فقه
المعاملات السلم
تعريف السلم
السلم في الاصطلاح الفقهي هو بيع آجل بعاجل , فالسلم نوع من البيع يتأخر
فيه المبيع (ويسمى المسلم فيه) , ويتقدم فيه الثمن (ويسمى رأس مال السلم) ,
فهو عكس البيع بثمن مؤجل.
ويسمى البائع (المسلم إليه) , ويسمى المشتري (المسلم) .
السلم في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي
السلم في اللغة: السلم في لغة العرب يعني الإعطاء والترك والتسليف. يقال:
أسلم الثوب إلى الخياط , أي أعطاه. ويقال: أسلم في البر , أي أسلف. من
السلم.
والسلم في الاصطلاح الفقهي هو عبارة عن بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى
عاجلا. وقد اختلف الفقهاء في تعريفه تبعا لاختلافهم في الشروط المعتبرة
فيه.
ويسمي الفقهاء المشتري في هذا العقد (رب السلم أو المسلم) والبائع (المسلم
إليه) , والمبيع (المسلم فيه) , والثمن (رأس مال السلم) .
تعريف السلم عند الحنفية والحنابلة
اشترط الحنفية والحنابلة في صحة السلم قبض رأس المال في مجلس العقد ,
وتأجيل المسلم فيه احترازا من السلم الحال , وعرفوه بما يتضمن ذلك.
فقال ابن عابدين هو شراء آجل بعاجل.
وجاء في الإقناع أنه: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس
العقد.
تعريف السلم عند الشافعية
اشترط الشافعية لصحة السلم قبض رأس المال في المجلس , وأجازوا كون السلم
حالا ومؤجلا.
وعرفوه بأنه: عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا فلم يقيدوا المسلم
فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلا , لجواز السلم الحال عندهم.
تعريف السلم عند المالكية
منع المالكية السلم الحال , لكنهم لم يشترطوا تسليم رأس المال في مجلس
العقد , وأجازوا تأجيله اليومين والثلاثة لخفة الأمر.
لذلك فقد عرفوه بأنه: بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو
في حكمها إلى أجل معلوم.
فتعبيرهم (أو ما هو في حكمها) يشير إلى جواز تأخير رأس مال السلم تأخيرا
يسيرا , حيث إنه يعتبر في حكم التعجيل بناء على أن ما قارب الشيء يعطى حكمه
في النظر الفقهي. وقولهم في التعريف (إلي أجل معلوم) يبين وجوب كون المسلم
فيه مؤجلا , واحترازا من السلم الحال.
دليل المشروعية
السلم
ثبتت مشروعية عقد السلم بالكتاب والسنة والإجماع.
دليل المشروعية من الكتاب
يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}
(البقرة: 282)
قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه
وأذن فيه , ثم قرأ هذه الآية.
ووجه الدلالة في الآية: أنها أباحت الدين , والسلم نوع منه.
قال القاضي ابن العربي (الدين هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها
نقدا , والآخر في الذمة نسيئة , فإن العين عند العرب ما كان حاضرا , والدين
ما كان غائبا) . فدلت الآية على حل المداينات بعمومها , وشملت السلم
باعتباره من أفرادها , إذ المسلم فيه ثابت في ذمة المسلم إليه إلى أجله.
دليل المشروعية من السنة
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم
المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث , فقال عليه الصلاة
والسلام: من أسلف في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
فدل الحديث على إباحة السلم وبين الشروط المعتبرة فيه.
وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن
شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف؟
فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكان يأتينا
أنباط من الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب , فقلت: أكان لهم زرع أم
لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.
دليل المشروعية من الإجماع
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز.
وقد أجمع فقهاء المذاهب على جواز السلم , ولم يخالف في مشروعيته أحد ,
واستدلوا له بما ورد من النصوص والإجماع.
الوصف الفقهي للسلم
اختلف الفقهاء في كون مشروعية السلم جارية على وفق القياس ومقتضى القواعد
العامة في الشريعة , أم أنها جاءت استثناء على خلاف ذلك لحاجة الناس إلى
هذه المعاقدة.
فقال جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة أن السلم عقد جائز على خلاف القياس.
وقال بعض الفقهاء مثل ابن حزم وابن تيمية وابن القيم أن السلم جاء وفق
القياس وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية.
بعد ما ثبتت مشروعية السلم بالكتاب والسنة
والإجماع اختلف الفقهاء في كون تلك المشروعية جارية على وفق القياس ومقتضى
القواعد العامة في الشريعة , أم أنها جاءت استثناء على خلاف ذلك لحاجة
الناس إلى هذه المعاقدة , وذلك على قولين:
القول الأول السلم عقد جائز على خلاف القياس
يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أن السلم عقد
جائز على خلاف القياس لأنه مستثنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبع
ما ليس عندك. فإن السلم بيع ما ليس عند الإنسان , إذ المسلم فيه (وهو
المبيع) معدوم عند العقد.
والدليل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما
ليس عند الإنسان ورخص في السلم. فهذا يدل على تخصيص السلم من عموم النهي
بالترخيص فيه.
وعلى ذلك قال ابن نجيم هو على خلاف القياس , إذ هو بيع المعدوم , ووجب
المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة وقال الشيخ زكريا الأنصاري (السلم عقد
غرر جوز للحاجة.) . وفي منح الجليل: (صرح في المدونة بأن السلم رخصة
مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه) .
وقد بين العلامة ابن خطيب الدهشة الشافعي أن عقد السلم وإن كانت مشروعيته
في الأصل على خلاف الدليل للحاجة إلى بيع المعدوم , فقد صار مستقلا , فجوز
مطلقا عند الحاجة وعدمها , وفي المعدوم والموجود والحال.
القول الثاني: السلم عقد جائز على وفق القياس ذهب ابن حزم وتقي الدين ابن
تيمية وتلميذه ابن القيم وهو أن السلم عقد مشروع على وفق القياس , وليس فيه
مخالفة للقواعد الشرعية.
قال ابن تيمية وأما قولهم (السلم على خلاف القياس) فقولهم هذا من جنس ما
رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تبع ما ليس عندك وأرخص في
السلم. وهذا لم يرو في الحديث , وإنما هو من كلام بعض الفقهاء , وذلك أنهم
قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده , فيكون مخالفا للقياس.
ونهي النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده:
- إما أن يراد به بيع عين معينة , فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه ,
وفيه نظر.
- وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه , وإن كان في الذمة , وهذا
أشبه. فيكون قد ضمن له شيئا لا يدرى هل يحصل أو لا يحصل؟
وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه , والمناسبة فيه ظاهرة.
فأما السلم المؤجل , فإنه دين من الديون , وهو كالابتياع بثمن مؤجل. فأي
فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة , وكون العروض الآخر مؤجلا في
الذمة , وقد قال تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} قال ابن
عباس أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله , وقرأ هذه الآية.
فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه.
وقال ابن القيم والصواب أنه على وفق القياس فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف
مقدور على تسليمه غالبا , وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة , وقد تقدم
أنه على وفق القياس.
وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا؟
والبائع والمشتري منها على غرر , من أفسد القياس صورة ومعنى , وقد فطر الله
العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم
إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمة فالجمع بينهما
كالجمع بين الميتة والمذكى , الربا والبيع.
ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من نظر وجيه وتأويل حسن.
الحكم التكليفي
للسلم
يتفق الفقهاء على أن عقد السلم مباح شرعا لرفع الحرج عن الناس وتحقيق
مصالحهم , فهو مشروع لينتفع ويرتفق به كل من البائع والمشتري.
إن عقد السلم مما تدعو إليه الحاجة لتوفير
التسهيلات الائتمانية للإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري , ومن هنا كان في
إباحته رفع للحرج عن الناس والإرفاق بطرفيه واضح:
الإرفاق بالمنتج الذي يحتاج إلى تمويل موسمي لأجل قصير أو متوسط , حيث
يستفيد من تعجيل رأس المال ,
والإرفاق بالدائن الذي يحتاج إلى البضاعة التي تعاقد عليها لاستهلاكه أو
لتجارته أو لصناعته , حيث يستفيد من رخص ثمنها المقدم.
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قدامة بقوله: (ولأن بالناس حاجة إليه , لأن
أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها
لتكمل , وقد تعوزهم النفقة , فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم
بالاسترخاص) .
أقسام السلم
ينقسم السلم باعتبارات مختلفة:
فهو ينقسم بحسب التوقيت إلى السلم الحال والسلم المؤجل.
وينقسم بحسب المسلم فيه إلى السلم في العروض أو في الحيوان أو في النقود.
كما ينقسم بحسب نوع العقد إلى السلم العادي والسلم الموازي.
أقسام السلم بحسب التوقيت
ينقسم السلم بحسب التوقيت عند الشافعية إلى السلم الحال والسلم المؤجل
فيجوز الاتفاق على تقديم المسلم فيه في الحال دون تحديد أجل وذلك قياسا
أولويا على السلم المؤجل.
وخالفهم الجمهور في ذلك فاشترطوا أن يكون السلم موجلا إلى أجل معلوم وقرروا
عدم صحة السلم الحال.
أقسام السلم بحسب المسلم فيه
وينقسم السلم أيضا بحسب المسلم فيه إلى:
السلم في العروض كالزروع والمواد الخام ونحوها.
السلم في الحيوان كالإبل والبقر والغنم مع ضبط الحيوان بذكر سنه وذكورته أو
أنوثته وسمنه أو هزاله وغير ذلك من الصفات.
السلم في النقود كما ذهب لذلك الجمهور خلافا للحنفية واشترطوا على أن يكون
رأس المال من غيرها لئلا يفضي ذلك إلى الربا.
أقسام السلم من حيث نوع العقد
ينقسم السلم من حيث نوع العقد إلى:
السلم العادي وهو ما يبرمه العاقد مع عزمه على تنفيذه بنفسه.
السلم الموازي وهو أن يبرم العاقد صفقة شراء بالسلم ثم يبرم صفقة بيع
بالسلم دون ربط بينهما ويعزم على أن ينفذ الصفقة الثانية مما يتسلمه من
الصفقة الأولى.
الصيغة
ينعقد السلم بلفظ البيع إن ذكرت باقي شروطه , لأن العبرة في العقود
لمعانيها لا لصور ألفاظها. واطلاق البيع مع ذكر شروط السلم , هو سلم في
المعنى , فينعقد به.
واتفق الفقهاء على أن صيغة السلم يجب أن تكون منجزة يترتب عليها أثرها في
الحال.
فلا يقبل التعليق على شرط , ولا الإضافة إلى زمن مستقبل.
كما اشترط جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم ألا يكون فيه خيار شرط لأي من
العاقدين وقد خالف بهذا المالكية فأجازوا شرط الخيار لمدة ثلاثة أيام , وهي
المدة التي أجازوا تأخير رأس مال السلم إليها.
انعقاد السلم بلفظ البيع
لما كان السلم عقدا يتم بين طرفين , فإن وجوده يتوقف على صيغة تفصح عن رغبة
المتعاقدين على إنشائه , وتعبر بجلاء عن اتفاقهما على تكوينه , لأن النية -
أو الرغبة - أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه , فلا بد من تعبير يدل عليه
ويكشف عنه , وهو الإيجاب والقبول المتصلان المتوافقان.
وقد اتفق الفقهاء على صحة إيقاع الإيجاب بلفظ السلم أو السلف , وكل ما اشتق
منهما , كأسلمتك وأسلفتك , وأعطيتك كذا سلما أو سلفا في كذا. . . لأنهما
لفظان بمعنى واحد , وكلاهما اسم لهذا العقد. وكذا على صحة القبول بكل لفظ
يدل على الرضا بما أوجبه الأول , مثل: قبلت ورضيت ونحو ذلك.
غير أن الفقهاء اختلفوا في صحة انعقاد السلم بلفظ البيع على قولين:
(أحدهما) لأبي حنيفة وصاحبيه والمالكية والحنابلة والشافعية في وجه: وهو
أنه ينعقد السلم بلفظ البيع إذا بين فيه إرادة السلم وتحققت شروطه , كأن
يقول رب السلم: اشتريت منك خمسين رطلا زيتا صفته كذا إلى أجل كذا بعشر
دنانير حالة , وقبل المسلم إليه. ونحو ذلك. وحجتهم النظر إلى المعنى
والتعويل على القصد , مع كون اللفظ لا يعارضه , إذ كل سلم بيع , كما أن كل
صرف بيع , فإطلاق البيع على السلم أطلاق للفظ على ما يتناوله.
(والثاني) لزفر من الحنفية والشافعية في وجه صححه الشيخان النووي والرافعي
وهو أن السلم لا ينعقد بلفظ البيع. وحجة زفر (أن القياس أن لا ينعقد أصلا ,
لأنه بيع ما ليس عند الإنسان , وأنه منهي عنه , إلا أن الشرع ورد بجوازه
بلفظ السلم بقوله: ورخص في السلم) . فوجب الاقتصار عليه , لعدم إجزاء ما
سواه. أما حجة أصحاب هذا الرأي من الشافعية فهو التعويل على اللفظ واعتباره
, وعلى ذلك ينعقد بيعا نظرا للفظ , ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس
, لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه.
وقد انتصر الإمام تقي الدين ابن تيمية لمذهب المعولين على القصد والمعنى
دون اللفظ بحجة بليغة وبرهان ساطع فقال: (والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا
المقصود انعقدت , فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به
العقد. وهذا عام في جميع العقود فإن الشارع لم يحد ألفاظ العقود حدا , بل
ذكرها مطلقة. فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية
والرومية وغيرهما من الألسن الأعجمية , فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ
العربية. ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه , وكذلك البيع وغيره.
يشترط في الصيغة أن تكون منجزة
بعد هذا تجدر الإشارة إلى اتفاق الفقهاء على أن صيغة السلم يجب أن تكون
منجزة يترتب عليها أثرها في الحال.
فلا يقبل التعليق على شرط , كأن يقول: إذا جاء وكيلي فقد أسلمتك مائة جنيه
في أردب قمح.
ولا تقبل الإضافة إلى زمن مستقبل , كأن يقول: أسلمتك أو أسلمك مائة جنيه
بعد شهر في أردب قمح.
ذلك أن من شروط صحة السلم قبض رأس ماله في مجلس العقد عند جمهور الفقهاء
(خلافا للمالكية الذين أجازوا تأخيره ثلاثة أيام) , والتعليق والإضافة
كلاهما ينافيان هذا الشرط.
يشترط في الصيغة أن تكون باتة لا خيار فيها
اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة أن تكون صيغة السلم
باتة لا خيار فيها لأي من العاقدين , وذلك لأنه عقد لا يقبل خيار الشرط ,
إذ يشترط لصحته تمليك رأس المال وإقباضه للمسلم إليه قبل التفرق , ووجوب
تحققهما مناف لخيار الشرط.
وخالفهم في ذلك المالكية , وقالوا بجواز خيار الشرط في السلم للعاقدين أو
لأحدهما أو لأجنبي ثلاثة أيام فما دون ذلك , بشرط أن لا يتم نقد رأس المال
في زمن الخيار , فإن نقد فسد العقد مع شرط الخيار , لتردد رأس المال بين
السلفية والثمنية.
وهذا هو الرأي المعتمد في مذهبهم , وهو مبني على جواز تأخير قبض رأس مال
السلم ثلاثة أيام فما دونها , لأن هذا التأخير اليسير في حكم التعجيل ,
فيكون معفوا عنه ومتسامحا فيه , إذ القاعدة الفقهية تنص على (أن ما قارب
الشيء يعطى حكمه) .
صفات العاقدين
لما كان السلم عقدا من عقود المعاوضات المالية التي تنشأ بين متعاقدين
بإرادتهما , اشترط الفقهاء في كل واحد من عاقديه أن يكون أهلا لصدوره عنه ,
وأن يكون له ولاية إذا كان يعقد لغيره.
السلم هو عقد معاوضة مالية ينشأ بين طرفين
متعاقدين بإرادتهما الحرة , فلا بد لانعقاد السلم ونفاذه أن يكون عاقداه من
أهل العبارة المعتبرة في إنشاء العقود والالتزام بآثارها , ويتحقق ذلك
بتوافر شرطين فيهما:
الأول: أهلية التصرف
يشترط أن يكون المتعاقدان أهلا للمعاملة والتصرف , أي أن يكون عندهما أهلية
أداء. وأهلية الأداء التي تعني صلاحية الشخص لصدور الأقوال منه على وجه
يعتد به شرعا.
وتتحقق هذه الأهلية في الإنسان البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه بأي
سبب من أسباب الحجر.
الثاني: الولاية على العقد
يشترط أن يكون للمتعاقدين ولاية على العقد , أي أن يكون للعاقد سلطة تمكنه
من تنفيذ العقد وترتيب آثاره عليه , ويكون ذلك إما بتصرف العاقد أصالة عن
نفسه وإما أن يكون مخولا في ذلك بأحد طريقين:
بالنيابة الاختيارية التي تثبت بالوكالة , ولابد فيها أن يكون كل من الوكيل
والموكل أهلا لإنشاء عقود المعاوضات المالية.
أو بالنيابة الإجبارية التي تثبت بتولية الشارع , وتكون لمن يلي مال
المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء الذي جعلت لهم سلطة شرعية على إبرام
العقود وإنشاء التصرفات المالية لمصلحة من يلونهم.
المعقود عليه
المعقود عليه في السلم هو رأس المال , والمسلم فيه. ولهذا الركن شروط عديدة
, بعضها تعود على رأس المال وبعضها تعود على المسلم فيه وسنشير إليهما في
الشروط , والبعض الآخر من الشروط يعود على البدلين معا.
وقد اتفق الفقهاء أنه يشترط أن يكون كل من رأس المال والمسلم فيه مالا
متقوما مما ينتفع به شرعا , سواء أكان رأس المال نقدا والمسلم فيه عرضا أم
كان كل منهما عرضا. كما يشترط ألا يتحقق بينهما ربا النسيئة.
وخلافا عن الحنفية , أجاز جمهور الفقهاء السلم في النقود على أن يكون رأس
المال من غيرها , كما أجازوا أن تكون المنافع رأس مال للسلم ومسلما فيه.
يشترط في المعقود عليه أن يكون مالا متقوما
لا خلاف بين الفقهاء أنه يشترط لصحة عقد السلم أن يكون كل من رأس المال
والمسلم فيه مالا متقوما , فلا يجوز أن يكون أحدهما خمرا أو خنزيرا أو غير
ذلك مما لا يعد مالا منتفعا به شرعا.
كما أنه يشترط لصحته ألا يكون البدلان مالين يتحقق في سلم أحدهما بالآخر
ربا النسيئة , وذلك بألا يجمع البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل , حيث إن
المسلم فيه مؤجل في الذمة , فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علة ربا الفضل
, تحقق ربا النساء فيه , وكان فاسدا باتفاق الفقهاء. وذلك لما روى البخاري
ومسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذهب
بالذهب , والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر ,
والملح بالملح , مثلا بمثل سواء بسواء , يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد.
حالة كون السلم في النقود
وعلى هذا فقد نص جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية
على جواز السلم في النقود , على أن يكون رأس المال من غيرها لئلا يفضي ذلك
إلى ربا النساء.
قال ابن قدامة (لأنها تثبت في الذمة صداقا , فتثبت سلما كالعروض. ولأنه لا
ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء - لكون رأس المال عرضا غير نقد - فصح
إسلام أحدهما في الآخر كالعرض في العرض) .
وخالفهم في ذلك الحنفية , وقالوا بعدم جواز كون المسلم فيه نقدا , لأن
المسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا , والنقود أثمان , فلا يصح أن تكون مسلما
فيها.
قال الكاساني (لأن المسلم فيه مبيع , لما روينا أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان , ورخص في السلم. سمى السلم بيعا ,
فكان المسلم فيه مبيعا , والمبيع مما يتعين بالتعيين , والدراهم والدنانير
لا تتعين في عقود المعاوضات , فلم تكن مبيعة , فلا يجوز السلم فيها) .
وقد رد القاضي عبد الوهاب البغدادي مذهب الإمام أبي حنيفة مستندا في تجويز
السلم في النقود على قوله صلى الله عليه وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم
ووزن معلوم وهي من الموزونات , وبأن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمنا جاز
أن يكون مسلما فيه , ولأن ضبطها بالصفة ممكن بذكر نوع فضتها أو ذهبها
وسكتها ووزنها , فانتفى كل مانع , وتوفر مناط الجواز. أما احتجاجهم بأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان (ورخص في السلم
فغير مسلم , لأن الحديث الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو النهي
عن بيع ما ليس عندك , أما تتمة) ورخص في السلم (فلم ترو في الحديث , وإنما
هي من كلام بعض الفقهاء.
حالة كون أحد البدلين أو كليهما من المنافع في السلم
اتجه الحنفية إلى أنه لا يجوز كون أي من البدلين في السلم منفعة , لأن
المنافع لا تعتبر أموالا في مذهبهم , إذ المال عندهم) ما يميل إليه طبع
الإنسان , ويمكن ادخاره لوقت الحاجة (م126 من المجلة العدلية) , والمنافع
غير قابلة للإحراز والادخار , إذ هي أعراض تحدث شيئا فشيئا وآنا فآنا ,
وتنتهي بانتهاء وقتها , وما يحدث منها غير الذي ينتهي.
وعلى ذلك فلا يصح جعل المنافع بدلا في عقد السلم عندهم.
وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة الذي
اعتبروا المنافع أموالا بحد ذاتها , وأنها تحاز أصولها ومصادرها , وهي
الأعيان المنتفع بها.
ومن ثم جاز عندهم أن تكون المنفعة رأس مال , كأن يقول: أسلمت إليك سكنى
داري هذه سنة , أو خدمتي شهرا , أو تعليمي سورة كذا , في كذا إلى أجل كذا ,
صح ذلك السلم. كما جاز أن تكون المنفعة مسلما فيه , كأن يقول: أسلمت إليك
عشرين دينارا في تعليمي سورة كذا بعد شهر أو في منفعة موصوفة في ذمتك إلى
أجل , صح السلم.
أن يكون رأس مال
السلم معلوما
يشترط باتفاق الفقهاء أن يكون رأس مال السلم معلوما , وذلك لأنه بدل في عقد
معاوضة مالية , فلا بد من كونه معلوما , كسائر عقود المعاوضات.
لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط في رأس
المال أن يكون معلوما , وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية , فلا بد من
كونه معلوما , كسائر عقود المعاوضات.
ورأس المال: إما أن يوصف في الذمة , ثم يعين في مجلس العقد , وإما أن يكون
معينا عند العقد , كأن يكون حاضرا مشاهدا , ثم يقع العقد على عينه.
حالة كون رأس المال موصوفا
في هذه الحالة يجب أن ينص في عقد السلم على جنسه ونوعه وقدره وصفته , كأن
يقول رب السلم: أسلمت إليك ألف ريال سعودي أو ألف دولار أمريكي , أو أردب
قمح أسترالي أو كندي , من نوع جيد أو وسط أو رديء , كبير الحب أو صغيره. .
إلخ , وذلك لأن قبول الطرف الآخر مبني على العلم بالبدل الذي يلتزم الطرف
الأول بأدائه , ولا يتم هذا العلم إلا ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة ,
مما يرفع الجهالة عن رأس المال.
حالة كون رأس المال نقودا
إذا كان رأس المال نقودا , وكان في البلد نقد غالب , انصرف الإطلاق إليه ,
ولا يحتاج إلى التصريح بالنوع. فلو كان العقد في مصر , وقال رب السلم:
أسلمتك ألف جنيه في كذا. . انصرف ذلك إلى الجنيه المصري دون السوداني أو
الإسترليني , لأن التعامل الغالب والدارج إنما هو فيه , فيكون هو المراد
عند الإطلاق.
وعلى هذا , فإن قبل الطرف الآخر
وجب تعيين رأس المال وتسليمه إليه وفاء بالعقد.
حالة كون رأس المال معينا مشاهدا
إذا كان رأس المال معينا مشاهدا في مجلس العقد , فهل يصح إسلامه جزافا دون
بيان قدره وصفاته؟ كأن يقول رب السلم: أسلمتك هذه الدنانير في كذا إلى أجل
كذا , دون أن يبين عددها. أو: أسلمتك هذه الصبرة من القمح في كذا دون بيان
قدرها.
وبعبارة أخرى: هل تعتبر الإشارة إلى رأس المال الحاضر كافية في رفع الجهالة
عنه , واعتباره معلوما , أم لا بد من بيان القدر والصفات بالإضافة إلى ذلك؟
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
(القول الأول) : لأبي حنيفة والثوري والقاضي عبد الوهاب البغدادي من
المالكية: وهو أنه لا يشترط ذكر صفات رأس مال السلم , سواء أكان مثليا أم
قيميا , حيث إن المشاهدة تكفي في رفع الجهالة عن الأوصاف. أما قدره , فهناك
فرق بين كون رأس المال مثليا يتعلق العقد بمقداره وبين كونه قيميا. فإن كان
مثليا كالمكيلات والموزونات والزراعيات والعدديات المتقاربة , فإنه يجب
بيان القدر , ولا تكفي المشاهدة. أما إذا كان قيميا , فلا يشترط بيان قدره
, وتكفي الإشارة إليه.
(والقول الثاني) : للمالكية والصاحبين من الحنفية والشافعية في الأظهر
وظاهر كلام الخرقي من الحنابلة: وهو أنه تكفي المعاينة إذا كان رأس مال
السلم معينا , ولا يشترط ذكر قدره أو صفاته. وذلك لأنه عوض في عقد لا يقتضي
رد المثل , فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره , كالمهر والثمن في
البيع.
(والقول الثالث) : للحنابلة على المعتمد عندهم والشافعي في قول: وهو أنه
يجب ذكر مقداره وصفاته , ولا يصح السلم إلا ببيانها. وذلك لأنه لا يؤمن أن
ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه , فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما
يرده.
أن يتم تسليم رأس
مال السلم في مجلس العقد
يشترط جمهور الفقهاء تسليم رأس المال في مجلس العقد , فلو تفرقا قبله بطل
العقد.
أما لو عجل رب السلم بعض رأس المال في المجلس وأجل البعض الآخر فإن السلم
يبطل عند جمهور الفقهاء فيما لم يقبض ويسقط بحصته من المسلم فيه , ويصح في
الباقي بقسطه.
ومنع جمهور الفقهاء جعل الدين الذي في ذمة المسلم إليه رأس مال السلم لأنه
بيع دين بدين.
واختلفت أقوالهم في حالة جعل رأس مال السلم هو المال المقبوض سابقا من
المسلم إليه والذي تكون يده عليه يد أمانة.
تعجيل رأس المال
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أن من
شروط صحة السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد , فلو تفرقا قبله بطل العقد.
واستدلوا على ذلك:
(أولا) بقوله صلى الله عليه وسلم: من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم
إلى أجل معلوم إذ التسليف في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو الإعطاء , فيكون معنى كلامه عليه الصلاة والسلام (فليعط) .
لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه , فإن
لم يدفع إليه رأس المال فإنه يكون غير مسلف شيئا , بل واعدا بأن يسلف. قال
الرملي (ولأن السلم مشتق من استلام رأس المال , أي تعجيله , وأسماء العقود
المشتقة من المعاني لا بد من تحقق تلك المعاني فيها) .
(ثانيا) بأن الافتراق قبل قبض رأس المال يكون افتراقا عن كالئ بكالئ , أي
نسيئة بنسيئة , وهو منهي عنه بالإجماع.
(ثالثا) بأن في السلم غررا احتمل للحاجة , فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر
, وهو الثمن , كي لا يعظم الغرر في الطرفين.
(رابعا) بأن الغاية الشرعية المقصودة من إبرام العقود ترتب آثارها عليها
بمجرد انعقادها , فإذا تأخر البدلان كان العقد عديم الفائدة للطرفين خلافا
لحكمه الأصلي ومقتضاه وغايته. ومن هنا قال ابن تيمية عن تأخير رأس المال في
السلم (فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا
له ولا للآخر , والمقصود من العقود القبض , فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلا
, بل هو التزام بلا فائدة) .
(خامسا) وبأن مطلوب الشارع صلاح ذات البين وحسم مادة الفساد والفتن , وإذا
اشتملت المعاملة على شغل الذمتين , توجهت المطالبة من الجهتين , فكان ذلك
سببا لكثرة الخصومات والعداوات , فمنع الشرع ما يفضي إلى ذلك باشتراط تعجيل
قبض رأس المال.
ولا يخفى أن اشتراط قبض رأس مال السلم قبل التفرق عند جمهور الفقهاء إنما
هو شرط لبقاء العقد على الصحة , وليس شرط صحة , لأن السلم ينعقد صحيحا بدون
قبض رأس المال , ثم يفسد بالافتراق قبل القبض. وبقاء العقد صحيحا يعقب
العقد ولا يتقدمه , فيصلح القبض شرطا له.
وقد جاء في المجلة العدلية م (387) : (يشترط لبقاء صحة السلم تسليم الثمن
في مجلس العقد , فإذا تفرق العاقدان قبل تسليم رأس مال السلم انفسخ العقد)
.
هذا وقد خالف المالكية - في المشهور عندهم - جمهور الفقهاء في اشتراط تعجيل
رأس مال السلم في مجلس العقد , وقالوا: يجوز تأخيره اليومين والثلاثة بشرط
وبغير شرط تعويلا على القاعدة الفقهية (ما قارب الشيء يعطى حكمه) , حيث
إنهم اعتبروا هذا التأخير اليسير معفوا عنه , لأنه في حكم التعجيل.
ومن هنا قال القاضي عبد الوهاب البغدادي في كتابه (الإشراف) في تعليل جواز
ذلك التأخير اليسير: (فأشبه التأخير للتشاغل بالقبض) .
وقال ابن رشد (وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط , فذلك لا يجوز باتفاق , سواء
كان رأس المال عينا أو عرضا. فإن تأخر فوق الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان
عرضا , واختلف فيه إن كان عينا: فعلى ما في) المدونة (من السلم: يفسد بذلك
ويفسخ. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب: أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث
بشرط) .
على أن المالكية أنفسهم يصرحون بأن العزيمة في السلم إنما تتحقق بتعجيل رأس
المال في مجلس العقد. يقول ابن عبد السلام لم أعلم خلافا في كون تعجيل رأس
المال عزيمة , وأن الأصل التعجيل , وإنما الخلاف: هل يرخص في تأخيره؟ .
تعجيل رب السلم بعض رأس المال وتأجيل البعض الآخر
هناك مسألة مهمة , وهي ما لو عجل رب السلم بعض رأس المال في المجلس , وأجل
البعض الآخر , فما هو الحكم في هذه الحالة؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
(أحدهما) للحنفية والشافعية والحنابلة:
وهو أنه يبطل السلم فيما لم يقبض ويسقط بحصته من المسلم فيه , ويصح في
الباقي بقسطه. قال ابن نجيم (وصح في حصة النقد لوجود قبض رأس المال بقدره ,
ولا يشيع الفساد , لأنه طارئ , إذ السلم وقع صحيحا في الكل , ولذا لو نقد
الكل قبل الافتراق صح) .
(والثاني للمالكية) :
وهو أنه يفسد في الجميع وعلل المالكية قولهم بأنه (متى قبض البعض وأخر
البعض فسد , لأنه دين بدين) .
واستدل الظاهرية على ذلك أيضا بأن السلم عقد واحد وصفقة واحدة , وكل عقد
جمع فاسدا وجائزا , كان كله فاسدا , لأن العقد الواحد لا يتبعض , والتراضي
منهما لم يقع حين العقد إلا على الجميع , لا على البعض دون البعض , فلا يحل
إلزامهما بما لم يتراضيا جميعا عليه , لأنه أكل مال بالباطل لا عن تراض.
ومستند ابن أبي ليلى أن الأصل عنده في أبواب المعاملات أن العقد إذا ورد
الفسخ على بعضه انفسخ كله.
جعل الدين رأس مال السلم
لو أراد رب السلم أن يجعل الدين في ذمة المسلم إليه رأس مال السلم , فإن
ذلك غير جائز عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ومالك
والأوزاعي والثوري وغيرهم , وذلك لأن المسلم فيه دين , فإذا جعل الثمن دينا
, كان بيع دين بدين وهو غير جائز بالإجماع.
وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وذلك لعدم تحقق
المنهي عنه - وهو بيع الكالئ بالكالئ , أي الدين المؤخر بالدين المؤخر - في
هذه المسألة إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم غير مؤجل في ذمة المدين ,
لأنها تكون من قبيل بيع الدين المؤخر بالدين المعجل , ولوجود القبض الحكمي
لرأس مال السلم من قبل المسلم إليه في مجلس العقد , لكونه حالا في ذمته ,
فكأن المسلم - إذ جعل ماله في ذمته معجلا رأس مال السلم - قبضه منه ورده
إليه , فصار دينا معجلا مقبوضا حكما , فارتفع المانع الشرعي , ولأن دعوى
الإجماع على هذا المنع غير مسلمة.
أما إذا كان الدين المعجل رأس مال السلم مؤجلا في ذمة المدين , فلا خلاف
لأحد من الفقهاء في منع ذلك شرعا , وأنه من بيع الكالئ بالكالئ المحظور ,
لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة.
جاء في إعلام الموقعين لابن القيم (وأما بيع الواجب بالساقط , فكما لو أسلم
إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته , فقد وجب له عليه دين , وسقط له عنه
دين غيره. وقد حكي الإجماع على امتناع هذا , ولا إجماع فيه. قاله شيخنا ,
واختار جوازه , وهو الصواب. إذ لا محذور فيه , وليس بيع كالئ بكالئ ,
فيتناوله النهي بلفظه , ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى , فإن المنهي
عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة) .
جعل المال المقبوض على سبيل الأمانة رأس مال السلم
إذا جعل رب السلم ماله الموجود في يد المسلم إليه رأس مال السلم , فهل يصح
ذلك , وينوب القبض السابق للعقد مناب القبض المستحق في مجلسه , أم لا يصح
ذلك , ويحتاج إلى قبض جديد؟ .
للفقهاء في المسألة قولان:
(أحدهما) للحنابلة: وهو أن قبض المسلم إليه السابق للعين المجعولة رأس مال
السلم ينوب عن القبض المستحق بالعقد , ويقوم مقامه , سواء أكانت العين في
يده أمانة أم مضمونة , ولا يحتاج إلى تجديد القبض.
(والثاني) للحنفية: وهو أنه ينوب القبض السابق لرأس مال السلم عن القبض
المستحق في مجلس العقد إذا كانت يد المسلم إليه عليه يد ضمان لا يد أمانة.
أما إذا كان في يده أمانة - كيد الوكيل والوديع والشريك ونحوهم - فإن القبض
السابق لا يقوم مقامه , ويحتاج إلى تجديد القبض في المجلس ليصح عقد السلم.
وقد أوضح الكاساني قاعدة الحنفية في نيابة القبض السابق مناب المستحق
اللاحق بعبارة وجيزة جامعة حيث قال: (فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن
كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه. وإن لم يكن مثله: فإن كان أقوى من
المستحق ناب عنه. وإن كان دونه لا ينوب. لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق
التناوب , لأن المتماثلين غير أن ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده
, وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة , وإن كان دونه لا يوجد فيه
إلا بعض المستحق , فلا ينوب عن كله.
أن يكون دينا موصوفا
في الذمة
اتفق الفقهاء في اشتراط كون المسلم فيه دينا موصوفا في ذمة المسلم إليه ,
وأنه لا يصح السلم إذا جعل المسلم فيه شيئا معينا بذاته لأن تعيينه ينشأ
عنه غرر عدم القدرة على تنفيذ العقد.
لا يصح أن يكون المسلم فيه شيئا معينا
بذاته
لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط كون المسلم فيه دينا موصوفا في ذمة المسلم
إليه , وأنه لا يصح السلم إذا جعل المسلم فيه شيئا معينا بذاته لأن ذلك
مناقض للغرض المقصود منه , إذ هو موضوع لبيع شيء في الذمة بثمن معجل ,
ومقتضاه ثبوت المسلم فيه دينا في ذمة المسلم إليه , ومحله ذمة المسلم إليه.
فإذا كان المسلم فيه معينا تعلق حق رب السلم بذاته , وكان محل الالتزام ذلك
الشيء المعين , لا ذمة المسلم إليه. ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفا
لمقتضى العقد.
يضاف إلى ذلك أن تعيينه يجعل السلم من عقود الغرر , إذ ينشأ عنه غرر عدم
القدرة على تنفيذ العقد , فلا يدرى أيتم هذا العقد أم ينفسخ , حيث إن من
المحتمل أن يهلك ذلك الشيء المعين قبل حلول وقت أدائه , فيستحيل تنفيذه ,
والغرر مفسد لعقود المعاوضات المالية كما هو معلوم ومقرر.
وهذا بخلاف ما لو كان المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة , إذ الوفاء يكون
بأداء أية عين مثلية تتحقق فيها الأوصاف المتفق عليها , ولا يتعذر تنفيذ
العقد لو تلف المسلم فيه قبل تسليمه , إذ يسعه الانتقال عنه إلى غيره من
أمثاله.
وقد رتب بعض الفقهاء على تضمن السلم غررا إذا عين المسلم فيه أيلولة العقد
إلى السلف الذي يجر نفعا , فقال ابن رشد (وإنما لم يجز السلم في الدور
والأرضين , لأن السلم لا يجوز إلا بصفة , ولا بد في صفة الدور والأرضين من
ذكر موضعها , وإذا ذكر موضعها تعينت , فصار السلم فيها كمن ابتاع من رجل
دار فلان على أن يتخلصها له منه , وذلك من الغرر الذي لا يحل ولا يجوز ,
لأنه لا يدري بكم يتخلصها منه , وربما لم يقدر على أن يتخلصها منه , ومتى
لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله , فصار مرة بيعا ومرة سلفا ,
وذلك سلف جر نفعا) .
كما بنى بعض الفقهاء منع كون المسلم فيه معينا على أساس أن السلم إنما جاز
شرعا على خلاف القياس للحاجة إليه , فإذا عين المسلم فيه , فيمكن عندئذ
بيعه في الحال , ولا يكون هناك ثمة حاجة إلى السلم , فينسحب عليه الحكم
الأصلي وهو عدم المشروعية.
دليل اشتراط أن يكون المسلم فيه موصوفا في الذمة
المستند النصي لوجوب كون المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة , وعدم جواز
السلم إذا تعين ما روى ابن ماجة عن عبد الله بن سلام قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني فلان أسلموا (لقوم من
اليهود وإنهم قد جاعوا , فأخاف أن يرتدوا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عنده؟
فقال رجل من اليهود عندي كذا وكذا (لشيء قد سماه) أراه قال ثلاثمائة دينار
بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسعر كذا
وكذا , إلى أجل كذا وكذا , وليس من حائط بني فلان.
ما يصح أن يكون مسلما فيه من الأموال
بناء على اشتراط كون المسلم فيه دينا في الذمة , ذكر جماهير الفقهاء أن ما
يصح أن يكون مسلما فيه من الأموال: المثليات كالمكيلات والموزونات
والمذروعات والعدديات المتقاربة , وكذا القيميات التي تقبل الانضباط
بالوصف. قال الشيرازي (ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته ,
كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف
والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور
والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات) .
أما ما لا يمكن ضبط صفاته من الأموال فلا يصح السلم فيه , لإفضاء العقد
للمنازعة والمشاقة , وعدمها مطلوب شرعا.
هذا , ومع أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة
يعدون المذروعات المتماثلة الآحاد والعدديات المتساوية أو المتقاربة من
جملة المثليات التي تقبل الثبوت في الذمة دينا في عقد السلم , ويصح كونها
مسلما فيه قياسا على المكيلات والموزونات التي نص الحديث على جواز السلم
فيها , للعلة الجامعة بينهما وهي رفع الجهالة بالمقدار , لأن القصد من
التقدير هو رفع الجهالة وإمكان التسليم بلا منازعة , وهذا حاصل بالعد
والزرع فيما يقدر بالوحدات القياسية الطولية أو بالعدد كما هو حاصل بالوزن
أو بالحجم فيما يقدر بالوزن أو الكيل. قال الخطيب الشربيني فإن قيل: لم خص
في الحديث الكيل والوزن؟ أجيب بأن ذلك لغلبتهما وللتنبيه على غيرهما.
وقد خالف ابن حزم في ذلك , ومنع صحة السلم في غير المكيلات والموزونات
فقال: (ولا يجوز السلم إلا في مكيل أو موزون فقط , ولا يجوز في حيوان ولا
مزروع ولا معدود ولا في شيء غير ما ذكرنا) . واحتج على ذلك بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن
معلوم قال: (فهذا منع السلف وتحريمه البتة إلا في مكيل أو موزون) .
أن يكون المسلم فيه
معلوما
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة السلم أن يكون المسلم فيه معلوما مبينا
بما يرفع الجهالة عنه ويسد الأبواب إلى المنازعة بين العاقدين عند تسليمه.
لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط لصحة
السلم أن يكون المسلم فيه معلوما مبينا بما يرفع الجهالة عنه ويسد الأبواب
إلى المنازعة بين العاقدين عند تسليمه , وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية
, فاشترط فيه أن يكون معلوما كما هو الشأن في سائر عقود المبادلات المالية.
ولما كان المسلم فيه ثابتا في الذمة غير مشخص بذاته اشترط الفقهاء أن ينص
في عقد السلم على جنس المسلم فيه , بأن يبين أنه حنطة أو شعير أو تمر أو
زيت. . ونوعه إن كان للجنس الواحد أكثر من نوع , بأن يبين أن الرز مثلا من
النوع الأمريكي أوالأسترالي أو البشاوري ونحو ذلك. فإن كان للجنس نوع واحد
فقط , فلا يشترط ذكر النوع.
كما اشترطوا بيان قدره لقوله صلى الله عليه وسلم: من أسلم فليسلم في كيل
معلوم ووزن معلوم. وبيان القدر يتحقق بكل وسيلة ترفع الجهالة عن المقدار
الواجب تسليمه , وتضبط الكمية الثابتة في الذمة بصورة لا تدع مجالا
للمنازعة عند الوفاء.
ويستنتج من نصوص الفقهاء التي بينت طرق التقدير الأربعة (الكيل والوزن
والزرع والعد في كل شيء بحسبه) وهي الوسائل العرفية المعلومة في عصورهم أن
معلومية المقدار في أيامنا الحاضرة يمكن أن تكون بأية وحدة من الوحدات
القياسية العرفية المحدودة الشائعة. . وذلك مثل التحديد بالمتر أو بالقدم
أو بالميل في الطول , وبالغرام أو بالأونصة أو الباوند في الوزن , وبالليتر
أو الجالون في الحجم ونحو ذلك.
وفي هذا المقام نص الفقهاء على وجوب كون أداة التقدير العرفية معلومة
المعيار وإلا فسد السلم لجهالة قدر المسلم فيه وإفضاء ذلك إلى الخصومة
والمنازعة.
ومما يجدر بيانه أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وأحمد في رواية عنه
رجحها كثير من الحنابلة لا يرون بأسا في اتفاق العاقدين على تحديد المسلم
فيه بأية وحدة قياسية عرفية تضبطه , ولو كانت غير المستعملة لتحديد قدره في
زمن النبوة , وذلك لأن الغرض معرفة قدره بما ينفي عنه الجهالة والغرر ,
وإمكان تسليمه من غير تنازع , والعلم بالقدر يمكن حصوله بأية وحدة قياسية
عرفية منضبطة , وعلى هذا فلو قدراه بأي قدر جاز , ويفارق ذلك بيع الربويات
, فإن التماثل فيها في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا شرط , ولا يعلم تحقق
هذا الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي.
وخالف في ذلك الحنابلة على المعتمد في مذهبهم , وقالوا: لا يصح سلم في مكيل
وزنا , ولا في موزون كيلا , لأنه مبيع يشترط معرفة قدره , فلم يجز بغير ما
هو مقدر به في الأصل , كبيع الربويات بعضها ببعض , ولأنه قدره بغير ما هو
مقدر به في الأصل فلم يجز , كما لو أسلم في مزروع وزنا.
وقال المالكية: العبرة بعرف أهل البلد الذي جرى فيه السلم. فلا بد أن يضبط
المسلم فيه بالوحدة القياسية التي تعارف أهل البلد وقت العقد على تقديره
بها , قطعا لدابر المنازعة بين العاقدين في تقديره عند الوفاء.
وبيان مقدار المسلم فيه بهذه الصورة إنما يجري في المثليات التي تخضع
أنواعها للوحدات القياسية العرفية (الوزن أو الحجم أو الطول أو العد) . أما
إذا كان المسلم فيه من القيميات التي تختلف آحادها وتتفاوت أفرادها بحيث لا
تقبل التقدير بتلك الوحدات القياسية , وإن كانت صفاتها قابلة للانضباط ,
فعندئذ يجوز السلم فيها بشرط بيان صفاتها التي تتفاوت فيها الرغبات ,
ويختلف الثمن بتفاوتها اختلافا ظاهرا.
ولا يجب استقصاء كل الصفات , لأن ذلك يتعذر , وقد ينتهي الأمر لو طلب فيها
الاستقصاء إلى حال يتعذر معها تسليم المسلم فيه , إذ يبعد وجود المسلم فيه
عند المحل بتلك الصفات كلها. ولهذا يكتفي بالأوصاف الظاهرة التي يختلف
الثمن بها غالبا أو تختلف الأغراض بسببها عادة.
أن يكون مؤجلا
لا يشترط الشافعية الأجل في السلم , فهو يجوز حالا كما يجوز مؤجلا وذلك
خلافا لما ذهب إليه الجمهور من كون الأجل شرط لصحة السلم فينبغي عندهم أن
يكون المسلم فيه مؤجلا.
اشتراط أن يكون المسلم فيه مؤجلا عند
الجمهور
اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية لصحة السلم
أن يكون المسلم فيه مؤجلا , وقرروا عدم صحة السلم الحال.
ودليلهم على ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى
أجل معلوم. حيث أمر عليه الصلاة والسلام بالأجل في السلم , وأمره يقتضي
الوجوب , فيكون الأجل من جملة شروط صحة السلم , فلا يصح بدونه.
- أن السلم جوز رخصة للرفق , ولا يحصل الرفق إلا بالأجل , فإذا انتفى الأجل
انتفى الرفق , وذلك لأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه ,
والمسلم إليه يرغب فيه لموضوع النسيئة , وإذا لم يشترط الأجل زال هذا
المعنى.
- قال القاضي عبد الوهاب (ولأن السلم مشتق من اسمه الذي هو السلف , وهو أن
يتقدم رأس المال ويتأخر المسلم فيه , فوجب منع ما أخرجه عن ذلك.
- ولأن السلم الحال يفضي إلى المنازعة , إذ هو أصلا بيع المفاليس , فالظاهر
أن يكون المسلم إليه عاجزا عن تسليم المسلم فيه حالا , ورب السلم يطالب
بالتسليم , فيتنازعان على وجه تقع الحاجة إلى الفسخ. كما أنه قد يكون فيه
إلحاق الضرر برب السلم , لأنه أعطى رأس المال إلى المسلم إليه وصرفه في
حاجته , فلا يصل إلى المسلم فيه بخلاف الأمر عند اشتراط الأجل , حيث لا
يملك المطالبة إلا بعد حل الأجل , وعند ذلك يقدر المسلم إليه على التسليم
ظاهرا , فلا يؤدي إلى المنازعة المفضية إلى الفسخ والإضرار برب السلم.
جواز أن يكون المسلم فيه حالا عند الشافعية
خالف الشافعية ما ذهب إليه جمهور الفقهاء , وقالوا بجواز السلم الحال كما
هو جائز مؤجلا. وحجتهم القياس الأولوي على السلم المؤجل , حيث إن في الأجل
ضربا من الغرر , إذ ربما يقدر المسلم إليه على تسليمه في الحال , ويعجز عند
حلول الأجل , فإذا جاز مؤجلا فهو حالا أحرى بالجواز , لأنه أبعد عن الغرر.
تحديد الأجل في عقد السلم
مع أن جمهور الفقهاء - عدا الشافعية - اتفقوا على وجوب كون المسلم فيه
مؤجلا لصحة العقد , فقد اختلفوا في تحديد الأجل الأدنى الذي لا يصح السلم
بأقل منه , وذلك على جملة أقوال:
- ذهب الظاهرية إلى أن الحد الأدنى للأجل أقل ما ينطبق عليه اسم الأجل لغة
, ساعة فما فوقها.
- وقال الحنابلة: من شرط الأجل أن يكون مدة لها وقع في الثمن عادة , كالشهر
وما قاربه. لأن الأجل إنما اعتبر لتحقيق الرفق الذي من أجله شرع السلم ,
ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا أثر لها في رخص الثمن.
- واختلف فقهاء الحنفية في تحديده , فقال الكرخي إنه موكول لتراضي العاقدين
, حتى لو قدرا نصف يوم جاز. وقيل: أقله ثلاثة أيام قياسا على خيار الشرط.
قال الكاساني وروى عن محمد أنه قدره بالشهر , وهو الصحيح , لأن الأجل إنما
شرط في السلم ترفيها وتيسيرا على المسلم إليه , ليتمكن من الاكتساب في
المدة. والشهر مدة معتبرة يتمكن فيها من الاكتساب , فيتحقق معنى الترفيه.
فأما ما دونه ففي حد القلة , فكان له حكم الحلول.
- وذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أن أقله ما تختلف فيه الأسواق ,
كالخمسة عشر يوما ونحوها. وهو قول ابن القاسم. وروى ابن وهب عن مالك أنه
يجوز اليومين والثلاثة. وقال ابن عبد الحكم لا بأس به إلى اليوم الواحد.
قال الباجي - بعد عرض تلك الأقوال -: (إذا ثبت ما قلناه , فالذي قاله
القاضي أبو محمد أن تغير الأسواق في ذلك لا يختص بمدة من الزمان , وإنما هو
على حسب عرف البلاد. ومن قدر ذلك بخمسة عشر يوما أو أكثر فإنما قدر على عرف
بلده وتقدير ابن القاسم ذلك بخمسة عشر يوما أو عشرين أظهر , لأن هذا عرف
البلاد , ومقتضى ما علم من أسواقها فإنه يغلب تغيرها في مثل هذه المدة) .
أن يكون الأجل
معلوما
اتفق الفقهاء على أن معلومية الأجل الذي يوفى فيه المسلم فيه شرط لصحة
السلم , فإن كان الأجل مجهولا فالسلم فاسد.
اتفق الفقهاء على أن معلومية الأجل الذي
يوفى فيه المسلم فيه شرط لصحة السلم , لقوله صلى الله عليه وسلم من أسلم
فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم حيث أوجب معلومية الأجل.
وعلى ذلك نص العلماء على أنه إن كان الأجل مجهولا فالسلم فاسد , سواء أكانت
الجهالة متفاحشة أو متقاربة , لأن كل ذلك يفضي إلى المنازعة , وأنها مفسدة
للعقد , كجهالة القدر.
ويتم العلم بالأجل بتقدير مدته بالأهلة نحو أول شهر رجب أو أوسط محرم أو
يوم معلوم منه , أو بتحديده بالشهور الشمسية المعروفة عند المسلمين
والمشهورة بينهم مثل أول شباط , وآخر آذار أو يوم معلوم منه. أو بتحديد وقت
محل المسلم فيه بأن يقال: بعد ستة أشهر أو شهرين أو سنة ونحو ذلك.
أن يكون مقدور
التسليم عند محله
اتفق الفقهاء على اشتراط أن يكون المسلم فيه مقدور التسليم عند محله , وذلك
بأن يكون مما يغلب وجوده عند حلول الأجل.
اتفق الفقهاء لصحة السلم أن يكون المسلم
فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل , واحتجوا على ذلك بأن المسلم فيه واجب
التسليم عند الأجل فلا بد أن يكون تسليمه مقدورا عليه حينذاك , وإلا كان من
الغرر الممنوع.
وعلى هذا , فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه ,
أو لا يوجد فيه إلا نادرا , كما أنه لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معينة أو
ثمار بستان بعينه. وذلك لما روى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في ثمر مسمى , فقال اليهودي: من تمر حائط
بني فلان. فقال عليه الصلاة والسلام: أما من حائط بني فلان فلا , ولكن كيل
مسمى إلى أجل مسمى. وذلك لأن ثمر البستان المعين أو النخل المعين لا يؤمن
تلفه وانقطاعه.
أما وجود المسلم فيه عند العقد فليس شرطا لصحة السلم عند جمهور الفقهاء من
الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية , فيجوز السلم في المعدوم وقت
العقد وفيما ينقطع من أيدي الناس قبل حلول الأجل.
وحجتهم على ذلك ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يسلفون في الثمر العام
والعامين , فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
فلم يشترط عليه الصلاة والسلام وجود المسلم فيه عند العقد , ولو كان شرطا
لذكره ولنهاهم عن السنتين والثلاث لأن من المعلوم أن الثمر لا يبقى طوال
هذه المدة. وأيضا: فإن التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق , فلا يلزم وجود
المسلم فيه بتلك الفترة , إذ لا فائدة لوجوده حينئذ.
وخالفهم في ذلك الحنفية والثوري والأوزاعي الذين قالوا بعدم صحة السلم إلا
فيما هو موجود في الأسواق من وقت العقد إلى محل الأجل دون انقطاع. واستدل
الحنفية على ذلك بأن الأجل يبطل بموت المسلم إليه , ويجب أخذ المسلم فيه من
تركته , فاشترط لذلك دوام وجود المسلم فيه لتدوم القدرة على تسليمه , إذ لو
لم يشترط هذا الشرط , ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل فربما يتعذر
المسلم فيه , فيؤول ذلك إلى الغرر.
وقد أجاب ابن قدامة على حجة الحنفية هذه بقوله: (ولا نسلم أن الدين يحل
بالموت , وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود , إذ لو لزم لأفضى إلى أن
تكون آجال السلم مجهولة , والمحل ما جعله العاقدان محلا , وههنا لم يجعلاه)
.
وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي (ولأن كل وقت لم يجعل وقتا لقبض المسلم
فيه لم يكن وجوده شرطا في صحة العقد , أصله ما بعد المحل. ولأنه يضبط
بالصفة ويوجد عند المحل , فجاز السلم فيه) .
تعيين مكان الإيفاء
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط تعيين مكان إيفاء المسلم فيه لصحة العقد وذلك
على خمسة أقوال.
اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه عند
الشافعية
ذهب الشافعية في المعتمد إلى أنه يشترط لصحة السلم بيان مكان تسليم المسلم
فيه إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم كالصحراء , أو كان لحمله مؤنة.
فإن كان العقد بمكان يصلح للتسليم أو لم يكن لحمله مؤنة فلا يشترط ذلك ,
ويتعين مكان العقد للتسليم بدلالة العرف.
وهذا إذا كان المسلم فيه مؤجلا , أما الحال فلا يشترط فيه تعيين مكان
الوفاء , ويتعين موضع العقد للتسليم.
قالوا: ووجه اشتراط تعيينه في المؤجل إذا كان المكان لا يصلح للتسليم
اختلاف الأغراض وتفاوتها في الأمكنة , فوجب بيانه كما هو الأمر في الأوصاف.
وأما إذا كان لحمله مؤنة فلأنه يختلف الثمن باختلاف المكان الذي سيسلم فيه
, كالصفات التي يختلف الثمن باختلافها. بخلاف ما ليس لحمله مؤنة , فإنه لا
يجب بيانه لأنه لا يختلف ثمنه باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التي لا
يختلف الثمن باختلافها.
اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه عند المالكية
وقال المالكية لا يشترط تعيين مكان الإيفاء , ولكنه يفضل.
قال ابن جزي (الأحسن اشتراط مكان الدفع. . فإن لم يعينا في العقد مكانا ,
فمكان العقد , وإن عيناه تعين , ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان المعين
ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين , لأنهما بمنزلة الأجلين) .
اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه عند الحنابلة
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يشترط ذكر مكان الإيفاء , لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يذكره , فدل على أنه لا يشترط فيه. ولأنه عقد معاوضة , فلا
يشترط فيه ذكر مكان الإيفاء , كبيوع الأعيان , إلا أن يكون موضع العقد لا
يمكن الوفاء فيه كصحراء وبحر وجبل ونحو ذلك , فعند ذلك يشترط بيانه لتعذر
الوفاء في موضع العقد , فيكون محل التسليم مجهولا , فاشترط تعيينه بالقول
كالأجل.
اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه عند الحنفية
وقال الحنفية لا يشترط بيان مكان الإيفاء إذا لم يكن للمسلم فيه حمل ومؤنة
, بحيث لا يحتاج نقله إلى كلفة نقل وأجرة حمال. أما إذا كان له حمل ومؤنة ,
فقد اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اشتراط تعيين مكان الإيفاء.
فقال أبو حنيفة يشترط بيان مكان إيفاء المسلم فيه , لأن التسليم غير واجب
في الحال , فلا يتعين مكان العقد موضعا للتسليم , وإذا لم يتعين بقي مجهولا
جهالة مفضية إلى المنازعة لاختلاف القيم باختلاف الأماكن , فلا بد من
البيان دفعا للمنازعة , إذ صار كجهالة الصفة.
وقال أبو يوسف ومحمد لا يحتاج إلى تعيينه , ويسلمه في موضع العقد , لأن
مكانه موضع الالتزام , فيتعين لإيفاء ما التزمه في ذمته , كموضع الاستقراض
والاستهلاك وكبيع الحنطة بعينها.
اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه عند ابن حزم
وقال ابن حزم لا يجوز أن يشترطا في السلم دفعه في مكان بعينه , فإن فعلا
فالصفقة كلها فاسدة. لكن حق المسلم قبل المسلم إليه أنه حيث ما لقيه عند
محل الأجل فله أخذه بدفع حقه إليه , فإن غاب أنصفه الحاكم من ماله - أي
المسلم إليه - إن وجد له , لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها} فهو مأمور بأداء أمانته حيث وجبت عليه ويسألها.
رأي الفقهاء في حالة أداء المسلم فيه في غير المكان المعين
إذا قام المسلم إليه بتسليم الدين المسلم فيه في المكان المعين , فإنه لم
يكن للمسلم الامتناع عن تسلمه فيه.
وقد اختلف الفقهاء في حالة قيام المسلم إليه بأداء المسلم فيه في غير
المكان المعين , وذلك على قولين:
قال المالكية لا يلزم المسلم قبوله بغير محله , ولو خف حمله. وكذلك لا يجوز
أن يقبضه بغير المكان المعين , ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين , لأنهما
بمنزلة الأجلين.
وبمثل ذلك قال الحنابلة , وكذا الحنفية حيث جاء في البدائع: ولو سلم في غير
المكان المشروط , فلرب السلم أن يأبى لقوله عليه الصلاة والسلام: المسلمون
على شروطهم. فإن أعطاه على ذلك أجرا , لم يجز له أخذ الأجر عليه. لأنه لما
قبض المسلم فيه فقد تعين ملكه في المقبوض , فتبين أنه أخذ الأجر على نقل
ملكه , فلم يجز , فيرد الأجر. وله أن يرد المسلم فيه حتى يسلم في المكان
المشروط , لأن حقه في التسليم فيه , ولم يرض ببطلان حقه إلا بعوض , ولم
يسلم له , فبقي حقه التسليم في المكان المشروط.
وقال الشافعية إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التسليم ,
فامتنع المستحق من أخذه , فينظر
- فإن كان لنقله مؤنة , أو كان الموضع مخوفا , لم يجبر.
- وإلا فوجهان بناء على القولين في التعجيل قبل المحل. فلو رضي وأخذه , لم
يكن له أن يكلفه مؤنة النقل. قال النووي قلت: أصحهما إجباره.
بيع دين السلم قبل
قبضه
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه مطلقا سواء لمن
هو في ذمته (أي للبائع: وهو ما يعرف بالاستبدال أو الاعتياض عن المسلم فيه)
أو لغير من هو في ذمته (أي لغير البائع: وهو ما يعرف عموما ببيع دين السلم
قبض قبضه) .
وخالفهم في ذلك المالكية وما جاء في رواية عن أحمد وهو كذلك ما صححه ابن
تيمية وابن القيم فقد أجازوا استبدال المسلم فيه قبل قبضه بشرط أن يكون
بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالا حتى لا يربح رب السلم مرتين.
كما أجازوا بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر
حالا غير مؤجل كي لا يؤول إلى بيع دين بدين
واشترط المالكية في ذلك أن لا يكون المسلم فيه من المطعومات لأن نهي البيع
قبل القبض مختص عندهم بالمطعومات.
عدم استقرار دين السلم للمشتري
لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد السلم إذا أبرم بين عاقدين مستجمعا أركانه
وشروط صحته فإنه يقتضي انتقال ملكية رأس المال إلى المسلم إليه وانتقال
ملكية المسلم فيه إلى رب السلم.
وعلى ذلك , فإذا قبض المسلم إليه رأس المال كان له أن يتصرف فيه بكل
التصرفات السائغة شرعا , لأنه ملكه وتحت يده.
أما المسلم فيه , فمع صيرورته ملكا للمسلم بمقتضى العقد , إلا أن ملكيته له
غير مستقرة. قال السيوطي (جميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض
المقابل لها مستقرة إلا دينا واحدا هو دين السلم , فإنه وإن كان لازما فهو
غير مستقر. وإنما كان غير مستقر , لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه ,
فينفسخ العقد) .
عم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه عند الجمهور وبناء على كون دين السلم غير
مستقر فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه:
- لا يصح بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته , أي استبداله قبل قبضه بأن يأخذ
رب السلم مكانه من غير جنسه (وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالاعتياض عن المسلم
فيه أو استبداله)
- كما لا يصح بيعه من غير من هو في ذمته , لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب
انقطاع المسلم فيه , فكان كالمبيع قبل القبض.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
قالوا: وهذا يقتضي ألا يبيع رب السلم دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره.
جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير من عليه الدين عند بعض الحنابلة
خلافا لقول الجمهور , أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية
بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير من عليه الدين , وهذا القول رواية عن أحمد
ووجه عند الشافعية.
جاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية (ويجوز بيع الدين في الذمة
من الغريم وغيره , ولا فرق بين دين السلم وغيره , وهو رواية أحمد.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: والدين في الذمة يقوم مقام العين ,
ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره.
كذلك أجاز ابن تيمية وابن القيم الاعتياض عن المسلم فيه (أي بيعه لمن هو في
ذمته) قبل قبضه بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالا , وهو قول ابن عباس
رضي الله عنهما , ورواية عن الإمام أحمد.
قال ابن المنذر ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل , فإن
أخذت ما أسلفت فيه , وإلا فخذ عوضا أنقص منه , ولا تربح مرتين) .
وحجتهم على جواز بيعه من المدين (أو الاعتياض عنه) إذا كان ذلك بسعر المثل
أو دونه هو عدم المانع الشرعي , حيث إن حديث: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى
غيره ضعيف لا تقوم به حجة. وحتى لو ثبت فمعنى (فلا يصرفه إلى غيره) أي لا
يصرفه إلى سلم آخر , أو لا يبعه بمعين مؤجل , وذلك خارج عن محل النزاع.
قال ابن القيم (فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس , وأن النص
والقياس يقتضيان الإباحة) .
أما دليلهم على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته , فلأن دين
السلم مضمون على البائع , ولم ينتقل إلى ضمان المشتري , فلو باعه المشتري
من المسلم إليه بزيادة , فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن.
جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن من المطعومات عن المالكية
نهج المالكية في المسألة مسلكا وسطا , إذ أجازوا بيع المسلم فيه لغير
المسلم إليه إذا لم يكن طعاما بمثل ثمنه وبأقل وأكثر حالا غير مؤجل كي لا
يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ.
قال ابن رشد الحفيد (وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء
يجوز به التبايع , ما لم يكن طعاما , لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه) .
أما الاعتياض عنه , أي بيعه من المسلم إليه ببدل حال فقد أجازوه بشروط
ثلاثة بينها الخرشي بقوله: (يجوز للمسلم إليه أن يقضي السلم من غير جنس
المسلم فيه , سواء حل الأجل أم لا , بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) كما لو
أسلم ثوبا في حيوان , فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم , إذ يجوز بيع الحيوان قبل
قبضه.
الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدا بيد. كما لو أسلم دراهم
في ثوب مثلا , فأخذ عنه طست نحاس , إذ يجوز بيع الطست بالثوب يدا بيد.
الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال. كما لو أسلم
دراهم في حيوان , فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبا , فإن ذلك جائز , إذ يجوز أن
يسلم الدراهم في الثوب) .
وجاء في القوانين الفقهية , لابن جزي (يجوز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه
من بائعه بمثل ثمنه أو أقل لا أكثر , لأنه يتهم في الأكثر بسلف جر منفعة
ويجوز من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدا بيد , ولا يجوز بالتأخير للغرر)
.
توثيق الدين المسلم
فيه
يجوز للمسلم (المشتري) عند جمهور الفقهاء أن يأخذ رهنا أو كفيلا من المسلم
إليه (البائع) لأن السلم بيع كغيره من البيوع. فيكون للمسلم حق مطالبة
الكفيل , وكذلك بيع الرهن واستيفاء حقه ثمنه.
توثيق الدين بتأكيده وتقويته بالكتابة
والشهادة
قد يكون توثيق الدين بتقوية وتأكيد حق رب السلم في الدين المسلم فيه
بالكتابة أو الشهادة , لمنع المسلم إليه من الإنكار , وتذكيره عند النسيان
, وللحيلولة دون ادعائه أقل من الدين المسلم فيه قدرا أو صفة ونحو ذلك أو
ادعاء رب السلم أكثر منه.
وهذا النوع من التوثيق لا خلاف بين الفقهاء في كونه مندوبا إليه , لما فيه
من حماية الحقوق , ومنع التلاعب بها , وقطع دابر الخصومات والمنازعات بين
الناس فيها. وذلك لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى
أجل مسمى فاكتبوه} إلى آخر الآية (282) من سورة البقرة.
توثيق الدين برهن أو كفيل
وقد يكون توثيق الدين بتثبيت حق رب السلم في الدين المسلم فيه وإحكامه ,
وذلك برهن أو كفيل بحيث يتمكن عند امتناع المسلم إليه عن الوفاء - لأي سبب
من الأسباب - من استيفاء دينه من شخص ثالث يكفل الدين المسلم فيه بماله ,
أو من عين مالية يتعلق بها حق رب السلم وتكون رهينة بدينه , وتلك محل نظر
بعض الفقهاء.
وبيان ذلك أن الفقهاء اختلفوا في مشروعية توثيق الدين المسلم فيه بالكفالة
أو الرهن على أربعة أقوال:
أولا: ذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى أنه لا يصح أخذ رهن ولا كفيل من
المسلم إليه. وذلك لأنه إن أخذ برأس مال السلم الرهن والضمين , فقد أخذ بما
ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب , لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه. وإن أخذ
بالمسلم فيه , فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن , والمسلم
فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن. ولأنه لا يأمن هلاك
الرهن في يده بعدوان , فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره رواه أبو داود.
ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه , فيكون في حكم
أخذ العوض والبدل عنه , وهذا لا يجوز.
- ثانيا: ذهب الشافعي ومالك والحنفية وإسحاق وابن المنذر إلى جوازه. وهو
رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن قدامة وجمع من الحنابلة. وهو قول عطاء
ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم وغيرهم من السلف. وعلى هذا , فإنه في حالة
امتناع المسلم إليه عن الإيفاء مع وجود المسلم فيه في الأسواق , يجوز
للمسلم مطالبة الكفيل , كما يجوز له بيع الرهن واستيفاء حقه من ثمنه.
وجاء في الأم للشافعي السلم: السلف. وبذلك أقول: لا بأس فيه بالرهن والحميل
, لأنه بيع من البيوع , وقد أمر الله جل ثناؤه بالرهن , فأقل أمره , تبارك
وتعالى , أن يكون إباحة له.
وقد علق برهان الدين ابن مفلح الحنبلي على استدلال المانعين بحديث: من أسلم
في شيء فلا يصرفه إلى غيره بقوله: فيه نظر , لأن الضمير في (لا يصرفه) راجع
إلى المسلم فيه , ولكن يشترى ذلك من ثمن الرهن ويسلمه , ويشتريه الضامن
ويسلمه , لئلا يصرفه إلى غيره.
ثالثا: روي عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والأوزاعي
كراهة ذلك.
وذهب ابن حزم الظاهري إلى أن اشتراط الكفيل في السلم يفسد به السلم , لأنه
شرط ليس في كتاب الله تعالى , فهو باطل. أما اشتراط الرهن فيه فجائز.
الاتفاق على تقسيط
المسلم فيه على نجوم
يجوز عند المالكية وفي قول للشافعية أن يسلم شخص في شيء واحد على أن يقبضه
بالتقسيط في أوقات متفرقة وأجزاء معلومة.
واشترط الحنابلة لذلك بيان قسط كل أجل وثمنه لأن الأجل الأبعد له زيادة وقع
على الأقرب.
إذا أسلم شخص في شيء واحد على أن يقبضه
بالتقسيط في أوقات متفرقة أجزاء معلومة , كسمن يأخذ بعضه في أول رجب وبعضه
في أول رمضان وبعضه في منتصف شوال مثلا. . . فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك
على ثلاثة أقوال:
- ذهب المالكية والشافعية في الأظهر أنه يصح ذلك. لأن كل ما جاز أن يكون في
الذمة إلى أجل , جاز أن يكون إلى أجلين وآجال , كالأثمان في بيوع الأعيان.
- وذهب الشافعي في قول ثان له إلى أنه لا يصح ذلك , لأن ما يقابل أبعدهما
أجلا أقل مما يقابل الآخر , وذلك مجهول , فلم يجز. أي أن القيمة الحالية
(وقت عقد السلم) للدفعة المؤجلة إلى الأجل القريب أعلى من القيمة الحالية
للدفعة المؤجلة إلى الأجل البعيد , فحيث لم يسم في العقد لكل دفعة من
المسلم فيه قدرا من الثمن (رأس المال) على حدته , فلا تعرف حصة كل قسط من
الثمن , وتلك هي الجهالة المفضية إلى فساد العقد.
- وذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى التفصيل , حيث قالوا: يصح أن يسلم في
جنس واحد في أجلين , كسمن يأخذ بعضه في رجب , وبعضه في رمضان , لأن كل بيع
جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال إن بين قسط كل أجل وثمنه , لأن الأجل
الأبعد له زيادة وقع على الأقرب , فما يقابله أقل. فاعتبر معرفة قسطه
وثمنه. فإن لم يبينهما لم يصح.
ويصح أن يسلم في شيء كلحم وخبز وعسل يأخذه كل يوم جزءا معلوما مطلقا , أي
سواء بين ثمن كل قسط أو لا , لدعاء الحاجة إليه.
فإن قبض البعض مما أسلم فيه ليأخذ منه كل يوم قدرا معلوما , وتعذر قبض
الباقي , رجع بقسطه من الثمن , ولا يجعل للباقي فضلا على المقبوض , لأنه
مبيع واحد متماثل الأجزاء , فقسط الثمن على أجزائه بالسوية , كما لو اتحد
أجله.
الانتهاء بإيفاء
المسلم فيه
اتفق الفقهاء على أنه ينتهى السلم بإيفاء المسلم فيه. ذلك أنه إذا حل أجل
السلم المتفق عليه في العقد وجب على المسلم إليه إيفاء المسلم فيه , ووجب
على المسلم قبوله إبراء لذمة المسلم إليه.
اتفق الفقهاء على أنه إذا حل أجل السلم
المتفق عليه في العقد وجب على المسلم إليه إيفاء الدين المسلم فيه فإن جاء
به وفق الصفات المشروطة المبينة في العقد وجب على المسلم قبوله لأنه أتاه
بحقه في محله , فلزمه قبوله , كالبيع المعين وسواء كان عليه في قبضه ضرر أو
لم يكن فإن أبي قيل له إما أن تقبض حقك وإما أن تبرئ منه. فإن امتنع قبضه
الحاكم من المسلم إليه للمسلم , وبرئت ذمته منه , لأن الحاكم يقوم مقام
الممتنع بولايته.
أما قبل حلول الأجل فلا يخفي أنه ليس للمسلم مطالبة المسلم إليه بالدين
المسلم فيه.
ولكن إذا أتى به المسلم إليه قبل الأجل , وامتنع المسلم من قبوله , فهل
يجبر على أخذه أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
فقال المالكية: إذا دفع المسلم فيه قبل الأجل , جاز قبوله , ولم يلزم.
وألزم المتأخرون قبوله في اليوم واليومين.
وقال الشافعية والحنابلة: إذا أتى به المسلم إليه قبل محله , فينظر فيه:
فإن كان مما في قبضه قبل محله ضرر على المسلم إما لكونه مما يتغير ,
كالفاكهة والأطعمة كلها , أو كان قديمه دون حديثة , كالحبوب ونحوها , لم
يلزم المسلم قبوله لأن له غرضا في تأخيره , بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه
في ذلك الوقت. وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن تلفه , ويحتاج إلى الإنفاق عليه
إلى ذلك الوقت وربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله. وكذا إن كان مما
يحتاج في حفظه إلى مؤونة كالقطن ونحوه , أو كان الوقت مخوفا يخشي نهب ما
يقبضه , فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلها , لأن عليه ضررا في قبضه ,
ولم يأت محل استحقاقه له , فجرى مجرى نقص صفة فيه.
وإن كان مما لا ضرر عليه في قبضه , بأن يكون مما لا يتغير , كالحديد
والرصاص والنحاس , فإنه يستوي قديمه وحديثه , ونحو ذلك الزيت والعسل , ولا
في قبضه ضرر لخوف ولا تحمل مؤنة , فعليه قبضه , لأنه غرضه حاصل مع زيادة
تعجيل المنفعة , فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المعجل.
الانتهاء بتعذر
إيفاء المسلم فيه
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا انقطع المسلم فيه عند حلول الأجل بحيث تعذر
على المسلم إليه إيفاؤه للمسلم في وقته , فإنه يخير رب السلم بين أن يصبر
إلى وجوده فيطالب به عنده , وبين أن يفسخ العقد ويرجع برأس ماله إن وجد ,
أو عوضه إن عدم لتعذر رده.
إذا انقطع المسلم فيه عند حول الأجل بحيث
تعذر على المسلم إليه إيفاؤه للمسلم في وقته , فقد اختلف الفقهاء فيما
يترتب على ذلك من أحكام على ثلاثة مذاهب:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية في الأظهر والمالكية والحنابلة إلى
أنه يخير رب السلم بين أن يصبر إلى وجوده , فيطالب به عنده , وبين أن يفسخ
السلم ويرجع برأس ماله إن وجد , أو عوضه إن عدم , لتعذر رده.
وقال زفر وأشهب والشافعي في قول: ينفسخ السلم ضرورة , ويسترد رب السلم رأس
المال , ولا يجوز التأخير.
وقال سحنون ليس لرب السلم فسخ السلم , وإنما له أن يصبر إلى القابل.
الإقالة في السلم
ينتهي السلم عند الجمهور باتفاق الطرفين على الإقالة.
وتجوز الإقالة في السلم سواء قبل حلول الأجل أم بعده , وسواء أكانت قبل قبض
المسلم فيه أم بعده لأنها فسخ للعقد.
ويجب على المسلم إليه أن يرد حينئذ الثمن إلى رب السلم إن كان الثمن باقيا
, أو مثله إن كان مثليا , أو قيمته إن كان قيميا ولم يكن باقيا.
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية
والمالكية والحنابلة إلى جواز الإقالة في السلم سواء قبل حلول الأجل أم
بعده وسواء أكانت قبل قبض المسلم فيه أم بعده لأنه فسخ للعقد. فإذا أقاله
رب السلم وجب على المسلم إليه رد الثمن إن كان باقيا أو مثله إن كان مثليا
أو قيمته إن كان قيميا إذا لم يكن باقيا.
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع
ما أسلم فيه جائزة.
واستدلوا على ذلك:
أولا: بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أقال
نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة حيث ندب النبي عليه الصلاة
والسلام إلى الإقالة مطلقا , فيدخل فيه السلم , كما يدخل فيه البيع المطلق
لأن السلم نوع من البيع. قال الكاساني (ولأن الإقالة في بيع العين إنما
شرعت نظرا للعاقدين دفعا لحاجة الندم , واعتراض الندم في السلم ههنا أكثر ,
لأنه بيع بأوكس الأثمان فكان أدعى إلى شرع الإقالة فيه) .
ثانيا: وبأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه إذا لإقالة فسح للعقد ورفع
له من أصله.
وخالفهم في ذلك ابن حزم فقال: ولا تجوز الإقالة في السلم , لأن الإقالة بيع
صحيح على ما بينا قبل , وقد صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم
يقبض وعن بيع المجهول , لأنه غرر , لكن يبرئه مما شاء منه , فهو فعل خير.
|