شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [1]
إن للصلاة أهمية عظيمة في دين الإسلام، فهي الركن الثاني من أركانه، ولما
لها من أهمية فقد حث الشارع على تأديتها بأكمل وجه وأحسن هيئة، وإن أكمل
وجه وأحسن هيئة لأداء الصلاة تتمثل في صلاة الجماعة؛ فلذا ترى الترغيب
والحث على تأدية الصلاة في جماعة، وترى أيضاً الترهيب والتهديد في ترك
الجماعة، حتى إن بعض العلماء قال بشرطية الجماعة للصلاة، فلا تصح الصلاة
عنده إلا بجماعة، وبعضهم قال: من ترك الجماعة صحت صلاته منفرداً، ولكنه
يأثم بتركه للجماعة وبعضهم قال: هي سنة مؤكدة.
والله تعالى أعلم.
أحكام صلاة الجماعة
أهمية صلاة الجماعة
وفضلها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع
وعشرين درجة) متفق عليه] .
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب المبارك أبواب الصلاة، وما يلزم
لمقدماتها من الطهارة واللباس، وبيان الأوقات، والأذان والإقامة، ثم صفة
الصلاة من حيث هي، وأتبع ذلك بتوابعها من النوافل الراتبة معها، وأتبع تلك
الرواتب التابعة للفرائض بالرواتب المطلقة، كما جاء في الوتر وفي الضحى.
وهنا يأتي إلى باب من أهم أبواب الصلاة، وهو ما يتعلق بأداء الصلوات الخمس
في جماعة، والجماعة مشروعة للصلوات الخمس، ولبعض الصلوات الأخرى كالجنازة
والاستسقاء والكسوف وقيام الليل في التراويح خاصة في رمضان، وما عدا ذلك
تكون فرادى.
فهنا بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وهو نص عند العلماء في فضل صلاة
الجماعة، ويريد أن يبين كما بين غيره أن صلاة الجماعة لها فضيلة على صلاة
الفذ، والفذ المنفرد.
فالإنسان قد يصلي وحده لعذر، أو لضرورة، كمن هو في سفر وليس عنده أحد، أو
لمرض في البيت، إلى غير ذلك.
وكذلك بعض النوافل، خاصة نوافل البيت يصليها وحده.
ولكن الجماعة قد شرعت، فما مدى مشروعية هذه الجماعة للصلوات الخمس؟
تعدد الروايات المعيِّنة لفضل صلاة الجماعة
المؤلف كغيره يسوق هذا الحديث: (فضل صلاة الجماعة) أو (تفضل) ، أو: (تزيد)
، أو (تضاعف) -كل هذه ألفاظ قد وردت بها الروايات- على صلاة الفذ سبعاً
وعشرين درجة، وفي رواية: خمساً وعشرين درجة.
وابن عمر رضي الله تعالى عنهما انفرد برواية (سبع وعشرين) ، وأبو هريرة
وأنس وغيرهما يروونه بلفظ: (بخمس وعشرين) والجمهور: على صحة حديث ابن عمر:
(بسبع وعشرين) ، فقوم يقولون: الزيادة من الثقة مقبولة، والسبع والعشرون
تتضمن الخمس والعشرين وزيادة، والبعض الآخر يقول: هذه زيادة من ثقة خالف
فيها الثقات، فتعتبر في عرف علماء الحديث من الروايات التي تسمى شاذة، وهو
ما خالف الثقة به الثقات.
والخمس والعشرون متفق عليها، وهي ضمن السبع والعشرين.
أما فقه الحديث ففي قوله: (صلاة الجماعة) والجماعة تصح باثنين إمام ومأموم،
حتى قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن الجمعة تصح بثلاثة أشخاص؛ لأن الله
تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فالنداء لا بد له من منادٍ، وذكر الله
الذي نسعى إليه لابد له من شخص يذكر الله، وهو الإمام، والساعي إلى ذكر
الله هو المأموم، فتم العدد: بمنادٍ للصلاة، وإمام يؤم، ومأموم يأتم.
فقالوا: تنعقد الجماعة في الصلوات الخمس بإمام ومأموم ولكنهم يختلفون في
حقيقة المأموم، فإذا كان المأموم صبياً ليس ببالغ، وهو مميز يدرك معنى
الصلاة، وقد أُمر بواسطة وليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم
بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر) فهل تصح هذه الجماعة وتنعقد؟
وكذلك إذا كان المأموم امرأة، والمرأة لا تجب عليها الجماعة، ولكن إذا
حضرتها صحت منها، وقالوا في المملوك والمرأة والمسافر: ليست عليهم جمعة.
وهو قول الجمهور، فإذا حضرها أحدهم اعتبرت منه وصحت.
هل يكمَّل به العدد عند من يقول بعدد معين أم لا؟
فضل صلاة الجماعة
وصحة صلاة المنفرد
يقول ابن دقيق العيد: هذا الحديث ابتداءً يدل على عدم فرضية الجماعة، وذلك
أن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة في شيء وزيادة أحد المشتركين في هذا
الأصل الذي يجتمعان فيه، وقال: إن الحديث فيه إثبات الفضل للفذ والأفضلية
للجماعة، فلو لم تكن صلاة الفذ صحيحة لما كان لها فضل؛ لأن الباطل لا فضل
فيه، وإذا لم يكن فيها فضل فلا تصح المفاضلة بينها وبين غيرها؛ لأن ما لا
فضل فيه لا يقارن بغيره.
فهذا الحديث يثبت أن صلاة الفذ لها فضيلة، وبالتالي تصح، وصلاة الجماعة لها
فضيلة، ولكن صلاة الجماعة تزيد فضيلتها عن صلاة الفذ، ثم ناقش في الأفضلية
مباحث أخرى طويلة.
وبقي عندنا ألفاظ الحديث المختلفة: (سبع وعشرين درجة) ، (بخمس وعشرين
جزءاً) ، (بخمس وعشرين ضعفاً) .
أما الضعف فلا يتعارض مع الدرجة ولا الجزء؛ لأن ضعف الشيء ما يساويه ويتكرر
ضعفين، أو ثلاثة أضعاف، أو أضعافاً كثيرة.
وبقي التفريق بين الدرجة والجزاء، قالوا: الدرجة أعلى من الجزء وقالوا:
الدرجة في الجهرية والجزء في السرية.
وقالوا في (سبعٌ وعشرون) و (خمس وعشرون) : سبع وعشرون في الليلية، وخمس
وعشرون في النهارية، ويزيد الفضل في كثرة الجماعة، وفي أفضلية المكان، وغير
ذلك.
فإن فضل الجماعة يختلف، فكلما كثر العدد زاد الفضل؛ لأن كل مصلٍ يدعو
ويُشرك غيره في دعائه، وذلك بقوله: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم
عافنا، وكذلك الإمام يدعو للجميع، فكلما كثر العدد زاد الفضل، وقالوا:
المسجد القديم، والمسجد الذي فيه إمام راتب من ولي الأمر يزيد الفضل فيه عن
غيره.
وقال العلماء: هذا الحديث -حديث ابن عمر - لا يستدل به على وجوب الجماعة،
ولكن يستدل به على فضيلتها، والأفضلية لا تقتضي الوجوب، فما هي الفضيلة؟
إنها تفضل صلاة الفذ سبعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة، أو جزءاً، أو
ضعفاً.
فلا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه من هذا الفضل بأن يقصر في تحصيله، وحكم
صلاة الجماعة سيأتي الحديث عنه في الحديث الذي يلي هذا.
فنأخذ من هذا الحديث أفضلية صلاة الجماعة، ونأخذ بما قاله ابن دقيق العيد،
ففيه تنبيه وإيماء إلى صحة صلاة المنفرد، مع أنها تنقص عن فضيلة الجماعة،
وهذا حدنا في هذا الحديث، وتتمة الكلام عن صلاة الجماعة إنما هي مستوفاة
عند الحديث الآتي إن شاء الله.
قال: [ولهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (بخمسة وعشرين جزءاً) ،
وكذلك للبخاري عن أبي سعيد وقال: (درجة) ] .
أبو هريرة وأبو سعيد الوارد عنهما في الصحيحين: (بخمس) ، (جزءاً) ، و
(درجة) ، كل ذلك لا بأس به، لكن يهمنا أن المؤلف يسوق في رواية أبي هريرة
وأبي سعيد الخدري (بخمس) ، ولذا قالوا: لم يرو السبع والعشرين إلا ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما، إلا أن الاختلاف في خمس وسبع أمر يُتجاوز فيه، ولا
يتعارض في الفضيلة.
التهديد في ترك صلاة
الجماعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر
بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون
الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا
سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
اختلاف العلماء في
حكم صلاة الجماعة
هذا الحديث -حديث أبي هريرة - اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بوجوب
الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها.
ثم اختلف القائلون بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو
صلى منفرداً بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطاً في الصحة،
بل هي واجبة بذاتها.
بمعنى أنه: لو صلى منفرداً يكون قد ترك واجباً آخر وهو الجماعة، فتكون
الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك واجب.
فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوباً عينياً ومنهم من يقول: هي واجبة
وجوباً كفائياً ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة.
والذين قالوا: هي واجبة وجوباً عينياً انقسموا إلى قسمين: قسم قال: واجبة
وجوباً عينياً وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون عذر، فصلاته
باطلة؛ لفقدانها شرطاً من شروط الصلاة.
والقسم الثاني يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفرداً صحت، ولكنه ترك
واجباً فهو آثم بتركه.
والجمهور على أنها سنة.
والحديث لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد هممت) .
وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث، منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين
الشيخين، وتلك المقدمة التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها
دخل في تحقيق المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم:
(إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده لقد
هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم أخالف إلى
رجال فأحرق عليهم بيوتهم) ، أو (إلى رجال لا يشهدون الصلاة) ، أو (إلى رجال
يتخلفون عن الجماعة بلا عذر) ، وبعض الروايات: (لولا ما في البيوت من
النساء والصبيان) .
فيقول بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين (أثقل صلاة على المنافقين صلاة
العشاء وصلاة الفجر) .
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما
في الظلام والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: {وَإِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ}
[النساء:142] ، فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحداً، فما دام
لا أحد يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر
والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته.
والأمر الآخر أنه إذا كان الوقت صيفاً، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية
برودة الجو بعد عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي
الفجر يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو
أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر.
وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد
يخلّد إلى السكون، ومع طول الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك،
ومن هنا كان الوعيد على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود
والترك، ولذا جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم:
(من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة
فكأنما صلى الليل كله) .
وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسطى} [البقرة:238] .
وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما طلبت من
الكاتب أن يكتب لها مصحفاً قالت: إذا وصلت إلى هذه الآية فآذني فآذنها
فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) .
فهذه يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في
القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على أنها
مفسِّرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في الصلاة الوسطى،
منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي العشاء لأهميتها
وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها وتر النهار ومنهم من يقول: هي
العصر، كما جاء في الرواية.
ومنهم من يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.
معنى هم النبي صلى
الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة
فمقدمة الحديث قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين الصبح والعشاء) ، وهذا
السياق وهذا الوعيد قالوا فيه: لقد توعد وهمَّ، فقال: (والذي نفسي بيده لقد
هممت) ، والهمَّ -كما يقال-: العزم المؤكِّد، والهمُّ قد يكون حديث النفس؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده
حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) ،
فهنا الهم العزم والرغبة، لكن هذا الهم بالحسنة أو بالسيئة والرجوع عنها
ليس بالعزم القاطع، بخلاف ما جاء في الهم القاطع الذي لا يمنعه عنه إلا ما
هو فوق قدرته.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول
في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان
حريصاً على قتل صاحبه) أي: عنده هم وعزم مؤكد.
وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة
والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فقالوا:
همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ ما أرادت إلا أن:
{أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، ولحقته وشقت قميصه،
وهمّه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة،
وليس عنيناً أو لا إرب له، وإلا لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس
الفطرية خطرت في باله، لكنه راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل
الفكر النفسي معه إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فالهم همان: همٌ هو عزم قاطع، وهمٌ هو خطرة على بال،
كالواحد يكون في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين
تنظر، والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء
البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعاً، فهو يعلم بأن
الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا يتناول ذلك الماء.
وعلى هذا فقوله: (لقد هممت) ، من أي أنواع الهم؟ أهو خطرة البال أم العزم
المصمِّم؟ إنه العزم المصمِّم؛ لأنه لم يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه
خطة مرسومة، ولذا قال: (يُنادى للصلاة) وقال: (آمر رجلاً فيؤم الناس) ،
وقال: (أخالف برجال معي بحزم من حطب فأحرق) ، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى
موانع ذلك فقال: (لولا ما في البيوت من النساء) ، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛
لأنهم لا جماعة عليهم.
فالهم مصمِّم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من فعله.
تحقيق الخلاف في حكم
صلاة الجماعة
الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا.
ويقول الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق.
وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وما
أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواماً،
وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون.
ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن
الباقين.
ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن
قوماً تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم
كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع.
فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله
عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها
فرض كفائي لا دليل له.
وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة.
فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم
الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث
يحرق البيوت وما فيها.
ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من
المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن
الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة
ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى
البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله.
فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع
العقوبة المالية مع البدنية.
ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت
على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة.
وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر
المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه.
ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى
الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) .
فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم
عليه، بل ترك أمرهم إلى الله.
لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهراً، وبه عصموا دماءهم
وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في
الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس
على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام.
وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل:
هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف
يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون
لإحراق البيوت على أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت
الصلاة موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ
مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة
الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة.
فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر.
ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن
العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى
الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه
وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل!
قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان
يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول
الشاعر: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه فقالوا
هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها ليست بواجبة،
ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب وأما قوله: (والذي نفسي
بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر،
وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة،
قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم
أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين
الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة) ، فكما تقول: يُرمم
البنيان.
والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئاً
ضئيلاً لخرج إليه.
فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات
المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل
بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق.
فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن
يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو
صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه
العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟ فعندما يأتيك إنسان معه
عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول
أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو
بعصاً مثل عصاه.
فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما
يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك) .
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه
سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد
والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد
هذا.
ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من قال: إن الجماعة
سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة (صلاة الجماعة تفضل
صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وانتهى أمر التحريق.
وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا الموضوع- نرجع إلى كلام
الأئمة رحمهم الله.
فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث
روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية
أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ويقول
صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب.
والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة.
والرواية الثالثة: عن أحمد: أنها سنة، كقول الجمهور.
والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها
فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال
بذلك داود الظاهري وطاوس، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق
المذاهب الأربعة.
ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على
هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا
الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) .
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولكن
نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً
في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك
تكونون قد تركتم هدي نبيكم) .
الأعذار المبيحة
لترك صلاة الجماعة
من ظلمه ظالم، أو كان من طلب ظالم، أو مديناً في دين ولا يستطيع مواجهة
الدائنين فإنهم، قالوا: هذا معذور فقد ارتكب أخف الضررين، والله يعفو عنه
أو كان مريضاً لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، وقد جاء عن ابن مسعود: (كان
يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) ، والمصطفى صلوات الله
وسلامه عليه في آخر الأمر جاء يهادى بين علي والعباس تخط قدماه في الأرض،
حتى استوى إلى الصف وجلس.
ومن آكد ما سمعت في ذلك قول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه في معرض الكلام على صلاة الخوف، قال: لو أن الصلاة -وهي وفرض- تسقط
بشيء لسقطت في القتال، ومع ذلك والرءوس تتطاير تؤدى، فإن كانوا مقيمين ولا
قتال، ولا فر ولا كر في أرض المعركة قسم الإمام الجماعة قسمين: قسم لحراسة
العدو، وقسم يصلي معه، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة، وأنها لا تسقط بحال
من الأحوال، وقالوا: إنها لا تسقط مادام العقل موجوداً وعنده إدراك.
وتقدم في صفتها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً ... ) فكل ذلك يدل على
وجوب الصلاة.
ونحن نقول: صلاة الخوف نجد فيها الجماعة بقدر المستطاع، ولا تسقط الجماعة
في صلاة الخوف إلا إذا دخل وقت الصلاة وهم في حال الكر والفر، ولا يمكن أن
يقع اجتماع ولا إمامة، فكلٌ يصلي لنفسه على حالته مستقبلاً الشرق أو الغرب
أو الشمال أو الجنوب، ولا مانع في ذلك.
وعلى هذا فأقل ما يقال: في ذلك العناية بالجماعة.
قال داود الظاهري وطاوس وغيرهما: إنها واجب عيني، وشرط في صحة الصلاة، ومن
صلى منفرداً بغير عذر فلا تسقط فريضته.
يليهما أحمد في رواية عنه أنها: هي واجب عيني، وليست شرطاً في صحة الصلاة،
فتصح صلاة المنفرد دون الجماعة، وهو آثم بترك الواجب، كما قال أبو حنيفة
رحمه الله في الطواف، قال: الطهارة شرط، لكن ليست شرطاً في صحة الطواف،
فيصح طوافه، وعليه دم لتركه واجباً وهو الطهارة، فللصلاة نظير أيضاً عند
غير أحمد.
فعند أحمد أنها فرض عين، ولكن ليست بشرط صحة، ورواية أنها فرض كفائي،
ورواية أنها سنة كما يقول الجمهور.
وعند الشافعي: هي فرض كفائي، وجمهور الشافعية على أنها سنة مؤكدة.
ومالك وأبو حنيفة -رحم الله الجميع- على أن الجماعة سنة، وليست بواجب.
علة المضاعفة إلى
خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين ضعفاً
يقول الشوكاني في نيل الأوطار: إن عدد السبع والعشرين سر من أسرار النبوة
وقد بحث ابن حجر في فتح الباري أوجه كون هذا العدد خمسة وعشرين أو سبعة
وعشرين وسبب ذلك، فمن أراد فليرجع إليه، وفي فتح الباري ذكر أقوالاً عديدة،
والواجب على طالب العلم أن لا يقول: هذا ترف علمي، ولكن يقول: هذا منهج
علمي، وننظر إلى أي مدى بذل العلماء الجهد في توطيد المسائل بين يدي طالب
العلم.
وفي الحديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمسة
وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه
إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، ولا يزال
أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .
فأراد بعض العلماء معرفة موجب التضعيف إلى الخمسة والعشرين.
ثم ذكر عشرة أو اثني عشر وجهاً، ومنها أنه قال: عزمه عندما سمع النداء بأن
يجيبه طاعة، والعزم على إجابة المؤذن طاعة، فأجاب المؤذن فيما قال، وأسبغ
الوضوء.
ومشى إلى المسجد، ثم دخل المسجد وصلى تحية المسجد، ثم وقف ينتظر الإمام حتى
يقيم، ثم ائتم بالإمام وأمَّن وراءه، أو اشترك في تأمينه، وسمع القراءة في
الجهرية، واشترك مع الإمام في هذا الجمع، ثم تعرف على إخوانه، وتآلف مع
الآخرين، ورجع من المسجد إلى البيت ماشياً، فهذه حسنات، وكل واحدة تساوي
درجة من صلاة الفذ؛ لأن الفذ ليس عنده شيءٌ من ذلك.
وبعضهم يقول: إن أقل الجماعة ثلاثة، وكل واحد من الثلاثة نوى الجماعة
بغيره، وغيره نيته الجماعة بغيره، فيكون هنا ثلاثة أشخاص لهم نية جماعة،
والحسنة بعشر أمثالها، فتصير ثلاثين حسنة.
وأحسن ما يقال في هذا الحديث أنه يتهيأ إلى الصلاة، ولأنه منذ أن يسمع
النداء أو يعلم دخول الوقت يتوجه بفكره إلى أداء الواجب، ثم يسبغ الوضوء،
وإن كان الإسباغ مشتركاً في كل الصلوات، ثم يخطو الخطوات إلى المسجد، وجاء
في الحديث الآخر أن له بكل خطوة حسنة أو درجة، وتمحى عنه سيئة، فلا يأتي
المسجد إلا وقد محيت خطاياه، وتكون الصلاة نافلة له.
وهناك أيضاً حديث الوضوء، وإن كان أعم من ذلك: (إذا توضأ العبد المسلم -أو
المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع
آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع
الماء) فجاء الحديث في تكفير الذنوب المقترفة بهذه الحواس.
ولعلنا بهذا ندرك أن كون الوضوء في هذه الأعضاء لأنها الحواس والجوارح
المكتسِبة، فالظهر لم يكتسب شيئاً، والرأس لم يكتسب شيئاً، لكن العين
والأنف والفم واليد والرجل كلها تكتسب، فيكون غسلها بماء الوضوء غسلاً
لآثار ما اكتسبت واجترحت من سيئات.
فهذه ناحية لمن أراد من طلبة العلم أن يقف عليها، ولا أقول: الوصول إلى
تحقيق الغاية، أو تحقيق المناط في تضاعف صلاة الجماعة سبعة وعشرين، ولكن
إلى ما حاول الفقهاء رحمهم الله أن يستنتجوه أو يرسموه؛ ليكون نوعاً من
أنواع استنتاج الأحكام أو تعليلها.
ونعلم قصة الشافعي رحمه الله في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقد
بات ليلة كاملة صلى فيها الفجر بوضوء العشاء يفكر في هذا الحديث، ويقول:
لقد استخرجت منه أربعين مسألة فقهية.
فعلينا أن نطرق أبواب العلماء فيما بوبوه في كتبهم لننظر فيما ادخروا لنا
في تلك الخزائن النفيسة.
قال صلى الله عليه وسلم: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو
يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) ] .
هذا النص صريح بأن الثقل: على المنافقين، والهم: بالتحريق كان أيضاً موجهاً
على المنافقين.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى لنا ولكم الهداية والتوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [2]
إن دين الإسلام مبني على التيسير، لذلك جعل أعذاراً مبيحة لترك صلاة
الجماعة، وهذا يعني أن العذر لا يكون مبيحاً لترك شيء إلا لكونه مؤكداً في
حق المكلف، ولذلك اختلف العلماء في الجماعة هل هي شرط في صحة الصلاة، أم
أنها واجبة، أم أنها سنة مؤكدة.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
استئذان الأعمى
ودلالته الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه
وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد،
فرخّص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.
قال: فأجب) رواه مسلم] .
هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن الجماعة إنها واجبة على الأعيان، ثم
ننظر هل هي شرط صحة، أم هي واجب مستقل؟ قالوا: أتى النبي صلى الله عليه
وسلم رجل أعمى، وهذا الوصف قد اعتبره الله سبحانه وتعالى رافعاً للحرج،
فقال الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] ، وإن كان أصله في
الجهاده لكنه من موجبات رفع الحرج، فهذا الوصف الموجود في هذا الرجل من
الأوصاف المعتبرة في رفع الحرج، فجاء الرجل بعذره معه قائلاً: ليس لي قائد،
فائذن لي أن أصلي في بيتي، فرخَّص له.
وما قال: فأَذِنَ وسمح، ولكن قال: (رخَّص) ، والرخصة تكون من واجب، والأعمى
طلب الرخصة فرخَّص له، فلما رخّص له أخذ الرخصة وولى، فناداه النبي صلى
الله عليه وسلم وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ وفي رواية: أتسمع الإقامة؟
-وكلاهما نداء-؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
فالذين يقولون: هي واجبة على الأعيان قالوا: هذا أعمى رُخِّص له ثم سلبت
الرخصة، وقال به: (أجب) .
فقالوا: هو أعمى يشق عليه.
فقيل لهم: هل هذا كان يصلي في بيته، أم أنه من سابق كان يأتي إلى الصلاة
ويعود، لكنه اعتراه شيءٌ جديد، وطلب الرخصة للمستقبل، وفي ما مضى كان يأتي؟
فما دام أنه كان يأتي ويعود سابقاً فما الذي يمنعه الآن؟! وما الذي استجد
في الأمر؟! فيجب أن يحافظ على ما كان عليه.
وفي بعض الروايات أنه قال: (لا أجد لك رخصة) .
فالذين قالوا: هي واجب وجوباً عينياً قالوا: هذا رجل أعمى رخَّص له،
والرخصة إنما تكون من واجب، ثم دعاه فقال: (أجب) .
فقالوا: يجيب النداء لأنه نداء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليصلي
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: لو قلنا بالوجوب، لتعين أن يكون الوجوب لخصوصية الصلاة مع رسول
الله، وليس في الحديث أن يجيب كل دعاء، ولا كل نداء يسمعه.
فهو احتمال يُسقط الاستدلال.
إذاً ففي حديث الأعمى رخص له أولاً، ثم أمره أن يجيب ثانية، وهذا كأنه يعيد
إلى القاعدة شيئاً من ثباتها، مع أنها لا زالت مزعزعة، ولكن هذا قد
يساندها.
ما يسقط الجماعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من
سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة والدارقطني
وابن حبان والحاكم، وإسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه] .
هذا كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وجميع علماء الحديث أو الفقهاء
يبحثون في سنده، وقد جاء موقوفاً وجاء مرفوعاً، وإذا كنا بصدد الاستدلال
لموضوع بمثل هذه الأهمية فلا ينبغي أن يكون لضعيف السند مدخل في ذلك.
قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) ، فأي الأعذار أريد
هنا؟ سيأتي تفسير الأعذار بخوف أو مرض، وهل الخوف والمرض يسقط الصلاة؟
فليست -إذاً- بفرض عين، ولو كانت فرض عين فليست بشرط في الصحة، والمريض لا
تجب عليه صلاة الجمعة.
إذاً فالمرض والخوف يسقط الجماعة، وتصح الصلاة معهما فرادى، فصحّت الصلاة
بدون شرطها.
والعذر لا يسقط الواجب العيني المشروط؛ لأن الخوف والمرض لم يسقط عين
الصلاة، وها هي صلاة الخوف أمام العدو يصفهم صلى الله عليه وسلم صفين: صف
يحرس، وصف يصلي معه، فما أسقط الصلاة في حالة الخوف، لكنه أيضاً ما أسقط
الجماعة فصلى بهم جماعة.
وعند المسايفة ما سقطت الصلاة، وفي المرض إذا لم يستطع القيام فليصل وهو
جالس على جنبه، فلا تسقط الصلاة للمرض، بل بقدر ما يستطيع.
ولكن سقطت الجماعة للمرض.
فاشتراط الجماعة لصحة الصلاة لا يؤخذ من هذا الحديث.
ويكفي أنهم تكلموا في سنده، ولا يمكن أن ينهض ويقاوم ما تقدم.
إدراك الجماعة بعد
الصلاة في الرحل ونحوه
قال المصنف رحمه الله: [وعن يزيد بن الأسود (أنه صلى مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو
برجلين لم يصليا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما
أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا
معه؛ فإنها لكما نافلة) رواه أحمد واللفظ له، والثلاثة، وصححه ابن حبان
والترمذي] .
هذه قضية جديدة تدور حول قاعدة الوجوب العيني.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سألهما: صليتما جماعة أم فرادى؟ والمعهود في
الصلاة في الرحال أن تكون فرادى، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
المؤذن في الليلة المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) ، فالمطر أسقط
المجيء إلى المسجد، وصحّح الصلاة بدون جماعة، فلو كانت واجبة على الأعيان
شرطاً في الصحة أيسقطها المطر؟ لا.
وهل أوجب عليهم وقال: ألا إن الصلاة في الرحال وصلوا جماعة في بيوتكم؟ لا،
فالذين قالوا بسنيتها يقولون: الرجلان قالا: (صلينا) ، ولم يذكرا جماعة،
ولم يستفسر منهما صلى الله عليه وسلم، فالأسبق إلى الذهن أن الصلاة في
الرحال فرادى.
فإن قيل: فلماذا يصليان مع الإمام مرة أخرى؟ قالوا: إبعاداً لتهمة الانفراد
والانعزال عن جماعة المسلمين، فإذا كان الإمام في الصلاة فادخل معه؛ لقوله:
(ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة) ، والضمير هنا هل
يرجع إلى قوله: (صليا معه) أم لـ (صلينا في رحالنا) ؟ الضمير يرجع إلى أقرب
مذكور، فتكون صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والفريضة في
رجالهما، وكانت فرادى.
بهذا استدل الجمهور على أن الجماعة سنة، وليست واجبة وجوباً كفائياً ولا
عينياً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الرحلين على صلاتهما في الرحال
بدون جماعة، وما قال لهم: اعتبرا الأولى نافلة وهذه فريضة؛ لأن ما سبق -على
ما يقال- سد الفراغ.
فهذا الحديث يسوقه المؤلف للدلالة على صحة صلاة المنفرد في رحله، ولو أنه
أدرك جماعة وصلى معها فهي نافلة.
ومن فاتته صلاة وأراد أن يقضي ما فاته فهل يتعين عليه أن يؤدي القضاء
جماعة؟ باتفاق الجميع لا يشترط له جماعة، اللهم إلا إذا كان الحال كما نص
عليه ابن قدامة في المغني والنووي: وأنه إن كانت الصلاة التي يراد قضاؤها
قد فاتت الإمام والمأموم، وهم حضور فإنهم يصلونها جماعة؛ لأنهم موجودون.
مستدلين بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناموا عن الصبح، ولما طلعت
الشمس وتحولوا عن الوادي أذن المؤذن، وصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة
لأنهم مجتمعون، وفاتت الإمام والمأموم، فهم فيها سواء.
لكن من نام في بيته أو نسي، أو شُغل بأي حالة من الحالات، أو كان تاركاً
للصلاة -كما يقولون-، وأراد أن يقضي ما عليه فهل يتوقف قضاء الفوائت على
الجماعة؟ باتفاق الجميع ليس واجباً عليه أن يوقع القضاء في جماعة.
إذاً فقاعدة الوجوب هل هي باقية على ثبوتها أم اختلت؟ لقد اختلت.
أدلة واردة في عدم
وجوب صلاة الجماعة
وهناك نصوص يُفهم منها عدم وجوب الجماعة، منها: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد
قبلي -وفيه:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته
الصلاة فليصل فعنده مسجده وطهوره) ، فما اشترط الجماعة.
فإذا إنسان مسافر في الصحراء وحده، وطلع عليه الفجر وحده، وستطلع الشمس قبل
أن يصل إلى الناس، أيترك الصلاة حتى يجد جماعة، أم يصلي وحده؟ إن عليه أن
يصلي وحده.
وهناك بعض الروايات، كقوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إني أراك تحب
الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة) .
وجاءت بعض النصوص غاب عني صحتها منها، و: (أيما رجل في فلاة من الأرض، أذن
وأقام وصلى، صف خلفه من الملائكة ما بين المشرق والمغرب) .
فهذا فضل من الله عليه؛ لأنه ما وجد أحداً يصلي معه.
لكن هل يمكن أن نستدل به على أن الجماعة شرط في صحة الصلاة؟ لا؛ لأن هذا
محض تفضل من الله.
فعندنا حديث: (فأيما رجل -ولم يقل: رجال ولا جماعة- أدركته الصلاة فليصل
فعنده مسجده وطهوره) .
والمسافر وحده الذي لم يجد جماعة لا تتوقف صحة صلاته حتى يجد من يصلي معه
جماعة.
فلعلنا بهذه الإعادة وبهذا الإيراد نكون قد استوعبنا الأقوال الموجودة فيما
يتعلق بالجماعة والفرد، ثم نسبة هذه الأقوال لأصحابها، ثم وجهة نظر
استدلالهم بهذه النصوص التي أوردها المؤلف، وبالله تعالى التوفيق.
الحرص على تحصيل
الأجور العظيمة المترتبة على صلاة الجماعة
أقول: مَن مِن المسلمين يرضى لنفسه أن يسمع المنادي يقول: (أشهد أن لا إله
إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح) ولا يجيب
بدون عذر؟ فهل تطمئن نفسه بأن يبقى خالداً إلى الأرض وهذا المنادي ينادي في
السماء؟ أعتقد أن المسلم لا يرضى بهذا.
ثم أي تجارة أربح فلو أن عندك ألف ريال تكسب منه عشرين ريالاً، فأنت رابح،
فإذا كان الألف يكسبك ألفاً آخر -أي: الضعف- فأكبر تاجر لا يحصِّل هذا إلا
في النادر، فإذا كان هذا الألف تكسب بعده خمسة وعشرين ألفاً فهذا لا يكون
في أكبر تجارة في العالم.
فالله سبحانه وتعالى يتفضل على عبده بأن يضاعف له الأجر خمسة وعشرين ضعفاً
بخطوات إلى المسجد مع ما فيها من الفضل والخير والنفع العام والخاص، وربما
تلقى إنساناً ما لقيته منذ سنة، وربما تسمع آية من كتاب الله.
فأحياناً الإنسان يسمع من الإمام الآية الواحدة كأنه ما سمعها ولا علم بها
قط.
وأذكر أنه قبل خمس عشرة سنة كان هناك عامل في المسجد النبوي، فقرأ الإمام
في صلاة المغرب سورة الضحى، فقال: يا شيخ! قوله تعالى: {فَأَمَّا
الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}
[الضحى:9-10] خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم للناس كلهم؟ ولو أتينا نسأل
نصف الناس عن ما قرأ الإمام في المغرب فربما لا يجيبون.
وهذا أبو هريرة قد آذاه الناس بقولهم: أكثر أبو هريرة، فأراد أن يبين لهم
أنه قد خص بالحفظ، وأنهم ليسوا مثله، فبعد صلاة الصبح وقف على الباب، وكلما
مر رجل قال له: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ فيقول: لا أدري.
فقال: تقولون أكثر أبو هريرة، وأنتم حدثاء عهد بقراءة جهرية على رءوس
الأشهاد في صلاة الصبح، وأكثركم ما يدري ماذا قرأ! تعيبون علي أني حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم! فالإنسان قد يسمع آية من كتاب الله فيشرح
الله صدره، فيتبين منها أمراً، ويسلم على أخيه المسلم، ويشترك في دعاء
الإمام والمأمومين، ففيها خير كثير، ولا ينبغي لإنسان أن يعول على كل هذه
التفصيلات ويقول: الجماعة سنة.
وقد أخبرنا ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سن سنن الهدى، وهن من
سنن الهدى، فمن أجاب المؤذن أخذ بسنن الهدى، ومن لم يجبه ترك سنن الهدى،
ومن ترك سنن الهدى فقد ضل.
وأرجو الله أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [3]
الاقتداء بالإمام في الصلاة واجب، ويكون ذلك في الأفعال الظاهرة المنصوص
عليها، وفي حالة عدم سماع الإمام وعدم رؤيته فإن السنة أن يقتدي كل صف
بالذي قبله، وفي الأحوال التي يكثر فيها المصلون يجوز للإمام أن يتخذ
مبلغاً، ويجب على المصلين أن يسووا صفوفهم، وأن تقترب الصفوف من الإمام ومن
بعضها، ويجوز أداء النافلة في المسجد جماعة، مع أن خير صلاة المرء في بيته
إلا المكتوبة.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
وجوب الاقتداء
بالإمام في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر
فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا
قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا،
ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا
قعوداً أجمعين) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] .
وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وذكر التفصيل في حالات الائتمام،
إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا
صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ] .
ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث عائشة، وهو جزءٌ من
تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم
الصحيح القادر على القيام بالإمام المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب
أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه.
ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه، ونستعين
الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛ لأنها أهم
المسائل في هذين الحديثين.
الحديث الأول يقول فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وهذا الحديث جزءٌ من حديث
طويل روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات: فصلى خلفه قوم، وبعضها:
في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا)
.
ثم بين هذه التفصيلات التكبير أولاً، تكبيرة الإحرام ثم الركوع فالرفع
فالسجود فالرفع فالسلام إلى آخره.
فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش،
ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع
الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن
كشطت الجلدة العليا ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي
يسقط عن متحرك وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر.
وهنا يتكلم ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن
من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث بيان
جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب الخيل لأن فيها
خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر: لا نزاع ولا خلاف بين نهي عمر، وبين
ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة،
والتمشية، في المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك.
كما جاء في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي
لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً على أهل
الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم
ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأما الذي هي له أجر: فرجل
ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو
الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها
حسنات) .
فيكون كلام عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى،
والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي، إنما ركبها
في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة الشهباء، وعنده الناقة
القصواء.
وعمر بنفسه لما سافر في فتح بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على
بعير، ومعه رفيق في الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل
واحد منهما يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل
أن يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت
على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه، والبرذون ما
بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد تلبسه، فلما جيء
بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي واغسلوه فغسلوا القميص المرقع،
وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن
أن أحداً يركب شيطاناً، ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف.
فدخل إلى بيت المقدس والدور لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما
قدم على دهاقنتهم، وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا
الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية قبل
أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني متخلفاً عن
قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني بمسحاة وقال: انقل
هذا التراب إلى ذاك المكان.
فنظرت إلى نفسي وقلت: ويلك يا عمر! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت
المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت.
قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على دير
فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا الدير فقال:
والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني
الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال: والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال:
أنت الذي يملك هذا الدير، ويملك بيت المقدس.
قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري
هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر: عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت
له، ثم قلت: أريد من يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك
توصلك إلى مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ،
فإنها تعرف الطريق وتعود.
يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال:
هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن
للمسلمين عليك إذا مروا بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن
تزودهم بطعام يومهم وليلهم.
قال: لك عليَّ ذلك.
فعن هذا الحديث يقول ابن عبد البر: فيه جواز ركوب الخيل.
ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل،
وأشدهم حركة عليها، وهذه هي الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في
الركاب، ويمد اللجام في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على
الفرس بطناً وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت
بطن الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه على
ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس.
فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة حركته عليه
لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على الحركة على الخيل، وأكرم
الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم.
واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه سُمعت
صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لـ طلحة عرياً -أي: لا سرج عليه-
وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع ولقي الناس مقدمين وهو
راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا) ، فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر)
، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع الجري.
وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه خيال متقن إذا
ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني استحيي أن أقول: إن ما
يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن
سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا
لخيول فارهة سريعة الجري، إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من
فروسية على ظهر جواده، وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل
من يتعود ذلك.
إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي يركبها،
وليست جودة الجواد في سرعة جريه.
فكان صلى الله عليه وسلم من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد
الرسل صلوات الله وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة.
قوله: (جُحِش) قال ابن عبد البر: فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى
قاعداً.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث: إن معرفة سبب الحديث
يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية.
هكذا هنا.
فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء أناس يعودونه)
أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض الروايات: (فصلى أقوام) وليس
المعنى أنه صلى معه جميع الناس.
ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً، فأومأ
إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم
بعظمائهم) ، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً بين يدي ملوكهم، أو
تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة.
فنهاهم عن ذلك.
ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، و (إنما) أداة حصر تحصر ارتباط
المأموم بال
الأفعال التي يجب
على المأموم متابعة الإمام فيها
الإمام والقائد كل منهم له حق المقدمة.
فالإمام يصلي، وتبدأ صلاته بالنية، ثم تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك الدعاء
قبل القراءة، ثم بعد ذلك الفاتحة، فإن كانت جهرية جهر بها، ومع الفاتحة ما
تيسر من كتاب الله يجهر به، ثم يركع ويسبح، ثم يرفع، وهناك أشياء منصوص
عليها، وهناك أشياء لا نص عليها، فهل المأموم يأتم بالإمام في كل شيء، أو
فيما هو ظاهر من الأعمال؟! هناك من أخذ الحديث على عمومه باعتبار (إنما)
للحصر، فقالوا: من الصلاة النية، فيؤتم بالإمام في النية في الصلاة فلو كان
الإمام مفترضاً والمأموم متنفلاً أو العكس، فهل يصح ذلك مع أنه لم يقتد به؟
وإذا كان الإمام في نية عصر والمأموم في نية ظهر فهل ائتم به في نية وهي من
الصلاة؟ فمن قال الإمام يؤتم به في كل شيء وأدخل النية في ذلك لم يصحح صلاة
مأموم بإمام تختلف النية بينهما، وهذا واقع، ولكن وجدنا أحاديث أخرى تسمح
في مغايرة النية.
أما الأحاديث التي فيها مغايرة النية فمنها ما سيأتي في حديث معاذ، حيث كان
يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يذهب إلى قباء فيصلي
بهم العشاء نافلة له وفريضة لهم، فاختلفت النية ما بين فرض ونافلة.
وكذلك ما جاء في حق الرجلين الذين رآهما صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح
جالسين لم يصليا معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في
رحالنا فقال: لاتفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل
معه فإنها له نافلة) .
ومن هنا قالوا لو أن إنساناً نام عن الظهر وجاء والإمام في صلاة العصر فهنا
يقع الخلاف.
فمَن قال يؤتم به حتى في النية لا يُجوِّز لصاحب الظهر أن يأتم بصاحب
العصر.
والذين قالوا: النية خارجة عن ذلك، أو أخذوا بالنصوص الأخرى، قالوا: لا
مانع، وهذا رأي الشافعية، حيث يقولون بصحة صلاة المأموم المقتدي بالإمام مع
اختلاف النية.
متى يشرع المأموم في
تكبيرة الإحرام؟
وقد بدأ بيان الاقتداء بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر) ، فلم
ينص على النية، فبعضهم قال: إنها خارجة عن محل الائتمام.
وبعضهم قال: هي مبدأ الصلاة، على عموم: (يؤتم به) ، ولكن التفصيل النبوي
أسقط الكلام في النية، فأخذوا دليلها من العموم.
قوله: (فإذا كبر) هي عبارة عن جملة، أي: إذا قال: الله أكبر، كما يقال: هلل
إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذه التكبيرة من الألفاظ التي لا يجزئ افتتاح الصلاة بغيرها.
وقوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر) ، تأكيد بعد التأسيس، و
(إذا) ظرف، والتكبير له بداية وله نهاية، وبدايته الهمزة، ونهايته الراء من
(أكبر) ، فالمراد بقوله: (إذا كبر) إذا بدأ في التكبير فابدأ، أي:
وتشاركونه في بعضها، فيبدأ قبلكم وتشاركون في بعضها، وينهي تكبيره قبل
تكبيركم، أو إذا كبر وفرغ من التكبير كله تبدأون أنتم، فعندما يفرغ من
الراء في (أكبر) تبدأون أنتم بالهمز، من (الله) .
وأصل هذا مسألة (هل العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟) وهذه مسألة تدخل
في كثير من الأحكام، فلو جاء القاضي سندٌ بألف ريال، وفيه: يُدفع في رمضان.
فهل المراد أول يوم يدخل من رمضان، أم بعد أن ينتهي رمضان، أو قبل انتهائه
بيوم؟ إن قلنا: العبرة بأوائل الأسماء فلصاحب الحق أن يطالب أول ما ظهر
هلال رمضان، وإن قلنا: العبرة بأواخر الأسماء فعليه أن ينتظر حتى ينقضي
رمضان.
وهنا (إذا كبر) يعني: إذا بدأ وشرع في التكبير، فهل نتبعه ونشرع معه، أم
حتى ينتهي من التكبير؟ الجمهور على أنه إذا بدأ وشرع فلنا أن نبدأ معه، وإن
كنا نصاحبه في بعضها، وهذه دون غيرها مما ذكر في أركان الصلاة، ولو تقدم
المأموم إمامه وكبر قبل أن يكبر الإمام -سواءٌ أبدأ بعده وأسرع قبل أن يفرغ
الإمام، أم بدأ بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام فلا ارتباط للمأموم بالإمام؛
لأن تكبيرة الإحرام هي افتتاح الصلاة.
فإذا تعجّل وكبّر قبله كأنه لم يرتبط بإمامه، وكذلك السلام.
متى يشرع المأموم في
بقية أفعال الصلاة؟
قوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا
حتى يركع) ، التفصيل في الركوع والرفع والسجود كالتفصيل في التكبير، فإذا
كان قائماً، وأهوى إلى الركوع فهل نبدأ بالهوي ونشاركه، ويسبقنا وينتهي من
ركوعه قبلنا، أم ننتنظر حتى يكمل ركوعه فنشرع نحن في الركوع؟ الكلام في هذا
كالكلام في التكبير.
قوله: (وإذا رفع فارفعوا) يقول العلماء: لوحصل التسابق فيما دون تكبيرة
الإحرام، فركع قبل إمامه أو رفع قبله لاتبطل الصلاة، ولكنه مخالف، وهو
متوعدٌ بوعيد شديد، وقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخاف الذي يرفع
رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار) ، ويعلق عليه العلماء مع هذا
الوعيد بتغيير الوجه، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: وليعد الصلاة، ولم يقل
صلى الله عليه وسلم: بطلت صلاته.
ولكن ذكر هذا الوعيد وسكت.
ولكن تكبيرة الإحرام تختلف؛ فإن من سبق الإمام فيها لم يدخل معه في الصلاة،
وكذلك السلام، فلو سبق الإمام في السلام كأنه تعجل عن الإمام وخرج عن
إمامته.
حكم جمع الإمام
والمأموم بين التسميع والتحميد
قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) هذه
المسألة تقدمت في صفة الصلاة، وهل الإمام والمأموم سواء فيجمعون بين
التسميع والتحميد، أم أن الإمام يكتفي بقوله: (سمع الله لمن حمده) ،
والمأموم يُكمل (ربنا لك الحمد) ؟ الأرجح في المسألة أن كلاً من الإمام
والمأموم له أن يقول الذكرين معاً (سمع الله لمن حمده) ، (ربنا لك الحمد) .
ويأتي الخلاف أو النقاش في اللفظ: (ربنا لك) ، و (اللهم ربنا) بزيادة
(اللهم) ، والصنعاني يقول: الأفضل أن يأتي بقوله: (اللهم) ، وبالواو في:
(اللهم ربنا ولك الحمد) ، قال لأن زيادة هذه الحروف فيها زيادة معنى.
أما زيادة (اللهم) فهي عنده باتفاق، ومعناها: اللهم ربنا استجب لنا، ولك
الحمد على إجابتك لنا.
فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
ومن العلماء من يرى أن يقتصر المأموم على التحميد نصاً، لهذا الحديث.
وبعض المذاهب الأخرى تقول: المنفرد والإمام سواءٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد، وفي تعليمه أيضاً علم الشخص
بأن يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد.
والأنسب في ذلك أن كلاً منهما جائز، فإن اقتصر الإمام على التسميع وكمل
المأموم بالتحميد، أو جاء كل منهما بالذكرين معاً فلا بأس في ذلك.
وإن جاء المأموم بلفظ (اللهم) ، وبالواو في (ولك الحمد) فلا مانع، وإن
اقتصر على نص هذا الحديث فلا مانع.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد) .
مسألة: إذا صلى
الإمام قاعداً
قوله: (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً
أجمعين) .
قال: في بداية الحديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) والائتمام شامل لأن
تأتي بكل ما يأتي به الإمام، ولكن في التفصيل والبيان لم يذكر لنا صلى الله
عليه وسلم إلا الأعمال الظاهرة، كتكبيرة الإحرام (الله أكبر) ، والركوع،
والرفعُ والتسميع، والسجود.
ولم يذكر لنا الدعاء أو الذكر حال كونه راكعاً، ولم يذكر لنا التسبيح أو
الذكر حال كونه ساجداً، ولم يذكر لنا الدعاء بين السجدتين، فالمأموم معفيٌّ
عن اقتدائه وائتمامه بالإمام في مثل هذه الحالات؛ لأنها خفية، وتُرِك لكل
واحد منهما أن يأتي بما تيسر له، وليس في هذا ائتمام، ولكن الائتمام يكون
في الفعل الظاهر.
ثم ختم هذا البيان في الائتمام: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً) ، وهذا لا
غبار عليه إلا من كان معذوراً، فمن كان له عذر لا يستطيع القيام فهو خارج
عن هذا الأمر، فيُصلى الإمام قائماً، والمأمومون القادرون يصلون قياماً،
والمأموم العاجز عن القيام يصلي جالساً.
(وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) .
من طبيعة الائتمام أن تصلي قاعداً إذا كان الإمام يصلي قاعداً؛ لأنك أُمرت
أن تأتم به، بقوله: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ، وقد روي:
(أجمعين) ، و (أجمعون) ، وكلاهما من حيث الإعراب صحيح، فـ (أجمعين) على
أنها حال، والحال منصوب، وهذا جمع مذكر سالم منصوب علامة نصبه الياء و
(أجمعون) : على أنه توكيد لضمير تقديره: صلوا خلفه قعوداً، وهنا الضمير في
محل رفع فاعل لـ (صلوا) ، وهنا تكون (أجمعون) : توكيداً مرفوعاً تبعاً
للمؤكَّد.
ويهمنا أمره صلى الله عليه وسلم للمأمومين إذا أمهم إمامهم قاعداً من مرض
فإنهم يصلون خلفه قعودً.
لو أن الإمام كان عاجزاً عن قعوده، وصلى مضطجعاً -ومن حق الإنسان إذا لم
يستطع أن يصلي قاعداً أن يصلى على جنبه- فهل يأتمون به ويصلون على جنوبهم؟
والجواب: لا.
فإذا نزلت قدرة الإمام عن الصلاة قاعداً فلا ائتمام به.
الصفوف في صلاة
الجماعة
الأمر بتسوية الصوف
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم
بكم من بعدكم) .
رواه مسلم] .
هذا الحديث يبين لنا تنظيم الصفوف، ويبين لنا فضائل أوائل الصفوف، فالنبي
صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: (تقدموا فائتموا بي) -أي:
الصف الأول- وليأتم بكم من بعدكم، أي من الصفوف الأخرى الثاني والثالث، وما
بعدهما.
فقوله: (رأى في أصحابه تأخراً) هل هو قبل أن يدخل في الصلاة، أم بعد أن دخل
فيها نبههم؟ جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف فإني أراكم
خلف ظهري) .
فيمكن أن يكون رأى هذا التأخر بعد أن دخل في الصلاة، ثم نبه على ذلك، أو
أنه رأى ذلك قبل أن يدخل في الصلاة وهو الأغلب؛ لأن على الإمام أن ينظر في
صفوف المصلين قبل أن يدخل في الصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر في
الصفوف ويسويها، وكما جاء في بعض الروايات: (كأنه يسوي القداح) أي: على صف
معتدل.
وإذا رأى من شخص بروزاً رده، وإذا رأى من شخص تأخراً حثه على التقدم،
وهكذا.
حدُّ المسافة التي تكون بين الصفين
ما حد التأخر وما حد التقدم؟ وما هي المساحة التي تكون بين الصف الأول
والإمام، وبين الصف الأول والذي يليه؟ معلوم أن أقل ما يمكن هو ما يتسع
لسجود المصلين في الصف من غير تضييق.
ولذا قال العلماء فيما يتعلق بسترة المصلي: إن موقعها بينه وبين موقفه
ثلاثة أذرع، أي: من قدمه إلى موضع سجوده؛ لأن هذه المسافة هي التي يتأتى
للمصلي أن يتحرك فيها بيسر.
وعليه قالوا: السنة فيما يكون بين الصفوف من الفراغ هو قدر ما تكون السترة
من المنفرد، أي أن عليه أن يجعل بينه وبين الصف الذي أمامه قدر ما يجعل
المنفرد بينه وبين سترته، أي: ثلاثة أذرع.
ولو أن الصفوف قد ازدحمت فماذا يفعل؟ لقد بوّب الفقهاء باباً فيمن زُحِم
يوم الجمعة، فـ عمر رضي الله تعالى عنه أمرهم أن يركعوا ويسجدوا على ظهور
بعضهم، فيمكن أن يكون بين الصف والصف طول الفخذ فقط، وهو ذراع، ويسجد على
ظهر الذي أمامه، وهكذا في شدة الزحام.
ثم ذكر الفقهاء أيضاً أنه إذا لم يستطع أن يصل إلى الأرض ليسجد فإنه ينتظر
حتى يقوم الصف الذي أمامه ويسجد، ثم ينهض فيدرك الإمام.
فهذه مسائل في صلاة الأعذار، ولكن الذي يهمنا الآن في تنظيم الصفوف،
فالواجب على المأمومين أن يتراصوا مع إمامهم، ولا تكون هناك الفجوات
الطويلة بين الصف والإمام.
وربما تجد في بعض المساجد من يصف دون الصف الذي أمامه بمسافات ومراحل تزيد
على عشرة وعشرين وخمسين متراً، وهذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، أي: تقدموا فاقتدوا بي،
وليقتدِ بكم من وراءكم.
وتجد بعض الأحيان الإمام في المحراب والصفوف وراءه، ثم تجد صفاً بينه وبين
الصف الذي يليه عشرات الأمتار، فلا يجوز ذلك ولا ينبغي، وليس من سنة
الجماعة هذا العمل.
فتسوية الصف أولاً، ومراعاة الإمام للمأمومين، وقد كان صلى الله عليه وسلم
يرسل بلالاً يمر بين الصفوف يعدلها، وكان بلال يقول: (لا تسبقني بآمين) ،
حيث يكبر صلى الله عليه وسلم ويقرأ، وبلال يتخلل الصفوف لينظر المتخلف أو
المتقدم أو المتأخر ليعدله، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني
بآمين) أي: إن فضل آمين فضل عظيم، ولا أريد أن أسبق به وأنا أؤدي المهمة.
ائتمام كل صف بالذي
قبله واتخاذ المبلغين
بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) .
فقبل وجود هذه الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان
محدوداً، فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع
صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى أمامه الصف
الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة، في الركوع والرفع،
والسجود والجلوس.
وفي كون المتأخرين يقتدون بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً
مسبوقاً جاء ووجد الصف الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد
أدرك الركعة، ولو أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه،
وهو لا يدري عن الإمام رفع أم لم يرفع.
ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم
راكعاً والناس ركوعاً، فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة
الإحرام، وركع حيثما كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله
عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعُد) وروي (تعِد) و (تعْدُ) ، وكل هذه
الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء.
فـ (لا تعُدْ) من العود، والفعل الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت
عينه.
و (لا تعِد) من أعاد يعيد.
و (لا تعْدُ) ، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل اللام إذا جُزم
تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله.
ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه.
وهنا نرجع إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث كان يُسمِع
الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم
مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع، ويكبر للسجود وغيره، والناس
وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع
من وراءه من المصلين التكبير في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان
عاجزاً عن إبلاغ الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً.
ولذا قال مالك في الرواية الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب
قاعداً، وصلى المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد
منهم يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا نقول: إنه بدعة.
ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه فلا مانع، أما أن يكون
إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً
يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر
إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله
تعالى في بادئ الأمر يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من
الأحاديث.
وقيل لـ مالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي: اتخذ مبلغين
يبلغون عنك.
قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولم يتخذ مبلغين.
فالتبليغ تدعو إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في
المسجد الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن
يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم بقدر
الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً بعد الآخر، أو
مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟ جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم
في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش.
وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ، فما
حاجتنا إلى مبلغين الآن؟ والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له نظر، ولكن هناك
أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء هذا الجهاز يبلغ عن
المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز يعمل بطاقة وآلة فهو معرض
للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم
يحصل من اضطراب واختلال.
فمادام أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا
مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس.
وقوله: (تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن، وقد
جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) ، ولا يوجد شر في
الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف الأول، فإن الصف الأخير
لم يحصل على فضيلة الصف الأول.
قال: (وشر صفوف النساء أولها) ؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن
الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في الحديث
الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.
مسائل في النوافل
صلاة النافلة في
المسجد والبيت
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (احتجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا
يصلون بصلاته) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) متفق
عليه] .
هذا الحديث له علاقة بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان
اقتداء الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة.
والحديث يتناول اتخاذ الحجرة، و (احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه
حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن ينساب في
بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه الحجر على السفيه
لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه اللغة- من الحجر اليابس القوي،
فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه،
فهو لحجريته مانع نفسه من أن يعتدي عليه غيره.
والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى جارها، وتمنع جارها من أن يدخل
إليها، فهي تحجر الجزء المملوك.
قال: (احتجر حجرة مخصفة) ، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من الاحتجاز، وهو
أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من الخوص، وإلى الآن يسمى عند
الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص، فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون
الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك.
وأصل هذا: أنه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لـ
عائشة رضي الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة
في المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس بصلاته،
وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم التالي سمع أشخاص
بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي قبل، وفي الليلة الثالثة
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم
نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس؟! قالت:
ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس.
فقال: ارفعي عنا حصيرك) ، فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء
وحصبوا باب الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال
لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا
عنها) ، وهذا مصداق قوله سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة:128] .
ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، أي: إذا
أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في بيته ما عدا
الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة.
وهنا يأتي مبحث للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء) ، فـ (صلاة) :
نكرة، و (المرء) : مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة،
فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم
استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة المرء النافلة
في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب، كسنة الصبح، وسنة
الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى أنها تصلى مع الفريضة في
المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة
الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة،
فقال الناس: ما أسرع ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا
أدلكم على أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى
المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) لكن يقولون:
النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.
خلاف العلماء في
أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت
وبعض العلماء يربط ويقارن بين قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في
بيته إلا المكتوبة) ، وبين هذا الحديث: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة
فيما سواه إلا المسجد الحرام) .
لأن (صلاة) نكرة تعم الفريضة والنافلة، فإذا صليت الفريضة فهي صلاة في
مسجده، وإن صليت النافلة فهي صلاة في مسجده، فنجد الجمهور يعممون ذلك، ما
عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: قوله: (صلاة في مسجدي هذا خير
من ألف صلاة) خاص بالفريضة؛ لأن النافلة لها مكان آخر وهو البيت لحديث:
(خير صلاة المرء في بيته) قال: إذا صلاها في المسجد فهي بألف، وإذا صلاها
في بيته فهي خير من هذه التي هي بألف، فما خالف الجمهور.
والآخرون قالوا: كل صلاة فهي بألف صلاة.
فاتفقوا على أن الصلاة مطلقاً في المسجد النبوي بألف صلاة، وعند الإمام أبي
حنيفة رحمه الله أنه مع ثبوت الألف للنافلة في المسجد النبوي فإيقاعها في
البيت أفضل من ذات الألف.
أيهما أفضل صلاة
المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟
وهنا قضية جانبية في قوله: (خير صلاة المرء في بيته) ومؤنث (المرء) امرأة،
فهل صلاة المرأة أيضاً في بيتها خير، وهل صلاتها في المسجد النبوي أيضاً
بألف صلاة؟ الجمهور يقولون: صلاة المرأة في المسجد النبوي بألف صلاة، فريضة
كانت أو نافلة، ولكن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد النبوي، كما
قال أبو حنيفة رحمه الله في النافلة، وذلك لأمر آخر، وهو أن امرأة من بني
سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة
معك، وانظر إلى التعبير، فلم تقل: أحب الصلاة في مسجدك.
لكن: أحب الصلاة معك؛ لأنها إذا صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت
القراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت في دعاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم للمصلين معه، فمن هنا أحبت الصلاة مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكل إنسان يحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد علمت أنك
تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك
خير -من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك
في مسجد قومك) ، خير من صلاتك في مسجدي.
فصلاتها في عقر دارها خير من صلاتها في المسجد النبوي بثلاثة أضعاف.
وعلى هذا فخير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ويبين المؤلف رحمه الله
بهذا أن النوافل يجوز أن تصلى جماعة؛ لأن أناساً صلوا بصلاته صلى الله عليه
وسلم.
الاحتجار في المسجد
وحكمه
وهل يجوز لكل إنسان أن يحتجر في المسجد ويضيق على الناس؟ قالوا: لا، ما لم
يكن في الأمر سعة.
والآخرون قالوا: إنها كانت توضع في الليل عندما لم يكن هناك نداء لصلاة
الفريضة، وترفع في النهار فلم تضيق.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في رمضان يوضع له سرير عند باب
الحجرة، وإذا جئت إلى الروضة تجد بعض الأسطوانات مكتوباً عليها: أسطوانة
السرير.
كان إذا اعتكف صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير ينام عليه في حالة اعتكافه.
وقد جاء عن عائشة أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني
إلي رأسه فأرجله) .
التحجير في المسجد إذا كان يضايق المصلين فحق المصلين مقدّم ولا يجوز ذلك،
وإذا كان هناك سعة ولا تضييق على أحد فلا مانع في ذلك، وصلاة النافلة وهي
قيام الليل تصلى جماعة، وعليه فالتراويح تصلى جماعة كما هو واقع الآن.
قوله: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا منصب على النافلة
المطلقة، والنوافل الرواتب تجوز صلاتها في المسجد، وتقدم لنا أنه كان يصلي
سنة المغرب والعشاء ركعتين في بيته، ولم ينص على النوافل الأخرى في بيته،
فبقية النوافل تكون في المسجد، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن
بيته إلا المسجد؛ لأن بابه مُشرع على المسجد، والله تعالى أعلم.
فلا ينبغي للإنسان أن يترك الصلاة في البيت، بل يجعل لبيته حظاً من صلاته
لبركة الصلاة، ولطرد الشيطان، ولتعليم النسوة والأطفال، وقد جاء الحديث:
(لا تجعلوا بيوتكم مقابر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم) ،
وقد جاء عن عتبان بن مالك أنه كان رجلاً يؤم قومه في بني سلمة، وكان قد
أنكر بصره نسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ليصلي له في بيته ليتخذ
ذلك المكان مصلىً له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أين تريد أن
أصلي؟) ، فأشار إلى مكان فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي
في ذلك المكان تبركاً بموضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفاضل الصلاة في
المسجد النبوي
وبهذه المناسبة أيضاً أقول: المسجد النبوي من جميع أطراف وحدود جدرانه
الصلاة فيه بألف، ولكن هل كل المسجد سواء؟ يتفق الجمهور على المفاضلة، ولا
شك أن الصف الأول أولى من الصف الثاني ولوكان الكل في المقدمة.
وهنا بحث مطول في أيهمما الأفضل، الصلاة في الروضة في صف رابع أو خامس، أو
الصلاة في الصف الأول في المسجد.
يقول النووي رحمه الله: إذا كانت الصلاة جماعة فالصف الأول أفضل؛ لفعله صلى
الله عليه وسلم، ولفعل الخلفاء من بعده بعدما جاءت التوسعة التي خرجت عن
الروضة.
وعلى كلٍ فذاك مبحث مستقل، ويوجد هناك بعض الأشخاص الذين يتتبعون بعض
المواطن في المسجد النبوي رجاء بركة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيها، فيقولون: لعلنا نصادف كذا.
وهذه أمور عاطفية، فإن علم مكاناً فلا بأس بذلك، ما لم يحصل زحام، وما لم
يعتقد عدم جواز الصلاة في غيره، والله ولي التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [4]
من مسائل الصلاة المهمة التخفيف على المأمومين، ولذلك فإن الواجب على
الإمام إذا صلى أن يراعي حالة المأمومين فلا يطيل الصلاة بما يشق عليهم.
كما أن من مسائلها التي ينبغي علمها الصلاة وراء الإمام القاعد، فقد صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته جالساً والناس وراءه
قياماً، وهذا دليل للجمهور على نسخ صلاة المأموم جالساً وراء الإمام
الجالس.
ومن مسائلها كذلك بيان الأحق بالإمامة، والراجح في ذلك أن الأحق بها أقرأ
الناس ولو كان صغيراً في السن.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
أمر الإمام بتخفيف
الصلاة وعلته
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى معاذ
بأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن
تكون -يا معاذ- فتاناً؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، و (سبح اسم
ربك الأعلى) ، و (اقرأ باسم ربك) ، و (الليل إذا يغشى)) ، متفق عليه،
واللفظ لـ مسلم] .
حديث معاذ هذا أصل في صلاة الجماعة، وفيما يجب على الإمام.
ومعاذاً رضي الله تعالى عنه هو معاذ بن جبل الذي قال صلى الله عليه وسلم في
حقه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ، ومناقب معاذ كثيرة جداً، حتى جاء
في بعض الآثار: (آمن معاذ حتى خاتمه) ، ومعاذ له في الصلاة شئون عديدة، وله
موقف في التشريع، فقد قال ابن كثير وغيره: أحيلت الصلاة ثلاث مرات.
الأولى: قولهم: كنا إذا أردنا الصلاة آذن بعضنا بعضاً -أي: أعلم- فقلنا:
نتخذ وسيلة، فاقترح قوم ناقوساً، وقوم بوقاً، وقال قوم: نجعل ناراً، فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم: لا.
فجاء عبد الله بن زيد ورأى أنه عُلِّم الأذان في المنام، فأُذِّن للصلاة،
فهذا أول شيء.
الثانية: كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم تحولوا إلى الكعبة.
الثالثة: كانوا يصلون جماعة، فإذا جاء مسبوق سأل المصلين حال صلاتهم: كم
صليتم؟ فيشيرون إليه بمقدار ما صلوا ركعة أو أكثر، فيكبر ويصلي ما فاته
بسرعة، ثم يصحب الإمام حتى يسلم معه، فقال معاذ: والله لن آتي الصلاة ورسول
الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا دخلت معه فيها فجاء مرة مسبوقاً،
فكبر ولزم الإمام، فلما سلّم وعرف ما فاته قام يقضيه بعد السلام، فقال صلى
الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا) .
فـ معاذ بسببه حصل تشريع في الصلاة، وهو صاحب رأي، وله أمور أخرى في اتباع
الجماعة وسماع النداء، وأنا أسمي معاذاً بعثة تعليميةً متنقلةً؛ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم خلّفه في مكة بعد الفتح يعلمهم الإسلام، وعمر رضي الله
تعالى عنه بعثه إلى الشام يعلم أهلها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم
بعثه إلى اليمن يعلم أهلها الإسلام.
ففي هذه الحادثة صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وذهب إلى قومه في
قباء ليصلي بهم، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم استهل بسورة البقرة، ورآه رجل كان
معه ناضحان فأرسلهما ودخل في الصلاة، وبعض الروايات فيها: (كنت أسقي ماءً،
فجئت ودخلت في الصلاة، فلما بدأ بسورة البقرة علمت أنه لن يركع دون
إنهائها، فتركته وأتممت صلاتي) ، وسواءٌ أكان انصرافه عن الإمام للماء، أم
كان للناضحين، أم كان لتعبه طول النهار.
فعلم أن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه مفعمة بمحبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يُصلي الليل كله لأن حياته كلها
عبادة.
فعرف الطريق واختصره من بدايته، وذلك بانصرافه عن الصلاة مع معاذ.
فقيل لـ معاذ: إن فلاناً تركك وذهب! قال: إنه رجل منافق.
فبلغت الكلمة هذا المسلم فعظمت عليه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم واشتكى معاذاً بعد أن رماه بالنفاق، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما
حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال: (يا معاذ! أتريد
أن تكون فتاناً؟) ويا معاذ! ويا من يعرف الحلال والحرام! ويا من يعرف شئون
الناس! أتريد أن تكون فتاناً؟! فنحن ما جئنا للفتنة، إنما جئنا لنطفئ
الفتنة.
وهل أمرهم بمعصية؟ لقد سماه فتاناً لكونه أطال الصلاة.
وعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقوم الليل بسورة الفاتحة، والرسول صلى الله
عليه وسلم كان يقرأ البقرة والنساء وآل عمران ثم يركع، فهل في هذا فتنة؟
لا.
وإنما كان التطويل هنا فتنة لأن صلاة معاذ لها تعلق بالآخرين؛ إذ إنه كان
الإمام، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا صلى أحدكم لنفسه
فليطول ما شاء) .
قوله: (إذا أممت الناس) الخطاب خاص لـ معاذ، وهو عام في كل إمام؛ لأن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن أم الناس فليخفف.
وقد بين صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: (فإن فيهم الضعيف والكبير وذا
الحاجة) ، وكصاحب الماء أو صاحب الناضحين، وقد يكون هناك إنسان له سياره
محمّلة والناس ينتظرونه، أو لديه مريض ويريد أن يذهب به، أو يريد أن يرى
حالته، أو أي حاجة من حاجات الناس، أو هناك إنسان يقوم في الصف ولا يستطيع
أن يطيل القيام.
إلخ.
فعلى الإمام أن يراعي حالة الناس، وقد جاء ما هو أخص من ذلك، فقد قال صلى
الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي
فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) .
فالأم حين تسمع طفلها يبكي هل ستصلي أم تُسكت ولدها؟ إن قلبها يطير، ولهذا
جاء عن أبي قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وهو
حامل أمامة بنت زينب) ، وذلك حتى لا تبكي وتصيح وتشوش عليه، فحملها ووضعها
أهون من أن يسمعها تبكي.
قال: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ
باسم ربك) ، وهنا (اقرأ) في آخرها سجدة، وهذا رد على من يقول من المالكية:
لا يجوز للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة.
ولكن يقولون: إذا كانت القراءة سرية وسجد فإن من خلفه لا يعلمون سبب سجوده،
أما إذا كانت في الجهرية وسجد فلا مانع؛ لأنهم يسجدون تبعاً له.
فهذه السور على الأئمة أن يراعوها، أما إذا كان هناك جماعة متفقون على
إطالة الصلاة، وكلهم يعرف ذلك فلا بأس، ويوجد هناك جماعات في بعض البلدان
لهم مساجد خاصة، ويجتمعون فيها، ويطيلون الصلاة فيها، وسمعت من شخص جاء إلى
المدينة وأنه رُشِّح أن يكون إماماً، فاشترط أن يسبح في الركوع ثلاث عشرة
مرة، وفي السجود ثلاث عشرة مرة فرُفضت إمامته، وقالوا له: أنت لا تصلي
لوحدك؛ فإن الناس وراءك ويسبحون ثلاث تسبيحات فقلت له: لماذا تشترط هذا؟
قال: أريد أن أهرب من الإمامة.
والذي يهمنا في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه أن الإنسان إذا كان يعمل
عملاً متعلقاً بالآخرين فيجب عليه أن يراعي حالة الآخرين، سواءٌ أكان في
صلاة، أم في غيرها.
وقصة الرجل الذي انفرد وصلى وحده يمكن أن نضاف إلى أدلة من يقول: إن
الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن هذا الذي دخل مع الإمام، ثم رأى
الإمام طول فانفرد عنه هل استأنف الصلاة من جديد، أو بنى على ما كان؟ الذي
عندنا أنه خفف صلاته وانفصل عن الإمام، وأكمل تبعاً لما تقدم من تكبيرة
الإحرام ودخوله مع الإمام.
فهل هذا يكون عذراً أو يكون نفاقاً؟ لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على
معاذ دعواه النفاق على هذا الرجل.
الشيء الآخر أيضاً أنه لا ينبغي لمسلم أن يرمي مسلماً بلقب كهذا، وقد نهى
صلى الله عليه وسلم عن لعن المسلم، وعن نعته بالكفر، بل قال: (من قال هلك
الناس فهو أهلكَهم) ، أو (فهو أهلكُهم) ، (فهو أهلكُهم) : أي أشدهم هلاكاً.
و (فهو أهلَكهم) بالفتح: أي هو الذي أهلكهم، وهم ليسوا بهالكين.
الصلاة خلف الإمام
القاعد
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها -في قصة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض- قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر
فكان يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى
الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) متفق عليه] .
حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، وهناك
فرق بين: (مريض) ، وبين: (اشتكى) ، ففرق بين إنسان مريض وآخر رجله مكسورة،
وفرق بين مريض وآخر يده مكسورة، فهذا يشتكي يده أو رجله أو صداع رأسه، ولكن
هذا مريض، فالجسم كله مريض، وهذا يشعر لأول وهلة أن الحالتين متغايرتان.
قولها: (وهو مريض) المعروف أنه مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، وإذا
كان الأمر كذلك فتكون رواية (جُحِش) متقدمة، ورواية (مرضه) متأخرة، لنكون
على وعي من الأمر في الزمن والتاريخ للحالتين.
قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) .
قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه متعددة، بمعنى أنه صلى الله عليه
وسلم لما اشتكى، واشتد به الوجع، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس قال:
(مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وهذه القضية استوعبت الشيء الكثير، ففي
بداية الأمر لما سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك قالت: (يا رسول الله!
إن أبا بكر رجل أسيف، فإذا قام مقامك لا يملك نفسه من البكاء، مر عمر فليصل
بالناس) .
قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
فقالت عائشة لـ حفصة: (قولي لرسول الله.
لأنه كلامها، فقالت حفصة: إن أبا بكر إذا قام لا يُسمع الناس من البكاء،
مُر عمر.
فقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر) وهذه ناحية عجيبة، فلماذا عائشة
تدفع حتى لا يصلي أبوها بالناس، وهذه أكبر منزلة؟ ونعلم جميعاً أنه لن
يتقدم أحد على أبي بكر، وقد جرت عدة حوادث، منها أن النبي صلى الله عليه
وسلم خرج في خصومة فقال لـ بلال إذا تأخرت فأمر أبا بكر فليصل بالناس.
فـ أبو بكر مقدم، ومرة أخرى تأخر أبو بكر في مرض موته.
فقدموا عمر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار وقال: يأبى الله إلا أبا
بكر.
فقال بلال: ما وجدت منك خيراً! وهنا حفصة لما قال لها صلى الله عليه وسلم:
(إنكن لأنتن صواحب يوسف) ، قالت لـ عائشة: ما رأيت منك خيراً قط! وصواحب
يوسف كن يخفين ما لا يبدين.
وهنا يأتي دور المتأمل الذي ينظر إلى الحقائق وما وراء الأحداث، فـ عائشة
لا ترفض أن يقوم أبوها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأمر
من السهولة إلى هذا الحد؟ إن أبا بكر بالنسبة لـ عائشة أبوها، فإذا بلَّغت
عائشة الناس أن يصلي أبو بكر وكان فيهم ما فيهم فإن الشكوك والتهم تتوجه
إلى عائشة من أجل أنه أبوها، فأرادت أن تبرئ نفسها وتبعد المسئولية عنها.
وقد قال عمر في السقيفة: ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا
وآخرتنا، ألا نرتضيك لأمر دنيانا؟! فكان تقديمه للصلاة مقدمة وترشيحاً
للخلافة بعده صلى الله عليه وسلم.
فأُمِر أبو بكر، وكان يصلي مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة:
فبينما أبو بكر يصلي بالناس، إذ وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، وفي
بعض الروايات تفصيل آخر: (أراد أن يخرج فأغمي عليه، قال: ضعوا لي ماء في
المخضب) ، فاغتسل فأراد أن يخرج فعجز، وكل مرة يقول: (أصلى الناس؟!
فيقولون: لا.
وهم ينتظرونك) ، وأخيراً تأخر وأعاد الأمر لـ أبي بكر بالصلاة.
قالت: فوجد في نفسه خفة، فخرج يتهادى بين رجلين -قال ابن عباس للراوي: هل
أخبرتك من الرجلان؟ قال: لا.
قال: هما علي والعباس - قالت: تخط قدماه، حتى أتى الصف، فشعر به الناس،
فالتفت أبو بكر -وفي بعض الروايات: ولم يكن يلتفت- فإذا برسول الله صلى
الله عليه وسلم بجانبه وهذه رواية للبخاري وهي مجملة، وللبخاري رواية أخرى
مفصلة: (فجلس عن يساره) .
وهنا جلس عن يسار أبي بكر، وفي بعض الروايات أراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ
إليه أن: مكانك وهذا في صلاة أخرى، ولكن الأخيرة التي فيها حديث عائشة تبين
أنه جلس عن يسار أبي بكر.
ولماذا نحتاج إلى معرفة مجلسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر
أو يساره؟ لأن معرفة موقعه عليه الصلاة والسلام من أبي بكر -أثناء الصلاة-
بين لنا الإمام من المأموم، وعليه تنبني مسائل وخلاف بين العلماء، وبعض
العلماء استدل بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم على جواز ائتمام القائم
بالقاعد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر صلى قاعداً
وكان إماماً؛ لجلوسه عن يسار أبي بكر، ولأن موقف المأموم من الإمام عن
اليمين، وموقف الإمام من المأموم عن اليسار إذا كان واحداً، فـ أبو بكر بدأ
بالصلاة إماماً وانتهى فيها مأموماً، ولهذا تحرى الفقهاء مجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أهو عن يمينه أو عن يساره.
فهنا لما تبين أنه صلى الله عليه وسلم جاء وجلس عن يسار أبي بكر، وفي حديث
عائشة: (فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأتم بصلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم والناس يأتمون -أو يقتدون- بصلاة أبي بكر) .
عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأن أبا بكر كان مؤتماً
برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بـ أبي بكر، وجميع المؤتمين
يأتمون بإمام قاعد.
ولهذا قالوا: لما كان في أول الأمر -لما جُحِش- أشار إليهم أن اجلسوا، وفي
آخر الأمر لما قاموا خلفه وأبو بكر يقتدي به لم يأمرهم أن يجلسوا، ولم
يأمرهم بالصلاة قعوداً خلفه وقد سئل أحمد -وهو ممن يبيح للمأموم أن يصلي
قاعداً خلف الإمام القاعد- فقالوا له: لقد نسخ بأمر صلاته في آخر أمره!
قال: لا؛ لأن فيه احتمالاً، وذلك أن أبا بكر بدأ الصلاة قائماً، فكان
القيام ابتداءً، ومجيئه صلى الله عليه وسلم للصلاة قاعداً حدث بعد أن انعقد
حكم القيام للجميع، ولا ينتقض بعد ذلك.
فـ أحمد يرى لمن صلى خلف إمام قاعد أن يقعد، والجمهور يرون عدم ذلك،
ويقولون: إن الحالة الأخيرة ناسخة للحالة الأولى، والقيام مقتضى النص؛ لأن
القيام واجب على كل مصل إلا لعذر، فإذا عذر الإمام بالقعود فما عذر
المأمومين؟! والشارح وغيره يقولون: لقد أُمروا بذلك -أي: بمتابعة الإمام-
والجمهور يقولون: قد جاء فعلٌ نَسَخَ هذا الأمر، أو أنه يكون للندب، أو
للجواز، ولكن إذا جئنا إلى الأصل فكل من الإمام والمأموم مطالب بالقيام،
لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا طرأ عذر
لواحد منهما لا ينجر على الثاني، وبالله تعالى التوفيق.
الفرق بين صلاة
الإمام والمنفرد في التخفيف
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف
وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) متفق عليه] .
قوله: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) التخفيف أمر نسبي بحسب ما يعلم الإمام
من حالات المأمومين، وهذا من أقوى الأدلة لإثبات تعليل الأحكام؛ فإن هناك
من يقول: لا تعليل للأحكام، وإن الله يشرع ما شاء، كما قال تعالى: {لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] ، فلا يقال: لماذا حرم هذا؟
ولماذا أباح هذا؟ فهو غني عن التعليل.
والإجابة عن ذلك أن التعليل وحكمة التشريع ليست راجعة إلى الله، فإن الله
هو الغني الحميد، ولكن راجعة إلى العباد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا أم أحدكم الناس فليخفف) ، الفاء: (فاء السببية، أي: بسبب ما في الناس
أو في المأمومين من ضعيف ومريض وذي حاجة وكلمة (ذا الحاجة) عامة، سواءٌ في
شخصه أم في غيره.
وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفف الصلاة من بكاء الأطفال شفقة
على الأمهات، وهذا من الحاجة.
أو نقول: هذا نص في بيان تعليل الأحكام؛ لأن علة الحكم إذا ثبتت، ثم بعد
عهد التشريع وانقطاع الوحي وتمام تدوين السنة، ثم جاءت حادثة، أو جاءت صورة
لم تكن منصوصاً عليها -فيما تقدم من النصوص من كتاب وسنة- بالعلة التي علل
بها الحكم نستطيع أن نلحق المستجد بعد عصر التشريع بما سبق أن شُرِّع
ونُصَّ على تعليله، كما جاء تعليل تحريم الخمر بالإسكار، وجاء تحليل الميتة
مع ما فيها من مضرة للجسم للضرورة.
إلخ.
فمن هذا الحديث يستدل على تعليل الأحكام، واعتبار العلة في تأثيرها في
الحكم.
قوله: (فإذا صلى وحده) ، أي: منفرداً، (فليطول ما شاء) ، فتصح الصلاة
منفرداً.
وهذا أيضاً من أدلة صحة الصلاة منفرداً، فيطوِّل ما شاء لأنه أمير نفسه
وأدرى بحاجته، وإن تعب خفف.
وذكر الشارح هنا مبحثاً، وهو إذا كان يصلي المغرب أو يصلي الصبح وحده، وبدأ
في الركعة الأولى بالبقرة كما فعل معاذ في صلاة العشاء، ثم بدأ في الثانية
بآل عمران، فستطلع الشمس وهو لم ينته بعد، فهل (يطول ما شاء) على عمومه، أو
قد قُيِّد هذا العموم بما لم يخرج وقت الصلاة؟ بعضهم يقول: حتى ولو خرج
وقتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطول ما شاء) .
نقول: نعم ما شاء، لكن هذا له حد لا يتعداه.
قالوا: جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه صلى الصبح فأطال، فلما سلم
قالوا: كادت الشمس أن تطلع علينا.
قال: إن طلعت علينا لم تجدنا غافلين.
ولكن هذا أثر موقوف على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بصحة هذا
الأثر، وعلينا أن نتقيد بالوقت، لا أننا نطيل ما شئنا حتى يخرج الوقت.
الأحق بالإمامة
وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن سلمة قال: قال أبي: جئتكم من عند النبي
صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم
أكثركم قرآناً، قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً، فقدموني وأنا ابن
ست أو سبع سنين) رواه البخاري وأبو داود والنسائي] .
هذا الحديث بداية مبحث من أحق بالإمامة؟ اتفق العلماء على أن أحق الناس
بالإمامة أتقاهم وأقرؤهم وأعلمهم، وكل من جمع تلك الصفات الخيرة.
فإذا لم توجد كل هذه الصفات فمن أحق؟ نعلم أولاً أن هناك حديثاً -وإن كان
سنده فيه شيء-، وهو مكتوب على محراب المسجد النبوي في القبلة (إن أئمتكم
وافدوكم إلى الله، فانظروا من توفدون) ، فلو كان لنا حاجة عند ملك، وأردنا
أن نرسل شخصاً أوشخصين فإنا نرسل الأشخاص الذين يحسنون مخاطبة الملوك.
فإذا كنا -ولله المثل الأعلى- قدمنا الإمام ليدعو ونؤمن بعده فهو وافدنا
إلى الله، فمن الذي نختاره وافداً لنا يفد على الله، ويسأل حاجتنا؟ إنه
أفضلنا وخيرنا.
والخيرية أنواع، وفي أبواب متعددة، فمنها الشجاعة، والكرم، والعلم،
والمعرفة، وكل هذه من صفات الخير، ولكن هناك صفات ترجع لأمور الدنيا، وهناك
صفات ترجع لأمور الدين، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع المبدأ في هذا
المقام (أقرؤكم) ، و (أقرأ) هنا أفعل تفضيل، فهل معنى القراءة من مادة
(قرأ) بمعنى: تلا كتاب الله، أو (قرأ) بمعنى فقه؟ نجد بعض الناس يختلفون في
ذلك، ولكن إذا كان الشخص قارئاً فقيهاً ورعاً زاهداً فهو أولى، ولا شك في
ذلك، وإذا وجدت بعض الصفات، بأن كان عابداً زاهداً ورعاً لكنه عامي لا يحسن
التلاوة، ووجد إنسان من عامة الناس مستور الحال، وهو أجود الحاضرين قراءة
لكتاب الله، بمعنى: أجود الناس قراءة -كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه
تفسيره: بأن يكون مجوِّداً معرِباً لكتاب الله- فنحن في حاجة إلى من يقرأ
القرآن معرِباً، لا لمن حفظ حروفه، فمجرد حفظ الحروف مع عدم إقامة التلاوة
لا يصلح في هذا المقام.
فـ (أقرؤكم) أي: أجودكم قراءة وبعضهم يقول: (أقرؤكم) أكثركم قراءة.
فيحتمل هذا المعنى، فمثلاً: يوجد عندنا شخص يحفظ جزءاً واحداً، لكنه يقرؤه
قراءة مجودة، فيعطي كل حرف حقه، ويخرج الحروف من مخارجها، ويعرف كيفية
النطق بالحروف في القراءة.
وشخص آخر يحفظ نصف القرآن، لكنه لا يعرف قواعد القراءة، فحفظه مجرد سرد،
ولا يعرف أماكن الوقف، أو لا يحسن النطق -كما يقولون- في المد والغنة
والتنوين.
إلخ.
فأيهما يُقدم (أقرؤكم) بمعنى: أكثركم، ولو لم يعرب القرآن، أم (أقرؤكم)
بمعنى: أجودكم قراءة؟ لاشك أن الأجود قراءة هو المقدم.
وهنا مسألة: هل إعراب القرآن في القراءة بمعنى الفقه، أم أن الفقه قسم
مستقل، والإعراب قسم ثان مرجِّح؟ سيأتي الحديث الآخر: (فإن كانوا في
القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) ، فأعلمهم بالسنة يتعلق بجانب الفقه.
نبقى في حديث عمرو بن سلمة: أن أباه جاء وقال: (جئتكم من عند النبي حقاً) ،
و (حقاً) تأكيد لمعنى النبوة؛ لأن المجيء أمر محسوس، فهو مشاهد حين ذهب
وأتى، فهو يقول: من عند النبي نبوة حقيقية.
فضل الأذان والمراد
بالأقرأ لكتاب الله عز وجل
قوله: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (أكرمكم) ؛ لأن
الأذان دعاء، فالمؤذن يدعو الناس إلى الله، والمؤذنون هم أطول الناس
أعناقاً، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لولا الخلافة -أو لولا
الإمامة؛ لأن الخليفة كان هو الإمام، والإمام هو الخليفة- لكنت مؤذناً) لما
في الأذان من عظيم الأجر.
ولا يسمع صوت المؤذن شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له
والأذان أمر ليس بالهين، وفي الحديث: (ثلاثة يوم القيامة على كثبان من
المسك) وذكر منهم: (ورجل أذن محتسباً) .
فشأن المؤذن عظيم، والأذان هو شعار الإسلام، ولذلك قال: (فليؤذن لكم
أكرمكم) ، فعلى سبيل المثال، لو كنا في مخيم وفيه الخدم والمشتركون، وفيه
أمير للمخيم، فجاء واحد من الخدم ونادى: هلموا تعالوا.
وجاء أمير القوم أو من دونه، أو مِن مساعديه ونادى: هلموا يا قوم.
فالإجابة الأكثر تكون للشخص الذي هو أعلى درجة وله مكانة في المجتمع، فكذلك
المؤذن.
لكن الآن كثر الأذان والمؤذنون، ولا نستطيع أن نجمع أكرم الناس ليؤذنوا،
وجاء في الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات:13] ، فإذا وجد إنسان مستقيم الحال على قدر من الصلاح، ومعروف بين
الناس بالاستقامة فلا مانع أن يؤذن لنا.
قال: (فليؤذن أحدكم -وفي رواية: أكرمكم- وليؤمكم أكثركم قرآناً) .
هذا اللفظ يفسر لنا: (أقرؤكم لكتاب الله) بأن المراد من وعى قرآناً أكثر من
غيره، ولكن على ما تقدم ليس مجرد حفظ حروف دون تجويدها وإعرابها.
يقول بعض العلماء: إن حفظ القرآن في الصدر الأول يتضمن الفقه؛ لأن السلف
كانوا كما قال ابن مسعود: (كنا إذا أخذ أحدنا عشر آيات لا يجاوزهن -وفي
حديث ابن عمر: خمس آيات- حتى يحفظهن ويتعلمهن ويعمل بهن، فأخذنا كتاب الله
حفظاً وعلماً وعملاً) ، فقالوا: من حفظ القرآن أو حفظ بعض السور معناه أنه
حفظ حروفها، وفقه معانيها، وعمل بها، فالأكثر قرآناً أكثر فقهاً وعلماً
وعملاً.
ولكن نجد في حديث عمرو هذا أنه كان غلاماً عمره ست أو سبع سنوات، وفي بعض
الروايات: (ثمان سنوات) ، قال: (فنظروا فلم يكن أحد في القوم أكثر قرآناً
مني) ، وهو ابن ست أو سبع أو ثمان سنوات.
ويذكرون في سبب ذلك أنه كان غلاماً فطناً ذكياً، وكان المسلمون الذين يفدون
على رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرون بهم ذهاباً، ويمرون بهم عند
عودتهم، وينزلون عندهم، فيسألهم: ماذا سمعتم من القرآن؟ فيسمع منهم ما
سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظ عنهم، ولم يكن يفعل ذلك من
قومه أحد، فكان لتلقيه المسلمين العائدين من عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم وسؤالهم عما لديهم من القرآن يحفظ أكثر من الموجودين في بني سلمة.
ولذلك قدموه ليصلي بهم وهو ابن ست أو سبع، وفي رواية: (ابن ثمان) ، وليكن
ابن ثمان فسنه -قطعاً- دون البلوغ، وفي تتمة خبره أنه كان يصلي في بردة،
وكانت قصيرة فإذا سجد تقلصت، وقال نسوة: استروا إمامكم أو غطوا عنا است
صاحبكم.
قال: (فاشتروا قماشاً، فخاطوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك) .
إلخ.
حكم إمامة الصبي
المميز
مسألة: هل تصح إمامة الصبي أم لا؟ إن إمامة الصبي، وإمامة المرأة، وإمامة
الفاسق، وإمامة الأعرابي للحضري كل هذه مباحث مفصلة في كتب الفقه، ومن أكثر
من فصل في ذلك صاحب كتاب: (كشاف القناع) عند الحنابلة.
فيرى بعض العلماء صحة صلاة البالغ الكبير في الفريضة خلف المميز الصغير،
ونجد بعض العلماء يقول: لا تصح صلاة المفترض البالغ خلف الصبي فماذا عن هذا
الحديث؟ قالوا إنه كان في النافلة، وابن عبد البر وغيره يقول: صرف هذا إلى
النافلة بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليؤذن أحدكم وليؤمكم
أكثركم قرآناً) ، فيؤمهم في النافلة أم في الفريضة؟ ثم أيضاً في سياق كلام
أبيه حين جاء وقال: أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نصلي صلاة كذا في وقت كذا،
وصلاة كذا في وقت كذا يعني: علمهم أوقات الصلاة، وأمرهم أن يؤذن أحدهم، وأن
يصلي بهم أكثرهم قرآناً، فهل السياق في النافلة أم في الفريضة؟ في الفريضة
بلا شك.
وقوم أخذوا بهذا الحديث، ولكن كره مالك إمامة الصبي، وكل من لم يصحح اختلاف
النية في الصلاة قالوا: هل صلاة هذا الصبي التي يؤم فيها فريضة أم نافلة؟
هي في حقه هو نافلة؛ لأنه لم يجر عليه التكليف بعد.
وليس عليه فريضة في الإسلام إلى الآن، فقالوا: كيف يؤم المتنفل المفترضين؟
وعدم البلوغ يدل على عدم التكليف! وآخرون قالوا: هذا نص رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقيل: ليس هذا نصاً من رسول الله، فنص رسول الله صلى الله عليه
وسلم قاعدة عامة، والتطبيق جاء من قومه، فهل قال: يصلي لكم عمرو بن سلمة؟
وهل قال: يصلي لكم الصبي الحافظ؟ وهل قال: أكثركم قرآناً ولو كان مميزاً
صغيراً؟ لكنهم لما سمعوا قاعدة التشريع: (أكثركم قرآناً) جاؤوا يبحثون عمن
هو أقرؤهم قرآناً فما وجدوا إلا هذا الغلام فقدموه.
فقاعدة التشريع العامة سليمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحة لكل
زمان ومكان، ولكن التطبيق العملي يكون من الناس، فهل -يا ترى- لما قدموا
هذا الغلام علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك، أم أن
هذا اجتهاد منهم؟ هذا اجتهاد منهم في تطبيق القاعدة.
وأجاب الآخرون فقالوا: إنه اجتهاد منهم في تطبيقها على أهم أعمال الإسلام
وهي الصلاة، ثم لم يأت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم: إن
إمامكم لا تصح إمامته.
ولم يأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم فيما بعد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على شيءٍ باطل، ولو كان لا يعلمه، فقد
نبِّه على القذارة في نعليه، فكان يصلي وفي أثناء الصلاة أتاه جبريل وقال:
اخلع نعليك؛ لأن فيهما أذى.
فخلع نعليه وهو في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على
إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا.
قال: أحسنتم) يعني: تأسياً بما رأوه من الفعل، وإن لم يعلموا السبب.
ثم قال: (إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) ،
فبين لهم أنه خلعهما عن إخبار من جبريل، أي: لم يقره الله على ما هو عليه
من صلاة بأذى في النعلين.
فلا يُقرُّه على إمامة الغلام لقومه، وكل هذا -كما يقال- تعليل لما ذهب
إليه كل فريق.
فالخلاف في إمامة الصبي، ولكن إذا اجتمع قوم لا يوجد فيهم قارئ إلا غلام
مثل هذا، كما لو قدر أن قوماً في البادية ليس عندهم قارئ، فإنه يصلي بهم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [5]
إمامة المسلمين في الصلاة منزلة رفيعة وشرف عظيم، وقد جعل الشارع لذلك
شروطاً وأوصافاً، فمن تحققت فيه فهو الأولى بالتقديم، فيقدم الأكثر قرآناً
-أي: الأكثر حفظاً والأحسن تجويداً- ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم
الأقدم سلماً، ثم الأكبر سناً.
ولا يجوز لرجل أن يؤم آخر في سلطانه إلا بإذنه، فإن حق ذي السلطان مقدم على
الحقوق المتقدمة.
ولا يجوز لامرأة أن تؤم الرجل، ولا لأعرابي أن يؤم المهاجر والحاضر، ولا
يجوز أن يؤم فاجر مؤمناً.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
الاعتبارات الشرعية
في اختيار الإمام للصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن
كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة، سواء فأقدمهم
هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-، ولا يؤمن
الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم]
.
حديث أبي مسعود هذا فيه تفصيل ما أجمل في حديث عمرو.
فنا (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وحديث عمرو: (أكثركم قرآناً) ،
فالمراد الأكثر مع أجود وأحسن قراءة، فإن وجد كثير القرآن لا يعرب القراءة،
وقليل القرآن يعرب فنقدم الذي يعرب ولو كان أقل حفظاً.
قال: (فإن كانوا في القراءة سواء) ، أي: كلاهما يعرف التجويد، ويحسن
التطبيق، وليس المراد مجرد القراءة؛ لأن العبرة في التجويد التطبيق، فإنه
أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً وسماعاً، فإن كان في ذلك سواء فمن
الذي يقدم؟ وقبل هذا قال: (يؤم القوم) ، ولم يقل: سيدهم، ولا أشرفهم، ولا
أميرهم، ولا أفضلهم، إنما جاء إلى وصف في الإسلام، وهو الربط بالأصل الذي
هو كتاب الله، وفي هذا توجيه الأمة بأكملها أن تتجه إلى إجادة قراءة
القرآن؛ لأن هذه الصفة تؤهلهم إلى إمامة القوم، ونعلم من الناحية الأخرى أن
في الخلافة الكبرى، أو في أمور الرئاسة والسياسة والإدارة يتولى خلافة
الأمة وسياسة أمرها أفضلها، كما جاء في تولية أبي بكر الصلاة بالناس،
وسيأتي التنبيه عليه.
فإن كانوا في القراءة سواءً، ونريد أن نقدم أحد الشخصين أو الأشخاص ننتقل
إلى مرجح آخر وهو: (أعلمهم بالسنة) ، يعني: أفقههم بالسنة، ولماذا لم يقل:
أفقههم بالكتاب، وقال: أقرؤهم لكتاب الله؟ (من يرد الله به خيراً يفقهه في
الدين) ، يقول العلماء: لأن فقه السنة أعم من فقه القرآن، فالسنة هي
المبينة والمفصلة لجميع آيات الأحكام في كتاب الله، وما من آية في فريضة
ولا في حد إلا والسنة تبين مجملها، أو تقيد مطلقها، أو تخصص عمومها، فكما
قيل: الكتاب يحتاج إلى السنة أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب، ومن هنا تجب
العناية بفقه السنة.
وإذا جاء بعد (أقرؤهم) (أفقههم للسنة) فأقرؤهم تُحمل على معنى الفقه أم على
تجويد القراءة؟ تحمل على تجويد القراءة؛ لأن الفقه جاء منصوصاً عليه في
قوله: (أفقههم بالسنة) .
وهنا يأتي العلماء بقضية، ويقولون إن الأقرأ لابد أن يكون الأفقه، قالوا:
لأننا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس مع أنه
قال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، وقال: (خذوا القرآن من أربعة من عبد
الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب) ، فذكر أربعة أشخاص ليس فيهم
أبو بكر وعمر، وقال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، فكيف يقدم أبا بكر
وقد شهد بأن أقرأهم أبي بن كعب؟ أجابوا عن ذلك بقولهم: إن تقديم الرسول صلى
الله عليه وسلم لـ أبي بكر لا لمجرد الصلاة، ولكنه إرهاص وتنبيه وإرشاد
وتعليم للأمة بأن الذي سيخلفه في مقامه هو أبو بكر، بدلالة تقديمه له في
الصلاة، وعند أبي بكر من القراءة والفقه ما يصلح الصلاة.
وإنما قدِّم الأفقه؛ لأن الإمام قد يطرأ عليه في صلاته ما يبطلها أو يخل
بها، فلابد أن يكون فقيهاً عالماً، يتجنب ما يبطل الصلاة أو يخل بها.
ولكن أمور فهم الصلاة وإبطالها أمر ضروري، وقل من يجهل ذلك، فـ أبو بكر رضي
الله تعالى عنه لديه من القراءة والفقه ما يقتضي ذلك وزيادة، ولذا كانوا
يقولون: أبو بكر أفقه الناس، أو أفقه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وذلك في شهادة عمر وعثمان وغيرهما.
قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) .
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ،
فالذين سبقوا إلى الهجرة لهم خصوصية عمن لم يهاجر إلا بعد الفتح، ولا هجرة
بعد الفتح، ثم يبحث العلماء، في أقدمهم هجرة هل خاص بالسلف الأول المهاجرين
من مكة إلى المدينة، أم أن الهجرة لم تنقطع؟ قالوا: لو قدر في بلد من
البلاد أنه تضايق المسلمون واضطروا إلى الهجرة إلى بلد إسلامي، فإن اعتبار
التقدم في الهجرة هناك يعتبر هنا الآن.
وبعضهم قال: إن أبناء المهاجرين السابقين يعطون حقوق الآباء، فابن السابق
هجرة مقدم على ابن المتأخر هجرة، وكل ذلك اعتبارات للترجيح.
فأحياناً كان يأتي النفر الواحد مهاجراً، وأحياناً يأتي الرجل ومعه الرجلان
والثلاثة والعشرة والأربعون مهاجرين معه، فإن كان أحد سبق ولو بيوم فهو
مقدم، وإن هاجروا في وقت واحد فلا ترجيح.
قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) .
إن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أقدمهم في الإسلام قبل أن يهاجروا؛ لأنهم
-كما يقولون- كانوا يعدون المسلمين عداً، كما يقول بعضهم: (كنت سابع سبعة)
، فـ عمر (لم يتقدم عليه ثلاثون رجلاً) ، وحمزة كان قبله بثلاثة أيام.
وقد أحصى المؤرخون تاريخ السابقين الأولين في الإسلام، ومتى أسلموا، فمن
أسلم قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الندوة، ومن أسلم بعد أن خرج منها
كل هذه التواريخ مقيدة.
فإذا كانوا في الهجرة سواءً فالذي تقدم إسلامه هو الإمام، وكل ذلك مفاضلة
فيما بينهم لمن يستحق الإمامة، وكل هذا مع اجتماع أقرئهم وأعلمهم وأسبقهم
هجرة.
أي: إذا استووا في كل ما تقدم.
ثم (أكبرهم سناً) ؛ لأن الإمام كلما كان كبير السن كان موضع توقير عند
الناس.
السلطان أحق
بالإمامة في سلطانه
ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث: (ولا يَؤُمَّنَ الرجلُ الرجلَ في
سلطانه) .
فكما أنه لا يؤم القوم أجهلهم، ولا عديم المعرفة بالقراءة وفيهم من هو أولى
منه، كذلك لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه.
والسلطان كلمة عامة، وهي في كل شيءٍ بحسبه، فهناك السلطان الأعظم -كما
يقولون-، وهو ولي أمر المسلمين، وحاكم الدولة، أو حاكم الأمة، وهناك أمير
المقاطعة، وهو سلطانها.
وحاكم القرية هو سلطانها، فكل من كانت له ولاية على جماعة فهو سلطانها،
قالوا: ويتبع ذلك إمام المسجد الراتب ورب البيت؛ لأنه سلطان البيت، كما في
الحديث: (والرجل راع في أهل بيته) .
وهنا قوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) فيه احترام السلطة، واحترام
الحق المعنوي؛ لأن السلطنة أو السلطان أمر معنوي، فقد يختار ولي أمر
المسلمين شخصاً اليوم، ثم يُتوفى ويأتي غيره، أو يعزله ويأتي بغيره، فهو
أمر نسبي لشخص لأمر معنوي، فيُحترم هذ الحق؛ لأن من حقه في سلطانه أن يأمر
وينهى، وأن يكون المقدم على غيره؛ لأن رعيته في سلطنته لا تتقدم عليه، ولا
تفتئت عليه في أوامره، ولا في تعليماته، وكذلك إمامة الصلاة ولاية، فلا
ينبغي أن يتقدم شخص أجنبي على شخص في سلطانه يؤمه، حتى إنهم قالوا: لو كان
هذا السلطان المطلق على الأمة والدولة، أو السلطان المحدود السلطة في إقليم
أو قرية، بالنسبة لمن معه أقلهم قراءة، فمادام يصحح الصلاة، ولا يلحن لحناً
يخل بالمعنى، ولا يخطئ في أدائها، -أي: يحسن الصلاة- فيكون حينئذٍ مقدماً
على من هو أفضل منه قراءة ونسباً وسبقاً للإسلام.
إلى آخره.
وغاية ما فيه أنها: صلاة الفاضل خلف المفضول، وصلاة الفاضل خلف المفضول
صحيحة بإجماع المسلمين، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن
بن عوف، واختلف في أنه صلى خلف أبي بكر أو لم يصل خلفه، ويكفينا أنه صلى
خلف ابن عوف.
فصلاة الفاضل خلف المفضول صحيحة، وهنا لو كان صاحب السلطان أقل رتبة في
مراتب الإمامة، وخلفه أو معه من هو أعلى رتبة في مقام الإمامة فلا يحق له
أن يتقدم على صاحب السلطان، ولكن إن أذن له السلطان فلا بأس، ويكون قد
تنازل عن حقه في سلطانه، وسمح لغيره أن يتقدم بالإمامة.
فقوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) كلمة (سلطان) هنا عامة، سواءٌ أكان
السلطان العام كولي أمر المسلمين عموماً ملكاً أو رئيساً أو غير ذلك، أم
كان في مقاطعة أو في إقليم أو في قرية أو هجرة أو نحو ذلك.
الإمام المولّى من قبل السلطان أحق
بالإمامة من غيره
وقاسوا على هذا أيضاً إمامة المسجد إذا كان الإمام راتباً؛ لأن الإمام
الراتب مولَّى من قبل السلطان، فهو أحق بالإمامة من غيره، حتى قالوا: إذا
تأخر الإمام الراتب ينتظرونه ما لم تكن مضرة، فإن كان مكانه قريباً أرسلوا
إليه، فإن اعتذر أو لم يوجد وخيف الضرر فعلى الحاضرين أن يقدموا ويختاروا
لأنفسهم من يصلي بهم.
وقالوا: لو قدر أنه تأخر لعذر، وأرسلوا إليه فلم يجدوه، واختاروا وقدموا من
يصلي بهم، فجاء أثناء الصلاة فمن حقه أن يتقدم للإمامة، وعلى الذي اختاروه
للإمامة أن يرجع إلى الصف مؤتماً.
وماذا يفعلون فيما سُبِق به، كأن جاء بعد أن صلوا ركعتين؟ قالوا: يصلي بهم
الركعتين الباقيتين، ثم يقوم لاتمام صلاته، والمأمومون يبقون جالسين، فإذا
أتى بالركعتين اللتين فاتتاه وأتم لنفسه الصلاة -وهم قد تمت صلاتهم- سلّم
وسلموا معه، وإن ترك الإمام الذي اختاروه يتم الصلاة وائتم به فلا مانع في
ذلك.
فعدم إمامة الرجل الرجل في سلطانه أولاً وقبل كل شيء فيه احترام للسلطة
واحترام للحقوق، وألا يفتئت أحد على أحد في مركز سلطته وسلطانه مهما كان
مستواه، ومهما بلغ من أمره.
وكذلك لا يؤم الرجل الرجل في بيته؛ لأنه سلطان بيته إن كان له أن يصلي
جماعة في البيت، فقد تكون هناك أعذار له، كأن يكون المسجد بعيداً، أو كان
هناك مرضى، وخيف من التفرق، واحتاجوا إلى أن يصلوا في البيت فحينئذٍ الأحق
بالإمامة صاحب البيت، ولو كان أيضاً أقل رتبة في الإمامة من بعض الحاضرين؛
لأن حقه مقدم، إلا إذا أذن وقدم فلاناً ليصلي، فقال له: الحق لك لأنك صاحب
البيت، فيقول: قد أذنت لك فحينئذٍ يتقدم من هو أولى بمرتبة الإمامة فيصلي؛
لأن صاحب البيت تنازل عن حقه وأذن له، فالصلاة في محلها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) .
نأتي إلى ناحية أخرى اجتماعية، وهي: احترام حرمة البيوت، فإذا دخلت بيتاً
ورأيت مجلساً خاصاً متميزاً لصاحب البيت سواءٌ أكان كرسياً، أم كان فراشاً،
أو دخلت مجلساً عاماً، وتعرف من واقع الحال أن هذا صدر المجلس وهو لصاحب
البيت، فلا ينبغي لك أن تجلس في مجلس صاحب البيت إلا بإذنه؛ لأن هذا حقه،
والجلوس مكانه افتئات عليه.
فقوله: (تكرمته) هي الموضع الذي يُكرم به صاحب البيت، وهو مكان مميز كما
تقدم، فإذا عرفت أن هذا المكان متميز عن بقية المجلس، وعرفت أن هذا لصاحب
البيت، سواءٌ أكان صاحب البيت من أرباب المنازل العليا والمراكز العليا، أم
كان من عامة الناس فهذا حق له لا يحق لك أن تجلس عليه إلا بإذنه، وكذلك إذا
دخل إنسان في غيبة الرجل، وكان من محارم أهله، فلا يحق للمرأة أن تجلس
شخصاً ما على فراش رجل إلا بإذنه، فإن كان قد أذن لها فبها وإلا منعته.
وهذا من باب احترام فراش الرجل.
فقد جاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم قبل فتح مكة وبعد صلح
الحديبية، وقد نقضت قريش العهد، فجاءت خزاعة تستنصر رسول الله صلى الله
عليه وسلم على قريش التي نقضت العهد، فعلم أبو سفيان فسبق وجاء يطلب تمديد
الهدنة وتوثيقها، فجاء إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: والله ما أنا بالذي يشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وجاء إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم! والله لو لم أجد إلا الذر أقاتلكم
به لقاتلتكم.
وجاء إلى علي، قال: والله لا أستطيع أن أشفع على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم جاء إلى فاطمة، قالت: أنا امرأة لا أجير على الرجال، قال: مري
ابنيك هذين الحسن والحسين، قالت: إنهما غلامان لا يملكان أن يجيرا أحداً
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة وهي زوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخل عليها كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فراش فطوته، ومنعته أن يجلس عليه، وهو فراش من ليف، قال: والله يا
ابنتي لا أعلم، أطويتي هذا الفراش ظناً به عليَّ، أو ظناً بي عليه، يعني:
إما لأنه لا يليق بي أنا، أو لأني لا أليق به، قالت: لا، إنه فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، لا يحق لك أن تجلس على فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا ابنتي بعدي شرٌ، ما
كنت هكذا، فهي كرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيها؛ لأن
أباها ما زال كافراً، فلا يليق أن تجلسه على فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وبناءً على ذلك: فإذا كان للرجل فراش خاص، سواءً كان فراش نومه أو غيره، لا
ينام أحد في مكانه حتى أولاده، ولا يليق للولد أن ينام في فراش أبيه، ولا
يحق للأم أن تأذن للولد في ذلك.
وكذلك البنت لا تنام في فراش أمها، وهكذا لا ينبغي لإنسان دخل بيتاً أن
يبيح لنفسه ما لصاحب البيت من مكانة مختصة به: فراش ينام عليه، أو محل يجلس
فيه.
الأحق بالمكان في
المسجد
وقد بحث العلماء مسألة قريبة من هذا، فمثلاً: المحلات العامة كالمساجد، إذا
كان للإنسان مكاناً في المسجد، واعتاد الإتيان إليه، وهو ممن يحضر الصلوات
الخمس، وتعود أن يأتي مبكراً، ويجلس في مكان معين، فلو أن إنساناً آخر سبق
إليه، أيحق له أن يجلس فيه؟ وإذا جاء صاحب هذا المكان، أيحق له أن يقيمه
منه ليجلس مكانه؟ بعض العلماء يقول: لا يقيمه؛ لأنه جاءت بعض الآثار في
النهي عن أن يتوطن إنسان موقعاً في المسجد توطن البعير، لأن البعير إذا
وطنته في مكان، لا يمكن أن يتحول عن ذاك المكان، يألف ذاك المكان، ولا يمكن
أن يبرك إلا فيه، فنهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء قال: ما دام هذا شخص متعود وله عادة في السبق ومحافظ على
الجماعة، يجب أن نحترم محافظته ومبادرته، ونكرمه بترك المكان له.
وبعضهم قال بالتفصيل: فهذا الشخص الذي اعتاد مكاناً بعينه، وعرفه الناس به،
ننظر أللناس مصلحة عنده، فيبقى في المكان الذي عرف به، حتى لو جاء صاحب
حاجة، يريده فيما فيه المصلحة عرف مكانه، دون أن يبحث في المسجد عنه، أم
أنه شخص عادي من عامة المسلمين؟! فإن كان شخصاً للناس عنده مصلحة، لم يفتي
الناس، وعرف الناس مكانه، وإذا وقعت بإنسان نازلة فيعلم أن فلاناً في
المسجد في المحل الفلاني، فيأتي السائل ويقال له: فلان -مثلاً- أمام باب
الرحمة، أو فلان أمام كذا، فإن اشتهر بهذا المكان، وكان للناس عنده حاجة
يقصدونه فيها فالأولى أن يترك له مكانه لخدمة الناس؛ لأن من يدخل ويأتي إلى
مكانه سيجده هناك.
لكن لو أننا أخذنا مكانه عليه فتارة يجلس في اليمين، وتارة يجلس في اليسار،
وتارة هنا، وتارة هناك، كان في ذلك تفويت المصلحة على الناس.
فإذا سبق إنسان وجاء ذلك الشخص الذي اعتاد هذا المكان فمن حقه أن يقيم من
جلس فيه، وأن يجلس في مكانه، والله تعالى أعلم.
من لا تصح إمامته
الخنثى المشكل
قال المصنف رحمه الله: [ولـ ابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه: (ولا
تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً، ولا أعرابيٌ مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً) ،
وإسناده واه] .
بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى الممنوع من الإمامة في أمور مخصوصة،
كالرجل في سلطانه، والرجل في بيته جاء بمن لا تصح إمامته بصفة عامة، لا بمن
هو مخصوص بوصف معين، فقال: (ولا تؤمن امرأة رجلاً) ، وأي امرأة؟ لقد أطلقت،
وأي الرجال؟ لقد أطلق، كأنه يقول: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وقيد
(رجلاً) يخرج النساء، فما قال: ولا تؤمن امرأة في الصلاة فإذا أمت المرأة
امرأة، أو أمت المرأة صبياً فكل ذلك جائز.
والخنثى المشكل هو إنسان اجتمعت له آلتا الذكورة والأنوثة معاً، ولكن قد
تكون فيه علامات الذكورة أوضح، بأن يبلغ بالاحتلام كما يبلغ الرجال، فتنبت
له لحية، أو تكون فيه علامات الأنوثة أوضح، بأن يحيض كما تحيض المرأة، ولا
يمني كما يمني الرجل، فإذا التبس وحصل هذا وهذا فبابه طويل ومشكل كما يقال.
فإذا وجد خنثى مشكل قالوا: إذا كان مشكلاً فلا تؤمنه المرأة مخافة أن يكون
رجلاً.
فالمرأة تؤم النسوة، ونجد الشارح لهذا الكتاب يذكر عن الطبري وعن غيره أن
المرأة لها أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يوجد قارئ إلا هي، وهذا مخالف
لعمومات الشرع.
فهل ستقرأ سراً أم جهراً؟ فإن قرأت جهراً فمشكل، وإن قرأت سراً تركت السنة،
فالأولى كما قال الآخرون: أخروهن حيث أخرهن الله.
وعلى هذا لا تؤم المرأة رجلاً، وإذا كان زوجها، وهي متعلمة وقارئة، وهو غير
قارئ فإنها لا تؤمه؛ تؤمنه، فركوعها وسجودها في الصلاة أمامه ربما شغله
وأفسد عليه صلاته.
المرأة لا تؤم الرجل، وما قيل من جواز ذلك فهو خارج عن نطاق مذاهب الأئمة
الأربعة، ويكفينا ما عليه أئمة المذاهب رحمهم الله.
إمامة الأعرابي
بالمهاجر
قال: (ولا أعرابي مهاجراً) الأعرابي: واحد الأعراب، و (الأعراب) مرادف
البادية والبوادي، والبدوي: هو من تبدى في الخلاء، والأعراب يقابلهم الحضر،
فإذا كان شخص أعرابياً -أي: يعيش مع الأعراب في الخلاء بعيداً عن المدن-
وحياته حياة الأعراب مع الإبل والغنم في المرعى، وعلى تلك الحياة المعروفة.
فإذا كان هناك حضري وأعرابي فهل يؤم الأعرابي الحضري؟ الحديث هنا -وإن كان
سنده ضعيف جداً معناه العام يؤخذ منه أن الغالب على حالة الأعراب أنهم غير
فقهاء في الدين، قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ} [التوبة:97] ، فالغالب على الأعراب عدم الفقه في الدين، وعدم
معرفة أحكام الصلاة، والغالب على المدني الذي يعيش في المدن أن يفهم ويحفظ،
وإن لم يفهم ويحفظ فسيرى وينظر ويأخذ من الناس.
فالحضري أسرع إلى فقه الإسلام، وأسرع إلى معرفة أحكام الصلاة من الأعرابي.
وهناك قصة تعطي صورة عن بعض الأعراب، وتحمل طلبة العلم ثقل مسئولية تعليم
الناس، خاصة الأعراب والبوادي، وأعجب كل العجب -ولا ينتهي العجب- من أولئك
الأشخاص الذين يتبعون بعض الجماعات، ويسافرون خارج بلادهم، ويسافرون مئات
الأميال، ويقولون: ندعو الناس إلى الله وبجوارهم أهلهم وبنوا جلدتهم -وقد
يكونون من أقرب الناس إليهم نسباً- في البادية يجهلون أحكام الصلاة.
فكيف نذهب إلى الأقطار النائية ونتغرب ونترك أبناءنا وأهلينا وأموالنا،
ونذهب باسم الدعوة إلى الله، ونترك من خلفنا أناساً من بني جلدتنا يجهلون
أحكام دينهم؟! وفي مرة كنا في الرياض في أحد النوادي، وكان هناك برنامج
سؤال وجواب، وكان هناك تحفز لتعلم اللغة الإنجليزية في المعهد الديني، فقال
صاحب البرنامج: إن هذا التعلم له مجال آخر، وإذا فرض في الدراسة في المعاهد
الدينية سيقوم على حساب الدين؛ لأن اللغة الإنجليزية لا تكفيها حصة ولا
حصتان ولا أربع في الأسبوع، فنحن ندرس اللغة العربية في أربع حصص في
الأسبوع، -مع أننا ننطق بها- ولا نجيدها، فإذا ما أخذنا الإنجليزية بجانب
الفقه والتوحيد والحديث والتفسير ستزاحمها في الوقت، وتزاحمها في المذاكرة،
ويضعف الطالب في تحصيل العلوم الدينية، وليكن ذلك في العطلة، ويكون الطالب
مخيراً، فقالوا: نريد أن نتعلم اللغة لندعو بها غير المسلمين.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى علينا وعليه حاضراً، فقدم
توجيهات رحمة الله تعالى علينا وعليه.
ومن أحسن ما قدم تعليماً للأساتذة لا للطلاب أن قال: وقد ألقى شخص قصيدة
يهجو فيها حالقي اللحى -ليس هذا بأسلوب حسن في الدعوة إلى الله، هذا تشهير
وليس دعوة، إنما الدعوة تكون سراً، وتكون بالمعروف، لا جهراً، فكان عليه أن
يأتي إلى الأشخاص المعنيين، وأن يخاطبهم فيما بينه وبينهم.
فتعلم الأساتذة كيف يدعون إلى الله غيرهم، ثم قال: سمعنا بأن بعض الطلاب
يريدون أن يتعلموا الإنجليزية من أجل الدعوة إلى الله بهذه اللغة خارج
البلاد، وهذا أمر عجيب، فهل اكتفينا بتعليم أنفسنا ومن ينطق بلغتنا؟ وقال:
هذه البوادي، وهؤلاء الأعراب، وهذه الدويلات من حولنا هل عممنا الدعوة فيها
وانتهينا من تعليم أهلها دين الإسلام والعقيدة والفقه، حتى ننتقل إلى من لم
ينطق باللغة العربية لنعلمه؟! ونحن الآن نقول: إن من الأعراب من هو في حاجة
إلى تعليم سورة الفاتحة، وقد حدث أن كنا في الأحساء، فدعانا إبراهيم المهنا
-رحمة الله تعالى علينا وعليه- لشرب الشاي بعد العصر في بستانه، ثم صلينا
المغرب في مسجده، وكان المسجد على الطريق، فصلى بنا مدرس التجويد وهو قارئ
متقن، وانتهينا من الصلاة، والمستعجل صلى النافلة ومضى إلى محل الضيافة،
ولفت نظري مجيء أربعة من البادية، يحمل كل واحد حاجته على كتفه، فجاءوا
بسرعة وبحركة سريعة، فألقوا أمتعتهم في مؤخرة المسجد، وتقدم واحد منهم يصلي
بهم، ففرحت لحرص هؤلاء الأعراب على أداء الصلاة جماعة في المسجد، فقد قدموا
واحداً منهم يصلي بهم، وهذا شيء حسن، فجعلت أنظر، فقرأ الفاتحة وأخل فيها
إخلالاً شديداً، وبعد الفاتحة قرأ بهذا اللفظ: (قل يا أيها الكافرون، لا
أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم
عابدون والله عابد، والله غفور رحيم) .
فهذا شيء يبكي، فأخذتني الحسرة في نفسي، وقلت: منذ كم يصلي هذا بهذه
القراءة؟ وهذا إمامهم فكيف بغيره؟! فلما انتظرت فطن، وكان فطناً ذكياً
جداً، ثم قام في الركعة الثانية، وقرأ الفاتحة و (قل هو الله أحد) ، أحسن
من الأولى، فلما سلّم -وكان بيني وبينه حوالي عشرة أمتار- قال: أعلمني هل
رأيت شيئاً مريباً؟ قلت له: إي والله لقد رأيت شيئاً مريباً.
قال: وما هو؟ قلت: اقرأ.
فجاء هو وأصحابه وجلسوا، فقلت: ماذا قرأت في الصلاة؟ قال: الحمد، قلت:
اقرأها، فقرأها فعدلت له بعضاً منها.
قلت: والتي بعدها، قال: الكافرون.
قلت: اقرأها، فقرأها كما قرأها في الصلاة.
قلت: على رسلك هات يدك، وعقد بأصابعه فقرأ: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم
عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ثم قال: والله غفور.
قلت له: قف.
ليست هذه فيها، فهذه في سورة ثانية وليست في هذه، وهذه فيها: {لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، قال: (والله غفور رحيم) أين؟ قلت
له: في سورة أخرى.
قال: أعطنيها.
فقرأت عليه سورة الكافرون.
قال: أعدها فرددتها عليه مرة أخرى فقال: خذها.
فقرأها كما سمعها، قال: أعطنا سورة أخرى.
فقرأت عليه: (قل هو الله أحد) ، فقال: هي عندي قلت: اقرأها.
فقرأها، فقلت له: خذها، فأعدتها عليه، وأعادها هو مرة أخرى، قال: أعطني
سورة أخرى ثم فأعطيته من قصار السور، فقال: أعدها.
فأعدتها عليه، فأخذها كما سمعها، فقلت: واحدة.
قال: لا يكفيني قلت: صدقت، إذا رجعت إلى بلدكم فابحث عن إمامكم أو قارئكم،
واجعله يقرأ عليك وتسمع منه ويعلمك.
فإذا كان هذا يوجد في أطراف المدن فما بالك بمن لا يأتي المدن! وقد سمعنا
في (جبل رضوة) ما هو أكثر من ذلك.
فالأعراب في حاجة إلى من يعلمهم الدين، فإذا كان في الناس شباب متحمس،
وعنده استطاعة، ومستعد أن يذهب ليعلم ويدعو إلى الله فهذا أمر طيب، وليبدأ
بأولئك الذين هم أولى بهذه الدعوة من غيرهم؛ لأن جارك أولى بك.
فقوله: (لا يؤمن أعرابي مهاجراً -أو حضرياً كما في بعض الروايات-) ؛ لأن
الغالب على المهاجر -وقد هاجر إلى لله ورسوله- الفقه في دينه، وهكذا الحضري
الغالب عليه أنه يفقه دينه أكثر من الأعرابي.
قال: (ولا فاجر مؤمناً) ، أي: يؤم فاجر مؤمناً وقابل الفاجر بالمؤمن، ولم
يقابله بالمسلم؛ لأن الفاجر مسلم من عموم المسلمين استسلم لأمر الله، ولكنه
التزم بالأعمال الظاهرة، وتكاليف الإسلام كلها أعمال ظاهرة، فالنطق
بالشهادتين وإقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم، ورحلة الحج، كل هذه أعمال
ظاهرة يراها الناس، أما الإيمان فهو بين العبد وربه؛ لأنه اعتقاد في القلب.
فالحديث يقابل بين الفاجر والمؤمن، وبإجماع المسلمين أن الإيمان أعلى درجة
من الإسلام، والمراتب ثلاث، كما في الحديث: (أخبرني عن الإسلام -أخبرني عن
الإيمان- أخبرني عن الإحسان) ، فالإيمان درجة وسط بين الإسلام الذي هو
أعمال ظاهرة، وبين الإحسان الذي هو إتقان العمل فيما بين العبد وربه في
جميع حالاته، كما في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .
الصلاة خلف السلطان الفاجر ومن نصبه إماماً
وهو فاجر
إذا جئنا لمعنى (الفاجر) ، فنقول: سمي الصبح فجراً لأن ضوء النهار ينفجر من
بين ظلمة الليل، وقال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12]
، فكذلك الفاجر، كأنه يخرج من خفي الأمر إلى ما لا يرضي الله سبحانه
وتعالى، وقالوا: هو المصر، أو الملازم، أو المجاهر بالكبائر والعصيان وعدم
التوبة.
فإذا كان الشخص بهذه المثابة فهل نقدمه وافداً لنا بين يدي الله فإذا رده
ردنا معه؟ فلا ينبغي لمثل هذا أن يؤم غيره من المؤمنين، ولو كان أقرأهم
وأفقههم، فلا يؤمّن مؤمناً أي: سليماً من هذه الصفة، ولكن لو كان إماماً
راتباً، أو كان سلطاناً والياً، وله حق السلطة، وله حق الإمامة وبالقوة،
ماذا يفعل الناس؟ أيصلون خلفه سمعاً وطاعة، أم يتركون الصلاة خلفه ليقع
العصيان وشق العصا؟ والجواب: يصلون خلفه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (يا أبا ذر! إنه سيكون عليكم أئمة يميتون الصلاة -وفي بعض
الروايات: يؤخرون الصلاة- فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا
صلاتكم معهم نافلة) .
فإذا كان هناك سلطان جائر -عياذاً بالله- وألزم الناس بالصلاة خلفه، أو
ألزم الناس بإمام، وإن امتنعوا عن الصلاة خلفه قد تقع فتن فإنه يصلي خلفه،
وقد عاصرنا ذلك في بعض دول أفريقيا حينما امتنعت السلطة عن إقامة إمام فقيه
عالم حر الكلمة والاتجاه، وجاءوا بشخص إمعة، كلما طلب منه شيء نسبي، وهذا
أحب إليهم، وألزموا الناس بصلاة الجماعة والجمعة خلفه، وقد حوصر المسجد
بالمصفحات والدبابات لإقامة الصلاة بالقوة، مع أنه لا يجوز أن تصل الأمور
إلى هذا الحد.
وقد قال بعض العامة: نعطيهم صلاتهم، ونعطي ربنا صلاته في أول الوقت.
فإذا ابتلي الناس بمثل هذا ولا يمكن تغييره، وكان الخيار بين أحد أمرين:
إما أن يصلى خلفه طاعة، وإما أن تقع الفتنة، وما أضر على المسلمين من
الحروب الداخلية، والفتنة بين الراعي والرعية، أو بين بعض الطوائف، وهذا
كله بعيد عن تعاليم الإسلام.
قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا الصلاة لوقتها) ، لأنكم أمرتم بذلك،
فإذا جاء إمامكم وصلى، وحضرتم فصلوا معه، وقد جاء في الأثر: (صلوا خلف كل
بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر) ، فإذا مات فاجر أنقول هذا فاجر لا نصلي
عليه ولا نجهزه؟ بل نجهزه ونصلي عليه؛ لأنه له حقاً علينا في ذلك، وكذلك
إذا أمّ فيجوز أن نصلي وراءه.
ويقول بعض العلماء: لقد ثبت عن العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلاتهم خلف أمراء السوء أو أمراء الظلم، ولا حاجة لتسمية أحد في هذا
المقام.
فلا يؤمَّنَّ فاجر مؤمناً، والنصوص العامة تؤيد هذا، ولكن بشرط ألا يكون
إماماً راتباً ولاه ولي المسلمين، وألا يكون هو بنفسه الوالي والسلطان،
لئلا تكون فتنة.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [6]
إن إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها من المظاهر التي حث الشارع عليها،
وهي رمز لوحدة المسلمين في الأمر كله، ثم إن الصفوف الأولى لها فضل ومزيد
شرف على التي تليها.
أما موضع المأموم من الإمام فإن كان واحداً فعلى يمينه؛ قيل: محاذياً له.
وقيل: متأخراً عنه قليلاً.
وأما إذا كانوا أكثر فإنهم يقفون خلف الإمام، وعليهم أن يتراصوا وأن يسدوا
الفرج.
وإذا اختلفت أصناف المأمومين بأن كانوا رجالاً وأطفالاً ونساءً، فليصف
الرجال، ثم الأطفال، ثم النساء من ورائهم.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
موقف المأموم من
الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق) ، رواه أبو
داود والنسائي، وصححه ابن حبان] .
انتهى المؤلف رحمه الله من أحكام الإمام، ثم جاء بما يتعلق بالمأمومين،
وبين موقفهم من الإمام، وأين يكون، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات.
ويتفق العلماء على قضية، وهي أن المأموم إما أن يكون واحداً، وإما أن يكونا
اثنين، وإما أن يكونوا ثلاثة فأكثر.
وهذا تقسيم عقلي، فإذا كان المأموم واحداً فلا يقال: (رصّوا) ، إلا أنه
بالنسبة لإمامه كيف يكون موقفه من الإمام؟ فمن الجهة -والجهات أربع: يمين،
ويسار، وأمام، وخلف- اتفقوا على أنه لا تصح صلاة المنفرد أمام الإمام، ولا
جماعة أمام الإمام لغير عذر، وكذلك لا تصح صلاة المنفرد عن يسار الإمام،
فإذا كان الأمر كذلك فالأمام واليسار لا تصح الصلاة فيه، وبقي الخلف
واليمين.
قالوا: لا يصف الواحد خلف الإمام كما لو كان صفاً كاملاً، وإنما يقف عن
يمين الإمام.
فالمنفرد موقفه عن يمين الإمام، وقد جاءت به السنة، كما في حديث ابن عباس
رضي الله تعالى عنه -وسيأتي- قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل
يصلي، فقمت فتوضأت وقمت عن يساره، فأخذ بأذني وفتلني من وراء ظهره، وأوقفني
عن يمينه) ، فهذا موقف المأموم المنفرد.
وبقي التدقيق في موقفه عن اليمين، فقد يكون واقفاً عن اليمين لكن على بعد
ذراع، أو يكون عن اليمين وهو متقدم شبراً، أو يكون عن اليمين وهو متأخر
شبراً، فأين يكون تماماً؟ منهم من قال: يقف محاذياً له، كما لو كان اثنان
في الصف، والآخرون قالوا: لا يستويان.
فينبغي على المنفرد أن يكون متأخراً عن الإمام بالحد الذي لو رآه الرائي
لعرف المتقدم من المتأخر، أي: لو تأخر عنه قدر أصابع يد كان ذلك كافياً،
ولا يكون محاذياً محاذاة كاملة كما لو كانوا جماعة في صف واحد، بل يكون
متأخراً قليلاً.
فهذا موقف الواحد.
فإذا كانا اثنين فالجمهور على موقفهما خلف الإمام وراء ظهره، وهو أمامهما،
ويروى عن ابن مسعود أو عن غيره أنهما إذا كانا اثنين فواحد يقف عن يمينه
وواحد يقف عن يساره مع التأخر القليل، ولكن سيأتي حديث جابر وجبار حين كانا
مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال جابر: (فقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليصلي) ، وجاء في الحديث: (ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر
فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيدنا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه) .
فهذان اثنان، وموقفهما خلف الإمام.
وعلى هذا فإذا كان المأمومون اثنين فأكثر فموقفهم عند الجمهور خلف الإمام.
التراص في الصف
معناه وكيفيته
إذا كانوا جماعة في مسجد كبير وفي عدة صفوف، أو في صف واحد فعليهم أن
يتراصوا كما جاء في هذا الحديث: (رصوا صفوفكم) ، والرص: هو الوقوف
بالمساواة والمحاذاة.
فالرصّ بمعنى الجمع، تقول: رصه.
أي: شد عليه.
بمعنى: شد الحبل عليه شداً، فالتشديد في الحرف يدل على الشدة في المادة،
مثل: عضّ، شدّ، مدّ، حدّ إلى آخره.
فقوله: (رصوا صفوفكم) يعني: لا تجعلوا بينها خللاً، ولتكن متراصة متلاصقة.
وأيضاً من معاني الرص: الاعتدال؛ لأنه لو وقف واحد متقدماً، وواحد متأخراً
فلا رص، ولا يتأتى الرص إلا عند المساواة والاعتدال.
قال: (وقاربوا بينها) ، قوله: (بينها) هل المقصود به في الأفراد أو الصفوف؟
في الصفوف.
وتقدم في الحديث: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، وهنا قال:
(وقاربوا بينها) ، وتقدم هناك حد التقارب بين الصفوف، وحده ما يقوله
العلماء في حد السترة، فبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من كعب القدم، وبعضهم يجعله
ثلاثة أذرع من أطراف الأصابع، بحيث لا يتسع الفراغ لصف آخر بين الصفين، لا
أن يكون بين الصف والصف ما يسع صفين وثلاثة.
ونجد الشارح هنا يتألم ويتوجع، فيقول: إن بعض المساجد تكون فيها الجماعة،
فإذا أقيمت الصلاة فإنك تجدهم أوزاعاً في عدة صفوف، ولو اجتمعوا فلن يكملوا
صفاً واحداً، وسيأتي التنبيه على هذا.
فقوله: (قاربوا بينها) أي: لا تجعلوا بينها تباعداً، وكما تقدم ألا تزيد
المسافة بين الصف والصف، على ما يكون بين المصلي وسترته للصلاة.
قال: (وحاذوا بالأعناق) ، الأعناق: جمع عنق، وهو: الرقبة.
وتكون المحاذاة بالأعناق في الصف بأن لا يتقدم إنسان ماداً رقبته بالتقدم
ولا يتأخر.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا قاموا في الصف حاذوا، يقول أنس:
(كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه) ، فإذا كان الأمر كذلك
فهذه حقيقة الرص والمحاذاة.
ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفراج في الصف، وهو
يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يفرج قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف
إلصاق قدمه بقدم من بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فرجة في نفسه هو
ما بين قدميه.
فحقيقة المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين،
وقد جاء في بعض الآثار عن السلف أن أسرع ما كان يتآكل من فمصهم الكتف لكثرة
احتكاك مناكبهم في الصلاة.
وهذه ناحية سيأتي التنبيه على خلافها أو ضدها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يقف
بجوارك ويلتصق بك وتلتصق به إلا إذا كان بينك وبينه ألفة، أما شخص تنفر
منه، أو ينفر منك فقلّ أن يلتصق بك، بل ربما تباعد، وربما جاء بشخص ليقيمه
بينك وبينه؛ لأن القلوب متنافرة، أما مع صفاء القلب، ومع طيب النفس وعدم
وجود أي موانع أخرى ستجد الإنسان يستريح حينما يأتي إنسان يلصق نفسه به
ليكمل الصف ويسد الفرج، وسيأتي التنبيه على مثالب عدم المساواة، وعدم الرص
الذي نبه عليه صلى الله عليه وسلم.
الأفضل في صفوف
الرجال والنساء
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء
آخرها وشرها أولها) رواه مسلم] .
لاحظ الترتيب البديع، فبعدما بين حكم الصف في المساواة والتراص انتقل إلى
الصفوف وأحكامها، والمفاضلة بينها وبين بعضها، فذكر قوله صلى الله عليه
وسلم: (خير صفوف الرجال) ، أي حينما تكون صفوف الرجال متعددة.
فالحديث الأول إذا كان صفاً واحداً، وأيضاً في كل صف من الصفوف عليهم أن
يتراصوا وأن يساووا الأعناق فيما بينهم.
والصفوف تكون قسمين: صفوف للرجال، وصفوف للنساء، فخير صفوف الرجال أوائلها،
والأول يبدأ من أول المسجد من عند الإمام، فالأول هو الذي يلي الإمام، وشر
صفوف الرجال أواخرها، والعكس مع النساء، ويلاحظ هنا أن لفظة (خير) هي أفعل
تفضيل، ومعناها: اجتمع الخير في الجميع وزاد الأول بزيادة في الخيرية.
فكل الصفوف فيها خير.
فالخيرية ثابتة للجميع، ويأتي في مقابل هذا: (شر صفوف الرجال آخرها) فالأول
أثبت الخير للجميع، وهنا أثبت الشر للجميع، ولا يمكن أن يثبت الخير والشر
لشيء واحد في وقت واحد، فهذا يسمونه التناقض؛ لأن الخير نقيض الشر، فكيف
تجمع وصفين متناقضين؟ قالوا: هذا من باب التفضيل، ومن باب الترغيب، وليس
الشر هنا على حقيقته، والحكم حقيقته في الوصف الأول، لأن الصفوف كلها فيها
خير، إلا أن الأول أفضل.
العلة في تفضيل
الصفوف الأولى للرجال
لكن لو جئنا إلى الدرجات، وإلى المقابلة، وإلى الثواب فالمتأخر فاته شيءٌ
كثير، ثم قالوا: ولماذا كان خير الصفوف أوائلها؟ قالوا: لأن الإمام أفضل من
المأموم من حيث الجملة، وبما أن الإمام أفضل من المأموم.
فمن يلي الإمام أفضل ممن يلي المأموم؛ لأن الصف الأول يقتدي به الثاني،
والثاني يقتدي به الثالث، ثم جاءت النصوص: (عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه كان يصلي على الصف الأول المقدم ثلاثاً، وعلى الثاني مرة) وأيضاً
هناك تفضيل ميامن الصفوف، فهناك مفاضلة، وإن كانت صلاة واحدة.
والذين يصلون في الصف الأول يأتون في أول الوقت، فهم يصدق عليهم قول النبي
صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) ، وكلما سبق إلى المسجد
كلما كان أفضل.
لكن لا يتأخر ثم يأتي يتخطى الرقاب من أجل أن يصل إلى الصف الأول لينال
الخيرية؛ لأنه بهذا إنما يريد أن يصل إلى الخيرية على أشلاء الفضائل
بإهانته للمصلين الذين يتخطى رقابهم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم
الرجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة قال: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت)
من الأين، وهو الوقت، أي: جئت متأخراً فآذيت، فإذا أردت الصف الأول فاحضر
مبكراً.
ولهذا كان الصف الأول خيراً من المتأخر، كما أن الأتبع للإمام من الصفين
الصف الأول؛ لأنه يليه مباشرة، وإذا حدث للإمام حدث فالصف الأول أولى به.
فأهل الصف الأول يتابعون الإمام بالصوت وبالرؤية، وهم الذين ينقلون عن
الإمام، أو يساعدون الإمام، وإذا حدث أي شيءٍ للإمام فهم أولى به، وسيأتي
زيادة إيضاح ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام
والنهى) .
أما النساء فعلى العكس من ذلك، قال: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ،
وهنا تعليل عملي، قالوا: لأن أول صفوف النساء يلي آخر صفوف الرجال، فتكون
النسوة قريبات من الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان خيراً لها ولو
كان في الصلاة، ولهذا كانت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد.
موقف المأموم الواحد
من الإمام
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صليت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) متفق عليه] .
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أورده المؤلف مختصراً، ولكن الحديث
بتمامه فيه صورة تبين الفطرة والذكاء، أو حُسن النشأة، فحينما ينشأ الإنسان
في بيت كهذا البيت فإنه يكون الناشئ فيه كما جاء في الحديث: (شاب نشأ في
عبادة الله) ، والشاب الذي نشأ في عباد الله سيجد عبادة الله أول ما يكون
في البيت، فيتلقى العبادة والأخلاق والتوجيه أولاً وقبل كل شيء في البيت.
فـ ابن عباس كان غلاماً صغيراً، وذهب إلى بيت خالته ميمونة، وبات عندها،
ويقول في بعض الروايات: (فنمت في عرض الوسادة) ، وعرضها يمكن أن يبلغ شبراً
أو أكثر أو أقل، ونحن نسميه رأس المخدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأم
المؤمنين ميمونة توسدا طول الوسادة متجاورين، وابن عباس توسد رأس الوسادة
أو عرض الوسادة.
ولا تقل لي كيف يبيت غلام عند زوج وزوجته؟! لأنها خالته، وأيضاً هو غلام،
ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين.
فلما كان ثلث الليل أو جزء من الليل قام صلى الله عليه وسلم وذكر الله
وسبح، ثم قام إلى بيت الخلاء، فلما دخل الخلاء قام ابن عباس وأخذ أداوة من
ماء وملأها من القربة ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج صلى الله عليه وسلم
وجد الأداوة مملوءة فقال: (من وضع هذا؟) قالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد
الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فلم يقل: اللهم
كبره وأغنه وسوده، وزوجه.
لأن ابن عباس أبدى نوعاً من الفقه والاستنتاج، وهذه هي المواقف التي تدل
على الذكاء والفطنة، لا تلك المسابقات التي تعجز، ولا تلك الأحداث
التاريخية، ففي هذه الحالة غلام لم يبلغ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدخل الخلاء، والذي دخل الخلاء إذا خرج يريد أن يتوضأ، فاستنتج الحاجة إلى
الماء.
فالاجتهاد والاستنتاج يكون عقلياً ويكون دينياً، فهو استنتج بفكره، وأرشده
الله سبحانه وتعالى، وأنار بصيرته فجهز الماء حتى خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فهذا نوع من الفقه، فكانت الدعوة مطابقة له، (فقهه في الدين)
يعني زده فقهاً في الدين.
وفي هذا دلالة على أن أشرف العلوم الدينية هو الفقه في الدين.
فلو أن إنساناً حفظ مجموع السنة: صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود،
والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والجامع الصغير والكبير، والموطأ، وغير
ذلك، ولكن المسجلة دون أن يفقه شيئاً، وإنسان قرأ بلوغ المرام فقط، وفقه في
دين الله، فأيهما أنفع للأمة؟ يذكرون عن بعض شيوخ الأزهر أنه جيء إليه
برجل، وقيل له: هذا الرجل حفظ صحيح البخاري.
قال: وشروحه؟ قالوا: ليس بعد.
قال: زادت نسخة في المكتبة.
وقد روي علي قوله: نحن في حاجة إلى من يعرب القرآن أكثر ممن يقرأ بدون
إعراب.
فالفقه في الدين هو الأساس، و (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
ولكن الفقه لم يأت من ضرع الناقة، ولا من ضرع الشاة، ولا هو صيد من البحر،
ولا هو طير في الهواء، الفقه مجموعة علوم، ولا يمكن لإنسان أن يكون فقيهاً
إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيها، من أحاديث الأحكام، وآيات
الأحكام، وليس من الضروري أن يحفظ الأحاديث كلها أو القرآن كله، ولكن المهم
أن يحفظ الآيات التي تعرضت للأحكام، فالقرآن منه ما يتناول القصص التي فيها
العظة والعبرة، ومنه ما يتناول الأحكام، سواء في الدماء، أم في الفروج، أم
في الأموال.
وبعد أن يحفظ الإنسان آيات الأحكام وأحاديث الأحكام عيه أن يكون بارعاً
متضلعاً في اللغة العربية؛ لأنها هي لسان القرآن ولسان السنة، وكيف تفقه
معاني كتاب إن لم تفقه لغته! ويذكرون عن الملك فيصل رحمه الله أنه كان له
صديق مستشرق، فكان يذكر له دائماً إعجاز القرآن وآياته وبلاغته فلما أكثر
عليه رجع هذا المستشرق إلى القرآن، ثم بعد فترة لقيه فقال: ما وجدت كل الذي
كنت تقوله لي في القرآن! قال له: كيف قرأته؟ قال: بالترجمة، قال: ما قرأته،
فإذا أردت أن تدرك بلاغته، وتدرك حلاوة أسلوبه وعباراته فعليك أن تقرأه
بلغته التي نزل بها.
فرجع الرجل وأمعن في دراسة العربية، ثم جاء وقال: يا فيصل! ما أعطيت القرآن
حقه، هو فوق ما كنت تقول.
فمن أهم أدوات الفقيه تعلم العربية.
فمن أراد الفقه تعلم اللغة، ثم تعلم أصول الأحكام من أحاديث وآيات، ثم تعلم
أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي تلك القواعد التي عليها بني الفقه، وتؤخذ عن
عالم سبق له أن أخذ عن غيره وهكذا.
ولعلنا أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأنا نجد بعض الناس قد يستخف بدروس
الفقه، أو لا يعنى بها، أو يقدم عليها الكثير من العلوم، وهذا خطأ.
وكنا نسمع من شيخنا الشيخ محمد بن تركي رحمة الله تعالى علينا وعليه حيث
قرأنا عليه فقه الحنابلة، وقرأنا عليه صحيح البخاري يقول: قبل كل شيء تبدأ
بالفقه، ثم تقرأ الحديث ليكون تطبيقاً لقواعد الفقه على الحديث، والفقه
يفصل الحديث أكثر مما يكون.
ولهذا تجد في شروح الحديث قولهم: وهذه مسألة فرعية محلها كتب الفروع أي أن
الفقهاء فصلوا في هذه المسألة أكثر مما يفصله أهل الحديث.
والشافعي في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) قال: استنتجت من هذا
الحديث أربعين مسألة.
ولا يوجد في شروح الحديث ما يعادل هذه الثروة الفقهية من مثل هذه الألفاظ
القلائل.
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أعطاه الله ملكة في الفقه، ودعا له رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة فيها، فقال: (اللهم فقهه في الدين) ،
وعرفنا أن أكبر منزلة وأعظم عطاء يناله المرء أن يفقه في دينه.
ولقد جئت إلى والدنا الشيخ الأمين في المسجد النبوي، وقلت له: يا شيخ! أراك
منذ أن بدأت التدريس في المدينة وفي الرياض وفي الجامعة اقتصرت على فنين
فقط، مع أني أعرف أن لديك من الفنون كذا وكذا وكذا، وأنت تقتصر على التفسير
وأصول الفقه؟ قال: ما سبب هذا السؤال؟ قلت له: هناك سبب، وهو أني قرأت عن
الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سُئل: أنت في زمن جمع الرواية والحديث، وفي
زمن الخوض في مسائل الكلام والتوحيد، ولم نر لك مشاركة في جمع الحديث
وروايته، ولا في جدل الكلام والمنطق، واقتصرت على الفقه! قال: نعم.
أما مسائل العقائد فليست للعامة كما هي للخاصة، ولن تسلم من إنسان يرميك
فيها بالزندقة، فلذلك تركنا الخوض فيها، وأما رواية الحديث فلها نقاد
للرجال، ولن تسلم من إنسان -عامداً أو مخطئاً- أن يرميك بعلة من العلل التي
يسقط بها الحديث فتلصق بك طول العمر، والرواة مشتهرون، والحديث مروي
ومجموع، ورجاله متوافرون، أما الفقه فنظرت فإذا الناس عامة إمامهم،
وكبيرهم، وصغيرهم، ورجالهم، ونسائهم، وغنيهم، وفقيرهم يحتاجون إلى الفقه
فاشتغلت به لخدمة الناس.
فقال الشيخ الأمين: كلامه صحيح.
أما أنا فنظرت فإذا في الحديث مجهود مزدوج، فتبحث عن الرجال وتوثق السند
أولاً، ثم ترجع إلى المتن وتستنبط المعاني ثانياً، فهذا مجهود مزدوج.
وأما التوحيد فليس من العقل أن تثير القضايا العقائدية التي قد تورث شبهاً
عند عامة الناس فتهلكهم، وإنما تأتي في المناسبات، أو في البحث العلمي
للتحقيق، وأما علوم العربية فهي وسيلة وليست غاية.
وأما التفسير فإنه يأتي على الفقه في آيات الأحكام، ويأتي على العقيدة في
آيات العقائد، ويأتي على المواعظ والزواجر في آيات قصص الأمم الماضية، وكل
علم موجود الآن، مسطر عند العلماء فالتفسير يحتويه، وأما الفقه فإنك تجد
-خاصة هنا- الفقه المقارن، فما تجد جماعة إلا وفيهم شافعي ومالكي وحنبلي
وحنفي، وكل يريد مذهبه، وإذا أردت تحقيق مسألة فإنك تبذل جهداً رباعياً لكل
مذهب جهد حتى تصل إلى نتيجة، فإن تركتها وجئت إليها بعد فترة احتجت إلى
العودة إلى ذاك الاجتهاد مرة أخرى.
ولكن التفسير يجيء على جميع المعاني، وما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما
قيل فيها.
قلت: ما دمت بهذه المثابة، وعندك كل ما قيل في آيات كتاب الله من خلاف
ونزاع ووفاق فهذا نعمة كبرى، وهذه ما تحتاج معها إلى غيرها.
ثم قلت: والأصول؟ قال: أما الأصول فلا غنى لطالب علم عنه؛ لأن العلماء
يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء.
ونحن إنما ننبه على هذا لزيادة التأكيد على دراسة الفقه، وأحب لكل طالب علم
قبل أن يأخذ كتاباً في الحديث أن يأخذ كتاباً من أمهات الفقه أياً كان،
كالمغني لـ ابن قدامة، والمجموع للنووي، والهداية للأحناف، أو غير ذلك،
ويأخذ دقائق المسائل فيه ثم يأتي إلى كتب الحديث.
فالفقه مقدم، والحديث أدلته، فإذا جاء للخلاف أو للمقارنة فهذه مرحلة أخرى
تزيد على مجرد الطلب، والله تعالى أعلم.
اختلاف أصناف
المأمومين وموقفهم من الإمام
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا) متفق عليه، واللفظ
للبخاري] .
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا فيه قصة صغيرة، وهي أن أم سليم دعت النبي
صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها -ومنازل بني سليم عند مسجد القبلتين-
فأتى إليها وصنعت له طعاماً، وبعد أن تناول الطعام طلبوا منه أن يصلي لهم
في البيت ليتخذوه مصلى، فقام أنس إلى حصير قد اسود من طول ما لبس ونضحه
بالماء، وفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يصلي، وصلى بصلاته أنس
واليتيم وأم سليم فكيف كان اصطفافهم؟ يبين لنا المؤلف رحمه الله إذا كان
المأمومون رجالاً وصبياناً ونساءً كيف تكون الصفوف.
يقول أنس: (فقمت أنا ويتيم) ، واليتيم: هو من مات أبوه قبل البلوغ،
ويقولون: اليتيم في بني الإنسان من فقد الأب، وفي الحيوان من فقد الأم، وفي
الطيور من فقد الأبوين.
ويقال من جانب آخر: اليتيم من فقد من يرعاه ويكلؤه، والأب هو الذي يرعى
الولد، والحيوان ترعاه أمه، فقد تكون في الإبل عشرات ومئات النياق، بينما
لا يكون فيها غير فحل واحد، وإذا نتحت الناقة فهي التي ترضع، أما في الطير
فالأبوان يتناوبان على العناية بالبيض حتى يخرج الفرخ، ثم يتناوبان على
إطعامه.
فهنا يقول أنس: (قمت أنا ويتيم) ، ولا يتم بعد البلوغ، فهو دون البلوغ،
وهنا يقال: هذا أنس رجل كبير، ومعه غلام دون البلوغ، أيتم الصف أم يعتبر في
كون المأمومين غير واحد، ويكون موقفهم خلف الإمام، أو لا عبرة باليتيم،
ويكون الرجل عن اليمين واليتيم بجانبه؟ وجدنا هذا عملياً، فأن الصغير إذا
كان مميزاً يطمئن الكبير على بقاء هذا الصغير معه في الصف، بخلاف ما إذا
كان عمره سنتين أو ثلاث، فبينما هو واقف يقف بجانب أبيه وإذا به فجأة يجري
ويتركه، فهذا لا يعتد به.
فإذا كان مميزاً مدركاً، وسيقف ويتم الصلاة، فاعتد به، واعتبر الصف باثنين
فأكثر، فيكون مكانهم خلف الإمام.
وموقف المرأة وراءهم، فالمرأة وراء الرجال.
لكن إذا قام زوجان يصليان فهل تقوم المرأة عن يمين زوجها أو تقف خلفه؟
والجواب: تقف خلفه، ولا تحاذيه في موقفها.
قال: (فقمت أنا واليتيم) ، وفي بعض النسخ: (فقمت واليتيم) ، والمشهور في
اللغة (قمت أنا واليتيم) ؛ لأن العطف على الضمير المتصل يحتاج إلى الإتيان
بضمير مؤكِّد، ويكون العطف على الضمير المنفصل المؤكِّد، فالمشهور لغة:
(قمت أنا واليتيم) ، فضمير (أنا) راجع إلى التاء، وهي الفاعل في الفعل
قمتُ، فـ (قمت) : فعل وفاعل، والفاعل تاء المتكلم.
فجاء هنا في بعض النسخ: (قمت واليتيم) ، والشارح ذكر أن هذا جائز، وهو لغة
عند البصريين، فإذا وجدناها (قمت واليتيم) فهي صحيحة عربية، وإذا جاء (قمت
أنا واليتيم) فهي صحيحة، وهي لغة الجمهور.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [7]
إن للصلاة آداباً كثيرة، منها ما يتعلق بكيفيه أدائها، ومنها ما يتعلق بحال
الذاهب لتأديتها وهيئته، وما يجب عليه أن يتصف به، ومن ذلك أن الواجب على
الذاهب لتأدية الصلاة أن يتصف بالسكينة والوقار، حتى يدخل في الصلاة وهو
مطمئن حاضر القلب يعي صلاته، فما أدركه من الصلاة فليصل، وما فاته فليتم،
ولا يشرع له أن يركع دون الصف، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك:
(زادك الله حرصاً ولا تعد) .
تابع أحكام صلاة
الجماعة
حكم الركوع قبل
الدخول في الصف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري، وزاد
أبو ذر فيه: (فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف) ] .
أبو بكرة رضي الله تعالى عنه له قصة في تسميته بهذا الاسم، فلما حاصر النبي
صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الطائف وطال الحصار تدلى هذا الصحابي الجليل
-واسمه نفيع بن الحارث- من على سور الطائف على بكَرة، وهي: ناقة الإبل، أو
التي يُسحب عليها الحبل، فإما أنه كانت ناقة عند السور فتدلى ونزل على
ظهرها ثم نزل إلى الأرض، وإما جاء ببكرة وأدخل الحبل في البكرة وتدلى حتى
نزل.
فأياً كان سبب التسمية فيهمنا فيما فعل وموقف النبي صلى الله عليه وسلم
منه.
يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو
أتيت المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكعاً، فخشيت أن يرفع رأسه فتفوتني
الركعة، فركعت قبل أن أصل إلى الصف، ثم دببت حتى دخلت فيه.
فصورة ما حدث أنه لما دخل المسجد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً خاف
أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع، وفتفوته الركعة، فركع
ودب ماشياً حتى دخل في الصف.
فالذي فات أبا بكرة من الركعة تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة.
أما تكبيرة الإحرام فعلى المسبوق في مثل صورة أبي بكرة أن يأتي بتكبيرة
الإحرام قبل أن يهوي راكعاً، ويتعين عليه ذلك، وإذا كان قد ضاق الوقت عليه
فهي تكفيه عن تكبيرة الانتقال من القيام إلى الركوع.
فحين يكون الإنسان قائماً ويريد أن يركع يكبر تكبيرة ثانية بعد تكبيرة
الإحرام، فإذا جاء والوقت ضيق، وكبر تكبيرة الإحرام وركع فإن تكبيرة
الإحرام تجزئه عن تكبيرة الانتقال، لكن إذا كبر ونوى بها تكبيرة الركوع لم
تنعقد صلاته.
فعلى المسبوق في مثل ذلك أن يأتي بتكبيرة الإحرام وهو قائم وصدره إلى
القبلة، أو -كما يقال- ووجهه إلى القبلة.
وبعد أن يأتي بالتكبيرة يكون قد أدرك تكبيرة الإحرام، ثم بعد تكبيرة
الإحرام وقبل الركوع قراءة الفاتحة، وهذا ركع ولم يقرأ، فتدارك تكبيرة
الإحرام قبل أن يدخل في الصلاة، وهذا فعله واجتهاده.
وبعدما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .
والنبي صلى الله عليه وسلم أحس بالدبيب، فسأل: من الذي فعل ذلك؟ قال أبو
بكرة: أنا يا رسول الله، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (زادك
الله حرصاً) ، فالحامل له على هذا الحرص على إدراك الركعة، فمن الممكن أن
تكون ركعة ثانية أو ثالثة أو رابعة في الصلاة، لكنه حريص على أن يدرك هذه
الركعة.
فأقره على حرصه، لكن سيأتي في المجيء إلى الصلاة قوله: (.
وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .
خلاف العلماء في قوله: (ولا تعُد)
وقوله: (تَعُد) : نبهنا سابقاً أنها يمكن أن تكون (تَعُد) من العودة لمثل
ذلك، ويمكن أن تكون (تُعِد) ، والفرق الفتحة والضمة، و (تُعِد) من الإعادة.
فيكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تُعِد الصلاة أوزادك الله حرصاً ولا تعد
لمثل تلك الصورة.
ويمكن أن يكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تَعْدُ، من العَدْو والجري.
والكلمة في التصريح صالحة لهذا كله؛ لأن: (عاد، يعود) من العود، فهو أجوف
معتل العين بالواو، (عَوَد) ، والمعتل الأجوف إذا دخل عليه الجازم سقطت
عينه، كقال.
يقول.
لم تقل، وباع.
يبيع.
لم يبع، فسقطت العين، ولسكون الحرف الأخير، فتكون: (زادك الله حرصاً ولا
تَعُد) .
(ولا تُعِد) من أعاد يعيد، فهو أيضاً أجوف معتل بالياء، فتسقط عين الكلمة
بالجزم، ويكون صالحاً لمعنى الإعادة.
وأما (لا تَعْدُ) من (عَدَوَ) وحرف العلة هنا اللام؛ لأن فاء الكلمة هي
العين، والدال هي عين الكلمة، والواو هي لام الكلمة، فهو معتل الآخر بالواو
ناقص واوي كما يقولون، والقاعدة أن الناقص الواوي إذا دخل عليه جازم كانت
علامة جزمه حذف حرف العلة، مثال ذلك: (لم يسع) ، (لم يدع) ، فتحذف (الألف)
من (سعى) ، و (الواو) من (يدعو) .
وهنا كذلك: يعدو، فلام الكلمة حرف علة، والقاعدة النحوية أن الفعل المعتل
الآخر يجزم وعلامة جزمه حرف العلة.
فالكلمة من حيث هي في رسمها تُرسم بالياء، أو بالتاء، فما الذي سقط منها،
هو الواو أو الياء الذان هما عين الكلمة من العود والإعادة، أم أن الذي سقط
هو الواو لام الكلمة؟ كل ذلك محتمل.
ونرجع إلى هذه الاحتمالات، فلو أخذناها على قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا
تَعُد) أي: لمثل ذلك قالوا: نهاه أن يعود لمثل هذا الفعل، فوقف عند هذا
النهي قوم، وقالوا: نهاه أن يعود لمثل ذلك؛ لأنه بنى على إدراك الركعة، وقد
فاتته الفاتحة، وهذا باطل.
والآخرون قالوا: نهاه أن يعود لأن صورة الإنسان حين يدب وهو راكع تشبه صورة
الحيوان وهو يمشي، وهذه صورة لا ينبغي للإنسان أن يفعلها.
وآخرون قالوا: (ولا تَعْدُ) أي: من العدو؛ لأن هذا يتنافى مع الخشوع في
الصلاة.
والذين قالوا: (ولا تُعِد) معناه أن صلاتك اكتملت ولا تحتاج إلى إعادة
قالوا للآخرين: إن كان قوله: (ولا تَعْدُ) (ولا تَعُدْ) كما قلتم لصورة مشي
الحيوان أو لغيرها، فهل الصلاة صحيحة أم لا؟ إن قلتم: صحيحة فهذا الذي
نريد، وإن قلتم: غير صحيحة.
فهل أعادها أبو بكرة؟ والجواب: لم يعدها، وبعض الاحتمالات (ولا تُعِد) أي:
لا تعد الصلاة لأنها كاملة.
ومن هنا أخذوا أن المسبوق إذا جاء وأدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة،
وسقطت عنه قراءة الفاتحة.
ففي المساجد يأتي الإنسان مسبوقاً ويريد أن يتقدم إلى الصفوف الأُول، فإذا
ركع الإمام هل يركع ويدب إلى الصف، أم أنه يمشي إلى أن يصل إلى الصف ويقوم
فيه؟ الأولى أن يمشي سوياً إلى أن يصل إلى الصف ويركع، لا أن يركع دون الصف
ويكون في صف منقطع عن الصفوف، ولا أن يركض من أجل أن يلحق ويدرك الإمام قبل
أن يرفع، إلا في حالة واحدة يمكن أن يسرع فيها، وهي إذا خاف أن يسلم الإمام
وتفوته الجماعة كلها، ففي هذا العاطفة تتحرك قليلاً، والبعض يقول: ولو فاتت
الجماعة؛ لأن له أجر الجماعة ولو وجد الناس قد صلوا، وفيه ورد حديث صحيح.
لكن إذا كان الأمر أوسع من ذلك فلا ينبغي الركض في المسجد، ولا الركوع قبل
الصف وبينهما فرجة بعيدة، ولكن بقدر المستطاع يمشي سوياً إلى أن يأتي إلى
الصف ويصلي.
حكم صلاة المنفرد
خلف الصف وخلاف العلماء فيه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه: (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد
الصلاة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان، وله عن طلق بن علي
رضي الله عنه: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، وزاد الطبراني في حديث وابصة:
(ألا دخلت معهم أو اجتررت رجلاً) ] .
هذا الحديث يعتبر في نظري من المشكلات، فيروي لنا وابصة بن معبد رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن
يعيد الصلاة.
وفي بعض الروايات رآه يصلي فانتظره حتى فرغ من صلاته فقال: (استقبل صلاتك؛
فلا صلاة لمنفرد خلف الصف) .
فهذه نصوص صريحة أنه لا صلاة لإنسان ينفرد وحده خلف الصف، وتحت هذا تفريعات
عديدة، فنأخذ أولاً الأصل في المسألة، ونأتيها من أعلى كما يقال.
يرى الإمام أحمد رحمه الله أن الحديث على ظاهره، فمن صلى صلاة أوقع فيها
ركعة كاملة خلف الصف فصلاته باطلة، ومعنى (ركعة كاملة) أنه لو جاء منفرداً
وكبر والإمام يقرأ، وظل مع الإمام حتى سجد الإمام، وقام للركعة الثانية،
يكون أكمل ركعة منفرداً، ثم جاء من يقف معه، فعند أحمد الركعة باطلة، أما
إذا وقف منفرداً وقبل أن يركع الإمام جاء آخر وصف معه، فقد خرج عن كونه
منفرداً.
وغير أحمد -رحم الله الجميع- يقول: إن النهي هنا إنما هو للكراهة، وتصح
الصلاة منفرداً خلف الصف.
وكيف تفعلون في هذا النهي؟ قالوا: هذا للكراهة، والأولى أن يكون مع غيره،
ثم جاؤوا بأمور عقلية واستنتاجية.
أما الأمور العقلية فـ النووي يقول في المجموع: إن صحة الصلاة ثابتة عقلاً،
قال: إذا جاء اثنان وموقفهما خلف الإمام، فكبر أحدهما والآخر لا زال يعدل
في موقفه، فقد سبق أحدهما الآخر في تكبيرة الإحرام، ففي تلك اللحظة عقد
تكبيرة الإحرام -وهي جزء من الصلاة- منفرداً والذي معه لم يكبر بعد، فيعتبر
منفرداً، ولا يقول أحد بأن صلاة أحدهما باطلة.
ويقولون أيضاً: قصة ابن عباس لما صلى عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم
أداره من خلفه.
فعند مروره خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، في جزء من الصلاة، وما
بطلت لكونه خلف الإمام وحده.
وهل هذا يرد على أحمد أم لا يرد عليه؟ الجواب: لا يرد عليه؛ لأن أحمد اشترط
أن يقع الانفراد في ركعة كاملة، وهذه ليست بركعة.
وابن عباس لما أداره رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان قبل الخطوة التي
أداره عندها خلف الصف وحده؟ ولهذا أقول: إنه من الإشكالات، فالنص صريح،
ولكن الأئمة الثلاثة يقولون: الصلاة صحيحة، ونحن نقول: النص صريح مع أحمد،
والكثرة واضحة مع الجمهور.
ويأتي بعد ذلك علاج الموقف، فإذا جاء والصفوف مكتملة، وما عنده أحد يصلي
معه، فإنه يأخذ من الصف رجلاً معه، ويترتب على هذا تكليف آخر.
فإذا جاء وحده والناس جلوس في التشهد فالحنابلة يقولون: لو جاء والناس في
التشهد وليس من السهل أن يرجع إنسان وهو في جلسة التشهد فإنه يجلس في طرف
الصف، أو في وسطه ملصقاً ركبتيه إلى ظهر الذي يليه.
المشروع في هيئة
الإتيان إلى الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة
والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه
واللفظ للبخاري] .
هذا الحديث يشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: كيفية الإتيان إلى صلاة
الجماعة، والمسألة الثانية: ماذا يفعل المسبوق فيما سُبِق به.
ويقولون: إن سبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة
فسمع جلبة (حركة) ، فلما سلم سأل ما هذه الحركة؟ قالوا: تعجلنا للصلاة.
أي: استعجلنا لندرك الصلاة.
ولعله كان في الركوع ليدركوا الركعة، أو كان في التشهد ليدركوا الصلاة قبل
أن يسلم.
فالمهم أنه حملهم على ذلك الحرص على إدراك الصلاة، بقصد الخير وفعل الخير،
ولكن هذا اجتهاد منهم، فنبههم صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إذا سمعتم
الإقامة) ، والتنصيص هنا على: (سمعتم الإقامة) ، وفي بعض الروايات: (ثوب
للصلاة) ، أي: قال المقيم: حي على الصلاة حي على الفلاح.
قد قامت الصلاة، قال: (فامشوا إلى الصلاة) ، والمشي: هو الانتقال بحركة
طبيعية، والسعي والإسراع أشد من ذلك، قال: (وعليكم السكينة) .
وفي حق الجمعة يقول تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فهل هي
المقصودة بالمنهي عنه بقوله هنا: (لا تسعوا) ، (لا تسرعوا) ؟ قالوا: لا.
فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) بمعنى قولك: سعيت في قضاء
حاجة فلان.
وسعيت في تحقيق الأمر الفلاني، يعني: أخذت بأسبابه.
(فَاسْعَوْا) يعني: فخذوا بالأسباب التي كلفتم بها للحضور إلى الجمعة، فإذا
سمعتَ الأذان فقم واغتسل حالاً، والبس، وأت إلى المسجد، ولا تسرع.
وهنا يبين صلى الله عليه وسلم بقوله: (فامشوا) ، يعني: لا تجروا، ولا
تسرعوا.
فالسعي هناك هو الأخذ بالأسباب، وليس سرعة الخُطا.
قال: (وعليكم السكينة والوقار) ، انظر إلى هذا السمت في حركة من حركات
الإنسان في أداء حق لله، فأنت آت إلى الصلاة، وهي صلة بينك وبين الله، وكيف
تكون الصلة؟! وكيف تصل نفسك بالله؟ تصل نفسك بالله وأنت في أكمل حالة من
خشوع وخضوع وتذلل بين يدي رب العالمين.
ومتى يتم لك ذلك؟ هل عندما تأتي إلى الصف وقد حفزك النفس فتلهث ولا تدري ما
تقول، أو تأتي إلى الصف وأنت تعمل عملية حساب ربح وخسارة، وعمل ما كنت تعمل
فيه؟ لا.
قوله: (فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة) قالوا: السكينة: المشي بهدوء في
خطوات مرتبة، وقالوا: الوقار: هو مرادف للسكينة، وجاء تأكيداً لها، وعلماء
اللغة المحققون يقولون: السكينة لها معنى والوقار له معنى مستقل، وكلاهما
مطلوب في هذا الموضع.
أما السكينة فتتعلق بالحركة، فتمشي على مهل كأنك ساكن، وأما الوقار فأصله
مادة (وَقَرَ) ، وهي: الثِّقَل، ومنه قوله تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا} [الأنعام:25] فـ (وَقْر) يعني ثِقَل، والشخص المتأني الوقور يمشي
كأنه الجمل الموقر، ليس من باب الكبر، ولا من باب العجز، ولكن من باب
التواضع.
فهناك الحركة والتؤدة، وليست هناك الخفة والرعونة، وهناك الحالة والهيئة،
وهي الوقار وحسن السمت، وقد جاء عند البخاري رحمه الله: (حسن السمت من
الإيمان) ، ولذا قالوا: المؤمن في سمته، وفي مظهره، وفي لباسه، وفي مشيته،
وفي حركاته ينبغي أن يكون على أحسن ما يكون.
ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض
الثياب ووقاره) .
الأمر بالسكينة
والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة
فعلى هذا ينبغي أن يكون المجيء إلى الصلاة حينما تسمع المؤذن على المنارة
يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح.
أما إذا تأخرت إلى أن جاء الأذان الثاني وهو الإقامة وما بعدها فقد قصرت
وتأخرت، وقد عاتب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عثمان رضي الله
تعالى عنه لما جاء متأخراً.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي تخطى رقاب الناس: (اجلس؛
فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) : تأخرت في المجيء بعد الأوان، و (آذيت) :
تخطيت رقاب الناس، وحرمة الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق هذا الذي تأخر
يضطر إلى أن يدرك بعض ما فات بالجري.
ففي هذا الحديث أدب من آداب الإسلام، وهو حسن السمت والوقار للمسلم، ولذا
جاء في بعض النصوص: (إياكم وهيشات الأسواق!) ، أي: المرج والحركة والذهاب
والمجيء بدون نظام هذا في أسواق الدنيا، أما أسواق الآخرة -وهي المساجد-
فيجب أن يكون فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة.
وبعض العلماء يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم السكينة والوقار) :
إن الذي يأتي إلى الصلاة من خروجه من بيته إلى أن يقف في الصف هو في صلاة.
قالوا: إذن ينبغي عليه مادام حكمه حكم الذي في الصلاة أن يتأدب بآداب
المصلي، ومنها السكينة والوقار، وجاءت الأحاديث أيضاً وفيها أنه إذا تطهر
في بيته وخرج إلى المسجد لا يرفع رجله اليمنى إلا بحسنة، ولا يضع رجله
اليسرى إلا بتكفير خطيئة، إلى أن يأتي إلى الصلاة، ويكون قد حطت عنه ذنوبه،
وتكون الصلاة له نافلة.
وجاءت النصوص أيضاً أن من فاته شيء من الصلاة فأتمها فله أجر الجماعة
كاملاً، ومن جاء ووجد الناس قد صلوا وصلى وحده أو ومعه غيره فقد أدرك ثواب
الجماعة بنية مجيئه وبقدر اجتهاده، ولكن لا يستوي مع من جاء قبل أن تقام
الصلاة وقام مع الإمام من أولها.
فالحديث فيه من آداب الإسلام، ففيه حث المسلم على الوقار، وتعويده على حسن
السمت في هيئته ومشيته، وفيه أيضاً الحث على المبادرة إلى الصلاة أو إلى
المسجد قبل أن تقام الصلاة، وفيه أيضاً الحرص على إدراك الجماعة من أول
وقتها، وفيه أيضاً أن حسن السمت يساعده على أداء الصلاة بحضور القلب
واجتماع الحس والشعور، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بكليته، ومن هنا
أيضاً نأخذ الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي؛ صلاة صلى الله عليه بها
عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد
من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ،
ومعلوم أنه إذا كانت درجة واحدة فلا تكون إلا لواحد، ولن تكون إلا لسيد
الخلق وأحب الخلق إلى الله، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمؤذن ينادي ويقول: (الله أكبر) بأعلى صوته ليصل الصوت إلى أكبر عدد من
المسلمين، ونحن حين نسمع المؤذن نقول مثلما يقول، وذلك لنستشعر عظمة الله
فتسيطر على قلوبنا وحواسنا، وفي هذا تهيئة عظيمة لأداء الصلاة على أتم وجه
في جماعة، وبحضور قلب وسكون.
يقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فالمؤذن
ينادي البائع في سوقه، وينادي الصانع في مصنعه، وينادي النائم في بيته،
وينادي الزارع في مزرعته، وكل يعمل في أمر دنياه، حتى يسمع داعي الله، فإذا
ما سمع لأول وهلة (الله أكبر) أربع مرات فإن كان في مزرعة يرجو ثمارها
فالله أكبر، وإن كان في مصنع يرجو إنتاجه وربحه فالله أكبر، وإن كان في بيع
وشراء ويرجو ربح تجارته فالله أكبر، وإن كان نائماً مستغرقاً في نومه فالله
أكبر.
وهكذا يستجمع كل حواسه وشعوره، ويكون مسيطراً عليه جلال (الله أكبر) .
فهل يتأخر هذا عن النداء؟ لا، وهل يأتي غافلاً؟ لا.
ثم يأتي قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيقول: وأنا أيضاً أشهد.
فما دمت تشهد فحي على الصلاة وهلم؛ لأن الصلاة لمن يشهد الشهادتين، ثم
يقول: (حي على الفلاح) ، و (الله أكبر) في آخره تأكيد لما مضى، ثم (لا إله
إلا الله) .
فإذا كان الحال كذلك، ونفضت يدك مما كنت فيه، وتوضأت وتوجهت إلى المسجد،
فإذا أقيمت الصلاة فإذا بك غير الشخص الذي كان في محل عمله، وإذا بك في صف
الصلاة لست ذاك الصانع الذي يعمل، ولا ذاك التاجر الذي يطفف الكيل أو
الوزن، وقمت وتركت ونفضت يدك عن كل ما كنت فيه وقلت: الله أكبر.
ولذا يقول الغزالي في الإحياء: ورفع اليدين حذو المنكبين لينفض بظهر كفيه
دنياه وراء ظهره، ويُقبِل بكليته إلى ربه.
فهذا الحديث يجرنا الكلام فيه إلى المبادرة، وإلى السكينة، وإلى الوقار،
وإلى ما تفيضه الصلاة على المصلي.
ونقرأ في قصص بعض الأشخاص أنه إذا دخل في الصلاة لا يعي ما حوله، وأحد
السلف كان في المسجد فسقط ركن المسجد ولم يشعر به، ولما سلَّم وفرغ وجد
غبرة، فقال: ما هذه؟ قالوا: أما دريت؟ سقط ركن المسجد.
فأتوها وعليكم السكينة والوقار.
ومن المبادرة إلى الجماعة ما جاء في ترجمة سعيد بن المسيب أنه لم تفته
تكبيرة الإحرام في المسجد النبوي أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما صلى في غير الصف الأول أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما أذن المؤذن إلا وهو في مكانه في المسجد عشرين عاماً.
ومن هنا تتفق كتب التاريخ على أنه في وقعة الحرة لما خلت المدينة، وتعطلت
الصلاة في المسجد النبوي ثلاثة أيام للفتنة كان سعيد بن المسيب يأتي وحده
إلى جوار الحجرة، ويسمع الأذان من داخل الحجرة في جميع وقته في الصلوات
الخمس.
وأما كيف يسمع ومن يؤذن فهذا أمر غيبي، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وكرامة لهذا التابعي الجليل.
والذي يهمنا المبادرة إلى المساجد، وجاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في
ظله منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد) .
فعندما نشاهد حالة بعض الناس إذا كبر الإمام وركع، يركضون كأنهم في سباق،
فلا حاجة إلى هذا كله، ففي الحديث: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .
ولذا في بعض روايات أبي بكرة: (زادك الله حرصا ولا تَعُد) أي: لمثل هذه
الصورة، أو (ولا تُعِد) صلاتك؛ لأنك قد أدركت الركعة وأدركت الصلاة.
فإذا سمعتم الإقامة فامشوا، أي لا تركضوا ولا تسرعوا ولا تسعوا، وامشوا
إليها مشياً.
قال: (فما أدركتم فصلوا) ، (ما) هنا عامة، فالذي أدركتموه من الصلاة صلوه،
فإذا أدركت الإمام راكعاً فاركع، وإن أدركته ساجداً فاسجد، وإن أدركته في
التشهد فاجلس، وسيأتي التنصيص على هذه الحالة.
فهذا الجزء الأول وهو كيفية الإتيان إلى الصلاة، فينبغي أن يكون على حالة
السكينة والوقار؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، فيخرج الإنسان عن سمته
ووقاره، وأعتقد أن الناس طبقات، فهناك من يجري أو يقفز على عصا، ولا يعيبه
أحد، وهناك من لو أسرع قليلاً لفت الأنظار إليه.
فالناس طبقات، وكل بحسبه عند الناس، ولكن عند الشرع الكل سواء، فينبغي
للشاب أو الشخص العجل أن يتأدب بأدب الإسلام، ويحترم مجيئه إلى الصلاة، ولا
يجعل حرصه يحمله على الإخلال بآداب الإسلام.
فإذا دخل من الباب وكبر الإمام راكعاً فلا يجري ولا يركض من أجل أن يدرك
الركعة؛ لأنه يكون قد أخل بشيء من آداب الصلاة، وضيع أكثر مما كان يفوته ما
لو مشى على سكينة ووقار.
القضاء والإتمام
معناهما والفرق بينهما
قال: (وما فاتكم فأتموا) ، وجاءت رواية أخرى بلفظ: (فاقضوا) ، فبعض العلماء
يقول: دلالة اللفظين لغة سواء، لأن القضاء قد يكون بمعنى التمام والإنهاء
والفراغ، (فإذا قضيت الصلاة) معناه: تمت وانتهت.
يقول الشاعر: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وقضاء الدين بمعنى: دفْعُهُ وأداؤه.
وقضى فلان ما عليه، أي: أداه ودفعه.
وقضى فلان بحقي بمعنى: حكم، فتأتي كلمة (قضى) وما تصرف منها لمعان عديدة،
ومن معانيها الإتمام، فتقول: فلان قضى الأمر الذي كان قد بدأ به.
وبعض العلماء قال: هذا اصطلاح شرعي، ومعناه: أتموا ما بقي من نقص، واقضوا
ما فات عليكم من قبل.
وجميع شراح الحديث يقولون: المشهور والأكثر عند الجمهور لفظ (فأتموا) ،
وجاءت بعض الروايات عن أحمد والنسائي -وبعضهم يعزوها لـ مسلم - بلفظ:
(فاقضوا) .
فاللفظان صحيحان، ولكن أحد اللفظين أشهر وأكثر من الآخر، والكثرة لها
الترجيح، فإذا قلنا باللفظين، فمن أخذ برواية (أتموا) -وهي المشهورة عند
الجمهور- له ترتيب في الماضي، ومن أخذ برواية (فاقضوا) له ترتيب آخر يخالف
الأول، فما الفرق بين اللفظين؟ إذا جئنا إلى صلاة رباعية جهرية أو ثلاثية
ولتكن المغرب، وجاء إنسان قد فاتته الركعة الأولى، وصلى مع الإمام ركعتين
وبقي من الثلاث ركعة، فهل الركعة التي سيصليها بعد السلام -التي هي
الثالثة- هي الأولى التي فاتته، أم هي الثالثة الباقية عليه آخر صلاته؟! هو
صلى مع الإمام ركعتين، وبقي عليه ركعة واحدة، فهل الركعة الواحدة الباقية
عليه هي التي فاتته ولم يدركها مع الإمام فيقضيها، أم هي الثالثة التي لم
يصلها فيتمها؟ هذا هو التصوير العقلي للواقعة، وهو مطالب بركعة بلا شك، لكن
بقي علينا أن نتصور الركعة التي سيقوم لأدائها بعد سلام الإمام، فهل هي
الفائتة التي لم يدركها، وهي الأولى بالنسبة للإمام، أم هي الركعة الثالثة
الباقية تتمة للثلاث؟ ولما كان الأمر محتملاً فمن أخذ برواية (فأتموا)
فالركعة التي سيقوم لأدائها تكون هي الركعة الثالثة الباقية؛ لأنه صلى
الركعة الأولى والثانية، وبقي عليه أن يكمل الثالثة، ويكون قد أتم الثالثة
بالركعة التي أداها بعد سلام الإمام.
وإن قلنا: هي الماضية التي فاتته فيكون قد صلى ركعتين، وفاتته واحدة، فيقوم
لأداء الأولى التي فاتته مع الإمام قضاءً.
وقد يقول قائل: في الحالتين تبقى واحدة وستكمل الثلاث.
قالوا: لا؛ لأن القضاء يختلف عن الأداء، فإذا قلنا يتم ستكون بالنسبة له
الركعة الثالثة، والثالثة في المغرب سرية، فحين يقوم بعد الإمام ليأتي
بالثالثة يأتي بالقراءة سراً؛ لأنه يتم الثالثة الباقية عليه.
وإذا رجعنا إلى رواية (فاقضوا) ، وسيكون قيامه لصلاة الركعة الأولى التي
فاتته، والأولى جهرية فيجهر بالقراءة.
فهذا الذي يترتب على (أتموا) و (اقضوا) .
وإذا فعل الإنسان أحد الأمرين فهل صلاته صحيحة أم باطلة؟ إن أخذ بلفظ
(أتموا) وأتى بها سرية فالحمد لله، وإن اعتبرها الماضية وأخذ بلفظ (واقضوا)
، وأتى بها جهرية فلا مانع والحمد لله.
فالصلاة صحيحة على كلتا الروايتين، وكل له مستند.
لكن أيهما أرجح؟ هل هي (أتموا) ؛ لأنها أرجح من جهة قوة الرواية ولأنها
مشهورة؟ إذا أخذنا المسألة من جهة النظر فعلى رواية: (اقضوا) يكون قد أوقع
تكبيرة الإحرام في الركعة الثانية؛ حيث أدرك مع الإمام الثانية والثالثة،
وقد اعتبرنا ما أدرك مع الإمام ثانية وثالثة، وعليه أن يأتي بالأولى قضاءً،
فيكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الثانية، ولكن لما كبر تكبيرة الإحرام،
أول ما دخل مع الإمام -وتكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الأولى- ظهر أن
الركعة التي دخل بها مع الإمام هي الأولى في حقه، وإن كانت الثانية أو
الثالثة في حق الإمام.
ولو أدرك الإمام في الركعة الأخيرة فسيتم ويقضي ركعتين، فعلى رواية (أتموا)
يجهر في واحدة، ويسر في الأخيرة، وهكذا يكون التفريع على الفرق بين (أتموا)
، و (اقضوا) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجماعة والإمامة [8]
إن لصلاة الجماعة فضائل كثيرة، وكلما زاد العدد في صلاة الجماعة زاد الفضل،
وتنعقد الجماعة برجلين، أو برجل وامرأة، وإمامة المرأة للنساء جائزة
بالاتفاق، وهناك صور أخرى تتعلق بإمامة المرأة أو بإمامة الرجل للنساء فقط،
اختلف فيها العلماء.
وتجوز الصلاة وراء كل من قال: (لا إله إلا الله) ، كما تجوز الصلاة عليه،
ما لم يأت بناقض ينقضها، مع أن الأولى أن يصلى وراء من توفرت فيه صفات
الإمام المنصوص عليها شرعاً.
تابع أحكام صلاة
الجماعة
زيادة الفضل في صلاة
الجماعة بزيادة عدد المصلين وعلة ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته
وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى
الله عز وجل) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] .
يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث تحت عنوان صلاة الجماعة والإمامة.
ونفهم من هذا الحديث أنه كلما كانت الجماعة أكثر عدداً كانت أفضل أجراً،
وهذا هو الموضوع الإجمالي للحديث.
أما الحديث من حيث هو فمسائله متعددة.
منها: مسألة انعقاد الجماعة بالرجلين، فهل تنعقد الجماعة بإمام ومأموم فقط؟
أم لا بد للجماعة من ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع ثلاثة؟ فهذه أول مسألة في
الحديث، والتحقيق فيها أنه تنعقد الجماعة بالاثنين.
وفي حال كون الثاني امرأة -رجل وامرأة- فهل تعتبر جماعة أم لا تعتبر؟
يقولون: تصح الجماعة ولو كان المأموم امرأة فقط رداً على من يقول: لا تصح
جماعة، ولا تنعقد إذا كان المأموم امرأة فقط، أما إذا كن جمعاً من النسوة
فكما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الغلمان من الكتاب يقومون
بنا رمضان) .
وعمر رضي الله تعالى عنه نصّب إماماً خاصاً للنساء في تراويح رمضان، حتى
يُسرعن ويعدن إلى بيوتهن، فكون الرجل يؤم جماعة من النسوة هذا ليس فيه
خلاف.
وبعضهم يستدل لصحة انعقاد الجماعة برجل وامرأة فقط بالحديث: (من استيقظ من
الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتباً من الذاكرين الله كثيراً
والذاكرات) فهنا: (فصليا جميعاً) إمام ومأموم، والإمام هو الزوج، والمأموم
هو الزوجة، فتنعقد الجماعة باثنين ولو كان المأموم امرأة.
قوله: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى) (أزكى) بمعنى أكثر وأفضل، ومنه قوله
تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي فلا تمدحوها ولا
تفضلوها.
وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أكرم نفسه
وتزود من الخير.
والزكاة: النمو والزيادة فهنا هما اثنان، وصليا جماعة.
فصحت الجماعة باثنين، وهذه من أوائل مسائل هذا الحديث.
وهنا صلاة الواحد مع الآخر أزكى من صلاته وحده، قال بعض العلماء: فيه دلالة
بالإيماء والتنبيه على صحة صلاة المنفرد دون جماعة، وهذا الأمر قد تقدم
الكلام فيه.
قوله: (وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل) ، صلاة الواحد مع
الاثنين أزكى من صلاته مع واحد فقط؛ لأنهم سيصيرون ثلاثة إماماً واثنين
مأمومين، وما زاد فهو أفضل.
فموضوع هذا الحديث أن الجماعة كلما كانت أكثر عدداً كانت أفضل، ولهذا ينبغي
على الإنسان أن يحرص على أداء الجماعة في المساجد التي يكثر فيها العدد،
قالوا إلا إذا كان هناك مسجد في الحي، ووجود هذا الشخص في هذا المسجد سيشجع
أهل الحي على الصلاة، أو سينتفع منه المصلون في هذا المسجد الصغير بتعليم
أو فتوى، أو محافظة على الصلاة، أو سيحضرون خوفاً منه أو متابعةً له، فتكون
صلاته في المسجد الأقل عدداً لمصالح أخرى في حقه هو أولى.
أما إذا لم تكن هناك مصالح أو جوانب خارجة عن مجرد الجماعة فكلما كان العدد
أكثر كان أفضل.
لأن كل مصلٍ إنما يدعو لنفسه وللمسلمين، وهو واحد من المسلمين، فتناله
الدعوات من جميع المصلين، فيشارك في الفضيلة أكثر مما لو كان العدد أقل،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
إمامة المرأة صورها
وخلاف العلماء في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وعن أم ورقة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها) رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة] قدم المؤلف
رحمه الله النهي عن إمامة الأعرابي للمهاجر، والفاسق، والمرأة للرجل.
ولما قدم ذلك وكان سنده واهياً، جاء هنا ليبين صحة إمامة المرأة لأهل
دارها، فهذا تخصيص من ذاك العموم الذي تقدم.
وأم ورقة هذه امرأة أنصارية، وهي صحابية جليلة، وكانت تلقب بالشهيدة وهي
على قيد الحياة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عزم الخروج إلى
بدر قالت: يا رسول الله! ائذن لي أن أصحبكم لعلي أداوي الجرحى وأسقي المرضى
فقال لها صلى الله عليه وسلم: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك
الشهادة) ، فلما قال لها ذلك لقبوها بالشهيدة، وكان صلى الله عليه وسلم
يأتي إليها ويزورها، وكانت قد جمعت القرآن، وما سمعت بامرأة في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم جمعت القرآن غير هذه الصحابية الجليلة.
ولا أستبعد من مثل عائشة رضي الله تعالى عنها لشدة حفظها أن تكون جمعت
القرآن أيضاً؛ لأنها ذكرت أنها تحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر.
فهذه المرأة كانت بهذه الصفة، وكانت نهاية أمرها أن قتلها غلامها وجاريتها،
فكتما نفسها بخميصة لها حتى ماتت وهربا، وكان اكتشاف ذلك أن عمر رضي الله
تعالى عنه قال: (ما سمعت صوت خالتي أم ورقة الليلة) ، فقد كانت كل ليلة
تقوم وتقرأ القرآن، وكان عمر يسمعها، فافتقد صوتها تلك الليلة، ومن الغد
دخل بيتها فلم يجدها، فدخل غرفتها فوجدها مخنوقة بالخميصة ميتة، ولم يجد
غلامها ولا جاريتها.
فقال عمر: (من رأى هذين أو علم بهما فليأتني بهما) ، فأُتي بهما فقتلهما
وصلبهما.
وقضيتها -من حيث هي- حادثة تؤخذ منها أحكام عديدة قبل أن نأتي إلى موضوع
إمامتها.
لقد كان لها تطلع إلى الشهادة، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها وغيرها أن النساء أرسلنها وافدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم،
فقالت: يا رسول الله! إني وافدة النساء إليك، وجدنا الرجال غلبونا بالجهاد،
أفنجاهد؟ فقال: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وفي الوقت نفسه
صرح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النسوة أن يشاركن في القتال، فأم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تحمل الماء يوم أحد، وغيرها، وأم
عطية سافرت وجاهدت، وكانت تضمد الجرحى، وتهيئ لهم الطعام.
فهذه المرأة الكريمة طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها،
ولم يكن الرجال يستأذنون للخروج، بل إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
للخروج إلى الجهاد هب الجميع، والمرأة ليست من أهل القتال، كما قيل: كتب
القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول.
فالمرأة ليست من أهل القتال، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن
لها لتخرج على غير العادة، فكفاها المؤنة، فقال: (قري في بيتك؛ فإن الله عز
وجل يرزقك الشهادة) فبهذا الوعد لقبت بالشهيدة وهي تمشي على وجه الأرض.
وإن هذه الإشارة -والله تعالى أعلم- لعلها التي جعلت أمير المؤمنين عمر رضي
الله تعالى عنه يقول: (اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك في بلد رسولك) .
قالوا: يا عمر! أتريد القتال في المدينة؟ قال: فضل الله واسع.
فجاءته الشهادة في المدينة، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي
المحراب.
أقول: لعل عمر لما سمع البشرى لهذه المرأة أن: امكثي في بيتك وستأتيك
الشهادة -أي: في بيتك- فطِن عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا يمكن
ونالها.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً وجارية.
والتدبير باب من أبواب العتق، وهو تفعيل من الدبر، والدبر: ما كان خلف
الشيء، فـ (عن دبر) أي: عن خلف وعن ظهر، وعن زمن بعده.
فإذا قال شخص: يا فلان! لك هذه الدار عن دبر مني.
يعني: إذا مت فالدار لك.
أو قال: يا أولادي! أوصيكم أن إذا مت فأسكِنوا هذه الدار فلاناً.
أو يقول لغلامه: أنت حر بعد موتي فهنا تعلق العتق بموت المالك.
أي: رب المال.
وهنا السؤال: إذا كان العبد ينتظر الحرية بموت سيده، فحينها يطلب سرعة
موته، فإذا اعتدى عليه بالقتل ألغي التدبير، كما أن قاتل مورثه يحرم من
الميراث.
والموقوف عليه، والموصى له إذا قتل الموقِف تسرعاً لانتقال الوقف إليه، أو
تعجلاً لمجيء الوصية إليه مُنِع من استحقاق الوقف، ومُنِع من الوصية.
قالوا: معاملة له بنقيض قصده؛ فإنه تعجل لأجل الميراث فنحرمه منه؛ لكي يعلم
كل حريص على الميراث أنه لن ينال الميراث إذا قتل مورثه، فيكف يده حتى لا
يُحرم.
ونظير ذلك أيضاً لو أن امرأة أخفت عدتها، وادعت خروجها من العدة، وتواطأت
مع رجل فتزوجته قبل أن تخرج من عدتها فسخ النكاح، ولا يتزوجان إلى الأبد،
وهذا التحريم المؤبد؛ حتى لا تخفي امرأة أمر عدتها، فإذا علمت أنها لن
تلتقي معه إلى الأبد حافظت على العدة، ومشت في طريق مستقيم.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً لها وجارية، فقد قالت: أنتما حران بعد موتي.
فقاما عليها بالليل وخنقاها بخميصة حتى ماتت، وهربا.
وهنا ندخل في مبحث جنائي، فأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فطِن
لافتقاد سماع قراءتها، وهكذا حق الجوار، أو أنه كان من عادته أن يعس
المدينة، ونحن نعلم أمر عمر في خلافته، لقد كان يخرج ليلاً ويطوف في أزقة
المدينة يتحسس أخبار الناس وحاجاتهم، ومن ذلك أنه سمع امرأة تقول لابنتها:
قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء.
فقالت: يا أماه! ألم تسمعي بمنادي عمر ينهى عن مزج الحليب بالماء؟! قالت:
يا بنيتي! وأين عمر منك الآن؟ فقالت الفتاة: والله -يا أماه- لإن كان عمر
غائباً فرب عمر حاضر.
وكان عمر عند الباب يسمع، ولم يقل لهما شيئاً، وقال لمن معه: اعرف لي هذا
البيت.
فعرفه، ومن الغد ذهب وخطب تلك الفتاة.
ونظير هذا -والشيء بالشيء يذكر- أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف
بالبيت، وكانت هناك امرأة عجوز مجذومة، أي: مريضة بمرض الجذام، وهذا المنظر
قد يتأذى منه الناس أو من رائحته، فمر عمر بجانبها وهمس في أذنها وقال: يا
أمة الله! لو عدت ومكثت في بيتك لكان خيراً لك.
فخرجت من توها، وما أكملت الشوط، ورجعت إلى بيتها، فلما توفي عمر رضي الله
تعالى عنه أُتيت فقيل لها: اخرجي.
إن الذي نهاك قد مات.
قالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً أي: له حق في السمع والطاعة، فهذا
هو التلاحم، وهذه هي حقيقة الإيمان.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال لـ حذيفة رضي الله تعالى عنه: لقد حظيتم
بصحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو كنا حضرنا لما تركناه
يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: يابن أخي! لا تقل ذلك، والله لاتدري إن حضرت ماذا كنت تفعل؟! والله
لقد جاءت علينا ليال يخاف الواحد منا أن يخرج يقضي حاجته.
وهذا في أمر الخندق وليلة الأحزاب والشدة التي لحقت المسلمين، ثم قال: قال
آخر: والله وددت أني مت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهد يوم
موته.
فقال غيره: والله ما وددت ذلك، وتمنيت أن أعيش بعده لأطيعه بعد وفاته كما
كنت أطيعه وهو حي.
فهذه النماذج تعطينا مدى ارتباط الأفراد بقادتهم في الإسلام، ومدى السمع
والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد على وجه الأرض ملكاً من
الملوك، أو رئيساً من الرؤساء، أو قيصراً من القياصرة تبلغ طاعته عند قومه
عشر معشار هذا الحد.
فـ عمر سمع المرأة، ومن الغد ذهب فخطبها لولده، وكانت جدة عمر بن عبد
العزيز، والشيء من معدنه لا يُستنكر.
وفي ليالي عمر وهو يعس في شوارع المدينة سمع امرأة في جوف الليل تقول: ألا
طال هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله
تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فتفكّر في حال امرأة في مغيب زوجها،
فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له: إنها امرأة فلان، وله في
الغزاة ثمانية أشهر، فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال: أخبريني: كم تصبر
المرأة عن زوجها؟ فاستحيت.
قال: والله -يابنيتي- لولا أني أريد أن أنظر في أمر المسلمين ما سألتك هذا
السؤال.
قالت: تصبر شهراً وشهرين، وفي الثالث تتضجر، وفي الرابع يضيق ذرعها فأرسل
لأمراء الأجناد: لا يغيبن زوج عن زوجه فوق أربعة أشهر.
فكان الواحد يذهب للثغر يرابط شهراً، وعليه مرابطة شهرين، فشهر في الذهاب
وشهران في المرابطة، وشهر في العودة، ولا يغيب أكثر من ذلك.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه افتقد صوت أم ورقة، فلما افتقد صوتها كان ذلك
لافتاً للنظر.
يقولون عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه كان له جار يهودي، وكان كل ليلة
يؤذيه برفع صوته، فيمضي الإمام ولا يكلم جاره بشيء، وفي ذات يوم أصبح فلم
يجد ما كان يعتاد أن يجده، وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، فاستغرب وسأل عن
جاره فقيل له: إنه مسجون.
فذهب إلى الوالي وطلب زيارته في سجنه فأذن له، ثم طلب من الوالي أن يطلقه
له فأطلقه.
إمام جليل يأتي ليطلق إنساناً من سجنه، فجاء جاره وقال: أخبرني ما الذي
أعلمك أني سجين؟ قال: الأمارة التي كنت تجعلها كل ليلة افتقدتها.
قال: وتسكت على ذلك، وتقابل إيذائي بأن تزورني في سجني، وأن تطلب إخراجي؟!
قال: نعم.
هذا حق الجار في الإسلام.
قال: هذا دين يعامل أفراده بهذه المثابة.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فـ عمر افتقد أم ورقة، ولم يسمع قراءتها، وليس عندها إلا غلام وجارية، فلما
أصبح د
إمامة الأعمى في
الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى) رواه أحمد وأبو داود] .
قدم المؤلف رحمه الله ذكر محظور الإمامة من ناقص نقصاً معنوياً كأعرابي يؤم
مهاجراً، والفرق بين الأعرابي والمهاجر ليس نقصاً في الخلقة، ولكنه أمر
معنوي اعتباري.
والأعرابي إذا جاء وهاجر وجلس مدة في المدن أصبح حضرياً، وزال عنه وصف
الأعرابي، وكذلك الفاسق.
فهذه أوصاف اعتبارية، وليست أوصافاً خلقِية.
فلما كان الأمر كذلك جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا ببيان النقص الخلْقي في
شخصية الإنسان، كأعرج، وأعور، وأعمى، فهل هذه النواقص الخلْقية تمنع من
الإمامة أم لا؟ فذكر أكبر عاهة وهي العمى، وإذا جئنا إلى كتب القضاء فإن
جمهور الفقهاء -ما عدا الحنابلة- يقولون: لا تصح ولاية القضاء للأعمى
والحنابلة قالوا: العمى ليس نقصاً في العدالة، والمطلوب من القاضي أن يكون
حاكماً بالعدل والجمهور قالوا: إن البصر والرؤية من وسائل معرفة المحق من
المبطل، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] ، ومن الذي
سيرى سيماهم؟ فاشتراط البصر يكون من كمال الوصف.
ولقد عرضت علي قضية، حيث جاء رجل أعجمي ووقف في الباب -وكان طويلاً- يصيح
صياح المرأة الثكلى: مظلوم مظلوم وكان هذا في زمن الملك فيصل يغفر الله له.
فالكاتب الذي بجانبي قال: هذا مسكين فانظر كيف الظلم! فأردت أن أقول له: لا
تفتح فمك، وتأمل مع هذا الصياح، والغرفة مليئة بالمراجعين والكتاب والقاضي،
فإذا نظر الرجل كأنه سهم مصوب علي، فقابلته بسهم وسهم، وانتظرت.
فالجندي يريد أن يدخله، ولكن الرجل ممتنع، فقلت للجندي: أحضر العصا فسمع
كلمة (عصا) فمشى ووقف أمامي، وأعاد الكرة، فقلت للجندي: اصفعه على وجهه إذا
لم يجلس إن هذا قد يكون جنى، لكن للقاضي أن يتكلم بما لا يريد أن يفعل.
ثم إنه جلس، فقلنا له: اقرأ الدعوى، قال: لا أفهم قلت: أنت فهمت (أحضر
العصا!) ، وفهمت (أعطه كفاً) فيجب أن تفهم الباقي.
فذاك الصياح وذاك التوجع لو كنت خلف حجاب لقلت عنه: هذا ملأ الدنيا دموعاً
وبكاء إلا أنه ما قطرة دمع واحدة نزلت من عينيه.
فألزمته بالإجابة فأجاب.
والمهم أنه ثبتت عليه الدعوى، وجاء أخوه وخلّصه مما لزم عليه.
أقول: إن البصر للقاضي قد يعينه على حل القضايا، والعون من الله سبحانه
وتعالى، ولكن هذه وسائل، كما أن السمع من وسائل إيصال كلام الطرفين، ووسيلة
لفهمه وعقله، كذلك البصر يساعد.
فهنا يذكر المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف رجلاً أعمى، وهو ابن
أم مكتوم المعروف، وكان قد استخلفه للصلاة وإمارة المدينة، وتارة كان
يستخلف أبا هريرة، فجاء المؤلف رحمه الله في نهاية البحث وقال: إن كانت بعض
الصفات الخلُقية تمنع من الإمامة فإن بعض الصفات الخلْقية لا تمنع منها،
وعلى هذا تصح إمامة الأعمى.
ومن ينازع في إمامة الأعمى يقول: الأعمى لا يعرف القبلة أين هي، وإنما
سيتوجه إلى القبلة تقليداً لغيره، ولكن المبصر يعرفها! فيقال له: بماذا
يعرفها المبصر، هل سيرى الكعبة؟ أنه لن يراها، ولكن بالجهات، وسيرى
المحراب، فكذلك الأعمى يمكن أن يتحسس المحراب.
ولهذا قال بعض الناس: المحاريب في المساجد بدعة؛ لأنها لم تكن زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: نعمت البدعة، بل هي سنة حسنة؛ لأنه لو جاء أعمى في الليل ودخل مسجد
قوم يريد أن يصلي فكيف يعرف القبلة، فجدران المسجد في أربع جهات ولا فارق
بينها، فإذا تحسس بيده وجد المحراب وعرف أين القبلة.
فإمامة الأعمى صحيحة مع الشروط الأخرى: صلاحه و (أقرؤهم لكتاب الله) و
(أعلمهم بالسنة) .
قال: [ونحوه لـ ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
من يصلى وراءه وعليه
عند موته
قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (صلوا على من قال لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال لا
إله إلا الله) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا الحديث سواءٌ روي بإسناد ضعيف أم بإسناد صحيح له تعلق بمباحث العقيدة.
فمن قال: لا إله إلا الله اعتُبر مسلماً، لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله
إلا بحقه، وحسابه على الله) .
وهنا يبحث الفقهاء ويقولون: إذا كان يقول: لا إله إلا الله، وأمره سر وخفي
لا نعلم عنه شيئاً فهو من أهل لا إله إلا الله، ولكن إذا كان يقولها، ويظهر
منه ما يناقض قوله فهل (لا إله إلا الله) باقية أو نقضها بفعله؟ قالوا: إذا
كان من يقول: لا إله إلا الله مظهراً لبدعة مكفِّرة فقد نقض قوله بفعله،
فلا نصلي وراءه، ولا نصلي عليه، أما إذا كان ممن يقولها ولكنه متلبس ببدعة
ليست مكفِّرة، أو كان ممن يرتكب الكبائر -والكبائر ليست مكفرة- فماذا نفعل
معه؟ قالوا: أما الصلاة عليه فهو حق علينا، إلا إذا قتل في حد من حدود
الله، فإن الإمام الراتب لا يصلي عليه؛ لأن في ذلك إقراراً لما فعل، أو
تكريماً له، ولكن أداءً للواجب يصلي عليه أهله، كما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم: (صلوا على صاحبكم) .
أما الصلاة خلفه فقالوا: أهو إمام راتب من قبل ولي أمر المسلمين وترك
الصلاة خلفه شق للعصا، أم أنه شخص متبرع قال أنا أصلي لكم؟ فإن كان ولي
المسلمين هو الذي ولاه الإمامة، أو كان هو بنفسه أمير البلد أو حاكمها
فيصلَّى خلفه، مادام يقول: لا إله إلا الله أما إذا كان متبرعاً من عامة
الناس ويرجع الأمر في اختيار الإمام للمأمومين فرفضهم له واجب.
وعلى هذا إنما يكون الإمام من خيار الناس، ومن قال: (لا إله إلا الله) ولم
يظهر ما يخرجه من الإسلام فحينئذٍ حق (لا إله إلا الله) علينا أن نصلي
عليه، فهذا مجمل هذه القضية، والتوسع فيها يرجع إلى كتب العقائد، والله
تعالى أعلم.
صلاة المسبوق
ومتابعته للإمام
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال
فليصنع كما يصنع الإمام) رواه الترمذي بإسناد ضعيف] .
قوله: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال) يعني: على صفة من صفات
الصلاة وأحوالها.
فإذا جاء الشخص والإمام يقرأ فعليه أن يكبر ويدخل مع الإمام ويقف في الصف،
وإذا جاء والإمام راكع فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ويركع مع الإمام، أو
جاء والإمام ساجد فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويسجد مع الإمام، أو جاء
والإمام جالس بين السجدتين فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويجلس، أو
جاء والإمام يتشهد فكذلك، فعلى أي حال من أحوال الإمام في الصلاة يدخل معه
فيها، لا أن يأتي فيجد الإمام ساجداً فيقف وينتظر حتى يقف الإمام فيكبر
ويدخل معه، أو يجده جالساً للتشهد فما يدري أهو التشهد الأوسط أو الأخير
فينتظر، فلا ينبغي هذا.
وتقدم لنا ما يتعلق بـ معاذ رضي الله تعالى عنه -فيما يرويه ابن كثير
وغيره- أن الصلاة أحيلت ثلاث حالات، فقد كانوا إذا أرادوا الصلاة آذن بعضهم
بعضاً، فقالوا: نتخذ أداة فاقترُح الناقوس، أو البوق، أو إشعال النار، فكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فجاء عبد الله بن زيد وقص رؤياه في
الأذان، فقال: (إن صاحبكم قد رأى رؤيا، فاخرج مع بلال إلى المسجد، فألقها
عليه، وليناد بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً) ، فصاروا يؤذنون ويجتمعون
بالأذان.
فهذه حالة، والحالة الثانية أنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس فتحولوا إلى
بيت الله الحرام (الكعبة) .
والحالة الثالثة أن المسبوق كان إذا جاء سأل من في طرف الصف كم صليتم؟
ليعرف كم فاته من الصلاة، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويأتي بما فاته، ويدخل مع
الإمام في الحالة التي هو عليها، فقال معاذ: والله لإن أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم وأنا متأخر لأوافقنه على ما هو عليه فجاء مسبوقاً، فدخل مع النبي
صلى الله عليه وسلم في الحالة التي هو عليها، فلما سلم النبي صلى الله عليه
وسلم قام وأتى بما كان قد فاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ
فاقتدوا به) ، فكانت هذه الحالة الثالثة.
وهنا يأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه
وسلم أن الإنسان إذا أتى إلى الجماعة فإنه يدخل مع الإمام على الحالة التي
هو عليها، والجمهور على أنه يكبر تكبيرة الإحرام ويدخل بها في الصلاة ثم
يتابع الإمام.
ثم يأتي بعد ذلك في بعض الروايات: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا
ولا تعدوها شيئاً) .
وعن ابن عمر قال: (إذا أدركت الإمام راكعاً فركعت قبل أن يرفع فقد أدركت،
وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك) .
فمن جاء مسبوقاً فليدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها، فإن أدرك
الإمام في الركوع واطمأن معه أقل ما يجزئ اعتد بهذه الركعة، ولا يكون قد
فاته إلا قراءة الفاتحة، وإن وجد الإمام قد رفع من الركوع وهو في حالة
الاعتدال بعد الركوع فليدخل معه في الرفع من الركوع، وفي السجدتين، والجلسة
بينهما، ثم يقوم إلى الركعة التي بعدها، أو يسلم، ولا يعتد بهذه الركعة في
صلاته، وعليه أن يأتي بالصلاة كاملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
|