر رضي الله عنه ينتهز نوم الناس في القيلولة فيقوم ويصلي، ويقال
عنه: يحيي القيلولة؛ وإن كان قد جاء الحديث أن نومة القيلولة تعين على قيام
الليل، وابن عمر رضي الله تعالى عنه له قصة ودافع في ذلك، قال صلى الله
عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فقد جاء أنه رأى
رؤيا، حيث رأى نفسه على حافة النار، فسمع منادياً يقول: (لن تراع! لن تراع)
أي: لا تخف، فنجا منها، وقبلها كان يقول في نفسه كما يعبر هو: (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح التفت لأصحابه وقال: هل رأى أحد
منكم من رؤيا؟) ، فمن كان يرى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيعبرها له، وقال صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين
جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وهذه النسبة جاءت كما
يأتي: واحد من ستة وأربعين، قالوا: إن مدة الوحي كانت قسمين: وحي بالرؤى،
ووحي بالملك، فالوحي الذي كان بالرؤى مدة وجوده صلى الله عليه وسلم يتعبد
في غار حراء، كان يرى الرؤيا ليلاً فتأتي صباحاً كفلق الصبح، كأنه يقرؤها
من كتاب، ثم جاءه الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
[العلق:1] قالوا: كم كانت مدة الوحي بالملك؟ ثلاث وعشرون سنة، ثلاث عشر سنة
في مكة وعشر سنوات في المدينة، وستة أشهر بالنسبة للسنة كم؟ النصف، اضربها
في اثنين، كل سنة نصفين، فهنا الوحي المباشر ثلاثة وعشرون في اثنين فتكون
ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمدة الرؤيا بالنسبة لمدة الوحي نصف سنة من
ثلاث وعشرين سنة، فتكون النسبة صحيحة.
وهكذا الرؤيا الصادقة أو الرؤيا الصالحة كثير من الناس يرى الرؤيا فيصبح
يراها موجودة في الفعل، أو من الغد أو قريب من هذا الباب فيقول ابن عمر:
(كنت أقول: إن من يرى رؤيا صالحة يكون عنده شفافية في روحه، ويكون عنده نور
في بصيرته، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: فرأيت أني على حافة النار أو جب فيه النار، فجاء ملك أو قال شخص: لن
تراع لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فأخذ
العلماء من هذا أن قيام الليل ينتج عنه النجاة من النار؛ لأنه رأى أنه على
حافة النار، والرسول أرشده إلى ما ينجيه منها، فما كان يترك قيام الليل بعد
ذلك حتى زاد قليلاً فكان يحيي القيلولة زيادة في الخير وحرصاً عليه.
المفاضلة بين ركعتي
الفجر وصلاة الليل
إذاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة -يعني: أفضل النوافل- صلاة الليل، وعندنا
حديث أنه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً لصلاة بعد
الفريضة من سنة الفجر والوتر، فهل تكون صلاة ركعتي الفجر آكد من صلاة
الليل؟ الآكد شيء، والفرضية شيء، والفضيلة شيء، فكما قالوا: الخصوصية لا
تقتضي التفضيل، فمثلاً: زيد بن ثابت قال فيه رسول الله عليه وسلم: (أفرضكم
زيد) ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام، أبو عبيدة أمين هذه الأمة، هذه
خصائص لأشخاص وأفراد، فهل تخصيصهم بهذه الخصائص فضلهم على أبي بكر وعمر؟ ما
فضلوا عليهم.
فهنا خصيصة صلاة الليل تبعد عن صلاة النهار، وليس معنى ذلك أنها أفضل مما
أكد عليه صلى الله عليه وسلم، أو يقال: هذه سنة راتبة مرتبطة بفريضة فهي
تدعو إليها، أما قيام الليل فليس براتب، وليس مربوطاً بفريضة، إنما هو
عبادة مستقلة؛ ولهذا عظم شأنها، وفضلت في الأجر على غيرها، والله تعالى
أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [4]
لقد جاءت الأحاديث في بيان فضل صلاة الوتر، فالوتر حق على كل مسلم أن
يصليها كيفما شاء ركعة أو ثلاث ركعات أو خمس، ويبدأ وقتها من بعد صلاة
العشاء إلى قبيل طلوع الفجر، ومن كل الليل أوتر رسول الله من أوله وأوسطه
وآخره؛ فكان في الأمر توسيع على عباد الله المؤمنين، ولشدة حرصه صلى الله
عليه وسلم على صلاة الوتر شرع لمن نام عنها أو نسيها أن يصليها إذا أصبح أو
ذكر.
صلاة الوتر وما جاء
فيها من الأحاديث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم، من أحب أن يوتر
بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة
فليفعل) رواه الأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان، ورجح النسائي وقفه] .
جاء هذا الحديث عن أبي أيوب مرفوعاً هنا، وعند غيره موقوفاً على أبي أيوب،
وأبو أيوب نستبعد أن يجعلها حقاً أو غير حق اجتهاداً من عنده؛ لأن (حق) هنا
بمعنى واجب، فيبعد أن يكون أبو أيوب قد أوجب شيئاً من عنده؛ ولذا يقول
العلماء: وإن جاء موقوفاً فإن الموقوف في حكم المرفوع، ولا سيما إذا جاءت
رواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحق الواجب اللازم الثابت.
وقول أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر
حق على كل مسلم) اللفظ هنا للجنس، فيشمل كل مسلم ومسلمة، وقد ذكر البخاري
رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ما شاء الله، ثم أيقظ
عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: (قومي فأوتري) .
إذاً: (على كل مسلم) هذا للجنس، فإذا ذكر الرجال دخلت النسوة تبعاً للرجال،
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أي:
بواو الجماعة للذكور في الأمر بالصلاة والزكاة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}
[البقرة:178] لم يقل: عليكن، فعلم بأن النسوة تبع للرجال في مواطن التشريع.
صرف حكم الوتر من
الوجوب إلى السنية
قوله: (الوتر حق) : إلى هنا لو لم يأت بقية الحديث لكان هذا الجزء من هذا
الحديث يوجب ويعين فرضية الوتر وأحقيته على كل فرد، أي: ليس واجباً
كفائياً، بل على كل مسلم في ذاته، ولكن وجدنا سياق الحديث: (الوتر حق على
كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن
أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) الخمس الثلاث الواحدة كلها وتر، فكيف يكون حقاً
ويترك فعله إلى ما يحبه الإنسان؟! إن آخر الحديث يرد الكيفية إلى فعل ما
يحبه الإنسان، وهنا شبه نافذة لمبادئ الخلاف، فكلمة: (حق على كل مسلم) ، من
تمسك بها قال: الوتر حق واجب، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رجلاً جاء إلى
عمر وقال: إن في الشام رجلاً يقال له: أبو محمد، يقول: إن الوتر واجب،
فقال: كذب أبو محمد، الوتر ليس بواجب، وسيأتي النص عن علي رضي الله تعالى
عنه: ليس بواجب كالصلاة أو كالفريضة، ولكن سنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فأول الحديث يقول: (الوتر حق) وفي آخر الحديث: (من أحب أن يوتر بخمس بثلاث
بواحدة فليفعل) ، فلما أُسند الأمر إلى ما يحبه الإنسان تخلخل رابط الحق
والوجوب، وأصبح واجباً مخلخلاً؛ لأن فيه اختياراً الإنسان، ولو كان واجباً
حتماً لما ترك الاختيار للإنسان في كيفية الأداء.
ولكن كمنهج علمي: الذين يقولون بأنه حق قالوا: نحن لم ننازع في الكيفية،
فليوتر على أي صفة شاء، وعليه أن يوتر بما يشاء، فذلك متروك له.
إذاً: مجال الخلاف قائم، ماذا فعل المؤلف إزاء ذلك؟ وقبل أن ننتقل للأثر
بعده لنرى الحكمة والفقه في إيراد النصوص في الباب الواحد، وأنها لم تكن
عفوية، ولكنها مقصودة لبيان الحكم من سياق اللفظ أو من خلال المعنى بين
السطور.
في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شاء أن يوتر بخمس فليفعل) ، كيف يصلي
الخمس؟ ليس عندنا صلاة خمس ركعات أبداً، أكثر صلاة عندنا أربع، وهنا نزل
إلى واحدة، فكيف يصلي الخمس؟ وكيف يصلي الثلاث؟ سيأتي تفصيل ذلك عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعن
غيره.
وقد جاءت الروايات في الوتر بعدد زيادة عن الخمس: بسبع أو بتسع، وجاء
بالفعل من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري رحمه الله لما
بات عند خالته ميمونة قال: فبات النبي صلى الله عليه وسلم وأهله بطول
الوسادة، ونمت في عرضها، الوسادة طويلة، فنام النبي صلى الله عليه وسلم على
طولها، ونام هو في عرضها الذي هو سمكها، أي: نام ابن عباس على طرف الوسادة.
قال: حتى إذا كان منتصف الليل -وفي بعض الروايات-: ثلث الليل، قام النبي
صلى الله عليه وسلم إلى شن فتوضأ، ثم أخذ ثوباً، ثم قام يصلي، ففعلت كما
فعل، أي: قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ يفتل شحمة أذنه،
قالوا: في هذا تنبيه للصبي حتى لا ينام، وتشجيع له على عمله، ومؤانسة له.
والرواية الأخرى يقول فيها: قمت عن يساره، فمد يده من وراء ظهره وأخذ برأسي
وأدارني إلى يمينه، فهنا بينوا موقف المأموم المنفرد من الإمام إن كان
واحداً، فيكون عن يمينه لا من ورائه ولا عن يساره.
وبالمناسبة وخاصة ونحن بالمدينة المنورة، ونشاهد الصلاة في المسجد النبوي
أثناء الموسم، فنحتاج إلى هذه الصورة، فـ ابن عباس قام للصلاة عن يسار
النبي صلى الله عليه وسلم، ظناً منه أن الأيمن أفضل، فترك الأيمن لرسول
الله ولم يقف متيامناً على رسول الله، فوقف في اليسار على أن الأيمن أفضل،
ولكن السنة أن يكون الإمام بمثابة السترة للمأموم، فأخذ ابن عباس من يساره
بعد أن كبر في الصلاة، وأداره إلى يمينه، وهنا مالك رحمه الله قال: تصح
الصلاة أمام الإمام عند الضرورة، نحن نشاهد المصلين هنا أثناء الموسم
يتقدمون الإمام، ونجد البعض أو الكثير يعترض على ذلك ونقول: مصيب من وجه،
وغير مصيب من وجه آخر.
واستدلال مالك رحمه الله بهذه الصورة قال: إن الجهات بالنسبة إلى الإمام
أربعاً: أمام وخلف ويمين ويسار، فوجدنا الخلف هو موقف المأمومين إن كانوا
عدداً، واليمين موقف المأموم إن كان فرداً، إذاً: لا موقف في أمام ولا
يسار، لكن ابن عباس لما قام ووقف عن يساره وليس بموقف، كبر ودخل في الصلاة،
ولم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من صلاة ابن عباس في اليسار وهو
في غير موقفه، ولكن صححه وأخذه وجعله في الموقف الصحيح وهو الأيمن، فيقول
مالك: الجزء الذي وقع من ابن عباس في غير موقفه اعتد به رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعذره لعذر الجهالة؛ لأن المكان متسع وابن عباس لم يعرف ذلك،
فصحت صلاته وهو قائم في اليسار، لأنه أوقع جزءاً من الصلاة في جهة اليسار،
ثم أكملها في الموقف الصحيح، فإذا جاء إنسان ووقف أمام الإمام وهو في غير
موقف نظرنا: إن كان لعذر لضيق المكان وعدم التمكن صحت الصلاة وصح الاقتداء،
وإذا كان يوجد مكان ولكنه قصر وترك محل الوقوف عن اليمين أو الخلف وجاء
أمام الإمام فلا حق له في ذلك.
الصور والكيفيات
لصلاة الليل مع الوتر
لما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه قيام النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر لنا ثلاث عشرة ركعة، وهنا يأتي الكلام في حديثنا الذي معنا: (من
أحب أن يوتر بخمس) والعدد لا مفهوم له، أي: ولو بسبع ولو بتسع، كيف
يصلي الوتر خمساً أو ثلاثاً أو سبعاً أو تسعاً؟
الصورة الأولى:
التسليم في كل ركعتين
يتفق العلماء -تقريباً- على أنه إن شاء صلى كل ركعتين وسلم، على ما
سيأتي لـ ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم كل ركعتين، وفي بعض
الروايات: (وربما أمر ببعض حاجته) وبعض الروايات قال: (بعد كل ركعتين
قام وشاص فاه بالسواك) يعني: يفصل بين كل ركعتين بالسلام وبالكلام،
وربما استاك ما بين كل ركعتين، فإذا ما أتم شفعاً أربعاً أو ستاً أو
ثماناً قام وجاء بركعة واحدة صارت هي الخامسة أو السابعة أو التاسعة
وتم الأمر، هذه صورة مثنى مثنى ويوتر بواحدة، سواء أتم إلى خمس أو سبع
أو تسع.
الصورة الثانية: عدم الجلوس للتشهد
والتسليم حتى يتم خمساً أو سبعاً.
الصورة الثانية: يقوم في الخمس ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، ويجلس في
الشفع الأخير، والشفع الأخير من الخمس هو الرابعة، فيتشهد التشهد
الأوسط ويقوم، ثم يأتي بالخامسة ويجلس، ثم يتشهد ويسلم.
وإذا كان في سبع ركعات يقوم ست ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، وفي آخر
ركعة من الست يجلس ويتشهد التشهد الأوسط ويذكر الله، ثم يقوم ويأتي
بالسابعة ويجلس ويتشهد ويسلم.
وكذلك في تسع يجلس في الثامنة ويتشهد التشهد الأوسط، ثم يقوم يصلي
التاسعة، ثم يجلس فيتشهد التشهد الكامل ويسلم، وهكذا ذكروا في كيفية
صلاة الوتر بخمس أو بسبع أو بتسع.
وأذكر لـ ابن حزم صورة أخرى وهي: أن يصلي الخمس تباعاً لا يجلس أبداً
إلا في الأخير مرة واحدة، ويتشهد ويسلم، وكذلك السبع والتسع.
خلاف العلماء في وتر
الثلاث
بقي عندنا الوتر بثلاث كيف يصليها؟ يأتي البحث مطولاً في الثلاث أكثر
من غيرها، تارة يأتي السياق بأنه صلى الله عليه وسلم صلى الوتر ثلاثاً،
لا يجلس في الثانية، إنما يأتي بثلاث سرداً، كما تقدم عن ابن حزم في
الركعة الخامسة والسابعة والتاسعة، فيصلي ثلاث ركعات، فيجلس في الثالثة
ويتشهد ويسلم، ولكن غالب ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه يفصلهما،
فيصلي ركعتين ويسلم منهما، ثم يأتي بالثالثة فيما بعد ويسلم لها.
وهذه الركعات الثلاث عند الفقهاء موصولة أم مفرقة؟ الخلاف في هذه بين
الأحناف والجمهور، فالأحناف يرون أن الوتر بثلاث موصولة، يجلس في
الثانية يتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالثالثة يتشهد ويسلم، لكن
الجمهور واجهوا الأحناف بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشبهوا الوتر
بالمغرب) أي: في الكيفية: كون الإنسان يجلس في الثانية ويتشهد التشهد
الأول، ثم ينهض ويأتي بالثالثة، ويتشهد التشهد الكامل ويسلم، هذه صورة
المغرب سواء بسواء.
استدل الأحناف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديثها: (ما
زاد رسول الله صلى الله وسلم في رمضان ولا في غيره عن ثماني ركعات،
يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن.
ثم يوتر بثلاث) ، لكنها لم تفصّل لنا كيفية هذه الثلاث، وقال الأحناف:
لم نجد ثلاثاً إلا كصفة المغرب، ولم نجد صلاة ركعة واحدة منفردة من
الصلوات.
وهناك الخلاف هل تصح الصلاة ركعة واحدة؟ جاء عن بعض السلف أنه قال: لا
توجد صلاة ركعة واحدة، فأخذ بذلك الأحناف، ولكن أجيب عن ذلك بأن هناك
من كان يقول في قصر الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين، فصلاة السفر
ركعتان، قالوا: صلاة الخوف تقصر عن صلاة السفر فتكون ركعة واحدة، فقال
القائل كما ينقل ابن دقيق العيد: لم نجد صلاة ركعة واحدة، يعني: في
الفريضة، لا في حضر ولا في سفر، ولا حتى في صلاة الخوف، وجميع صلاة
الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، بأنه يقسم الجيش
قسمين، فإن كان العدو اتجاه القبلة صفوا صفين وراء النبي صلى الله عليه
وسلم، فصلى بالصف الذي يليه ركعة ثم جلسوا، ثم قام الصف الثاني الذي
كان في الحراسة فصلى، ونهض الصف الأول للحراسة من أمامه، فإذا ما صلى
ركعتين مفرقتين على الصفين جلس، وقام كل صف ليتم لنفسه، ثم سلم بهم
جميعاً، وقد صلى الجميع ركعتين.
وإذا كان العدو في غير القبلة قسم الجيش قسمين: قسم يتجه إلى العدو
حراسة، وقسم يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، فإذا صلى
بالصف الذي وراءه ركعة يذهب إلى الحراسة، ويأتي ذاك الصف الذي كان في
الحراسة فيأتي ويصف خلف النبي إلى القبلة، ويصلي به الركعة الثانية،
فإذا ما أتم صلى الله عليه وسلم لنفسه ركعتين، وكان لكل نصف من الجيش
ركعة، أتم كل ركعته الباقية وسلم.
وعلى هذا فلم نجد في صلاة الخوف ركعة واحدة، وقد بحث هذه المسألة
والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قصر الصلاة في
السفر، وأطال في هذه المسألة إطالة طويلة جداً.
يهمنا الآن هل توجد ركعة واحدة في الصلاة أم لا، نحن أمامنا نص صحيح
صريح، (فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة واحدة) ، فهذا نص، وقوله:
(ركعة) التاء هنا علامة الوحدة، كما تقول: أكلت تمرة، لو قلت: أكلت
تمراً، لكان شيئاً كثيراً لا ندري كم هو، لكن إذا قلت: أكلت تمرة تفاحة
برتقالة، فهي واحدة، التاء يقال لها: تاء الوحدة، فجاءت مؤكدة بالعدد،
(ركعة واحدة) .
إذاً: وجدنا في التطوع ركعة واحدة، وهي ركعة الوتر، وهي محل الخلاف،
إذاً: لا يقوم للأحناف إزاء هذا الحديث ما يستدلون به من أنه لم توجد
صلاة ركعة واحدة.
والجمهور يقولون لهم: لا مانع أن نصلي الوتر بثلاث، ولكن مفرقة، أو
أنكم لا تجلسون في الثانية حتى لا تشبهوه بالمغرب.
إذاً: قول أبي أيوب: (الوتر حق على كل مسلم) كان هذا الجزء من الحديث
موجباً للوتر، ولكن ما جاء بعده: (فمن شاء أن يوتر بخمس.
بثلاث.
بواحدة فليفعل) خلخل قاعدة الوجوب، وجعل فيها مجالاً للخلاف، وللبحث في
ذلك.
نجد من فقه المؤلف أنه يسوق لنا بعده حالاً حديث علي رضي الله تعالى
عنه.
القول بسنية الوتر
عن علي بن أبي طالب
قال المؤلف: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ليس الوتر بحتم
كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه
الترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم وصححه] .
انظروا الأسلوب يا جماعة! فرق بين لفظ: (الوتر ليس بحتم) ، وبين لفظ:
(ليس الوتر بحتم) ، فالتقديم والتأخير له سر بلاغي؛ لأن علياً رضي الله
تعالى عنه يريد أن ينفي الحتمية، لا يريد أن ينفي الوتر، فلما ذكر
المؤلف حديث أبي أيوب: (الوتر حق ... ) وفيه ابتداء إيجاب الوتر، أعقبه
بحديث علي بنقيض هذا الإيجاب: (ليس) ، فيكون أول ما يطرق السمع في هذا
الموضوع عن علي هو عامل النفي؛ ليرد حالاً عامل الإيجاب في حديث أبي
أيوب سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً: (ليس الوتر بحتم) الحتم: الواجب،
وأمر حتم محتم بمعنى واجب، فـ علي يقول: (ليس الوتر بحتم كهيئة
المكتوبة) يعني: نزل عن مستوى المكتوبة، فهل يكون نزوله مجرد زحزحته عن
الوجوب أم ألغي بالكلية؟ إذاً: كلام علي هنا زحزحته عن مرتبة الوجوب
إلى ما يليها.
قال: (ولكن سنة سنها رسول الله) هذا استدراك حتى لا يظن إنسان أنه غير
موجود فقال: (ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سنة
رسول الله قريبة من الواجب الحتمي، ولكن هنا ليست بذلك.
وقد تعرضنا مراراً إلى أن السنة قد تأتي بالواجب في الأوامر والمنهيات،
وتستقل بذلك، وإن كانت السنة إنما هي بالدرجة الأولى لبيان ما نزل
إليه، وقد وجدنا في السنة المطهرة تحريم الجمع بين المرأة وخالتها،
والمرأة وعمتها، وهذا تحريم، والتحريم ليس بهين، وقد قال تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] لم يقل: الخالة
ولا العمة، ولكن بمقتضى نص النبي صلى الله عليه وسلم يحرم الجمع بينهن،
اللهم إلا الشيعة فإنهم لا يأخذون بذلك، ولا يهمنا هذا، وعلى هذا نهى
صلى الله عليه وسلم، ونهيه فيما يتعلق بالتحريم قطعي وليس في ذلك شك.
فقد تأتي السنة بالفرض وبالمحرم وبالمكروه والمندوب والمباح على أحكام
التكليف الخمسة.
وقوله: (سنة سنها رسول الله) ؛ هذا اصطلاح فقهي أصولي في زمن علي رضي
الله تعالى عنه، وليس أمراً جديداً جاء به علماء الأصول، فهناك فرض
وهناك سنة وهناك مندوب وهذا موجود يتكلم به علي، وقد جاء الحديث الصحيح
عنه صلوات الله وسلامه عليه بذلك، جاء في قيام رمضان حيث قال: (إن الله
افترض عليكم صيامه، وأنا سننت لكم قيامه) ، فهو صلى الله عليه وسلم
بجانب فرض الصيام سن القيام.
وهل للمسلم اختيار في أن يأخذ بسنة رسول الله أو لا يأخذ؟ لا.
الواجب على المسلم أن يحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن
من فرط في السنة ربما يأتي التفريط ويسحب إلى الواجب، فإذا ما حافظ على
السنة النبوية كان أحرى أن يحافظ على الواجب، وهنا قد تأتي السنة وتترك
الخيار للمكلف فتكون للندب، فيكون الأمر فيها أهون من غيرها، كما جاء:
(صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال: لمن شاء)
فهنا سنها وترك المشيئة والخيار للناس، وليست كالوتر.
ويدل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق) بعد أن صرف عن الوجوب
على أن الوتر آكد من غيره من النوافل الأخرى، وتقدم لنا حديث أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان صلى الله عليه وسلم أشد
تحرياً للنوافل من ركعتي الفجر والوتر) .
ثم تأتي النصوص الأخرى: (يا أهل القرآن! أوتروا، فمن لم يوتر فليس منا)
وهذه أحاديث الوعيد التي ينقسم العلماء عندها إلى فريقين: فريق يقول
بالوجوب، فإن قوله (ليس منا) وعيد شديد، والآخرون يقولون: أحاديث
الوعيد تمرر كما جاءت ولا تفصل؛ لأنها كلما أبقيت على إجمالها كانت أشد
في الوعيد والزجر.
قيام الليل فضائله
وأحكامه
قال المؤلف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قام في شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة ولم يخرج،
وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر) رواه ابن حبان.
وعن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، قلنا: وما هي يا
رسول الله؟ قال: الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) رواه
الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده نحوه] .
بعدما أورد المؤلف رحمه الله ما يشبه الخلاف أو التعارض، أو ما يشبه
الوجوب الذي صرف بصارف، جاء بهذين الحديثين أيضاً، وهما أصرح في
الدلالة على صرف حديث: (الوتر حق) عن الوجوب من غيرهما.
فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل في رمضان، وقام معه بعض
الناس، ثم لم يقم فيما بعد، ثم انتظروا، ثم خرج عليهم في صلاة الصبح
وقال: (خشيت أن أخرج عليكم؛ فتفرض عليكم صلاة الوتر) ، والصحيح في
الحديث أنه قال: (خشيت أن تفرض عليكم) يعني: صلاة الليل، وهذا الذي
عليه الجمهور، والمؤلف ساقه على هذه الصيغة: (خشيت أن يكتب عليكم
الوتر) .
إذاً: لم يكتب إلى الآن، وإلى الآن لم يكتب، والذي يهمنا في تصحيح
السياق وما ساقه المؤلف في قيام الليل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم
قام من رمضان فصلى، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تفرش
له حصيراً عند باب الحجرة في الروضة، فصلى ليلة ثلاث وعشرين، فانتبه من
كان في المسجد، فجاءوا وصلوا خلف النبي صلى الله عليه سلم؛ لأنهم كانوا
يقومون رمضان أوزاعاً، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (سن
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان) وجاء الحديث المتقدم
ذكره: (إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، فكانوا يصلون ما
تيسر لهم أوزاعاً، قال أبو هريرة: (فكان الأمر كذلك حتى قبض صلى الله
عليه وسلم، وكان زمن أبي بكر، وجزءاً من خلافة عمر) ، ثم جمعهم عمر على
إمام واحد؛ هذا تتمة الموضوع.
لكن هنا فيما ذكره المؤلف رحمه الله: صلى أناس بصلاته ليلة ثلاث
وعشرين، ثم قام ودخل البيت، وفي ليلة أربع وعشرين لم يقم، في ليلة خمس
وعشرين قام، وكان الناس قد سمعوا بما صلى خلف رسول الله من الناس
فاجتمعوا، فصلوا بصلاته، قيل: هي الثانية وقيل: في الثالثة، أو أن
الناس صلوا العشاء ولم يقوموا من أماكنهم ينتظرون مجيء رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليصلي فيصلوا جميعاً بصلاته، فنظر صلى الله عليه وسلم
فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس! ألم يصلوا
العشاء؟ قالت: بلى، ولكنهم ينتظرون لتخرج لتصلي فيصلوا بصلاتك، كما صلى
بصلاتك من قبل أناس، وقد تسامعوا بذلك، قال: أوفعلوا؟!! اطوي عنا
حصيرك، ولم يقم تلك الليلة، فانتظروا واستطالوا الانتظار، فأخذوا بعض
الحصباء وحصبوا الباب، وكان من الساج، فلم يسمع لهم ولم يخرج، حتى خرج
لصلاة الصبح وهم في انتظاره، قال: والله ما خفي علي صنيعكم البارحة،
وما نمت بحمد الله غافلاً، ولكن خشيت أن أخرج إليكم، فتفرض عليكم
فتعجزوا) إذاً: ما هو الذي يفرض عليهم الوتر أم قيام الليل؟ قيام
الليل.
مسألة: كيف يخشى أن تفرض عليهم وقد سمع في حديث فرضيتها: (هي خمس وهي
خمسون) ؟ وقد جاء عنه: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) ، فلو
كان الوتر أو قيام الليل واجباً لصارت ستاً، هو يعلم أنها لم تفرض،
فكيف يقول ذلك؟ قال العلماء: خشي أن يفرض عليهم قيام رمضان في الليل
جماعة فقد يعجزون، وقد جاء أن أفضل قيام رمضان في البيت لمن يقوى على
ذلك ما لم تعطل المساجد من التراويح؛ لأن قيام رمضان في المساجد أصبح
شعاراً للمسلمين، ولا ينبغي أن يعطل أبداً، فإذا كان الفرد بذاته
حافظاً لكتاب الله، وأراد أن يقوم في بيته فهو أفضل له، وقد شاهدت
والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول أمره يصلي
العشاء مع الإمام ويخرج، ويصلي التراويح على سطح بيته، ثم في الآونة
الأخيرة قبل وفاته بثلاث أو أربع سنوات سألته: كنت أراك تصلي التراويح
في البيت، هأنت الآن تصليها مع الجماعة في المسجد، ألحديث أنس: (من قام
مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ؟ قال: لا، قلت: لماذا إذاً؟
قال: كنت في أول الأمر نشيطاً بنفسي أصلي دونما كسل، ولكن مع الكبر،
ومع هذا الوقت إن صليت وحدي ربما تكاسلت، فأصلي مع الجماعة أتقوى
بحضوري معهم، وعلى هذا تصح صلاة قيام الليل منفردة، وتصح جماعة، وتصح
في البيت، وهي أفضل لمن توفرت فيه شروطها، وتسن في المسجد كما صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالبعض، وصلاها عمر رضي الله تعالى عنه، وأوجد
لها إمامين يتناوبان، وإماماً ثالثاً للنساء أعجل في القراءة، ويأتي
بحثها مستقلاً.
فقالوا: هو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الصلوات خمس، ولذلك لما أتى
ضمام بن ثعلبة وسأل الصحابة فقال: (أين محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب؟ قالوا: ذاك الأبيض المتكئ… قال: آلله أرسلك؟ قال: اللهم نعم،
قال: أسألك بالله الذي خلق السماوات والأرض، وأرسل من كان قبلك أفرض
الله علينا خمس صلوات؟ قال: اللهم نعم -ثم سأله عن رمضان، وسأله عن
الزكاة- ثم قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على ذلك ولا أنقص) وذهب إلى
قومه، فما بات واحد من أهله إلا وقد أعلن إسلامه، وقالوا: ما وجدنا
سفيراً أشد وأكبر بركة على قومه منه.
فقوله: (لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، وقوله صلى الله عليه وسلم بعده:
(أفلح إن صدق) يفيد أن الصلوات الخمس ليس فيها زيادة، قالوا: الذي خيف
منه أن تفرض جماعة، كما أنهم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم يخرج
ليصلي بهم جماعة، وما عدا ذلك فلا.
ولذا قالوا: لما أمن عمر من أن تفرض لانقطاع الوحي سنها جماعة، على ما
سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله.
الشاهد: أنهم جلسوا وانتظروا، وكان يصلي قبل ذلك، واتفق العلماء على
أنه ما كان يشعر بصلاتهم خلفه، وليس ذلك ببعيد؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم حينما يكبر في الصلاة لا ينتبه لغيرها، ولا يشغله عنها شاغل، وإن
كان ليس غافلاً في صلاته عما حوله؛ لأنه جاء عنه: (إني لأدخل في الصلاة
على نية الإطالة، فأسمع بكاء الطفل فأخفف رحمة بالأم، لما أعرف من
وجدها عليه) إذاً قالوا: كيف أقرهم على الصلاة خلفه؟ قالوا: لم يشعر
بهم، ولا مانع في ذلك.
يهمنا تصحيح الحديث الذي يقول: (خشيت أن أخرج إليكم، فيكتب عليكم
الوتر) والصحيح: (أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها) لكن المؤلف يريد أن
يقول: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) ، ليستدل على أنه لم يكتب، ولم تأت
كتابته، وهذا يرد على حديث: (الوتر حق) إذاً: حق لم يكتب كما قال علي:
(ليس كالصلاة) .
فضل صلاة الوتر
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر
النعم) .
ثم يأتي بهذا الحديث وله دلالة من جهتين: الجهة الأولى: (إن الله
أمدكم) والمدد يكون زيادة عن الأصل، كمدد الجيش.
(أمدكم بصلاة) ولم يقل: (أوجب عليكم صلاة) يعني: هي مدد زيادة في الأجر
وفي العمل، وفرصة أخرى فيها متسع لكم (هي خير لكم من حمر النعم) فإذا
كان الأمر موكولاً إلى: (خير لكم من حمر النعم) ، فالذي يريد حمر النعم
يهتم بها، والذي لا يريد فلا حرج.
إذاً: هذا الحديث يدل من جانب على أن الوتر ليس بواجب، وإنما هي صلاة
أمدنا الله سبحانه وتعالى بها.
الناحية الثانية: بيان فضل الوتر، بأن الوتر من صلاها فهي خير من حمر
النعم، وما هي حمر النعم؟ أين أهل نجد أو أهل البوادي أو أهل الإبل أين
العمانيون؟ حمر النعم هي نوع من الإبل العمانية أو مثلها، تأتي في لون
فيه احمرار، وهي جميلة الشكل، فارهة القوام، وهي أحسن أنواع الإبل.
ولما كان المخاطبون أهل إبل خوطبوا بما هو أحب شيء إليهم، واليوم
تخاطبهم فنقول: خير من أجمل القصور، وخير من أحسن السيارات، ولكن
التعبير النبوي الكريم، لا يأتي تعبير أحسن منه ولو تطورت الحياة حتى
يصل الناس إلى غزو الفضاء وغيره، فحمر النعم هي الزينة وهي الجمال، وهي
المتعة، وهي التي تقر لها العين، أما غيرها فقد يخشى الإنسان منها.
فحمر النعم إذا رأيتها في الصحراء وهي تقطع الفضاء، وهي في رشاقتها كما
يقال: تسر النظر، وتشرح الصدر، ويطمئن إليها صاحبها، وهذا خير ما يتطلع
إليه الإنسان صاحب الحلال.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً
خير لك من حمر النعم) ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم ترغيب في الوتر،
وبيان لأجره وفضله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المؤلف: [وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا) أخرجه
أبو داود بسند لين، وصححه الحاكم، وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله
عنه عند أحمد.
] تقدم مثل هذا اللفظ، وتقدم معه ما يبين ذلك الحق: (فمن شاء أن يوتر
بخمس.
بثلاث.
بواحدة فليفعل) ، وهنا أعاده المؤلف مرة أخرى بعد هذا البيان: (الوتر
حق، فمن لم يوتر فليس منا) .
هذه الأحاديث التي فيها: (ليس منا من فعل كذا، ليس منا من فعل كذا)
تترك على عمومها، كما قالوا: أحاديث الزجر والوعيد لا تشرح ولا تفسر،
وبإجماع المسلمين كلمة: (ليس منا) لم تخرجه عن نطاق الإسلام، حاشا
وكلا، ولكن (ليس منا) أي: من خيارنا، وليس على مستوانا، وليس على ما
نحن عليه من التزام الفرائض والنوافل.
إذاً: (ليس منا) : أي: من المجموعة التي تحافظ على هذا الباب الخير،
ويكون الصارف على هذا المعنى تلك النصوص الأخرى التي صرفت نصوص الوجوب
إلى الندب، ومعلوم أن من ترك مندوباً لم يخرج عن الإسلام، بل إجماع
المسلمين -ما عدا بعض الفرق- أن من وقع في كبيرة لا يخرج عن الإسلام؛
لأنه يترك إلى المشيئة، بخلاف المعتزلة والخوارج الذين يكفرون
بالكبائر، والمعتزلة لا يجرءون أن يكفروا في الدنيا، وأهل السنة
والجماعة مجمعون على أن لا تكفير بذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء}
[النساء:48] ، فما دون الشرك متروك لمشيئة الله سبحانه.
إذاً: فقد اتفقنا على أن الوتر ليس فرضاً كفرض الصلاة، كما قال علي رضي
الله تعالى عنه: (ولكنه سنة سنها رسول الله) ، فمن ترك سنة لا يكون ترك
الإسلام.
إذاً: هذا من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [5]
لقد سن النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل لهذه الأمة، وما منعه من
جمع الناس في المسجد إلا خشية أن يفرض عليهم، ولذا فإنه لما جاء عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بعد انقطاع الوحي، قام بجمع الناس على إمام واحد
في المسجد، فصارت صلاة القيام سنة تؤدى جماعة في المسجد إلى يومنا هذا،
وصارت شعاراً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
شرح حديث عائشة في
بيان عدد ركعات صلاة الليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة
ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا
تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله!
أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) متفق
عليه، وفي رواية لهما عنها: (كان يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة،
ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة) ] .
هذا الحديث قد تميز بموضوع مستقل، بمعنى: أنه يدخله العلماء في مباحث
صلاة التراويح، وذلك لقولها رضي الله تعالى عنها: (في رمضان ولا في
غيره) ومعلوم صلاة رمضان أنها صلاة التراويح.
والحديث حول هذا النص الصحيح يتناول الكيفية والكمية، فإذا وقفنا على
تلك الكيفية والكمية انتقلنا إلى ما عليه التراويح، وما أخذته من مراحل
وتطور في هذا المسجد النبوي الشريف إلى نهاية عهد التشريع والتطبيق
العملي من الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.
أهمية اتباع النبي
في كيفية صلاة التراويح
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد - (ما) هنا
نافية- رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى
عشرة ركعة، وإلى هذا الحد كأنه يقال: لا زيادة في التطوع ليلاً في
رمضان ولا شعبان ولا شوال على ثمان ركعات، هذا هو النص في الكمية، ولكن
هل بقي الأمر على ذلك؟ نأتي إلى الكيفية: (يصلي أربعاً فلا تسل عن
حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) ، لماذا لا
أسأل؟ لأنه فوق ما تتصور من الإجابة، ومما تتوقع أن يصليهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثمان ركعات: أربع وأربع؛ (ثم يصلي ثلاثاً) فيكون المجموع إحدى
عشرة ركعة، (ثم يصلي ركعتي الفجر) فيكون ذلك ثلاث عشرة ركعة.
الثلاث لم تبين لنا كيفيتها، ولكن في الثمان ذكرت التطويل والحسن.
يأتي في حديث أنس وغيره عنها رضي الله تعالى عنها أنه كان يقرأ قائماً
في الركعة الأولى البقرة والنساء وآل عمران، أو يقرأ البقرة أو آل
عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد ويقول:
سبحان ربي الأعلى نحواً من قيامه، ثم يجلس ويحمد الله، ويسأله نحواً من
قيامه، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من اعتداله.
وتقول في قراءته: (ما مر بآية مغفرة إلا سأل، وما مر بآية عذاب إلا
استعاذ) وهكذا تبين القراءة ترتيلاً وسؤالاً وتأملاً واستعاذة.
يقول ابن حجر: إن هذه الكيفية لتعطي الركعة ما يعادل ساعتين، ولعله
يقضي الليل كله في هذه الثمان ركعات.
نحن نأتي إلى قولها: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره) ، فبعض الإخوة
يأخذون الحديث يقسمونه قسمين: قسم يأخذون به، وقسم يهملونه، ويقولون:
لا تراويح إلا ثماني ركعات؛ لحديث عائشة: (ما كان يزيد في رمضان ولا في
غيره) لكن لفظ: (عن حسنهن وطولهن) أين ذهبت؟ قال: هذه ذهبت مع رسول
الله فيقال: سبحان الله! أنتم تأخذون ذلك سنة، وتمنعون الزيادة، لماذا؟
فإذا كنتم تريدون تطبيق السنة وفعلتم ذلك، فكان يكفي منكم أربع ركعات
بدلاً عن ثمان، وهي خير من عشرين وثلاثين وأربعين ركعة على النحو
الموجود الآن، لكن تعجزون عن ذلك، والسلف رضوان الله تعالى عليهم لهم
مع التراويح مشوار طويل، لكن يهمنا في هذا النص أن نبين للإخوة خطأ
التمسك بجزء من ظاهر هذا النص، وترك الجزء الثاني مع أنه نص لا يتجزأ؛
لأن الكيفية تابعة للأصل، وكما يقال: (الحال يأتي لبيان صاحبه) ،
فيقال: صلوا ثمان ركعات لكن على الحال التي فعلها صلى الله عليه وسلم،
لا تأخذ ثمانية وتجعلها تقليداً وليست كالأصل، والسلعة الأصيلة لا يمكن
أن تجارى بسلعة تقليدية لها.
إذاً: لا حجة لمن تمسك بثمان ركعات في رمضان، ثم نقول مرة أخرى: هل يا
ترى عندما اقتصرتم على الثمان ركعات في رمضان، هل داومتم عليها بقية
السنة؟ لا أدري ما الجواب فالجواب عندهم! لأنها تقول رضي الله عنها:
(في رمضان ولا في غيره) وقيام الليل يقول بعض العلماء: كان فرضاً عليه
{نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] وقد عرفنا معنى (نافلة لك) ، فكان يداوم
على ذلك.
إذاً: من أخذ بالثمان على تلك الكيفية وداوم عليها في رمضان وغيره
فجزاه الله خيراً، لكن يترك الصلاة طوال السنة، ويأتي إلى رمضان فيأخذ
العدد فقط ويترك الكيفية، فهذا أخذ بالنقيضين.
إذاً: هذا الحديث لا مستند لأحد فيه.
الدليل على أن النبي
لم يكن يقتصر في الليل على ثمان ركعات
ثم نأتي مرة أخرى لحديث عائشة بنفسها، وهو عندكم في منتقى الأخبار،
وشرحه الشوكاني رحمه الله؛ تقول أم المؤمنين عائشة: (ما صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم العشاء قط، وما دخل بيتي إلا وصلى أربعاً أو ستاً)
.
كلمة: (ما صلى وما دخل) تدل على الاستمرار، أي أنه كان يصلي أربع ركعات
أو ست ركعات عندما يدخل بيتها بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك من منتصف
الليل أو ما يقاربه، يقوم فيصلي الركعات الثمان، فإذا جئنا وجمعنا
مجموع ذلك وجدنا أنها أكثر من ثمان.
ولها حديث آخر قالت فيه: (كان يفتتح قيام الليل أو صلاة الليل بركعتين
خفيفتين) ، كأنها تمرين، ثم يدخل في الإطالة، وفي بعض رواياتها: (ثلاث
عشرة ركعة) وست بعد صلاة العشاء مباشرة، إذاً: كم تكون؟ تسع عشرة ركعة،
ثم ركعتان خفيفتان كم تكون؟ إحدى وعشرين ركعة، فجمع عمر الناس على إحدى
وعشرين ركعة! فالذين يعيبون على عمر يقولون: ابتدعها عمر، لا والله،
عمر لم يبتدعها، ولكن استنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لمحة تاريخية لصلاة
التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحاضر
وإذا تركنا هذا جانباً وجئنا إلى المنهج أو السيرة التاريخية وسبق أن
كتبنا في ذلك من عشرات السنين، رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد
النبي عليه السلام؛ رداً على أولئك الذين يقتصرون على الثمان في رمضان،
ويدعون الناس إليها، ولا تكون في أنفسهم، والذي يتبين من دارسة هذا
الموضوع تاريخياً نعلم جميعاً أن مبدأ التشريع ومصدره من سيد الخلق صلى
الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه وعمله صلى الله عليه وسلم في التراويح؟
وماذا كان عمل خلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم؟ وإلى متى استقر
الأمر عند علماء الأمة؟ نجد ابتداء حديث أبي هريرة الذي تقدم التنويه
عنه: (إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه) وجاء الحديث:
(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام
رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) قام رمضان لم يحدد
ولم يعين، ثم عموم صلاة رسول الله، نجد القرآن الكريم يقول: {قُمْ
اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً}
[المزمل:2-3] سبحان الله! {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً
ثَقِيلاً} [المزمل:5] إلى آخره، فالقرآن في قيام رسول الله، وتكليفه
بقيام الليل لم يحدد له عدد الركعات، وترك الأمر إليه (نصفه أو ثلثه أو
زد عليه) سبحان الله العظيم! إذاً: لا يوجد تحديد في الآيات.
وحديث أبي هريرة يبين لنا أن الأمر في بدايته كان للترغيب، ولرغبة
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخير بادروا، فكانوا يقومون
رمضان فرادى، ثم بعد ذلك وجد قراء يقرءون، وفي المسجد جماعات، وكان
العامة أو الناس يصلون أوزاعاً وراء من يقرأ القرآن، وكانوا يتبعون حسن
الصوت فيصلون وراءه، إذاً: كانت التراويح في الطور الثاني تقام جماعة
مع من يقرءون القرآن، ويتبع الناس من كان أحسن الناس صوتاً، استمر
الأمر كذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فعله.
صلاة التراويح في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ويروي المروزي، وهو أوسع من جمع في قيام الليل، عن النبي صلى الله عليه
وسلم عدة صور: منها: أنه خرج على أناس يصلون خلف أناس يقرءون، فقال: ما
بال هؤلاء؟ قالوا: قوم ليس معهم قرآن يصلون خلف من معه قرآن، وذلك في
رمضان، وهناك رواية تقول: (فسكت وترك) ، ورواية تقول: (أحسنوا) ، وفي
رواية: (ونعم) ! ونأتي مرة أخرى أنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة
قال: انصبي لي حصيراً يا عائشة على باب الحجرة، فنصبت حصيراً على باب
حجرته، فصلى العشاء ودخل البيت، ثم قام من نصف الليل فصلى وصلى وراءه
من كان في المسجد، ثم كذلك من الليلة الثانية، فتسامع الناس وجاءوا
وصلوا وراءه أكثر مما كانوا بالأمس، وتختلف الرواية في أنه حدث ذلك في
ليلتين أو ثلاث، أو ليلة واحدة، وأخيراً صلى العشاء وخرج ثم نظر إلى
المسجد وهو غاص بالناس.
تقول عائشة: كاد المسجد أن لا يحمل أهله، فقال: ما بال الناس يا عائشة؟
قالت: ينتظرون خروجك، لقد تسامعوا بصلاتك وصلاة أقوام خلفك البارحة،
فجاءوا ينتظرون ليصلوا بصلاتك كما صلى أولئك، فقال: اطوي عنا حصيرك.
ثم أصبح وقال لهم (والله ما بت بحمد الله غافلاً ليلتي هذه، وما خفي
علي صنيعكم، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) .
إذاً: ما منعه من الخروج إليهم إلا خشية أن تفرض، وهذا يتضمن تقرير
الصلاة جماعة.
ثم يأتي حديث أنس مرة أخرى، يقول أنس: (صمنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم فما قام بنا نصف الشهر، ثم لما كان ليلة ثلاث وعشرين قام بنا،
وصلى بنا إلى ثلث الليل، ولم يقم أربعاً وعشرين، فلما كان ليلة خمس
وعشرين صلى بنا، ولم يقم ليلة ست وعشرين، فلما كان ليلة سبع وعشرين قام
بنا وأيقظ أهله، وصلى إلى ثلثي الليل.
فقلنا يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية ليليتنا؟ قال صلوات الله وسلامه
عليه: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .
وهنا في الليلة الأولى قام إلى ثلث الليل، وفي الثانية إلى نصفه، وفي
الثالثة إلى ثلثيه، ولم يرد لنا عدد ركعات الصلاة، ولكن عرفنا زيادة
الزمن، فهل يا ترى كانت تلك الزيادة هي عدد ركعات أم أنها تطويل في
القراءة؟ الله تعالى أعلم، إنه اجتهاد زائد عما قبله.
وجاء أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد المئزر، وطوى
فراشه، وأيقظ أهله) أي: يجتهد في العشر الأواخر أكثر مما كان يجتهد في
العشرين قبلها، وبأي نوع يكون الاجتهاد هل بزيادة الركعات أم بتطويل
القراءة؟ الله أعلم، لكن هناك زيادة في العبادة في العشر الأواخر.
وهنا لما كان منه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بمن خلفه دون أن يشعر
بهم، وفي بعض الروايات: (فشعر بنا فخفف الصلاة، فقلنا: أشعرت بنا؟ قال:
نعم، وهذا الذي حملني على ما صنعت) ، وفي بعض الروايات جاء: (وهو لا
يشعر بنا) ، وهو لا يقر على باطل، فلو أن صلاة التراويح جماعة في
المسجد باطلة لا تجوز ما أقره الله على ذلك، ثم باختياره قام ليلة ثلاث
وخمس وسبع وأيقظ أهله، هذا في عهده صلى الله عليه وسلم.
صلاة التراويح في
عهد أبي بكر رضي الله عنه
ثم بعد ذلك جاء عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولم يأت تجديد لصلاة
القيام.
وكلنا يعلم أن خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت خلافة كفاح وجهاد
في تثبيت الدعوة؛ لأن كثيراً من الأعراب قد نكثوا العهد، وهناك من ادعى
النبوة، فقام الصديق رضي الله تعالى عنه لقتال المرتدين حتى يثبتوا على
دين الله، فما كان عنده متسع فيما يسمى بتشريع جديد.
ولكن في خصوص التراويح يروي لنا ابنه عنه قوله: (كنا نقوم رمضان ونتكئ
على العصي من طول القيام، ثم ننقلب ونتعجل الخدم خشية الفلاح) يعني:
خشية السحور، فكان هنا تطويل! فكانوا يقومون الليل حتى يعتمدوا على
العصي، ويرجعون إلى البيوت يتعجلون السحور مخافة الفجر، إذاً: هل نقدر
هذا التطويل أنه عدد ركعات زائدة أم أنه تطويل في القراءة؟ إن الاتكاء
على العصي ليوحي بتطويل القراءة لا بعدد الركعات، فهذا طور قد مضى.
صلاة التراويح في
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه، فخرج ذات ليلة ووجد الناس يصلون
أوزاعاً، فقال: لو جمعت الناس على إمام واحد لكان خيراً، ثم استدعى
القراء، واستقرأهم، فكان منهم البطيء ومنهم السريع، فأمر البطيء بأن
يقرأ بخمس وعشرين آية في الركعة، والسريع أن يقرأ ثلاثين آية في
الركعة، وأمرهم بصلاة عشرين ركعة.
فكان في عهد أبي بكر تطويل في القيام حتى وصل إلا الاتكاء على العصي،
وفي عهد عمر يشق على الناس الاستمرار في ذلك، وهو الذي يقول في صلاة
الفريضة: (لا تبغضوا الله إلى خلقه، يقوم أحدكم في الصلاة فيطول؛ فيمل
الناس؛ فيكرهون) ، هكذا يقول رضي الله تعالى عنه.
إذاً: ليس من هديه إطالة القراءة وطول القيام حتى يمل الناس، فعوض طول
القراءة بأن جعل القراءة ثلاثين أو خمساً وعشرين آية في الركعة
الواحدة، وأمرهم أن يصلوا عشرين ركعة.
وهناك نصوص جاءت عن أبي بن كعب وغيره أنها: ثمان ركعات عشر ركعات بدون
تحديد، وهذا قد انقضى أمره، فلما جاء عمر وجمعهم على إمام واحد، جعل
إمامين للرجال يتناوبان، وإماماً للنساء، وفي عهد أبي بكر تقول عائشة
رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الصبية من الكتاب يصلون بنا قيام
رمضان، ونصنع لهم القلية) ، وهي نوع من الطعام.
إذاً: كان هناك تغيير، ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها لم تأخذ الصبيان وتجعلهم أئمة للنسوة في المسجد، فبيتها أولى
بهذا، ولأن في زمن عمر جعل إماماً للنساء يعجل بهن الصلاة؛ ليرجعن إلى
بيوتهن، وإماماً للرجال يتناوب مع زميله للرجال على نحو ما تقدم من
قراءة ثلاثين أو خمس وعشرين آية.
صلاة التراويح في
عهد عمر بن عبد العزيز
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه،
وهو على رأس المائة، فماذا كان الحال؟ بلغت التراويح في هذا المسجد إلى
ست وثلاثين ركعة، وما الذي أوصلها؟ أوصلها ما يأتي: بعض الناس يكتب
أشياء لا تدخل العقل منها: كان الأمير له أربعة أبناء، وكان كل ولد
يصلي بكذا وكذا كلام لا دخل له أبداً.
والصلاة سميت: تراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات، وكان
عند أهل مكة فرصة في تلك الترويحة، فيقوم النشيط منهم ويطوف بالبيت
سبعاً، ويصلي ركعتين سنة الطواف، ثم تبدأ الترويحة الثانية، فأهل
المدينة لم يكن عندهم طواف، فما كانت عندهم فرصة يساوون بها أهل مكة في
هذه المنافسة، فنظروا فجعلوا الطواف مقام ركعتين، وسنة الطواف ركعتين،
فهذه أربع ركعات بين كل ترويحة من التراويح، والعشرون فيها أربع
ترويحات.
فجاء أهل المدينة وقالوا: عوضاً عن الطواف نزيد ركعتين، وعوضاً عن
ركعتي الطواف نزيد ركعتين، فأربع ركعات ما بين الترويحات أصبحت ست عشرة
ركعة، تضم مع العشرين الأساسية فتصير ستاً وثلاثين ركعة، ولذا يقول
المالكية: لا ينبغي لأهل قطر من الأقطار أن يفعلوا ذلك؛ إنها خصوصية
لأهل المدينة، لأن أهل المدينة وحدهم هم الذين لهم الحق في أن ينافسوا
أو يتسابقوا مع أهل مكة.
فعلى هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه جعل التراويح ستاً
وثلاثين ركعة.
صلاة التراويح في
عهد الدولة الفاطمية
واستمر الأمر إلى أن جاء الفاطميون وأزالوا هذه الزيادة، وبقوا على
عشرين ركعة في مكة، وألغوا الزيادة في المدينة، وبقيت العشرون على ما
هي عليه، إلى أن جاء القرن السادس الهجري، وجاء أبو زرعة -وهو الإمام
المحدث المشهور، وكان قد تولى إمامة المسجد النبوي الشريف- وعرف ما
كانت عليه التراويح سابقاً، فلم يرد أن يزيد فيما لم يكن سابقاً، ولم
يرد أن يميت ما كان موجوداً من قبل، فأتى بالست عشرة ركعة مع العشرين،
ولكن جعلها في آخر الليل طيلة رمضان.
صلاة التراويح في
عهد الدولة العثمانية إلى وقتنا الحاضر
واستمر الحال إلى عهد الدولة العثمانية، ويحدثنا من أدركها يقول: كانوا
ينادون على المنارة الست عشرية، وبعضهم يرسل أشخاصاً بالسعف في الطرقات
يطوفون في المدينة يعلمون الناس بوقت الست عشرة ركعة.
ثم جاء العهد الحاضر، فنقصت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، وجعلت في
العشر الأخيرةمن رمضان فقط، وهو القيام الموجود حتى اليوم.
وعلى هذا أخذت التراويح في هذا المسجد النبوي تتدرج من مطلق قيام:
(وسننت لكم قيامه) (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه) ثم جاء بعد ذلك: ثمان ركعات، ثم جاء بعد ذلك: عشرون ركعة، ثم جاء
بعد ذلك: ست وثلاثون ركعة، ثم رجعت إلى عشرين ركعة وست عشرة ركعة
مفصولة، ثم رجعت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
التحذير من جعل عدد ركعات التراويح موضعاً
للخلاف والنزاع
والذي يهمنا في هذا أيها الإخوة: أنه لا ينبغي لإنسان أياً كان هو بما
تبادر عنده أن يجعل عدد ركعات التراويح موضع خلاف ونزاع بين المسلمين،
فإن كنت تريد أن تصلي ثماني ركعات فكما تريد، أو تريد أن تصلي أربعاً
فكما تريد، ولا اعتراض على أحد في ذلك، لأنه تطوع.
تريد أن تصلي مائة ركعة فلا مانع، وكان عثمان رضي الله عنه أحياناً
يقوم الليلة كاملة بركعة واحدة، فلا مانع، ولا حصر لعدده، اللهم إلا
الجماعة للإمام الراتب بأن ذلك أصبح شعاراً خاصاً برمضان، وللإمام الذي
عينه الإمام أي: أن يصلي ويحافظ على هذه السنة التي تناقلها الناس
أربعة عشر قرناً، وما دب الخلاف إلا في هذا القرن الأخير، والله أسأل
أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، فهل من المعقول أو
الإنصاف أو المنهج العلمي، أو الأمانة العلمية، أن نقتصر على حديث عدد
ثمان ركعات ونترك كل ما عداه من الصفات، أو نترك كل الآثار أو النصوص
التي وردت في الموضوع؟ ليس هذا بإنصاف، وليس هذا بأمانة، والله أسأل أن
يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
قالت عائشة: (قلت: يا رسول الله! تنام قبل أن توتر؟) .
وكان من حقه وقد تورمت قدماه، قالت: (فنام، ثم قام فأوتر، فصلى ثلاثاً)
.
عائشة تعلم بأن من نام مضطجعاً عليه أن يتوضأ، فلما نام قالت: (تنام
قبل أن توتر؟) أي: والوقت قريب، وسترجع مرة أخرى تتوضأ، قال: (يا
عائشة! إن عيني تنامان وقلبي لا ينام) يعني: لو نمت لم ينتقض وضوئي،
ولو انتقض لعلمت ذلك، وهذا من خصائص الأنبياء صلوات الله عليهم، وفي
بعض رواية ابن عباس: (وكذلك الأنبياء) .
وهنا صلى ثلاثاً على أي كيفية صلى ركعتين ثم واحدة منفردة، أم أنه صلى
ثلاث ركعات مجموعة بسلام واحد؟ الأحناف أخذوا بكلمة (ثلاث) فجعلوها
شبيهة بالمغرب، والجمهور فرقوا فجعلوها ركعتين ثم ركعة، وأخذوا بحديث:
(لا تشبهوا الوتر بالمغرب) ، وحديث أم المؤمنين هنا مجمل، وجاء تفصيله
في غيره وعليه أخذ الجمهور.
(صلى ثلاثاً) ، فهنا ثلاث مع ثمان كان المجموع إحدى عشرة ركعة، وركعتان
يفتتح بهما صلاة الليل أو ركعتي الفجر كان المجموع ثلاث عشرة ركعة،
وكما قلنا: كان يصلي ست ركعات في أول الليل، وثلاث عشرة ركعة في آخره
يكون المجموع تسع عشرة ركعة، وركعتان خفيفتان، فيكون المجموع إحدى
وعشرين ركعة.
ولما ذكرت ذلك للشيخ ابن باز رحمه الله قال: هذا تلفيق في العدد، قلت:
يا شيخ! تلفيق خير من تبديع، عندما نقول: إن عمر لفق العدد التلفيق هذا
هو مجموعة أحاديث موجودة، فنعم الحل، بدلاً من أن نقول: إنه ابتدع ما
لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: له أصل من السنة وعن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فهل أصحاب الثمان أخذوا بهذه الست
والأربع أيضاً؟ لا أعتقد أنهم يأخذون بها.
هدي النبي صلى الله
عليه وسلم في صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في
شيء إلا في آخرها) ، وعنها رضي الله عنها قالت: (في كل الليل قد أوتر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليهما.
] وهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله عنها عن كيفية صلاة الوتر إذا
كان أكثر من ركعة، فتقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل
ثلاث عشرة ركعة، يوتر بخمس، إذاً: كان قيامه ثماني ركعات، أضف إليها
الخامسة تكون ثلاث عشرة ركعة، ثم بينت لنا كيفية وتره، أنه ما كان يجلس
في الخمس ركعات إلا في الركعة الأخيرة، وتقدم لنا في بيان كيفية الوتر
بأكثر من ركعة أن له فيها حالتين أو ثلاث حالات: إن شاء سلم من كل
ركعتين، على أن قيام الليل والوتر شيء واحد، صلاة الليل والوتر من
(صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة أوترت له ما قد
صلى) .
الحالة الثانية: أن يفصل بين قيام الليل في التهجد وبين الوتر، فإن
أوتر بواحدة عقب صلاته فلا إشكال، وإن أوتر بأكثر من واحدة بثلاث أو
بخمس أو بسبع، فإن الثلاث عند الجمهور ليس لها إلا صورة واحدة إذا جمع
الثلاث معاً، وهي: أن يكبر ويصلي الركعات الثلاث، ولا يجلس في الثانية،
ويجلس في الأخيرة ويتشهد ويسلم، ما عدا ما أخذ به الأحناف من أنه إذا
أوتر بثلاث يجلس في الثانية ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالركعة الثالثة
فيتشهد ويسلم.
وعند الفقهاء اصطلاح: الثلاث مفرقة أو مجموعة؟ فالأحناف يجمعونها بسلام
واحد، والجمهور يفرقونها أو يجمعونها بتشهد واحد.
إذاً: الأحناف يصلون الثلاث بتشهدين وسلام، ولا يفصلون ركعة الوتر عن
الشفع قبله، والجمهور إن صلوا ثلاثاً صلوا بدون تشهد بعد الثانية،
وجمعوها نسقاً واحداً، وتشهدوا في الثالثة وسلموا.
هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا صلاة الوتر الخامسة، وقد
ميزت صلاة الوتر عن قيام الليل (يصلي من الليل: ثلاث عشرة ركعة، يوتر
منهن) أي: من الثلاث عشرة ركعة يوتر بخمس، إذاً: ليس الكل وتراً، وليس
الكل تهجداً، فجعلت التهجد ثمانياًً، وقد تقدم حديثها: (ما زاد في
رمضان ولا غيره عن ثمان ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن ...
) وذكرت الثمان مستقلة.
ثم هي تذكر لنا الوتر بخمس قالت: (لا يجلس فيهن) أي: فهن خمس ركعات
متواليات، يقرأ ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ثم يقوم للركعة الثانية،
يقرأ ويركع ويرفع ويسجد سجدتين، ثم يقوم للثالثة ولا يجلس للتشهد،
وهكذا الرابعة، وفي الخامسة يجلس فيتشهد ويسلم.
هذه هي الصورة التي ساقتها أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
ويتفق العلماء على أنه يجوز لنا إذا أوترنا بخمس أن نجلس في الرابعة،
نأتي بالأولى ثم الثانية ثم الثالثة بدون جلوس، ونجلس في الرابعة نتشهد
التشهد الأوسط ولا نسلم، ثم نقوم للخامسة ونتشهد ونسلم، فإذا كان في
السبع ركعات جاء أيضاً بست ركعات متوالية، إن شاء جلس في السادسة وتشهد
وقام، ثم أتى بالسابعة وتشهد وسلم، وإن شاء لم يجلس في السادسة، بل
يأتي بالسبع ركعات متوالية حتى يأتي إلى السابعة فيتشهد ويسلم، وهكذا
يذكرون في التسع ركعات، إن شاء جلس في الثامنة، ثم قام ولم يسلم، ثم
جاء بالتاسعة وتشهد وسلم.
هذه الصور التي جاءت، وعلى هذا تكون صلاة الوتر فوق ثلاث لك فيها ثلاث
حالات: الحالة الأولى: أن تصلي ركعتين ركعتين وتسلم في كل ركعتين، ثم
توتر بواحدة.
الحالة الثانية: أن تجمع الخمس أو السبع أو التسع بتشهد واحد في الأخير
وتسلم.
الحالة الثالثة: أن تجلس في الشفع الذي قبل الوتر، فإن كان الوتر خمساً
جلست في الرابعة وقمت، وإن كان الوتر سبعاً جلست في السادسة وقمت، وإن
كان الوتر تسعاً جلست في الثامنة وقمت، ثم جئت بكامل العدد من خامسة أو
سابعة أو تاسعة وتشهدت وسلمت.
هذه صور صلاة الوتر إذا زادت عن ثلاث، وهذا باتفاق.
ولكن الخلاف فقط فيما إذا كان يوتر بثلاث، والجمهور على أنها صورتان
فقط، يفصل الركعة عن الركعتين، أو يجمعهما بتشهد واحد، ولكن الأحناف
ليس عندهم فصل وصلاة ركعة واحدة، بل يصليها مجموعة، ويتشهد في الثانية،
ويقوم ويأتي بالثالثة ويتشهد ويسلم، وهذه الصورة ورد فيها النهي عن
تشبيه الوتر بصلاة المغرب.
هدي النبي صلى الله
عليه وسلم في صلاة الوتر
قال المؤلف: [وعنها رضي الله عنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليه.
] لاحظوا -يا إخوان- هنا الفسحة والرخصة والتخفيف، تقدم في أول الباب
(صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة) ، أي: بعد
قيامه الليل، وتقدم: (إن الله قد زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم
ما بين العشاء وطلوع الفجر) فبين صلى الله عليه وسلم وقت الوتر من بعد
صلاة العشاء مباشرة إلى أن يطلع الفجر، فجعل الليل بكامله وقتاً للوتر،
وهنا ربما يتساءل إنسان: أي الأوقات أو أي أجزاء هذا الوقت أفضل؟ تقدم
البيان مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من مجموع الأحاديث وفي وصية أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث -وذكر منها-: أن أوتر
قبل أن أنام) إذاً: هذا وتر أبي هريرة في أول الليل.
وجاء الخلاف بين عمر وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فكان أبو بكر
لا ينام حتى يوتر، وكان عمر يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فقالوا: من خشي
فوات الوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ويأخذ بالعزيمة، ومن أيقن من
نفسه أو غلب على ظنه أنه سيستيقظ في آخر الليل فليجعل الوتر في آخر
ليله.
فهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه من كل الليل أوتر
رسول الله، من أوله من أوسطه من ثلثه من ثلثيه من آخره، ثم انتهى وتره
إلى السحر، يعني: فعل الوتر في أجزاء من الليل مختلفة للبيان، ثم استقر
وتره إلى السحر، وعلى هذا يجوز إيقاع الإنسان الوتر بأي جزء من الليل
حسب ما تيسر له، من أوله من أوسطه من آخره.
وتقدم لنا السائل الذي سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في
ثلاث مسائل منها: (متى كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:
من كل الليل أوتر رسول الله من أوله من أوسطه من آخره، فقال: الله
أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) وعلى هذا لا تحديد في جزئية
الزمن لصلاة الوتر، وإنما الإنسان هو الذي يحدد لنفسه بحسب ما يتيسر
له.
أما إذا تساءلنا عن الأفضل، وكانت كل الأجزاء عندنا سواء، كإنسان
يستطيع أن يوتر أول الليل، أو نصف الليل، أو آخر الليل، فالكل عنده
سواء، فهذا نقول له: الأولى أن يكون وترك سحراً؛ لأنها تذكر أنه كان
آخر أمره صلى الله عليه وسلم في الوتر وقت السحر، ولماذا خص وقت السحر؟
لأننا جميعاً نعلم بأن تلك الساعة هي ساعة المناجاة، وساعة الزلفى
والإنابة، وساعة القرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث:
(إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل
من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)
إذاً: تلك اللحظات هي أقرب وأرجى للاستجابة، وقبول العبادة، والتوفيق
إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى.
لكن إذا خاف الإنسان أن تفوته تلك الساعة فليؤمن نفسه بالصلاة في أول
الليل، وسيأتي البحث بعد هذا فيما لو أوتر أول الليل عزيمة وحزماً، ثم
وفقه الله وأعانه وقام بعد ذلك ماذا يفعل؟ وهو البحث بين قوله صلى الله
عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) وبين قوله: (لا وتران
في ليلة) وسيأتي بهما المؤلف رحمه الله.
يهمنا أولاً: تحديد وقت الوتر، ومتى يكون هو الأفضل؟
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [6]
أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، وقد حث على هذه الصلاة سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، ومن فعله أنه كان يقوم الليل
بأربع ركعات، ثم بأربع أخرى، ثم يختم ذلك بثلاث يوتر بها، ويختم قيام
الليل بذلك، وعلى الرغم من حضه صلى الله عليه وسلم على الوتر إلا أنه
نهى عن الإتيان بها أكثر من مرة في الليلة، كما دعا إلى أن يكون الوتر
آخر صلاة العبد من الليل.
الترغيب في قيام
الليل والتحذير من تركه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
ومن والاه.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله!
لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه.
] تأملوا يا إخوان هذا الأسلوب! هذا أسلوب عتاب، أم أسلوب ممازحة، أم
أسلوب ترغيب، أم أسلوب ترهيب؟ كيف نصنف هذا الأسلوب النبوي الكريم؟:
(يا عبد الله! لا تكن مثل فلان) هل فلان هذا اسم جنس أم شخص معين؟
(فلان) كناية عن شخص من بني آدم، فهل يراد به شخص بعينه علم من حاله
صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل وترك أو أراد صلى الله عليه
وسلم أن يجرد شخصية ينبه بها عبد الله بن عمرو بن العاص؟ ابن حجر رحمه
الله يقول: قوله: (لا تكن مثل فلان) لم أقف على اسم هذا (فلان) في طريق
من طرقه، هكذا يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو مؤلف الكتاب.
وبعضهم يقول: إن فلاناً هذا أمر رمزي، لا تكن كشخص من الأشخاص يقوم
ويترك، مثل الآية الكريمة: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل:92]
هل هناك امرأة بالفعل نقضت غزلها، أم هذا من باب العموم، أن الذي يعمل
عملاً ويشرك فيه أو يرجع فيه كالتي تغزل الغزل ثم ترجع وتفك الغزل هذا
إلى صوف منثور؟ لا أعتقد أن امرأة ستفعل هذا بالذات، ولكن يكون هذا على
سبيل المثال في نقض العمل بعد إبرامه، والله تعالى أعلم.
ولكن يقولون: من الأدب النبوي الذي نتعلمه: لعله يعلم شخصاً بعينه،
ولكنه لم يسمه ستراً عليه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم من
بعض الناس بعض الأفعال، ولكن لم يسمهم، ويخطب ويقول: (ما بال أقوام
يقولون كذا وكذا) ، من هم هؤلاء؟ لا حاجة لنا بمعرفتهم.
وكما جاء في رواية الموطأ: (عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه
أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل وعمر يخطب، فقال: ما هذا يا فلان؟
-رواية الموطأ هكذا ما سمت أحد- قال: والله ما زدت أن سمعت الأذان
فتوضأت فجئت، فقال: والوضوء أيضاً؟!) يعني: تأخرت في المجيء ولم تغتسل!
خطآن ارتكبتهما! بعض الروايات تسمي الشخص هذا الذي دخل، فيكون عدم
تسميته كما يقال: حتى لا ينسب إليه هذا التقصير، وهو ليس من أهل
التقصير.
ولكن هنا: (لا تكن مثل فلان) هذه ملاطفة ومداعبة، وحث وترغيب في
العبادة، بالإشادة أو التنويه أو العتاب، فلان هذا ما هو شكله وما هو
وصفه؟ (كان يقوم الليل ثم ترك) ، فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تقوم
الليل فترة ثم تترك؟! ويقف عند هذا العلماء ويقولون: بم نستفيد من هذا
الحديث في مشروعية قيام الليل، أواجب هو أم سنة؟ يقول بعض العلماء: كان
قيام الليل في أول الأمر واجباً، ثم شق عليهم فنسخ الوجوب إلى الندب
عندما فرضت الصلوات الخمس، طيب! الصلوات الخمس فرضت في مكة، والذي
يهمنا أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، ويقولون: هذا الحديث دليل على أن
قيام الليل ليس بواجب؛ لأنه لو كان فلان هذا الذي ترك قيام الليل ترك
واجباً، فهل يكون موقف النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتهك واجباً مجرد
أن يقول: (لا تكن مثل فلان) ؟ لا.
هذا الحديث يدل على الترغيب في قيام الليل، والأحاديث الواردة في الحث
على قيام الليل عديدة، ولكن والله -يا إخوان- إن الإنسان ليذكر هذا
الحديث وهو في غاية من الاستحياء، ومن العجب أيضاً أن يكون التفريط من
طلبة العلم! يقول أحمد رحمه الله: (عجبت لطالب العلم ليس له ورد من
ليله!) ؛ لأن قيام الليل هو أكبر غذاء للإنسان، اللهم إلا إذا كان يقوم
من الليل بدراسة، في تفسير في حديث في فقه، بما يجد نفسه منشرحاً إليه،
وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سأله رجل: (ماذا أصنع
في رمضان: أقرأ القرآن أم أصلي القيام؟ قال له: إنما أنت مرتاد لنفسك
-يعني: تسيمها المرعى- فحيثما استجابت معك فارعها) .
إن كانت تستجيب معك برغبة وبإمعان واستفادة في القراءة فاقرأ، وإن كانت
تستجيب معك في الصلاة والمناجاة والخشوع والركوع والسجود فصل، وهكذا
يقال لطالب العلم.
وقد جاء أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب وقال: ألا تكن مثل آل فلان يحيون
القيلولة ويقيمون الليل! قال: دع عنك بني فلان، والله لتعلم مسألة في
الفقه خير من عبادة آل فلان.
إذاً: مجال القربى والزلفى إلى الله واسع، لكن لابد أن تكون هناك ساعة
عبادة لا في العلوم الأساسية خاصة الفقه، الفقه له قساوة وشدة، وله
أيضاً طلاوة وحلاوة، لكن ما كل إنسان يقوى على مكابدته، فلابد له من
ساعة يذكر الله فيها، يأخذ آيات من كتاب الله يقرؤها ويتلوها ويتمعن
فيها، وقد سبق أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل كله،
وأقول: والله! لو أن إنساناً شرح الله صدره، وأنار قلبه، وأخذ الفاتحة
ليالي عديدة ما أدى واجبها، ويقول عنها علي رضي الله تعالى عنه: (لو
شئت أن أكتب حمل بعير على سورة الفاتحة، لفعلت) ، ومن أراد أن يعرف
حقيقة أمرها فليأخذ مقدمة تفسير الفخر الرازي على الفاتحة، ولينظر كم
أخرج منها من مئات وآلاف المسائل والأبواب! أيها الإخوة! قيام الليل كل
بحسبه، لو أن إنساناً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم استيقظ من ليله
واستغفر ربه، وسأل الله فله أجر عظيم، كما جاء في الحديث: (ما من إنسان
يتعار من الليل فيذكر الله ويستغفره إلا كان له من الأجر كذا وكذا)
نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، وأن ينير قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه
ويرضاه.
فلابد للإنسان من ساعة يخلو فيها مع الله، كما قال عمر لجليسه: (اجلس
بنا نؤمن ساعة) وهل كانوا غير مؤمنين؟ لا.
المراد: نجدد الإيمان، نقوي الصلة بالله، نجدد الرغبة بأن نتذاكر فيما
بيننا، سواء آية، أو حديثاً، أو مسألةً، أو نتذكر اليوم الآخر إلى غير
ذلك.
تلك الساعات تغذي الروح، وترطب القلوب التي قست فأصبحت كالحجارة أو أشد
قسوة، وليس لها دواء ولا شفاء إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، وليس الذكر
مجرد إطلاق اللسان بأي حالة من الحالات: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] بأي حالة من
الحالات.
شرح حديث: (أوتروا
يا أهل القرآن)
قال رحمه الله: [وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أوتروا يا أهل القرآن! فإن الله وتر يحب الوتر) رواه الخمسة وصححه ابن
خزيمة] .
هل المقصود بأهل
القرآن عموم أمة الإسلام أم أهل القرآن وخاصته؟
أهل القرآن من هم؟ أهل التوراة من هم؟ أهل الإنجيل من هم؟ كما جاء في
ضرب المثلين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ.
} [الفتح:29] ، أي: ضرب المثل في التوراة لأهل التوراة، وفي الإنجيل
لأهل الإنجيل، فبعض العلماء يحمل ذلك على عموم من ينتمي إلى أمة
القرآن، تمييزاً لهم عن أمة التوراة، وعن أمة الإنجيل، فيكون هذا
النداء موجهاً للأمة بكاملها؛ لأنها أمة القرآن.
وهناك من يقول: لا، أهل القرآن الذين حفظوه واشتغلوا بعلومه، وكانوا من
أهل القرآن تلاوة وعلماً وعملاً، فإذا حملناه على العموم فهو كالعموم
المتقدم: (الوتر حق) فإذا حملناه على الخصوص كان لخصوص الفقهاء
والعلماء، وإذا حملناه على العموم فهو يضاف إلى الأحاديث التي يستدل
بها على وجوبه: (أوتروا) وإذا حملناه على الخصوص خرج عن كونه للوجوب؛
لأن الواجب يعم حملة القرآن وغير حملة القرآن، والجمهور على أن المراد
بأهل القرآن حملة القرآن.
ولماذا يخصهم؟ قالوا: لأنهم هم الأولى بذلك، وهم الأحرى بأن يلتزموا
بسنن العبادات مع فرائضها، وهم الأولى بأن يكونوا القدوة لغيرهم؛ إذاً:
على العلماء واجبات أكثر من العوام، وعلى أهل القرآن مسئوليات أكثر من
غيرهم، ولما كانت وقعة اليمامة ورجع بعض الناس، وثبت فلان وقال: (ما
هكذا كنا مع رسول الله، يا أهل القرآن هلموا) ، وكذلك صلى الله عليه
وسلم لما كان في غزوة حنين، ورجع الناس عندما فاجئوهم بالنبل، قال
للعباس: (ناد: يا أهل بيعة الرضوان!) لماذا خصهم؟ لأنهم بايعوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا يفروا، وهذا
وقتهم، فلما نادى كذلك رجعوا وتجمعوا عنده صلى الله عليه وسلم، وأعادوا
الكرة ونصرهم الله.
إذاً: اختصاص أهل بيعة الرضوان بالنداء يوم حنين في تلك الشدة لأنهم
أخص الناس وأولاهم بذلك؛ ولأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفروا، والآن قد فروا فليرجعوا.
وأقرب ما يحمل عليه الحديث أن أهل القرآن هم حملته، وقد يقال لهم:
القراء، وكلما كان الإنسان طالب علم أو أقرأ لكتاب الله كان أدعى وأولى
بأحكامه، وبالله التوفيق.
قوله: (فإن الله وتر يحب الوتر) .
هذا التذييل: (فإن الله وتر يحب الوتر) هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن
أسماء الله الحسنى بكاملها، فإن الله وتر، ولما كان وتراً يحب الوتر،
لا نقول: للمجانسة، ولكن لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
أخرجنا ذات المولى سبحانه، وجئنا إلى المخلوقات، وجدنا أن الأجناس
تتجانس وتتآلف في وحدة الجنسية، فأيما جنس لقي جنسه تآلف معه؛ لأن وحدة
الجنس تجمعهم، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، ولكن الرسول صلى
الله عليه وسلم يقول: (أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) ، وقوله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله وتر) هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، وليست
على سبيل الحصر، ولكنها مشعرة بأنه لا وتر إلا الله، وبأن جميع
الكائنات زوجية مزدوجة، والله خلق جميع المخلوقات، ولنبدأ من أرقاها
وهو الإنسان، ثم عالم الجن، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم الحشرات، فنجدها
تعيش مزدوجة، ما بين ذكور وإناث، وكذلك المخلوقات الأخرى، حتى الجمادات
نجدها مزدوجة وليست وتراً، وكما أشرنا إلى ما يقول علماء الذرة بأن
الذرة لها نواة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ عند المناطقة الجوهر الفرد،
والآن قد فجروا هذا الفكر، ووجدوا بأن النواة التي يتكون منها كل جرم
سواء كان معدنياً أو كان حجرياً أو كان غير ذلك، فإن تلك النواة وهي
نهاية الجزء في هذا الجرم تتكون من جزءين، وفيها قطب سالب وموجب.
إذاً: كل الكائنات زوجية، ولها أجزاء يكمل بعضها بعضاً، ولولا الجنس
المزدوج في بني آدم لما وجد الإنسان، ولو بقي أبونا آدم على ما هو عليه
ما جاء أحد إلى الدنيا، ولو ذهب أبونا آدم وجاءت حواء وحدها ما كان أحد
على وجه الدنيا، اللهم إلا القدرة الإلهية تظهر في آحاد البشر، كما جاء
في مريم عليها السلام، فالله عز وجل جعلها آية، ونفخ فيها من روحه،
فجاءت بعيسى بلا أب، هذه آحاد بيان القدرة، حتى لا تكون عادة أو تنسب
إلى الطبيعة، فإن الله خلق آدم من تراب، وأيضاً ليس من تراب وحده، بل
ماء وتراب، وليس من التراب فحسب ولا من الماء فحسب، بل من عنصري الماء
والتراب، ثم خلق حواء من ضلعه ولحمه ودمه، ثم تناسل الناس من هذين
الأبوين، وهكذا النباتات والطيور والحيوانات والحشرات إلى غير ذلك،
والله وحده سبحانه هو الوتر.
إذاً: فإن الله وتر يحب الوتر، فإذا كان الله يحب الوتر: (أوتروا يا
أهل القرآن) إذاً: الوتر واجب أم سنة؟ سنة الله سبحانه وتعالى يحب كل
العبادات (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا
يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً: كل العبادات محببة إلى
الله، والوتر بخصوصه؛ لأنه ليس فرضاً لازماً، ويأتيه الإنسان تطوعاً،
فمحبة الله إياه حملت العبد بحبه لله أن يأتي بالوتر.
حكم تكرار الوتر في
الليلة الواحدة
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه.
وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (لا وتران في ليلة) رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان] .
كلام العلماء في حكم
تكرار الوتر في ليلة وصوره
نلاحظ -يا إخوان- إيراد المؤلف رحمه الله هذين الحديثين متعاقبين؛
إشارة إلى ما يوجد من شبه التعارض بينهما، فالحديث الأول جاء بلفظ:
(اجعلوا -والخطاب موجه للأمة جميعاً- آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا
يعم كل مسلم؛ لأن كل مسلم يصلي المغرب والعشاء وهما من صلاة الليل،
المغرب وتر صلاة النهار بكونه ثلاثاً، والعشاء شفع، ومعها سنة ركعتين،
فتحتاج إلى وتر، فيتناول الحديث البحث من جانبين: كون الوتر آخر
الصلاة، فلو أنه ما صلى العشاء، ودخل وقت الوتر ولم يصل العشاء، فلا
يحق له أن يصلي الوتر بناء على أن وقت الوتر من العشاء إلى الفجر؛ لأنه
أمر أن يجعل آخر صلاته وتراً، ومن صلاته العشاء مع سنتها، فهذا الحديث
يحتم عليه أن يوتر.
نقول: هذا الحديث على وجازة لفظه يتكلم في جانب، ويأتي الحديث الثاني:
(لا وتران في ليلة) إذا أخذنا الحديث الثاني على حدة، ونقول: إن
إنساناً صلى العشاء وأوتر، ليس له أن يعيد الوتر مرة أخرى؛ لأنه قد
أوتر، ولا وتران في ليلة، فهو أوقع الوتر في آخر صلاته، فلا يعيد
الوتر؛ لأنه يتكرر، ولا وتران فضلاً عن ثلاثة، وكلا الحديثين يعمل عمله
إذا انفرد، من كان يوتر أول الليل ولم يقم آخره صلى العشاء وما يسر
الله له، وأوتر ونام حتى يطلع الفجر، فهو جعل آخر صلاته بالليل وتراً،
وانطبق عليه هذا الحديث بدون أي معارض.
إنسان صلى الوتر ثم استيقظ بعد نومه، وأراد أن يعيد الوتر، هل يجوز له
ذلك؟ لا؛ لأن أمامه حديث: (لا وتران في ليلة) ، فكل من الحديثين يعمل
عمله إذا انفك أحدهما عن الثاني، ولكن إذا ارتبط الحديث الأول بالثاني
ماذا يفعل؟ وهذه هي المسألة التي كثر الكلام عليها، وتعالج بناحية
منهجية، وصورتها: صلى العشاء فأوتر، أخذ بالعزيمة، فصدق عليه أنه جعل
آخر صلاته بالليل وتراً، وأعمل الحديث الأول بأن جعل آخر صلاته بالليل
وتراً، ثم يسر الله له القيام، فصلى من الليل ما تيسر له، طيب! بعد أن
صلى من الليل ما تيسر له، وقد أوتر وتره، يأتيه الحديثان معاً، الحديث
الأول يقول: (اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً) ، لأنك صليت الآن اجعل آخر
صلاتك بالليل وتراً، والحديث الثاني يقول: لا، (لا وتران في ليلة) فما
هو المخرج؟ من أراد تحقيق هذه المسألة بأوسع ما يكون فعنده كتاب: قيام
الليل للمروزي، أو مختصر هذا الكتاب، وكذلك فتح الباري لـ ابن حجر،
وغيره من مجموعات الأحاديث، وأدق ما يكون في ذلك بحثاً ما كتبه الإمام
العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، فهؤلاء
يقولون: ما دمت قد أوترت أولاً فصل ما شئت ثم لا توتر، طيب! حديث:
(اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) أين تذهب به؟ تعارض حديث نهي مع حديث
أمر! وبعض العلماء يقول: هذا التعارض أنا ألغيه، ألغي الوتر الذي في
أول الليل، وكيف تلغيه؟ أليس الوتر ركعة واحدة؟ بلى، قال: أنا عندما
أقوم من ثلث الليل الآخر قبل أن أصلي من الليل ما أريد أصلي ركعة
واحدة، وأرسلها إلى الوتر في أول الليل، يصبح الوتر الذي في أول الليل
شفعاً، يقول: ألغيت الوتر الأول، ثم أستأنف قياماً جديداً وأوتر، فأجعل
آخر صلاتي من الليل وتراً.
وهناك من يقول: هذا عمل غير صحيح، وروي عن ابن عباس وأم المؤمنين عائشة
رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هذا تلاعب بالوتر؛ لأنه بعد أن صلى
الوتر نام، وربما وجب عليه غسل، تكلم أكل شرب ثم بعد هذا كله ربما
يعتريه موجب للوضوء أو موجب للغسل، وأكل وشرب، ونوم، وكلام ثم يصلي
ركعة يضيفها للتي قبلها؟! كيف تنضم إليه؟ جاء عن عثمان رضي الله تعالى
عنه أنه كان يفعل ذلك، وابن عمر كان يفعل ذلك، فـ عثمان رضي الله تعالى
عنه يقول: (ما أراها -يعني: الركعة الثانية التي سأرسلها- إلا كشاردة
الإبل) ، فلا ينبغي أن يضم هذه الركعة الواحدة بعد النوم والأكل والشرب
ونواقض الوضوء إلى ما تقدم.
طيب! ماذا نفعل؟ قالوا: ننظر في التوفيق بين الحديثين، فالحديثان في فن
الأصول ليس بينهما عام وخاص حتى نحمل العام على الخاص، وليس فيهما مطلق
ومقيد حتى نقيد المطلق بقيد مقيد، ولكن كلاهما صحيح صريح في موضع يعارض
الآخر: (لا وتران ... ) (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهنا يقول
ابن دقيق العيد: نخرج خارج نطاق الحديثين بالمرجحات الأصولية، وما هي؟
قال: متون الحديث صريحة صحيحة لا غبار عليها، ولكن مضمون الحديثين ما
هو؟ قال: مضمون حديث: (لا وتران في ليلة) هذا نفي ونهي أم ندب وطلب؟
نهي ونفي، سواء كان نفياً في أن توقع وترين؛ لأنه لا يوجد وتران في
ليلة، أو نهياً عن أن توقع الوترين في ليلة.
وحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم) هذا طلب أم نهي؟ طلب، وأقل مقتضيات النهي
هنا الكراهية؛ لأن النهي إما حرام أو مكروه، وأقصى درجات الطلب الوجوب
ما لم نجد صارفاً، وهل الوتر واجب؟ أصل مشروعية الوتر ليست واجبة،
إذاً: كيفيته، أحكامه، لا ترتقي إلى الوجوب: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل
... ) إرشاد لإيقاع الوتر، وهو طلب دلالته الندب.
إذاً: الحديثان متعادلان في الصحة والصراحة في القول، ولكن اختلفا في
المضمون، فأحدهما: مضمونه كراهية إعادة الوتر، والثاني: مضمونه أن تجعل
آخر صلاتك بالليل وتراً، وإذا كان لا وتران في ليلة لو أننا أعدنا
الوتر نكون وقعنا في مكروه، ولو أننا اكتفينا بالوتر الأول وصلينا بعد
ذلك ما تيسر دون أن نعيد الوتر تركنا مندوباً، وتجنب صفات المكروه أولى
من اقتحام فعل المندوب، فيكون ترجيح: (لا وتران في ليلة) على (اجعلوا
آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، إذاً: من أوتر أولاً ثم قام بعد ذلك فليصل
ما شاء ولا يعيد الوتر.
ويقول ابن عباس في من يصلي ركعة الشفع: (هذا جاء بالوتر ثلاث مرات وليس
مرتين) ، أوتر بعد العشاء، ثم صلى ركعة واحدة وهي تعتبر وتراً، ثم صلى
ما تيسر له وجعل آخر صلاته بالليل وتراً، كأنه أوتر ثلاث مرات، وهذا
مقتضى قولهم: (تلاعب بالوتر) .
وعلى هذا يا إخوان يكون المتقرر عند الجمهور بأن اجتهاد ابن عمر وعثمان
رضي الله تعالى عنهما عارضه اجتهاد غيرهما من الصحابة أمثالهما، وإذا
كان اجتهاد صحابي تعارض مع اجتهاد صحابي آخر فإنهما يتعادلان
فيتساقطان، كما هو النظام في البينات، إذا تعادلت البينتان تساقطتا،
ويطلب بينة جديدة، وهنا: لم يبق عندنا إلا الترجيح في مضمون الأحاديث،
أحدهما للنهي وأقل حالاته الكراهة، ولا ينبغي أن نرتكب مكروهاً،
والثاني للطلب، وأعلى درجاته الندب، ولأن نقصر في مندوب خيراً من أن
نرتكب مكروهاً، والله تعالى أعلم.
ثم يؤيد القول بعدم إعادة الوتر بأنه جاء عن أم المؤمنين رضي الله
تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث بخمس ثم يصلي
ركعتين وهو جالس، بل في حديثها: كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما أسن
وأخذه اللحم صار يوتر بسبع، ومعنى: (يصلي ركعتين وهو جالس) ، يعني: صلى
بعد الوتر، ولم يعد الوتر بعد ذلك، ولم يلغ الوتر الذي تقدم.
إذاً: (لا وتران في ليلة) راجح على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ،
وبالله تعالى التوفيق.
ما يقرأ من السور في
صلاة الوتر
قال رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوتر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (قل يا أيها
الكافرون) ، و (قل هو الله أحد)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وزاد:
(ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
في هذا الحديث بيان ما كان يقرأ به صلى الله عليه وسلم في الوتر،
وقوله: (كان رسول الله) يقول العلماء: (إن كان) هنا تدل على الدوام
والاستمرار، ونظروا في هذه السور الثلاث (سبح) و (الكافرون) و (قل هو
الله أحد) ، وتقدم الكلام على السورتين الكريمتين: (قل يا أيها
الكافرون) و (قل هو الله أحد) فيما يتعلق بالقراءة في سنة الصبح، وفي
ركعتي الطواف، وهنا جاء تكرارهما، وكذلك في ركعتي سنة المغرب، وأن
هاتين السورتين يسميان: سورتا الإخلاص، أو سورتا التوحيد، وأن في (قل
يا أيها الكافرون) نبذ لعبادة ما سوى الله، وفيه أيضاً تميز الإسلام
والمسلمين عن غيرهم {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}
[الكافرون:2-4] ، أي: في الحال وفي الاستقبال، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفردت هذه السورة الكريمة بموضوع واحد وهو: إفراد
الله سبحانه وتعالى، وبيان أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، واحد في
ذاته، وواحد في صفاته، وأنه الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلق، أي:
يعمدون إليه ويقصدونه، وهنا يضيف إلينا أبي بن كعب: {سَبِّحْ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وباجتماع هذه السورة مع تلك السورتين
نجد افتتاحية السورة الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
[الأعلى:1] ، والتسبيح بمعنى: التنزيه والتقديس عما لا يليق بجلال
الله، وقد جاءت مادة سبح في القرآن الكريم بكل تصاريفها، {سَبَّحَ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:1] {يُسَبِّحُ
لِلَّهِ} [الجمعة:1] حتى المصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فجاء التسبيح بأنواع تصاريفه؛ لبيان تنزيه
المولى سبحانه وتعالى عما لا يليق بجلاله، وقد أشرنا سابقاً أن معنى
التسبيح من حيث مادته في اللغة أصلها (سَبَحَ) بمعنى: يسبح في الماء،
والإنسان إذا وجد في ماء عميق لا بد أن يسبح وإلا غرق وهلك، ويقال: إن
سبح وسبّح (سَبَحَ الله) أي: كأنه يبعد جلال المولى سبحانه عن كل ما لا
يليق بجلاله، وإلا هلك هذا الإنسان، أو أنه يسبح ويطلب طرق النجاة
بتنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، بخلاف أولئك الذين اتخذوا
الله ولداً، أو اتخذوا له صاحبة، أو اتخذوا له شريكاً، أو وصفوه بصفات
لا تليق بجلاله سبحانه، كما وقع اليهود في وصف الله سبحانه بالفقر
وبالغل إلى غير ذلك من الصفات التي لا تليق بجلاله سبحانه.
وقد بين لنا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله
تملأ الميزان، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) وكما جاء في
الحديث الآخر: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،
حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهاتان
الكلمتان جمعتا طرفي التوحيد؛ لأن (سبحان الله) تنزيه ونفي عن كل ما لا
يليق بجلاله، و (الحمد لله) إثبات وإقرار بكل المحامد، وبهذا يجتمع
للإنسان بهاتين الكلمتين تنزيه الله سبحانه، وتحميده بكل ما يليق
بجلاله، وهذا هو طرفا التوحيد في حق الله.
وهنا قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] التسبيح هنا
متوجه إلى (ربك الأعلى) ، ومن سبح اسم ربه فقد سبح ربه من باب أولى،
فإذا سبح الإنسان وقدس ونزه أسماء الله العلي العظيم فإنه قد سبح ونزه
وقدس المولى سبحانه وتعالى.
ثم جاء بعد هذا التسبيح وهذه الافتتاحية بقوله: {الأَعْلَى} [الأعلى:1]
، والوصف بالعلو ثابت، وكذلك الاستواء على العرش، وكل ذلك مفهوم في
العقيدة، ثم جاء بما يدل ويثبت القدرة الإلهية والربوبية للعالم،
{رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى} [الأعلى:1-3] إلى آخر السورة الكريمة مما فيه جماع كمال
الصفات لله سبحانه.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، لو وقف إنسان عند كلمة: (فسوى)
طيلة عمره ما استطاع أن يستوفي مدلولها، لو نظرت إلى بني آدم من أبينا
آدم إلى آخر إنسان في الوجود، ونظرت في تسوية خلقه لما وجدت اثنين
متفقين تماماً متطابقين تمام المطابقة، ولكن كل مخلوق سواه الله تسوية
خاصة به، ولو جئت إلى رعاة الحيوانات وبهيمة الأنعام لتجد الإبل والبقر
والغنم كلها تتفق في صورة واحدة، ولكن تسوية كل واحدة منها تغاير غيرها
من بني جنسها، وتجد الرعاة يختلطون بمئات من رءوس الغنم، فإذا آواهم
المبيت تجد كل راع يعرف شياهه ويفصلها عن شياه شريكه ومن كان معه.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: إذا أردت أن
تعرف هذه الآية وهذه القدرة الإلهية قف عند جمرة العقبة، وانظر تلك
الوجوه التي جاءت من كل جنس، ومن كل قطر، ومن كل صقع يرمون الجمرات، لن
تجد اثنين اتفقا في صفاتهما، بل إن علماء التشريح اليوم يقولون: إن
بصمات الناس لا تتفق أبداً، بل إن أصابع الإنسان العشر في يديه لا تتفق
بصمة إصبع مع بصمة إصبع أخرى، كم من ملايين الخلق مضوا وفنوا، ويوجدون
الآن، ويوجدون بعد ذلك؛ ولا تتفق بصمة إصبع إنسان مع بصمة إصبع إنسان
آخر!! هذه المغايرة لو وكل ذلك لأفراد الحذاق من العالم بأن يضعوا لها
فيلمات، وأن يضعوا لها صوراً متفاوتة مختلفة لوقفوا عند مليون أو
مليونين أو مائة مليون، أما أن يأتوا بأشكال متساوية من العالم كله
فهذا يعجز عنه البشر، فالله هو الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيء خلقه فهدى،
خلق البعير على ما يتلاءم في خلقته، وخلق الأغنام على ما يتلاءم في
خلقتها، وخلق الإنسان على ما يلائمه، وخلق عوالم البحار على ما
يلائمها، فالإنسان والحيوان لا يستطيع أن يعيش في الماء؛ لأن الإنسان
لا يستطيع أن يستخلص عنصر الحياة من الماء وهو الأكسجين كما يقولون،
بينما حيوانات الماء خلقها وسواها على أنها تستطيع الحياة في ذلك
الماء، وأيضاً منها ما يستطيع الحياة في الماء وفي البر كما يقال:
برمائي، أي: يعيش في الماء وفي البر، فهذه التسوية وهذا الخلق لا
يستطيع إنسان أن يحصي كنهها، ولا أن يستوعب مدلولها.
{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] تقدير الخلائق، {وَكُلُّ
شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، هذه المباني نحن نعلم أنها
لو اختلت مقادير نسبة موادها البنائية لما استطاعت أن تقوم، حتى يقول
المهندسون: لو زادت نسبة الحديد في التسليح لتكسر المسلح، ولو نقصت
نسبة الإسمنت فيه لتشقق؛ فلابد من نسبة معينة محكمة، فإذا اختلت تلك
النسبة فسد البناء! وأنتم تعلمون جميعاً الذي اكتشف الآن فيما يتعلق
بفصائل الدم، وأنه مقادير معينة، ونسب معلومة، وكل شيء في هذا الوجود
له تقديره الخاص، والله سبحانه هو الذي قدره.
وأيضاً: وهدى ما خلق وقدر إلى ما خلقه إليه، إذا جئت إلى الطفل، أو إلى
الحمل، أو إلى الإنتاج من الحيوان فإنك ستجد الشاة تلد السخلة، وقبل أن
تقف على قدميها أو على أرجلها تبحث عن ثدي أمها وتلتقمه وتمتص منه
الحليب، من الذي علمها ذلك؟! هل أنت علمتها؟! لا، هو قدر لها الحياة
بذلك، وهداها لطريق حياتها، وإذا جئت إلى جميع أنواع الحيوانات تولد
النتاج صغاراً، من الذي علمها الازدواج، من الذي ألهم الذكر الذكورة،
والأنثى الأنوثة، ثم جمع بينهما ثم كان التناسل، ثم كانت الزيادة
والنماء وبقاء الجنس?! من الذي علمهم ذلك؟ إنه قدر لكل شيء حياته
ومقاديره، وهداه إلى ما قدره إليه.
لو جئنا إلى عالم الحشرات تجد كما يقولون: مملكة النحل، من الذي هدى
النحلة إلى ما هي عليه، ويعجز كبار حذاق المهندسين أن يوجدوا الأعمال
التي تعملها النحل في بيتها، وفي جمعها للعسل، وفي بناء بيتها من
الشمع، لا يوجد في خلية النخل سراب للهواء ألبتة، بل مسدسات متلصقات،
بيت وبيت، وكيف تعمل؟ وكيف تتنظم؟ وكيف شكلت من جماعتها جماعات على
أعمال مختلفة؟ كل هذا بتقدير الله، وهداها لما قدره إليها.
فإذا قرأ الإنسان ذلك ولو استمر الإنسان مع السورة الكريمة لما فرغ
منها.
هذا مناسبة قراءة هذه السورة مع سورتي الإخلاص في الوتر؛ ليقف الإنسان
في كل ليلة وفي صلاته للوتر على عجائب خلق الله، ومن وراء ذلك تجديد
الإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [7]
صلاة الوتر أفضل الرواتب مطلقاً، ولها أحكام كثيرة، وسنن متعددة، ينبغي
معرفتها، ومن ذلك وقتها، وحكم من نسيها، وما يقرأ فيها، وغير ذلك.
شرح حديث: (كان رسول
الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الأَعْلَى) ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
] .
أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو
كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه
السورة الكريمة، وأول ما أنصح به التفسير الكبير للفخر الرازي؛ لأنه في
الواقع له توجيهات كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي
إيراد ما فيها من نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع
إليها، وهي -كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء
العظيم جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة.
يقول أبي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور
الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة بثلاث بخمس بسبع بتسع،
وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس أو بسبع أو بتسع ماذا
يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك تعيين بسورة معينة إلا في
الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم
يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه
إنما بيّن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر،
سواء اقتصر عليها الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة
ما تيسر له، ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث
الكريمة.
قال: [وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
هذا مما أوقف البعض عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن) ،
وأنتم إذا فرقتم الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم
إلا في آخرهن) ، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله
الأحناف، فماذا توردون عليهم؟ قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم
إلا في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم
يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية، ولم
يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا الحديث فإنه
يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن يتشهد قبل الأخيرة،
إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو: أنك تسلم في آخرهن دون
أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من
معارضته النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب.
إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات وتراً بتشهد
واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، أنها
موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى مثنى، وإذا صلى
ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن.
وبهذه المناسبة لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف
والجمهور موقع إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة
ومندوب، فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على
الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً،
وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن يبحث،
وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح عنده فلا
ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما يوهم إلى ما ذهب
إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من
الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، إذاً: كل
من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة، فإذا كنت تعترض على ما اقتنع
به الفريق الثاني فمن حق الفريق الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت
به، وما دامت المسألة قابلة للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب
كل بما اقتنع به، ولا ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى
أعلم.
مع العلم بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير
الحنفي فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه
الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح قال:
لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً: الإمام
الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من يرى مخالفته في
شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة، ولما سئل أحمد بن
حنبل: أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل
لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم
يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي:
وهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق
بالوضوء وهو أمر أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له
رأيه، وهذا له رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة
في تجنب السلف الخلاف والمنازعات.
والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كل سورة
في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين)
قال رحمه الله: [ولـ أبي داود والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها:
وفيه: (كل سورة في ركعة وفي الأخيرة: (قل هو الله أحد) والمعوذتين) .
] عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي
من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث) وهذا اللفظ من عائشة رضي الله عنها
لم يرد فيه تفصيل في كيفية هذه الثلاث، ومن هنا أخذ الأحناف صورة
الثلاث المعهودة وجمعوها، وآخرون يقولون: ثلاث لم يجلس في الثانية
منهما، وبينت لنا رضي الله تعالى عنها أن هذه السور الثلاث مقسمة على
الركعات الثلاث.
قال: [وفيه: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قل هو الله أحد)
والمعوذتين) ] .
المشهور (قل هو الله أحد) ، فإذا أتى بالمعوذتين مع (قل هو الله أحد)
في الركعة الأخيرة فلا مانع، والمنصوص عليها أنه يأتي بهما، والمشهور
عند العلماء إفراد (قل هو الله أحد) ، بما أنا أشرنا إلى السور الثلاث:
(سبح اسم ربك الأعلى) وما فيها من إثبات الصفات الكريمة للمولى سبحانه،
والقدرة الإلهية والربوبية إلى آخره، وكذلك في سورتي الإخلاص، إذا جئنا
إلى المعوذتين نجد أن الوقوف عند هاتين السورتين الكريمتين يجعل المسلم
فعلاً يقف إجلالاً لكتاب الله، ويقف متلمساً فضل الله أن يفتح عليه في
نسق القرآن في هذا المصحف الشريف، إذا جئنا إلى (قل هو الله أحد)
وإفراد الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته.
سورة الفلق
ونأتي إلى سورة الفلق، ثم نأتي إلى سورة الناس، ثم نأتي إليهما معاً،
تجد السورة الأولى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، وقد
عارض بعض المتفلسفة -ليس الفلاسفة- على إيراد كلمة: (قل) ، وقال: لماذا
لا يقرأ الإنسان: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ؟ فكلمة (قل) مقول
القول، وتحصيل حاصل، ولكن لا، {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] ليعلم السامع
والقارئ بأن هذا المقول يجب أن يقوله بأمر الله سبحانه الذي قال له:
(قل) ، أما إذا بدأ وقال: (أعوذ برب الفلق) قد يكون من عنده هو، قد
تكون استعاذة شخصية، ولكن عندما يضمم: (قل) أي: أنك أمرت وكلفت من الله
سبحانه وتعالى أن تقول، ولذا الذين نادوا بحذفها ما فقهوا كلام الله،
وأن هذا تكليف من المولى لعبده.
{قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، {بِرَبِّ
الْفَلَقِ} [الفلق:1] الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو
من عشرين معنى، وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله
الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ،
ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، {قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، فنجد هنا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى
السماء وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك،
إذا جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات
وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان وطير
وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات والأشجار
وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات تندرج تحت هذه
الكلمة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] .
كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] ؛ لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق
الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه، فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي
أفراد ما خلق، والذي فلقه هو الذي يدرأ عنك شره، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا} [الفلق:1-2] ، (ما) من الأسماء الموصولة
التي تدل على العموم، فمدلولها عام، {مَا خَلَقَ} [الفلق:2] حتى قال
ابن عباس: المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله من شر ما خلق
استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى.
إذاً: دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله،
ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}
[الفلق:3] ، قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت
عمل المفسدين من سحرة وغيرهم.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وهم السحرة
يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ
فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في
العقد: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5] ليس على إطلاقه، بل {إِذَا
حَسَدَ} [الفلق:5] إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة
بالاستعاذة بصفة واحدة لله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
[الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق إذا
وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من صفات
الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم التفصيل، وقبل
ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد بشرط: إذا حسد؛
لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند السحر، وقبل أن يتناولن
الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد
سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال، إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك
العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم
يتوجه إلى الإنسان بالحسد، فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود،
والحسد يوجد عند الإنسان الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم،
لكن شر حسده لا يظهر ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه
للمحسود.
وكيف يقع الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ
قضية سهل بن حنيف، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما رأيت
مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا إلى رسول
الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب
معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال: (وما ذاك؟ قالوا: خلع
لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ صلى الله عليه وسلم وقال:
علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت ما يعجبك، من رأى ما يعجبه
فليبرك، ثم أمر أن يغسل له) وهذه قضية طويلة.
وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في المحسود كسهم صائد،
ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف يؤثر؟! عجز العالم إلى
اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء الجدد، إنما كل ما قالوه: إن
القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج
إلى المعين، فيتأثر بذلك، ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله
تعالى أعلم بها.
سورة الناس
في هذه السورة يستعيذ المسلم بالله بصفة من صفاته، من كل الشرور مجموعة
ومفرقة، بينما نجد السورة الأخيرة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
[الناس:1] المستعاذ منه ماذا؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ
النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] كم صفة من صفات الله جندت
للاستعاذة بها؟ ثلاث وهذه صفات الجلال والعظمة: (رب ملك إله) ، فهي
صفات الكمال والجلال لله، فهي جوامع صفات العظمة لله، هناك: {قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] صفة من صفات الله، وهي صفة
الخلق، ولكن هنا جوامع الصفات: (رب) و (ملك) و (إله) .
المستعاذ منه من هو؟ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]
إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها من
جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية ثلاث صفات
تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس الخناس، فماذا
نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم- بأن الشر كل الشر،
والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر الذي اجتمعت له صفات
العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين في قضية زوجات
الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] يعني: ما بقي إلا
الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله أمام امرأتين كل هذا،
(الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل ذلك يناصرونه عليكما!
ولذلك قال الشاعر: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن هن فهنا الشيء
بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال والكمال تجند وتجمع، ويلجأ
الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما يكون على الإنسان في حياته
وآخرته الشك الوسواس، الخناس! فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من
أي عمل ما تقدم خطوة، فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا
ينتقل من مكانه ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها
الوسوسة في الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على
الإنسان دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد
بعيد.
إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم ما
بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى آخر
المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من المخلوقات، استعذ
برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير، استعذ بالله وبصفات
جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله فلن تنجو منه {وَإِمَّا
يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] .
إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في حياته.
ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول سورة
الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] الربوبية
والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن القرآن في آخره
يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر القرآن بأوله في
تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (أوتروا
قبل أن تصبحوا)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) ] .
هذا أمر توجيه (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقول: (تصبحون تمسون تظهرون) كما
يقولون -فعل الدخول في الوقت، يقال: أصبح فلان دخل في الصباح، أمسى دخل
في المساء، أضحى دخل في الضحى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أوتروا قبل
أن تصبحوا) أي: قبل أن يدخل الصبح عليكم، وتدخلوا في الصباح، ومعنى
ذلك: أن الصباح ليس وقت الوتر، أو أن الوتر إلى قبل أن تصبح، وتقدم
الكلام عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين العشاء وصلاة الصبح) .
قال رحمه الله: [ولـ ابن حبان: (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) ]
جاء في هذا تقييد، من أدرك الصبح ولم يوتر أو أدركه الصبح ولم يوتر فلا
وتر له، أي: لم يبق هناك وقت للمدرك، وإذا خرج وقته ذهب، ولا تستطيع أن
تستدركه، ولكن لم يقتصر الأمر في الأحاديث على مثل هذا، وإنما جاءت
نصوص أخرى فيما يتعلق بانفتاح وقت الوتر إلى ما بعد الصبح، ويجمع
العلماء في هذه المسألة على أن كل هذه الأحاديث التي في التوقيت إنما
هي لوقت الفضيلة والأداء، وما كان بعد الصبح على ما سيأتي للمؤلف وغيره
فيكون تداركاً لما فات من أدائه، وهل هو قضاء أم أداء؟ بعضهم يعتبر ذلك
قضاء، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من نام
عن الوتر أو نسيه)
قال رحمه الله: [وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام
عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) رواه الخمسة إلا النسائي] .
انظروا إلى فقه المؤلف أتى بقوله: (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقوله: (إذا
طلع الفجر فلا وتر) ثم يعقب ذلك بالحديث: (من نام عن الوتر أو نسيه
فليصل إذا أصبح أو ذكر) إذاً: التوقيت الأول للمستيقظ أفضل، أما إذا
كان هناك عذر وفات عنه الوقت المحدد فإنه يصليه إذا مضى وارتفع ذلك
العذر، وإذا كان هذا في الفريضة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا
ذكرها) فيقولون: أيضاً في النافلة من باب أولى، ولا سيما إذا كان
الإنسان مداوماً على عمل من أعمال الفضيلة، فلا ينبغي تركه، وخروج
الوقت لا يسقطه، فهناك تدارك له، وقد جاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها
عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل بأن كان متعباً،
أو شغل عن ذلك فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ لماذا يصلي اثنتي
عشرة ركعة؟ عوضاً عما كان يقومه بالليل، والله تعالى أعلم.
مسألة: إذا قام أو ذكر إلى متى يكون وقت القضاء؟ فبعضهم يقول: إلى طلوع
الشمس؛ لأن جزء ما بين الفجر وطلوع الشمس تابع لليل، وبعضهم يقول: لا،
هذا تابع للنهار، بدليل أن الصائم لا يأكل في ذلك الوقت، وهناك من قال:
إلى طلوع الشمس ينتهي قضاء الوتر، وهناك من قال: إلى وقت الضحى؛ لأنه
وقت نافلة أيضاً، وهناك من مد إلى الزوال، قالوا: لأن أول صلاة بعد
الصبح التي هي حد الوتر، الصلاة التي تعقبها وهي الظهر، أما بعد الظهر
فلا دخل له بذلك، وهو من بداية اليوم الجديد، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من خاف
ألا يقوم من آخر الليل)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن
يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) ]
.
تقدم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل أوتر رسول
الله) ، وعلى هذا الليل كله يكون للوتر، ولكن إذا أردنا أن نتخير
الأفضل، وتساوى عندنا الأمران، له القدرة بأن يستيقظ آخر الليل،
ويستطيع صلاة الوتر الآن، فهما متساويان عنده، فإن كانا متساويين فإن
الأفضل أن يؤخره، أما إذا كان لديه مظنة الكسل، أو مظنة النوم أو هو
مرهق، أو لا يطمع في القيام، وليس عنده عزم أو غير متأكد بأنه سيقوم
قبل الفجر، لا، يوتر من أول الليل؛ لأن الوتر أول الليل على اليقين
وفيه تدارك للأمر، والأخذ بالأحوط أحوط، وعلى هذا يبين صلى الله عليه
وسلم أنه: من استطاع، أو من لم يوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ومن
أيقن أو غلب على ظنه أنه سيقوم آخر الليل فليوتر في آخره؛ لماذا؟
لأفضلية الوقت، الوتر هو الوتر، ثلاث ركعات أو خمس أو سبع، والقراءة هي
القراءة، ولكن الأفضلية جاءت للوقت، وأفضلية الوقت تضاف إلى أفضلية
العمل، ويزداد الوتر فضيلة بأفضلية الوقت.
شرح حديث: (إذا طلع
الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا
قبل طلوع الفجر) رواه الترمذي] .
أيها الإخوة! لعله إلى هذا الحد يكون المؤلف رحمه الله قد أنهى مباحث
الوتر، وسيبدأ في موضوع مستقل وهو الضحى، وقد أورد لنا مشاكل فيه، ولكن
يهمنا بأن هناك مباحث أخرى في الوتر لم يتعرض لها المؤلف، وربما يتعرض
لها في قيام الليل في رمضان أو التراويح، أو في صلاة الصبح، ألا وهو
القنوت في الوتر، والقنوت في الوتر جاءت به النصوص، أو بصفة عامة
مجملة، القنوت هو الدعاء في الصلاة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: داعين مخبتين خاشعين إلخ.
والقنوت من حيث هو أمر طارئ جديد على الصلاة، لم تكن مشروعيته من قبل،
ولكن طرأ وبدأ القنوت في النوازل، قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو
على رعل وذكوان في قصة قتل القراء في بئر معونة، ثم بعد ذلك جاءت
أحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا،
والنوازل لم تكن دائماً، وهنا وقع الخلاف والنزاع والبحث: هل الوتر
دائم أم الوتر مؤقت؟ فمن قال: إنه مؤقت، قال: وقت النوازل فقط، حروب
زلالزل محن شدائد، يقنت الأئمة في الصلوات، ومنهم من قال: يقنت في
الصلوات الخمس، ومنهم من قال: يقتصر على البعض من الصلوات فقط.
ففي حالة النوازل، المشهور القنوت في الصلوات الخمس، وفي غير النوازل
الخلاف في القنوت في الفجر أو في الوتر، والأئمة الأربعة رحمهم الله
يقولون بالقنوت في غير النوازل، ولكن منهم من يقنت في صلاة الصبح،
ومنهم من يقنت في صلاة الوتر.
ثم بعد هذا التقسيم: منهم من يجعل القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة
بعد ما ينتهي من القراءة يكبر وهو قائم ثم يقنت، ومنهم من يجعل القنوت
بعد الرفع من الركوع، ثم منهم من يجهر، ومنهم من يسر.
إذاً: بحث القنوت مستقل من حيث هو في موقعه وسببه وتوقيته.
وعلى كل حال: استقر الأمر عند الأئمة الأربعة رحمهم الله بأن القنوت
طيلة السنة موجود، اللهم إلا بعض العلماء يستثني النصف الأول من رمضان
لا يقنت فيه، ويقنت في النصف الأخير كما جاء عن بعض المالكية، ولكن
المتبع والمشهور عند الجميع أن القنوت موجود طيلة العام، فهناك من جعله
في الوتر كالحنابلة والأحناف، ومنهم من جعله في الصبح كالمالكية
والشافعية، ومنهم من يجعله قبل الركوع، ومنهم من يجعله بعده.
ومهما يكن من شيء فإن تلك الصور كونه في الصبح كونه في الوتر كونه قبل
الركوع كونه بعد الركوع كل ذلك ورد فيه نصوص، ولا ينبغي للإنسان أن
يعترض على آخر إذا رآه أوقع الوتر في أي صفة من تلك الصفات، أما دعاء
القنوت فقد جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه الحديث: (اللهم
اهدني فيمن هديت.
إلخ) ، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة التطوع [8]
من أفضل النوافل صلاة الضحى، وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام فيها
ترغيباً شديداً، وأوصى بها بعض أصحابه، فينبغي معرفة فضلها وأحكامها،
ومن ثم المحافظة عليها.
شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الضحى
أربعاً، ويزيد ما شاء الله)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) رواه
مسلم] .
هذا الحديث الأول من أحاديث عائشة جاء بالنفي أم بالإثبات؟ بالإثبات،
وسيعقبه حديث جاء بالنفي، فإذا قدم ابتداء حديث الإثبات فكأنه يشير
ابتداء إلى ترجيح الإثبات، فنأخذ هذا الحديث، تقول أم المؤمنين رضي
الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ... )
و (كان) في الغالب تدل على الدوام والاستمرار، لم تقل: صلى الضحى
يوماً، (ويزيد ما شاء الله) يعني: مرة يصلي ثمان ركعات، ومرة عشر
ركعات، ومرة اثنتي عشرة ركعة، وقد جاء المؤلف بحديثها في آخر الباب:
(من صلى اثنتي عشرة ركعة في الضحى بنى الله له بيتاً في الجنة) وهذا
جزء من حديث: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين) ، (من صلى أربعاً
كتب من التوابين الأوابين) ، (من صلى ثمان ركعات بني له كذا، أو كتب له
ثواب كذا) ، (بني له قصر في الجنة) كل هذا تدريج مع الركعتين والأربع
والثمان والاثنتي عشرة ركعة.
فحديثها الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعاً، ويزيد
... ) كأنها تقول: أقل ما صلى أربعاً، في هذا الحديث إثبات صلاته صلى
الله عليه وسلم بالضحى، قبل أن نأتي بالنفي نأتي بالأحاديث التي تلائم
الإثبات، فعن أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما قالت:
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتي يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان
ركعات في الضحى، ما رأيت أخف منهما، ولكنه يتم الركوع والسجود) فقالوا:
هذه ثمان، وعائشة تقول: أربع، وثمان يتفق مع قول عائشة: (ويزيد ما شاء
الله) والثمان تزيد عن الأربع، فهذه أحاديث تثبت صلاة الضحى، والذين
ينفون الضحى -كما سيأتي عن ابن عمر وغيره- يقولون: صلاة رسول الله عند
أم هانئ يوم فتح مكة صلاة الفتح، وليست صلاة الضحى، فأجاب الآخرون
وقالوا: كم من فتح فتحه الله على رسوله! وهل جاء في الغزوات ما يسمى
صلاة الفتح؟ تشرع سجدة الشكر، الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث علياً
إلى اليمن، وكتب إليه بأن بني فلان أسلموا كلهم عن بكرة أبيهم، فلما
قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب سجد شكراً لله، وهذا من نصوص
أحاديث سجود الشكر، الذين أسلموا في اليمن، والخبر جاء إلى المدينة،
فسجد شكراً لله، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما فتح المدائن، ودخل
إيوان كسرى صلى فيه ركعتين شكراً لله، مع أنه فتحت خيبر، وفتحت مدائن
أخرى ولم يكن هناك صلاة، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كم من غزوة
غزوها ولم يفعلوا ذلك، وجاء هناك في سنن الرواتب المطلقة سنة الفتح.
إذاً: يكون حديث أم هانئ تبعاً لحديث عائشة الأول، فـ عائشة تقول:
(أربع ويزيد ما شاء) ، وأم هانئ بينت أنها ثمان ركعات، وجاء في حديث
آخر من أحاديث إثبات صلاة الضحى: (كل سلامى من الناس كل يوم يصبح عليه
صدقة) ، والسلامى: المفصل في جسم الإنسان، وفي بعض الأحاديث: (في جسم
كل إنسان ستون وثلاثمائة سلامى) لا تقل: لماذا لا تقل: ثلاثمائة وستون
مثل ما يقول الناس؟ العدد في اللغة العربية يقرأ من اليمين، أنت تقرأ:
(ألم) من اليسار أم من اليمين؟ الكتابة العربية تقرأ من اليمين، فكذلك
العدد في اللغة العربية ينطق من الآحاد فالعشرات فالمئات خمس وعشرون
ومائة، بخلاف اللغة الإنجليزية أو الأعجمية فإنها تقرأ من اليسار،
عندما نقول: سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة هذا غلط، ونقرؤه عربياً
صحيحاً فصيحاً بأن نقول: سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، نقرأ من اليمين
آحاد عشرات مئات.
فالحديث يقول: (كل سلامى من الإنسان كل يوم يصبح عليه صدقة، قالوا: ومن
منا يستطيع ذلك؟) هل أحد منكم يقدر على هذا ولو تمرة؟ ستون وثلاثمائة
تمرة تكون أكثر من صاع أو صاعين، من يستطيع كل يوم أن يتصدق بصاعين؟
صعب.
قالوا: (ومن منا يستطيع ذلك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم -يأتي لهم بعملة
بديلة-: التحميدة صدقة، والتسبيحة صدقة، والاستغفار صدقة، وتعين الرجل
على دابته صدقة، وتدله على الطريق صدقة، وأمر بمعروف صدقة) إذاً: صدقات
كثيرة، وهذه ليس فيها درهم ولا دينار، وما دامت مجاناً خذ ما تريد، ثم
قال:: (ويجزئ عن هذا كله ركعتا الضحى) إذاً: صلاة الضحى أقلها ركعتان،
ثم يأتي بعد ذلك أربع ثم ثمان، ويأتي بعد ذلك اثنتا عشرة ركعة، هذه
الأحاديث في جانب من يقول بمشروعية صلاة الضحى وسنيتها.
فإذا جئنا إلى الأحاديث التي هي أعلى درجة في الإثبات والصراحة، فعندما
يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي) لماذا لم يقل:
أوصاني رسول الله؟ لأن رسول الله مشترك للجميع، لكن (خليلي) ليست لكل
إنسان، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]
فالأنبياء كثر والرسل كثر يقول العلماء: الخلة أخص حالات الحب، وسبق أن
قدمنا بأن الاصطلاحات الشرعية منقولة من الحقائق اللغوية، أنت عندما
تفعل هكذا في الوضوء يقال: خللت الأصابع، وتخليل الأصابع: هو إدخال
الإصبع بين الإصبعين لتتأكد من مرور الماء عليها، وهو مأخوذ من أصل
النبات الذي يسمى الخلة، وأعواد الخلال ماذا نفعل بها؟ نخلل بها
الأسنان.
انظروا إلى الصورة! ما بين الأسنان أهي فجوات متسعة تدخل فيها الأصبع
أم أنها ضيقة؟ بل هي ضيقة، على قدر العود، وكذلك إذا خللت الأصابع هكذا
هل هناك فراغ بين الأصابع المخللة؟ لا.
بل هي مزدحمة، قالوا: كذلك الخلة في الحب هي استغراق محبة الخليل
خليله، بحيث لم يبق هناك فراغ في القلب لغيره.
إذاً: (أوصاني خليلي) هذه وصية مثلما يقولون: موصى عليها، وصية فيها
اعتناء، وصية معنى بها، وسبق أن أشرنا بأن الوصية والوصلة متقاربان في
اللفظ والمعنى، تقول: وصلت فلان بكذا يعني: أعطيته، وصيت لفلان بكذا،
يعني: وصيت له من بعدك بوصية يأخذها، إذاً: فيها إيصال الخير، والشخص
لا يوصي إلا لمن يحب، ولا يوصي لعدو، ولا لشيء مكروه، ولهذا أشرنا
سابقاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! والله إني
لأحبك، وأريد أن أوصيك) قدم المحبة ليعلم معاذاً أن مصدر هذه الوصية
الحب، قال: (والذي نفسي بيده يا رسول الله إني لأحبك أوصني، قال: لا
تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
اللهم أعنا جميعاً؛ لأنه كما قيل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن
معصية، ولا قوة: على طاعة إلا بالله.
فقوله: (أوصاني خليلي) ، فإذا كانت الوصية من خليل كريم يكون محلها
وموضوعها عظيماً، والواجب على الموصى إليه أن يعتني بها، ولهذا قال أبو
هريرة: (فلا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل
أن أنام، وركعتي الضحى) فإذا نظرنا إلى المقارنة: (صيام ثلاثة أيام من
كل شهر) فإنها تساوي صيام الدهر.
إذاً: صلاة الضحى بدلالة الاقتران تساوي ما ذكر معها، أقل ما يمكن أن
يقال في ذلك، ثم لنأت إلى ما يذكره صاحب الترغيب والترهيب، وأرجو من كل
طالب علم أن يرجع إليه في تلك النصوص، جاء فيه: (يا ابن آدم! اكفني أول
النهار بركعتين أكفك آخره) ، وجاء أيضاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم
بعث بعثاً، فرجع قريباً، وغنم كثيراً، فقالوا: ما أسرع هذا البعث! وما
أكثر غنيمته! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب من ذلك
عودة، وأكثر من ذلك غنيمة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: يسبغ أحدكم
الوضوء، فيعمد إلى المسجد فيصلي ركعتي الضحى) يعني: يكون أكثر غنيمة من
الذين ذهبوا فغزوا وغنموا بسرعة، ورجعوا بالغنائم! غريب.
ومن المجرب -يا إخوان- عند كثير من الناس، وما نسمعه من الآخرين، أن من
تعود ركعتي الضحى إذا صلى ركعتي الضحى يظل طوال نهاره مستبشراً مطمئن
النفس، قرير العين، قل أن يرد عليه ما يكدر خاطره، ويكفي أنه لم يكتب
من الغافلين، وكتب من الأوابين، وغفر له ذنبه، وبني له بيت في الجنة،
مع اختلاف عدد الركعات، وليس هناك إلزام بالعدد.
فإذا انتهينا من الجانب الثاني وهو الحديث الآخر لـ عائشة رضي الله
تعالى عنها ننتقل إلى أوقاتها وما جاء في عدد ركعاتها، والله المستعان.
شرح حديث: (ما رأيت
رسول الله يصلي قط سبحة الضحى)
قال رحمه الله: [وله عنها رضي الله عنها أنها سئلت: (هل كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه) .
وله عنها رضي الله عنها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه يصلي قطُّ
سبحة الضحى، وإني لأسبحها) ] .
هذا يا إخوان هو موقف العلماء، ومن شرح الله صدورهم، وأنار بصائرهم
عندما يواجهون مثل هذه الأحاديث، الحديث الأول صحيح لا شك فيه، والحديث
الثاني أيضاً صحيح انفرد به مسلم، وفي البخاري أيضاً تقول أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، يعني: إذا جاء من سفر، هل يوجد تعارض أم
ليس هناك تعارض؟ هناك تقول: (كان يصلي أربعاً) ، وهنا: (ما كان يصلي) ،
فالنفي منصب على الصورة في غير المنصوص عليها وهي: قدومه من مغيبه.
إذاً: عند قدومه من مغيبه يتفق مع الحديث الأول في إثبات الصلاة، وإذا
لم يكن قادماً من مغيبه يختلف مع الأول، ولقائل أن يقول: القادم من
مغيبه السنة في حقه أمران: ألا يطرق أهله ليلاً، وأن يسبق إعلامهم
بقدومه، فإن لم يتمكن بدأ بالمسجد وأرسل من يعلمهم، وإذا بدأ بالمسجد
سيصلي أم سيترك الصلاة؟ سيصلي، فهذا يذكره العلماء من آداب السفر، وبين
صلى الله عليه وسلم السبب فقال: (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة ...
) حفاظاً على كيان الأسرة، وإبعاداً عن مظان السوء، إذا كان الإنسان
غائباً عن زوجته فإنها لا تقدّر زوجاً عندها، فلم تتهيأ لاستقباله،
وغالباً تكون في ثيابها الرثة، فإذا فاجأها على تلك الحالة ربما رأى ما
لا يريد، فانطبعت تلك الصورة في ذهنه، فيحصل هناك تخلخل في الروابط
الزوجية؛ لأن الزوجة كما قالت المرأة البدوية لابنتها: لا يرى منك إلا
كل مليح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح -وتنصحها بعشر نصائح معروفة- وتعهدي
وقت نومه، ووقت سروره، ووقت كذا وكذا إلخ.
فإذا فاجأ المرأة وهي في تلك الحالة ربما لا يعجبه هذا المنظر، وقد
تلصق الصورة في الذهن، وربما تقول: الزوج غائب فرصة أذهب أزور أمي،
فرصة أزور خالتي جارتي، احتاجت إلى حاجة وزوجها غائب بدلاً من أن
تتثاقل إلى إنسان تذهب هي بنفسها لتقضي حاجتها، فيصادف مجيء الزوج وهي
غائبة، ويأتي الشيطان يوسوس: انظر من يوم ما ذهبت وهي ما تجلس في
البيت، من يوم ما ذهبت وهي خراجة ولاجة، ويجد مجالاً للإفساد، لكن
عندما يخبر بأنه قادم تتهيأ.
وحكيت لنا قصة: كان رجل غائباً، وأرسل للزوجة ميعاد العودة، وكانوا كما
تعرفون يسافرون على الإبل، فقبل أن يقدم بيومين رأى فيما يرى النائم أن
كبشين ينتطحان على فرج امرأته، فاشمأز جداً، ولذا كما يقولون: تفسير
المنام إلهام، لأنها موحية، ففزع وذهب إلى طالب علم يسأله فضحك، قال:
لماذا تضحك؟ هل الناس يقتتلون عليها؟! قال: لا، قال: إنها علمت بمقدمك
فاستعملت المقص فجرحها، إنها تتهيأ! ويحكى أن رجلاً كان غائباً، فقدم
وقال: الوقت ليل، وما عندي من أخبرهم، والمسجد الآن ما فيه أحد، فذهب
وطرق الباب وكان حديث عهد بعرس، وفي البيت أبوه وأمه وزوجه، ترون هذا
الليل الطويل من الذي يكون ساهراً يعد النجوم؟ ومن الذي هو نائم
ومستريح؟ ومن اليقظان ومن النائم؟ الزوجة ساهرة كما يقولون: ساهرة
الليالي، والأب والأم في حال النوم، وما عندهم شيء يشغلهم، فأول من سمع
الطرق الزوجة، فحالاً أسرعت، ففتحت لزوجها واستقبلته، وكانت أمه كلما
طلع الفجر تذهب توقظها للصلاة، فذهبت في ذلك اليوم فإذا بالرجل في
الفراش وهي لم تعلم أن ابنها قد جاء، فذهبت لزوجها وقالت: أدرك زوجة
ولدك ومن معها في فراشه.
طبعاً أمور مثل هذه كما يقال: تغلق الذهن، ما كان منه إلا أن فزع إلى
السيف، وجاء وحز رأسه، ثم قامت الزوجة، وجاءت وطرقت على أبيه الباب، ثم
قالت: قم وار ولدك، ذبح ولده بيده! فقالوا: هذه نتيجة مخالفة السنة، لو
كان أهل البيت علموا بمجيئه لفرحوا وهللوا، ولكن لما فاجأهم ولم يعلم
البقية إما أن يقع خطأ، وإما أن يقع سوء في العشرة بين الزوجين.
والآن الحجاج والزوار والعمار، والعمال الذين يسافرون ويرجعون يسر الله
لهم الاتصالات، وشخص مسافر وشخص راجع، فليحذر الإنسان أن يفاجئ أهله،
يقول: اتركني آتيها على غفلة أنظر ماذا تعمل! هذا ليس من المروءة في
شيء! بل هي الدناءة في عينها، أنت لا تدري ما هي الظروف، وإذا كنت
شاكاً في أهلك فلا يستحقوا أن يكونوا معك، يجب أن تكون الثقة متبادلة،
فإذا لم يتيسر له فليأت إلى المسجد، فسيجد الأولاد في المسجد أو
الجيران، وقبل أن يصلي تحية المسجد يكلف أحد المارة: أخبر بيت فلان
بأنه جاء وهو الآن في المسجد.
فهنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان يصلي
سبحة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، كان صلى الله عليه وسلم في الغزوات
يقدِّم من يأتي بالبشرى، كما في غزوة بدر، أرسل ابن رواحة وعبد الله بن
زيد على راحلة رسول الله القصواء ببشرى الفتح والنصر ومجيء الأسارى،
وكذلك في فتح مكة إلى غير ذلك.
فإذا قدم قلنا: على الإنسان أن يبدأ بالمسجد، وكان بيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المسجد، فإذا بدأ بالمسجد بطبيعة الحال علم أهل
بيته، وإن كانوا سمعوا بالبشرى من أول، إذاً: مقدمه من مغيبه هل هذا
كان لصلاة الضحى أم كان لدخول المسجد ليبدأ به؟ ابن عمر رضي الله تعالى
عنه -كما في رواية موطأ مالك برواية محمد بن الحسن - كان إذا أراد
سفراً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قبل أن يسافر،
وإذا رجع من سفر بدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
صاحبيه، وإذا أراد أن يسلم، سيدخل على طول يسلم أم تحية المسجد أولاً؟
معروف في السنة بأن تحية المسجد تصلى أولاً.
فإذاً: إلى هنا حديث عائشة وسط بين الحديث الأول وحديثها الثالث، فهي
سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، ما
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، يبقى هذا نفي صريح،
والأول إثبات صريح، والوسط: (إلا إذا قدم من مغيبه) ، ولكنها مع النفي
تقول: (وإني لأسبحها) لم يصلها وأنت تصليها على أساس ماذا؟ أنت ما
رأيتيه يصليها وتقولي: (وأنا أسبحها) لا تخالفيه! لا، هنا موقف
العلماء: الجمع، هل هناك جمع بين النفي والإثبات أم ترجيح؟ وكما يقول
العلماء: إذا تعارض الحديثان فلا طريق إلا الجمع بين الحديثين ما أمكن،
أو ترجيح أحدهما على الآخر، فبعضهم سلك طريق الجمع، وقالوا: ما صلى
سبحة الضحى قط، وأنا أستحبها، (ما صلى) بمعنى: ما داوم عليها في المسجد
كما تفعلون اليوم في ذلك الوقت، وفي بعض الروايات -ويسوقها بكاملها
صاحب طرح التثريب- تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (ما صلى،
وكان يترك الشيء الذي يحب أن يفعله مخافة أن يكتب على الناس، وكان يطلب
التخفيف وإني لأسبحها) ، يعني تقول: ما كان يصلي وهو يحب صلاتها، ويترك
ذلك مخافة أن تفرض لدوامه عليها، وأنت تصليها لماذا؟ قالوا: اتخذت طريق
الجمع، تقول: ما رأيت، ولكن علمت بأنه يريد أن يصلي، فتخبر عن علمها
بعدم رؤيتها، وتخبر عن رغبته بما سمعت من غيرها، هذا نوع من أنواع
الجمع! وجمع آخر، قالوا: إن قولها: (ما صلى أبداً) -كما أشار ابن
العربي وغيره- أي: ظاهراً وكان يخفيها، وبعضهم يقول: هي امرأة من تسع
نسوة أمهات المؤمنين، وقد يكون وقت صلاة الضحى للنبي صلى الله عليه
وسلم ليس عند زوجاته، ويكون في المسجد، فإذا جاء من يثبت صلاته كـ أبي
هريرة وغيره وأنس فيكون: (من حفظ حجة على من لم يحفظ) ، ويكون هذا إما
طريق الجمع بأنها تنكر حالة صلاتهم التي يداومون عليها وفي المسجد، حتى
قال البعض: إنها كانت تغلق عليها الباب وتصلي الضحى، إمعاناً في
إخفائها.
وعلى كلٍ: مذهب الجمهور تقديم النصوص الواردة في مشروعية صلاة الضحى،
وفي بيان فضلها وأجرها والوارد فيها بالأحاديث الصحيحة سواء كان في (كل
يوم تطلع فيه الشمس صدقة) أو في حديث البعث الذين بعثهم رسول الله، أو
في حديث: من صلى ركعتين أو صلى أربعاً، أو صلى ثمان، أو حديث: (يا ابن
آدم! اكفني ركعتين في أول النهار أكفك آخره) أو في حديث أبي هريرة:
(أوصاني خليلي ... ) كل هذه نصوص عند الجمهور تثبت مشروعية صلاة الضحى
وتبين فضلها.
شرح حديث: (صلاة
الأوابين حين ترمض الفصال)
قال رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) رواه الترمذي.
] في أواخر هذا البحث يأتي المؤلف رحمه الله بعد أن أورد ما يشعر
بالخلاف، ويشير إلى الترجيح لأول وهلة، ويبين عددها؛ أخذ يبين وقتها.
فقوله: (صلاة الأوابين) ما هي صلاة الأوابين؟ وهناك الحديث الآخر:
(صلاة الضحى صلاة الأوابين) ، وروي أن صلاة الأوابين ما بين المغرب
والعشاء، ولا تعارض: فتكون هذه صلاة للأوابين في النهار، وهذه صلاة
للأوابين في الليل، فلا تعارض في ذلك، ولكن فيما يتعلق بالضحى حين ترمض
الفصال، الرمضاء: التراب الحار، وذلك عندما تشتد الشمس، وتكون الأرض
رملاً، وأهل الإبل يعرفون ذلك بالتوقيت تماماً، والفصال جمع فصيل، وهو
الذي انفصل عن أمه وهو صغير لم يبلغ سنة، فإذا كان يمشي وراء أمه
وارتفعت الشمس كما يقال: في ربع الدائرة؛ لأن الدائرة تنقسم نصفين: نصف
نهار، ونصف ليل، من نقطة طلوع الشمس إلى نقطة غروبها تتوسط الدائرة سطح
الأرض الأعلى نهار، وسطحها الأدنى ليل، فالنصف الأعلى نهار يقسم إلى
أرباع: الربع الأول وقت الضحى، الربعان مجتمعان يعني: النصف حينما تزول
الشمس وقت الظهر، الربع الثاني وقت صلاة العصر، والربع الرابع عندما
تغرب الشمس ويأتي وقت المغرب {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
[الإسراء:78] دلوكها أي: زوالها عن كبد السماء.
فعندما تطلع الشمس يكون في أول طلوعها أشعة هادئة باردة لطيفة أو كما
يقول الأطباء: مليئة بفيتامين (د) فهو مقو للأطفال المصابين بالكساح
نافع للعظام، فإذا ارتفعت الشمس إلى أن تصل إلى ربع الدائرة احترت
واشتدت الحرارة، والفصيل لا يستطيع أن يتابع المشي، يربض، فأهل الإبل
يحملونه على ظهر أمه وإلا لا يستطيع أن يمشي، انظروا التوقيت سبحان
الله العظيم! لم يقل: الساعة الفلانية؛ لأنه لا ساعات في ذلك الوقت، ما
كل إنسان يقيس النهار بالساعة، مع أنهم يعرفون الوقت بحركة الظل، وإلى
الآن هناك بعض الفلاحين يقيسون الزمن بالظل، وينصبون عوداً، وينظرون
إلى ظله، أول ما يكون إلى جهة الغرب، ثم يتحول، وكلما ارتفعت الشمس
يقصر الظل، ويتحول إلى الجنوب أو إلى الشمال، ثم تزول الشمس عن كبد
السماء إلى جهة الغرب، ويقيسون بالأصابع ويضعون أعواداً، يجلسون يعدون
اثنتا عشرة ساعة بالنصف ساعة وبالربع ساعة.
والمزولة كانت موجودة في المسجد هنا في الداخل، وهي الآن موجودة عند
غرفة المشايخ، فهي تقيس النهار بظلها.
ولكن لما كان التشريع مبسطاً، ومقدراً للفطرة (أمة أمية) وقت صلى الله
عليه وسلم بالأمر العملي؛ لأن أهل الحضر وأهل المدن عندهم التوقيت
بالساعات يسهل عليهم، لكن أهل البادية وقت لهم بما يعرفونه بطبيعة
حياتهم ومخالطة حيواناتهم، فوقت الضحى عندما ترمض، وهنا: متى يبدأ؟
ومتى ينتهي؟ نجد بعض العلماء يقول: يبدأ وقت صلاة الضحى في الوقت الذي
تصح فيه صلاة العيد، لكن لما كانت الشمس تأتي من تحت تكوير الأرض حينما
تظهر على الحافة كأنها لاصقة في الأرض، فعندما يرتفع قرص الشمس عن حافة
الدائرة قدر الرمح في الهواء، هذا وقت ارتفاع الشمس قدر الرمح، إلى متى
يمتد؟ قالوا: إلى ما قبل الزوال، وهذا توقيت الفقهاء رحمهم الله، ويكون
التوقيت بـ (حين ترمض الفصال) هو وقتها الأفضل لها، إذاً: يكون لوقتها
بداية: وهو ارتفاع الشمس قدر الرمح، ونهاية: وهو قبل الزوال، وفضيلة:
وهو وسطها عندما ترمض الفصال.
وهناك قد يجد الإنسان بعض التفاصيل بين صلاة الإشراق وصلاة الضحى، فقد
جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفريضة -أي: الصبح- وجلس في
مكانه لا يتكلم بشيء من أمور الدنيا حتى أشرقت الشمس، فصلى ركعتين كان
كحاج معتمر، ومن صلى ركعتي الضحى كان كمعتمر) إذاً: يوجد صلاة إشراق،
وصلاة ضحى! قالوا: اللغة فيها: ضحى وضحىً وضحاء، ممدود ومقصور، وقالوا:
ضحوة النهار أوله، والضحى وسطه، والضحاء قريب الزوال، هكذا تقول كتب
اللغة، فيكون الإشراق أوائل شروق الشمس، وهو أول ما يمكن أن تصلى فيه
الضحى لمن كان جالسا ًبعد الفريضة، وطلعت الشمس، فصلى ركعتين ورجع إلى
بيته، يليه بعد ذلك سنة الضحى وهي مستقلة.
وبعض العلماء يقول: سنة الإشراق وسنة الضحى سواء، أو أحدهما تجزئ عن
الأخرى، إن صلى الإشراق أجزأته عن الضحى، وإن صلى الضحى أجزأته عن
الإشراق، ولكن الإشراق مشروط بأن يصلي الصبح ويبقى في مصلاه، وهذه لها
حكمة، لم يقل: في مكانه، لكن: (مصلاه) والمصلى: قد يطلق على اسم المكان
الذي هو موضع الصلاة، يعني: صلى في الصف الأول وبقي في مكانه في الصف
الأول، ومصلاه يطلق أيضاً لغة على عموم المسجد، كقولهم: هذا مصلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فبعضهم يقول: مصلاه بالمعنى الضيق المحدد
الذي جلس فيه، يعني: لا يقوم ويذهب يدور يميناً ولا يساراً، ولا ينتقل
من مكان إلى مكان، وهذا ما يشهد له فعل الصديق رضي الله تعالى عنه، كان
يصلي الصبح ويجلس، فإذا ما طرأ له ما يقتضي القيام وضع رداءه، وقال:
انتظروا سأعود، فبعض الناس نظر فإذا لا يوجد أحد عنده، فلما رجع قال:
تخاطب من بقولك: (انتظروا سأعود) وما عندك أحد؟ قال: عندي، قال: من؟
قال: الملائكة، هم جلساء يسمعون الذكر، وأنا طرأت لي حاجة تجديد الوضوء
حتى لا ينصرفون عني ويحسبون أني ذهبت، فأعلمهم أني راجع إن كان لهم
رغبة بالبقاء بقوا.
فمعنى في مصلاه أي: المكان الذي صلى فيه، وهذا يدل على الالتزام
والمداومة، أما لو كان يطلق المصلى على عموم المسجد فإنه يستطيع أن
يذهب هنا أو هنا كأنه ليس عنده ثبات أو استقرار، وبالله تعالى التوفيق،
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة
بنى الله له قصراً ... )
[وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى
الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) رواه الترمذي
واستغربه] .
سبحان الله! ما أعظم الجنة، وما أعظم نعيمها! قصر في الجنة باثنتي عشرة
ركعة، قد يقول إنسان: الجنة رخيصة أم الاثنتا عشرة ركعة غالية، ماذا
تقولون؟ الجنة والله ليست رخيصة! (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من
الدنيا وما فيها) إذاً: الجنة ليست رخيصة، عرفنا قيمتها، والسوط الذي
هو نصف متر حتى لو كان مربعاً خير من الدنيا وما فيها من قصور ومن فلل
ومن ومن إلخ.
إذاً: الثمن يعادل المثمن، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}
[التوبة:111] ، هذا ثمن غالٍ جداً النفس والمال ثمن للجنة، ولكن أيضاً
المنعم بالنفس وبالمال هو الذي اشتراها، يعطيك ويشتري منك.
إذاً: المسألة إكرامية من الله بأن يعطيه الجنة، إذاً: هذا يغلي قيمة
ركعتي الضحى، ما دام أن المثمن غالٍ إلى هذا الحد يكون الثمن بالتالي
مساوياً، وأين المساواة هنا؟ إذا أردنا أن نقرب الموضوع نأخذ الحديث
الثاني وإن كان أضعف سنداً: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين، من
صلى أربعاً كتب من الأوابين، من صلى ثمان غفر له ذنبه، من صلى اثنتي
عشرة ركعة بني له قصر في الجنة) إذاً: هذا الذي سيداوم على اثنتي عشرة
ركعة في الضحى هل نتوقع منه الغفلة عن ذكر الله؟ لا، إذا كان في غير
وقت الصلاة يصلي الضحى هل يترك صلاة من الصلوات الخمس؟ ليس معقولاً أن
يحافظ على النوافل ويضيع الفرائض! إذاً: هذا بيان وتقوية وتشجيع وندب
للشخص أن يداوم على الصلاة المفروضة، ثم بالتالي يصلي النوافل.
شرح حديث: (صلى
الضحى ثماني ركعات في بيت عائشة)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات) رواه ابن حبان في
صحيحه] الحديث الذي مضى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما كان
يصلي إلا إذا أتى من مغيبه) وهنا تقول: (دخل بيتي وصلى ... ) هل هناك
تعارض؟ ليس هناك تعارض، ممكن أن نقول: دخل من مغيبه فصلى، كم صلى؟
ثماني ركعات، أو نضيف هذا إلى الأحاديث التي فيها مشروعية الضحى، ويكون
عن أم المؤمنين أربعة أحاديث بدلاً من ثلاثة، ويهمنا أنها أضافت إلى
الأربع المتقدمة: (ويزيد ما شاء الله) ، يبقى ثبت عندنا ركعتان، وأربع،
وثمان، واثنتا عشرة، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|