فقه المعاملات

الاستصناع


تعريف الاستصناع
الاستصناع هو عقد يشترى به شيء مما يصنع صنعا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعا بمواد من عنده بأوصاف معينة , وبثمن محدد يدفع عند التعاقد , أو بعد التسليم أو عند أجل معين.


تعريف الاستصناع
الاستصناع في اللغة طلب الصنعة , كما أن الاستغفار طلب المغفرة , والاستمهال طلب المهلة.
فكل من طلب من آخر أن يصنع له شيئا فذلك استصناع لغوي , فمن طلب من النجار أن يصنع له خزانة مثلا فذلك استصناع لغة , سواء أتى الطالب للصنعة بالخشب والمواد من عنده , أو كانت من عند النجار , وسواء كان ذلك بمقابل مادي , أو على سبيل التبرع.
والاستصناع اصطلاحا أن يقول إنسان لصانع: اصنع لي الشيء الفلاني ويذكر جنسه وصفاته , والمواد من عند الصانع , مقابل كذا وكذا من المال أعطيك إياه الآن , أو بعد التسليم , أو عند أجل معين. فيقبل الصانع ذلك.

ويتضح من التعريف أن:
- المبيع هو الشيء المطلوب صنعه في الذمة وتكون أوصافه محددة مميزة عن غيره. فهو يشبه السلم لأن المبيع ملتزم عند العقد في ذمة البائع.
- الاستصناع فيه طلب الصنع وهو العمل وما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعا , فكان مأخذ الاسم دليلا عليه كما يقول الكاساني ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما , وهذا العقد يسمى استصناعا. لذلك فإن المنتوجات الطبيعية (كالثمار والبقول والحبوب) إذا أريد بيعها قبل وجودها فطريقها بيع السلم لا الاستصناع.
- تكون مواد الصنع من الصانع لا من المستصنع فإذا كانت من المستصنع فإن العقد يكون إجارة لا استصناعا. فكل ما يحتاج إليه من مواد أساسية أو كمالية يقدمه الصانع البائع من عنده لأنه محسوب حسابه في الثمن.
- يكون الثمن معلوما ومحددا ويصح أن يعطيه المستصنع للصانع مقدما عند التعاقد , ويصح أن يعطيه قدرا منه والباقي عند استلام الشيء المصنوع , ويصح أن يؤخره إلى يتسلم المصنوع.

ويسمى طالب الصنعة: المستصنع , وقد يسمى الآمر لأنه أمر بالصنع.
ويسمى الطرف الثاني: مستصنعا إليه , أو صانعا , سواء كان ممن يتولى الصناعة بنفسه , أو يتولاها عماله في مصنعه.
ويسمي الشيء المصنوع: المستصنع فيه.
ويسمى المقابل المادي: البدل النقدي , وقد يسميه بعض الفقهاء الثمن.

ويقابل مصطلح الاستصناع في القوانين الوضعية: المقاولة , حيث تكون المواد من الصانع , أما حيث تكون المواد من صاحب العمل فهي مقاولة ولكنها ليست استصناعا , بل هي من قبيل الإجارة.

صور من التعامل شبيهة بالاستصناع , وليست استصناعا
توجد صور من التعامل شبيهة بالاستصناع , وليست استصناعا. من ذلك ما يلي:
1 - أن يأتي طالب الصنعة بالمواد من عند نفسه , ويطلب من الصانع أن يصنع منها الشيء الذي يريده , مقابل أجر معين , كما لو أحضر قماشا , وطلب من الخياط أن يصنعه له ثوبا , أو أحضر خشبا وطلب من النجار أن يصنع له منه غرفة نوم. فهذه إجارة وليست استصناعا.
ولو جرى العرف على أن الأجير يضع مواد تافهة من عنده , مما يحتاج إليه المصنوع , بقي العقد إجارة ولم يدخل في الاستصناع , كالخياط يخيط بخيط وأزرار من عنده , أو الصباغ يصبغ بأصباغ من عنده , أو النجار يدخل في صناعة الأثاث المسامير والأصماغ اللاصقة من عنده.

2 - أن يكلف طالب الصنعة الصانع أن يشترى المواد على حسابه الخاص (أي حساب طالب الصنعة) ويقدم له بها فواتير ليدفع ثمنها , ثم يصنع له من تلك المواد شيئا محددا مقابل أجر معلوم. فهذه إجارة أيضا وليست استصناعا.
3 - أن يشترى إنسان من الصانع أو التاجر شيئا مصنوعا معينا , مقابل ثمن معجل أو مؤجل. فهذا بيع وليس استصناعا.
4 - أن يشتري الطالب من الصانع أو التاجر شيئا في ذمة البائع معلوما جنسه ونوعه ووصفه وقدره , كأثاث معلوم الصفات , ولا يشترط أنه من عمل الصانع نفسه , على أن يسلم البضاعة عند أجل معين , ويدفع الثمن المعلوم مقدما. فهذا سلم في المصنوعات , وليس استصناعا.


جاء في بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2677)
صورة الاستصناع أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفا , أو آنية , من أديم , أو نحاس , من عندك , بثمن كذا , ويبين نوعه وقدره وصفته. فيقول الصانع: نعم.

وقال البابرتي في العناية (7 / 114) :
الاستصناع أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئا صورته كذا , وقدره كذا , بكذا وكذا درهما , ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها أو لا يسلم.

وقال ابن عابدين في حاشيته المسماة رد المحتار على الدر المختار (4 / 212) :
الاستصناع شرعا طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص يعلم مما يأتي.

وجاء في مجلة الأحكام العدلية (المادة 124) :
الاستصناع عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة.

وجاء في مجلة الأحكام العدلية (المادة 388) :
(ومن أمثلته) : إذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشا , وقبل الصانع ذلك , انعقد البيع استصناعا.

وجاء في كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي
استصناع سلعة يعني يشتري منه سلعة ويطلب منه أن يصنعها له , مثل أن يشتري منه ثوبا ليس عنده , وانما يصنعه له بعد العقد.

وجاء في المبسوط للسرخسي (15 / 84 , 85)
إذا أسلم حديدا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى بأجر مسمى , فإنه جائز ولا خيار فيه إذا كان مثل ما سمى , لأن ثبات الخيار للفسخ ليعود إليه رأسماله فيندفع الضرر به , وذلك لا يتأتى ها هنا , فإنه بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه , فأما في الاستصناع فالمعقود عليه العين , وفسخ العقد فيه ممكن.

وجاء في بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2681)
فإن سلم حديدا إلى حداد , ليعمل له إناء معلوما بأجر معلوم , أو جلدا إلى خفاف ليعمل له خفا معلوما , بأجر معلوم , فذلك جائز , ولا خيار فيه , لأن هذا ليس باستصناع , بل هو استئجار , فكان جائزا. فإن عمل كما أمر استحق الأجر , وإن فسد فله أن يضمنه حديدا مثله , لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدا له واتخذ آنية من غير إذنه والإناء للصانع , لأن المضمونات تملك بالضمان.

وجاء في العناية شرح الهداية (7 / 116) :
إن قيل أي فرق بين الاستصناع وبين عقد الإجارة مع الصباغ , فإن في الصبغ العمل والعين , كما في الاستصناع , وذلك إجارة محضة؟
أجيب: بأن الصبغ (أي عمل الصباغ) أصل , والصبغ (أي المادة الملونة التي يصبغ بها) آلته , فكان المقصود فيه العمل , وذلك إجارة وردت على العمل في عين المستأجر , وها هنا (أي في الاستصناع) الأصل هو العين المستصنع المملوك للصانع , فيكون بيعا , ولما لم يكن له وجود من حيث وصفه , إلا بالعمل , أشبه الإجارة.

وجاء في الفتاوى الهندية (4 / 455 , 456) :
إذا استأجر أجيرا ليخيط له ثوبا كان السلك والإبرة على الخياط. . . ولو استأجر وراقا (أي ناسخا للكتب الخطية) , فإن شرط عليه الحبر والبياض (أي الورق) فاشتراط الحبر جائز واشتراط البياض فاسد كذا في خزانة المفتين.

وجاء في الفتاوى الهندية أيضا (4 / 517) :
الاستصناع أن يكون العين والعمل من الصانع , فأما إن كانت العين من المستصنع لا من الصانع , فإنه يكون إجارة ولا يكون استصناعا. كذا في المحيط.

وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير من كتب المالكية:
وفي الإجارة يعمل بالعرف في كون الخيط على الخياط أو على رب الثوب , فيقضى بما جرى به العرف في هذه الأشياء , إذ العرف قاعدة من قواعد الشرع.


دليل مشروعية الاستصناع
يرى جمهور الفقهاء أن مقتضى القياس والقواعد العامة ألا يجوز الاستصناع , وعلى كل من أراد الحصول على المصنوع على الصفة المعينة التي يريدها أن يتعاقد مع الصانع بصيغة الإجارة أو صيغة السلم. ولذلك يكون الاستصناع عند الجمهور قسما من أقسام السلم , ويشترط فيه ما يشترط في السلم.

ويرى الحنفية أن الاستصناع جائز استحسانا على غير القياس , لأن القياس يقتضى منعه لأنه من بيع المعدوم. ويرى بعض الحنفية أن دليل جواز الاستصناع ليس الاستحسان فقط بل يستدل عليه كذلك بالسنة والإجماع.


دليل مشروعية الاستصناع تشكيل النص
مشروعية الاستصناع عند الجمهور
سبب عدم جواز الاستصناع عند جمهور الفقهاء
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة , وزفر من الحنفية: إلى أن الاستصناع على الصفة المبينة في تعريفه غير جائزة شرعا:
- لأن المبيع مؤجل في الذمة , فلا يصح بيعه إلا مع تعجيل الثمن , لئلا يكون من بيع دين بدين. وبيع الدين بالدين متفق على تحريمه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ والكالئ هو الدين.
- ولأن فيه اشتراط عمل شخص معين , وهو الصانع , ولا يدرى أيسلم ذلك الرجل إلى الأجل أم لا , فيكون من بيع الغرر المنهى عنه.
- ولأنه من بيع المعدوم , وبيع المعدوم منهي عنه شرعا , لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لا تبع ما ليس عندك.

بدائل الاستصناع عند جمهور الفقهاء
يرى جمهور الفقهاء أنه إن أراد طالب المصنوع الحصول عليه على الصفة المعينة التي يريدها , فأمامه أن يتعاقد مع الصانع بصيغة الإجارة , أو صيغة السلم:
- فصيغة الإجارة: أن يحضر طالب الصنعة المواد على حسابه الخاص , ويطلب من الصانع العمل على حسب المواصفات التي يريدها , ويحدد له أجر العمل. وحينئذ يمكن تقديم البدل النقدي أو تأجيله أو تقسيطه , لأن الأجرة لا يجب أن تكون معجلة. ويكون العقد ملزما للطرفين لا يجوز لأحد منهما فسخه بانفراده.
- وصيغة السلم: أن يتعاقد معه على أنه يشتري منه سلعة موصوفة في الذمة - غير محددة بعينها - لكن موصوفة بأوصاف ضابطة , ويضرب لتسليمها أجلا معينا. ولا يصح السلم ما لم يدفع الثمن فورا , أي في مجلس العقد قبل أن يفترق المتعاقدان , إلا أن المالكية أجازوا التأخير لدفع الثمن في حدود ثلاثة أيام بشرط أو غير شرط , لأنه تأخير يسير , فهو في حكم التعجيل.
ولا يجوز في عقد السلم أن يشترط أن تكون السلعة من صناعة البائع نفسه , أو من صنعة صانع آخر معين , بل يجب أن يكون العقد مبهما من هذه الناحية.
واشترط المالكية أن لا تحدد المادة الخام التي تصنع منها تلك السلعة , كأن يقول: أريد الشبابيك أن تكون مصنوعة من هذا الألومنيوم , وهذا الزجاج الموجود عندك. فإن قال ذلك واتفقا عليه فسد عقد السلم , بخلاف ما لو قال: من جنس هذا الألومنيوم وجنس هذا الزجاج , فيصح.

وإذا تم عقد السلم صحيحا كان ملزما للطرفين , لا يفسخ إلا باتفاقهما. وإذا جاء البائع بالمبيع عند الأجل موافقا للصنعة المشروطة , سالما من العيوب , لزم المشتري قبوله ودفع الثمن , سواء كان من صناعة ذلك البائع أو من صناعة غيره.

مشروعية الاستصناع عند الحنفية
قال الحنفية: الاستصناع جائز شرعا , استحسانا , أي استثناء من قاعدة عامة تقتضي عدم جوازه. وهذه القاعدة هي عدم صحة بيع المعدوم , التي دل عليها الحديث المشهور الذي رواه الصحابي حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا تبع ما ليس عندك.
وقال الكاساني القياس أن (الاستصناع) لا يجوز , لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. ويجوز (الاستصناع) استحسانا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير , وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تجتمع أمتي على ضلالة.
ويرى بعض الحنفية أن دليل مشروعية الاستصناع لم يكن الاستحسان فقط , وإنما كان دليله بالكتاب والسنة والإجماع.
الدليل من الكتاب:
قول الله تعالى: {ثم أتبع سببا 90 حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا 91 كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا 92 ثم أتبع سببا 93 حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا 94 قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا 95 قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما 96 آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا 97 فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا}
قال ابن عباس خرجا أي أجرا عظيما (صفوة التفاسير) .
وجه الاستدلال أن الله تعالى ذكر أنهم طلبوا من ذي القرنين أن يصنع لهم السد مقابل مال يخرجونه له من أموالهم. وهذا هو الاستصناع بعينه.
وقوله فيما بعد: {قال ما مكني فيه ربي خير} ليس إنكارا للصيغة التي عرضوها للتعامل معه. بل اقترح عليهم صيغة أخرى أفضل منها وهي أن يعينوه بما لديهم من القوى البشرية والإمكانيات المتاحة , ويعينهم هو بما لديه من الخبرة الفنية والعمل والدقيق.
فحيث أورد القرآن هذه القصة دون إنكار للاستصناع المذكور فيها , دل على جوازه ومشروعيته. إذ هو كتاب هداية فلا يناسبه أن يذكر ما هو منكر دون التنبيه على نكارته.

الدليل من السنة:
عن نافع أن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب , وجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه , فاصطنع الناس خواتيم من ذهب. فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه , فقال: إني كنت اصطنعته , وإني لا ألبسه , فنبذه , فنبذ الناس. رواه البخاري. ورواه أيضا بمعناه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وحديث صنع المنبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وفيه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة , امرأة قد سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس. فأمرته أن يعملها من طرفاء الغابة. ثم جاء بها , فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر بها فوضعت فجلس عليه رواه البخاري أيضا.
على أن هذا الحديث وإن استشهد به الحنفية لا يعتبر نصا صريحا يدل على تجويز الرسول للاستصناع , إذ يحتمل أن الصنع كان على أساس نوع من التبرع , فلا يكون استصناعا.

الدليل من الإجماع:
تعامل الناس بالاستصناع منذ عهد النبوة إلى اليوم , دون نكير من أحد من أهل العلم , في المباني والأثاث والملابس والأحذية والأواني والسيوف والسروج ونحو ذلك كثير , ولا يخلو مجتمع من شيء من ذلك.
والتعامل دليل الحاجة العامة , التي في منع العمل بها حرج على الناس. والحرج ممنوع في الشريعة , لقول الله تعالى {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم}
وهذا أيضا يتضمن الإجماع على الاستصناع عمليا , وإن أنكرته بعض المذاهب الفقهية في دراساتها , إذ لا يكاد أحد من أهل العلم يخلو من أن يكون تعاقد بطريق الاستصناع على عمل شيء مما يحتاجه من أثاث أو غيره.


دليل مشروعية الاستصناع
جاء في المدونة في الفقه المالكي (9 / 18)
باب السلف في الصناعات:
قلت: ما قول مالك في رجل استصنع طشتا أو تورا , أو قمقما , أو خفين , أو استنحت سرجا أو قدحا , أو شيئا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون عند الصناع , فاستعمل (أي طلب أن يعمل له) من ذلك شيئا موصوفا , وضرب لذلك أجلا بعيدا , وجعل لرأس المال أجلا بعيدا , أيكون هذا سلما , أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلا بعيدا أو يكون بيعا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلا بعيدا , وجعل ذلك مضمونا على الذي يعملها بصفة معلومة , وليس من شيء بعينه يريه , يعمله منه , ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه , وقدم رأس المال , أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين , ولم يضرب لرأس المال أجلا , فهذا السلف (أي السلم) جائز , وهو لازم للذي عليه , يأتي به إذا حل الأجل على صفة ما وصفا.
قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلا بعيدا , والمسألة على حالها , فسد وصار دينا في دين في قول مالك؟
قال: نعم.
قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلا , واشترط أن يعمله هو بنفسه؟
قال: لا يكون هذا سلفا , لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل , وشرط عليه عمل نفسه , وقدم نقده , فهو لا يدري أيسلم ذلك الرجل إلى ذلك الأجل أم لا فهذا من الغرر. وهو إن سلم عمله له , وان لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا , فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلا.
قلت: لم.
قال: لأنه لا يدرى أيسلم ذلك الحديد أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا. ولا يكون السلف في شيء بعينه فلذلك لا يجوز في قول مالك.

وجاء في الشرح الصغير للدردير
استصناع سيف , أو ركاب من حديد , أو سرج من سروجي , أو ثوب من حياك , أو باب من نجار , على صفة معلومة , بثمن معلوم , يجوز - وهو سلم تشترط فيه شروطه
- إن لم يعلن العامل والمعمول منه , فإن عينه فسد , نحو قوله: أنت الذي تصنعه بنفسك , أو يصطنعه زيد بنفسه , أو تصطنعه من هذا الحديد بعينه , أو من هذا الغزل , أو من هذا الخشب بعينه , لأنه حينئذ صار معينا , لا في الذمة , وشرط صحة السلم كون المسلم فيه دينا في الذمة.

وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3 / 213)
استصناع السيف والسرج سلم , سواء كان الصانع المعقود معه دائم العمل أم لا , كأن تقول لإنسان: اصنع لي سيفا , أو سرجا , صفته كذا , بدينار , فلا بد من تعجيل رأس المال وضرب الأجل , وأن لا يعين العامل ولا المعمول منه.

وجاء في الشرح الكبير للدردير المالكي (3 / 217)
أما إن اشتري المعمول منه , وعينه , ودخل في ضمانه , واستأجر الصانع بعد ذلك على عمله جاز إن شرع في العمل , ولو حكما , كتأخيره لنصف شهر , عين عامله أم لا.
وقال الدسوقي في حاشيته عليه: ويجوز ذلك سواء شرط تعجيل النقد أو لا , لأنه من باب البيع والإجارة في الشيء , وهو جائز وسواء كان العامل معينا أو لا , بشرط أن يشرع في العمل. أما لو استأجر غير البائع , جاز من غير قيد الشروع.

وجاء في الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية (2 / 38)
وقال زفر لا يحوز الاستصناع لأنه من بيع المعدوم.

وجاء في شرح فتح القدير لابن الهمام (7 / 114)
القياس أن الاستصناع لا يجوز , وهو قول زفر والشافعي
إذ لا يمكن جعله إجارة , لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير , وذلك لا يجوز , كما لو قال: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا , أو: اصبغ ثوبك أحمر بكذا , لا يصح.
ولا يمكن جعله بيعا , لأنه بيع معدوم , ولو كان موجودا مملوكا لغير العاقد لم يجز.
فإذا كان معدوما فهو أولى بعدم الجواز , ولكن جوزناه استحسانا , للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي.

وجاء في كتاب الأم للإمام الشافعي (2 / 116)
لا بأس أن يسلفه في طشت أو تور , من نحاس , أو شبه , أو رصاص , أو حديد , ويشترطه بسعة معروفة , ومضروبا أو مفرغا , وبصنعة معروفة , ويصفه بالثخانة أو الرقة , ويضرب له أجلا , كهو في الثياب.
وإذا جاء به على ما يقع عليه اسم الصنعة والشرط لزمه , ولم يكن له رده.
قال: ولو كان مع شرط السعة وزن كان أصح , وإن لم يشترط وزنا صح إذا اشترط سعة.
قال: ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد , أو نحاس ورصاص , لم يجز , لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما.
قال: وهكذا كل ما استصنع.
ولا خير في أن يسلف في قلنسوة محشوة , وذلك أنه لا يضبط وزن حشوها ولا صفته , ولا يوقف على حد بطانتها , ولا تشترى هذه إلا يدا بيد. .
ولا خير في أن يسلفه في خفين , ولا نعلين مخروزين , وذلك أنهما لا يوصفان بطول ولا عرض , ولا تضبط جلودهما , ولا ما يدخل فيهما. وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين , ويستأجر على الحذو , وعلى خراز الخفين.

وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (3 / 216 / 217)
ويجوز الشراء من دائم العمل , وهو من لا يفتر عنه , أو من في حكمه , وهو من كان من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده , كالخباز , بنقد , وبغير نقد , فلا يشترط تعجيل رأس المال ولا تأجيل المثمن , لأنه ليس سلما , بل هو بيع (أي بيع مطلق) والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام , كقنطار بكذا يأخذ منه كل يوم رطلين. وإنما جاز لأنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع.
وإن لم يكن دائم العمل فهو سلم كاستصناع سيف أو سرج. ويفسد بتعيين العامل أو المعمول منه.

وجاء في الفروع لابن مفلح من الحنابلة (4 / 24)
ذكر القاضي وأصحابه (لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) .

وجاء في كشاف القناع للبهوتي الحنبلي (3 / 154)
لا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له , لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم. . وهو قول القاضي وأصحابه.

قال الكاساني في كتابه بدائع الصنائع (6 / 1678)
أما جوازه فالقياس أن لا يجوز , لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم.
ويحوز استحسانا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير , والقياس يترك بالإجماع.
ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة , ومقدار الماء الذي يستعمل , ولأن الحاجة تدعو إليه , لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص , على قدر مخصوص وصفة مخصوصة , وقلما يتفق وجوده مصنوعا , فيحتاج أن يستصنع , فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.

وجاء في الهداية للمرغيناني (7 / 114)
يجوز استحسانا أن يستصنع طستا أو خفين أو نحو ذلك وفي القياس لا يجوز الاستصناع لأنه بيع المعدوم.

وجاء في شرح فتح القدير (7 / 114)
يجوز الاستصناع استحسانا فيما جرى فيه التعامل , ولا يجوز قياسا.
وجه الاستحسان الإجماع الثابت بالتعامل , فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير.
وجاء في الاختيار لتعليل المختار , للموصلي (2 / 38) .
القياس يأبى جواز الاستصناع , لكنا استحسنا جوازه للتعامل بين الناس من غير نكير , فكان إجماعا , وبمثله يترك القياس والنظر , ويخص , الكتاب , والخبر.

وجاء في الفتاوى الهندية (4 / 517)
يجوز الاستصناع استحسانا , لتعامل الناس وتعارفهم من غير نكير في سائر الأعصار. كذا في محيط السرخسي.

جاء في بدائع الصنائع للكاساني (6 / 1678)
يجوز الاستصناع استحسانا , لإجماع الناس على ذلك. . ولأن الحاجة تدعو إليه. . فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.

وجاء في شرح فتح القدير (7 / 115)
جوزناه استحسانا للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي , من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير , والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتى على ضلالة.
وقد استصنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما.... واحتجم وأعطى الحجام أجره.... وفيما لا تعامل فيه رجعنا إلى القياس.


الوصف الفقهي للاستصناع
اختلف فقهاء الحنفية في تكييف الاستصناع اختلافا كبيرا أهو بيع أو وعد بالبيع , أو إجارة؟ وإذا كان بيعا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟

والصحيح الراجح في المذهب الحنفي أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع , فهو ليس وعدا ببيع ولا إجارة على العمل إذ لو أتى الصانع بما لم يصنعه هو , أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة , جاز ذلك.

والذى مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر , أن الاستصناع عقد مستقل لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها , بل هو عقد له شخصيته المستقلة وله أحكامه الخاصة.


القول الأول: الاستصناع مواعدة
أي أن الاستصناع مجرد وعد من الصانع بصنع الشيء المطلوب , ووعد من الطالب بقبوله عند التسليم وبدفع المقابل , فإذا تم ذلك يكون في النهاية بيعا بالتعاطي , وأصبح لازما. أما إن نكث أحد الطرفين بوعده فلا يلزمه القضاء بشيء لأن القضاء لا يتدخل في المواعيد.
واستدل أصحاب هذا القول بثبوت الخيار للصانع وللمستصنع , كما نص عليه أبو حنيفة ومتقدمو أصحابه حيث قد نصوا على أن لكل من الطرفين الخيار قبل أن يرى المستصنع الشيء المصنوع ويرضى به.
وثبوت الخيار للطرفين دليل أنه ليس هناك تعاقد , فلا يبقى إلا أنها مجرد مواعدة.
وهذا الرأي عند الحنفية حكي عن الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور , فقد جاء عنهم: أن الاستصناع مواعدة , وإنما ينعقد بيعا بالتعاطي عند الفراغ من العمل , ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه , بخلاف السلم , وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به الصانع , ويرجع عنه , ولا تلزم المعاملة.

القول الثاني: الاستصناع عقد بيع على عين
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع عقد بيع على العين المستصنعة , ولم ينظر إلى العمل , بل نظر إلى أن الصانع باع شيئا في الذمة موصوفا بصفات كذا وكذا.
فالعمل ليس جزءا من المتعاقد عليه , بل العقد على العين الموصوفة.
وأيدوا قولهم هذا بما كان معروفا لدى بعض الحنفية قديما من أن الصانع لو أحضر شيئا مما صنعه هو قبل الاستصناع , أو صنعه غيره , فقبله المستصنع , جاز. فلو كان العقد منصبا على العمل أيضا لما جاز ذلك , لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي , فالذي جاء به الصانع مما صنعه قبل الاستصناع لا يكون مما التزم فيه بالشرط , وكذا ما صنعه غيره.
ثم اختلف أصحاب هذين القولين , فقال بعضهم هو بيع عين فيه الخيار للطرفين قبل الصنع , وقال آخرون لا خيار فيه.

القول الثالث: أنه بيع عمل أي إجارة
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع عمل , أي إجارة محضة , لأن الاستصناع طلب الصنعة , والصنعة عمل الصانع , فهذا هو المعقود عليه.
وأما المادة التي يحتاج إليها في الصنعة فهي بمنزلة الآلة للعمل , كما أن التعاقد على الصبغ إجارة , وإن كانت عملية الصبغ تحتاج إلى أن يدخل الصباغ فيها من عنده المواد الملونة , وذلك لا يخرج العقد عن أن يكون إجارة حقيقية , فكذلك المواد التي يحتاج إليها الصانع تدخل تبعا , ولا يخرج الاستصناع بذلك عن أن يكون إجارة حقيقية.

القول الرابع: الاستصناع إجارة ابتداء , بيع انتهاء.
أي أن الاستصناع عقد بين الآمر والصانع على أن يقوم الأخير بالعمل في العين , والعقد على العمل إجارة , فإذا قام الصانع بالعمل وسلم العين مصنوعة إلى الآمر كان التسليم على أنه مبيع بالثمن , وينعقد بيعا انعقادا تقديريا قبل رؤية الآمر له بفترة زمنية , لا بعد الرؤية.
والذين ذهبوا إلى هذا الرأي أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد عن أئمة الحنفية أن الصانع إذا مات قبل تسليم المعمول بطل الاستصناع , فلو كان الاستصناع بيعا من أول انعقاده لما بطل , كالسلم , لا يبطل بموت المسلم , لأن عقد البيع لا يبطل بالموت , بل يكون للمشتري حق استيفاء المبيع من التركة.
والأمر الثاني ما ورد عن محمد بن الحسن أن للمستصنع الخيار إذا رأي المصنوع. قالوا فلو كان الاستصناع إجارة على الإطلاق لما كان له الخيار , لأن خيار الرؤية إنما هو في البيع لا في الإجارة.

وكان الجمع بين الأمرين بأن قالوا: ينعقد الاستصناع إجارة من أول الأمر , فتنطبق عليه أحكام الإجارة , ثم إذا أتم الصانع صنعته وأحضر المصنوع واستلمه الآمر , كان التسليم له على أنه مبيع لا مأجور فيه , إذ المبيع هو الذي فيه خيار الرؤية للمشتري.
وقدر انعقاد البيع قبل الرؤية لأنه لو انعقد بيعا بعد الرؤية لم يكن للمشترى الخيار , لأن حديث خيار الرؤية جعل الخيار لمن اشترى ما لم يره.

القول الخامس: الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل
والقائلون بهذا أرادوا أن حقيقة الاستصناع أنه بيع حقيقي , أي بيع للمواد التي تدخل في المصنوع , لكن اشترط المستصنع على الصانع أن يقوم في المواد العينية بعمل هو تركيبها وتهيئتها على الصورة التي يريدها المستصنع , وطبقا للأصول الفنية التي يعتبرها أهل تلك المهنة.
فالعمل ليس من حقيقة الاستصناع , لكنه مشروط فيه كما قد يشترط مشتري الأثاث على البائع إيصاله إلى منزل المشترى. وهذا النوع من الشروط ممنوع عند الحنفية من حيث الأصل , لأنه خارج عن حقيقة البيع , لكنهم يجيزون من ذلك ما جرت العادة والعرف بأن يقوم به أحد العاقدين لمصلحة الآخر. والاستصناع من هذا النوع عند القائلين بهذا القول.

القول السادس: الاستصناع عقد مستقل
بعد النظر في الأقوال المتقدمة لعلماء الحنفية في تكييف حقيقة الاستصناع , يتبين أن الاستصناع وإن كان جائزا عندهم اتفاقا - ما عدا زفر - إلا أنهم ذهبوا في تكييفه مذاهب لم يسلم أي منها عن اعتراض.
والذي مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر , أن الاستصناع عقد مستقل لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها , بل هو عقد له شخصيته المستقلة , وله أحكامه الخاصة.

فقد جاء في بحث الشيخ مصطفى الزرقا في الاستصناع: أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم , وليس أيضا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع , وهما عقدان مستقلان , ولهما أحكام خاصة لا تجرى في البيع المطلق , فكذلك الاستصناع.

وجاء في بحث الدكتور على محيي الدين القره داغي الاستصناع هو ما إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء موصوف في الذمة خلال فترة قصيرة أو طويلة , سواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أم لا , وسواء كان المصنوع منه موجودا أثناء العقد أم لا. فمحل عقد الاستصناع هو العين والعمل معا من الصانع. فالعقد بهذه الصورة ليس بيعا , ولا سلما , ولا إجارة , ولا غيرها , وإنما هو عقد مستقل خاص له شروطه الخاصة به , وآثاره الخاصة به , ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر. فالاستصناع عقد مستقل خاص محله العين والعمل معا , وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين , وعن الإجارة التي محلها العمل , وعن السلم الذي محله العين الموصوفة في الذمة.

وجاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع بجدة (1412هـ الموافق 1992م) : إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة , ملزم للطرفين , إذا توافرت فيه الأركان والشروط.

ويمكن أن يقال إن القوانين المعاصرة اعتبرته كذلك فإنها حين ذكرت أحكامه لم تذكرها ضمن أحكام البيوع , ولا ضمن أحكام الإجارة , بل جعلته نوعا من أنواع (المقاولة) , والمقاولة منها ما هو إجارة محضة , ومنها ما هو استصناع حيث تكون المواد من الصانع.

ولعل أقرب من اقترب من هذا القول من الفقهاء صاحب المحيط البرهاني حيث يرى أنه لا بد من اعتبار العمل والعين في الاستصناع. فقد جاء في ج 2 ص 575: المستصنع طلب منه العمل والعين جميعا فلا بد من اعتبارهما جميعا.

أهمية القول بأن الاستصناع عقد مستقل
يتضح بأن الرأي المعاصر القائل بكون الاستصناع عقد مستقل , يختلف هذا عن القول الذي يجعل الاستصناع بيعا حقيقيا والعمل شرط فيه , أي زائد على حقيقته وهو قول فيه من المؤاخذة ما فيه لسببين:
- المستصنع لم يشتر المواد , ولو أنه اشتراها وجب أن تكون معلومة متميزة وتدخل في ملك المستصنع , وهذا مجاف لطبيعة الاستصناع , فإن الذي يدخل في ملك المستصنع هو الشيء المصنوع بعد تمام صنعه وتسليمه , أما المواد فلا تدخل في ملكه قبل ذلك , ولا علاقة له بها.
- العمل وهو الصنعة أمر أساسي مطلوب في الاستصناع , وليس شرطا ملحقا , كما في نقل الأثاث لمن اشتراه.

وعلى أساس هذا النظر المعاصر , يكون المعقود عليه في الاستصناع المادة والعمل دون فصل لأحدهما عن الآخر , ودون تميز , فكلاهما داخل في حقيقة الاستصناع. ولكنه يكون:
- أشبه بعقد البيع لدخول المادة فيه.
- أشبه بعقد الإجارة لدخول العمل فيه ,
- أشبه بعقد السلم لكونه في الذمة.

وإنما اختلفت أقوال الفقهاء , فحمله بعضهم على البيع , وبعضهم على الإجارة , وبعضهم - وهم غير الحنفية - على السلم , لملاحظة تلك الأنواع من الشبه , لكن لكونه في الحقيقة ليس أيا من هذه الأنواع الثلاثة من العقود (البيع والإجارة والسلم) لم يسلم أي من الأقوال عن الاعتراض.

وبناء على ذلك , لا ينبغي في الاستصناع استعمال عبارات: البائع , والمشتري , والثمن. وإنما يقال: المستصنع , والصانع أو المقاول , والبدل النقدي. كما لا يقال في الإجارة: البائع , والمشتري , والثمن , وإن كانت الإجارة في حقيقتها نوعا خاصا من البيع , هو بيع المنفعة , لكن لتميزها عن البيع المطلق انفردت باصطلاحاتها الخاصة. وإن كان يمكن في الاستصناع استعمال العبارات المذكورة على سبيل التساهل.


جاء في المبسوط (12 / 139)
كان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة , وإنما ينعقد بيعا بالتعاطي إذا جاء به مفروغا منه.

وجاء في المحيط البرهاني (2 / 575)
(مخطوطة أوقاف بغداد)
إذا جاز الاستصناع فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة , بدليل أن محمدا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان , ولو كان مواعدة لما احتاج إلى ذلك , وأن محمدا قال: إذا فرغ الصانع من العمل , وأتى به كان المستصنع بالخيار , لأنه اشترى ما لم يره. فقد سماه شراء. وكذلك قال: إذا قبض الأجر فإنه يملك. ولو كانت مواعدة لكان لا يصير الأجر ملكا له. فدل على أنها تنعقد معاقدة لا مواعدة.

وجاء في بدائع الصنائع للكاساني (5 / 2)
قال بعضهم: الاستصناع مواعدة , وليس ببيع , ولا يصح , بدليل أن محمدا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان , وذلك لا يكون في العادات , وكذلك أثبت فيه خيار الرؤية , وهو يختص بالبياعات , وكذا يجري فيها التقاضي , وإن ما يتقاضى فيه الواجب لا الموعود.

وجاء في الاختيار لتعليل المختار (2 / 38)
وقد قيل: الاستصناع مواعدة , حتى يكون لكل منهما الخيار.

وجاء في شرح فتح القدير لابن الهمام (7 / 115)
اختلف المشايخ أنه مواعدة أو معاقدة , فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور: هو مواعدة , وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي , ولهذا كان للصانع أن لا يعمل , ولا يجبر عليه , بخلاف السلم , وللمستصنع أن لا يقبل ما يأتي به , ويرجع عنه.

في الدر المختار (4 / 213)
صح الاستصناع بيعا لا عدة , على الصحيح , فيجبر الصانع على العمل , ولا يرجع الآمر عنه , ولوكان عدة لما لزم.
وجاء في حاشية ابن عابدين عليه: هو بيع لا مواعدة ثم ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي إذ لو كان كذلك لم يختص بما فيه تعامل.

مراجع القول الثاني
جاء في بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2677)
قال بعضهم: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة. ووجهة أن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع جاز , ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز , لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي.
(وصحح الكاساني القول الآتي: وهو أنه عقد على مبيع في الذمة شرط فيها العمل)
ثم قال: العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما , وهذا العقد يسمى استصناعا , واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل. وأما إذا أتي الصانع بعين صنعها قبل العقد , ورضي المستصنع , فإنما جاز لا بالعقد الأول , بل بعقد آخر , وهو التعاطي بتراضيهما.

وجاء في شرح فتح القدير (7 / 115)
الصحيح من المذهب جواز الاستصناع بيعا , لأن محمدا ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة ,. . . وإثبات الخيار لكل منهما لا يدل على أنه ليس بيعا , ألا ترى أن في بيع المقايضة لو لم ير كل منهما عين الآخر كان لكل منهما الخيار , وحين لزم جوازه علمنا أن الشارع اعتبر فيها المعدوم موجودا , وفي الشرع كثير كذلك , كطهارة المستحاضة , وتسمية الذابح إذا نسيها.
ثم قال: والمعقود عليه العين دون العمل. . والدليل عليه قول محمد لأنه اشترى ما لم يره , ولذا لو جاء به مفروغا منه لا من صنعته , أو من صنعته قبل العقد جاز.

وجاء في الاختيار (2 / 38)
الأصح أن الاستصناع معاقدة لأن فيه قياسا واستحسانا , وذلك من خصائص العقود. وينعقد على العين دون العمل حتى لو جاء بعين من غير عمله جاز.

وجاء في الدر المختار (4 / 213)
يصح الاستصناع بيعا لا عدة على الصحيح , فيجبر الصانع على عمله , ولا يرجع الآمر عنه ولو كان عدة لما لزم , والمبيع هو العين لا عمله خلافا للبردعي فإن جاء الصانع بمصنوع غيره , أو بمصنوعه هو قبل العقد فأخذه صح ولو كان المبيع عمله لما صح.
وجاء في حاشية ابن عابدين عليه: المبيع في الاستصناع هو العين الموصوفة في الذمة , وليس بيع عمل , أي ليس إجارة على العمل. وفيها قال في النهر: وأورد على كونه بيعا أنه يبطل بموت الصانع , وهذا ينافي كونه بيعا. وأجيب بأنه إنما بطل لشبهه بالإجارة.

مراجع القول الثالث
جاء في الهداية وفتح القدير (7 / 115)
قال أبو سعيد البردعي المعقود عليه في الاستصناع العمل , لأن الاستصناع ينبئ عنه (أي لأن معنى اللفظ طلب الصنعة) , والأديم (أي الجلد في صناعة الحذاء) بمنزلة مادة الصبغ للصباغ , واستعمال الصباغ لتلك المادة لا يجعل المعقود عليه العين , بل المعقود عليه هنا العمل فقط.

وجاء في العناية أيضا (7 / 115)
قال أبو سعيد البردعي المعقود عليه في الاستصناع هو العمل , لأن الاستصناع طلب الصنعة , وهو العمل.

وجاء في العناية أيضا (7 / 116)
فإن قيل: أي فرق بين الاستصناع وبين عمل الصباغ؟ فإن في الصبغ العمل والعين (من العامل) , كما في الاستصناع , وذلك إجارة محضة.
أجيب بأن الصبغ (أي عملية الصبغ) أصل , والصبغ (أي المادة التي يصبغ بها) آلتة. فكان المقصود منه العمل , وذلك إجارة وردت على العمل في عين المستأجر. وها هنا (أي في الاستصناع) الأصل هو العين المستصنع المملوك للصانع , فيكون بيعا. ولما لم يكن له وجود من حيث وصفه إلا بالعمل أشبه الإجارة في حكم واحد لا غير.

مراجع القول الرابع
جاء في شرح فتح القدير (7 / 116)
وفي الذخيرة: هو إجارة ابتداء بيع انتهاء , لكن قبل التسليم بساعة , لا عند التسليم , بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع لا يستوفى المصنوع من تركته , ذكره محمد في كتاب البيوع. ولا يجبر الصانع على العمل لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عينه من قطع الأديم ونحوه , والإجارة تفسخ بالعذر , وهذا عذر , ألا ترى أن المزارع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته.

وجاء في حاشية ابن عابدين على الدر (4 / 213)
وفي الذخيرة الاستصناع إجارة ابتداء بيع انتهاء , لكن قبل التسليم بساعة لا عند التسليم. وأورد عليه أنه لو انعقد إجارة لأجبر الصانع على العمل , والمستصنع على إعطاء المسمى.
وأجيب بأنه إنما لا يجبر لأنه لا يمكنه (العمل) إلا بإتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه , والإجارة تفسخ بهذا العذر , ألا ترى أن الزارع له أن لا يعمل - أي في المزارعة - إن كان البذر من جهته , وكذا رب الأرض. ومثله في البحر والزيلعي.

وجاء في المحيط البرهاني (ج2 / ق 575)
ينعقد الاستصناع إجارة ابتداء , ويصير بيعا انتهاء متى سلم , قبل التسليم بساعة , بدليل أنهم قالوا بأن الصانع إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع , ولا يستوفى المصنوع من تركته , ولو انعقد بيعا ابتداء وانتهاء لم يبطل بموته كما في بيع العين , والسلم.
وقال محمد إن أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار , لأنه اشترى شيئا لم يره ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية , كما في الخياط والصباغ , ولو كان ينعقد بيعا عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية , لأنه يكون مشتريا ما رآه وخيار الرؤية لا يثبت في المشتري (كذا في الأصل ولعله: المرئي) , فعلمنا أنه ينعقد إجارة ابتداء وإن كان القياس يأباه , لأنه إجارة على العمل في ملك الآخر ثم يصير بيعا انتهاء قبل التسليم بساعة , وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعا. لكنا تركنا القياس في الكل , لمكان التعامل. والمعنى في ذلك أن المستصنع طلب منه العين والعمل جميعا , فلا بد من اعتبارهما جميعا , واعتبارهما جميعا في حالة واحدة متعذرة , لأن بين البيع والإجارة تنافيا , فجوزناها إجارة ابتداء , لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة , ويمنع انعقاد البيع , فاعتبرناها إجارة ابتداء , وجعلناها بيعا قبل التسليم , كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض: اعتبرناها هبة ابتداء عملا باللفظ , بيعا انتهاء عملا بالمعنى. ولذلك قلنا: لو مات قبل التسليم يبطل , كالإجارة , ومتى سلم كان المستصنع بالخيار , لأنه اشترى ما لم يره.

مراجع القول الخامس
المبسوط للسرخسي (15 / 84 , 85)
الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل.

تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي (2 / 538)
الاستصناع عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع.

بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2677)
قال بعضهم: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. قال: وهو الصحيح. لأن الاستصناع طلب الصنع , فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعا , فكان مأخذ الاسم دليلا عليه , ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما , وهذا العقد يسمى استصناعا , واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل.
وأورد الكاساني على هذا القول اعتراضا , قال: إن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع جاز , فلو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز , لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي.
ورد على ذلك قائلا: إذا أتى الصانع بعين قد صنعها قبل العقد , ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول , بل بعقد آخر , وهو التعاطي , بتراضيهما.


أقسام الاستصناع
هناك حاجات عظيمة وهامة للمجتمع الإنساني يصعب أو يتعذر كفايتها بغير طريق الاستصناع. وقد استخدمت المصارف الإسلامية صيغة جديدة لعقد الاستصناع وهي الاستصناع الموازي.


الاستصناع العادي:
يستطيع الاستصناع أن يلبي حاجات عظيمة وهامة للمجتمع الإنساني يصعب أو يتعذر كفايتها بغير طريق الاستصناع.

ففي نطاق الحاجات الشخصية ,: قد يحتاج الإنسان إلى لباس أو حذاء يناسبه لا يناسب غيره من الناس , لاختلاف مقاس جسمه أو مقاس رجله عن سائر الناس في مجتمعه. فلا يتمكن من الحصول على مطلوبه بعقد شراء إلا بعسر , وخاصة في المجتمعات الصغيرة التي لا تتوافر فيها السلع بكميات كبيرة ومقاسات متنوعة. وكذا لا يمكن تحصيل المطلوب بعقد إجارة لأن المواد الخام ربما كانت موجودة لدى الصانع نفسه ولا توجد عند غيره , كما هو معهود في عصرنا في صناعة الأحذية حيث لا تكون الجلود موجودة في العادة إلا عند الإسكاف.
كما قد يحتاج الإنسان أيضا إلى قطعة من الأثاث أو إلى سيارة أو منزل , يكون مختلفا عن المعهود - المصنوعات النمطية - لميزات يبتغيها تناسب ظروفه , أو تناسب ذوقة الخاص , فلا يجد شيئا يلبي تلك الحاجة يحصله بعقد شراء. وقد يحصله بعقد إجارة بأن يحصل من يصنعه بأجر , وهو يحضر المواد , لكن يجد أهون عليه أن يستصنعه بعقد استصناع يريحه فيه الصانع - وهو شخص أو شركة لديه الخبرة والقطع الفنية اللازمة - من عناء شراء المواد المطلوبة , وقد تكون كثيرة متنوعة , أو غير متوفرة.

وفي نطاق المصنوعات الضخمة , كالبواخر والطائرات العملاقة وربما القطارات والحافلات (الباصات) , ونطاق المصنوعات ذات التكلفة الباهظة , كالأقمار الصناعية , وشبكات الهاتف وأجهزتها الفنية , ومباني الإذاعة والتلفزيون وتجهيزاتها , لا يكون من اليسير اقتصاديا على الشركات التي تصنعها صناعة الشيء منها ثم عرضه للبيع وانتظار من يشترى , لأن المصنوع قد يكسد , فيتجمد رأس المال , وربما احتاج إلى تكلفة هائلة للتخزين والتأمين والصيانة , فبالاستصناع يكون الشيء من ذلك قد بيع مقدما فلا يكون الصانع عرضه لآثار تقلبات الأسعار التي قد تكون خطيرة , وقد تؤدي إلى إفلاس بعض المصانع أو إغلاقها , ويستطيع أن يقدم على إنتاج مصنوعاته وهو مطمئن إلى أنه لن يخسر بل سوف يحقق ربحا معلوما.

وفي نطاق الإنشاءات الضخمة على أراض يملكها المشترون , سواء كانوا من القطاع الخاص , أو كان المشتري هو الدولة , كبناء المباني الحكومية وتجهيز الطرق المعبدة والجسور والسكك الحديدية والمطارات والمستشفيات ونحوها , لا توجد صيغة لذلك أنسب من عقد الاستصناع , كما هو واضح من نشاطات قطاع المقاولات في عامة الشعوب المتحضرة.

وفي نطاق التجارة يستطيع التاجر أن يستصنع السلع التي يكثر رواجها بالمواصفات التي يرى أنها تجعل سلعة أكثر ملاءمة لأذواق المستهلكين ومتطلباتهم مما يزيد رواج تجارته. ويستطيع أيضا استصناع سلع جديدة - أي مخترعات جديدة , أو سلع موجودة لكي يقوم بإدخال تحسينات ذات بال عليها , ويطلب من المصانع التنفيذ , وهذا يؤدي إلى التقدم الصناعي للبلاد , بالإضافة إلى تمكين التجار ذوي الفطانة من تحصيل مكاسب جمة.

الاستصناع الموازي:
يستند عقد الاستصناع الموازي على أساس أنه لا يشترط في الاستصناع أن يكون العقد مع صانع. فيصح شرعا أن يتعاقد الراغب في الاستصناع مع شخص من غير أهل الصنعة , ثم يذهب هذا الملتزم للصنعة يبحث عن شخص يصنع له المطلوب فيأخذه ويسلمه للمستصنع.

ولم تتعرض كتب الحنفية لهذا الأمر , وإن كانت في تعريف الاستصناع تذكر أنه (التعاقد مع صانع. . إلخ) , وفي ذكر الأمثلة تذكر (التعامل مع صانع. .) , لكن ذلك لا ينبغي حمله على أن ذلك شرط لصحة العقد , خاصة وقد نصوا على أنه لو جاء بشيء من صنعة غيره كفى. وكذلك ذكر الفقهاء شروط الاستصناع وحصروها ولم ينصوا على اشتراط كون العقد مع الصانع.

كذلك لم تذكر كتب الفقه شيئا عن مسألة قيام الصانع باستصناع غيره. ولكن الفقهاء في باب الإجارة ذكروا أن الأجير إذا شرط عليه مستأجره أن يعمل بنفسه لزمه ذلك , لأن العامل يتعين بالشرط. فإن لم يشترط المستأجر ذلك فيجوز للأجير أن يستأجر من يعمل العمل. قالوا: لأن المستحق عمل في الذمة وهذا ما لم يكن العمل ملاحظا فيه خصوصية العامل , ومثال ذلك الاستئجار على نسخ الكتب الخطية. وكذا كل ما يختلف باختلاف العامل.

فكذلك يقال في الاستصناع إن للمستصنع أن يشترط في العقد عمل الصانع نفسه , أو عمل صانع معين , فإن قبل الطرف الآخر ذلك لزمه , ولم يكن له أن يستصنع غيره أما إن لم يشترط في عقد الاستصناع ذلك يكون للصانع أن يستصنع غيره من أهل الصنعة والقدرة الفنية وهذا ما لم تكن خصوصية الصانع ملاحظة في التعاقد , كما في بعض الصناعات التي تعتمد على القدرات الشخصية , وتختلف من صانع لآخر , ككتابة اللافتات الإعلانية بخط اليد , وصناعة التحف الفنية التي تميز بها الصانع المعين , والمطرزات اليدوية , ونحو ذلك.

وبمثل هذا أخذ القانون المدني الأردني في شأن المقاولة , ومنها الاستصناع. على أن ضمان العيوب للمستصنع والمسئولية تجاهه عن نقص الأوصاف المشروطة تبقى على الصانع في جميع الأحوال.
وهذا الرأي يتيح لأهل التجارات , وأرباب الأموال , وللمصارف الإسلامية , استعمال أسلوب التعاقد بالاستصناع الموازي بينهم وبين المحتاجين إلى المصنوعات من المستهلكين أو التجار.
والاستصناع الموازي معناه أن يعقد المصرف مثلا بخصوص السلعة الواحدة عقدين: أحدهما مع الراغب في السلعة يكون المصرف فيه في دور الصانع , والآخر مع القادر على الصناعة ليقوم بإنتاج سلعة مطابقة في المواصفات والتصاميم والشروط للمذكور في العقد الأول , ويكون البنك هنا في دور المستصنع.
ويمكن أن يكون الثمن في العقد الأول مؤجلا وفي العقد الثاني معجلا , فتكون فرصة التمويل للبنك مضاعفة , مما يتيح للمصرف قسطا من الربح وافرا.
ثم إذا تسلم المصرف السلعة من المنتج , ودخلت في حيازته , يقوم بتسلمها إلى المستصنع. ولا مانع من أن يعقد العقدان في نفس الوقت , أو يتقدم أي منهما.

محاذير تطبيق الاستصناع الموازي
يجب الحذر في الاستصناع المتوازي من أمور:
1- الربط بين العقدين بل يجب أن يكون كل من العقدين منفصلا عن الآخر وغير مبني عليه. فتكون مسئولية المصرف ثابتة قبل المستصنع. ولا شأن للمستصنع بالصانع في العقد الثاني. وإذا لم يقم الصانع بالعمل أو لم ينجزه في الموعد فعلى المصرف إنجازه.
2- يجب أن لا يكلف المصرف المستصنع بالتعاقد مع الصانع أو متابعته , ولا يوكله بالإشراف على المصنوع , أو قبضه , أو نحو ذلك.
وهذان الأمران لئلا يتقلص دور المصرف في العملية الصناعية , ويتحول من مستصنع حقيقة إلى مقرض بالفائدة.
3- يفضل أن لا ينتظر المصرف الإسلامي ليأتيه شخصان قد اتفقا بينهما أحدهما صانع والآخر مشتر يريد تمويلا ليدفع المصرف للصانع مقدما , ثم ينتظر الوفاء من الآخر بالزيادة. بل على المصرف أن يكون لديه (دائرة خاصة بالعمليات الاستصناعية) يأتي إليها الراغبون في إنشاء المباني , أو الصيانة العامة , أو تعبيد الطرق , أو مد سكك الحديد , أو بناء المطارات , أو صناعة السلع الاستهلاكية , أو غير ذلك. فيطلبوا منه هذه الأعمال استصناعا , ويكون للبنك علاقات مع من يستطيع تنفيذ مثل تلك الأعمال فيساومهم عليها , أو يعلن عن مناقصات لتنفيذها. فيعقد معهم عقود الاستصناع على مسئوليته الخاصة.
4- لا يجوز أن يضرب لتسليم السلعة أجل بعيد بغرض إتاحة الفرصة له لينتفع بالتمويل المبكر , لكن يكون الأجل فقط بقدر المدة التي يحتاج إليها في التصنيع فعلا , فإن زادت عن ذلك كان العقد سلما ووجبت مراعاة شروطه وأحكامه.


جاء في الهداية للمرغيناني (9 / 78)
إذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه ليس له أن يستعمل غيره , لأن المعقود عليه العمل من محل بعينه فيستحق عينه , كالمنفعة في محل بعينه. وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من يعمله , لأن المستحق عمل في ذمته , ويمكن إيفاؤه بنفسه , وبالاستعانة بغيره , كإيفاء الدين.
قال في العناية: وفيه تأمل , لأنه إن خالفه إلى خير بأن استعمل من هو أصنع منه في ذلك الفن , ينبغي أن يجوز.

وجاء في المغني لابن قدامة (5 / 438)
نقل الأثرم عن أحمد أنه سأله عن الرجل يتقبل العمل من الأعمال فيقبله بأقل من ذلك أيجوز له الفضل؟
قال: ما أدري , هي مسألة فيها بعض الشيء.
قلت: أليس الخياط أسهل عندك إذا قطع الثوب , أو غيره إذا عمل في العمل شيئا؟
قال: إذا عمل عملا فهو أسهل قال النخعي لا بأس أن يتقبل الخياط الثياب بأجر معلوم ثم يقبلها بعد ذلك أو يعين فيها , أو يقطع , أو يعطيه سلوكا أو إبرا أو يخيط فيها شيئا. فإن لم يعن فيها بشيء فلا يأخذن فضلا.
وهذا يحتمل أن يكون النخعي قاله بناء على مذهبه في أن من استأجر شيئا لا يؤجره بزيادة.
وقياس المذهب: جواز ذلك سواء أعان فيها بشيء أو لم يعن , لأنه إذا جاز أن يقبله بمثل الأجر الأول أو دونه , جاز بزيادة عليه , كالمبيع , وكإجارة العين.
وجاء في شرح المحلي على المنهاج في الفقه الشافعي (3 / 68)
الإجارة قسمان: واردة على عين كإجارة العقار أو دابة أو شخص معينين , وواردة على الذمة: كاستئجار دابة موصوفة , أوكأن يلزم ذمته خياطة أو بناء. ولو قال: استأجرتك لتعمل كذا: فإجارة عين , وقيل إجارة ذمة. ويشترط في إجارة الذمة تسليم الأجرة في المجلس , كرأس مال السلم , لأنها سلم في المنافع.


صيغة الاستصناع
ينعقد الاستصناع بلفظ البيع إن ذكرت باقي شروطه , لأن العبرة في العقود لمعانيها لا لصور ألفاظها.

وإطلاق البيع مع ذكر شروط الاستصناع , هو استصناع في المعنى فينعقد به.

واتفق الفقهاء على أن صيغة الاستصناع يجب أن تكون منجزة يترتب عليها أثرها في الحال. فلا يقبل التعليق على شرط , ولا الإضافة إلى زمن مستقبل.


لما كان الاستصناع عقدا يتم بين طرفين , فإن وجوده يتوقف على صيغة تفصح عن رغبة المتعاقدين على إنشائه , وتعبر بجلاء عن اتفاقهما على تكوينه , لأن النية - أو الرغبة - أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه , فلا بد من تعبير يدل عليه ويكشف عنه , وهو الإيجاب والقبول المتصلان المتوافقان.
وقد اتفق الفقهاء على صحة إيقاع الإيجاب بلفظ الاستصناع وكل ما دل عليه. وكذا على صحة القبول بكل لفظ يدل على الرضا بما أوجبه الأول , مثل: قبلت ورضيت ونحو ذلك.

وقد اتفق الفقهاء على أن صيغة الاستصناع كصيغة البيع يجب أن تكون منجزة يترتب عليها أثرها في الحال , فلا تقبل التعليق على شرط , ولا الإضافة إلى زمن مستقبل.


العاقدين في الاستصناع
لما كانت عقود المعاوضات المالية كالبيع والسلم والاستصناع والصرف تنشأ بين متعاقدين بإرادتهما , اشترط الفقهاء في كل واحد من العاقدين أن يكون أهلا لصدور العقد عنه , وأن يكون له ولاية إذا كان يعقد لغيره.


الاستصناع هو عقد معاوضة مالية ينشأ بين طرفين متعاقدين بإرادتهما الحرة , فلا بد لانعقاد الاستصناع ونفاذه أن يكون عاقداه من أهل العبارة المعتبرة في إنشاء العقود والالتزام بآثارها ويتحقق ذلك بتوافر شرطين فيهما:

شرط أهلية المعاملة والتصرف
يشترط أن يكون المتعاقدين أهلا للمعاملة والتصرف , أي أن يكون عندهما أهلية أداء. وأهلية الأداء التي تعني صلاحية الشخص لصدور الأقوال منه على وجه يعتد به شرعا. وتتحقق هذه الأهلية عند جمهور الفقهاء في الإنسان المميز العاقل الرشيد غير المحجور عليه بأي سبب من أسباب من الحجر , ولم يكتف الشافعية بالتمييز بل اشترطوا البلوغ فلا ينعقد عندهم بيع الصبي لعدم أهليته.

شرط الولاية
يشترط أن يكون للمتعاقدين ولاية على العقد أي أن يكون للعاقد سلطة تمكنه من تنفيذ العقد وترتيب آثاره عليه , ويكون ذلك إما بتصرف العاقد أصالة عن نفسه وإما أن يكون مخولا في ذلك بأحد طريقين:
- بالنيابة الاختيارية التي تثبت بالوكالة. ولابد فيها أن يكون كل من الوكيل والموكل أهلا لإنشاء عقود المعاوضات المالية.
- أو بالنيابة الإجبارية التي تثبت بتولية الشارع , وتكون لمن يلي مال المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء الذي جعلت لهم سلطة شرعية على إبرام العقود وإنشاء التصرفات المالية لمصلحة من يلونهم.


المعقود عليه
اختلف فقهاء الحنفية في حقيقة المعقود عليه في عقد الاستصناع , فذهب بعضهم إلى اعتبار العمل هو محل العقد.

بينما ذهب جمهور علماء المذهب إلى أن المعقود عليه هو العين وليس العمل.

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بأن الاستصناع عقد وارد على العمل والعين في الذمة.


الرأي القائل بأن المعقود عليه هو العمل
يرى أبو سعيد البردعي أن المعقود عليه في عقد الاستصناع هو العمل لأن الاستصناع استفعال من صنع أي طلب الصنع , وهو العمل , فتسمية العقد به دليل على أن المعقود عليه هو العمل , والأديم فيه والصرم بمنزلة الصبغ , أي بمنزلة الآلة للعمل , ولهذا يبطل عقد الاستصناع بموت أحد المتعاقدين , كما تبطل الإجارة بذلك (عند المذهب الحنفي) .

الرأي القائل بأن المعقود عليه هو العين
يرى جمهور العلماء أن المعقود عليه هو العين وليس العمل , وذكر الصنعة لبيان الوصف وهذا هو الأصح في المذهب الحنفي , وقد قالوا في توجيه هذا الرأي: إن المعقود عليه هو العين (أي المستصنع فيه) لأن الصانع لو جاء بالمستصنع فيه مفروغا عنه , ولا من صنعته (بأن كان من صنع غيره) أو من صنعته قبل العقد , فأخذه المستصنع كان جائزا أي أنه لا يشترط أن يقوم الصانع بعمله في العين بعد العقد , حتى لو جاء به مفروغا , لا من صنعته , أو صنعته قبل العقد , فأخذه المستصنع جاز.
وكذا لو عمل بعد العقد , وباعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز , ولو كان المعقود عليه العمل لما جاز , وكذا إذا جاء به مفروغا فللمستصنع الخيار لأنه اشترى ما لم يره سماه شراء , وأثبت فيه خيار الرؤية , وهو لا يثبت إلا في العين.

ثم ردوا على ما قاله أبو سعيد البردعي من قوله: (إنه يبطل بموت أحدهما) فقالوا: إنما بطل بموت أحدهما , لأن للاستصناع شبها بالإجارة من حيث إن فيه طلب الصنع , فلشبهه بالإجارة قلنا يبطل بموت أحدهما , ولشبهه بالبيع , وهو المقصود بالعقد أجرينا فيه ما ذكرنا من أحكام البيع.

الرأي القائل بأن المعقود عليه هو العمل والعين معا
ذهب الفقهاء المعاصرون إلى اعتبار أن المعقود عليه في عقد الاستصناع هو العمل والعين معا وقد جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع بجدة (1412هـ الموافق 1992م) : إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة , ملزم للطرفين , إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
فالاستصناع عقد مستقل خاص محله العين والعمل معا , وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين , وعن الإجارة التي محلها العمل , وعن السلم الذي محله العين الموصوفة في الذمة.

تغير صيغة العقد بحسب أحوال اجتماع العين والعمل
ليس كل اجتماع للعين والعمل يجعل العقد استصناعا بل لاجتماعهما أحوال:
الأول: أن يكون العمل بقدر تافه والعبرة كلها للعين
فالعقد على ذلك بيع وليس إجارة ولا استصناعا كمن يبيع غسالة كهربائية ويركبها في منزل المشترى لتصبح جاهزة للعمل , فهذا التركيب صنعة لأنه عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة , ومع ذلك فالعقد عقد بيع وليس استصناعا.
الثاني: أن تكون العين بقدر تافه والعبرة كلها للعمل
فالعقد على ذلك إجارة , وليس بيعا وليس استصناعا. كالخياط إذا أتيته بالقماش من عندك ليخيط ثوبا فهو يأتي بالخيوط والأزرار من عنده , فلا يجعل ذلك العقد استصناعا , لأن قيمة الخيوط والأزرار تافهة بالنسبة إلى العمل.
الثالث: أن تكون العين والعمل كل منهما بنسبة ذات بال
في هذه الحالة يكون لكل من العمل والعين قيمة معتبرة. وذلك هو الاستصناع.


أن يكون قد جرى التعامل في مثل هذا الشيء المستصنع فيه بالاستصناع
يشترط أن يكون المستصنع فيه مما يجري فيه تعامل الناس بالاستصناع , فلا يجوز الاستصناع في سلعة لم يجر العرف باستصناعها , ويجوز ذلك بأن يتعاقد عليها بطريق السلم أو بطريق البيع للشيء الحاضر أو بطريق الإجارة.


يشترط أن يكون المستصنع فيه قد جرى التعامل في مثله بالاستصناع: وسبب اشتراط ذلك أنه لما كان الاستصناع نوعا من بيع المعدوم , وهو في الأصل ممنوع شرعا , وإنما أجيز الاستصناع استحسانا لأجل تعامل الناس به , فما جرى التعامل باستصناعه يصح فيه , وما لا فلا , إذ التعامل دليل الحاجة.
وقد يكون الشيء مما يجرى فيه التعامل بالاستصناع في عصر , ثم تتغير الأمور , فلا يعود يجرى فيه التعامل , ومثال ذلك الآنية , فقد كان يجرى التعامل باستصناعها في عصر الأئمة , ولذلك مثلوا بالطست والقمقم والقدح والتور ونحوها , أما في عصرنا فقد ترك التعامل باستصناعها , لكثرة الأنواع الموجودة منها في الأسواق بحيث يأخذ الإنسان منها بعقد الشراء ما شاء , ولا يحتاج إلى استصناعه أصلا , فكان هذا هو سبب ترك التعامل بالاستصناع فيها.

ومما لم يجر التعامل باستصناعه في العصر الحاضر:
(1) صناعة المواد نصف المصنعة , كمسحوبات الحديد والألومنيوم وألواح الزجاج والخشب المضغوط (اللاتيه) والأسمنت والبلاط.
(2) الأجهزة المنزلية الإلكترونية ذات المواصفات المعتادة كأجهزة الراديو والتلفزيون والمسجلات والثلاجات والغسالات والمكانس الكهربائية , فإنها لكثرة المصنوع منها , وتوفره في جميع الأسواق بأصناف ومواصفات مختلفة بحيث تناسب كل حاجة وترضي كل ذوق , لا يحتاج إلى استصناع شيء منها ومثلها السيارات ذات المواصفات العادية.
(3) المواد الكيماوية والأدوية والعطور ومواد التجميل والورق بجميع أنوعه.
(4) صناعة السجاجيد ذات المواصفات العادية , والأقمشة.
(5) صناعة المواد للتمديدات الكهربائية من أصناف الأسلاك والمصابيح والمفاتيح وغير ذلك.

فهذه الأصناف وكثير أمثالها لا يجوز التعاقد عليها في العصر الحاضر بطريق الاستصناع طبقا للمذهب الحنفي , بل إما أن يتعاقد عليها بطريق السلم , وإما بطريق البيع للشيء الحاضر وإما بطريق الإجارة.
وقد رأي فضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا أن لا داعي لاعتبار هذا الشرط الآن , لتوفره بصفة عامة في تعارف الناس في كل ما تدخله الصناعة , بسبب الانفجار الصناعي الهائل ودخوله في جميع مجالات الحياة.

ويرى بعض العلماء المعاصرين أنه ينبغي أن يعتبر: قيد الحاجة , فما احتاج الناس إلى استصناعه حاجة عامة , أو حاجة فردية , ينبغي أن يجوز استصناعه , لأنهم إنما اشترطوا جريان التعامل لكونه (دليل الحاجة) فما تحققت الحاجة إليه ينبغي أن يجوز استصناعه إذا كان مما يمكن ضبطه بالوصف.


جاء في بدائع الصنائع (6 / 2678)
وأما شرائط جوازه فمنها أن يكون فيما يجرى فيه التعامل بين الناس من أواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف والنعال ولجم الدواب ونصول السيوف والسكاكين والقسي والنبل والسلاح كله والطست والقمقمة ونحو ذلك , ولا يجوز في الثياب لأن القياس يأبى جوازه , إنما جوازه استحسانا لتعامل الناس ولا تعامل في الثياب فيثبت جوازه فيما لهم فيه تعامل , ويبقى ما عداه موكولا إلى القياس , فإن حصل الاستصناع فيما ليس للناس فيه تعامل كان سلما واشترطت له شروط السلم من قبض الثمن , وذكر الأجل.

وجاء في الهداية (6 / 116)
ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس , كالثياب , لعدم المجوز. وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم.

وجاء في شرح فتح القدير على الهداية (6 / 115)
جوزنا الاستصناع استحسانا للتعامل. . وفيما لا تعامل فيه رجعنا إلى القياس , كأن يستصنع حائكا أو خياطا لينسج له ثوبا أو قميصا بغزل نفسه.

وجاء في العناية على الهداية (6 / 114)
جاز الاستصناع فيما فيه تعامل , لا فيما لا تعامل فيه , كما إذا طلب من الحائك أن ينسج له ثوبا بغزل من عنده , أو طلب من الخياط أن يخيط له ثوبا بكرباس من عنده.

وجاء في الاختيار (2 / 39)
إنما يجوز الاستصناع فيما جرت به العادة من أواني الصفر والنحاس والزجاج والعيدان والخفاف والقلانس والأوعية من الأدم والمناطق وجميع الأسلحة , ولا يجوز فيما لا تعامل فيه كالجباب ونسج الثياب , لأن المجوز له التعامل , على ما مر , فيقتصر عليه.

وجاء في بحث الشيخ مصطفي الزرقا (ص 36)
المقرر عند الحنفية أن الاستصناع إنما يجوز في الأشياء التي تعورف فيها , لأن العرف دليل الحاجة التي هي سبب الاستثناء , وفيما سوى المتعارف استصناعه لا يصح الاستصناع تمسكا بالأصل , وهو عدم جواز بيع المعدوم , فكيف يفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة؟
قال: ويبدو لنا في الجواب أن تنوع الحاجات والصناعات واختلاف الأشكال والأوصاف والخصائص في أصناف النوع الواحد إلى درجة كبيرة مما تفتقت عنه أذهان المخترعين في عصر الانفجار الصناعي هذا قد أدي إلى أن يصبح طريق الاستصناع متعارفا عليه في كل ما يصنع بوجه عام.


بيان جنس المصنوع ونوعه
يشترط في المستصنع فيه أن يوصف في العقد وصفا نافيا للجهالة , لئلا يكون فقد أحد الأوصاف المرغوبة مثار نزاع.


يشترط أن تذكر في عقد الاستصناع الأوصاف التي ينضبط بها المستصنع انضباطا كافيا لمنع التنازع , بذكر كل ما له أثر في الثمن , كبيان جنسه ونوعه وقدره , وجنس المواد المستعملة وأوصافها.

ومقتضى هذا الشرط أمران:
أ - أن ما لا يمكن ضبطه بالوصف لا يصح استصناعه. وقد تقدمت وسائل التصميم والوصف , بالخرائط الهندسية , ونماذج العقود , والخبرات الفنية بما يمكن من الضبط الكامل في أكثر المصنوعات. ويمكن أيضا استخدام النماذج المصنعة والتعاقد على أساسها.
ب - إذا لم تضبط الأوصاف أو لم تبين الكميات في العقد , يكون العقد فاسدا.


قال الكاساني في بدائع الصنائع (6 / 2678)
من شروط الاستصناع بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته , لأنه لا يصير معلوما بدونه.

وجاء في الاختيار (2 / 39)
يكتفي في الاستصناع بصفة معروفة تحتمل الإدراك , ولا بد في السلم من استقصاء الصفة على وجه يتيقن به الإدراك.

وجاء في شرح فتح القدير (7 / 114)
الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف أو مكعب أو أواني الصفر:
اصنع لي خفا طوله كذا أو سعته كذا , أو دستا , أي برمة , تسع كذا وزنها كذا على هيئة كذا , بكذا. . . إلخ.


ذكر الأجل
اختلف فقهاء الحنفية في مسألة تحديد الأجل في عقد الاستصناع , فاشترط أبو حنيفة أن لا يكون في عقد الاستصناع أجل
وذهب الصاحبان إلى صحة عقد الاستصناع سواء ضرب له أجل أم لا.
واشترط الفقه المعاصر تحديد الأجل في الاستصناع وهو ما ذهب إليه قرار مجمع الفقه الإسلامي.


اشتراط عدم تحديد الأجل عند أبي حنيفة
يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا ضرب المتعاقد للاستصناع أجلا صار سلما , حتى تعتبر فيه شرائط السلم: وهو قبض البدل في المجلس , ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم.
ووجه قول أبي حنيفة أن التأجيل يختص بالديون , لأنه وضع لتأخير المطالبة , وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة , وليس ذلك إلا السلم إذ لا دين في الاستصناع , ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق ثم إذا صار سلما يراعى فيه شرائط السلم , فإن وجدت صح سلما , وإلا لم يصح.

جواز تحديد الأجل عند الصاحبين
يري الصاحبان: أبو يوسف ومحمد أنه لا يشترط عدم ذكر الأجل في الاستصناع , بل انه يكون عقد استصناع على كل حال سواء ضرب له أجل أم لا ما دام الشيء المستصنع مما يجوز فيه الاستصناع.
واستدل الصاحبان بأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع , وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة , فلا يخرج بالأجل عن كونه استصناعا. أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة , وقد يقصد به تعجيل العمل , فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع , لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل , فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين , وذلك بالسلم.

اشتراط تحديد الأجل في قرار مجمع الفقه الإسلامي
ذهب مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع إلى أنه يشترط في عقد الاستصناع أن يحدد فيه الأجل , أي يشترط ذكر أجل لتسليم الشيء المصنوع.
ذلك أن هذا العقد قائم على العمل والعين المؤجلين عادة , وكل ما هو شأنه لا بد فيه من تحديد المدة لئلا يؤدي إلى النزاع والخصام. فالصانع قد يتأخر في التنفيذ والمستصنع يريد التعجيل , فإذا لم يكن في العقد تحديد للمدة أدى بلا شك إلى نزاع , واتفق العلماء على منع كل ما يؤدي في العقود إلى النزاع.


جاء في بدائع الصنائع للكاساني (7 / 2678)
من شروط الاستصناع أن لا يكون فيه أجل , فإن ضرب للاستصناع أجلا صار سلما حتى يعتبر فيه شرائط السلم , وهو قبض البدل في المجلس , ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم. وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد هذا ليس بشرط , وهو استصناع على كل حال , ضرب فيه أجلا أو لم يضرب.
ولو ضرب للاستصناع فيما لا يجوز فيه الاستصناع - كالثياب ونحوها - أجلا , ينقلب سلما في قولهم جميعا.
وجه قولهما أن العادة جارية لضرب الأجل في الاستصناع , وإنما يقصد به تعجيل العمل , لا تأخير المطالبة , فلا يخرج به عن كونه استصناعا. أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة , وقد يقصد به تعجيل العمل , فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال , بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل , فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين , وذلك بالسلم.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنه إذا ضرب فيه الأجل فقد أتى بمعنى السلم , إذ هو عقد على مبيع في الذمة مؤجلا , والعبرة في العقود لمعانيها لا لصيغ الألفاظ. ولأن التأجيل يختص بالديون , لأنه وضع لتأخير المطالبة , وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه المطالبة , وليس ذلك إلا السلم.

وجاء في الهداية (7 / 116)
لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما , ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق.

وجاء في العناية (7 / 117)
إذا ضرب للاستصناع أجل فيما فيه تعامل فإنه يكون سلما عند أبي حنيفة رحمه الله , خلافا لهما. وأما إذا ضرب الأجل فيما ليس فيه تعامل فإنه يصير سلما بالاتفاق. والمراد بضرب الأجل ما يذكره على سبيل الاستمهال , أما المذكور على سبيل الاستعجال , بأن قال: على أن تفرغ منه غدا أو بعد غد لا يصيره سلما , لأن ذكره حينئذ للفراغ لا لتأخير المطالبة بالتسليم. . .
لهما في الخلافية أن اللفظ حقيقة في الاستصناع. وتقريره أن ذكر الاستصناع يقتضي أن لا يكون سلما , لأن اللفظ حقيقة فيه , وهو ممكن العمل , وذكر الأجل يقتضي أن يكون سلما , لكن ليس بمحكم فيه , بل يحتمل أن يكون للتعجيل , فقد اجتمع المحكم والمحتمل , فيحمل الثاني على الأول , بخلاف ما لا تعامل فيه فإنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح.

وجاء في الاختيار لتعليل المختار (2 / 39)
إن ضرب (للاستصناع) أجلا صار سلما (أي عند أبي حنيفة رحمه الله) فيشترط له شرائط السلم , لأنه أتى بمعنى السلم فيكون سلما , لأن العبرة للمعاني لا للصور , ولأنه أمكن جعله سلما , فيجعل سلما لورود النص بجواز السلم دون الاستصناع. وقال أبو يوسف ومحمد لا يصير بضرب الأجل سلما , كما لا يصير السلم بحذف الأجل استصناعا , وحذف الأجل ليس من خواص الاستصناع.

وجاء في الدر المختار ورد المحتار (4 / 214)
ولم يصح الاستصناع فيما لم يتعامل فيه , إلا بأجل , كما مر , أي بأجل مماثل كما مر في السلم من أن أقله شهر , فيكون سلما بشروطه. فإن لم يصح الأجل بأن كان أقل من شهر فسد إن ذكر الأجل على سبيل الاستمهال , فإن كان للاستعجال: كعلى أن تفرغ منه غدا كان صحيحا , والمراد بكونه للاستعجال بأن لم يقصد به التأجيل والاستمهال , بل قصد به الاستعجال بلا أمهال.

وجاء في مجلة الأحكام العدلية (م 389)
كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق , وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلما , وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم , وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا.


مدى اللزوم في عقد الاستصناع
الاستصناع عقد غير لازم عند أكثر الحنفية في حالة ما قبل العمل في السلعة المطلوب صنعها , وكذلك في حالة ما بعد العمل فيها وقبل إحضارها ورؤية المستصنع لها.

وذهب أبو يوسف إلى أنه إن تم الصنع وكان مطابقا للأوصاف المتفق عليها يكون العقد لازما. وأخذت مجلة الأحكام العدلية بهذا الرأي وتوسعت فيه , فاعتبرت لزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاده إلا إذا جاء المصنوع مغايرا للأوصاف المبينة في العقد فيحق للمستصنع الفسخ بمقتضى فوات الوصف المشروط لا بمقتضى عدم اللزوم في العقد.
وكذلك اعتبر مجمع الفقه الإسلامي أن العقد ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.


الاستصناع عقد غير لازم عند أكثر الحنفية
والاستصناع عند أكثر الحنفية عقد غير لازم قبل الصنع , كما أنه غير لازم بعد الفراغ من الصنع وقبل رؤية المصنوع , ويثبت لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه أو العدول عنه.
فيحق للمستصنع أن يفسخ العقد في أي وقت شاء قبل الرؤية , وله فسخه عند الرؤية , لأنه اشترى ما لم يره.
كما يثبت الخيار للصانع قبل الشروع في العمل وبعده , ما دام الشيء المصنوع في يده , ولم يقدمه إلى المستصنع , فإن قدمه سقط خياره , ولو باع الصانع لآخر ما صنعه قبل أن يقدمه للمستصنع جاز , لأن العقد غير لازم , ولأن المعقود عليه ليس هو عين المصنوع , وإنما مثله في الذمة.
فإن انتهى الصانع من المصنوع على الصفة المشروطة , ورآه المستصنع , فيبقى للمستصنع حق خيار الرؤية في الأصح عند أكثر الحنفية.

الاستصناع عقد لازم عند بعض فقهاء الحنفية وفي الرأي المعاصر
وقال الإمام أبو يوسف أن الاستصناع عقد لازم , وليس لأحد العاقدين الرجوع فيه إلا برضا الآخر , وإذا توفرت فيه الشروط المتفق عليها فلا يحق للمستصنع رفضه.
وأخذت مجلة الأحكام العدلية بهذا الرأي وتوسعت فيه , فقد جاء في مادتها 392: إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع , وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا.
وعليه , فإنه يعتبر لزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاده إلا إذا جاء المصنوع مغايرا للأوصاف المبينة في العقد فيحق للمستصنع الفسخ بمقتضى فوات الوصف المشروط لا بمقتضى عدم اللزوم في العقد.

وهذا ما ذهب إليه أيضا قرار مجمع الفقه الإسلامي لمنع المنازعات , ودفعا للضرر عن الصانع فيما صنع فعقد الاستصناع إذا استكمل أركانه وشروطه أصبح عقدا لازما , وليس لأحد العاقدين فسخه بدون رضا العاقد الآخر , لأن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ولما قد يكون من الضرر على العاقد الآخر:
- فالمستصنع قد لا يكون لديه مهلة من الوقت ليستصنع صانعا آخر , وقد يحمله ذلك خسائر جمة ,
- والصانع قد لا يجد أحدا يشترى منه المصنوع , لأنه ربما يكون قد صنع بمواصفات خاصة لا تلائم أحدا غير المستصنع , أو كان الغرض منه لا يفيد أحدا غير المستصنع.


جاء في الهداية (7 / 116)
والمستصنع بالخيار إذا رأى المصنوع: إن شاء أخذه وإن شاء تركه , لأنه اشترى شيئا لم يره ولا خيار للصانع. كذا ذكره في المبسوط , وهو الأصح. وعن أبي حنيفة أن للصانع الخيار أيضا لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر وهو قطع الجلد وغيره.

وجاء في العناية (7 / 116)
المستصنع بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه لأنه اشترى ما لم يره , ومن هو كذلك فله الخيار.
ولا خيار للصانع , كذا في المبسوط. فيجبر على العمل , لأنه بائع باع ما لم يره ومن هو كذلك لا خيار له. وهو الأصح بناء على جعله بيعا لا عدة.
وعن أبي حنيفة أن له الخيار أيضا إن شاء فعل وإن شاء ترك , دفعا للضرر عنه , لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر , وهو قطع الصرم وإتلاف الخيط.
وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما , أما الصانع فلما ذكرنا أولا , وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله بقطع الصرم وغيره ليصل إلى بدله , فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع , لأن غيره لا يشتريه بمثله , ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرا ولم يأخذه فالعامي لا يشتريه أصلا.

وجاء في بدائع الصنائع للكاساني
أما صفة الاستصناع فهي أنه عقد غير لازم قبل العمل , من الجانبين جميعا , بلا خلاف , حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل , كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين , أن لكل واحد منهما الفسخ , لأن القياس يقتضي أن لا يجوز , لما قلنا , وإنما عرفنا جوازه استحسانا لتعامل الناس , فبقي اللزوم على أصل القياس.
وأما بعد الفراغ من العمل وقبل أن يراه المستصنع فكذلك , حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء , كذا ذكر في الأصل , لأن العقد ما وقع على عين المعمول بل على مثله في الذمة لما ذكرنا أنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز , ولو باعه الصانع وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك. ولو استهلكه قبل الرؤية فهو كالبائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم. كذا قال أبو يوسف.
فأما إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع , وللمستصنع الخيار , لأن الصانع بائع ما لم يره فلا خيار له , وأما المستصنع فهو مشتر ما لم يره فكان له الخيار. . . ولأن الخيار كان ثابتا لهما قبل الإحضار لما ذكرنا أن العقد غير لازم , فالصانع - بالإحضار - أسقط خيار نفسه , فبقي خيار صاحبه على حاله , كالبيع الذي فيه الخيار للعاقدين إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر , كذا هذا. هذا جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
وروي عن أبي حنيفة رحمة الله أن لكل واحد منهما الخيار.
وروى عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعا.
وجه رواية أبي يوسف أن الصانع قد أفسد متاعه وقطع جلده , وجاء بالعمل على الصفة المشروطة , فلو كان للمستصنع الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع , بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل , فقال المستصنع لا أريد , لأنا لا ندرى أن العمل يقع على الصفة المشروطة أم لا , فلم يكن الامتناع منه إضرارا بصاحبه , فثبت الخيار.
ووجه رواية أبي حنيفة أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه , وأنه واجب.
والصحيح جواب ظاهر الرواية , لأن في إثبات الخيار للصانع ما شرع له الاستصناع , وهو دفع حاجة المستصنع , لأنه متى ثبت الخيار للصانع , فكل ما فرغ عنه يبيعه من غير المستصنع , فلا تندفع حاجة المستصنع.
وقول أبي يوسف أن الصانع يتضرر بإثبات الخيار للمستصنع مسلم , ولكن ضرر المستصنع بإبطال الخيار فوق ضرر الصانع بإثبات الخيار للمستصنع , لأن المصنوع إذا لم يلائمه وطولب بثمنه لا يمكنه بيع المصنوع من غيره بقيمة مثله , ولا يتعذر ذلك على الصانع , لكثرة ممارسته وانتصابه لذلك. ولأن المستصنع إذا غرم ثمنه ولم تندفع حاجته لم يحصل ما شرع له الاستصناع , وهو اندفاع حاجته , فلا بد من إثبات الخيار له.

وجاء في المحيط البرهاني (ج2 ق575)
الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة. . . (ثم ذكر الروايات , ثم قال:) . . . ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما , بل يجبر الصانع على العمل , ويجبر المستصنع على القبول.
وجه ما روي عن أبي يوسف أنه يجبر كل واحد منهما , أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر على العمل وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع , لأنه عسى لا يشتريه غيره أصلا , أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن , فيجبر على القبول دفعا للضرر عن الصانع.

وجاء في مجلة الأحكام العدلية (م 392)
إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع فيه , وإذا لم يكن على الأوصاف المطلوبة كان المستصنع مخيرا.

وجاء في الدر المختار (4 / 213)
يجبر الصانع على عمله ولا يرجع الآمر عنه. قال ابن عابدين تبع في ذلك الدرر ومختصر الوقاية. وقال: قال في الدرر تبعا لما في خزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله والآمر لا يرجع عنه.

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي حول الاستصناع (رقم 66 / 3 / 7)
إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ملزم للطرفين إذا توافرت الأركان والشروط.


الشرط الجزائي في عقد الاستصناع
يجوز أن يتضمن عقد استصناع شرطا جزائيا بمقتضي ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.


المشهور عند الحنفية أن عقد الاستصناع عقد غير لازم. وأن أي خلل يطرأ يمنع الصانع من تنفيذ ما تعاقد عليه , فلكل واحد من الطرفين الخيار في فسخ العقد.

أما المتأخرون من الحنفية فقد اعتمدوا القول الذي يقول بلزوم العقد فإذا ظهرت موانع خارجية عن إرادة الصانع , كحرق المصنع , أو غرق السفينة , أو قطع علاقات مع بعض الدول الموردة للمادة الخام المطلوب صنعها , فالمستصنع هنا بالخيار إن شاء انتظر الصانع حتى يتمكن من الإنجاز , وإن شاء فسخ العقد.
أما إذا كانت الموانع ناشئة عن إرادة الصانع , كسوء التنظيم والعجز عن إدارة الحضيرة أو التقاعس في احترام المواعيد. . فإن هذا يسبب تأخيرا في إنجاز المشروع وضررا ماديا يلحق بالمستصنع.

يقول الشيخ مصطفى الزرقا وقد ازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية , فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل.
فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد الضروري لتعطل المعمل وعماله , وكذا لو تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته لتضرر المستصنع بخسارة وقد تكون فادحة. . . ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الصانع بتنفيذ التزامه الأصلي , لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة , ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا.
وهذا ما ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي.
وأصبح الشرط الجزائي متعارفا بين الصناع وفي كل المقاولات وحافزا قويا يدفع الصانع على احترام المواعيد وخير معين على تنظيم سير الحركة الاقتصادية في كل بلد.

وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الشرط الجزائي في عقد الاستصناع حيث جاء في قرار دورته السابعة بشأن الاستصناع في البند 4: يجوز أن يتضمن عقد استصناع شرطا جزائيا بمقتضي ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.

وعلى هذا الأساس يجوز في عقد الاستصناع أن يشترط المستصنع أن يخصم من استحقاقات الصانع لديه مبلغا محددا عن كل يوم تأخير في تسليم المصنوع جاهزا في موعده , ولكن لا يزاد في تقدير المبلغ عن حدود الضرر المتوقع.
وإذا حصل التأخير المذكور حق للمستصنع أن يطالب بالخصم , ما لم يكن التأخير متسببا عن ظروف قاهرة , أو عن تأخير المستصنع دفع الأقساط , أو غير ذلك من تصرفات المستصنع.
ويجوز للصانع أيضا اشتراط مثل ذلك في حال تقصير المستصنع في أداء التزاماته غير المالية. ولا يجوز أن يشترط ذلك في حالة التقصير في أداء الالتزامات المالية لأن ذلك يؤول إلى الربا.


جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري (5 / 354)
باب ما يجوز من اشتراط والثنيا في الإقرار , والشروط التي يتعارفها الناس بينهم. وقال ابن عون عن ابن سيرين قال الرجل لكريه: أدخل ركابك , فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم , فلم يخرج , فقال شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه.
قال ابن حجر حاصله أن شريحا قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه. وخالفه الناس. ووجهه بعضهم بأن صاحب الجمال يرسلها إلى المرعى , فإذا اتفق مع التاجر (على السفر عليها) في يوم بعينه , فأحضر الجمال , فلم يتهيأ للتاجر السفر أضر ذلك بحال الجمال لما يحتاج إليه من العلف. فوقع بينهم التعارف على مال معين يشترطه التاجر على نفسه إذا أخلف ليستعين به الجمال على العلف. ثم قال ابن حجر وقال الجمهور: هي عدة فلا يلزم الوفاء بها. والله أعلم.


طريقة دفع البدل النقدي الثمن في الاستصناع
لا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل الثمن كله عند العقد , بل يجوز تقسيط الثمن إلى أقساط معلومة الآجال محددة أو تأجيله كله.


يجوز في الاستصناع الاتفاق على تعجيل الثمن كله , أو تعجيل بعضه وتأجيل بعضه , أو تأجيله كله , سواء على دفعة واحدة , أو على أقساط متساوية أو متفاوتة.
فإن لم يشترط شيء من ذلك في العقد اتبع العرف , فإن لم يكن عرف وجب تسليم الثمن بعد تسليم العين فورا. ويجوز للصانع حبس المصنوع حتى يتسلم البدل النقدي , كما في سائر البيوع , ما لم يكن الشيء المصنوع مما يلزم الصانع تركيبه في ملك المستصنع بشرط أو عرف , فيكون دفع الثمن بعد تمام التركيب.
وقد يقال: إن تأجيل الثمن أو بعضه يجعل الاستصناع من بيع دين بدين , لأن كل من المستصنع وبدله يكون في الذمة , وبيع الدين بالدين ممنوع شرعا.
والجواب أن الاستصناع ليس بيعا صرفا وإنما هو إجارة مشوبة بالبيع , أو بيع مشوب بالإجارة. فلا يأخذ أحكامه من البيع وحده. وحيث إن البدل في الإجارة لا يجب دفعه مقدما بل يجوز تأجيله وتقسيطه إجماعا , فكذلك البدل في الاستصناع. ويؤكد هذا أن دليل الاستصناع التعامل الراجع للإجماع ولم يزل تعامل المسلمين في الاستصناع جاريا على عدم الالتزام بتقديم الثمن.


جاء في العناية للبابرتي (7 / 114)
الاستصناع أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: أصنع لي شيئا صورته كذا وقدره كذا بكذا درهما , ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها أو لا يسلم.

وجاء في حاشية ابن عابدين (4 / 213)
في التتارخانية: لا يجبر المستصنع على إعطاء الدراهم وإن شرط تعجيله.
هذا إذا لم يضرب له أجلا فإن ضرب له أجلا صار سلما حتى يعتبر فيه شرائط السلم.

وجاء في مجلة الإحكام العدلية (م 391)
لا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حالا أي وقت العقد.


الخيارات في عقد الاستصناع
إذا قدم الصانع الشيء المصنوع المتعاقد عليه , وتبين فوات وصف مرغوب فيه اشترطه المستصنع عند العقد يكون للمستصنع حينئذ خيار الوصف , فله أن يقبله وله أن يفسخ العقد. وكذلك يكون للمستصنع خيار العيب إذا ظهر في المصنوع عيب , فله رده وفسخ العقد أو إمساكه.
واختلف الفقهاء في خيار الرؤية , فيرى أبو يوسف أنه لا يثبت في عقد الاستصناع ما دام المستصنع متمتعا بخيار الوصف وخيار العيب. وهو خلاف مذهب أبي حنيفة حيث إن العقد غير لازم في المشهور عندهم ويثبت فيه خيار الرؤية للمستصنع.

وذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى قول أبي يوسف فمنعوا عدول المستصنع بعد التعاقد بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف لما قد يترتب عليه من أضرار جسيمة على الطرف الآخر. كما منعوا أن يشترط الصانع البراءة من كل عيب يظهر في المصنوع.


خيار العيب وخيار فوات الوصف المشروط في الاستصناع
ذهب الفقهاء إلى ثبوت خيار العيب وخيار الوصف للمستصنع. فإذا جاء الصانع بالشيء المطلوب مصنوعا , ولكن تبين أن فيه عيبا , أو أنه قد فقد فيه بعض الأوصاف المرغوبة للمستصنع التي شرطها في العقد , أو أن فيه مخالفة للأصول المتعارف عليها في صناعة مثل ذلك الشيء , ولم يكن الصانع اشترط البراءة من ذلك العيب أو المخالفة , يكون الصانع مسئولا , ولا يلزم المستصنع قبول ذلك الشيء المصنوع على حاله.
فإن لم يتمكن الصانع من إتمام النقص أو إصلاح العيب على وجه سليم , ومطابق للمواصفات المتفق عليها والأصول المتعارف عليها , فيكون للمستصنع المطالبة بمصنوع آخر بديل مستكمل للشروط والأوصاف المتفق عليها أو فسخ العقد. وإن تراضيا على تعويض عن النقص جاز.

خيار الرؤية
وإذا أحضر الصانع العين للمستصنع على الصفة المشروطة , ورآها. فقد اختلفت الرواية في اللزوم وعدمه بالنسبة لكل من الصانع والمستصنع إلى ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أنه إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع , وللمستصنع الخيار أي أنه يكون العقد لازما بالنسبة للأول دون الثاني. وذلك لأن الصانع بائع للمستصنع ما لم يره , فلا خيار له. وأما المستصنع فمشترى ما لم يره , فكان له خيار الرؤية , إذا رآه.
وإنما كان كذلك لأن العقد غير لازم , فالخيار كان ثابتا للصانع والمستصنع قبل الإحضار. والصانع بإحضاره المصنوع أسقط خيار نفسه فبقي خيار صاحبه (وهو المستصنع) على حاله , كالبيع الذي شرط فيه شرط الخيار للمتعاقدين , إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر , كذا هذا.
وهذا هو جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنه. وهو القول الراجح في المذهب وعند بعض الفقهاء المعاصرين. وعلى أساسه يسقط خيار الصانع بعد إحضار السلعة إلى المستصنع , ويثبت خيار الرؤية للمستصنع لأنه يشتري ما لم يره.

الرواية الثانية: روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن لكل واحد منهما الخيار. أي أن العقد لا يكون لازما حتى بعد إحضار المصنوع , ووجه هذه الرواية أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه ودفع الضرر واجب.

الرواية الثالثة: روى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا خيار لهما , أي أن العقد يكون لازما وذلك لأن الصانع قد أفسد متاعه , وقطع جلده , وجاء بالعمل على الصفة المشروطة فلو كان للمستصنع الامتناع عن أخذه لكان فيه إضرار بالصانع.
بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل , فقال المستصنع: لا أريد , لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة أو لا يقع , فلم يكن الامتناع منه إضرار بصاحبه فثبت الخيار.

وقد جاء في بحث العلامة الشيخ مصطفى الزرقا حول هذا الموضوع قوله:
(اليوم بعد أن أصبح نقل العملات النقدية وحساباتها من المشارق إلى المغارب يتم بفركة زر , وأصبحت الصفقات التجارية الضخمة تعقد على الملايين , وأصبح التاجر والمستصنع والصانع بالوسائل الآلية الهائلة يبني حساباته وحقوقه والتزاماته فيما لديه وما عليه وما إليه , على توقيت زمني دقيق بحيث لو اختلت معه حلقة من ذلك لجرت سلسلة من المشكلات في ارتباطاته المتداخلة والمتشابكة.
نقول: في ظروف كهذه اليوم يجب أن يطمئن كل متعامل ومتعاقد إلى أن ما تعاقد عليه قد ثبت ويستطيع أن يبني عليه. . . فهذا يقتضى أن يكون عقد الاستصناع لازما منذ انعقاده. إذ إن الاستصناع لم يبق محصورا في الحاجات البسيطة كالخف والحذاء. . . بل أصبح العدول من أحد الطرفين بعد التعاقد بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف , قد يترتب عليه أضرار عظيمة جسيمة للطرف الآخر , مما يزعزع مبدأ استقرار المعاملات الذي هو من أهداف الفقه الإسلامي) .

اشتراط البراءة من العيوب
أما في خصوص مسألة اشتراط البراءة من العيوب , فلم يتعرض الحنفية ولا غيرهم لهذه المسألة ضمن كلامهم في الاستصناع وتعرض لها فضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا ضمن بحثه في الاستصناع , فقال: (أرى أن اشتراط البائع في عقد الاستصناع عدم مسئوليته عن عيوب المبيع الذي سيصنعه أو اشتراطه تحديد هذه المسئولية , لا يصح مطلقا , بل يكون شرطا باطلا , ويبقى الصانع مسئولا مسئولية كاملة عن كل عيب يوجد في المصنوع. وإن كان هذا الاشتراط في البيع العادي معقولا , لأن هذا الشرط يحمي سوء النية من البائع الصانع , ويفسح له مجالا لعدم المبالاة بإتقان عمله والتزام الدقة التقانية (التكنولوجية) فيه , كما يقتضيه العقد. وهذا ينعكس ضررا بالغا على المشترى الذي بنى عقده على الثقة بالمتعاقد معه ولم يقبل بأداء الثمن الذي قد يكون باهظا جدا إلا على أساس تلك الثقة وافتراض حسن النيه وعدم الإهمال.
وهذا الاستثناء في عقد الاستصناع من جواز اشتراط عدم مسئولية البائع عن عيوب المبيع سببه أن المبيع في عقد الاستصناع معدوم حين العقد وسيصنعه البائع نفسه , فيكون قصده من هذا الشرط حماية نفسه من مسئولية الإهمال أو الخطأ أو الجهل بأصول صنعته التي يمارسها على أساس متقن لها) .

وعلى هذا الأساس لا يجوز في الاستصناع اشتراط البراءة من كل عيب يظهر في المصنوع , وإن أجاز ذلك الحنفية في البيع المطلق. والفرق بين الأمرين:
- أن البيع يكون واردا على شيء موجود قد يكون فيه عيوب لا يعلم بها البائع , فيرغب في التخلص من تبعتها لئلا تكون مثار نزاع بينه وبين المشتري.
- أما في الاستصناع فإن الصانع هو الذي يتولى العمل , ويتمكن من الحيلولة دون دخول العيوب في المصنوع سواء من جهة المواد أو من جهة الصنعة , فاشتراطه البراءة من جميع العيوب يتيح له الغش في المواد وفي العمل أو يتيح له تغطية جهله بأصول الصنعة , والتهرب من نتائج تصديه لما هو ليس من أهله.

أما اشتراط البراءة من اشتمال المصنوع على عيب معين يبينه للمستصنع , فهو يجوز عند بعض الفقهاء المعاصرين كما يجوز ذلك في البيع المطلق. ومثاله أن يكون في المواد المصنوع منها تلف أو ضعف , أو تكون مستعملة لا جديدة , أو يكون في الصنعة نقص من ناحية معينة , فإن حصل اشتراط ذلك برئ الصانع من المسئولية عن ذلك النقص.


جاء في مجلة الأحكام العدلية (م 392)
إذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة كان المستصنع مخيرا.


بيع الصانع الشيء المصنوع لغير المستصنع
يجوز للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع ويرضى به , لأن المستصنع اشترى شيئا موصوفا في الذمة , فإذا صنع له شيئا آخر مستوفيا للشروط المتفق عليها وسلمه في الأجل , فقد أدى ما عليه ولم يخل بالعقد.

ولا يجوز ذلك بعد رؤية المستصنع ورضاه بالمصنوع لأن المصنوع تعين بالرؤية والقبول.


إن قام الصانع بصناعة الشيء المطلوب , وقبل أن يتسلمه المستصنع باعه الصانع لشخص آخر أو استهلكه , أو حجزه لنفسه , فللمسألة حالتان:
الأولى: أن يبيعه قبل أن يراه المستصنع ويرضى به , فلا بأس بذلك , إن كان يمكنه صناعة الشيء المطلوب وإتمامه قبل أن يحل الموعد المتفق على تسليمه فيه.
وذلك لأن المستصنع اشترى شيئا موصوفا في الذمة , غير متعين في هذا الشيء الذي صنعه بالذات. فإذا صنع له شيئا آخر مستوفيا للشروط المتفق عليها وسلمه في الأجل , فقد أدى ما عليه ولم يخل بالعقد.

الثانية:
أن يبيعه بعد أن رآه المستصنع ورضي به , فليس للصانع أن يفعل ذلك , لأن المصنوع تعين بالرؤية والقبول , ودخل بذلك في ملك المستصنع.

وهذا التفصيل كما لا يخفى إنما يجرى في المصنوعات المنقولة المنفصلة عن ملك المستصنع , أما إن كان المصنوع متصلا بملك المستصنع , كالبناء في أرض أو نحو ذلك , فليس للصانع بيعه , لأنه يوجد على ملك المستصنع من أول الأمر فيكون في حكم المتعين.


جاء في الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4 / 213)
ذكر في كافي الحاكم ما نصه: المستصنع بالخيار إذا رآه مفروغا منه , وإذا رآه فليس للصانع منعه ولا بيعه , وإن باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز بيعه.

جاء في البدائع:
أما بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع , فكذلك , (أي للصانع الخيار) حتى كان للصانع أن يبيعه ممن يشاء.

وقال صاحب الدرر:
لا يتعين المبيع للآمر , فصح بيع الصانع لمصنوعه قبل رؤية آمره , ولو تعين لما صح بيعه.

وفي الفتاوى الهندية (4 / 517)
إذا رآه المستصنع ورضيه ليس له الرد بعد ذلك , وللصانع أن يبعه قبل أن يرضاه المستصنع , كذا في التهذيب.

وجاء في شرح فتح القدير (7 / 117)
للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع لأن العقد غير لازم , وأما بعد ما رآه فالأصح أنه لا خيار للصانع بل إذا رآه المستصنع وقبله أجبر على دفعه له لأنه بالآخرة بائع والله أعلم.

وفي العناية (7 / 116)
لا يتعين المستصنع إلا باختيار المستصنع حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز.


الفسخ للأعذار
ينتهي عقد الاستصناع عند إتمام صنع الشيء وتقديمه إلى المستصنع , وقبوله له.
كما ينتهي العقد بفسخه من أحد المتعاقدين في حالة الظروف القاهرة التي تمنع التنفيذ.


الفسخ للأعذار
إذا طرأت بعد انعقاد عقد الاستصناع ظروف قاهرة تحول دون تنفيذه فإنها تكون عذرا يجيز الفسخ , سواء كانت الأعذار من جهة الصانع أو من جهة المستصنع:

مثال ما يكون من جهة الصانع:
أن يشب حريق يأتي على مصنعه , أو شبت حرب أدت إلى امتناع استيراد المواد الخام التي تدخل في المصنوع ولا توجد في داخل البلاد.

ومثال ما يكون من جهة المستصنع:
أن يستصنع غرفة نوم لطفله فيموت الطفل أو تستصنع شركة نفط ناقلة نفط عملاقة , ثم تفلس الشركة. فإن كان العذر من جانب الصانع كان المستصنع مخيرا بين الانتظار إلى أن يزول العذر , وبين الفسخ , كما قاله الفقهاء في السلم إذا انقطع المسلم فيه.
ويكون حق الفسخ أيضا للصانع , لأن في الاستصناع معنى الإجارة , والصانع بمنزلة الأجير , والأجير يحق له الفسخ أيضا عند العذر القاهر , وذلك لأن الاستطاعة مشروطة في التكليف , لقول الله تعالي {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقول النبي صلى الله عليه وسلم
L1149 136 137 لا ضرر ولا ضرار. أضف إلى هذا أن القول بكون عقد الاستصناع عقدا غير لازم أصلا قول قوي معتبر عند الحنفية الذين أجازوا الاستصناع.


موت أحد العاقدين
لا ينتهي عقد الاستصناع بموت الصانع إلا في حالة اشتراط العمل بنفسه أو تكون مؤهلاته ومهاراته الشخصية ملحوظة في العقد.


أثر موت أحد العاقدين على عقد الاستصناع
الذين قالوا من فقهاء الحنفية أن عقد الاستصناع غير لازم , جعلوا موت أحد العاقدين سببا لفسخ العقد.
والذين جعلوه من قبيل الإجارة منهم جعلوا موت أحدهما كذلك سببا لفسخ العقد , لأن الإجارة عندهم تنفسخ بموت أحد المتعاقدين. لكن جمهور الفقهاء على أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين. وهذا أولى , للحاجة إلى استقرار التعامل. ومثله يقال في الاستصناع.

وقد جاء في شرح المجلة أنه يبطل الاستصناع بوفاة الصانع أو المستصنع لمشابهته للإجارة وهي تنفسخ بالموت.

وعلى هذا القول , إذا مات أحد العاقدين لم يبطل عقد الاستصناع بل يلزم ورثة الصانع إتمام العمل وتقديم المصنوع جاهزا في الموعد , ويلزم ورثة المستصنع أداء البدل النقدي , تماما كما في عقد البيع , وذلك لما قدمناه من أن عقد الاستصناع عقد لازم.
وهذا ما لم يكن مشروطا على الصانع أن يعمل بنفسه , أو تكون مؤهلاته الشخصية ومهاراته ملحوظة في العقد , كالخطاط. ففي هذا الحال ينفسخ العقد بموته.


جاء في العناية (7 / 116) ; وفي شرح فتح القدير (7 / 116)
يبطل الاستصناع بموت أحد المتعاقدين لشبهة بالإجارة.

وجاء في حاشية ابن عابدين (4 / 213)
في النهر: أوردوا على القول بأن الاستصناع بيع أنه يبطل بموت أحد العاقدين , وأجيب بأنه إنما بطل لشبهه بالإجارة.

وجاء في الموسوعة الفقهية (إجارة 72)
الحنفية يرون أن الإجارة تنفسخ بموت احد المتعاقدين. وذهب إلى مثل ذلك بعض فقهاء التابعين , لأن المؤجر بطل ملكه بموته فيبطل عقده. كما أن ورثة المستأجر لا عقد لهم مع المؤجر , والمنافع المتجددة بعد موت مورثهم لم تكن ضمن تركته
والجمهور على أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين لأن الإجارة عقد لازم لا ينقضي بهلاك أحدهما ما دام ما تستوفي به المنفعة باقيا.
وذكرت الموسوعة المراجع التالية ابن عابدين (5 / 52) ; المغني (5 / 347) ; وشرح المنهاج (3 / 48) ; والشرح الصغير (4 / 179 , 183) , وحاشية الدسوقي (4 / 32) , والبخاري (كتاب الإجارة)