سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

المجلد الثالث
كتاب البيوع
كتاب البيوع
...
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحل لعباده البيع والشراء وحرم عليهم المكاسب الخبيثة والربا والصلاة والسلام على من عرف الأمة الأحكام وأبان لها مناهج الحلال والحرام وعلى آله الذين شروا غرف دار السلام بطاعة مولاهم في كل مرام وبعد فقد أعان الله وله الحمد على إتمام الجزء الأول من شرح بلوغ المرام وها نحن آخذون في شرح الجزء الثاني ونسأل من الله الإعانة على التمام قال المصنف رحمه الله تعالى
كتاب البيوع
اعلم أن الحكمة في شرعية البيع كما قاله المصنف في فتح الباري إن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض غير حرج انتهى وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه وهي ثمانية ولفظة البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة وحقيقة البيع لغة تمليك مال بمال وزاد فيه الشرع قيد التراضي وقيل هو إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما معنى التبرع فتخرج المعاطاة وقيل مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع فتدخل فيه المعاطاة والدليل على اشتراط الإيجاب والقبول أنه تعالى قال :{ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ }

(3/3)


وأخرج ابن حبان وابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" ولما كان الرضا أمرا خفيا لا يطلع عليه وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهو الصيغة ولا بد أن يكون على صيغة الجزم لفظها لتتم معرفة الرضا وقد استثنى المحقر من ذلك لجرى عادة المسلمين فيه بالدخول من غير لفظ وهذا عند الجماهير من علماء الأمة وذهبت الشافعية إلى أنه لا بد من اللفظين كغيره وقد اختار النووي وأكثر المتأخرين من الشافعية عدم اشتراط العقد في المحقر والمحقر ما دون ربع المثقال وقيل التافه من البقول والرطب والخبز وقيل ما دون نصاب الرقة والأشبه اتباع العرف عند الحق أنه لم يتم دليل على اشتراط الإيجاب والقبول بل حقيقة البيع المبادلة الصادرة عن تراض كما أفادت الآية والحديث نعم الرضا أمر خفي يناط بقرائن منها الإيجاب والقبول ولا ينحصر فيهما بل متى انسلخت النفس عن المبيع والثمن بأي لفظ كان وعلى هذا معاملات الناس قديما وحديثا إلا من عرف المذاهب إذنه وخاف نقض الحاكم للبيع لا حظ الإيجاب والقبول

(3/4)


باب شروطه وما نهى عنه
يعنى بالشروط شروط البيع طاعة في عرف الفقهاء ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب سواء علق بكلمة شرط أو لا وله في عرف النحاة معنى آخر وقد جعلوا شروط البيع أنواعا منها في العاقد وهو أن يكون عاقلا مميزا ومنها في الآلة وهو أن يكون بلفظ الماضي ومنها في المحل وهو أن يكون مالا متقوما وأن يكون مقدور التسليم ومنها التراضي ومنها شرط النفاذ وهو الملك أو الولاية وقوله وما نهى عنه أي من البيوع وستأتي الأحاديث في الذي نهى عن بيعه
1- عن رفاعة بن رافع هو زرقي أنصاري شهد بدرا وأبو رافع أحد النقباء الإثني عشر وكان أول من قدم المدينة بسورة يوسف وشهد رفاعة المشاهد كلها وشهد مع علي الجمل وصفين توفي أول زمن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب? قال: "عمل الرجل بيده" ومثله المرأة "وكل بيع مبرور" هو ما خلص عن اليمين الفاجرة لتنفيق السلعة وعن الغش في المعاملة رواه البزار وصححه الحاكم ورواه المصنف في التلخيص عن رافع بن خديج ومثله في المشكاة وعزاه لأحمد وأخرجه السيوطي في الجامع أيضا عن رافع ذكره في مسنده قيل ويحتمل أنه أريد برفاعة رفاعة بن رافع ابن خديج فقد رواه الطبراني عن عباية بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده وعباية هو ابن رفاعة بن رافع بن خديج فيكون سقط من المصنف قوله عن أبيه والحديث دليل على تقرير ما جبلت عليه الطبائع من كسب المكاسب وإنما سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيبها أي أحلها وأبركها وتقديم عمل اليد على البيع المبرور دال على أنه الأفضل ويدل له حديث البخاري الآتي ودل على أطيبية التجارة الموصوفة وللعلماء خلاف في أفضل

(3/4)


المكاسب قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة قال والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة قال والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل وتعقب بما أخرجه البخاري من حديث المقدام مرفوعا "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" قال النووي إن أطيب المكاسب ما كان بعمل اليد وإن كان زراعة فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد ولما فيه من التوكل ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب والطير قال الحافظ بان حجر وفوق ذلك ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى انتهى قيل وهو داخل في كسب اليد
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح كان الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم" وقع في رواية الصحيحين هكذا بإفراد الضمير وفي بعض الطرق "إن الله حرم" وفي رواية في غيرهما "إن الله ورسوله حرما" وتقدم وجه الكلام على الضميرين في باب الآنية "بيع الخمر والميتة" بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية "والخنزير والأصنام" قال الجوهري هو الوثن وقال غيره الوثن ماله جثة والصنم ما كان مصورا فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال: لا هو حرام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه" بفتح الجيم والميم أي أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" متفق عليه في الحديث دليل على تحريم ما ذكر قيل والعلة في تحريم بيع الثلاثة الأول هي النجاسة ولكن الأدلة على نجاسة ناهضة وكذا نجاسة الميتة والخنزير فمن جعل العلة النجاسة عدى الحكم إلى تحريم بيع كل نجس وقال جماعة يجوز بيع الأزبال النجسة وقيل يجوز ذلك للمشتري دون البائع لاحتياج المشتري دونه وهي علة عليلة وهذا كله عند من جعل العلة النجاسة والأظهر أنه لا ينهض دليل على التعليل بذلك بل العلة التحريم ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما حرمت عليهم الشحوم فجعل العلة نفس التحريم ولم يذكر علة هذا ولا يدخل في الميتة شعرها وصوفها ووبرها لأنها لا تحلها الحياة ولا يصدق عليها اسم الميتة وقيل إن الشعور متنجسة وتطهر بالغسل وجواز بيعها مذهب الجمهور وقيل إلا الثلاثة التي هي نجسة الذات وأما علة تحريم بيع الأصنام فقيل لأنها لا منفعة فيها مباحة وقيل إن كانت بحيث إذا كسرت تنفع بأكسارها جاز بيعها والأولى أن يقال لا يجوز بيعها وهي أصنام للنهي ويجوز بيع كسرها إذ هي ليست بأصنام ولا وجه لمنع بيع الأكسار أصلا ولما أطلق صلى الله عليه

(3/5)


وسلم تحريم بيع الميتة جوز ا لسامع أنه قد يخص من العام بعض ما يصدق عليه فقال السائل أرأيت شحوم الميتة وذكر لها ثلاث منافع أي أخبرني عن الشحوم هل تخص من التحريم لنفعها أم لا فأجاب صلى الله عليه وسلم أنه حرام فأبان له أنها غير خارجة عن الحكم والضمير في قوله "هو حرام" يحتمل أنه للبيع أي بيع الشحوم حرام وهذا هو الأظهر لأن الكلام مسوق له ولأنه قد أخرج الحديث أحمد وفيه فما ترى في بيع شحوم الميتة الحديث ويحتمل أنه للانتفاع المدلول عليه بقوله فإنها تطلى بها السفن إلى آخره وحمله الأكثر عليه فقالوا لا ينتفع من الميتة بشيء إلا بجلدها إذا دبغ لدليله الذي مضى في أول الكتاب فهو يخص هذا العموم وهو مبني على عود الضمير إلى الانتفاع ومن قال الضمير يعود إلى البيع استدل بالإجماع على جواز إطعام الميتة الكلاب ولو كانت كلاب الصيد لمن ينتفع بها وقد عرفت أن الأقرب عود الضمير إلى البيع فيجوز الانتفاع بالنجس مطلقا ويحرم بيعه لما عرفت وقد يزيده قوة قوله في ذم اليهود "إنهم جملوا الشحم ثم باعوه وأكلوا ثمنه" فإنه ظاهر في توجه النهي إلى البيع الذي ترتب عليه أكل الثمن وإذا كان التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي ودهن بدنه فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطب بالنجاسة وجاز إطعام شحوم الميتة الكلاب وإطعام العسل المتنجس النحل وإطعامه الدواب وجوز جميع ذلك مذهب الشافعي ونقله القاضي عياض عن مالك وأكثر أصحابه وأبى حنيفة وأصحابه والليث ويؤيد جواز الانتفاع ما رواه الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فاستصبحوا به أو انتفعوا به" قال الطحاوي إن رجاله ثقات وروى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم علي رضي الله عنه وابن عمر وأبو موسى ومن التابعين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وهذا هو ا لواضح دليلا وأما التفرقة بين الاستهلاكات وغيرها فلا دليل لها بل هو رأي محض وأما المتنجس فإن كان يمكن تطهيره فلا كلام في بجواز بيعه وأن لا يمكن فيحرم بيعه قالته الهادوية وابن حنبل وفي الحديث دليل على أنه إذا حرم بيع شيء حرم ثمنه وأن كل حيلة يتوصل بها إلى تحليل محرم فهي باطلة
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان" في رواية "البيعان" "وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان" وفي رواية يترادان زاد ابن ماجه في روايته "والمبيع قائم بعينه" ولأحمد "والسلعة كما هي" وأما رواية "والمبيع مستهلك" فهي مضعفة رواه الخمسة وصححه الحاكم وللعلماء كلام كثير على صحة الحديث وهو دليل على أنه إذا وقع

(3/6)


اختلاف بين البائع والمشتري في الثمن أو المبيع أو في شرط من شروطهما فالقول قول البائع مع يمينه لما عرف من القواعد الشرعية أن من كان القول قوله فعليه اليمين وللعلماء في هذا الحكم الذي أفاده الحديث ثلاثة أقوال الأول: للهادي أن القول قول البائع مطلقا وهو ظاهر حديث الباب الثاني: للقهاء أنهما يتحالفان ويترادان المبيع والثالث: فيه تفضيل وفرق بين الاختلاف في النوع أو الجنس أو الصفة وبين غيرها وهو تفصيل بلا دليل مستوفى في كتب الفروع ونقله في الشرح ويعني بالتحالف أن يحلف البائع ما بعت منك كذا ويحلف المشتري ما اشتريت منك كذا وقيل غير ذلك والوجه في التحالف أن كل واحد مدعى عليه فيجب على كل واحد منهما اليمين لنفي ما ادعي عليه وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعي واليمين على المنكر" والحاصل أن هذا حديث مطلق مقيد بأدلة باب الدعاوي وسيأتي
4- وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي" بفتح الموحدة وكسر الغين المعجمة وتشديد المثناة التحتية أريد بها الزانية "وحلوان" بضم الحاء المهملة "الكاهن " متفق عليه الأصل في النهي التحريم والصحابي قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم نهى أي أتى بعبارة تفيد النهي وإن لم يذكرها وهو دال على تحريم ثلاثة أشياء الأول تحريم ثمن الكلب بالنص ويدل على تحريم بيعه باللزوم وهو عام لكل كلب من معلم وغيره وما يجوز اقتناؤه وما لا يجوز وعن عطاء والنخعي يجوز بيع كلب الصيد لحديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد" أخرجه النسائي برجال ثقات إلا أنه طعن في صحته فإن صح خصص عموم النهي والثاني تحريم مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابل الزنا سماه مهرا مجازا فهذا مال حرام وللفقهاء تفاصيل في حكمه تعود إلى كيفية أخذه والذي اختاره ابن القيم أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به ولا يرد إلى الدافع لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه فهو كسب خبيث يجب التصدق به ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله والثالث حلوا ن الكاهن وهو مصدر حلوته حلوانا إذا أعطيته وأصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلا بلا كلفة وأجمع العلماء على تحريم حلوان الكاهن والكاهن الذي يدعي علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن وهو شامل لكل من يدعي ذلك من منجم وضراب بالحصباء ونحو ذلك فكل هؤلاء داخل تحت حكم الحديث ولا يحل له ما يعطاه ولا يحل لأحد تصديقه فيما يتعاطاه 5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان على جمل له قد أعيا أي كل عن السير فأراد أن يسيبه قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار

(3/7)


سيرا لم ير مثله فقال: "بعنيه بأوقية" قلت لا ثم قال بعنيه فبعته بوقية واشترطت حملانه بضم الحاء المهملة أي الحمل عليه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: "أتراني" بضم المثناة الفوقية أي تظنني "ما كستك" المماكسة المكالمة في النقص عن الثمن "لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك متفق عليه وهذا السياق لمسلم فيه دليل على أنه لا بأس بطلب البيع من الرجل لسلعته ولا بالمماكسة وأنه يصح البيع للدابة واستثناء ركوبها ولكن عارضه حديث النهي عن بيع الثنيا وسيأتي وعن بيع وشرط ولما تعارضتا اختلف العلماء في ذلك على أقوال الأول لأحمد أنه يصح ذلك وحديث بيع الثنيا فيه إلا أن يعلم ذلك وهذا منه فقد علمت الثنيا فصح البيع وحديث النهي عن بيع وشرط فيه مقال مع احتمال أنه أراد الشرط المجهول والثاني لمالك أنه يصح إذا كانت المسافة قريبة وحده ثلاثة أيام وحمل حديث جابر على هذا الثالث أنه لا يجوز مطلقا وحديث جابر مؤول بأنه قصة عين موقوفة يتطرق إليها الاحتمالات قالوا ولأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع قالوا ويحتمل أن الشرط ليس في نفس العقد فلعله كان سابقا فلم يؤثر ثم تبرع صلى الله عليه وسلم بإركابه وأظهر الأقوال الأول وهو صحة مثل هذا الشرط وكل شرط يصح إفراده بالعقد كإيصال المبيع إلى المنزل وخياطة الثوب وسكنى الدار وقد روى عثمان أنه باع دارا واستثنى سكناها شهرا ذكره في الشفاء
6- وعنه أي عن جابر قال "أعتق رجل منا" أي من الأنصار "عبدا له عن دبر" بضم الدال المهملة وضم الموحدة أيضا "ولم يكن له مال غيره فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه" متفق عليه وأخرجه أبو داود والنسائي عن جابر أيضا وسميا فيه العبد والرجل ولفظه عن جابر أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له يقال له أبو يعقوب عن دبر لم يكن له مال غيره "فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يشتريه" فاشتراه نعيم بن عبدالله بن النحام بثمانمائة درهم "فدفعها إليه" زاد الإسماعيلي وعليه دين وقد ترجم له البخاري في باب الاستقراض فقال من باع مال الغرماء وقسمه بين الغرماء أو أعطاه إياه حتى ينفقه على نفسه فأشار إلى علة بيعه وهو الاحتياج إلى ثمنه واستدل به بعضهم على منع المفلس عن التصرف في ماله وعلى أن للإمام أن يبيع عنه وسيأتي بقية أبحاثه في بابه إن شاء الله تعالى
7- وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي في سمن جامد دل أمره صلى الله عليه وسلم بإلقاء ما حولها وهو ما لامسته من السمن على نجاسة الميتة لأن المراد بما حولها ما لاقاها قال المصنف في فتح الباري: لم يأت في طريق صحيحة تحديد ما يلقى لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء أن يكون

(3/8)


قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله ودل مفهوم قوله: جامدا أنه لو كان مائعا لنجس كله لعدم تميز ما لاقاها مما لم يلاقها ودل أيضا على أنه لا ينتفع بالدهن المتنجس في شيء من الانتفاعات إلا أنه تقدم الكلام في ذلك وأنه يباح الانتفاع به الأكل ودهن الآدمي فيحمل هذا وما يأتي من قوله "فلا تقربوه" على الأكل والدهن للآدمي جمعا بين مقتضى الأدلة نعم وأما مباشرة النجاسة فهو وإن جائز إلا لإزالتها عما وجب أو ندب إزالتها عنه فإنه لا خلاف في جوازه مفسدتها وبقي الكلام في مباشرتها لتسجير التنور وإصلاح الأرض بها فقيل: هو طلب مصلحتها وأنه يقاس جواز المباشرة له على المباشرة لإزالة مفسدتها والأقرب أنها تدخل إزالة مفسدتها تحت جلب مصلحتها فتسجير التنور بها يدخل فيه الأمر أن إزالة مفسدة بقاء عينها وجلب المصلحة لنفعها في التسخير وحينئذ فجواز المباشرة للانتفاع لا إشكال فيه
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه" ررواه أحمد وأبو داود وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم وذلك لأنه قال الترمذي سمعت البخاري يقول هو خطأ والصواب الزهري عن عبدالله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن ميمونة رضي الله عنها فرأى البخاري أنه ثابت عن ميمونة فحكم بالوهم على الطريق المروية عن أبي هريرة وجزوم ابن حبان في صحيحه بأنه ثابت من الوجهين واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو لتصحيح اللفظ الوارد وأما الحكم فهو ثابت وأن طرحها وما حولها والانتفاع بالباقي لا يكون إلا في الجامد وهو ثابت أيضا في صحيح البخاري بلفظ "خذوها وما حولها وكلوا سمنكم" ويفهم منه أن الذائب يلقى جميعه إذ العلة مباشرة الميتة ولا اختصاص في الذائب بالمباشرةوتميز البعض عن البعض وظاهر الحديث أنه لا يقرب السمن المائع ولو كان في غاية الكثرة وقد تقدم وجه الجمع بينه وبين حديث الطحاوي فائدة تمكين المكلف لغير المكلف كالكلب والهر من أكل الميتة ونحوها جائز وبه قال الإمام يحيى وقواه المهدي وقال إذ لم يعهد عن السلف منعها انتهى قلت: بل واجب إن لم يطعمه غيرها كما يدل له حديث "إن امرأة دخلت النار في هرة" وعلله "بأنها لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض وفي خشاش الأرض" ما هو محرم على المكلف وغيره فالحديث دل على أن أحد الأمرين إطعامها أو تركها تأكل من خشاش الأرض واجب وبسبب تركه عذبت المرأة وخشاش الأرض بالخاء المعجمة المفتوحة فشين معجمة هي هوام الأرض وحشراتها كما في النهاية
9- وعن أبي الزبير هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي تابعي روى عن جابر ابن عبدالله كثيرا قال سألت جابرا عن ثمن السنور بكسر المهملة وتشديد النون هو الهر كما في القاموس والكلب فقال: "زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" رواه مسلم والنسائي وزاد "إلا كلب صيد" وأخرج مسلم هذا من حديث جابر ورافع بن خديج وزاد النسائي في روايته استثناء كلب الصيد ثم قال هذا منكر قال المصنف في التلخيص

(3/9)


إنه ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقات انتهى ورواية جابر هذه رواها أحمد والنسائي وفيها استثناء الكلب المعلم إلا أنه قال المناوي في شرح الجامع الصغير متعقبا لقول المصنف إن رجالها ثقات بأنه قال ابن الجوزي فيه الحسين بن أبي حفصة قال يحيى ليس بشيء وضعفه أحمد وقال ابن حبان هذا الخبر بهذا اللفظ باطل لا أصل له نعم الثابت جواز اقتناء الكلب للصيد من غير نقص من عمل من اقتناه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان قيل قيراط من عمل الليل وقيراط من عمل النهار" وقيل من الفرض والنفل هذا والنهي عن ثمن الكلب متفق عليه من حديث ابن مسعود وانفرد مسلم برواية النهي عن ثمن السنور وأصل النهي التحريم والجمهور على تحريم بيع الكلب مطلقا واختلفوا في السنور وقد ذهب إلى تحريم بيع السنور أبو هريرة وطاوس ومجاهد وذهب الجمهور إلى جواز بيعه إذا كان له نفع وحملوا النهي على التنزيه وهو خلاف ظاهر الحديث والقول بأنه حديث ضعيف مردود أيضا بأنه أخرجه مسلم عن معقل بن عبدالله عن أبي الزبير فهذان ثقتان رويا عن أبي الزبير وهو ثقة أيضا
10- وعن عائشة رضي الله عنها قالت جائتني بريرة بفتح الباء الموحدة وراءين بينهما مثناة تحتية مولاة لعائشة فقالت: "إني كاتبت" من المكاتبة وهي العقد بين السيد وعبده أهلي هم ناس من الأنصار كما هو عند النسائي "على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني" بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة فقلت: "إن أحب أهلك أن أعدها له ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليه فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم" قال الشافعي والمزني يعني اشترطي عليهم فاللام بمعنى على الولاء "فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى ما كان من شرط ليس في كتاب الله" أي في شرعه الذي كتبه على العباد وحكمه أعم من ثبوته بالقرآن أو السنة "فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق" بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الله "وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" متفق عليه واللفظ للبخارى وعند مسلم قال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء" والحديث دليل على مشروعية الكتابة وهي عقد بين السيد وعبده على رقبته

(3/10)


وهي مشتقة من الكتب وهو الفرض والحكم كما في قوله: {كُُتِِِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهي مندوبة وقال عطاء وداود واجبة إذا طلبها العبدبقدر قيمته لظاهر الأمر في {فَكَاتِبُوهُمْ} وهو الأصل في الأمر قلت إلا أنه تعالى قيد الوجوب بقوله :{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} نعم بعد علم الخير فيهم تجب الكتابة وفي تفسير الخير أقوال للسلف الأول ما جاء في حديث مرسل ومرفوع عند أبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس" الثاني: لابن عباس قال: خيرا المال الثالث: عنه أمانة ووفاء الرابع عنه: إن علمت أن مكاتبك يقضيك وقولها في كل عام أوقية وفي تقريره صلى الله عليه وسلم لذلك دليل على جواز التنجيم لا على تحتمه وشرطيته كما ذهب إليه الشافعي والهادي وغيرهما وقالوا التنجيم في الكتابة شرط وأقله نجمان واستدلوا بروايات عن السلف لا تنهض دليلا وذهب الجمهور وأحمد ومالك إلى جواز عقد الكتابة على نجم لقوله {فَكَاتِبُوهُمْ} ولم يفصل وهو ظاهر والقول بأنه قيد إطلاقها الآثار عن السلف غير صحيح إذ ليس بإجماع وتقييد الآيات بآراء العلماء باطل ودل قوله صلى الله عليه وسلم خذيها على جواز بيع المكاتب عند تعسر الإيفاء بمال الكتابة وللعلماء في جواز بيع المكاتب ثلاثة أقوال الأول جوازه وهو مذهب أحمد ومالك وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب رق ما بقي عليه درهم" أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والثاني أنه يجوز بييعه برضاه إلى من يعتقه محتجين بظاهر حديث بريرة والقول الثالث: أنه لا يجوز بيعه مطلقا وهو لأبي حنيفة وجماعة قالوا لأنه خرج عن ملك السيد وتأولوا الحديث بأن قالوا إن بريرة عجزت نفسها وفسخوا عقد كتابتها والقول الأول أظهر لأن التقييد بالواقع في قصة بريرة ليس فيه دليل على أنه شرط وإنما كان الواقع كذلك فمن أين أنه شرط وأما القول بأن بيعه يوجب سقوط حق الله فجوابه أن حق الله تعالى ما ثبت فإنه لا يثبت إلا بالإيفاء والفرض أنه عجز المكاتب عنه وقوله "واشترطي لهم الولاء" إن جعلت اللام بمعنى على من باب قوله {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} كما قاله الشافعي فلا إشكال إلا أنه قد ضعف بأنه لو كان كذلك لم ينكر عليهم اشتراط الولاء ويجاب عنه بأن الذي أنكره اشتراطهم له أول الأمر وقيل أراد بذلك الزجر والتوبيخ لهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد بين لهم حكم الولاء وأن هذا الشرط لا يحل فلما ظهرت منهم المخالفة قال لعائشة ذلك ومعناه لا تبالي لأن اشتراطهم مخالف للحق فلا يكون ذلك للإباحة بل المقصود الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط وأن وجوده كعدمه وبعد معرفة هذه الوجوه والتأويل يزول الإشكال بأنه كيف وقع منه صلى الله عليه وسلم الإذن لعائشة بالشرط فإنه ظاهر أنه خداع وغرر للبائع من حيث إنه يعتقد عند البيع أنه بقي له بعض المنافع وانكشف الأمر على خلافه ولكن بعد تحقق وجوه التأويل يذهب الإشكال وفي قوله وإنما الولاء لمن أعتق دليل على حصر الولاء فيمن أعتق لا يتعداه إلى غيره
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد

(3/11)


فقال لا تباع ولا توهب ولا تورث يستمتع بها ما بدا له فإذا مات فهي حرة رواه مالك والبيهقي وقال رفعه بعض الرواة فوهم وقال الدارقطني الصحيح وقفه على عمر ومثله قال عبدالحق قال صاحب الإلمام المعروف فيه الوقف الذي رفعه ثقة وفي الباب آثار عن الصحابة وقد أخرج الحاكم وابن عساكر وابن المنذر عن بريدة قال كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا قال يا يرفأ أنظر ما هذا الصوت فنظر ثم جاء فقال جارية من قريش تباع أمها فقال عمر ادع لي المهاجرين والأنصار فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فهل كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة قالوا لا قال فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ثم قال وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرىء منكم وقد أوسع الله لكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب إلى الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة وإنه لا يحل فهذا ونحوه من الآثار والحديث دليل على أن الأمة إذا ولدت من سيدها حرم بيعها سواء كان الولد باقيا أولا وإلى هذا ذهب أكثر الأئمة وادعى الإجماع على المنع من بيعها جماعة من المتأخرين وأفاد الحافظ ابن كثير الكلام على هذه المسئلة في جزء مفرد قال وتلخص لي عن الشافعي فيها أربعة أقوال وفي المسئلة من حيث هي ثمانية أقوال وقد ذهب الناصر والإمامية وداود إلى جواز بيعها لما أفاده الحديث الآتي
12- وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا" رواه النسائي وابن ماجه والدار قطني وصححه ابن حبان وأخرجه أحمد والشافعي والبيهقي وأبو داود والحاكم وزاد في زمن أبي بكر وفيه فلما كان عمر نهانا فانتهينا ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف قال البيهقي: ليس في شيء من الطرق أنه صلى الله عليه وسلم يتحقق على ذلك وأقرهم عليه وترده رواية النسائي التي فيها والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا واستدل القائلون بجواز بيعها أيضا بأنه صح عن علي عليه السلام أنه رجع عن تحريم بيعها إلى جوازه وأخرج عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة ا لسلماني المرادي قال سمعت عليا يقول اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن الحديث وهو معدود في أصح الأسانيد وأجاب في الشرح عن هذه الأدلة بأنه يحتمل أن حديث جابر كان في أول الأمر وأن ما ذكر ناسخ وأيضا فإنه راجع إلى التقرير وما ذكر قول وعند التعارض القول أرجح قلت ولا يخفى ضعف هذا الجواب لأنه لا نسخ بالاحتمال فللقائل بجواز بيعها أن يقلب الاستدلال ويقول يحتمل أن حديث ابن عمر كان أول الأمر ثم نسخ بحديث جابر وإن كان احتمالا بعيدا عند قوله إن حديث جابر راجع إلى التقرير وحديث ابن عمر قول والقول أرجح عند التعارض يقال عليه القول

(3/12)


لم ينسخ رفعه بل صرح المصنف وغيره أن رفعه وهم وليس في منع بيعها إلا رأي عمر رضي الله عنه لا غير ومن شاوره من الصحابة وليس بإجماع فليس بحجة على أنه لو كان في المسئلة نص لما احتاج عمر والصحابة إلى الرأي
13- وعن جابر رضي الله عنه قال::نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء: رواه مسلم وزاد في رواية:وعن بيع ضراب الجمل: وأخرجه أصحاب السنن من حديث إياس بن عبد وصححه الترمذي وقال أبو الفتح القشيري هو على شرطهما والحديث دليل على أنه لا يجوز بيع ما فضل من الماء عن كفاية صاحبه قال العلماء وصورة ذلك أن يتبع في أرض مباحة فيسقى الأعلى ثم يفضل عن كفايته فليس له المنع وكذا إذا اتخذ حفرة في أرض مملوكة يجمع فيها الماء أو حفر البئر فيقى منه ويسقى أرضه فليس له منع ما فضل وظاهر الحديث يدل على أنه يجب عليه بذل ما فضل عن كفايته لشرب أو طهور أو سقي زرع وسواء كان في أرض مباحة أو مملوكة وقد ذهب إلى هذا العموم ابن القيم في الهدى وقال: إنه يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ لأن له حقا في ذلك ولا يمنعه استعمال ملك الغير وقال إنه نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة للراعي وإلى مثله ذهب المنصور بالله والإمام يحيى في الحطب والحشيش ثم قال إنه لا فائدة لإذن صاحب الأرض لأنه ليس له منعه من الدخول بل يجب عليه تمكينه ويحرم عليه منعه فلا يتوقف دخوله على الإذن وإنما يحتاج إلى الإذن في الدخول في الدار إذا كان فيها سكن لوجوب الاستئذان وأما إذا لم يكن فيها سكن فقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} ومن احتفر بئرا أو نهرا فهو أحق بمائه ولا يمنع الفضلة عن غيره سواء قلنا إن الماء حق للحافر لا ملك كما هو قول جماعة من العلماء أو قلنا هو ملك فإن عليه بذل الفضلة لغيره لما أخرجه أبو داود أنه قال رجل يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء" قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح" وأفاد أن في حكم الماء الملح وما شاكله ومثله الكلأ فمن سبق بدوابه إلى أرض مباحة فيها عشب فهو أحق برعيه ما دامت فيه دوابه فإذا خرجت منه فليس له بيعه هذا وأما المحرز في الأسقية والظروف فهو مخصص من ذلك بالقياس على الحطب فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع ذلك فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطى أو منع" فيجوزبيعه ولا يجب بذله إلا لمطر وكذلك بيع البئر والعين فتكون أنفسهما فإنه جائز فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين فله الجنة" فاشتراها ععثمان والقصة معروفة وقوله وعن ضراب الجمل أي ونهى عن أجرة ضراب الجمل وقد عبر عنه بالعسب في الحديث الآتي
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

(3/13)


عسب الفحل" وهو بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة فباء موحدة رواه البخاري وفيه وفيما قبله دليل على تحريم استئجار الفحل للضراب والأجرة حرام وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز ذلك إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة أو تكون الضربات معلومة قالوا لأن الحاجة تدعو إليه وهي منفعة مقصودة وحملوا النهي على التنزيه وهو خلاف أصله
15- وعنه أي ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع حبل الحبلة" بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة فيهما وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية وفسره قوله كان الرجل يبتاع الجزور بفتح الجيم وضم الزاي أي البعير ذكرا كان أو أنثي وهو مؤنث وإن أطلق على مذكر تقول هذا الجزور إلى أن تنتج الناقة بضم أوله وفتح ثالثه أي تلد الناقة وهذا الفعل لم يأت في لغة العرب إلا على بناء الفعل للمجهول ثم تنتج التي في بطنها وهذا التفسير من قوله وكان بيعا الخ مدرج في الحديث من كلام نافع وقيل من كلام ابن عمر متفق عليه واللفظ للبخاري ووقع في رواية حمل ولد الناقة من دون اشتراط الإنتاج وفي رواية أن تنتج الناقة ما في بطنها من دون أن يكون نتاجها قد حمل أو أنتج والحبل مصدر حبلت تحبل سمي به المحبول والحبلة جمع حابل مثل ظلمة في ظالم وكتبة في كاتب ويقال حابل وحابلة بالتاء قال أبو عبيد لم يرد الحبل في غير الآدميات إلا في هذا الحديث وقال غيره بل ثبت في غيره والحديث دليل على تحريم هذا البيع واختلف العلماء في هذا المنهى عنه لاختلاف الروايات هل هو من حيث يؤجل بثمن الجزور إلى أن يحصل النتاج المذكور أو أنه يبيع منه النتاج ذهب إلى الأول مالك والشافعي وجماعة قالوا وعلة النهي جهالة الأجل وذهب إلى الثاني أحمد وإسحاق وجماعة من أئمة اللغة وبه جزم الترمذي قالوا وعلة النهي هو كونه بيع معلوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه وهو داخل في بيع الغرر وقد أشار إلى هذا البخاري حيث صدر الباب ببيع الغرر وأشار إلى التفسير الأول ورجحه أيضا في تفسير السلم بكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل اللغة موافقا للثاني نعم ويتحصل من الخلاف أربعة أقوال لأنه يقال هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو جنين الجنين فصارت أربعة أقوال هذا وحكى عن ابن كيسان وأبي العباس المبرد أن المراد بالحبلية الكرمة وأنه نهى عن بيع ثمر العنب قبل أن يصلح بسكون الباء الموحدة لكن الروايات بالتحريك إلا أنه قد حكى في الحبلة بمعنى الكرمة فتحها
16- وعنه أي ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء"

(3/14)


بفتح الواو وعن هبته متفق عليه والولاء هو ولاء العتق أي وهو إذا مات المعتق ورثه معتقه كانت العرب تهبه وتبيعه فنهى عنه لأن الولاء كالنسب لا يزول بالإزالة ذكره في النهاية
17- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" رواه مسلم اشتمل الحديث على النهي عن صورتين من صور البيع الأولى بيع الحصاة واختلف في تفسير بيع الحصاة قيل هو أن يقول ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وقيل هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة وقيل هو أن يقبض على كف من حصا ويقول لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع أو يبعه سلعة ويقبض على كف من حصا ويقول لي بكل حصاة درهم وقيل إن يمسك أحدهما حصاة بيده ويقول أي وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع وقيل هو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصابتها فهي لك بكذا وكل هذه متضمنة للغرر لما في الثمن أو المبيع من الجهالة ولفظ الغرر يشملها وإنما أفردت لكونها كانت مما يبتاعها الجاهلية فنهى صلى الله عليه وسلم عنها وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لاعتبار الحصاة فيه والثانية بيع الغرر بفتح الغين المعجمة والراء المتكررة وهو بمعنى مغرور اسم مفعول و إضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول ويحتمل غير هذا ومعناه الخداع الذي هو مظنة أن لا رضا به عند تحققه فيكون من أكل المال بالباطل ويتحقق في صور إما بعدم القدرة على تسليمه كبيع العبد الآبق والفرس النافر أو بكونه معدوما أو مجهولا أو لا يتم ملك البائع له كالسمك في الماء الكثير ونحو ذلك من الصور وقد يحتمل بعض الغرر فيصح معه البيع إذا دعت إليه الحاجة كالجهل بأساس الدار وكبيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها فإن ذلك مجمع عليه وكذا على جواز إجارة الدار والدابة شهرا مع أنه قد يكون الشهر ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وقدر مكثهم وعلى جواز الشرب في السقاء بالعوض مع الجهالة وأجمعوا على عدم صحة بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء واختلفوا في صور كثيرة اشتملت عليها كتب الفروع
18- وعنه أي أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله" رواه مسلم وقد ورد في الطعام "أنه لا يبيعه من اشتراه حتى يستوفيه" من حديث جماعة من الصحابة وورد في أعم من الطعام حديث حكيم ابن حزام عند أحمد قال قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وأخرج الدارقطني وأبو داود من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم " وأخرجه السبعة إلا الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله فدلت الأحاديث أنه لا يجوز بيع أي سلعة شريت إلا بعد قبض البائع لها واستيفائها

(3/15)


وذهب قوم إلى أنه يختص هذا الحكم بالطعام لا غيره من المبييعات وذهب أبو حنيفة إلى أنه يختص ذلك بالمنقول دون غيره لحديث زيد بن ثابت فإنه في السلع والجواب أن ذكر حكم الخاص لا يخص به العام وحديث حكيم عام فالعمل عليه وإليه ذهب الجمهور وأنه لا يجوز البيع للمشتري قبل القبض مطلقا وهو الذي دل له حديث حكيم واستنبطه ابن عباس
فائدة أخرج الدارقطني من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري" ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن فدل على أنه "إذا اشترى الشيء مكايلة وقبضه ثم باعه لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا" وبذلك قال الجمهور وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول وكأنه لم يبلغه الحديث ولعل علة الأمر بالكيل ثانيا لتحقق ما يجوز من النقص بإعادة الكيل لإذهاب الخداع وحديث الصاعين دليل على أنه لا يجوز بيع الجزاف إلا أن في حديث ابن عمر أنهم كانوا يبتاعون الطعام جزافا ولفظه كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله أخرجه الجماعة إلا الترمذي قال ابن قدامة يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا وإذا ثبت جواز بيع الجزاف حمل حديث الصاعين على أن المراد أنه إذا اشترى الطعام كيلا وأريد بيعه فلا بد من إعادة كيله للمشتري
19- وعنه أي أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة" رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان ولأبي داود من حديث أبي هريرة "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" قال الشافعي له تأويلان أحدهما أن يقول بعتك بألفين نسيئة وبألف نقدا فأيهما شئت أخذت به وهذا بيع فاسد لأنه إيهام وتعليق والثاني أن يقول بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك انتهى وعلة النهي على الأول عدم استقرار الثمن ولزوم الربا عند من يمنع بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء وعلى الثاني لتعليقه بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه فلم يستقر الملك وقوله فله أوكسهما أو الربا يعني أنه إذا فعل ذلك فهو لا يخلو عن أحد الأمرين إما الأوكس الذي هو أخذ الأقل أو الربا وهذا مما يؤيد التفسير الأول
20- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وأخرجه أي الحاكم في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ نهى عن بيع وشرط ومن هذا الوجه يعني الذي أخرجه الحاكم أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب وقد رواه جماعة واستغربه النووي والحديث اشتمل على أربع صور نهى عن البيع على صفتها الأولى سلف وبيع وصورة ذلك حيث يريد الشخص أن يشتر سلعة بأكثر

(3/16)


من ثمنها لأجل النساء وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة والثانية شرطان في بيع اختلف في تفسيرهما فقيل هو أن يقول بعت هذا نقدا بكذا وبكذا نسيئة وقيل هو أن يشرط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة ولا يهبها وقيل هو أن يقول بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا ذكره في الشرح نقلا عن الغيث وفي النهاية لا يحل سلف وبيع وهو مثل أن يقول بعتك هذا العبد بألف على أن تسلفني ألفا في متاع أو على أن تقرضني ألفا لأنه يقرضه ليحابيه في الثمن فيدخل في حد الجهالة ولأن كل قرض جر منفعة فهو ربا ولأن في العقد شرطا ولا يصح وقوله ولا شرطان في بيع فسره في النهاية بأنه كقولك بعتك هذا الثوب نقدا بدينار ونسيئة بدينارين وهو كالبيعتين في بيعة والثالثة قوله ولا ربح مالم يضمن قيل معناه مالم يملك وذلك هو الغصب فإنه غير ملك للغاصب فإذا باعه وربح في ثمنه لم يحل له الربح وقيل معناه مالم يقبض لأن السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشتري إذا تلفت تلفت من مال البائع والرابعة قوله ولا بيع ما ليس عندك قد فسرها حديث حكيم بن حزام عن أبي داود والنسائي أنه قال قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني المبيع ليس عندي فأبتاع له من السوق قال "لا تبع ما ليس عندك" فدل على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه
21- وعنه أي عمرو بن شعيب قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان" بضم العين المهملة وسكون الراء والباء الموحدة ويقال أربان ويقال عربون رواه مالك قال بلغني عن عمرو بن شعيب به وأخرجه أبو داود وابن ماجه وفيه راو لم يسم وسمي في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو عن مقال فبيع العربان فسره مالك قال هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى منه أعطيتك دينارا أو درهما على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها وإلا فهو لك واختلف الفقهاء في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل وروى عن عمر وابنه وأحمد جوازه
22- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يد الرجل يعني يعقد له البيع فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت قال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له وصححه ابن حبان والحاكم الحديث دليل على أنه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يحوزه إلى رحله والظاهر أن المراد به القبض لكنه عبر عنه بما ذكر لما كان غالب قبض المشتري الحيازة

(3/17)


إلى المكان الذي يختص به وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند الجمهور أن ذلك قبض وفصل الشافعي فقال إن كان مما يتناول باليد كالدرهم والثوب فقبضه نقل وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان آخر وما كان لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية قوله فلما استوجبته في رواية أبي داود استوفيته وظاهر اللفظ أنه قبضه ولم يكن قد حازه إلى رحله ويدل له قوله نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم
23- وعنه أي ابن عمر قال: قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذا من هذا وأعطي هذا من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء" رواه الخمسة وصححه الحاكم هو دليل على أنه يجوز أن يقضى عن الذهب بالفضة وعن الفضة الذهب لأن ابن عمر كان يبيع بالدنانير فيلزم المشتري في ذمته له دنانير وهي الثمن ثم يقبض عنها الدراهم وبالعكس وبوب أبو داود باب اقتضاء الذهب عن الورق ولفظه كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء وفيه" دليل على أن النقدين حاضرين والحاضر أحدهما فبين صلى الله عليه وسلم الحكم بأنهما إذا فعلا ذلك فحقه أن لا يفترقا إلا وقد قبض ما هو لازم عوض ما في الذمة فلا يجوز أن يقبض البعض من الذهب ويبقى البعض في ذمة من عليه الدنانير عوضا عنها ولا العكس لأن ذلك من باب الصرف طاعة فيه أن لا يفترقا وبينهما شيء وأما قوله في رواية أبي داود بسعر يومها فالظاهر شرط وإن كان في الواقع يدل على ذلك قوله "فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"
24 - وعنه أي ابن عمر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش" بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة متفق عليه النجش لغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره وسمي الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها قال ابن بطال أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك فقال طائفة من أئمة الحديث البيع فاسد وبه قال أهل الظاهر وهو المشهور في مذهب الحنابلة ورواية عن مال إلا أن الحنابلة يقولون بفساده إن كان مواطأة من البائع أو منه وقال المالكية يثبت له الخيار وهو قول الهادوية قياسا على المصراة والبيع صحيح عندهم وعند الحنفية قالوا لأن النهي عائد إلى أمر مفارق للبيع وهو قصد الخداع فلم يقتض الفساد وأما ما نقل عن ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم أن التحريم إذا كانت الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل فلو أن رجلا رأى سلعة تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا بل يؤجر على ذلك بنيته قالوا لأن ذلك من النصيحة فهو مردود بأن النصيحة تحصل

(3/18)


بغير إبهام أنه يريد الشراء وأما مع هذا فهو خداع وغرر وبأنه أخرج البخاري من حديث ابن أبي أوفى سبب نزول قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية قال أقام رجل سلعه بالله لقد أعطى بها مالم يعط فنزلت قال ابن أبي أوفى الناجش آكل ربا خائن فجعل ابن أبي أوفى من أخبر بأكثر ممن اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في ضرر الغير فاشتركا في الحكم لذلك وحيث كان الناجش غير البائع فقد يكون آكل ربا إذا جعل له البائع جعلا
25- وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة" مفاعلة بالحاء المهملة والقاف "والمزابنة" بزنتها بالزاي بعد الألف موحدة فنون "والمخابرة " بزنتها بالخاء المعجمة فألف فموحدة فراء "وعن الثنيا" بالمثلث مضمومة فنون مفتوحة فمثناة تحتية بزنة ثريا الاستثناء "إلا أن تعلم" عائد إلى الأخير رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي اشتمل الحديث على أربع صور نهى الشارع عنها الأولى المحاقلة وفسرها جابر راوي الحديث بأنها بيع الرجل من الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة وفسرها أبو عبيد بأنها بيع الطعام في سنبله وفسرها مالك بأن تكرى الأرض ببعض ما تنبت وهذه هي المخابرة ويبعد هذا التفسير عطفها عليها في هذه الرواية وبأن الصحابي أعرف بتفسير ما روى وقد فسرها جابر بما عرف كما أخرجه عنه الشافعي والثانية المزابنة مأخوذة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة هو الدفع الشديد كأن كل واحد من المتبايعين يدفع الآخر عن حقه وفسرها ابن عمر كما رواه مالك ببيع التمر أي رطبا بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وأخرجه عنه الشافعي في الأم وقال تفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم منصوصا ويحتمل أنه ممن رواه والعلة في النهي عن ذلك هو الربا لعدم العلم بالتساوي والثالثة المخابرة وهي من المزارعة وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع ويأتي الكلام عليها في المزارعة والرابعة الثنيا منهي عنها إلا أن تعلم وصورة ذلك أن يبيع شيئا ويستثني بعضه ولكنه إذا كان ذلك البعض معلوما صحت نحو أن يبيع أشجارا أو أعنابا ويستثني واحدة معينة فإن ذلك يصح اتفاقا قالوا لو قال إلا بعضها فلا يصح لأن الاستثناء مجهول وظاهر الحديث أنه إذا علم القدر المستثنى صح مطلقا وقيل لا يصح أن يستثنى ما يزيد على الثلث هذا الوجه في النهي عن الثنيا هو الجهالة وما كان معلوما فقد انتفت العلة فخرج عن حكم النهي وقد نبه النص عن العلة بقوله "إلا أن تعلم "

(3/19)


26- وعن أنس رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة" بالخاء والضاد معجمتين مفاعلة في الخضرة "والملامسة والمنابذة" بالذال المعجمة "والمزابنة" رواه البخاري اشتمل الحديث على خمس صور من صور البيع منهي عنها الأولى المحاقلة وتقدم الكلام فيها والثانية المخاضرة وهي بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها وقد اختلف العلماء فيما يصح بيعه من الثمار والزرع فقال طائفة إذا كان قد بلغ حدا ينتفع به ولو لم يكن قد أخذ الثمار ألوانه واشتد الحب صح البيع بشرط القطع وأما إذا شرط البقاء فلا يصح اتفاقا لأنه شغل لملك البائع أو لأنه صفقتان في صفقة وهو إعارة أو إجارة وبيع وأما إذا بلغ حد الصلاح فاشتد الحب وأخذ الثمار ألوانه فبيعه صحيح وفاقا غلا أن يشترط المشتري بقاءه فقيل لا يصح البيع وقيل يصح وقيل إن كانت المدة معلومة صح وإن كانت غير معلومة لم يصح فلو كان قد صلح بعض منه دون بعض فبيعه غير صحيح وللحنفية تفاصيل ليس عليها دليل والثالثة الملامسة وبينها ما أخرجه البخاري عن الزهري أنها لمس الرجل الثوب بيده بالليل أو النهار وأخرج النسائي من حديث أبي هريرة هي أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر ولكنه يلمسه لما أخرج أحمد عن عبدالرزاق عن معمر الملامسة أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع ومسلم من حديث أبي هريرة أن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه من غير تأمل والرابعة المنابذة فسرها ما أخرجه ابن ماجه من طريق سفيان عن الزهري المنابذة أن يقول ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي والنسائي من حديث أبي هريرة أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ويشترى كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر وأحمد عن عبدالرزاق عن معمر المنابذة أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ومسلم من حديث أبي هريرة المنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه وعلمت من قوله فقد وجب البيع أن بيع الملامسة والمنابذة جعل فيه نفس اللمس والنبذ بيعا بغير صيغته وظاهر النهي التحريم وللفقهاء تفاصيل في هذا لا تليق بهذا المختصر
فائدة: استدل بقوله لا ينظر إليه أنه لا يصح بيع الغائب وللعلماء ثلاثة أقوال الأول لا يصح وهو قول الشافعي والثاني يصح ويثبت له الخيار إذا رآه وهو للهادوية والحنفية والثالث إن وصفه صح وإلا فلا وهو قول مالك وأحمد وآخرين واستدل به على بطلان بيع الأعمى وفيه أيضا ثلاثة أقوال الأول بطلانه وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك والثاني يصح إن وصف له والثالث يصح مطلقا وهو للهادوية والحنفية
27- وعن طاوس بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه

(3/20)


وسلم: "لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد" قلت لابن عباس ما قوله ولا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمسار" متفق عليه واللفظ للبخاري اشتمل الحديث على النهي عن صورتين من صور البيع الأولى النهي عن تلقي الركبان أي الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع سواء كانوا ركبانا أو مشاة جماعة أو واحدا وإنما خرج الحديث على الأغلب في أن الجالب يكون عددا وأما ابتداء التلقي فيكون ابتداؤه من خارج السوق الذي تباع فيه السلعة وفي حديث ابن عمر "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام" وفي لفظ آخر بيان أن التلقي لا يكون في السوق قال ابن عمر كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه أخرجه البخاري فدل على أن القصد إلى أعلى السوق لا يكون تلقيا وأن منتهى التلقي ما فوق السوق وقالت الهادوية والشافعية إنه لا يكون التلقي إلا خارج البلد وكأنهم نظروا إلى المعنى المناسب للمنع وهو تغرير الجالب فإنه إذا قدم إلى البلد أمكنه معرفة السعر وطلب الحظ لنفسه فإن لم يفعل ذلك فهو من تقصيره واعتبرت المالكية وأحمد وإسحاق السوق مطلقا عملا بظاهر الحديث والنهي ظاهر في التحريم حيث كان قاصدا التلقي عالما بالنهي عنه وعن أبي حنيفة والأوزاعي أنه يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس فإن ضر كره فإن تلقاه فاشترى صح البيع عند الهادوية والشافعية وثبت الخيار عند الشافعي للبائع لما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بلفظ "لا تلقوا الجلب فإن تلقاه إنسان فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق" ظاهر الحديث أن العلة في النهي نفع البائع وإزالة الضرر عنه وقيل نفع أهل السوق لحديث ابن عمر لا تلقوا السلع حتى تهبطوا بها السوق واختلف العلماء هل البيع معه صحيح أو فاسد فعند من ذكرناه قريبا أنه صحيح لأن النهي لم يرجع إلى نفس العقد ولا إلى وصف ملازم له فلا يقتضي النهي الفساد وقد اشترط جماعة من العلماء لتحريم التلقي شرائط فقيل يشترط في التحريم أن يكذب المتلقي في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل وقيل أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول وقيل أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم وهذه تقييدات لم يدل عليها دليل بل الحديث أطلق النهي والأصل فيه التحريم مطلقا الصورة الثانية ما أفاده قوله "ولا يبع حاضر لباد" وقد فسره ابن عباس بقوله لا يكون له سمسار بسينين مهملتين وهو في الأصل القيم بالأمر والحافظ ثم اشتهر في متولي البيع والشراء لغيره بالأجرة كذا قيده البخاري وجعل حديث ابن عباس مقيدا لما أطلق من الأحاديث وأما بغير أجرة فجعله من باب النصيحة والمعاونة فأجازه وظاهر أقوال العلماء أن النهي شامل لما كان بأجرة وما كان بغير أجرة وفسر بعضهم صورة بيع الحاضر للبادي بأن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال فيأتيه الحاضر فيقول ضعه عندي لأبيعه لك على

(3/21)


التدريج بأعلى من هذا السعر ثم من العلماء من خص هذا الحكم بالبادي وجعله قيدا ومنهم من ألحق به الحاضر إذا شاركه في عدم معرفة السعر وقال ذكر البادي في الحديث خرج مخرج الغالب فأما أهل القرى الذين يعرفون الأسعار فليسوا بداخلين في ذلك ثم منهم من قيد ذلك بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما تعم به الحاجة وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع وكل هذه القيود لا يدل عليها الحديث بل استنبطوها من تعليلهم للحديث بعلل متصيدة من الحكم ثم قد عرفت أن الأصل في النهي التحريم وإلى هنا ذهبت طائفة من العلماء وقال آخرون إن الحديث منسوخ وإنه جائز مطلقا كتوكيله ولحديث النصيحة ودعوى النسخ غير صحيحة لافتقارها إلى معرفة التاريخ ليعرف المتأخر وحديث النصيحة إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له مشروط فيه أنه إذا استنصحه نصحه بالقول لا أنه يتولى له البيع وهذا في حكم بيع الحاضر للبادي وكذلك الحكم في الشراء له فلا يشتري حاضر لباد وقد قال البخاري باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة قال ابن حبيب المالكي الشراء للبادي كالبيع لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبع بعضكم على بيع بعض فإن معناه الشراء وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت لا يبع حاضر لباد أما نهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم قال: نعم وأخرجه أبو داود وعن ابن سيرين عن أنس كان يقال لا يبع حاضر لباد وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا فإن قيل قد لوحظ في النهي عن تلقي الجنوبة عدم غبن البادي ولوحظ في النهي عن بيع الحاضر للبادي الرفق بأهل البلد واعتبر فيه غبن البادي وهو كالتناقض فالجواب أن الشارع يلاحظ مصلحة الناس ويقدم مصلحة الجماعة على الواحد لا الواحد على الجماعة ولما كان البادي إذا باع لنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان البلد لاحظ الشارع نفع أهل البلد على نفع البادي ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة لا سيما وقد تنضاف إلى ذلك علة ثانيةوهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد التلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عليهم وهم أكثر من المتلقي نظر الشارع لهم فلا تناقض بين المسألتين بل هما صحيحتان في الحكمة والمصلحة
28- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجلب" بفتح اللام مصدر بمعنى المجلوب "فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" رواه مسلم تقدم الكلام عليه وأنه دليل على ثبوت الخيار للبائع وظاهره ولو شراه المتلقي بسعر السوق فإن الخيار ثابت
29- وعنه أي أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة"

(3/22)


بكسر الخاء المعجمة وأما في الجمعة وغيرها فيضمها "أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" كفأت الإناء كببته وقلبته متفق عليه ولمسلم "لا يسوم المسلم على سوم المسلم" اشتمل الاحديث على مسائل منهي عنها الأولى نهى عن بيع الحاضر للبادي وقد تقدم الثانية ما يفيده قوله ولا تناجشوا وهو معطوف في المعنى على قوله نهى لأن معناه لا يبع حاضر لباد ولا تناجشوا وتقدم الكلام عليه قريبا في حديث ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش الثالثة قوله "ولا يبيع الرجل على بيع أخيه" يروى برفع المضارع على أن لا نافية وبجزمه على أنها ناهية وإثبات الياء يقوي الأول وعلى الثاني فبأنه عومل المجزوم معاملة غير المجزوم فتركت الياء وفي رواية بحذفها فلا إشكال وصورة البيع على البيع أن يكون قد وقع البيع بالخيار فيأتي في مدة الخيار رجل فيقول للمشتري افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أحسن منه وكذا الشراء على الشراء هو أن يقول للبائع في مدة الخيار افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن وصورة السوم أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقد فيقول آخر للبائع أنا أشتريه منك بأكثر بعد أن كانا على الثمن وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصور كلها وأن فاعلها عاص وأما بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد فليس من المنهي عنه وقد بوب البخاري باب بيع المزايدة وورد في ذلك صريحا ما أخرجه أحمد أصحاب السنن واللفظ للترمذي وقال حسن عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا وقال: "من يشتري هذا الحلس والقدح" ؟فقال رجل آخذهما بدرهم فقال: "من يزيد على درهم فأعطوه رجل درهمين فباعهما" منه وقال ابن عبد البر إنه لا يحرم البيع ممن يزيد اتفاقا وقيل إنه يكره واستدل لقائله بحديث عن سفيان بن وهب أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزايدة" لكنه من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف الرابعة قوله "ولا يخطب على خطبة أخيه" زاد في مسلم "إلا أن يأذن له" وفي رواية "حتى يأذن" والنهي يدل على تحريم ذلك وقد أجمع العلماء على تحريمها إذا كان قد صرح بالإجابة ولم يأذن ولم يترك فإن تزوج والحال هذه عصى اتفاقا وصح عند الجمهور وقال داود يفسخ النكاح ونعم ما قال وهي رواية عن مالك وإنما اشترط التصريح بالإجابة وإن كان النهي مطلقا لحديث فاطمة بنت قيس فإنها قالت خطبني أبو جهم ومعاوية فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها مع ذلك لأسامة والقول بأنه يحتمل أنه لم يعلم أحدهما بخطبة الآخر وأنه صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة لا أنه خطب خلاف الظاهر وقوله أخيه أي في الدين ومفهومه أنه لو أخ كأن يكون كافرا فلا يحرم وهو حيث تكون المرأة كتابية وكان يستجيز نكاحها وبه قال الأوزاعي وقال غيره يحرم أيضا على خطبة الكافر والحديث خرج التقييد فيه مخرج الغالب فلا

(3/23)


اعتبار لمفهومه الخامسة قوله ولا تسأل المرأة يروى مرفوعا ومجزوما وعليه فكسر اللام لالتقاء الساكنين والمراد أن المرأة الأجنبية لا تسأل الرجل أن يطلق امرأته وينكحها ويصير ما هو لها من النفقة والعشرة لها وعبر عن ذلك بالإكفاء لما في الصحفة من باب التمثيل كأن ما ذكر لما كان معدا للزوجة فهو في حكم ما قد جمعته في الصحفة لتنتفع به فإذا ذهب عنها فكأنما قد كفئت الصحفة وخرج ذلك عنها فعبر عن ذلك المجموع المركب بالمركب المذكور للشبه بينهما
30- وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم لكن في إسناده مقال لأن فيه حيي بن عبدالله المعافري مختلف فيه وله شاهد كأنه يريد به حديث عبادة بن الصامت لا يفرق بين الأم وولدها قيل إلى متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية أخرجه الدارقطني والحاكم وفي سنده عندهما عبدالله بن عمر والواقفي وهو ضعيف ولا يخفى أن هذا الحديث والذي بعده كان يحسن ضمهما إلى حديث ابن عمر الذي تقدم في النهي عن بيع أمهات الأولاد أو يؤخر هو إلى هنا وهذا الحديث ظاهر في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وظاهره عام في الملك والجهات غلا أنه لا يعلم أنه ذهب أحد إلى هذا العموم فهو محمول على التفريق في الملك وهو صريح في حديث علي الآتي وظاهره أيضا تحريم التفريق ولو بعد البلوغ إلا أنه يقيده بحديث عبادة وفي الغيث أنه خصه في الكبير الإجماع كما في العتق وكأن مستند الإجماع حديث عبادة ثم الحديث نص في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وقيس عليه سائر الأرحام المحارم بجامع الرحامة وكذلك ورد النص في الأخوة وهو ما أفاده قوله
31- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما غلا جميعا" رواه أحمد ورجاله ثقات وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان وحكى ابن أي حاتم في العلل عن أبيه أنه إنما سمعه الحكم من ميمون بن أبي شيب وهو يرويه عن علي رضي الله عنه وميمون لم يدرك عليا والحديث دليل على بطلان هذا البيع ودل على تحريم التفريق كما دل عليه الحديث الأول إلا أن الأول دل على التفريق بأي وجه من الوجوه وهذا الحديث نص بالبيع وألحقوا به تحريم التفريق بسائر الإنشاءات كالهبة والنذر وهو ما كان باختيار المفرق وأما التفريق بالقسمة فليس باختياره فإن سبب الملك قهري وهو الميراث وحديث علي رضي الله عنه قد دل على بطلان البيع ولكنه عارضه الحديث الأول حديث أبي أيوب فإنه دل على صحة الإخراج عن الملك بالبيع ونحوه المستحق للعقوبة إذ لو كان لا يصح الإخراج عن الملك لم يتحقق التفريق فلا عقوبة ولذا اختلف العلماء

(3/24)


في ذلك فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينعقد مع العصيان قالوا والأمر بالارتجاع للغلامين يحتمل أنه بعقد جديد برضا المشتري فائدة في التفريق بين البهيمة وولدها وجهان لا يصح لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تعذيب البهائم ويصح قياسا على الذبح وهو الأولى
32- وعن أنس رضي الله عنه قال غلا السعر الغلاء ممدود وهو ارتفاع السعر على معتاده في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو المسعر" يعني يفعل ذلك هو وحده بإرادته "القابض" أي المقتر "الباسط" الموسع مأخوذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } " الرازق إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان وأخرجه ابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى من حديث أنس وإسناده على شرط مسلم وصححه الترمذي والحديث دليل على أن التسعير مظلمة وإذا كان مظلمة فهو محرم وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وروي عن مالك أنه يجوز التسعير ولو في القوتين والحديث دال على تحريم التسعير لكل متاع وإن كان سياقه في خاص وقال المهدي: إنه استحسن الأئمة المتأخرون تسعير ما عدا القوتين كاللحم والسمن رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في منحة الغفار وبسطنا القول هناك بما لا مزيد عليه
33- وعن معمر بن عبدالله هو بفتح الميم وسكون العين وفتح الميم ويقال له معمر بن أبي معمر أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وتأخرت هجرته إلى المدينة ثم هاجر إليها وسكن بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحتكر إلا خاطئ" بالهمزة هو العاصي الآثم رواه مسلم وفي الباب أحاديث دالة على تحريم الاحتكار وفي النهاية على قوله صلى الله عليه وسلم "من احتكر طعاما" قال أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو وظاهر حديث مسلم تحريم الاحتكار للطعام وغيره إلا أن يدعي أنه لا يقال احتكر إلا في الطعام وقد ذهب أبو يوسف إلى عمومه فقال كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو ثيابا وقيل لا احتكار إلا في قوت الناس وقوت البهائم وهو قول الهادوية والشافعية ولا يخفى أن الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة ومقيدة بالطعام وما كان من الأحاديث على هذا الأسلوب فإنه عند الجمهور لا يقيد فيه الملطق بالمقيد لعدم التعارض بينهما بل يبقى المطلق على إطلاقه وهذا يقتضي أنه يعمل بالمطلق في منع الاحتكار مطلقا ولا يقيد بالقوتين إلا على رأي أبي ثور وقد رده أئمة الأصول وكأن الجمهور خصوه بالقوتين نظرا إلى الحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن عامة الناس والأغلب في دفع الضرر عن العامة إنما يكون في القوتين فقيدوا الإطلاق بالحكمة المناسبة أو أنهم قيدوه بمذهب الصحابي الراوي فقد أخرج مسلم عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر

(3/25)


فقيل له فإنك تحتكر فقال لأن معمرا راوي الحديث كان يحتكر قال ابن عبدالبر كانا يحتكران الزيت وهذا ظاهر أن سعيدا قيد الإطلاق بعمل الراوي وأما معمر فلا يعلم بم قيده ولعله بالحكمة المناسبة التي قيد بها الجمهور
34- وعن أبي هريرة رضي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا" بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة من صرى يصري على الأصح "الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين" الرأيين "بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا" عطف على ضمير المفعول في ردها على تقدير ويعطيى "من تمر" متفق عليه ولمسلم أي عن أبي هريرة "فهو بالخيار ثلاثة أيام" وفي رواية له علقها البخاري "ورد معها صاعا من طعام إلا سمراء" وقال البخاري والتمر أكثر أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء إذا حبسته وقال الشافعي: هي ربط أخلاف الناقة والمثناة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها ولم يذكر في الحديث البقر والحكم واحد لحديث نهى عن التصرية للحيوان إذا أريد بيعه لأنه قد ورد تقييده في رواية النسائي بلفظ ولا تصروا الإبل والغنم للبيع وفي رواية له إذا باع أحدكم المثناة أو اللقحة فليحلبها وهذا هو الراجح عند الجمهور ويدل عليه التعليل بالتدليس والغرر كذا قيل غلا أني لمأر التعليل بهما منصوصا وأما التصرية لا للبيع بل ليجتمع الحليب لنفع المالك فهو وإن كان فيه إيذاء للحيوان غلا أنه ليس فيه إضرار فيجوز وظاهر الحديث أنه لا يثبت الخيار غلا بعد الحلب ولو ظهرت التصرية بغير حلب فالخيار ثابت وثبوت الخيار قاض بصحة بيع المصراة وفي الحديث دليل على أن الرد بالتصرية فوري لأن الفاء في قوله فهو بخير النظرين تدل على التعقيب تراخ وإليه ذهب بعض الشافعية وذهب الأكثر إلى أنه على التراخي لقوله فله الخيار ثلاثا وأجيب من طرف القائل بالفور أن ذلك محمول على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثالث لأن الغالب أنها لا تعلم في أقل من ذلك لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه ولأن في رواية أحمد والطحاوي فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردا وأما ابتداء الثلاث ففيه خلاف قيل من بعد تبين التصرية وقيل من عند العقد وقيل من التفرق ودل الحديث أنه يرد عوض اللبن صاعا من تمر وأما الرواية التي علقها البخاري بذكر صاعا من طعام فقد رجح البخاري رواية التمر لكونه أكثر وإذا ثبت أنه يرد المشتري صاعا من تمر ففي المسألة ثلاثة مذاهب الأول للجمهور من الصحابة والتابعين بإثبات الردة للمصراة ورد صاع من تمر سواء كان اللبن كثيرا أو قليلا والتمر قوتا لأهل البلد أولا والثاني للهادوية فقالوا ترد المصراة ولكنهم قالوا يرد اللبن بعينه إن ان باقيا أو مثله إن كان تالفا أو قميته يوم

(3/26)


الرد حيث لم يوجد المثل قالوا وذلك لأنه تقرر أن ضمان المتلف إن كان مثليا فبالمثل وإن كان قيميا فبالقيمة واللبن إن كان مثليا ضمن بمثله وإن كان قيميا قوم بأحد النقدين وضمن بذلك فكيف يضمن بالتمر أو الطعام قالوا وأيضا فإنه كان الواجب أن يختلف الضمان بقدر اللبن ولا يقدر بصاع قل أو كثر وأجيب بأن هذا القياس تضمن العموم في جميع المتلفات وهذا خاص ورد به النص والخاص مقدم على العام أما تقدير الصاع فإنه قدره الشارع ليدفع التشاجر لعدم الوقوف على حقيقة قدر اللبن لجواز اختلاطه بحادث بعد البيع فقطع الشارع النزاع وقدره بحد لا يبعد رفعا للخصومة وقدره بأقرب شيء إلى اللبن فإنهما كانا قوتين في ذلك الزمان ولهذا الحكم نظائر في الشريعة وهو ضمان الجنايات كالموضحة فإن أرشها مقدر مع الاختلاف في الكبر والصغر والغرة في الجنين مع اختلافه والحكمة في ذلك كله دفع التشاجر والثالث للحنفية فخالفوا في اصل المسألة وقالوا لا يرد البيع بعيب التصرية فلا يجب رد الصاع من التمر واعتذروا عن الحديث بأعذار كثيرة بالقدح في الصحابي

(3/27)


الراوي للحديث وبأنه حديث مضطرب وبأنه منسوخ وبأنه معارض بقوله تعالى:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وكلها أعذار مردودة وقالوا الحديث خالف قياس الأصول من جهات الأولى من حيث إن اللبن التالف إذا كان موجودا عند العقد فقد نقص جزء من المبيع فيمتنع الرد وإن كان حادثا عند المشتري فهو غير مضمون وأجيب

(3/28)


أولا بأن الحديث أصل مستقل برأسه ولا يقال إنه خالف قياس الأصول وثانيا بأن النقص إنما يمنع الرد إذا لم يكن لاستعلام العيب وهو هنا لاستعلام العيب فلا يمنع والثانية من حيث إنه جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب وخيار المجلس وخيار الرؤية لا يقدر شيء منها بالثلاث وأجيب بأن المصراة انفردت بالمدة المذكورة لأنه لا يتبين حكم التصرية في الأغلب إلا بها بخلاف غيرها والثالثة أنه يلزم ضمان الأعيان مع بقائها حيث كان اللين موجودا وأجيب عنه موجود متميز لأنه مختلط باللبن الحادث فقد تعذر رده بعينه بسبب الاختلاط فيكون مثل ضمان العبد الآبق المغصوب والرابعة من حيث أنه يلزم إثبات الرد بغير عيب لأنه لو كان نقصان اللبن عيبا لثبت به الرد من دون تصرية ولا اشتراط لأنه لم يشترط الرد وأجيب بأنه في حكم خيار الشرط من حيث المعنى فإن المشتري لما رأى ضرعها مملوءا فكأن البائع شرط له أن ذلك عادة لها وقد ثبت لهذا نظائر مثل ما تقدم في في تلقي الجلوبة وإذا تقرر عندك ضعف القولين الآخرين علمت أن الحق هو الأول وعرفت أن الحديث أصل في النهي عن الغش وفي ثبوت الخيار لمن دلس عليه وفي أن التدليس لا يفسد أصل العقد وفي تحريم التصرية للمبيع وثبوت الخيار بها وقد أخرج أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم وفي إسناده ضعف ورواه ابن أبي شيبة موقوفا بسند صحيح والمحفلات جمع محفلة بالحاء المهملة والفاء التي تجمع لبنها في ضروعها والخلابة بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام بعدها موحدة الخداع
35- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا رواه البخاري وزاد الإسماعيلي من تمر لم يرفعه المصنف بل وقفه على ابن مسعود لأن البخاري لم يرفعه وقد تقدم الكلام على معناه مستوفي
36- وعن أبي هررة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة" الصبرة بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة الكومة المجموعة "من الطعام " من طعام "فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال أصابته السماء يا رسول الله قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني" رواه مسلم قال النووي كذا في الأصول مني بياء المتكلم وهو صحيح ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي وقال سفيان بن عيينة يكره تفسيير مثل هذا ونقول نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر والحديث دليل على تحريم الغش وهو مجمع شرعا مذموم فاعله عقلا
37- عن عبدالله بن بريدة هو أبو سهل عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قاضي مرو تابعي ثقة سمع اباه وغيره عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف" الأيام التي يقطف فيها "حتى

(3/29)


يبعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" أي على علم بالسبب الموجب لدخوله رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث بريدة بزيادة حتى يبيعه من يهودي أونصراني أو ممن يعلم أنه يتخذه خمراً فقد تقحم في النار على بصيرة والحديث دليل على تحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرا لوعيد البائع بالنار وهو مع القصد محرم إجماعا وأما مع عدم القصد فقال الهادوية يجوز البيع مع الكراهة ويؤول بأن ذلك مع الشك في جعله خمرا وأما إذا علمه فهو محرم ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في معصية وأما مالا يفعل إلا لمعصية كالمزامير والطنابير ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعا وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون بها على حرب المسلمين فإنه لا يجوز إلا أن يباع بأفضل منه جاز
38- وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "الخراج بالضمان" رواه الخمسة وضعفه البخاري لأن فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث وأبو داود وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان الحديث أخرجه الشافعي وأصحاب السنن بطوله وهو أن رجلا اتشرى غلاما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده ما شاء الله ثم رده من عيب وجده فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب فقال المقضي عليه قد استعمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان والخراج هو الغلة والكراء ومعناه أن المبيع إذا كان له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها فإذا ابتاع رجل أرضا فاستعملها أو ماشية فنتجها أو دابة فركبها أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا فله أن يرد الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به لأنها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت في ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج له وقد اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال الأول للشافعي أن الخراج بالضمان على ما قررناه في معنى الحديث وما وجد من ملكا الأصلية والفرعية فهو للمشتري ويرد المبيع مالم يكن ناقصا عما أخذه الثاني للهادوية أنه يفرق بين ملكا الأصلية والفرعية فيستحق المشتري الفرعية وأما الأصلية فتصير أمانة في يده فإن رد المشتري المبيع بالحكم وجب الرج ويضمن التلف وإن كان بالتراضي لم يردها الثالث للحنفية أن المشتري يستحق ملكا الفرعية كالكراء وأما ملكا الأصلية كالثمار فإن كانت باقية ردها مع الأصل وإن كانت تالفة امتنع الرد واستحق الأرش الرابع المالك أنه يفرق بين ملكا الأصلية كالصوف والشعر فيستحقه المشتري والولد يرده مع أمه وهذا مالم تكن متصلة بالمبيع وقت الرد فإن كانت متصلة وجب الرد لها إجماعا هذا ما قاله المذكورون والحديث ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي وأما إذا وطئ المشتري الأمة ثم وجد فيها عيبا فقد اختلف العلماء في ذلك فقالت الهادوية وأهل الرأي والثوري وإسحاق يمتنع الرد لأن الوطء جناية لأنه لا يحل وطء الأمة لأصل

(3/30)


المشتري ولا لفصله فقد عيبها بذلك قالوا وكذا مقدمات الوطء يمتنع الرد بعدها لذلك قالوا ولكنه يرجع على البائع بأرش العيب وقيل يردها ويرد معها مهر مثلها ومنهم من فرق بين الثيب والبكر وقد استوفي الخطابي ذلك ونقله الشارح والكل أقوال عارية عن الاستدلال ودعوى أن الوطء جناية غير صحيحة والتعليل بأنه حرمها به على أصوله وفصوله فكانت جناية عليهما فإنه لم ينحصر المشترى لها فيهما
39- وعن عروة البارقي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى به شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح" فيه رواه الخمسة إلا النسائي وقد أخرجه البخاري ضمن حديث ولم يسق لفظه وأورد له الترمذي شاهدا من حديث حكيم بن حزام الحديث في إسناده سعيد بن زيد أخو حماد مختلف فيه قال المنذري والنووي إسناده حسن صحيح وفيه كلام كثير وقال المصنف الصواب أنه متصل في إسناده مبهم وفي الحديث دلالة على أن عروة شرى مالم يوكل بشرائه وباع كذلك لأنه أعطاه دينارا لشراء أضحية فلو وقف على الأمر لشرى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض وهذا الذي فعله هو الذي تسميه الفقهاء العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة وقد وقعت هنا وللعلماء فيه خمسة أقوال الأول أنه يصح العقد الموقوف وذهب إلى هذا جماعة من السلف والهادوية عملا بالحديث والثاني أنه لا يصح وإليه ذهب الشافعي وقال إن الإجازة لا تصححه محتجا بحديث لا تبع ما ليس عندك أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهو شامل للمعدوم وملك الغير وتردد الشافعي في صحة حديث عروة وعلق القول به على صحته والثالث التفصيل لأبي حنيفة فقال يجوز البيع لا الشراء وكأنه فرق بينهما بأن البيع إخراج عن ملك المالك وللمالك حق في استبقاء ملكه فإذا أجاز فقد أسقط حقه بخلاف الشراء فإنه إثبات لملك فلا بد من تولي المالك لذلك والرابع لمالك وهو عكس ما قاله أبو حنيفة وكأنه أراد الجمع بين الحديثين حديث "لا تبع ما ليس عندك" وحديث عروة فيعمل به مالم يعارض والخامس أنه يصح إذا وكل بشراء شيء فيشتري بعضه وهو للجصاص وإذا صح حديث عروة فالعمل به هو الراجح وفيه دليل على صحة بيع الأضحية وإن تعينت سيما لإبدال المثل ولا تطيب زيادة الثمن ولذا أمره بالتصدق بها وفي دعائه صلى الله عليه وسلم له بالبركة دليل على أن شكر الصنيع لمن فعل المعروف ومكافأته مستحبة ولو بالدعاء 40-عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض وعن حصول الغائص" رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف لأنه من حديث شهر بن حوشب وشهر تكلم فيه جماعة كالنضر بن شميل والنسائي وابن عدي وغيرهم وقال البخاري شهر حسن

(3/31)


الحديث وقوي أمره وروى عن أحمد أنه قال ما أحسن حديثه والحديث اشتمل على ست صور منهي عنها الأولى بيع ما في بطون الحيوان وهو مجمع على تحريمه والثانية اللبن في الضروع وهو مجمع عليه أيضا وقد تقدم والثالثة العبد الآبق وذلك لتعذر تسليمه والرابعة شراء المغانم قبل القسمة وذلك لعدم الملك والخامسة شراء الصدقات قبل القبض فإنه لا يستقر ملك المتصدق عليه إلا بعد القبض إلا أنه استثنى الفقهاء من ذلك بيع المصدق للصدقة قبل القبض بعد التخلية فإنه يصح لأنهم جعلوا التخلية كالقبض في حقه السادسة ضربة الغائص وهو أن يقول أغوص في البحر غوصة بكذا فما خرج فهو لك والعلة في ذلك هو الغرر
41- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" رواه أحمد وأشار إلى أن الصواب وقفه وهو دليل على حرمة بيع السمك في الماء وقد علله بأنه غرر وذلك لأنه تختفي في الماء حقيقته ويرى الصغير كبيرا وعكسه وظاهره النهي عن ذلك مطلقا وفصل الفقهاء في ذلك فقالوا إن كان في ماء كثير لا يمكن أخذه إلا بتصيد ويجوز عدم أخذه فالبيع غير صحيح وإن كان في ماء لا يفوت فيه ويؤخذ بتصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه الخيار بعد التسليم وإن كان لا يحتاج إلى تصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه خيار الرؤية وهذا التفصيل يؤخذ من الأدلة والتعليل المقتضي للإلحاق يخصص عموم النهي
42- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم" بضم المنثاة الفوقيةوكسر العين المهملة يبدو صلاحها "ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع" رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة وهو الراجح وأخرجه أيضا موقوفا على ابن عباس بإسناد قوي ورجحه البيهقي اشتمل الحديث على ثلاث مسائل الأولى النهي عن بيع لا ثمرة حتى يبدو صلاحها ويطيب أكلها ويأتي الكلام في ذلك والثانية النهي عن بيع الصوف على الظهر وفيه قولان للعلماء الأول أنه لا يصح عملا بالحديث ولأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان فيقع الإضرار به وهذا قول الهادوية والشافعي وأبي حنيفة والقول الثاني أنه يصح البيع لأنه مشاهد يمكن تسليمه فيصح كما صح من المذبوح وهذا قول مالك ومن وافقه قالوا والحديث موقوف على ابن عباس والقول الأول أظهر والحديث قد تعاضد فيه والجواب والموقوف وقد صح النهي عن الغرر والغرر حاصل فيه والثالثة النهي عن بيع اللين في الضرع لما فيه من الغرر وذهب سعيد بن جبير إلى جوازه قال لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الضرع خزانة في قوله فيمن يحلب شاة أخيه بغير إذنه يعمد أحدكم إلى خزانة أخيه ويأخذ ما فيها وأجيب بأن تسميته خزانة مجاز ولئن سلم فبيع ما في الخزانة بيع غرر ولا يدرى بكميته وكيفيته
43- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى

(3/32)


بيع المضامين المراد بهما ما في بطون الإبل والملاقيح هو ما في ظهور الجمال رواه البزار وفي إسناده ضعف لأن في رواته صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وهو ضعيف ورواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا قال الدراقطني في العلل تابعه معمر ووصله عمر بن قيس عن الزهري وقول مالك هو الصحيح وفي الباب عن ابن عمر أخرجه عبدالرزاق بإسناد قوي والحديث دليل على عدم صحة بيع المضامين والملاقيح وقد تقدم وهو إجماع
44- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وهو عنده بلفظ "من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة" قال أبو الفتح القشيري هو على شرطهما وفي الباب ما يشده من الأحاديث الدالة على فضل الإقالة وحقيقتها شرعا رفع العقد الواقع بين المتعاقدين وهي مشروعة إجماعا ولا بد من لفظ يدل عليها وهو أقلت أو ما يفيد معناه عرفا وللإقالة شرائط ذكرت في كتب الفروع لا دليل عليها وإنما دل الحديث على أنها تكون بين المتبايعين لقوله بيعته وأما كون المقال مسلما فليس بشرط وإنما ذكره لكونه حكماً أغلبياً وإلا فثواب الإقالة ثابت في إقالة غير المسلم وقد ورد بلفظ "من أقال نادما" أخرجه البزار

(3/33)


باب الخيار
الخيار بكسر الخاء المعجمة اسم من الاختيار أو التخيير وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه وهو أنواع ذكر المصنف في هذا الباب خيار الشرط وخيار المجلس
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايع الرجلان" أي أوقعا العقد بينهما لا تساوما من غير عقد "فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" وفي لفظ "يفترقا" والمراد بالأبدان "وكانا جميعا أو يخير" من التخيير "أحدهما الآخر" فإن خير أحدهما الآخر أي إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معلومة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق بل يبقى حتى تمضي مدة الخيار التي شرطها وقيل المراد إذا اختار إمضاء البيع قبل التفرق لزمه البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق ويدل لهذا قوله "فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" أي نفذ وتم "وإن تفرقا" بالأبدان "بعد أن تبايعا" أي عقدا عقد البيع "ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع" متفق عليه واللفظ لمسلم الحديث دليل على ثبوت

(3/33)


خيار المجلس للمتبايعين وأنه يمتد إلى أن يحصل التفرق بالأبدان وقد اختلف العلماء في ثبوته على قولين الأول ثبوته وهو لجماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام و ابن عباس و ابن عمر وغيرهم وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق والإمام يحيى قالوا والتفرق الذي يبطل له الخيار ما يسمى عادة تفرقا ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث ودل على أن هذا تفرق فعل ابن عمر المعروف فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق وهذا المذهب دليله هذا الحديث المتفق عليه القول الثاني للهادوية والحنفية و مالك والإمامية أنه لا يثبت خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط مستدلين بقوله تعالى {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وبقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قالوا والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر وإن وقع قبله لم يصادف محله وحديث "إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع" ولم يفصل وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث وكخيار الشرط وكذلك الحديث وآية الإشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات قالوا والحديث منسوخ بحديث "المسلمون على شروطهم" والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط ورد بأن الأصل عدم النسخ ولا يثبت بالاحتمال قالوا ولأنه من رواية مالك ولم يعمل به وأجيب بأن مخالفة الراوي لا توجب عدم العمل بروايته لأن عمله مبني على اجتهاده وقد يظهر له ما هو أرجح عنده مما رواه وإن لم يكن أرجح في نفس الأمر قالوا وحديث الباب يحمل على المتساومين فإن استعمال البائع في المساوم شائع وأجيب عنه بأنه إطلاق مجازي والأصل الحقيقة وعورض بأنه يلزم أيضا حمله على المجازي على القول الأول فإنه على تقدير القول بأن المراد التفرق بالأبدان هو بعد تمام الصيغة وقد مضى فهو مجاز في الماضي وردت هذه المعارضة بأنا لا نسلم أنه مجاز في الماضي بل هو حقيقة فيه كما ذهب إليه الجمهور بخلاف المستقبل فمجاز اتفاقا قالوا المراد التفرق بالأقوال والمراد بالتفرق فيما هو ما بين قول البائع بعتك بكذا أو قول المشتري اشتريت قالوا فالمشتري بالخيار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري ولا يخفى ركاكة هذا القول وبطلانه فإنه إلغاء للحديث عن الفائدة إذ من المعلوم يقينا أن كلا من البائع والمشتري في هذه الصورة على الخيار إذ لا عقد بينهما فالإخبار به لاغ عن الإفادة ويرده لفظ الحديث كما لا يخفى فالحق هو القول الأول وأما معارضة حديث الباب بالحديث الآتي وهو قوله
2- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(3/34)


"البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" رواه الخمسة إلا ابن ماجه ورواه الدارقطني وابن خزيمة وابن الجارود وفي رواية "حتى يتفرقا عن مكانهما" وبحديث أبي داوود عن ابن عمرو بلفظ "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" قالوا فقوله أن يستقيله دال على نفوذ البيع فقد أجيب عنه بأن الحديث دليل خيار المجلس أيضا لقوله بالخيار ما لم يتفرقا وأما قوله أن يستقيله فالمراد به الفسخ لأنه لو أريد الاستقالة حقيقة لم يكن للمفارقة معنى فتعين حملها على الفسخ وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء فقالوا معناه لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع فالمراد بالاستقالة فسخ النادم وحملوا نفي الحل على الكراهة لأنه لا يليق بالمروءة وحسن معاشرة المسلم لا أن اختيار الفسخ حرام وأما ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعه قام يمشي هنيهة فرجع إليه فإنه محمول على أن ابن عمر لم يبلغه النهي وقال ابن حزم حمل حديث ابن عمرو هذا على التفرق بالأقوال تذهب معه فائدة الحديث لأنه يلزم معه حل التفرق سواء خشي أن يستقيله أو لا لأن الإقالة تصح قبل التفرق وبعده قال ابن عبد البر قد أكثر المالكية والحنفية من الكلام برد الحديث بما المطلوب ذكره وأكثره لا يحصل منه شيء وإذا ثبت لفظ مكانهما لم يبق للتأويل مجال وبطل بطلانا ظاهرا حمله على تفرق الأقوال
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "ذكر رجل" هو حبان بفتح الحاء بن منقذ المهملة والباء الموحدة "للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال إذا بايعت فقل لا خلابة" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وبموحدة أي لا خديعة متفق عليه زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد" فبقي ذلك الرجل حتى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة فكثر الناس في زمان عثمان فكان إذا اشترى شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع فيشهد له رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له الخيار ثلاثا فيرد له دراهمه والحديث دليل على خيار الغبن في البيع والشراء إذا حصل الغبن واختلف فيه العلماء على قولين الأول ثبوت الخيار بالغبن وهو قول أحمد ومالك ولكن إذا كان الغبن فاحشا لمن لا يعرف ثمن السلعة وقيده بعض المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة ولعلهم المثناة التقييد مما علم من أنه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن في غالب الأحوال ولأن القليل يتسامح به في العادة وأنه من رضى بالغبن بعد معرفته فإن ذلك لا يسمى غبنا وإنما يكون من باب التساهل في البيع الذي أثنى صلى الله عليه وسلم على فاعله وأخبر أن الله يحب الرجل سهل البيع سهل الشراء وذهب الجماهير من العلماء

(3/35)


إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين الغبن أولا قالوا وحديث الباب إنما كان الخيار فيه لضعف عقل ذلك الرجل إلا أنه ضعف لم يخرج به عن حد التمييز فتصرفه كتصرف الصبي المأذون له ويثبت له الخيار مع الغبن قلت ويدل لضعف عقله ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث أنس بلفظ إن رجلا كان يبايع وكان في عقله أي إدراكه ضعف ولأنه لقنه صلى الله عليه وسلم بقوله "لا خلابة" اشتراط عدم الخداع فكان شراؤه وبيعه مشروطا بعدم الخداع ليكون من باب خيار الشرط قال ابن العربي إن الخديعة في هذه القصة يحتمل أن تكون في العيب أو في الملك أو في الثمن أو في العين فلا يحتج بها في الغبن بخصوصه وهي خاصة لا عموم فيها قلت في رواية ابن إسحاق أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغبن وهي ترد ما قاله ابن العربي وقال بعضهم إنه إذا قال الرجل البائع أو المشتري لا خلابة ثبت الخيار وإن لم يكن فيه غبن ورد بأنه مقيد بما في الرواية أنه كان يغبن وأثبت الهادوية الخيار بالغبن في صورتين الأولى من تصرف عن الغير والثانية في الصبي المميز محتجين بهذا الحديث وهو دليل لهم على الصورة الثانية إذا ثبت أنه كان في عقله ضعف دون الأولى

(3/36)


باب الربا
الربا بكسر الراء مقصورة من ربا يربو ويقال الرماء بالميم والربية بضم الراء والتخفيف وهو الزيادة ومنه قوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ويطلق الربا على كل بيع محرم وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل والأحاديث في النهي عنه وذم فاعله ومن أعانه كثيرة جدا وردت بلعنه ومنها
1- عن جابر رضي الله عنه قال " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء" رواه مسلم وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة عن جابر رضي الله عنه قال "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء" رواه مسلم وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرحمة وهو دليل على إ ثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع وغيره مثله والمراد من موكله الذي أعطى الربا لأنه ما تحصل الربا إلا منه فكان داخلا في الإثم وإما الكاتب والشاهدين لإعانتهم على المحظور وذلك إذا قصدا وعرفا بالربا وورد في رواية لعن الشاهد بالإفراد على إرادة الجنس فإن قلت حديث اللهم ما لعنت من لعنة فاجعلها رحمة أو نحوه وفي لفظ ما لعنت فعلى من لعنت يدل على أنه لا يدل اللعن منه صلى الله عليه وسلم على التحريم وأنه لم يرد به حقيقة الدعاء على من أوقع عليه اللعن قلت

(3/36)


ذلك فيما إذا كان من أوقع عليه اللعن غير فاعل لمحرم معلوم أو كان اللعن في حال غضب منه صلى الله عليه وسلم
2- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها في الإثم مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" رواه ابن ماجه مختصرا والحاكم بتمامه وصححه وفي معناه أحاديث الربا في عرض المسلم بقوله السبتان بالسبة وفيه دليل على أنه يطلق الربا على الفعل المحرم وإن لم يكن من أبواب الربا المعروفة وتشبيه أيسر الربا بإتيان الرجل أمه لما فيه من استقباح ذلك عند العقل
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا" بضم المثناة الفوقية فشين معجمة مكسورة ففاء مشددة أي "لا تفضلوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز" بالجيم والزاي أي حاضر متفق عليه الحديث دليل على تحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا سواء كان حاضرا أو غائبا لقوله إلا مثلا بمثل فإنه استثنى من أعم الأحوال كأنه قال لا تبيعوا ذلك في حال من الأحوال إلا في حال كونه مثلا بمثل أي متساويين قدرا وزاده تأكيدا بقوله "ولا تشفوا" أي لا تفاضلوا وهو من الشف بكسر الشين وهي الزيادة هنا وإلى ما أفاده الحديث ذهبت الجلة من العلماء الصحابة والتابعين والعترة والفقهاء فقالوا يحرم التفاضل فيما ذكر غائبا كان أو حاضرا وذهب ابن عباس وجماعة من الصحابة إلى أنه لا يحرم الربا إلا في النسيئة فالمراد نفي الكمال لا نفي الأصل ولأنه مفهوم وحديث أبي سعيد منطوق ولا يقاوم المفهوم المنطوق فإنه مطرح مع المنطوق وقد روى الحاكم أن ابن عباس رجع عن ذلك القول أي بأنه لا ربا إلا في النسيئة واستغفر الله من القول به ولفظ الذهب عام لجميع ما يطلق عليه من مضروب وغيره وكذلك لفظ الورق وقوله لا تبيعوا غائبا منها بناجز المراد بالغائب ما غاب عن مجلس البيع مؤجلا كان أو لا والناجز الحاضر
4- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد" رواه مسلم لا يخفى ما أفاده من التأكيد بقوله مثلا بمثل وسواء بسواء وفيه دليل على تحريم التفاضل جنسا من الستة المذكورة التي

(3/37)


وقع عليها النص وإلى تحريم الربا فيها ذهبت الأمة كافة واختلفوا فيما عداها فذهب الجمهور إلى ثبوته فيما عداها مما شاركها في العلة ولكن لما لم يجدوا علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها القول المجتبى واعلم أنه اتفق العلماء على جواز بيع ربوي بربوي لا يشاركه في الجنس مؤجلا ومتفاضلا كبيع الذهب بالحنطة والفضة بالشعير وغيره من المكيل واتفقوا على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه وأحدهما مؤجل
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن" نصب على الحال " مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا" رواه مسلم فيه دليل على تعين التقدير بالوزن لا بالخرص والتخمين بل لا بد من التعيين الذي يحصل بالوزن وقوله فمن زاد أي أعطى الزيادة أو استزاد أي طلب الزيادة فقد أربى أي فعل الربا المحرم واشترك في إ ثمه الآخذ والمعطي
6- وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا اسمه سواد بفتح السين المهملة وتخفيف الواو ودال مهملة ابن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي ومثناة تحتية بزنة عطية وهو من الأنصار على خيبر فجاءه بتمر جنيب بالجيم المفتوحة والنون بزنة عظيم يأتي ببيان معناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكل تمر خيبر هكذا" فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل بع الجمع" بفتح الجيم وسكون الميم التمر الرديء "بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وقال في الميزان مثل ذلك متفق عليه ولمسلم وكذلك الميزان الجنيب قيل الطيب وقيل الصلب وقيل الذي أخرج منه حشفه ورديئه وقيل هو الذي لا يختلط بغيره ةقد فسر الجمع بما ذكرناه آنفا وفسر في رواية لمسلم بأنه الخلط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة والحديث دليل على أن بيع الجنس بجنسه يجب فيه التساوي سواء اتفقا في الجودة والرداءة أو اختلفا وأن الكل جنس واحد وقوله وقال في الميزان مثل ذلك أي قال فيما كان يوزن إذا بيع بجنسه مثل ما قال في المكيل إنه لا يباع متفاضلا وإذا أريد مثل ذلك بيع بالدراهم وشري ما يراد بها والإجماع قائم على أنه لا فرق بين المكيل والموزون في ذلك الحكم واحتجت الحنفية بهذا الحديث على أن ما كان في زمنه صلى الله عليه وعلى وسلم مكيلا لا يصح أن يباع ذلك بالوزن متساويا بل لا بد من اعتبار كيله وتساويه كيلا وكذلك الوزن وقال ابن عبد البر أجمعوا أن ما كان أصله الوزن لا يصح أن يباع بالكيل بخلاف ما كان أصله الكيل فإن بعضهم يجيز فيه الوزن

(3/38)


ويقول إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء وغيرهم يعتبرون الكيل والوزن بعادة البلد ولو خالف ما كان عليه في ذلك الوقت فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب فإن استوى الأمران كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون
واعلم أنه لم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع بل ظاهرها أنه قرره وإنما أعلمه بالحكم وعذره للجهل به إلا أنه قال ابن عبد البر إن سكوت الراوي عن رواية فسخ العقد ورده لا يدل على عدم وقوعه وقد أخرج من طريق أخرى وكأنه يشير إلى ما أخرجه من طريق أبي بصرة عن سعيد نحو هذه القصة فقال هذا الربا فرده قال ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت متقدمة وفي الحديث دلالة على جواز الترفيه على النفس باختيار الأفضل
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة" بضم الصاد المهملة الطعام المجتمع "من التمر التي لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر" رواه مسلم دل الحديث على أنه لا بد من التساوي بين الجنسين وتقدم وهو وجه النهي
8- وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" وكان طعامنا يومئذ الشعير رواه مسلم ظاهر لفظ الطعام أنه يشمل كل مطعوم ويدل على أنه لا يباع متفاضلا وإن اختلف الجنس والظاهر أنه لا يقول أحد بالعموم وإنما الخلاف في البر والشعير كما سيأتي عن مالك ولكن معمر خص الطعام بالشعير وهذا من التخصيص بالعادة الفعلية حيث لم يغب الإسم وقد ذهب إلى التخصيص بها الحنفية والجمهور لا يخصصون بها إلا إذا اقتضت غلبة الاسم وإلا حمل اللفظ على العموم ولكنه مخصوص بما تقدم من قوله فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم بعد عده للبر والشعير فدل على أنهما صنفان وهو قول الجماهير وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا هما صنف واحد لا يجوز بيع أحدهما وصله متفاضلا وسبقهم إلى ذلك معمر بن عبد الله راوي الحديث فأخرج مسلم عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساق هذا الحديث المذكور فقيل له فإنه ليس مثله فقال إني أخاف أن يضارع وظاهره أنه اجتهاد منه ويرد عليهم ظاهر الحديث ونص حديث أبي داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثر، وهما يدا بيد"
9- وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت

(3/39)


ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل" رواه مسلم الحديث قد أخرجه الطبراني في الكبير بطرق كثيرة بألفاظ متعددة حتى قيل إنه مضطرب وأجاب المصنف أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الاضطراب وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة وهو كلام حسن يجاب به فيما يشابه هذا مثل حديث جابر وقصة جمله ومقدار ثمنه والحديث دليل على أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل ويباع الذهب بوزنه ذهبا ويباع الآخر بما زاد ومثله غيره من الربويات فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباع حتى تفصل" فصرح ببطلان العقد وأنه يجب التدارك له وقد اختلف في هذا الحكم فذهب كثير من السلف و الشافعي وأحمد وغيرهم إلى العمل بظاهر الحديث وخالف في ذلك الهادوية والحنفية وآخرون وقالوا بجواز ذلك بأكثر مما فيه من الذهب ولا يجوز بمثله ولا بدونه قالوا وذلك لأنه حصل الذهب في مقابلة الذهب والزائد من الذهب في مقابلة المصاحب له فصح العقد قالوا لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حمل على الصحة قالوا وحديث القلادة الذهب فيها أكثر من اثني عشر دينارا لأنها إحدى الروايات في مسلم وصححها أصحاب أبي علي الغساني ولفظها قلادة فيها اثنا عشر دينارا وهي أيضا كرواية الأكثر في الحكم وهو على التقديرين لا يصح لأنه لا بد أن يكون المنفرد أكثر من المصاحب ليكون ما زاد من المنفرد في مقابلة المصاحب وأجاب المانعون بأن الحديث فيه دلالة على علة النهي وهوعدم الفصل حيث قال لا تباع حتى تفصل وظاهره الإطلاق في المساوي وغيره فالحق مع القائلين بعدم الصحة ولعل حكمة النهي هو سد الذريعة إلى وقوع التفاضل في الجنس الربوي ولا يكون إلا بتمييزه بفصل واختبار المساواة بالكيل أو الوزن وعدم الكفاية بالظن في التغليب ولمالك قول ثالث في المسألة وهو أنه يجوز بيع السيف المحلى بالذهب إذا كان الذهب في البيع تابعا لغيره وقدره بأن يكون الثلث فما دونه وعلل لقوله بأنه إذا كان الجنس المقابل بجنسه الثلث فما دونه فهو مغلوب ومكثور للجنس المخالف والأكثر ينزل في غالب الأحكام منزلة الكل فكأنه لم يبع ذلك الجنس بجنسه ولا تخفى ركته وضعفه وأضعف منه القول الرابع وهو جواز بيعه بالذهب مطلقا مثلا بمثل أو أقل أو أكثر ولعل قائله ما عرف حديث القلادة
10- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم نهى عن

(3/40)


بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود وأخرجه أحمد وأبو يعلى والضياء في المختارة كلهم من حديث الحسن عن سمرة وقد صححه الترمذي وقال غيره رجاله ثقات إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله لما في سماع الحسن من سمرة من النزاع لكن رواه ابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس ورجاله ثقات أيضا إلا أنه رجح البخاري وأحمد إرساله وأخرجه الترمذي عن جابر بإسناد لين وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن جابر بن سمرة والطحاوي والطبراني عن ابن عمر وهو يعضد بعضه بعضا وفيه دليل على عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إلا أنه قد عارضه رواية أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا بكرا وقضى رباعيا وسيأتي فاختلف العلماء في الجمع بينه وبين حديث سمرة فقيل المراد بحديث سمرة أن يكون نسيئة من الطرفين معا فيكون من بيع الكالىء بالكالىء وهو لا يصح وبهذا فسره الشافعي جمعا بينه وبين حديث أبي رافع وذهبت الهادوية والحنفية والحنابلة إلى أن هذا ناسخ لحديث أبي رافع وأجيب عنه بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل والجمع أولى منه وقد أمكن بما قاله الشافعي ويؤيده آثار عن الصحابة أخرجها البخاري قال اشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين وأعطاه أحدهما وقال آتيك وصله غدا وقال ابن المسيب لا ربا في البعير بالبعيرين والمثناة بالشاتين إلى أجل واعلم أن الهادوية يعللون منع بيع الحيوان الموجود بالحيوان المفقود بأن المبيع القيمي لا بد أن يكون موجودا عند العقد في ملك البائع له والحيوان قيمي مبيع مطلقا فيجب كونه موجودا وإن لم يكن حاضرا مجلس العقد فلا بد أن يكون متميزا عند البائع إما بإشارة أو لقب أو وصف وكذلك عللوا منع قرض الحيوان بعدم إمكان ضبطه وحديث أبي رافع يزعمون نسخه ويأتي تحقيق الكلام في شرح الحديث الرابع عشر
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة" بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية "وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا" بضم الذال المعجمة والكسر الاستهانة والضعف "لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أبو داود من رواية نافع عنه وفي إسناده مقال لأن في إسناده أبا عبد الرحمن الخراساني اسمه إسحاق عن عطاء الخراساني قال الذهبي في الميزان هذا من مناكيره ولأحمد نحوه من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطان قال المصنف وعندي أن الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كونه رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني

(3/41)


فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بن عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث الأول وهو المشهور اه والحديث له طرق عديدة عقد له البيهقي بابا وبين عللها واعلم أن بيع العينة هو أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها ولأنه يعود إلى البائع عين ماله وفيه دليل على تحريم هذا البيع وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية عملا بالحديث قالوا ولما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع مقصود قال القرطبي لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغوا وأما الشافعي فنقل عنه أنه قال بجوازه أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وأبي هريرة الذي تقدم "بع الجمع بالدراهم جنيبا" قال فإنه دال على جواز بيع العينة فيصح أن يشتري ذلك البائع له ويعود له عين ماله لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دل على صحة البيع مطلقا سواء كان من البائع أو غيره وذلك لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال وأيد ما ذهب إليه الشافعي بأنه قد قام الإجماع على جواز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى عوده إليه بالزيادة وقالت الهادوية يجوز البيع من البائع إذا كان غير حيلة ولا فرق بين التعجيل والتأجيل وبأن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه فإذا كان مشروطا عند العقد أو قبله على عوده إلى البائع فالبيع فاسد أو باطل على الخلاف وإن كان مضمراً مشروط فهو صحيح ولعلهم يقولون حديث العينة فيه مقال فلا ينتهض دليلا على التحريم وقوله "وأخذتم أذناب البقر" كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث والرضا بالزرع كناية عن كونه قد صار همهم وهمتهم وتسليط الله كناية عن جعلهم أذلاء بالتسليط لما في ذلك من الغلبة والقهر وقوله -"حتى ترجعوا إلى دينكمط- أي ترجعوا إلى الاشتغال بأعمال الدين وفي هذه العبارة زجر بالغ وتقريع شديد حتى جعل ذلك بمنزلة الردة وفيه الحث على الجهاد
12- وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا" رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة وظاهره سواء كان قاصدا لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد لها وتسميته ربا من باب الاستعارة للشبه بينهما ذلك لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض وهذا مثله ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية فإنها في الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم والثانية محظور فقبضها في مقابلها محظور

(3/42)


وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز أخذ الهدية لأنها مكافأة على إحسان غير واجب ويحتمل أنها تحرم لأن الشفاعة شيء يسير لا تؤخذ عليه مكافأة وإنما قال المصنف وفي إسناده مقال لأنه رواه القاسم عن أبي أمامة وهو أبو عبد الرحمن مولاهم الأموي الشامي فيه مقال قال المنذري قلت في الميزان قال الإمام أحمد روى عنه علي بن زيد أعاجيب وما أراها إلا من قبل القاسم وقال ابن حبان كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات ثم إنه وثقة ابن معين وقال الترمذي ثقة انتهى
13- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" رواه أبو داود والترمذي وصححه ورواه أحمد في القضاء وابن ماجه في الأحكام والطبراني في الصغير وقال الهيثمي رجاله ثقات وذكر المصنف هذا الحديث في أبواب الربا لأنه أفاد لعن من ذكر لأجل أخذ المال الذي يشبه الربا كذلك أخذ الربا وقد تقدم لعن آخذه أول الباب وحقيقة اللعن البعد عن مظان الرحمة ومواطنها وقد ثبت اللعن عنه صلى الله عليه وسلم لأصناف كثيرة تزيد على العشرين وفيه دلالة على جواز لعن العصاة من أهل القبلة وأما حديث "المؤمن ليس باللعان" فالمراد به لعن من لا يستحق ممن لم يلعنه الله ولا رسوله أو ليس بالكثير اللعن كما تفيده صيغة فعال والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل مأخوذ من الرشاء وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر فعلى هذا بذل المال للتوصل إلى الحق لا يكون رشوة والمرتشي آخذ الرشوة وهو الحاكم واستحقا اللعنة جميعا لتوصل الراشي بماله إلى الباطل والمرتشي للحكم بغير الحق وفي حديث ثوبان زيادة والرائش وهو الذي يمشي بينهما
14- وعنه أي ابن عمرو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات ذكر المصنف له هنا لأن الحديث يدل أن لا ربا في الحيوانات وإلا فبابه القرض وفي الحديث دليل على جواز اقتراض الحيوان وفيه أقوال ثلاثة الأول جواز ذلك وهو قول الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف عملا بهذا الحديث وبأن الأصل جواز ذلك إلا جارية لمن يملك وطأها فإنه لا يجوز ويجوز لمن لا يملك وطأها كمحارمها والمرأة والثاني يجوز مطلقا للجارية وغيرها وهو لابن جرير وداود الثالث للهادوية والحنفية أنه لا يجوز قرض شيء من الحيوانات وهذا الحديث يرد قولهم وتقدم دعواهم النسخ وعدم صحته
واعلم أنه قد وقع في الشرح أن حديث ابن عمرو في قرض الحيوان كما ذكرناه وراجعنا كتب الحديث فوجدنا في سنن البيهقي ما لفظه بعد سياقه بإسناده قال عمرو بن حريش لعبد الله بن عمرو بن العاص إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفأبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والمثناة بالشاتين فقال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز

(3/43)


جيشا" الحديث المصدر في الكتاب وفي لفظ "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق" فسياق الأول واضح أنه في بيع ولفظ الثاني صريح في ذلك إذا عرفت هذا فحمله على القرض خلاف ما دل عليه من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وقد عارضه حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة كما تقدم في الحديث العاشر وقد علمت ما قيل فيه والأقرب من باب الترجيح أن حديث ابن عمرو أرجح من حيث الإسناد فإنه قد قال الشافعي في حديث سمرة أنه غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه عنه البيهقي وقرض الحيوان بالحيوان قد صح عنه صلى الله عليه وسلم جوازه أيضا
15- وعن ابن عمرو رضي الله عنهما وكان قياس قاعدة المصنف وعنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة" وفسرها بقوله أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله متفق عليه تقدم الكلام على تفسير المزابنة واشتقاقها ووجه التسمية وقوله ثمر بالمثلثة وفتح الميم فشمل الرطب وغيره والمراد ما كان في أصله رطبا من هذه الأمور المذكورة وأراد بالكرم العنب وقد اختلف العلماء في تفسير المزابنة وتقدم أن المعول عليه في تفسيرها ما فسرها به الصحابي لاحتمال أنه مرفوع وإلا فهو أعرف بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر لا مخالف لهم أن مثل هذا مزابنة وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز بيعه إلا مثل بمثل فالجمهور على الإلحاق في الحكم للمشاركة في العلة في ذلك وهو عدم العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس والتقدير وأما تسمية ما ألحق مزابنة فهو إلحاق في الاسم فلا يصح إلا على رأي من أثبت اللغة بالقياس
16- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟" قالوا نعم فنهى عن ذلك" رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم وإنما صححه ابن المديني وإن كان مالك علقه عن داود بن الحصين لأن مالكا لقي شيخه بعد ذلك فحدث به مرة عن داود ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه قال ابن المديني إن والده حدث به عن مالك بتعليقه عن داود إلا أن سماع والده عن مالك قديم ثم حدث به مالك عن شيخه فصح من طريق مالك ومن أعله بجهالة حال أبي عياش فقد رد عليه بأن الدارقطني قال إنه ثبت ثقة وقال المنذري قد روى عنه ثقات وقد اعتمده مالك مع شدة نقده قال الحاكم ولا أعلم أحدا طعن فيه والحديث دليل على عدم جواز بيع الرطب بالتمر لعدم التساوي كما تقدم
17- وعن ابن عمررضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع

(3/44)


الكالىء بالكالىء" يعني الدين بالدين رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف قال أحمد لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره وصحفه الحاكم فقال موسى بن عتبة فصححه على شرط مسلم وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم قال أحمد ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع والكالىء من كلأ الدين كلوءا فهو كالىء إذا تأخر وكلأته وقد لا يهمز تخفيفا قال في النهاية هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا

(3/45)


باب الرخصة في العرايا
وبيع أصول الثمار
1- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا" متفق عليه ولمسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا الترخيص في الأصل التسهيل والتيسير وفي عرف المتشرعة ما شرع من الأحكام لعذر مع بقاء دليل الإيجاب والتحريم لولا ذلك العذر وهذا دليل على أن حكم العرايا مخرج من بين المحرمات مخصوص بالحكم وقد صرح باستثنائه في حديث جابر عند البخاري بلفظ "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يطيب ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير والدراهم إلا العرايا" وفي قوله في العرايا مضاف محذوف أي في بيع ثمر العرايا لأن العرية هي النخلة وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة كانت العرب في الجدب يتطوع أهل النخل منهم بذلك على من لا ثمر له كما كانوا يتطوعون بمنيحة المثناة والإبل وقال مالك العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى المعري بدخول المعرى عليه فرخص له أن يشتريها أي رطبها منه بتمر أي يابس وقد وقع اتفاق الجمهور على جواز رخصة العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر يقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمس أوسق بشرط التقابض وإنما قلنا فيما دون خمسة أوسق لحديث أبي هريرة
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق" متفق عليه وبين مسلم أن الشك فيه من داود بن الحصين وقد وقع الاتفاق بين الشافعي ومالك على صحته فيما دون الخمسة وامتناعه فيما فوقها والخلاف بينهما فيها لحديث جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة أخرجه أحمد وترجم له ابن حبان الاحتياط على أن لا يزيد على أربعة أوسق وأما اشتراط التقابض فلأن الترخيص إنما وقع في بيع ما ذكر مع عدم تيقن التساوي

(3/45)


فقط وأما التقابض فلم يقع فيه ترخيص فبقي على الأصل من اعتباره ويدل لاشتراطه ما أخرجه الشافعي من حديث زيد بن ثابت أنه سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر وفيه مأخذ لمن يشترط التقابض وإلا لم يكن لذكر وجود التمر عندهم وجه
واعلم أن الحديث ورد في الرطب بالتمر على رؤوس الشجر وأما شراء الرطب بعد قطعه بالتمر فقال بجوازه كثير من الشافعية إلحاقا له بما على رؤوس الشجر كما بوب بذلك البخاري لأن محل الرخصة هو الرطب نفسه مطلقا أعم من كونه على رؤوس النخل أو قد قطع فيشمله النص ولا يكون قياسا ولا منع إذ قد تدعو حكمة الترخيص إلى شراء الرطب الحاصل فإنه قد تدعو إليه الحاجة في الحال وقد يكون مع المشتري تمر فيأخذه به فيدفع به قول ابن دقيق العيد إن ذلك لا يجوز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا القصد لا يحصل مما على وجه الأرض
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع" متفق عليه وفي رواية وكان إذا سئل عن صلاحها قال حتى تذهب عاهتها وهي الآفة والعيب اختلف السلف في المراد ببدو الصلاح على ثلاثة أقوال الأول أنه يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار أن يكون الصلاح متلاحقا وهو قول الليث والمالكية والثاني أنه لا بد أن يكون في جنس تلك الثمرة المبيعة وهو قول لأحمد والثالث أنه يعتبر الصلاح في تلك الشجرة المبيعة وهو قول الشافعية ويفهم من قوله يبدو أنه لا يشترط تكامله فيكفي زهو بعض الثمارة وبعض الشجرة مع حصول المعنى المقصود وهو اختلفا من العاهة وقد جرت حكمة الله أن لا تطيب الثمار دفعة واحدة لتطول مدة التفكه بها والانتفاع والحديث دليل على النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها والإجماع قائم على أنه لا يصح بيع الثمار قبل خروجها لأنه بيع معدوم وكذا بعد خروجها قبل نفعها إلا أنه روى المصنف في الفتح أن الحنفية أجازوا بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبعده بشرط القطع وأبطلوه بشرط البقاء قبله وبعده وأما بعد صلاحها ففيه تفاصيل فإن كان بشرط القطع صح إجماعا وإن كان بشرط البقاء كان بيعا فاسدا إن جهلت المدة فإن علمت صح عند الهادوية ولا غرر وقال المؤيد لا يصح للنهي عن بيع وشرط وإن أطلق صح عند الهادوية وأبي حنيفة إذ المتردد بين الصحة والفساد يحمل على الصحة إذ هي الظاهر إلا أن يجري عرف ببقائه مدة مجهولة فيفسده وأفاد نهي البائع والمبتاع أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل وأما المشتري فلئلا يضيع ماله والعاهة هي الآفة التي تصيب الثمار وقد بين ذلك حديث زيد بن ثابت قال "كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب

(3/46)


الثمار الدمان وهو فساد الطلع وسواده أصابه مراض قشام عاهات يحتجون بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك :"فأما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمارة" كالمشورة يشير بها لكثرة خصوماتهم انتهى وأفهم قوله كالمشورة أن النهي للتنزيه لا للتحريم كأنه فهمه من السياق وإلا فأصله التحريم وكان زيد لا يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثرايا فيتبين الأصفر من الأحمر وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة من كل بلد والنجم الثريا والمراد طلوعها صباحا وهو في أول الصيف وذلك عند اشتداد الحر ببلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار وهو المعتبر حقيقة وطلوع الثريا علامة
4- وعن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى" قيل في رواية النسائي قيل يا رسول الله فأفاد أن التفسير مرفوع "وما زهوها؟" بفتح الزاي قال "تحمار وتصفار" متفق عليه واللفظ للبخاري يقال أزهى يزهى إذا احمر واصفر وزها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته وقيل هما بمعنى الاحمرار والاصفرار ومنهم من أنكر يزهو ومنهم من أنكر يزهى كذا في النهاية قال الخطابي في هذه الرواية هي الصواب ولا يقال في النخل يزهو إنما يقال يزهى ومنهم من قال زها إذا طال واكتمل وأزهى إذا احمر واصفر قال الخطابي قوله "تحمار وتصفار" لم يرد بذلك اللون الخالص من الحمرة والصفرة إنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة فلذلك قال تحمار وتصفار قال ولو أراد اللون الخالص لقال تحمر وتصفر قال ابن التين أراد بقوله تحمار وتصفار ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن ينضج قال وإنما يقال يفعال في اللون المتغير إذا كان لا يزول ذلك وقيل لا فرق إلا أنه قد يقال في هذا المحل المراد به ما ذكر بقرينة الحديث الآتي وهو قوله
5- وعن أنس رضي الله عنه قياس قاعدته وعنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد" رواه الخمسة إلى النسائي وصححه ابن حبان والحاكم والمراد باسوداد العنب واشتداد الحب بدو صلاحه قال النووي فيه دليل لمذهب الكوفيين وأكثر العلماء في أنه يجوز بيع السنبل المشتد وأما مذهبنا ففيه تفصيل إن كان السنبل شعيرا أو ذرة أو مما في معناهما مما ترى حباته خارجة صح بيعه وإن كان حنطة أو نحوها مما يستر حباته بالقشور التي تزال في الدياس ففيه قولان للشافعي الجديد أنه لا يصح وهو أصح قوليه والقديم أنه يصح وأما قبل الاشتداد فلا يصح إلا

(3/47)


بشرط القطع كما ذكرنا فإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط صح تبعا للأرض وكذا الثمار قبل الصلاح إذا بيعت مع الشجر جاز بلا شرط تبعا هكذا حكم القول في الأرض لا يجوز بيعها دون الزرع إلا بشرط القطع وكذا لا يصلح بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه وفروع المسألة كثيرة وقد نقحت مقاصدها في روضة الطالبين وشرح المهذب وجمعت فيها جملة مستكثرة وبالله التوفيق
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوبعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة" هي آفة تصيب الزرع "فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق" رواه مسلم وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح الجائحة مشتقة من الجوح وهو الاستئصال ومنه حديث إن أبي يجتاح مالي وفي الحديث دليل على أن الثمار التي على رؤوس الشجر إذا باعها المالك وأصابتها جائحة أن يكون تلفها من مال البائع وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئا وظاهر الحديث فيما باعه منهي عنه وأنه وقع البيع بعد بدو الصلاح لأنه منهي عن بيعه قبل بدوه ويحتمل وروده أي حديث وضع الجوائح قبل النهي يدل له ما وقع في حديث زيد بن ثابت أنه قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتاع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وسمع خصومة فقال ما هذا فذكر الحديث وأنه نهى عن بيعها قبل بدو صلاحها فأفاد مع ذكر سبب النهي تاريخ ذلك فيكون حديث وضع الجوائح متأخرا فيحمل أي حديث وضع الجوائح على البيع بعد بدو الصلاح وقد اختلف العلماء في وضع الجوائح فذهب الأقل إلى أن الجائحة إذا أصابت الثمر جميعه أن يوضع الثمن جميعه وأن التلف من مال البائع عملا بظاهر الحديث وذهب الأكثر إلى أن التلف من مال المشتري وأنه لا وضع لأجل الجائحة إلا ندباً واحتجوا له بحديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يتصدقوا على الذي أصيب في ثماره وسيأتي قالوا ووجه تلفه من مال المشتري أن التخلية في العقد الصحيح بمنزلة القبض وقد سلمه البائع للمشتري بالتخلية فكأنه قبضه وأجيب عنه بأن قوله "فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا" الحديث دال على التحريم وأنه تلف على البائع لقوله "مال أخيك" إذ يدل أنه لم يستحق منه الثمن وأنه مال أخيه لا ماله وحديث التصدق محمول على الاستحباب بقرينة قوله "لا يحل لك" وفائدة الأمر بالتصدق الإرشاد إلى الوفاء بغرضين جبر البائع وتعريض المشتري لمكارم الأخلاق كما يدل له قوله في آخر الحديث لما طلبوا الوفاء ليس لكم إلا ذلك فلو كان لازما لأمرهم بالنظرة إلى ميسرة
7- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا" هو اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل " بعد أن تؤبر" والتأبير التشقيق والتلقيح وهو شق طلع النخلة الأنثى ليذرفها شيء من طلع النخلة الذكر

(3/48)


"فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" متفق عليه دل الحديث على أن الثمرة بعد التأبير للبائع وهذا منطوقه ومفهومه أنها قبله للمشتري وإلى هذا ذهب جمهور العلماء عملا بظاهر الحديث وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده فعمل بالمنطوق ولم يعمل بالمفهوم بناء على أصله من عدم العمل بمفهوم المخالفة ورد عليه بأن ملكا المستترة تخالف الظاهرة في البيع فإن ولد الأمة المنفصل لا يتبعها والحمل يتبعها وفي قوله "إلا أن يشترط المبتاع" دليل على أنه إذا قال المشتري اشتريت الشجرة بثمرتها كانت الثمرة له ودل الحديث على أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فيخص النهي عن بيع وشرط وهذا النص في النخل ويقاس عليه غيره من الأشجار

(3/49)


أبواب السلم والقرض والرهن
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين" منصوبان بنزع الخافض أي إلى السنة والسنتين فقال "من أسلف في تمر" روي بالمثناة والمثلثة فهو بها أعم "فليسلف في كيل معلوم" إذا كان مما يكال "ووزن معلوم" إذا كان مما يوزن "إلى أجل معلوم" متفق عليه وللبخاري "من أسلف في شيء" السلف بفتحتين هو السلم وزنا ومعنى قيل وهو لغة أهل العراق والسلف لغة أهل الحجاز وحقيقته شرعا بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا وهو مشروع إلاعند ابن المسيب واتفقوا على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس إلا أنه أجاز مالك تأجيل الثمن يوما أو يومين ولا بد من أن يقدر بأحد المقدارين كما في الحديث فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فقال المصنف في فتح الباري فلا بد فيه من عدد معلوم رواه ابن بطال وادعى عليه الإجماع وقال المصنف أو ذرع معلوم فإن العدد والذرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع بينهما وهو ارتفاع الجهالة بالمقدار واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه بالكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر فإذا أطلق انقلب إلى الأغلب في الجهة التي وقع فيها عقد السلم واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم في صفة تميزه عن غيره ولم يتعرض له في الحديث لأنهم كانوا يعلمون به وظاهر الحديث أن التأجيل شرط في السلم فإن كان حالا لم يصح أو كان الأجل مجهولا وإلى هذا ذهب ابن عباس وجماعة من السلف وذهب آخرون إلى عدم شرطية ذلك وأنه يجوز السلم في الحال والظاهر أنه لم يقع في عصر النبوة إلا في المؤجل وإلحاق الحال بالمؤجل قياس على ما خالف القياس لأن السلم خالف القياس إذا هو بيع معدوم وعقد غرر واختلفوا أيضا في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة قياسا

(3/49)


على الكيل والوزن والتأجيل وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه وفصلت الحنفية فقالت إن كان لحمله مؤونة فيشترط وإلا فلا وقالت الشافعية إن عقد حيث لا يصلح للتسليم كالطريق فيشترط وإلا فقولان وكل هذه التفاصيل مستندها العرف
2- وعن عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي الخزاعي سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب عليه السلام على خراسان وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه قال كنا نصيب الغنائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام هم من العرب دخلوا في العجم والروم فاختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم سموا بذلك لكثرة معرفتهم بأنباط الماء أي استخراجه فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب وفي رواية والزيت إلى أجل مسمى قيل أكان لهم زرع قالا ما كنا نسألهم عن ذلك رواه البخاري الحديث دليل على صحة السلف في المعدوم حال العقد إذ لو كان من شرطه وجود المسلم فيه لاستفصلوهم وقد قالا ما كنا نسألهم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال وقد ذهب إلى هذا الهادوية والشافعية و مالك واشترطوا إمكان عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل حضور الأجل لما عرفت من ترك الاستفصال كذا في الشرح قلت وهو استدلال بفعل الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقره وأحسن منه في الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم أقر أهل المدينة على السلم سنة وسنتين والرطب ينقطع في ذلك ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه فإن صح ذلك كان مقيدا لتقريره لأهل المدينة على سلم السنة والسنتين وأنه أمرهم بأن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل ويقوى ما ذهب إليه الناصر وأبو حنيفة من أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون موجودا من العقد إلى الحلول
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" رواه البخاري التعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة وأخذها لحفظها والمراد من إرادته التأدية قضاؤها في الدنيا وتأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه وأداؤها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء تعالى وقد أخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم مرفوعا "ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة" وقوله "يريد إتلافها" الظاهر أنه من يأخذ بالاستدانة مثلا لا لحاجة ولا لتجارة بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها وقوله أتلفه الله الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه وهو يشمل ذلك ويشمل إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه قال ابن بطال فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء يكون من جنس العمل وأخذ منه الداودي أن من

(3/50)


عليه دين فليس له أن يتصدق ولا يعتق وفيه بعد وفي الحديث الحث على حسن النية والترهيب عن خلافه وبيان أن مدار الأعمال عليها وأن من استدان ناويا الإيفاء أعانه الله عليه وقد كان عبد الله بن جعفر يرغب في الدين فيسأل عن ذلك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه" رواه ابن ماجه والحاكم وإسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على محمد بن علي ورواه الحاكم من حديث عائشة بلفظ "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون" قالت يعني عائشة فأنا ألتمس ذلك العون فإن قلت قد ثبت حديث "إنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" وحديث "الآن بردت جلدته" قاله لمن أدى دينا عن ميت مات عليه دين قلت يحتمل أن معنى لا يغفر للشهيد الدين أنه باق عليه حتى يوفيه الله عنه يوم القيامة ولا يلزم من بقائه عليه أن يعاقب في قبره ومعنى قوله بردت جلدته خلصته من بقاء الدين عليه ويحتمل أن ذلك فيمن استدان ولم ينو الوفاء
4-وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إن فلانا قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة فبعث إليه فامتنع" أخرجه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن معاملة العباد وعدم إكراههم على الشيء وعدم الإلحاح عليهم وهذا من باب الرهن وهو لغة الإحتباس من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وفي الشرع جعل مال وثيقة على دين ويطلق على العين المرهونة.
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب" بالبناء للمفعول "ومثله يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر" بفتح الدال المهملة وتشديد الراء وهو اللبن تسمية بالمصدر قيل هو من إضافة الشيء إلى نفسه وقيل من إضافة الموصوف إلى صفته "يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" رواه البخاري فاعل يركب ويشرب هو المرتهن بقرينة العوض وهو الركوب وإن كان يحتمل أنه الراهن إلا أنه احتمال بعيد لأن النفقة لازمة له فإن المرهون ملكه وقد جعلت في الحديث على الراكب والشارب المالك إذ النفقة لازمة للمالك على كل حال والحديث دليل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة نفقته وفي المسألة ثلاثة أقوال الأول ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث وخصوا ذلك بالركوب والدر فقالوا ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما عليهما والثاني للجمهور قالوا لا ينتفع المرتهن بشيء قالوا والحديث خالف القياس من وجهين أولهما تجويز الركوب والشرب لغير المالك بغير إذنه وثانيهما تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة قال ابن عبد البر هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ويدل على نسخه حديث ابن عمر "لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه" أخرجه

(3/51)


البخاري في أبواب المظالم قلت أما النسخ فلا بد له من معرفة التاريخ على أنه لا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهونة وأما مخالفة القياس فليست الأحكام الشرعية مطردة على نسق واحد بل الأدلة تفرق بينها في الأحكام والشارع حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة وقد حكم الشارع ببيع الحاكم عن المتمرد بغير إذنه وجعل صاع التمر عوضا عن اللبن وغير ذلك وقال الشافعي المراد أنه لا يمنع الراهن من ظهرها ودرها فجعل الفاعل الراهن وتعقب بأنه ورد بلفظ المرتهن فتعين الفاعل والقول الثالث للأوزاعي والليث أن المراد من الحديث أنه إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ الإنفاق على الحيوان حفظا لحياته وجعل له في مقابل النفقة الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه وقوى هذا القول في الشرح ولا يخفى أنه تقييد للحديث بما لم يقيده به الشرع وإنما قيده بالضابط المتصيد من الأدلة وهو أن كل عين في يده لغيره بإذن الشارع فإنه ينفق عليها بنية الرجوع على المالك وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف إلا أنه إذا كان في البلد حاكم ولم يستأذنه فلا رجوع بما أنفق ويلزمه غرامة المنفعة واللبن فإن لم يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر الحيوان بمدة الرجوع فله أن ينفق ويرجع بما أنفق إلا أنه قد يقال إنها قاعدة عامة فتخص بحديث الكتاب
6- وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق" بفتح حرف المضارعة وغين معجمة ساكنة ولام مفتوحة وقاف يقال غلق الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم "الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه" زيادته "وعليه غرمه" هلاكه ونفقته رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله قال الحافظ ابن عبد البر اختلف في قوله له غنمه وعليه غرمه فقيل هي مدرجة من قول سعيد بن المسيب قال ورفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب ووقفها غيرهم وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذه اللفظة من قول ابن المسيب وكذا أبو داود في المراسيل قوى أنه من قوله ومعنى يغلق لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه والحديث ورد لإبطال ما كان عليه في الجاهلية عن غلق الرهن عند المرتهن وبيان أن زيادته للراهن ونفقته عليه كما سلف فيما قبله
وهو من أحاديث باب القرض والأحاديث في فضله والحث عليه كثيرة.
7- وعن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا" بفتح الموحدة وسكون الكاف من الإبل "فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره قال لا أجد إلا خيارا رباعيا" هو بفتح الراء الذي يدخل في السنة السابعة وتبقى رباعيته فقال "أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء" رواه مسلم

(3/52)


تقدم الكلام على الخلاف في قرض الحيوان والحديث دليل على جوازه وأنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفا وشرعا ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعا لأنه لم يكن مشروطا من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض وظاهره العموم للزيادة عددا أو صفة وقال مالك الزيادة في العدد لا تحل
8- وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمداني المؤذن الأعمى وهو متروك وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد عند البيهقي أخرجه البيهقي في المعرفة بلفظ كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري لم أجده في البخاري في باب الاستقراض ولا نسبه المصنف في التلخيص إلى البخاري بل قال إنه رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم انتهى فلو كان في البخاري لما أهمل نسبته إليه في التلخيص والحديث بعد صحته لا بد من التوفيق بينه وبن ما تقدم وذلك بأن هذا محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرض أو في حكم المشروطة وأما لو كانت تبرعا من المقترض فقد تقدم أنه يستحب له أن يعطي خيرا مما أخذه

(3/53)


باب التفليس والحجر
هو لغة مصدر فلسته نسبته إلى الإفلاس الذي هو مصدر أفلس أي صار إلى حالة لا يملك فيها فلسا والحجر لغة مصدر حجر أي منع وضيق وشرعا قول الحاكم للمديون حجرت عليك التصرف في مالك
1- عن أبي بكر بن عبد الرحمن أي ابن الحارث بن هشام المخزومي قاضي المدينة تابعي سمع عائشة وأبا هريرة روى عنه الشعبي والزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه" لم يتغير بصفة لا بزيادة ولا نقصان "عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" متفق عليه ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلا وقد وصله أبو داود من طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش لأنها من روايته عن الشاميين وروايته عنهم صحيحة بلفظ أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء ووصله البيهقي وضعفه تبعا لأبي داود راجعنا سنن أبي داود فلم نجد فيها تضعيفا للرواية هذه بل قال في هذه الرواية بعد إخراجه لها من طريق مالك وحديث مالك

(3/53)


أصح يريد أنه أصح من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن التي ساقها أبو داود وفيها قال أبو بكر قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن من توفي وعنده سلعة رجل بعينها لم يقض من ثمنها شيئا فصاحب السلعة أسوة الغرماء فيها" ولم يتكلم الشارح رحمه الله على هذا بشيء ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة بفتح الخاء المعجمة واللام ودال مهملة قال "أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به" وصححه الحاكم وضعفه أبو داود وضعف أيضا هذه الزيادة في ذكر الموت سكت عليه الشارح وقد راجعت سنن أبي داود فلم أجد فيها تضعيفا لرواية عمر بن خلدة بل قال البيهقي بعد رواية حديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسلة التي ساق لفظها المصنف هنا بلفظ أيما رجل إلى آخره أنه قال الشافعي رواية عمر بن خلدة أولى من رواية أبي بكر هذه قال لأنها موصولة جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين الموت والإفلاس قال وحديث ابن شهاب يريد به رواية أبي بكر بن عبد الرحمن المذكورة منقطع وساق في ذلك كلاما كثيرا يرجح به رواية عمر بن خلدة فلينظر هذا الحديث اشتمل على مسائل الأولى أنه إذا وجد البائع متاعه عند من شراه منه وقد أفلس فإنه أحق بمتاعه من سائر الغرماء فيأخذه إذا كان له غرماء وعموم قوله من أدرك ماله يعم من كان له مال عند الآخر بقرض أو بيع وإن كان قد وردت أحاديث مصرحة بلفظ البيع فقد أخرج ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما الحديث بلفظ "إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء" فقد عرف في الأصول أن الخاص الموافق للعام لا يخصص العام إلا عند أبي ثور وقد زيفوا ما ذهب إليه من ذلك ولذلك ذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى بماله في القرض كما أنه أولى به في البيع وذهب غيره إلى أنه يختص ذلك بالبيع للتصريح به في أحاديث الباب لكن قد عرفت أن ذلك لا يخص عموم حديث الباب المسألة الثانية أفاد قوله بعينه أنه إذا وجده وقد تغير بصفة من الصفات أو بزيادة أو نقصان فإنه ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت الهادوية و الشافعي إلى أنه إذا تغيرت صفته بعيب فللبائع أخذه ولا أرش له وإن تغير بزيادة كان للمشتري غرامة تلك الزيادة وهي ما انفق عليه حتى حصلت وكذلك الفوائد للمشتري ولو كانت متصلة لأنها إنما حدثت في ملكه ويلزم له قيمة ما لا حد لبقائه كالشجرة إذا غرسها وإبقاء ماله حد بلا أجرة كالزرع وكذلك إذا نقصت العين فله أخذ الباقي بحصته من الثمن يتناوله لأن الباقي مبيع باق بعينه. المسألة الثالثة دل لفظ أبي بكر بن عبد الرحمن المرسل أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع بل يكون أسوة الغرماء وبهذا أخذ جمهور العلماء وعند الهادوية وهو راجح قولي الشافعي أنه لا يصير المبيع بقبض بعض ثمنه أسوة الغرماء بل البائع أولى به وكأن الشافعي ذهب إلى هذا لأنه لم يصح الحديث عنده بل قال إنه منقطع فمن قال بصحة الحديث وأنه موصول قال بما قاله

(3/54)


الجمهور ومن لا فلا وفي وصله وعدمه خلاف منهم من رجح إرساله وهم أكثر الحفاظ المسألة الرابعة قوله فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء فيه حذف تقديره فمتاع صاحب المتاع أسوة الغرماء وهذا دال على التفرقة بين الموت والإفلاس وإلى التفرقة بينهما ذهب مالك وأحمد عملا بهذه الرواية قالوا لأن الميت برئت ذمته وليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس وسواء خلف الميت وفاء أو لا وذهب الهادوية إلى أنه إذا خلف وفاء فليس البائع أولى بمتاعه بل يسلم الورثة الثمن من التركة وحجتهم أنه قد ورد في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن زيادة لفظ إلا إن ترك صاحبها وفاء لكن قال الشافعي يحتمل أن الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن وقرينة الاحتمال أن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة وذهب الشافعي إلى أنه لا فرق بين الموت والإفلاس وأن صاحب المتاع أولى بمتاعه عملا بعموم "من أدرك ماله عند رجل" الحديث متفق عليه قال ولا فرق بين الموت والإفلاس والتفرقة بينهما برواية أبي بكر بن عبد الرحمن وقوله فيها فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء غير صحيحة لأن الحديث مرسل لم يصح وصله فلا يعمل به بل في رواية عمر بن خلدة التسوية بين الموت والإفلاس وهو حديث حسن يحتج بمثله
2- وعن عمرو بن الشريد رضي الله عنه بفتح الشين المعجمة وكسر الراء تابعي سمع ابن عباس وغيره عن أبيه قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي" : بفتح اللام ثم مثناة تحتية مشددة مصدر لوى يلوي أي مطل أضيف إلى فاعله "وهو الواجد" بالجيم يعني من الوجد بالضم أي القدرة "يحل" بضم حرف المضارعة "عرضه وعقوبته " رواه أبو داود والنسائي وعلقه البخاري وصححه ابن حبان وأخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وفسر البخاري حل العرض بما علقه عن سفيان قال يقول مطلني وعقوبته حبسه وهو دليل لزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه وأجاز الجمهور الحجر وبيع الحاكم عنه ماله وهذا أيضا داخل تحت لفظ عقوبته لا سيما وتفسيرها بالحبس ليس بمرفوع ودل الحديث على تحريم مطل الواجد ولذا أبيحت عقوبته وإنما اختلف العلماء هل يبلغ إلى حد الكبيرة فيفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لا فذهبت الهادوية إلى أنه يفسق بذلك واختلفوا في قدر ما يفسق به فقال الجمهور منهم إنه يفسق بمطل عشرة دراهم فما فوق قياسا على نصاب السرقة وفي كلام الهادي عليه السلام ما يقضي بأنه يفسق بدون ذلك وكذلك ذهبت إلى هذا المالكية والشافعية إلا أنهم ترددوا في اشتراط التكرار فأتى مذهب الشافعي اشتراطه ثم يدل بمفهومه على أن الواجد وهو المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته والحكم كذلك عند الجماهير وهو الذي دل على قوله تعالى :{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
3- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(3/55)


"تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم تقدم الكلام في الجمع بين هذا الحديث وحديث جابر قوله فلا يحل لك أن تأخذ بأن هذا على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث ويدل أيضا قوله "وليس لكم إلا ذلك" على أن الثمرة غير مضمونة إذ لو كانت مضمونة لقال وما بقي فنظرة إلى ميسرة أو نحوه إذ الدين لا يسقط بإعسار المدين وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال ومتى أيسر وجب عليه القضاء
4- وعن ابن كعب بن مالك اسمه عبد الرحمن سماه عبد الرزاق عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه" رواه الدارقطني وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود مرسلا ورجح إرساله قال عبد الحق المرسل أصح من المتصل وقال ابن الصلاح في الأحكام هو حديث ثابت كان ذلك في سنة تسع وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم فقالوا يا رسول الله بعه لنا فقال: "ليس لكم إليه سبيل" وأخرجه البيهقي من طريق الواقدي وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه والقول بأنه حكاية فعل غير صحيح فإن هذا فعل لا يتم إلا بأقوال تصدر عنه صلى الله عليه وسلم يحجر بها تصرفه وألفاظ يبيع بها ماله وألفاظ يقضي بها غرماءه وما كان بهذه المثابة لا يقال إنه حكاية فعل إنما حكاية الفعل مثل حديث خلع نعله فخلعوا نعالهم كما لا يخفى ظاهر الحديث أن ماله كان مستغرقا بالدين فهل يلحق به من لم يستغرق ماله في الحجر والبيع عنه كالواجد إذا مطل اختلف العلماء في ذلك فقال جمهور الهادوية و الشافعي إنه يلحق به فيحجر عليه ويباع ماله لأنه قد حصل المقتضي لذلك وهو عدم المسارعة بقضاء الدين وقال زيد بن علي والحنفية إنه لا يلحق به فلا يحجر عليه ولا يباع عنه بل يجب حبسه حتى يقضي دينه لحديث إنه "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" ولقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ومقتضى الحجر والبيع إخراج المال من غير طيبة من نفسه ولا رضاه والجواب عنه بأن الحديث والآية عامان خصصا بحديث معاذ لا يتم لأن حديث معاذ ليس إلا في المستغرق ماله بدينه والكلام في غيره وهو الواجد الماطل فالأولى أن يقال أنهما خصصا بقياس الماطل الواجد على من استغرق دينه ماله إلا أنه لا يخفى عدم نهوض القياس نعم في حديث "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" دليل على أنه يحجر عليه ويباع عنه ماله فإنه داخل تحت مفهوم العقوبة وتفسيرها بالحبس فقط مجرد رأي من قائله هذا وقد حكم عمر في أسيفع جهينة كحكمه صلى الله عليه وسلم في معاذ فأخرج مالك في الموطأ بسند منقطع ورواه الدارقطني في غرائب مالك بإسناد متصل أن رجلا من جهينة كان يشتري الرواحل فيغالي فيها فيسرع المسير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال أما بعد أيها الناس فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته

(3/56)


أن يقال سبق الحاج وفيه إلا أنه ادان معرضا فأصبح وقد دين به أي أحاط به الدين فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب انتهى وأما قصة جابر مع غرماء أبيه وهي أنه لما قتل أبوه في أحد وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال سنغدوا عليك فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجذذتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها" فإن فيها دليلا على أن انتظار الغلة والتمكن منها لا يعد مطلا قيل ويؤخذ منها أن من كان له دخل ينظر إلى دخله وإن طالت مدته إذ لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة في حق الآدمي ومن لا دخل له لا ينظر ويبيع الحاكم ماله لأهل الدين نعم وأما الحجر على البالغ لسفه وسوء تصرف فقال به الشافعي ولم يقل به زيد بن علي ولا أبو حنيفة وبوب له البيهقي في السنن الكبرى باب الحجر على البالغين بالسفه وذكر فيه بسنده أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضا بستمائة ألف درهم فهم علي وعثمان أن يحجرا عليه قال فلقيت الزبير فقال ما اشترى أحد بيعا أرخص مما اشتريت قال فذكر له عبد الله الحجر قال لو أن عندي مالا لشاركتك قال فأنا أقرضك نصف المال قال فأنا شريكك فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان قال ما تراوضان فذكر له الحجر على عبد الله بن جعفر قال أتحجران على رجل أنا شريكه قالا لا لعمري قال فأنا شريكه وفي رواية قال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير قال الشافعي فعلي لا يطلب الحجر إلا وهو يراه والزبير لو كان الحجر باطلا لقال لا يحجر على بالغ وكذلك عثمان بل كلهم يعرف الحجر ثم ساق حديث عائشة وإرادة عبد الله بن الزبير الحجر عليها وغير ذلك من الأدلة من أفعال السلف ويستدل له بالحديث الصحيح وهو النهي عن إضاعة المال فإن السفيه يضيعه بسوء تصرفه فيجب الإنكار عليه بحجره عنه قال النووي والصغير لا ينقطع عنه حكم اليتم بمجرد علو السن ولا بمجرد البلوغ بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يجب تسليم ماله إليه وإن كان غير ضابط
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" متفق عليه وفي رواية للبيهقي فلم يجزني ولم يرني بلغت وصححها ابن خزيمة وجه ذكر الحديث هنا أن من لم يبلغ خمس عشرة سنة لا تنفذ تصرفاته من بيع وغيره ومعنى قوله لم يجزني لم يجعل لي حكم الرجال المتقاتلين في إيجاب الجهاد علي وخروجي معه وقوله فأجازني أي رآني فيمن يجب عليه الجهاد ويؤذن له في الخروج إليه وفيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة صار مكلفا بالغا له أحكام الرجال ومن

(3/57)


كان دونها فلا ويدل له قوله ولم يرني بلغت وناقش في الاستدلال به على البلوغ بعض المتأخرين قائلا إن الإذن في الخروج للحرب يدور على الجلادة والأهلية فليس له في رده دليل على أنه لأجل عدم البلوغ وفهم ابن عمر ليس بحجة قلت وهو احتمال بعيد والصحابي أعرف بما رواه وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع والقول بأنها سنة خمس يرده هذا الحديث ولأنهم أجمعوا أن أحدا كانت سنة ثلاث
6- وعن عطية القرظي رضي الله عنه بضم القاف فراء نسبة إلى بني قريظة قال "عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي" رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم وقال على شرط الشيخين وهو كما قال إلا أنهما لم يخرجا لعطية والحديث دليل على أنه يحصل بالإنبات البلوغ فتجري على من أنبت أحكام المكلفين ولعله إجماع
7- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" وفي لفظ "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وصححه الحاكم قال الخطابي حمله الأكثر على حسن العشرة واستطابة النفس أو يحمل على غير الرشيدة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاه بردائه وهذه عطية بغير إذن الزوج انتهى وهذا مذهب الجمهور مستدلين بمفهومات الكتاب والسنة ولم يذهب إلى معنى الحديث إلا طاوس فقال إن المرأة محجورة عن مالها إذا كانت مزوجة إلا فيما أذن لها فيه الزوج وذهب مالك إلى أن تصرفها من الثلث
8- وعن قبيصة بفتح القاف فموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة ابن مخارق بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة" بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم " فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة" رواه مسلم قد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات ولعل إعادته هنا أن الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين فلا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه وهذا يستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن ذلك المال

(3/58)


باب الصلح
قد قسم العلماء الصلح أقساما صلح المسلم مع الكافر والصلح بين الزوجين والصلح بين الفئة الباغية والعادلة والصلح بين المتقاضيين والصلح في الجراح كالعفو على مال

(3/58)


والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الأملاك والحقوق وهذا القسم هو المراد هنا وهو الذي يذكره الفقهاء في باب الصلح
1- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون" وفي لفظ أبي داود "والمؤمنون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما" رواه الترمذي وصححه وأنكروا عليه لأنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف كذبه الشافعي وتركه أحمد وفي الميزان عن ابن حبان له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال الشافعي وأبو داود هو ركن من أركان الكذب واعتذر المصنف عن الترمذي بقوله وكأنه اعتبره بكثرة الإشارة وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة فيه مسألتان الأولى في أحكام الصلح وهو أن وضعه مشروط فيه المراضاة لقوله جائز أي أنه ليس بحكم لازم يقضى به وإن لم يرض به الخصم وهو جائز أيضا بين غير المسلمين من الكفار فتعتبر أحكام الصلح بينهم وإنما خص المسلمون بالذكر لأنهم المعتبرون في الخطاب المنقادون لأحكام السنة والكتاب وظاهره عموم صحة الصلح سواء كان قبل اتضاح الحق للخصم أو بعده ويدل للأول قصة الزبير والأنصاري فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أبان للزبير ما استحقه وأمره أن يأخذ بعض ما يستحقه على جهة الإصلاح فلما لم يقبل الأنصاري الصلح وطلب الحق أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير قدر ما يستحقه كذا قال الشارح والثابت أن هذا ليس من الصلح مع الإنكار بل من الصلح مع سكوت المدعى عليه وهي مسألة مستقلة وذلك لأن الزبير لم يكن عالما الفراش الذي له حتى يدعه بالصلح بل هذا أول التشريع في قدر السقيا والتحقيق أنه لا يكون الصلح إلا هكذا وأما بعد إبانة الحق للخصم فإنما يطلب من صاحب الحق أن يترك لخصمه بعض ما يستحق وإلى جواز الصلح على الإنكار ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة عدا في ذلك الهادوية والشافعي وقالوا لا يصح الصلح مع الإنكار ومعنى عدم صحته أنه لا يطيب مال الخصم مع إنكار المصالح وذلك حيث يدعي عليه آخر عينا أو دينا فيصالح ببعض العين أو الدين مع إنكار خصمه فإن الباقي لا يطيب له بل يجب عليه تسليمه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى {عَنْ تَرَاضٍ} وأجيب بأنها قد وقعت طيبة النفس بالرضا بالصلح وعقد الصلح قد صار في حكم عقد المعاوضة فيحل له ما بقي قلت الأولى أن يقال إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه وإن كان خصمه منكراً وإن كان يدعي باطلا فإنه يحرم عليه الدعوى وأخذ ما صولح به والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض عليه تسليم ما صولح به عليه وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته وحرم على المدعي أخذه وبهذا تجتمع الأدلة فلا يقال الصلح على الإنكار لا يصح ولا أنه يصح على الإطلاق بل يفصل فيه المسألة الثانية

(3/59)


ما أفادها قوله والمسلمون على شروطهم أي ثابتون عليه واقفون عندها وفي تعديته بعلى ووصفهم بالإسلام أو الإيمان دلالة على علو مرتبتهم وأنهم لا يخلون بشروطهم وفيه دلالة على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلا ما استثناه في الحديث وللمفرعين تفاصيل في الشروط وتقاسيم منها ما يصح ويلزم حكمه ومنها ما لا يصح ولا يلزم ومنها ما يصح ويلزم منه فساد العقد وهي هنالك مبسوطة بعلل ومناسبات وللبخاري في كتاب الشروط تفاصيل كثيرة معروفة وقوله "إلا شرطا حرم حلالا" ذلك كاشتراط البائع أن لا يطأ الأمة "أو أحل حراما" مثل أن يشترط وطء الأمة التي حرم الله عليها وطأها
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع" يروى بالرفع على الخبر والجزم على النهي "جار جاره أن يغرز خشبة" بالإفراد وفي لفظ "خشبه" بالجمع في جداره "ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم" بالتاء جمع كتف متفق عليه وفي لفظ لأبي داود فنكسوا رؤوسهم ولأحمد حين حدثهم بذلك فطأطأوا رؤوسهم والمراد المخاطبون وهذا قاله أبو هريرة أيام إمارته على المدينة في زمن مروان فإنه كان يستخلفه فيها فالمخاطبون ممن يجوز أنهم جاهلون بذلك وليسوا بصحابة وقد روى أحمد وعبد الرزاق من حديث ابن عباس "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبة جاره" والحديث فيه دليل على أنه ليس للجار أن يمنع جاره من وضع خشبة على جداره وأنه إذا امتنع عن ذلك أجبر لأنه حق ثابت لجاره وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما عملا بالحديث وذهب إليه الشافعي في القديم وقضى به عمر في أيام وفور الصحابة وقال الشافعي إن عمر لم يخالفه أحد من الصحابة وهو فيما رواه مالك بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فكلمه عمر في ذلك فأبى فقال والله ليمرن به ولو على بطنك وهذا نظير قصة حديث أبي هريرة وعممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من جاره وأرضه وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز أن يضع خشبة إلا بإذن جاره فإن لم يأذن لم يجز قالوا لأن أدلة أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه تمنع هذا الحكم فهو للتنزيه وأجيب عنه بما قاله البيهقي لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها وقد حمله الراوي على ظاهره من التحريم وهو أعلم بالمراد بدليل قوله ما لي أراكم عنها معرضين فإنه استنكار لإعراضهم دال على أن ذلك للتحريم قال الخطابي معنى قوله بين أكتافكم إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين قال وأراد بذلك المبالغة قلت والذي يتبادر أن المراد لأرمين بها أي هذه السنة المأمور بها بينكم بلاغا لما تحملته منها وخروجا عن كتمها وإقامة الحجة عليكم بها
3- وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(3/60)


"لا يحل لامرىء أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه" رواه والحاكم ابن حبان في صحيحيهما وفي الباب أحاديث كثيرة في معناه أخرج الشيخان من حديث عمر "لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه" وأخرج أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده بلفظ "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا" والأحاديث دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه وإن قل والإجماع واقع على ذلك وإيراد المصنف لحديث أبي حميد عقيب حديث أبي هريرة إشارة إلى تأويل حديث أبي هريرة وأنه محمول على التنزيه كما هو قول الشافعي في الجديد ويرد عليه أنه إنما يحتاج إلى التأويل إذا تعذر الجمع وهو هنا ممكن بالتخصيص فإن حديث أبي هريرة خاص وتلك الأدلة عامة كما عرفت وقد أخرج من عمومها أشياء كثيرة كأخذ الزكاة كرها وكالشفعة وإطعام المضطر ونفقة القريب المعسر والزوجة وكثير من الحقوق المالية التي لا يخرجها المالك برضاه فإنها تأخذ منه كرها وغرز الخشبة منها على أنه مجرد انتفاع والعين باقية

(3/61)


باب الحوالة والضمان
الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر حقيقتها عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة واختلفوا هل هي بيع دين بدين رخص فيه وأخرج من النهي عن بيع الدين بالدين أو هي استيفاء وقيل هي عقد إرفاق مستقل ويشترط فيها لفظها ورضا المحيل بلا خلاف والمحال عند الأكثر والمحال عليه عند البعض وتماثل الصفات وأن تكون في الشيء المعلوم ومنهم من خصها بما دون الطعام لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني " إضافة للمصدر إلى الفاعل أي مطل الغني غريمه وقيل إلى المفعول أي مطل الغريم للغني "ظلم" وبالأولى مطله الفقير "وإذا أتبع" بضم الهمزة وسكون المثناة الفوقية وكسر والموحدة "أحدكم على مليء" مأخوذ من الملاء بالهمزة يقال ملؤ الرجل أي صار مليئا "فليتبع" بإسكان المثناة الفوقية أيضا مبني للمجهول كالأول أي إذا أحيل فليحتل متفق عليه دل الحديث على تحريم المطل من الغني والمطل هو المدافعة والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء والمعنى على تقدير أنه من إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه بخلاف العاجز ومعناه على التقدير الثاني أنه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه غنيا فلا يكون غناه سببا لتأخير حقه وإذا كان ذلك في حق الغني ففي حق الفقير أولى ودل الأمر على وجوب قبول الإحالة وحمله الجمهور على الاستحباب ولا أدري ما الحامل على صرفه عن ظاهره وعلى الوجوب حمله أهل الظاهر وتقدم البحث في أن المطل كبيرة يفسق صاحبه فلا نكرره وإنما اختلفوا هل يفسق قبل الطلب أو لا بد منه

(3/61)


والذي يشعر به الحديث أنه لا بد من الطلب لأن المطل لا يكون إلا معه ويشمل المطل كل من لزمه حق كالزوج لزوجته والسيد في نفقة عبده ودل الحديث بمفهوم المخالفة أن مطل العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم ومن لا يقول بالمفهوم يقول لا يسمى العاجز ماطلا والغني الغائب عنه ماله كالمعدوم ويؤخذ من هذا أن المعسر لا يطالب حتى يوسر قال الشافعي لو جازت مؤاخذته لكان ظالما والفرض أنه ليس بظالم لعجزه ويؤخذ منه أنه إذا تعذر على المحال عليه التسليم لفقر لم يكن للمحتال الرجوع إلى المحيل لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط فلهذا فائدة فلما شرطه الشارع علم أنه انتقل انتقالا لا رجوع له كما لو عوض في دينه بعوض ثم تلف العوض في يد صاحب الدين وقالت الحنفية يرجع عند التعذر وشبهوا الحوالة بالضمان وأما إذا جهل الإفلاس حال الحوال فله الرجوع
2- وعن جابر رضي الله عنه قال توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا تصلي عليه فخطا خطا ثم قال "أ عليه دين قلنا ديناران فانصرف" أي عن الصلاة عليه فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حق الغريم" منصوب على المصدر مؤكد لمضمون قوله الديناران علي أي حق عليك الحق وثبت عليك وكنت غريما وبرىء منهما الميت قال نعم فصلى عليه رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع إلا أن في حديثه ثلاثة دنانير وكذلك أخرجه أبو داود والطبراني وجمع بينه وبين قوله ديناران أن في حديث الكتاب أنهما كانا ديناران وشطرا فمن قال ثلاثة جبر الكسر ومن قال ديناران ألغاه أو كان الأصل ثلاثة فقضى قبل موته دينارا فمن قال ثلاثة اعتبر أصل الدين ومن قال ديناران اعتبر الباقي ويحتمل أنهما قصتان وإن كان بعيدا وفي رواية الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول ما صنعت الديناران حتى كان آخر ذلك أن قال قضيتهما يا رسول الله قال الآن بردت جلدته وروى الدارقطني من حديث علي عليه السلام "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه فإن قيل عليه دين كف وإن قيل ليس عليه دين صلى فأتى بجنازة فلما قام ليكبر سأل هل عليه دين فقالوا ديناران فعدل عنه فقال علي هما علي يا رسول الله وهو بريء منهما فصلى عليه ثم قال جزاك الله خيرا وفك الله رهانك" الحديث قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى صحة هذه الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت وفي الحديث دليل على أنه يصح أن يحتمل الواجب غير من وجب عليه وأنه ينفعه ذلك ويدل على شدة أمر الدين فإنه صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة وشفاعته مقبولة لاترد والدين لا يسقط إلا بالتأدية وفي الحديث دليل على أنه لا يكتفى بالظاهر من اللفظ بل لا بد للحاكم في الإلزام الفراش من تحقق ألفاظ العقود والإقرارات وأنه إذا ادعى من عليه الحكومة أنه قصد باللفظ

(3/62)


معنى يحتمله وإن بعد الاحتمال لا يحكم عليه بظاهر اللفظ وعطف وبرىء منهما الميت على ذلك مما يؤيد ذلك المعنى المستنبط
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه من قضاء فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه" متفق عليه وفي رواية للبخاري فمن مات ولم يترك وفاء إيراد المصنف له عقيب الذي قبله إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك الحكم لما فتح عليه صلى الله عليه وسلم واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات فظاهر قوله "فعلي قضاؤه" أنه يجب عليه القضاء وهل هو من خالص ماله أو من مال المصالح محتمل قال ابن بطال وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين فإن لم يفعل فالإثم عليه وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث قيل يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك قال وعلى كل إمام بعدي وقد وقع معناه في الطبراني الكبير من حديث زاذان عن سلمان قال "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفدي سبايا المسلمين ونعطي سائلهم ثم قال من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي في بيت مال المسلمين" وفيه راو متروك ومتهم
4- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا كفالة في حد" رواه البيهقي بإسناد ضعيف وقال إنه منكر وهو دليل على أنه لا تصح الكفالة في الحد قال ابن حزم لا تجوز الضمانة بالوجه أصلا لا في مال ولا حد ولا في شيء من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ومن طريق النظر أن نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن بوجه أتلزمونه غرامة ما على المضمون فهذا جور وأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط أم تتركونه فقد أبطلتم الضمان بالوجه أم تكلفونه طلبه فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله إياه قط وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم كفل في تهمة قال وهو خبر باطل لأنه من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما ثم ذكر آثارا عن عمر بن عبد العزيز وردها كلها بأنه لا حجة فيها إذ الحجة في كلام الله ورسوله لا غيره وهذه الآثار قد سردها في الشرح

(3/63)


باب الشركة والوكالة
الشركة بفتح أوله وكسر الراء وبكسره مع سكونها وهي بضم الشين اسم للشيء المشترك والشركة الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا وإن أريد الشركة بين

(3/63)


الورثة في المال الموروث حذفت بالاختيار والوكالة بفتح الواو وقد تكسر مصدر وكل مشددا بمعنى التفويض والحفظ وتخفف فتكون بمعنى التفويض وهي شرعا إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا ومقيدا
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانا خرجت من بينهما" رواه أبو داود وصححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان وقد رواه عنه ولده أبو حيان بن سعيد لكن ذكره ابن حبان في الثقات وذكر أنه روى عنه الحارث بن شريد إلا أنه أعله الدارقطني بالإرسال فلم فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب ومعناه أن الله الوقوف أي في الحفظ والرعاية والإمداد بمعونتهما في مالهما وإنزال البركة في تجارتهما فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما وفيه حث على التشارك مع عدم الخيانة وتحذير منه معها
2- وعن السائب بن يزيد المخزومي رضي الله عنه أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال مرحبا بأخي وشريكي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال ابن عبد البر السائب بن أبي السائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه وكان من المعمرين عاش إلى زمن معاوية وكان شريك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح قال مرحبا بأخي وشريكي كان لا يماري ولا يداري وصححه الحاكم ولابن ماجه كنت شريكي في الجاهلية والحديث دليل على أن الشركة كانت ثابتة قبل الإسلام ثم قررها الشرع على ما كانت
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر الحديث تمامه فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء رواه النسائي فيه دليل على صحة الشركة في المكاسب وتسمى شركة الأبدان وحقيقتها أن يوكل كل صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة وقد ذهب إلى صحتها الهادوية و أبو حنيفة وذهب الشافعي إلى عدم صحتها لبنائها على الغرر إذ لا يقطعان بحصول الربح لتجويز تعذر العمل وبقوله قال أبو ثور وابن حزم وقال ابن حزم لا تجوز الشركة بالأبدان في شيء من الأشياء أصلا فإن وقعت فهي باطلة لا أفطر ولكل واحد منهما ما كسب فإن اقتسماه وجب أن يقضي له ما أخذه وإلا بدله لأنها شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وأما حديث ابن مسعود فهو من رواية ولده أبي عبيدة بن عبد الله وهو خبر منقطع لأن أبا عبيدة لم يذكر عن أبيه شيئا فقد رويناه من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة أتذكر عن عبد الله شيئا قال لا ولو صح لكان حجة على من قال بصحة هذه الشركة لأنه أول ومع سائر المسلمين إن هذه الشركة لا تجوز وإنه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر إلا السلب للقاتل على الخلاف فإن فعل فهو غلول من كبائر الذنوب ولأن هذه الشركة لو صح

(3/64)


حديثها فقد أبطلها الله عز وجل وأنزل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية فأبطلها الله تعالى وقسمها هو بين المجاهدين ثم إن الحنفية لا يجيزون الشركة في الاصطياد ولايجيزها المالكية في العمل في مكانين فهذه الشركة في الحديث لا تجوز عندهم اه هذا وقد قسم الفقهاء الشركة إلى أربعة أقسام أطالوا فيها وفي فروعها في كتب الفروع فلا نطيل بها قال ابن بطال أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلط ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعا إلا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه وهذه تسمى شركة العنان وتصح إن أخرج أحدهما أقل من الآخر من المال ويكون الربح والخسران على قدر مال كل واحد منهما وكذلك إذا اشتريا سلعة بينهما على السواء أو ابتاع أحدهما أكثر من الآخر منهما فالحكم في ذلك أن يأخذ كل من الربح والخسران بمقدار ما أعطى من الثمن وبرهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما فما ابتاعا بها فمشاع بينهما وإذا كان كذلك فثمنه وربحه وخسرانه مشاع بينهما ومثله السلعة التي اشترياها فإنها بدل من الثمن
4- وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا" رواه أبو داود وصححه تمام الحديث "فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته" وفي الحديث دليل على شرعية الوكالة والإجماع على ذلك وتعلق الأحكام بالوكيل وتمام الحديث فيه دليل على العمل بالقرينة في مال الغير وأنه يصدق بها الرسول لقبض العين وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض جماعة من العلماء وقيده المهدي في الغيث مع غلبة ظن صدقه وعند الهادوية أنه لا يجوز تصديق الرسول لأنه مال الغير فلا يصح التصديق فيه وقيل عنهم إلا أن يحصل الظن بصدق الرسول جاز الدفع إليه وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم
5- وعن عروة البارقي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية" الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم أي في كتاب البيع وتقدم الكلام على ما فيه من الأحكام
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة" الحديث متفق عليه تمامه فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي علي ومثلها معها" والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمر لقبض الزكاة وابن جميل من الأنصار كان منافقا ثم تاب بعد ذلك قال المصنف وابن جميل لم أقف على اسمه وقوله ما ينقم بكسر القاف ما ينكر إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكره فلا عذر له وفيه التعريض بكفران النعمة والتقريع بسوء الصنيع وقوله أعتاده جمع عتد بفتحتين

(3/65)


وهو ما يعده الرجل من السلاح والدواب وقيل الخيل خاصة وحمل البخاري معناه على أنه جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله وهو بناء على أنه يجوز إخراج القيمة عن الزكاة وقوله فهي علي ومثلها معها يفيد أنه صلى الله عليه وسلم تحملها عن العباس تبرعا وفيه صحة تبرع الغير بالزكاة ونظيره حديث أبي قتادة في تبرعه بتحمل الدين عن الميت وهذا أقرب الاحتمالات وقد روي بألفاظ أخر تحتمل احتمالات كثيرة وقد بسطها المصنف في الفتح وتبعه الشارح وأما حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان تعجل منه زكاة عامين فقد روي من طريق لم يسلم شيء منها من مقال وفي الحديث دليل على توكيل الإمام للعامل في قبض الزكاة ولأجل هذا ذكره المصنف هنا وفيه أن بعث العمال لقبض الزكاة سنة نبوية وفيه أنه يذكر الغافل بما أنعم الله عليه بإغنائه بعد أن كان فقيرا ليقوم بحق الله وفيه جواز ذكر من منع الواجب في غيبته بما ينقصه وفيه تحمل الإمام عن بعض المسلمين والاعتذار عن البعض وحسن التأويل
7- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين وأمر عليا أن يذبح الباقي الحديث رواه مسلم تقدم الكلام عليه في كتاب الحج وفيه دلالة على صحة التوكيل في نحر الهدي وهو إجماع إذا كان الذابح مسلما فإن كان كافرا كتابيا صح عند الشافعي بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف بعين وسين مهملتين فمثناة تحتية ففاء الأجير وزنا ومعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم "اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" الحديث متفق عليه سيأتي في الحدود مستوفى وذكر هنا بناء على أن المأمور وكيل عن الإمام في إقامة الحد وبوب البخاري باب الوكالة في الحدود وأورد هذا الحديث وغيره وقال المصنف في الفتح والإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله للغير

(3/66)


باب الإقرار
الإقرار لغة الإثبات في الشرع إخبار الإنسان بما عليه وهو ضد الجحود
1- عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل الحق ولو كان مرا" صححه ابن حبان من حديث طويل ساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب وفيه وصايا نبوية ولفظه قال "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني وأن أقول الحق ولو كان مرا وأن لا أخاف في الله لومة لائم وأن لا أسأل أحدا شيئا وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنوز الجنة" وقوله قل الحق يشمل قوله على نفسه وعلى غيره وهو مأخوذ من

(3/66)


قوله تعالى- كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين - ومن قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وباعتبار شموله ذكره المصنف هنا تبعا للرافعي فإنه ذكره في باب الإقرار وفيه دلالة على اعتبار إقرار الإنسان على نفسه في جميع الأمور وهو أمر عام لجميع الأحكام لأن قول الحق على النفس و الإخبار بما عليها مما يلزمها التخلص منه بمال أو بدن أو عرض وقوله ولو كان مرا من باب التشبيه لأن الحق قد يصعب إجراؤه على النفس كما يصعب عليها إساغة المر لمرارته ويأتي في باب الحدود والقصاص أحاديث في الإقرار

(3/67)


باب العارية
العارية بتشديد المثناة التحتية وتخفيفها ويقال عارة وهي مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب لأن العارية تذهب من يد المعير أو من العار لأنه لا يستعير أحد إلا وبه عار وحاجة وهي في الشرع عبارة عن إباحة المنافع من دون ملك العين
1- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم بناء منه على سماع الحسن من سمرة لأن الحديث من رواية الحسن عن سمرة وللحفاظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب الأول أنه سمع منه مطلقا وهو مذهب علي بن المديني والبخاري والترمذي والثاني لا مطلقا وهو مذهب يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حبان والثالث لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو مذهب النسائي واختاره ابن عساكر وادعى عبد الحق أنه الصحيح والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه لقوله حتى تؤديه ولا تتحقق التأدية إلا بذلك وهو عام في الغصب والوديعة والعارية وذكره في باب العارية لشموله لها وربما يفهم منه أنها مضمونة على المستعير وفي ذلك ثلاث أقوال الأول أنها مضمونة مطلقا وإليه ذهب ابن عباس وزيد بن علي وعطاء وأحمد وإسحاق والشافعي لهذا الحديث ولما يأتي مما يفيد معناه والثاني للهادي وآخرين معه أن العارية لا يجب ضمانها إلا إذا شرط مستدلين بحديث صفوان ويأتي الكلام عليه والثالث للحسن وأبي حنيفة وآخرين أنها لا تضمن وإن ضمنت لقوله صلى الله عليه وسلم ليس على المستعير غير المغل ولا على المستودع غير المغل ضمان أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وضعفاه وصححا وقفه على شريح وقوله المغل بضم الميم فغين معجمة قال في النهاية أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه من الإغلال وهو الخيانة وقيل المغل المستغل وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلا والأول أولى وحينئذ فلا تقوم به حجة على أنه لا تقوم به الحجة ولو صح رفعه لأن المراد ليس عليه ذلك من حيث هو مستعير لأنه لو التزم الضمان للزمه وحديث الباب كثيرا ما يستدلون منه بقوله "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" على التضمين ولا دلالة فيه

(3/67)


صريحا فإن اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى تؤدى ولذلك قلنا وربما يفهم ولم يبق دليل على تضمين العارية إلا قوله صلى الله عليه وسلم "عارية مضمونة" في حديث صفوان فإن وصفها بمضمونة يحتمل أنها صفة موضحة وأن المراد من شأنها الضمان فيدل على ضمانها مطلقا ويحتمل أنها صفة للتقييد وهو الأظهر لأنها تأسيس ولأنها كثيرة ثم ظاهره أن المراد عارية قد ضمناها لك وحينئذ يحتمل أن يلزم ويحتمل أنه غير لازم بل كالوعد وهو بعيد فيتم الدليل بالحديث للقائل إنها تضمن وهو الأظهر بالتضمين إما بطلب صاحبها له أو بتبرع المستعير
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه والترمذي أبو داود وحسنه وصححه الحاكم واستنكره أبو حاتم الرازي وأخرجه جماعة من الحفاظ وهو شامل للعارية والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما أفاده قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقوله "لا تخن من خانك " دليل على أنه لا يجازي بالإساءة من أساء وحمله الجمهور على أنه مستحب لدلالة قوله تعالى :{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} على الجواز وهذه هي المعروفة بمسألة الظفر وفيها أقوال للعلماء هذا القول الأول وهو الأشهر من أقوال الشافعي وسواء كان من جنس ما أخذ عليه أو من غيره جنسه والثاني يجوز إذا كان من جنس ما أخذ عليه لا من غيره لظاهر قوله بمثل ما عوقبتم به وقوله مثلها وهو رأي الحنفية و المؤيد والثالث لا يجوز ذلك إلا بحكم لظاهر النهي في الحديث ولقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وأجيب أنه ليس أكلا بالباطل والحديث يحمل فيه النهي على التنزيه الرابع لابن حزم أنه يجب عليه أن يأخذ بقدر حقه سواء كان من نوع ما هو له أو من غيره ويعينه ويستوفي حقه فإن فضل على ما هو له رده أو لورثته وإن نقص بقي في ذمة من عليه الحق فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل إلا أن يحلله ويبرئه فهو مأجور فإن كان الحق الذي له لا بينة له عليه وظفر بشيء من مال من عنده له الحق أخذه فإن طولب أنكر فإن استحلف حلف وهو مأجور في ذلك قال وهذا هو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما وكذلك ثمنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه واستدل بالآيتين بقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} وبقوله تعالى :{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ

(3/68)


الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} وبقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وبقوله تعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" لما ذكرت له أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبني فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا ولحديث البخاري " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف" واستدل لكونه إذا لم يفعل يكون عاصيا بقوله تعالى: {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قال فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو أو مسلم أو ذمي فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين ولم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكراً أن يغيره بيده إن استطاع فمن قدر على قطع الظلم وكفه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر ولم يفعل فقد عصى الله ورسوله ثم ذكر حديث أبي هريرة فقال هو من رواية طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع وكلهم ضعيف قال ولئن صح فلا حجة فيه لأنه ليس انتصاف المرء من حقه خيانة بل هو حق واجب وإنكار منكر وإنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل من لا حق له عنده قلت ويؤيد ما ذهب إليه حديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فإن الأمر ظاهر في الإيجاب ونصر الظالم بإخراجه عن الظلم وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلما
3- وعن يعلى بن أمية ويقال منيه بضم الميم وفتح النون وتشديد التحتية المثناة صحابي مشهور قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا" قلت يا رسول الله أعارية مضمونة؟ أو عارية مؤداة ؟قال: "بل عارية مؤداة" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان المضمونة التي تضمن إن تلفت بالقيمة والمؤداة التي تجب تأديتها مع بقاء عينها فإن تلفت لم تضمن بالقيمة والحديث دليل لمن ذهب إلى أنها لا تضمن العارية إلا بالتضمين وتقدم أنه أوضح الأقوال
4- وعن صفوان بن أمية قرشي من أشراف قريش هرب يوم الفتح واستؤمن له فعاد وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف كافرا ثم أسلم وحسن إسلامه "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعا يوم حنين فقال أغصب يا محمد قال بل عارية مضمونة" رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم وأخرج له شاهدا ضعيفا عن ابن عباس ولفظه بل عارية مؤداة وفي عدد الدروع روايات فلأبي داود كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين وللبيهقي في حديث مرسل كانت ثمانين وللحاكم من حديث جابر كانت مائة درع وما يصلحها وزاد أحمد والنسائي في رواية ابن عباس فضاع بعضها فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال أنا اليوم يا رسول الله أرغب في الإسلام وقوله "مضمونة" تقدم الكلام عليها وأن أصل الوصف التقييد وأنه الأكثر فهو دليل على ضمانها بالتضمين كما أسلفنا لا أنه محتمل ويكون مجملا كما قيل قاله الشارح

(3/69)


باب الغصب
1- عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع شبرا من الأرض" أي من أخذه وهو أحد ألفاظ الصحيحين "ظلما طوقه الله يوم القيامة" إياه "من سبع أرضين" متفق عليه اختلف في معنى التطويق فقيل معناه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه ويؤيده أن في حديث ابن عمر خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وقيل يكلف نقل ما ظلمه منها يوم القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة ويؤيده حديث أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه حتى يقضي بين الناس أخرجه الطبراني وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعا ولأحمد والطبراني "من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر" وفيه قولان آخران والحديث دليل على تحريم الظلم والغصب وشدة عقوبته وإمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى تخوم الأرض وله منع من أراد أن يحفر سربا أو بئرا وأنه من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة أو أبنية أو معادن وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر من يجاوره وأن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض لأنها لو فتقت لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها وفيه دلالة على أن الأرض تصير مغصوبة بالاستيلاء عليها وهل تضمن إذا تلفت بعد الغصب فيه خلاف فقيل لا تضمن لأنه إنما يضمن ما أخذ لقوله صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه قالوا ولا يقاس ثبوت اليد في غير المنقول على النقل في المنقول لاختلافهما في التصرف وذهب الجمهور إلى أنها تضمن بالغصب قياسا على المنقول المتفق على أنه يضمن بعد النقل بجامع الاستيلاء الحاصل في نقل المنقول وفي ثبوت اليد على غير المنقول بل الحق أن ثبوت اليد استيلاء وإن لم ينقل يقال استولى الملك على البلد واستولى زيد على أرض عمرو وقوله شبرا وكذا ما فوقه بالأولى وما دونه داخل في التحريم وإنما لم يذكر لأنه قد لا يقع إلا نادرا وقد وقع في بعض ألفاظه عند البخاري شيئا عوضا عن شبرا فعم إلا أن الفقهاء يقولون إنه لا بد أن يكون المغصوب له قيمة فألزموا أنه حينئذ يأكل الرجل صاع تمر أو زبيب على واحدة واحدة فلا يضمن فيأكل عمره من المال الحرام فلا يضمن وإن أثم كأكله من الخبز واللحم على لقمة لقمة من غير استيلاء على الجميع
2- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين" سماها ابن حزم زينب بنت جحش "مع خادم لها" قال المصنف لم أقف على اسم الخادم "بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول

(3/70)


وحبس المكسورة" رواه البخاري والترمذي وسمى الضاربة عائشة وزاد "فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعام بطعام وإناء بإناء " وصححه واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة فيما أخرجه النسائي عن أم سلمة "أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة" الحديث وقد وقع مثلها لحفصة وأن عائشة كسرت الإناء ووقع مثلها لصفية مع عائشة والحديث دليل على أن من استهلك على غيره شيئا كان مضمونا بمثله وهو متفق عليه في المثلى من الحبوب وغيرها وأما في القيمي ففيه ثلاثة أقوال الأول للشافعي والكوفيين أنه يجب فيه المثل حيوانا كان أو غيره ولا تجزئ القيمة إلا عند عدمه والثاني للهادوية أن القيمي يضمن بقيمته وقال مالك والحنفية أما ما يكال أو يوزن فمثله وما عدا ذلك من العروض والحيوانات فالقيمة واستدل الشافعي ومن معه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "إناء بإناء وطعام بطعام" وبما وقع في رواية ابن أبي حاتم "من كسر شيئا فهو له وعليه مثله" زاد في رواية الدارقطني فصارت قضية أي من النبي صلى الله عليه وسلم أي حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك فاندفع قول من قال إنها قضية عين لا عموم فيها ولو كانت كذلك لكان قوله صلى الله عليه وسلم "طعام بطعام وإناء بإناء" كافيا في الدليل على أن ذكره للطعام واضح في التشريع العام لأنه لا غرامة هنا للطعام بل الغرامة للإناء وأما الطعام فهو هدية له صلى الله عليه وسلم فإن عدم المثل فالمضمون له مخير بين أن يمهله حتى يجد المثل وبين أن يأخذ القيمة واستدل في البحر وغيره لمن قال بوجوب القيمة بأنه صلى الله عليه وسلم قضى على من أعتق شركا له في عبد أن يقوم عليه باقيه لشريكه قالوا فقضى صلى الله عليه وسلم بالقيمة وأجيب بأن المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك شيئا ولا غصب شيئا ولا تعدى أصلا بل أعتق حصته التي أباح الله له عتقها ثم إن المستهلك بزعم المستدل هنا هو الشقص من العبد ومناظرة شقص لشقص تبعد فيكون النقد أقرب وأبعد من الشجار على أن التقويم لغة يشمل التقدير بالمثل أو بالقيمة وإنما خص اصطلاحا بالقيمة وكلام الشارع يفسر باللغة لا بالاصطلاح الحادث واستدل بإمساكه صلى الله عليه وسلم أكسار القصعة في بيت التي كسرت الهادوية والحنفية القائلين بأن العين المغصوبة إذا زال بفعل الغاصب أسمها ومعظم نفعها تصير ملكا للغاصب قال ابن حزم إنه ليس في تعليم الظلمة أكل أموال الناس أكثر من هذا فيقال لكل فاسق إذا أردت أخذ قمح يتيم أو غيره أو أكل غنمه أو استحلال ثيابه فقطعها ثيابا على رغمه واذبح غنمه واطبخها وخذ الحنطة واطحنها وكل ذلك حلالا طيبا وليس عليك إلا قيمة ما أخذت وهذا خلاف القرآن في نهيه تعالى أن يؤكل أموال الناس بالباطل وخلاف المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أموالكم عليك حرام" واحتج المخالف بقضية القصعة وقد تقدم

(3/71)


الكلام فيها واحتجوا بخبر الشاة المعروف وهو أن امرأة دعته صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأخبرته أنها أرادت ابتياع شاة فلم تجدها فأرسلت إلى جارة لها أن ابعثي لي الشاة التي لزوجك فبعثت بها إليها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة أن تطعم الأسارى قالوا فهذا يدل على أن حق صاحب الشاة قد سقط عنها إذا شويت وأجيب بأن الخبر لا يصح فإن صح فهو حجة عليهم لأنه خلاف قولهم إذ فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق ذلك اللحم في ملك التي أخذتها بغير إذن مالكها وهم يقولون إنه للغاصب وقد تصدق بها صلى الله عليه وسلم بغير إذنها وخبر شاة الأسارى قد بحثنا فيه في منحة الغفار
3- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي ويقال إن البخاري ضعفه هذا القول عن البخاري ذكره الخطابي وخالفه الترمذي فنقل عن البخاري تحسينه إلا أنه قال أبو زرعة وغيره لم يسمع عطاء بن أبي رباح من رافع بن خديج وقد اختلف فيه الحفاظ اختلافا كثيرا وله شواهد تقويه وهو دليل على أن غاصب الأرض إذا زرع الأرض لا يملك الزرع وأنه لمالكها وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق و مالك وهو قول أكثر علماء المدينة والقاسم بن إبراهيم وإليه ذهب أبو محمد بن حزم ويدل له حديث "ليس لعرق ظالم حق" وسيأتي إذ المراد به من غرس أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة وذهب أكثر الأمة إلى أن الزرع لصاحب البذر الغاصب وعليه أجرة الأرض واستدلوا بحديث الزرع للزارع وإن كان غاصبا إلا أنه لم يخرجه أحد قال في المنار وقد بحثت عنه فلم أجده والشارح نقله وبيض لمخرجه واستدلوا بحديث ليس لعرق ظالم حق ويأتي وهو لأهل القول الأول أظهر في الاستدلال
4- وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض غرس أحدهما فيها نخلا والأرض للآخر" فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض لصاحبها وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله وقال ليس لعرق ظالم" بالإضافة والتوصيف وانكر الخطابي الإضافة "حق" رواه أبو داود وإسناده حسن وآخره عند أصحاب السنن من رواية عروة عن سعيد بن زيد واختلف في وصله وإرساله وفي تعيين صحابيه فرواه أبو داود من طريق عروة مرسلا ومن طريق آخر متصلا من رواية محمد بن إسحاق وقال فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ظني أنه أبو سعيد وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني واختلفوا في تفسير "عرق ظالم" فقيل هو أن يغرس الرجل في أرض فيستحقها بذلك وقال مالك كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق وقال ربيعة العرق الظالم يكون

(3/72)


ظاهرا ويكون باطنا فالباطن ما احتفظ الرجل من الآبار واستخرجه من المعادن والظاهر ما بناه أو غرسه وقيل الظالم من بنى أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة وكل ما ذكر من التفاسير متقارب ودليل على أن الزارع في أرض غيره ظالم ولا حق له بل يخير بين إخراج ما غرسه وأخذ نفقته عليه جمعا بين الحديثين من غير تفرقة بين زرع وشجر والقول بأنه دليل على أن الزرع للغاصب حمل له على خلاف ظاهره وكيف يقول الشارع "ليس لعرق ظالم حق" ويسميه ظالما وينفي عنه الحق ونقول بل الحق له
5- وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" متفق عليه وما دل عليه واضح وإجماع ولو بدأ به المصنف في أول باب الغصب لكان أليق أساسا وأحسن افتتاحا

(3/73)


باب الشفعة
الشفعة بضم الشين المعجمة وسكون الفاء في اشتقاقها ثلاثة أقوال قيل من الشفع وهو الزوج وقيل من الزيادة وقيل من الإعانة وهي شرعا انتقال حصة إلى حصة بسبب شرعي كأن انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى وقال أكثر الفقهاء إنها واردة على خلاف القياس لأنها تؤخذ كرها ولأن الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر وقيل خالفت هذا القياس ووافقت قياسات أخر يدفع فيها ضرر الغير بضرر الآخر ثم يؤخذ حقه كرها كبيع الحاكم عن المتمرد والمفلس ونحوهما
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت" بضم الصاد المهملة وتشديد الراء ففاء معناه بينت مصارف "الطرق" وشوارعها "فلا شفعة" متفق عليه واللفظ للبخاري وفي رواية مسلم أي من حديث جابر "الشفعة في كل شرك" أي مشترك "في أرض أو ربع" بفتح الراء وسكون الموحدة الدار ويطلق على الأرض لا يصلح وفي لفظ لا يحل أن يبيع الخليط لدلالة السياق عليه حتى يعرض على شريكه وفي رواية الطحاوي أي من حديث جابر "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء" ورجاله ثقات الألفاظ في هذا الحديث قد تضافرت في الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك في الدور والعقار والبساتين وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم وفيما لا يقسم كالحمام

(3/73)


الصغير ونحوه خلاف وذهب الهادوية وفي البحر العترة إلى صحة الشفعة في كل شيء ومثله في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه ويدل له حديث الطحاوي ومثله عند ابن عباس عند الترمذي مرفوعا "الشفعة في كل شيء" وإن قيل إن رفعه خطأ فقد ثبت إرساله عن ابن عباس وهو شاهد لرفعه على أن مرسل الصحابي إذا صحت إليه الرواية حجة وعن المنصور أنه لا شفعة في المكيل والموزون لأنه لا ضرر فيه فأجيب بأن فيه ضررا وهو إسقاط حق الجوار ولأنا لا نسلم أن العلة الضرر وذهب الأكثر على عدم ثبوتها في المنقول مستدلين بقوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فإنه دل على أنها لا تكون إلا في العقار وتلحق به الدار لقوله في حديث مسلم أو ربع قالوا ولأن الضرر في المنقول نادر وأجيب بأن ذكر حكم بعض أفراد العام لا يقصره عليه قالوا:ولأنه أخرج البزار من حديث جابر والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ الحصر فيهما الأول "و لا شفعة إلا في ربع أو حائط" ولفظ الثاني "لا شفعة إلا في دار أو عقار" إلا أنه قال البيهقي بعد سياقه له الإسناد ضعيف وأجيب بأنها لو ثبتت لكانت مفاهيم ولا تقاوم منطوق في كل شيء ومنهم من استثنى من المنقول الثياب فقال تصح فيها الشفعة ومنهم من استثنى منه الحيوان فقال تصح فيه الشفعة وفي حديث مسلم دليل على أنه لا يحل للشريك بيع حصته حتى يعرض على شريكه وأنه محرم عليه البيع قبل عرضه ومن حمله على الكراهة فهو حمل على خلاف أصل النهي بلا دليل واختلف العلماء هل للشريك الشفعة بعد أن آذنه شريكه ثم باعه من غيره فقيل له ذلك ولا يمنع صحتها تقدم إيذانه وهذا قول الأكثر وقال الثوري والحكم وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه وهو الأوفق بلفظ الحديث وهو الذي اخترناه في حاشية ضوء النهار وفي قوله أن يبيع ما يشعر بأنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع وهذا مجمع عليه وفي غيره خلاف وقوله في كل شيء يشمل الشفعة في الإجارة وقد منعها الهادوية وقالوا إنما تكون في عين لا منفعة وضعف قولهم لأن المنفعة تسمى شيئا وتكون مشتركة فشملها في كل شرك أيضا إذ لو لم تكن شيئا ولا مشتركة لما صح التأجير فيها ولا القسمة بالمهايأة ونحو ذلك وهي بيع مخصوص فيشملها لا يحل له أن يبيع فالحق ثبوت الشفعة فيها لشمول الدليل لها ولوجود علة الشفعة فيها وظاهر قوله في كل شرك أي مشترك ثبوتها للذمي على المسلم إذا كان شريكا له في الملك وفيه خلاف والأظهر ثبوتها للذمي في غير جزيرة العرب لأنهم منهيون عن البقاء فيها
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بالدار" رواه النسائي وصححه ابن حبان وله علة وهي أنه أخرجه أئمة من الحفاظ عن قتادة عن أنس وآخرون أخرجوه عن الحسن عن سمرة قالوا وهذا هو المحفوظ وقيل هما صحيحان جميعا قاله ابن القطان وهو الأولى وهذا وإن كان فيه علة فالحديث الآتي صحيح وهو قوله
3- وعن أبي رافع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(3/74)


"الجار أحق بصقبه" بالصاد المهملهة مفتوحة وفتح القاف القرب أخرجه البخاري وفيه قصة وهي أنه قال أبو رافع للمسور بن مخرمة ألا تأمر هذا يشير إلى سعد أن يشتري مني بيتي اللذين في داره فقال له سعد والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو منجمة فقال أبو رافع سبحان الله لقد منعتهما من خمسمائة نقدا فلولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه" ما بعتك والحديث وإن كان ذكره أبو رافع في البيع فهو يعم الشفعة فذهب إلى ثبوتها الهادوية والحنفية وآخرون لهذه الأحاديث ولغيرها كحديث الشريد بن سويد قال قلت يا رسول الله أرض لي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار قال "الجار أحق بصقبه " أخرجه ابن سعد عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد وحديث جابر الآتي وذهب علي وعمر وعثمان والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم إلى أنه لا شفعة بالجوار قالوا والمراد بالجار في الأحاديث الشريك قالوا ويدل على أن المراد به ذلك حديث أبي رافع فإنه سمى الخليط جارا واستدل بالحديث وهو من أهل اللسان وأعرف بالمراد والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جار غير صحيح فإن كل شيء قارب شيئا فهو جار وأجيب بأن أبا رافع غير شريك لسعد بل جار له لأنه كان يملك بيتين في دار سعد لا أنه كان يملك شقصا شائعا من منزل سعد واستدلوا أيضا بما سلف من أحاديث الشفعة للشريك وقوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ونحوه من الأحاديث التي فيها حصر الشفعة قبل القسمة وأجيب عنها بأن غاية ما فيها إثبات الشفعة للشريك من غير تعرض للجار لا بمنطوق ولا مفهوم ومفهوم الحصر في قوله "إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة" الحديث إنما هو فيما قبل القسمة للمبيع بين المشتري والشريك فمدلوله أن القسمة تبطل الشفعة وهو صريح رواية "وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم" وأحاديث إثبات الشفعة للخليط لا تبطل ثبوتها للجار بعد قيام الأدلة عليها التي منها ما سلف ومنها الحديث الآتي
4- وعن جابر رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله "إذا كان طريقهما واحدا" عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي قلت وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول وعلوم الحديث والحديث من أدلة شفعة الجار إلا أنه قيده بقوله إذا كان طريقهما واحدا وقد ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلا بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشتركا في الطريق قال في الشرح ولا يبعد اعتباره أما من حيث الدليل فللتصريح به في حديث جابر هذا ومفهوم الشرط أنه إذا كان مختلفا فلا شفعة وأما من حيث التعليل فلأن شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدة الاختلاط وشبكة الانتفاع وذلك إنما هو مع الشريك في الأصل أو في الطريق ويندر الضرر مع

(3/75)


عدم ذلك وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أولا لأنه إذا كان المراد بالجار الشريك فلا فائدة لاشتراط كون الطريق واحدا قلت ولا يخفى أنه قد آل الكلام إلى الخليط لأنه مع اتحاد الطريق تكون الشفعة للخلطة فيها وهذا هو الذي قررناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار قال ابن القيم: وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافها حيث قال "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حديثه المتقدم فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ولا يناقضه وجابر روى اللفظين فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله انتهى بمعناه وقوله ينتظر بها دال على أنها لا تبطل شفعة الغائب وإن تراخى وأنه لا يجب عليه السير حين يبلغه الشراء لأجلها وأما الحديث الآتي وهو قوله
5- وعن ابن عمر رضي الله عنه الشفعة كحل عقال رواه ابن ماجه والبزار وزاد ولا شفعة لغائب وإسناده ضعيف فإنه لا تقوم به حجة لما ستعرفه ولفظه من روايتهما لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال وضعفه البزار وقال ابن حبان لا أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت وفي معناه أحاديث كلها لا أصل لها اختلف الفقهاء في ذلك فعند الهادوية والشافعية والحنابلة أنها على الفور ولهم تقادير في زمان الفور لا دليل على شيء منها ولا شك أنه إذا كان وجه شرعيتها دفع الضرر فإنه يناسب الفورية لأنه يقال كيف يبالغ في دفع ضرر الشفيع ويبالغ في ضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا إلا أنه لا يكفي هذا القدر في إثبات حكم والأصل عدم اشتراط الفورية وإثباتها يحتاج إلى دليل ولا دليل وقد عقد البيهقي بابا في السنن الكبرى لألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء وعد منها الشفعة كحل عقال ولا شفعة لصبي ولا لغائب والشفعة لا ترث ولا تورث والصبي على شفعته حتى يدرك ولا شفعة لنصراني وليس لليهودي ولا للنصراني شفعة فعد منها حديث الكتاب

(3/76)


باب القراض
القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز وتسمى مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف
1- عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف وإنما كانت البركة في ثلاث لما في البيع إلى أجل من المسامحة

(3/76)


والمساهلة والإعانة للغريم بالتأجيل وفي المقارضة لما في ذلك من انتفاع الناس بعضهم ببعض وخلط البر بالشعير قوتا لا للبيع لأنه قد يكون فيه غرر وغش
2- وعن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني ورجاله ثقات وقال مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده إنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما وهو موقوف صحيح لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام وهو نوع من الإجارة إلا أنه عفى فيها عن جهالة الأجر وكانت الرخصة في ذلك الموضع الرفق بالناس ولها أركان وشروط فأركانها العقد بالإيجاب أو ما في حكمه والقبول أو ما في حكمه وهو الامتثال بين جائزي التصرف إلا من مال مسلم لكافر على مال نقد عند الجمهور ولها أحكام مجمع عليها منها أن الجهالة مغتفرة فيها ومنها أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد واختلفوا إذا كان دينا فالجمهور على منعه قيل لتجويز إعسار العامل بالدين فيكون من تأخيره عنه لأجل الربح فيكون من الربا المنهي عنه وقيل لأن ما في الذمة يتحول عن الضمانة ويصير أمانة وقيل لأن ما في الذمة ليس بحاضر حقيقة فلم يتعين كونه مال المضاربة ومن شرط المضاربة أن تكون على مال من صاحب المال واتفقوا أيضا على أنه إذا اشترط أحدهما من الربح لنفسه شيئا زائدا معينا فإنه لا يجوز ويلغو ودل حديث حكيم على أنه يجوز لمالك المال أن يحجر العامل عما شاء فإن خالف ضمن إذا تلف المال وإن سلم المال فالمضاربة باقية فيما إذا كان يرجع إلى الحفظ وأما إذا كان الاشتراط لا يرجع إلى الحفظ بل كان يرجع إلى التجارة وذلك بأن ينهاه أن لا يشتري نوعا معينا ولا يبيع من فلان فإنه يصير فضوليا إذا خالف فإن أجاز المالك نفذ البيع وإن لم يجز لم ينفذ

(3/77)


باب المساقاة والإجارة
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" متفق عليه وفي رواية لهما فسألوه أن يقرهم بها

(3/77)


على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه ولمسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها" الحديث دليل على صحة المساقاة والمزارعة وهو قول علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وأحمد وابن خزيمة وسائر فقهاء المحدثين أنهما تجوزان مجتمعتين وتجوز كل واحدة منفردة والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة وقوله "ما شئنا" دليل على صحة المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة وقال الجمهور لا تجوز المساقاة والمزارعة إلا في مدة معلومة كالإجازة وتأولوا قوله ما شئنا على مدة العهد وأن المراد نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازما على إخراج اليهود من جزيرة العرب وفيه نظر وأما المساقاة فإن مدتها معلومة لأنها إجارة وقد اتفقوا على أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم وقال ابن القيم في زاد المعاد في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك واستمر في ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ البتة واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين فإنه صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليها البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين انتهى وقد أشار في كلامه إلى ما يذهب إليه الحنفية والهادوية من أن المساقاة والمزارعة لا تصح وهي فاسدة وتأولوا هذا الحديث بأن خيبر فتحت عنوة فكان أهله عبيدا له صلى الله عليه وسلم فما أخذه فهو له وما تركه فهو له وهو كلام مردود لا يحسن الاعتماد عليه
2- وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه هو الزرقي الأنصاري من ثقات أهل المدينة قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات بذال معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية هي مسايل المياه وقيل ما ينبت حول السواقي وأقبال الجداول بفتح الهمزة فقاف فموحدة أوائل الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك

(3/78)


زجر عنه فأما شيء مضمون فلا بأس به رواه مسلم وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض مضمون الحديث دليل على صحة كراء الأرض بأجرة معلومة من الذهب والفضة ويقاس عليهما غيرهما من سائر الأشياء المتقومة ويجوز بما يخرج منها من ثلث وربع لما دل عليه الحديث الأول وحديث ابن عمر قال قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن لا أدري ما هو أخرجه مسلم وأخرج أيضا أن ابن عمر كان يعطي أرضه بالثلث والربع ثم تركه ويأتي ما يعارضه وقوله على الأربعاء جمع ربيع وهي الساقية الصغيرة ومعناه هو وحديث الباب أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل المياه ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك ذا دون ذاك
3- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة" رواه مسلم وأخرج مسلم أيضا أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارع فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض فقال رافع لعبد الله سمعت عمي وكانا شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فقال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يكن فترك كراء الأرض وفي النهي عن المزارعة أحاديث ثابتة وقد جمع بينها وبين الأحاديث الدالة على جوازها بوجوه أحسنها أن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم بالمواساة ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسكها " وهذا كما نهوا عن ادخار لحوم الأضحية ليتصدقوا بذلك ثم بعد توسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكه بما شاء من إجارة وغيرها ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم عن النهي وترك إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية قال الخطابي قد عقل المعنى ابن عباس وأنه ليس المراد تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا وأن يرفق بعضهم ببعض انتهى وعن زيد بن ثابت يغفر الله لرافع أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اختلفا فقال إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع كأن زيدا يقول إن رافعا اقتطع الحديث فروى راو أوله فأخل بالمقصود وأما الاعتذار عن جهالة الأجرة فقد صح في المرضعة بالنفقة والكسوة مع

(3/79)


الجهالة قدرا أو لأنه كالمعلوم جملة لأن الغالب تقارب حال الحاصل وقد حد بجهة الكمية أعني النصف والثلث وجاء النص فقطع التكلفات
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره ولو كان حراما لم يعطه" رواه البخاري وفي لفظ في البخاري ولو علم كراهية لم يعطه وهذا من قول ابن عباس كأنه يريد الرد على من زعم أنه لا يحل إعطاء الحجام أجرته وأنه حرام وقد اختلف العلماء في أجرة الحجام فذهب الجمهور إلى أنه حلال احتجوا بهذا الحديث وقالوا هو كسب فيه دناءة وليس بمحرم وحملوا النهي على التنزيه ومنهم من ادعى النسخ وأنه كان حراما ثم أبيح وهو صحيح إذا عرف التاريخ وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحر الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الإنفاق على نفسه من أجرتها ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب وحجتهم ما أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن برجال ثقات من حديث محيصة "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال اعلفه نواضحك" وأباحوه للعبد مطلقا وفيه جواز التداوي بإخراج الدم وغيره وهو إجماع
5- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث" رواه مسلم الخبيث ضد الطيب وهل يدل الظاهر أنه لا يدل له فإنه تعالى قال -ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون- فسمى رذال المال خبيثا ولم يحرمه وأما حديث "من السحت كسب الحجام" فقد فسره هذا الحديث وأنه أريد بالسحت عدم الطيب وأيد ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم الحجام أجرته قال ابن العربي يجمع بينه وبين إعطائه صلى الله عليه وسلم الحجام أجرته بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم ومحل الزجر ما إذا كانت الأجرة على عمل مجهول قلت هذا بناء على أن ما يأخذه حرام وقال ابن الجوزي إنما كرهت لأنها من الأشياء التي تجب على المسلم للمسلم إعانته بها عند الاحتياج فما كان ينبغي أن يأخذ على ذلك أجرا
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه مسلم فيه دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة نيابة عمن ظلموه وقوله أعطى بي أي حلف باسمي وعاهد أو أعطى الأمان باسمي وبما شرعته من ديني وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه وكذا بيع الحر مجمع على تحريمه

(3/80)


وقوله استوفى منه أي استكمل منه العمل ولم يعطه الأجرة فهو أكل لماله بالباطل مع تعبه وكده
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" أخرجه البخاري وقد عارضه ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت ولفظه علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فأتيته فقلت يا رسول الله أهدي إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فقال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها" فاختلف في العمل بالحديثين فذهب الجمهور و مالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيرا أو كبيرا ولو تعين تعليمه على المعلم عملا بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صلى الله عليه وسلم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهرا لها قالوا وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواته مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت قالوا ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعا بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره النبي صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه وذهب الهادوية والحنفية وغيرهما إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث عبادة وفيه ما عرفت فيه قريبا نعم استطرد البخاري ذكر أخذ الأجرة على الرقية في هذا الباب فأخرج من حديث أبي سعيد في رقية بعض الصحابة لبعض العرب وأنه لم يرقه حتى شرط عليه قطيعا من غنم فتفل عليه وقرأ عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة أي علة فأوفاه ما شرط ولما ذكروا ذلك لرسول الله قال: "قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما" وذكر البخاري لهذه القصة في هذا الباب وإن لم تكن من الأجرة على التعليم وإنما فيها دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليما أو غيره إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجه وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي وجابر عند الطبراني وكلها ضعاف لأن في حديث ابن عمر شرقي

(3/81)


بن قطامي ومحمد بن زياد الراوي عنه وكذا في مسند أبي يعلى والبيهقي وتمامه عند البيهقي وأعلمه أجره وهو في عمله قال البيهقي عقيب سياقه بإسناده وهذا ضعيف
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استأجر أجيرا فليسم له أجرته" رواه عبد الرزاق وفيه انقطاع ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة قال البيهقي كذا رواه أبو حنيفة وكذا في كتابي عن أبي هريرة وقيل من وجه آخر ضعيف عن ابن مسعود وفي الحديث دليل على ندب تسمية أجرة الأجير على عمله لئلا تكون مجهولة فتؤدي إلى الشجار والخصام

(3/82)


باب إحياء الموات
الموات بفتح الميم والواو الخفيفة الأرض التي لم تعمر شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بعدم الحياة وإحياؤها عمارتها
واعلم أن الإحياء ورد عن الشارع مطلقا وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف لأنه قد يبين مطلقات الشارع كما في قبض المبيعات والحرز في السرقة مما يحكم به العرف والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة أسباب تبييض الأرض وتنقيتها للزرع وبناء الحائط على الأرض وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع هذا كلام الإمام يحيى
1- عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمر أرضا" بالفعل الماضي ووقع أعمر في رواية والصحيح الأول ليست لأحد "فهو أحق بها" قال عروة وقضى به عمر في خلافته رواه البخاري وهو دليل على أن الإحياء تملك إن لم يكن قد ملكها مسلم أو ذمي أو ثبت فيها حق للغير وظاهر الحديث أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام وهو قول الجمهور وعن أبي حنيفة أنه لا بد من إذنه ودليل الجمهور هذا الحديث والقياس على ماء البحر والنهر وما صيد من طير وحيوان وأنهم اتفقوا على أنه لا يشترط فيه إذن الإمام وأما ما تقدم عليه يد لغير معين كبطون الأودية فلا يجوز إلا بإذن الإمام مما ليس فيه ضرر لمصلحة عامة ذكره بعض الهادوية وقال المؤيد وأبو حنيفة لا يجوز إحياؤها بحال لجريها مجرى الأملاك لتعلق سيول المسلمين بها إذ هي مجرى السيول وقال الإمام المهدي وهو قوي فإن تحول عنها جري الماء جاز إحياؤها بإذن الإمام لانقطاع الحق وعدم تعين أهله وليس للإمام الإذن مع ذلك إلا لمصلحة عامة لا ضرر فيها ولا يجوز الإذن لكافر بالإحياء لقوله صلى الله عليه وسلم

(3/82)


عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم والخطاب للمسلمين وقوله وقضى به عمر قيل هو مرسل لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر
2- وعن سعيد بن زيد تقدمت ترجمته في كتاب الوضوء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" رواه الثلاثة وحسنه الترمذي وقال روي مرسلا وهو كما قال واختلف في صحابيه أي في راويه من الصحابة فقيل جابر وقيل عائشة وقيل عبد الله بن عمر الراجح من الثلاثة الأقوال الأول وفيه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال فلقد رأيتها وإنها تضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها وتقدم الكلام على فقهه وأنه ليس لعرق ظالم حق وعن
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة ابن جثامة بفتح الجيم فمثلثة مشددة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" رواه البخاري الحمى يقصر ويمد والقصر أكثر وهو المكان المحمي وهو خلاف المباح ومعناه أن يمنع الإمام الرعي في أرض مخصوصة لتختص برعيها إبل الصدقة مثلا وكان في الجاهلية إذ أراد الرئيس أن يمنع الناس من محل يريد اختصاصه استعوى كلبا من مكان عال فإلى حيث ينتهي صوته حماه من كل جانب فلا يرعاه غيره ويرعى هو مع غيره فأبطل الإسلام ذلك وأثبت الحمى لله ولرسوله وقال الشافعي يحتمل الحديث شيئين أحدهما ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا مما حماه النبي صلى الله عليه وسلم والآخر معناه إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة ورجح هذا الثاني بما ذكره البخاري عن الزهري تعليقا أن عمر حمى الشرف والربذة وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر أن عمر حمى الربذة لإبل الصدقة وقد ألحق بعض الشافعية ولاة الأقاليم في أنهم يحمون لكن بشرط أن لا يضر بكافة المسلمين واختلف هل يحمي الإمام لنفسه أو لا يحمي إلا لما هو للمسلمين فقال المهدي كان له صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه لكنه لم يملك لنفسه ما يحمي لأجله وقال الإمام يحيى والفريقان لا يحمي إلا لخيل المسلمين ولا يحمي لنفسه ويحمي لإبل الصدقة ولمن ضعف من المسلمين عن الانتجاع لقوله لا حمى إلا لله الحديث ولا يخفى أنه لا دليل فيه على الاختصاص أما قصة عمر فإنها دالة على

(3/83)


الاختصاص ولفظها فيما أخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي عن أسلم أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يسمى هنيا على الحمى فقال له يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وايم الله أنهم يرون أني ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس في بلادهم انتهى هذا صريح أنه لا يحمى الإمام لنفسه
4- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وابن ماجه وله أي لابن ماجه من حديث أبي سعيد مثله وهو في الموطأ مرسل وأخرجه ابن ماجه أيضا والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلا بزيادة من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه وأخرجه بها الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا وأخرجه عبد الرزاق وأحمد عن ابن عباس أيضا وفيه زيادة "وللرجل أن يضع خشبته في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع" وقوله لا ضرر الضرر ضد النفع يقال ضره ضرا وضرارا وأضر به يضر إضرارا ومعناه لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه بإضراره بإدخال الضر عليه فالضر ابتداء الفعل والضرر الجزاء عليه قلت يبعده جواز الانتصار لمن ظلم ولمن انتصر بعد ظمه الآية وجزاء سيئة سيئة مثلها وقيل الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به والضرار أن تضره أن تنتفع وقيل هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد وقد دل الحديث على تحريم الضرر لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه لأن النهي لطلب الكف عن الفعل وهو يلزم منه عدم ذات الفعل فاستعمل اللازم في الملزوم وتحريم الضرر معلوم عقلا وشرعا إلا ما دل الشرع على إباحته رعاية للمصلحة التي تربو على المفسدة وذلك مثل إقامة الحدود ونحوها وذلك معلوم في تفاصيل الشريعة ويحتمل أن لا تسمى الحدود من القتل والضرب ونحوه ضررا من فاعلها لغيره لأنه إنما امتثل أمر الله له بإقامة الحد على العاصي فهو عقوبة من الله تعالى لإنه إنزال ضرر من الفاعل ولذا لا يذم الفاعل لإقامة الحد بل يمدح على ذلك
5- وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وتقدم أن من أعمر أرضا

(3/84)


ليست لأحد فهي له وهذا الحديث يبين نوعا من أنواع العمارة ولا بد من تقييد الأرض بأنه لا حق فيها لأحد كما سلف
6- وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا" بفتح العين المهملة وفتح الطاء فنون في القاموس العطن محركة وطن الإبل ومبركها حول الحوض "لماشيته" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف لأن فيه إسماعيل بن سلم وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد حريم البئر البدىء خمسة وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن المسيب عنه وأعله بالإرسال وقال من أسنده فقد وهم وفي سنده محمد بن يوسف المقري شيخ شيخ الدارقطني وهو متهم بالوضع ورواه البيهقي من طريق يونس عن الزهري عن ابن المسيب مرسلا وزاد فيه وحريم بئر الزرع ثلا ثمائة ذراع من نواحيها كلها وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس ضعيف والحديث دليل على ثبوت الحريم للبئر والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيي والمحتفر لإضراره وفي النهاية سمي بالحريم لأنه يحرم منع صاحبه منه ولأنه يحرم على غيره التصرف فيه والحديث نص في حريم البئر وظاهر حديث عبد الله أن العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله لاجتماعها على الماء وحديث أبي هريرة دال على أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها بقرب الإحياء منها ولذلك اختلف الحال والعادي والجمع بين الحديثين أنه ينظر ما يحتاج إليه إما لأجل السقي للماشية أو لأجل البئر وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادي والشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر الإسلامية أربعون وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون وأما العيون فذهب الهادي إلى أن حريم العين الكبيرة الفوارة خمسمائة ذراع من كل جانب استحسانا وقيل وكأنه نظر إلى أرض رخوة تحتاج إلى ذلك القدر وأما الأرض الصلبة فدون ذلك والدار المنفردة حريمها فناؤها وهو مقدار طول جدار الدار وقيل ما تصل إليه الحجارة إذا انهدمت وإلى هذا ذهب زيد بن علي وغيره وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه وقيل مثل نصفه من كل جانب وقيل بل بقدر أرض النهر جميعا وحريم الأرض ما تحتاج إليه وقت عملها وإلقاء كسحها وكذا المسيل حريمه مثل البئر على الخلاف وكل هذه الأقوال قياس على البئر بجامع الحاجة وهذا في الأرض المباحة وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك بل كل يعمل في ملكه ما
7- وعن علقمة بن وائل عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضرموت" رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان وصححه أيضا الترمذي والبيهقي ومعناه أنه خصه

(3/85)


ببعض الأرض الموات فيختص بها ويصير أولى بها بإحيائه ممن لم يسبق إليها بالإحياء واختصاص الإحياء بالموات متفق عليه في كلام الشافعية والهادوية وغيرهم وحكى القاضي عياض أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك قال وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره وإما بأن يجعل له غلتها مدة قال والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره وتخريجه على طريقة فقهية مشكل والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة بذلك انتهى وبه جزم المحب الطبري وادعى الأوزاعي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلة أرض إذا كان مستحقا لذلك قال ابن التين إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار وإنما يقطع من الفيء ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد قال وقد يكون الإقطاع تمليكا وغير تمليك وأما ما يقطع في أرض اليمن في هذه الأزمنة المتأخرة من إقطاع جماعة من أعيان الآل قرى من البلاد العشرية يأخذون زكاتها وينفقونها على أنفسهم مع غناهم فهذا شيء محرم لم تأت به الشريعة المحمدية بل أتت بخلافه وهو تحريم الزكاة على آل محمد وتحريمها على الأغنياء من الأمة فإنا لله وإنا إليه راجعون
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر" بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء "فرسه" أي ارتفاع الفرس في عدوه "فأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال أعطوه حيث بلغ السوط" رواه أبو داود وفيه ضعف لأن فيه العمري المكبر وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وفيه مقال وأخرجه أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر وفيه أن الإقطاع كان من أموال بني النضير قال في البحر وللإمام إقطاع الموات لإقطاع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه ولفعل أبي بكر وعمر
9- وعن رجل من الصحابة قال غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول "الناس شركاء في ثلاثة في الكلإ" مهموز ومقصور( والماء والنار رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا "ثلاث لا يمنعن الكلأ والماء والنار" وإسناده صحيح وفي الباب روايات كثيرة لا تخلو من مقال ولكن الكل ينهض على الحجية ويدل للماء بخصوصه أحاديث في مسلم وغيره والكلأ النبات رطبا كان أو يابسا وأما الحشيش والهشيم فمختص باليابس وأما الخلا مقصور فيختص بالرطب ومثله العشب والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد الثلاثة وهو إجماع في الكلأ في الأرض المباحة والجبال التي لم يحرزها أحد فإنه لا يمنع من أخذ كلئها أحد إلا ما حماه الإمام كما سلف وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة

(3/86)


ففيه خلاف بين العلماء فعند الهادوية وغيرها أن ذلك مباح أيضا وعموم الحديث دليل لهم وأما النار فاختلف في المراد بها فقيل أريد بها الحطب الذي يحطبه الناس وقيل أريد بها الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها وقيل الحجارة التي تورى منها النار إذا كانت في موات والأقرب أنه أريد بها النار حقيقة فإن كانت من حطب مملوك فقيل حكمها حكم أصلها وقيل يحتمل أنه يأتي فيها الخلاف الذي في الماء وذلك لعموم الحاجة وتسامح الناس في ذلك وأما الماء فقد تقدم الكلام فيه وأنه يحرم منع المياه المجتمعة من الأمطار في أرض مباحة وأنه ليس أحد أحق بها من أحد إلا لقرب أرضه منها ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن صاحب الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته ويجب بذله لما فضل من ذلك فلو كان في أرضه أو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع به على غيره وللغير دخول أرضه كما سلف فإن قيل فهل يجوز بيع العين والبئر نفسهما قيل يجوز بيع العين والبئر لأن النهي وارد عن بيع فضل الماء لا البئر والعيون في قرارهما فلا نهي عن بيعهما والمشتري لهما أحق بمائهما بقدر كفايته وقد ثبت شراء عثمان لبئر رومة من اليهودي بأمره صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين فإن قيل إذا كان الماء لا يملك فكيف تحجر اليهودي البئر حتى باعها من عثمان قيل هذا كان في أول الإسلام حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل تقرر الأحكام على اليهودي والنبي صلى الله عليه وسلم أبقاهم أول الأمر على ما كانوا عليه وقررهم على ما تحت أيديهم

(3/87)


باب الوقف
الوقف لغة الحبس يقال وقفت كذا أي حبسته وهو شرعا حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فتكون التصرف في رقبته على مصرف مباح
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم ذكره في باب الوقف العلماء الصدقة الجارية بالوقف وكان أول وقف في الإسلام وقف عمر رضي الله عنه الآتي حديثه كما أخرجه ابن أبي شيبة أن أول حبس في الإسلام صدقة عمر قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل الفقه خلافا في جواز وقف الأرضين وأشار الشافعي أنه من خصائص الإسلام لا يعلم في الجاهلية وألفاظه وقفت وحبست وسبلت وأبدت فهذه صرائح ألفاظه وكنايته تصدقت واختلف في حرمت فقيل صريح وقيل غير صريح وقوله "أو علم ينتفع به" المراد النفع الأخروي فيخرج ما لا نفع فيه كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها ويدخل فيه من ألف علما نافعا أو نشره فبقي من يرويه عنه وينتفع به أو كتب علما نافعا ولو بالأجرة مع النية أو وقف كتبا ولفظ الولد

(3/87)


شامل للأنثى والذكر وشرط صلاحه ليكون الدعاء مجابا والحديث دليل على أنه ينقطع أجر كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة فإنه يجري أجرها بعد الموت ويتجدد ثوابها قال العلماء لأن ذلك كسبه وفيه دليل على أن دعاء الولد لأبويه بعد الموت يلحقهما وكذلك غير الدعاء من الصدقة وقضاء الدين وغيرهما.
واعلم أنه قد زيد على هذه ثلاثة ما أخرجه ابن ماجه بلفظ إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما نشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ووردت خصال أخر تبلغ عشرا ونظمها الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى قال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل ... وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر ... وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوى ... إليه أو بناء محل ذكر
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أصاب عمر أرضا بخيبر في رواية النسائي أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فقال صلى الله عليه وسلم "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال فتصدق بها عمر وأنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب فتصدق بها على الفقراء و في القربى" أي ذوي قربى عمر "وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول مالا" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي رواية للبخاري تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره أفادت رواية البخاري أن كونه لا يباع ولا يوهب من كلامه صلى الله عليه وسلم وأن هذا شأن الوقف وهو يدفع قول أبي حنيفة بجواز بيع الوقوف قال أبو يوسف إنه لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف قال القرطبي رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه وقوله "أن يأكل منها من وليها بالمعروف" قال القرطبي جرت العادة أن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن لا يأكل منه لاستقبح ذلك منه والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة وقيل القدر الذي يدفع الشهوة وقيل المراد أن يأخذ منه بقدر عمله والأول أولى وقوله غير متمول أي غير متخذ منها مالا أي ملكا والمراد لا يتملك شيئا من رقابها ولا يأخذ من غلتها ما يشتري بدله ملكا بل ليس له إلا ما ينفقه وزاد أحمد في روايته أن عمر أوصى بها إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر ونحوه عند الدارقطني
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر

(3/88)


على الصدقة الحديث وفيه "وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" متفق عليه تقدم تفسير الأعتاد والحديث دليل على صحة وقف العين عن الزكاة وأنه يأخذ بزكاته آلات للحرب للجهاد في سبيل الله وعلى أنه يصح وقف العروض وقال أبو حنيفة لا يصح لأن العروض تبذل وتغير والوقف موضوع على التأبيد والحديث حجة عليه ودل على صحة وقف الحيوان لأنها قد فسرت الأعتاد بالخيل وعلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما ذكر بأن القصة محتملة لما ذكر ولغيره فلا ينتهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر قال ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادا وعدم تصرف ولا يكون وقفا

(3/89)


باب الهبة والعمرى والرقبى
الهبة بكسر الهاء مصدر وهبت وهي شرعا تمليك عين بعقد على غير عوض معلوم في الحياة ويطلق على الشيء الموهوب ويطلق على أعم من ذلك
1- عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا" فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارجعه" وفي لفظ" فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال: " أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا قال :"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فرجع أبي فرد تلك الصدقة" متفق عليه وفي رواية لمسلم قال: "فأشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟" قال بلى قال: "فلا إذن" الحديث دليل على وجوب المساواة بين الأولاد في الهبة وقد صرح به البخاري وهو قول أحمد وإسحاق والثوري وآخرين وأنها باطلة مع عدم المساواة وهو الذي تفيده ألفاظ الحديث من أمره صلى الله عليه وسلم بإرجاعه ومن قوله "اتقوا الله وقوله اعدلوا بين أولادكم" وقوله فلا إذن وقوله لا أشهد على جور واختلف في كيفية التسوية فقيل بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر قوله في بعض ألفاظه عند النسائي ألا سويت بينهم وعند ابن حبان سووا بينهم ولحديث ابن عباس سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي بإسناد حسن وقيل بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث وذهب الجمهور إلى أنها لا تجب التسوية بل تندب وأطالوا في الاعتذار عن الحديث وذكر في الشرح عشرة

(3/89)


أعذار كلها غير ناهضة وقد كتبنا في ذلك رسالة جواب سؤال أوضحنا فيها قوة القول بوجوب التسوية وأن الهبة مع عدمها باطلة
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" متفق عليه وفي رواية للبخاري "ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه" فيه دلالة على تحريم الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء وبوب له البخاري باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته وقد استثنى الجمهور ما يأتي من الهبة للولد ونحوه وذهبت الهادوية و أبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم قالوا والحديث المراد به التغليظ في الكراهة قال الطحاوي قوله كالعائد في قيئه التحريم لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهو قوله "كالكلب" تدل على عدم التحريم لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه ولا يفهم من المقام إلا التحريم والتأويل البعيد لا يلتفت إليه ويدل على التحريم الحديث الآتي وهو
3- وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم فإن قوله لا يحل ظاهر في التحريم والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره وقوله إلا الوالد دليل على أنه يجوز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه كبيرا كان أو صغيرا واختصه الهادوية بالطفل وهو خلاف ظاهر الحديث وفرق بعض العلماء فقال يحل الرجوع في الهبة دون الصدقة لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة وهو فرق غير مؤثر في الحكم وحكم الأم حكم الأب عند أكثر العلماء نعم وخص الهادي ما وهبته الزوجة لزوجها من صداقها بأنه ليس لها الرجوع في ذلك ومثله رواه البخاري عن النخعي وعمر بن عبد العزيز تعليقا وقال الزهري يرد إليها إن كان خدعها وأخرج عبد الرزاق بسند منقطع إن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت
4- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها" رواه البخاري فيه دلالة أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت جارية بقبول الهدية والمكافأة عليها وفي رواية لابن أبي شيبة "ويثيب عليها ما هو خير منها" وقد استدل به على وجوب الإثابة على الهدية إذ كونه عادة له صلى الله عليه وسلم مستمرة يقتضي لزومه ولا يتم به الاستدلال على الوجوب لأنه قد يقال إنما فعله صلى الله عليه وسلم مستمرا

(3/90)


لما جبل عليه من مكارم الأخلاق لا لوجوبه وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب المكافأة بحسب العرف قالوا لأن الأصل في الأعيان الأعواض قال في البحر ويجب تعويضها حسب العرف وقال الإمام يحيى المثلي مثله والقيمي قيمته ويجب له الإيصاء بها وقال الشافعي في الجديد الهبة للثواب باطلة لاتنعقد لأنها بيع بثمن مجهول ولأن موضع الهبة التبرع فلو أوجبناه لكان في معنى المعاوضة وقد فرق الشرع والعرف بين الهبة والبيع فما يستحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة قيل وكأن من أجازها للثواب جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها وقال بعض المالكية يجب الثواب على الهبة إذا أطلق الواهب أو كان مما يطلب مثله الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى فإذا لم يرض الواهب بالثواب فقيل تلزم الهبة إذا أعطاه الموهوب له القيمة وقيل لا تلزم إلا أن يرضيه والأول المشهور عن مالك رحمه الله ويرده الحديث الآتي وهو:
5- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها فقال: "رضيت؟" قال لا فزاده فقال:" رضيت؟" قال لا فزاده فقال "رضيت؟" قال نعم رواه أحمد وصححه ابن حبان) ورواه الترمذي وبين أن العوض كان ست بكرات وفيه دليل على اشتراط رضا الواهب وأنه إن سلم إليه قدر ما وهب ولم يرض زيد له وهو دليل لأحد القولين الماضيين وهو قول ابن عمر قالوا فإذا اشترط فيه الرضا فليس هناك بيع انعقد
6- (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العمرى" بضم المهملة وسكون الميم وألف مقصورة " لمن وهبت له" متفق عليه ولمسلم أي من حديث جابر "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه" وفي لفظ "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها" ولأبي داود والنسائي أي من حديث جابر "لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئا أو أعمر شيئا فهو لورثته" الأصل في العمرى والرقبى أنه كان في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عمرى لذلك كما أنه قيل لها رقبى لأن كلا منهما يرقب موت الآخر وجاءت الشريعة بتقرير ذلك ففي الحديث دلالة على شرعيتها وأنها مملكة لمن وهب له وإليه ذهب العلماء كافة إلا رواية عن داود أنها لا تصح واختلف إلى ماذا يتوجه التمليك فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كغيرها من الهبات وعند الشافعي ومالك إلى المنفعة دون الرقبة وتكون على ثلاثة أقسام مؤبدة إن قال أبدا ومطلقة عند عدم التقييد ومقيدة بأن يقول ما عشت فإذا مت رجعت إلي

(3/91)


واختلف العلماء في ذلك والأصح أنها صحيحة في جميع الأحوال وأن الموهوب له يملكها ملكا تاما يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات وذلك لتصريح الأحاديث بأنها لمن أعمرها حيا وميتا وأما قوله فإذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها فلأنها بهذا القيد قد شرط أن تعود إلى الواهب بعد موته فيكون لها حكم ما إذا صرح بذلك الشرط وهي كما لو أعمره شهرا أو سنة فإنها عارية إجماعا وقوله "أمسكوا أموالكم" وقوله "لا ترقبوا" محمول على الكراهة والإرشاد لهم إلى حفظ أموالهم لأنهم كانوا يعمرون ويرقبون ويرجع إليهم إذا مات من أعمروه وأرقبوه فجاء الشرع بمراغمتهم وصحح العقد وأبطل الشرط المضاد لذلك فإنه أشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه وأخرج النسائي من حديث ابن عباس يرفعه العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه وأما إذا صرح بالشرط كما في الحديث وقال ما عشت فإنها عارية مؤقتة لا هبة ومر حديث العائد في هبته كالعائد في قيئه ومثله الحديث الآتي وهو
7- وعن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم" الحديث متفق عليه تمامه "فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" وقوله فأضاعه أي قصر في مؤنته وحسن القيام به وقوله لا تبتعه أي لا تشتره وفي لفظ ولا تعد في صدقتك فسمى الشراء عودا في الصدقة قيل لأن العادة جرت بالمسامحة في ذلك من البائع للمشتري فأطلق على القدر الذي يقع به التسامح رجوعا ويحتمل أنه مبالغة وأن عودها إليه بالقيمة كالرجوع وظاهر النهي التحريم وإليه ذهب قوم وقال الجمهور إنه للتنزيه وتقدم أن الرجوع في الهبة محرم وأنه الأقوى دليلا إلا ما استثني قال الطبري يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب وما إذا كان الواهب الوالد لولده والهبة التي لم تقبض والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء ذلك ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة قلت هذا في الرجوع في الهبة فأما شراؤها وهو الذي فيه سياق هذا الحديث فالظاهر أن النهي للتنزيه وإنما التحريم في الرجوع فيها ويحتمل أنه لا فرق بينهما للنهي وأصله التحريم
8- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تهادوا تحابوا" رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن وأخرجه البيهقي وغيره وفي كل رواته مقال والمصنف قد حسن إسناده وكأنه لشواهده التي منها الحديث وإن كان ضعيفا وهو قوله
9- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة" بالسين المهملة مفتوحة فخاء معجمة فمثناة تحتية في القاموس السخيمة والسخيمة بالضم الحقد رواه البزار بإسناد ضعيف لأن في روايته من ضعف وله طرق كلها لا تخلو عن مقال وفي بعض ألفاظه تذهب وحر الصدر

(3/92)


بفتح الواو والحاء المهملة وهو الحقد أيضا والأحاديث وإن لم تخل عن مقال فإن للهدية في القلوب موقعا لا يخفى
10- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات" قال القاضي الأشهر نصب النساء على أنه منادى مضاف إلى المسلمات من إضافة الصفة وقيل غير هذا "لا تحقرن" بالحاء المهملة ساكنة وفتح القاف وكسرها "جارة لجارتها ولو فرسن شاة" بكسر الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة آخره نون وهو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة وربما استعير للشاة متفق عليه في الحديث حذف تقديره لا تحقرن جارة لجارتها هدية ولو فرسن شاة والمراد من ذكره المبالغة في الحث على هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه وظاهره النهي للمهدي اسم فاعل عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الإهداء ويحتمل أنه للمهدى إليه والمراد لا يحقرن ما أهدى إليه ولو كان حقيرا ويحتمل إرادة الجمع وفيه الحث على التهادي سيما بين الجيران ولو بالشيء الحقير لما فيه من جلب المحبة والتأنيس
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها" رواه الحاكم وصححه والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله قال المصنف صححه الحاكم وابن حزم وفيه دليل على جواز الرجوع في الهبة التي لم يثب عليها وعدم جواز الرجوع في الهبة التي أثاب عليها الموهوب له الواهب وتقدم الكلام في ذلك وفي حكم الهبة للثواب والمكافأة وما أحسن ما قيل في ذلك إن الفاعل لا يفعل إلا لغرض فالهبة للأدنى كثيرا ما تكون كالصدقة وهي غرض معهم وللمساوي معاشرة لجلب المودة وحسن العشرة وهي مثل عطية الأدنى إلا أن في عطية الأدنى توهم الصدقة والعرف جار بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي والمهدى إليه فإذا كان الغرض الطمع والتحصيل كما يهدي المتكسب للملك يتحفه بشيء يرجو فضله فلو اقتصر الملك على قدر قيمتها لذم والذم دليل الرجوع بل إما أن يردها أو يعطيه خيرا منها وإن كان غرض المهدي تحصيل الاتصال بينهما والمخالقة الحسنة وتصفية ذات البين أجزأه من المكافأة أدنى شيء قل أو كثر بل الأقل أنسب لإشعاره بأن ليس الغرض المعاوضة بل تكميل المودة وأنه لا فرق بين ما تملكه أنت وما أملكه أنا

(3/93)


باب اللقطة
اللقطة بضم اللام وفتح القاف قيل لا يجوز غيره وقال الخليل القاف ساكنة لاغير وأما بفتحها فهو اللاقط قيل وهذا هو القياس إلا أنه أجمع أهل اللغة والحديث على الفتح ولذا قيل لا يجوز غيره
1 - عن أنس رضي الله عنه قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق

(3/93)


فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" متفق عليه دل على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به ولا يجب التعريف به وأن الآخذ يملكه بمجرد الأخذ له وظاهر الحديث أنه يجوز ذلك في الحقير وإن كان مالكه معروفا وقيل لا يجوز إلا إذا جهل وأما إذا علم فلا يجوز إلا بإذنه وإن كان يسيرا وقد أورد عليه أنه صلى الله عليه وسلم كيف تركها في الطريق مع أن على الإمام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة وصرفه في مصارفه ويجاب عنه بأنه لا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذها للحفظ وإنما ترك أكلها تورعا أو أنه تركها عمدا ليأخذها من يمر ممن تحل له الصدقة ولا يجب على الإمام إلا حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له لا ما جرت العادة بالإعراض عنه لحقارته وفيه حث على التورع عن أكل يجوز فيه أنه حرام
2- وعن زيد بن خالد الجهني هو أبو طلحة أو أبو عبد الرحمن نزل الكوفة ومات بها سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمسين و ثمانين سنة وروى عنه جماعة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم برهان على تعيين الرجل فسأله عن اللقطة أي عن حكمها شرعا فقال: "اعرف عفاصها" بكسر العين المهملة ففاء وبعد الألف صاد مهملة "وعاءها" ووقع في رواية خرقتها "ووكاءها" بكسر الواو ممدودا ما يربط به "ثم عرفها" بتشديد الراء "سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" قال فضالة الغنم؟ الضالة تقال على الحيوان وما ليس بحيوان يقال له لقطة قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" قال فضالة الإبل؟ قال: "ما لك ولها معها سقاؤها" أي جوفها وقيل عنقها "وحذاؤها" بكسر الحاء المهملة فذال معجمة أي خفها "ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" متفق عليه اختلف العلماء في الالتقاط هل هو أفضل أم الترك فقال أبو حنيفة الأفضل الإلتقاط لأن من الواجب على المسلم حفظ مال أخيه ومثله قال الشافعي وقال مالك وأحمد تركه أفضل لحديث ضالة المؤمن حرق النار ولما يخاف من وقال قوم بل الالتقاط واجب وتأولوا الحديث بأنه فيمن أراد أخذها للانتفاع بها من أول الأمر قبل تعريفه بها هذا وقد اشتمل الحديث على ثلاثة مسائل الأولى في حكم اللقطة وهي الضائعة التي ليست بحيوان فإن ذلك يقال له ضالة فقد أمر صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يعرف وعاءها وما تشد به وظاهر الأمر وجوب التعرف لما ذكر ووجوب التعريف ويزيد الأخير عليه دلالة قوله
3- وعنه أي عن زيد بن خالد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها" رواه مسلم فوصفه بالضلال إذا لم يعرف بها وقد اختلف في فائدة معرفتهما فقيل لترد للواصف لها وأنه يقبل قوله بعد إخباره بصفتها ويجب

(3/94)


ردها إليه كما دل له ما هنا وما في رواية البخاري فإن جاء أحد يخبرك بها وفي لفظ بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلى هذا ذهب أحمد ومالك واشترطت المالكية زيادة صفة الدنانير والعدد قالوا لورود ذلك في بعض الروايات وقالوا الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء فأما إذا عرف إحدى العلامتين المنصوص عليهما من العفاص والوكاء وجهل الأخرى فقيل لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا وقيل تدفع إليه بعد الإنظار مدة ثم اختلف هل تدفع إليه بعد وصفه لعفاصها ووكائها بغير يمينه أم لا بد من اليمين فقيل تدفع إليه بغير يمين لأنه ظاهر الأحاديث وقيل لا ترد إلا بالبينة وقال من أوجب البينة إن فائدة أمر الملتقط بمعرفتها لئلا يلتبس بماله لا لأجل ردها لمن وصفها فإنها لا ترد إليه إلا بالبينة قالوا وذلك لأنه مدع وكل مدع لا يسلم إليه ما ادعاه إلا بالبينة وهذا أصل مقرر شرعا لا يخرج عنه بمجرد وصف المدعى للعفاص والوكاء وأجيب بأن ظاهر الأحاديث وجوب الرد بمجرد الوصف فإنه قال صلى الله عليه وسلم "فأعطها إياه" وفي حديث الباب مقدر بعد قوله فإن جاء صاحبها أي فأعطه إياها وإنما حذف جواب الشرط للعلم به وحديث البينة على المدعي ليست البينة مقصورة على الشهادة بل هي عامة لكل ما يتبين به الحق ومنها وصف العفاص والوكاء على أنه قد قال من اشترط البينة إنها إذا ثبتت الزيادة وهي قوله فأعطها إياه كان العمل عليها والزيادة قد صحت كما حققه المصنف فيجب العمل بها ويجب الرد بالوصف وكما أوجب صلى الله عليه وسلم التعريف بها فقد حد وقته بسنة فأوجب التعريف بها سنة وأما ما بعدها فقيل لا يجب التعريف بها بعد السنة وقيل يجب والدليل مع الأول ودل على أنه يعرف بها سنة لاغير حقيرة كانت أو عظيمة عند التعريف يكون في مظان اجتماع الناس من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع الحافلة وقوله وإلا فشأنك بها نصب شأنك على الإغراء ويجوز رفعه على الابتداء وخبره بها وهو تفويض له في حفظها أو الانتفاع بها واستدل به على جواز تصرف الملتقط فيها أي تصرف إما بصرفها على نفسه غنيا كان أو فقيرا أو التصدق بها إلا أنه قد أورد من الأحاديث ما يقتضي أنه لا يتملكها فعند مسلم "ثم عرفها سنة فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك" وفي رواية "ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" ولذلك اختلف العلماء في حكمها بعد السنة قال في نهاية المجتهد إنه اتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي والشافعي على أنه يتملكها ومثله عن عمر وابنه وابن مسعود وقال أبو حنيفة ليس له إلا أن يتصدق بها ومثله يروى عن علي و ابن عباس وجماعة من التابعين وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر فقالوا تحل له بعد السنة وتصير مالا من ماله ولا يضمنها إن جاء صاحبها قلت ولا أدري ما يقولون في حديث مسلم ونحوه الدال على وجوب ضمانها وأقرب الأقوال

(3/95)


ما ذهب إليه الشافعي ومن معه لأنه أذن صلى الله عليه وسلم في استنفاقه لها ولم يأمره بالتصدق بها ثم أمره بعد الإذن في الاستنفاق أن يردها إلى صاحبها إن جاء يوما من الدهر وذلك تضمين لها المسألة الثانية في ضالة الغنم فقد اتفق العلماء على أن لواجد الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله صلى الله عليه وسلم "هي لك أو لأخيك أو للذئب" فإن معناه أنها معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أو أخوك والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر والمراد من الذئب جنس ما يأكل الشاة وفيه حث على أخذه إياها وهل يجب عليه ضمان قيمتها لصاحبها أو لا فقال الجمهور إنه يضمن قيمتها والمشهور عن مالك أنه لا يضمن واحتج بالتسوية بين الملتقط والذئب والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها والمسألة الثالثة في ضالة الإبل وقد حكم رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم بأنها لا تلتقط بل تترك ترعى الشجر وترد المياه حتى يأتي صاحبها قالوا وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أنها غنية غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشي فلا تحتاج إلى الملتقط بخلاف الغنم وقالت الحنفية وغيرها الأولى التقاطها قال العلماء والحكمة في النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس
4- وعن عياض بكسر المهملة آخره ضاد معجمة ابن حمار بلفظ الحيوان المعروف صحابي معروف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان تقدم الكلام في اللقطة والعفاص والوكاء وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي فقالوا يجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها وذهب الهادي ومالك وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الإشهاد قالوا لعدم ذكر الإشهاد في الأحاديث الصحيحة فيحمل هذا على الندب وقال الأولون هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها فيجب الإشهاد ولا ينافي ذلك عدم ذكره في غيره من الأحاديث والحق وجوب الإشهاد في قوله "فهو مال الله يؤتيه من يشاء" دليل للظاهرية في أنها تصير ملكا للملتقط ولا يضمنها وقد يجاب بأن هذا مقيد بما سلف من إيجاب الضمان وأما قوله صلى الله عليه وسلم "يؤتيه من يشاء" فالمراد أنه يحل انتفاعه بها بعد مرور سنة التعريف
5- وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي هو قرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله صحابي وقيل إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية وأسلم يوم الحديبية

(3/96)


وقيل يوم الفتح وقتل مع ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج رواه مسلم أي عن التقاط الرجل ما ضاع للحاج والمراد ما ضاع في مكة لما تقدم من حديث أبي هريرة "أنها لا تحل لقطتها إلا لمنشد" وتقدم أنه حمله الجمهور على أنه نهي عن التقاطهما للتملك لا للتعريف بها فإنه يحل قالوا وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك لإمكان إيصالها إلى أربابها لأنها إن كانت لمكي فظاهر وإن كانت لآفاقي فلا يخلو أفق في الغالب من رواد منه إليها فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها قاله ابن بطال وقال جماعة هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها والظاهر القول الأول وأن حديث النهي هذا مقيد بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلا لمنشد فالذي اختصت به لقطة مكة بأنها لا تلتقط إلا للتعريف بها أبدا فلا تجوز للتملك ويحتمل أن هذا الحديث في لقطة الحاج مطلقا في مكة وغيرها لأنه هنا مطلق ولا دليل على تقييده بكونها في مكة
6- عن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها" رواه أبو داود يأتي الكلام على تحريم ما ذكر في باب الأطعمة وذكر الحديث هنا لقوله "ولا اللقطة من مال معاهد" فدل على أن اللقطة من ماله كاللقطة من مال المسلم وهذا محمول على التقاطها من محل غالب أهله أو كلهم ذميون وإلا فاللقطة لا تعاف من مال أي إنسان عند التقاطها وقوله "إلا أن يستغني عنها" مؤول الفراشير كما سلف في التمرة ونحوها أو بعدم معرفة صاحبها بعد التعريف بها كما سلف أيضا وعبر عنه بالاستغناء لأنه سبب عدم المعرفة في الأغلب فإنه لو لم يستغن عنها لبالغ في طلبها أو نحو ذلك
فائدة قال النووي في شرح المهذب اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية فقال الجمهور لا يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور وقال بعض السلف لا يلزمه شيء وقال أحمد إذا لم يكن للبستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث قال البيهقي يعني حديث ابن عمر مرفوعا "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة" أخرجه الترمذي واستغربه قال البيهقي لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية قال المصنف والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها وقد بينت ذلك في كتابي المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة اه وفي المسئلة خلاف وأقاويل كثيرة قد نقلها الشارع عن المذهب ولم يتلخص البحث لتعارض

(3/97)


الأحاديث في الإباحة والنهي فلم يقو نقل أحاديث الإباحة على نقل الأصل وهو حرمة مال الآدمي وأحاديث النهي أكدت ذلك الأصل

(3/98)


باب الفرائض
الفرائض جمع فريضة وهي فعلية بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وهوالقطع وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي مقدارا معلوما وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على تعلم الفرائض وورد أنه أول علم يرفع
1- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهله" ا والمراد بها الست المنصوص عليها وهو أهلها في القرآن "فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" اختلف في فائدة وصف الرجل بالذكر والأقرب أنه تأكيد ونقل في الشرح كلاما كثيرا وفائدته قليلة متفق عليه والفرائض المنصوصة في القرآن ست النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد من أهلها من يستحقها بنص كتاب الله قال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفرائض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا ولم يقصد من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة وقال غيره المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سلفوا ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علوا وتفاصيل العصبات وسائر أهل الفرائض مستوفى في كتب الفرائض والحديث مبني على وجود عصبة من الرجال فإذا لم توجد عصبة من الرجال أعطي بقية الميراث من لا فرض له من النساء كما يأتي في بنت وبنت ابن وأخت
2- وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم" متفق عليه المسلم في صدر الحديث فاعل والكافر مفعول وفي آخره بالعكس وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير وروي خلافه عن معاذ و معاوية و مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق وذهب إليه الإمامية والناصر قالوا إنه يرث المسلم من الكافر من غير عكس واحتج معاذ بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "الإسلام يزيد ولا ينقص" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وقد أخرج مسدد

(3/98)


أنه اختصم إلى معاذ أخوان مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ميراثه فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن مغفل قال ما رأيت قضاء أحسن من قضاء معاوية نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا كما يحل لنا النكاح منهم ولا يحل لهم منا وأجاب الجمهور بأن الحديث المتفق عليه نص في منع التوريث وحديث معاذ ليس فيه دلالة على خصوصية الميراث إنما فيه الإخبار بأن دين الإسلام يفضل غيره من سائر الأديان ولا يزال يزداد ولا ينقص
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه في بنت وبنت ابن وأخت قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقى فللأخت رواه البخاري فيه دلالة على أن الأخت مع البنت وبنت الإبن عصبة تعطى بقية الميراث وهو مجموع على أن الأخوات مع البنات عصبة وقد كان أفتى أبو موسى أن للأخت النصف ثم أمر السائل أن يسأل ابن مسعود فقضى ابن مسعود بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ضبط أئمة اللغة الحبر بكسر الحاء وفتحها ورواية المحدثين جميعا له بفتحها قال أبو عبيد هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وقيل سمي حبرا لما يبقى من أثر علومه زاد الراغب في قلوب الناس ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها
4- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين" رواه أحمد والأربعة والترمذي وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ والحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين بالكفر أو بالإسلام والكفر وذهب الجمهور إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام فيكون كحديث "لا يرث المسلم الكافر" الحديث قالوا وأما توريث ملل الكفر بعضهم من بعض فإنه ثابت ولم يقل بعموم الحديث للملل كلها إلا الأوزاعي فإنه قال لا يرث اليهودي من النصراني ولا عكسه وكذلك سائر الملل والظاهر من الحديث مع الأوزاعي وهو مذهب الهادوية والحديث مخصص للقرآن في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فإنه عام في الأولاد فيخص منه الولد الكافر بأن لا يرث من أبيه المسلم والقرآن يخص بأخبار الآحاد كما عرف في الأصول
5- وعن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: "لك السدس" فلما ولى دعاه فقال: "لك سدس آخر" فلما ولى دعاه فقال: "إن السدس الآخر طعمة" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وهو من رواية الحسن البصري عن عمران وفي سماعه خلاف قال قتادة لا أدري مع أي شيء ورثه وقال أقل شيء ورث الجد السدس وصورة هذه المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل وهو الجد فللبنتين الثلثان وبقي ثلث فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السائل السدس بالفرض لأنه فرض الجد هنا ولم يدفع إليه السدس

(3/99)


الآخر لئلا يظن أن فرضه الثلث وتركه حتى ولي أي ذهب فدعاه فقال "لك سدس آخر" وهو بقية التركة فلما ذهب دعاه فقال "إن الآخر" بكسر الخاء "طعمة" أي زيادة على الفريضة والمراد من ذلك إعلامه بأنه زائد على الفرض الذي له فله سدس فرضا والباقي تعصيبا
6- وعن ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه هو بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي فيه عبد الله العتكي مختلف فيه وثقه أبو حاتم والحديث دليل على أن ميراث الجدة السدس سواء كانت أم أم أو أم أب ويشترك فيه الجدتان فأكثر إذا استوين فإن اختلفن سقطت البعدى من الجهتين بالقربى ولا يسقطهن إلا الأم والأب كل منهما يسقط من كان من جهته
7- وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له " أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي وحسنه أبو زرعة الرازي وصححه والحاكم ابن حبان فيه دليل على توريث الخال عند عدم من يرث من العصبة وذوي السهام والخال من ذوي الأرحام وقد اختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام فذهبت طائفة كثيرة من علماء الآل وغيرهم إلى توريثهم فمن خلف عمته وخالته ولا وارث له سواهما كان للعمة الثلثان وللخالة الثلث واستدلوا بهذا الحديث وبقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وخالفت طائفة من الأئمة وقالوا لا يثبت لذوي الأرحام ميراث لأن الفرائض لا تثبت إلا بكتاب الله أو سنة صحيحة أو إجماع والكل مفقود هنا وأجابوا عن حديث الباب أنه نص في الخال لا في غيره والآية مجملة ومسمى أولى الأرحام فيها غير مسماه في عرف الفقهاء وقد وردت أحاديث بأنه لا ميراث للعمة والخالة وإن كان فيها مقال لكنها معتضدة بأن الأصل عدم الميراث حتى يقوم الدليل الناهض مما ذكرناه والقائلون بأنه لا ميراث لذوي الأرحام يقولون يكون مال من لا وارث له لبيت المال إذا كان منتظما وهو إذا كان في يد إمام عادل يصرفه في مصارفه أو كان في البلد قاض قائم بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه فيها وتفاصيل بقية مواريث ذوي الأرحام على القول به مستوفى في كتب هذا الفن فلا نطول بها
8- وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له" رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان الحديث يرد قول من قال إن المراد بالخال في حديث المقدام السلطان ولو كان كذلك لقال أنا وارث من لا وارث له وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حبان "أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه" فالجمع بينه وبين حديث المقدام وحديث أبي أمامة الدالين على ثبوت

(3/100)


ميراث الخال حيث لا وارث له أنه أراد به أنه صلى الله عليه وسلم وارث من لا وارث له في جميع الجهات من العصبات وذوي السهام والخال والمراد من إرثه صلى الله عليه وسلم أنه يصير المال لمصالح المسلمين وأنه لا يكون المال لبيت المال إلا عند عدم جميع من ذكر من الخال وغيره
9- وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل المولود ورث" رواه أبو داود وصححه ابن حبان والاستهلال روي في تفسيره حديث مرفوع ضعيف الاستهلال العطاس أخرجه البزار وقال ابن الأثير: استهل المولود إذا بكى عند ولادته وهو كناية عن ولادته حيا وإن لم يستهل بل وجدت منه أمارة تدل على حياته والحديث دليل على أنه إذا استهل السقط ثبت له حكم غيره في أنه يرث ويقاس عليه سائر الأحكام من الغسل والتكفين والصلاة عليه ويلزم من قتله القود أو الدية واختلفوا هل يكفي في الإخبار باستهلاله عدلة أو لا بد من عدلين أو أربع الأول للهادوية والثاني للهادي والثالث للشافعي وهذا الخلاف يجري في كل ما يتعلق بعورات النساء وأفاد مفهوم الحديث أنه إذا لم يستهل لا يحكم بحياته فلا يثبت له شيء من الأحكام التي ذكرنا
10- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي والدارقطني وقواه ابن عبد البر وأعله النسائي والصواب وقفه على عمرو والحديث له شواهد كثيرة لا تقصر عن العمل بمجموعها وإلى ما أفاده من عدم إرث القاتل عمدا كان أو خطأ ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء قالوا لا يرث من الدية ولا من المال وذهبت الهادوية و مالك إلى أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية ولا يتم لهم دليل ناهض على هذه التفرقة بل أخرج البيهقي عن خلاس أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها فقال له إخوته لا حق لك فارتفعوا إلى علي عليه السلام فقال له علي عليه السلام حقك من ميراثها الحجر فأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا وأخرج أيضا عن جابر بن زيد قال أيما رجل قتل رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ ممن يرث فلا ميراث له منهما وأيما امرأة قتلت رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث لها منهما وإن كان القتل عمدا فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله قضى بذلك عمر بن الخطاب و علي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين
11- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان" رواه أبو داود والنسائي

(3/101)


وابن ماجه وصححه ابن المديني وابن عبد البر المراد بإحراز الولد أو الوالد أن ما صار مستحقا لهما من الحقوق فإنه يكون للعصبة ميراثا والحديث فيه قصة ولفظه في السنن أن رئاب بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة فماتت أمهم فورثوها رباعها وولاء مواليها وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك مالا فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب فقال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحرز" الحديث قال فكتب له كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر والحديث دليل على أن الولاء لا يورث وفيه خلاف وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا أعتق رجل عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا أو أحد الأخوين وترك ابنا فعلى القول بالتوريث ميراثه بين الابن وابن الابن أو الأخ وابن الأخ وعلى القول بعدمه يكون للابن وحده
12- وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" رواه الحاكم من طريق الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف وصححه ابن حبان وأعله البيهقي وللعلماء كلام كثير في طرق الحديث وصحته وعدمها وقد تقدم في كتاب البيع ودل على أن الولاء لا يكتسب ببيع ولا هبة و يقاس عليهما سائر التمليكات من النذر والوصية لأنه قد جعله كالنسب والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض
13- وعن أبي قلابة بكسر القاف وتخفيف اللام بعد ألفه موحدة تابعي جليل عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد بن ثابت" أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وأعل بالإرسال بأن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس وإن كان سماعه لغيره من الأحاديث عن أنس ثابتا وهذا الذي ذكر قطعة من الحديث فإنه حديث طويل فيه ذكر سبعة من الصحابة يختص كل منهم بخصلة خير فذكر المصنف منه ما له تعلق بباب الفرائض لأنه شهادة لزيد بن ثابت بأنه أعلم المخاطبين بالمواريث فيؤخذ منه أنه يرجع إليه عند الاختلاف واعتمده الشافعي في الفرائض ورجحه على غيره

(3/102)


باب الوصايا
الوصايا جمع وصية كهدايا وهدية وهي شرعا عهد خاص يضاف إلى ما بعد الموت

(3/102)


1- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرىء مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" متفق عليه كلمة ما نافية بمعنى ليس وحق أسمها وخبرها ما بعد إلا والواو زائدة في الخبر لوقوع الفصل بإلا قال الشافعي معناه ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك وقال غيره الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعا على ما يثبت به الحكم والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا ويطلق على المباح بقلة فإن اقترن به على ونحوه كان ظاهرا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال وفي قوله يريد أن يوصي ما يدل على أن الوصية ليست بواجبة عليه وإنما ذلك عند إرادته وقد أجمع المسلمون على الأمر بها وإنما اختلفوا هل هي واجبة أم لا فذهب الجماهير إلى أنها مندوبة وذهب داود وأهل الظاهر إلى وجوبها وحكي عن الشافعي في القديم وادعى ابن عبد البر الإجماع على عدم وجوبها مستدلا من حيث المعنى بأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية والأقرب ما ذهب إليه الهادوية وأبو ثور من وجوبها على من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله تعالى أو لآدمي ومحل الوجوب فيمن عليه حق ومعه مال ولم يمكنه تخليصه إلا إذا أوصى به وما انتفى فيه واحد من ذلك فلا وجوب وقوله "ليلتين" للتقريب لا للتحديد وإلا فقد روي ثلاث ليال وقال الطيبي في تخصيص الليلتين والثلاث تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمانا وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي أن يتجاوز ذلك وروى مسلم عن ابن عمر راوي الحديث أنه قال ولم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي وأما ما أخرجه ابن المنذر بسند صحيح عن نافع أنه قيل لابن عمر في مرض موته ألا توصي قال أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه فيجمع بينه وبين ما قبله بأنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها وينجز ما كان يوصي به حتى وفد عليه الموت ولم يكن له شيء يوصي به وفي قوله أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه ما يدل لهذا الجمع واستدل بقوله "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط وإن لم يقترن بشهادة وقال بعض أئمة الشافعية إن ذلك خاص بالوصية وأنه يجوز الاعتماد على الخط فيها من دون شهادة لثبوت الخبر فيها ولأن الوصية لما أمر الشارع بها وهي تكون مما يلزم من حقوق ولوازم كان حقها أن تجدد في الأوقات واستصحاب الإشهاد في كل لازم يريد أن يتخلص منه خشية مفاجأة الأجل متعسر بل متعذر في بعض الأوقات فيلزم منه عدم وجوب الوصية أو شرعيتها بالكتاب من دون شهادة إذ لا فائدة في ذلك وقد ثبت الأمر المذكور في الحديث بها فدل على قبولها من غير شهادة وقال الجماهير المراد مكتوبة بشرطها وهو الشهادة واستدلوا بقوله تعالى

(3/103)


{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} إنه دال على اعتبار الإشهاد في الوصية وأجيب بأنه لا يلزم من ذكر الإشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به والتحقيق أن المعتبر معرفة الخط فإذا عرف خط الموصي عمل به ومثله خط الحاكم وعليه عمل الناس قديما وحديثا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الكتب يدعو فيها العباد إلى الله وتقوم عليهم الحجة بذلك ولم يزل الناس يكتب بعضهم إلى بعض في المهمات من الدينيات والدنيويات ويعملون بها وعليه العمل بالوجادة كل ذلك من دون إشهاد والحديث دليل على الإيصاء بشيء يتعلق الفراشوق ونحوها لقوله "له شيء يريد أن يوصي" وأما كتب الشهادتين ونحوهما مما جرت به عادة الناس فلا يعرف فيه حديث مرفوع وإنما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس موقوفا قال كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وضمير كانوا عائد إلى الصحابة إذ المخبر صحابي واختلف العلماء هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يوص لاختلاف الروايات في ذلك ففي البخاري عن ابن أبي أوفى أنه لم يوص قالوا لأنه لم يترك مالا وأما الأرض قد كان سبلها وأما السلاح والبغلة فقد كان أخبر أنها لا تورث كذا ذكره النووي وفي المغازي لابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص عند موته إلا بثلاث لكل من الدارسيين والرهاويين والأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر وألا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة وأخرج مسلم من حديث ابن عباس "أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث أجيروا الوفد بمثل ما كنت أجيرهم" الحديث وفي حديث ابن أبي أوفى "أوصى بكتاب الله" وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد وابن سعد كانت وصيته صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم وقد ثبتت بالأنصار وبأهل بيته ولكنها ليست عند الموت وروي غير ذلك وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب كتابا وهو وصيته للأمة إلا أنه حيل بينه وبينه كما أخرجه البخاري
2- وعن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول الله: أنا ذو مال وقع في رواية كثير ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا" قلت: أفأتصدق بشطر مالي؟ قال: "لا" قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك" أن يروى بفتح الهمزة وكسرها فالفتح على تقدير لام التعليل والكسر على أنها شرطية وجوابه

(3/104)


خير على تقدير فهو خير "تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" جمع عائل هو الفقير "يتكففون" يسألون "الناس" بأكفهم متفق عليه اختلف متى وقع هذا الحكم فقيل في حجة الوداع بمكة فإنه مرض سعد فعاده صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وهو صريح في رواية الزهري وقيل في فتح مكة أخرجه الترمذي عن ابن عيينة واتفق الحفاظ أنه وهم وأن الأول هو الصحيح وقيل وقع ذلك في المرتين معا وأخذ من مفهوم قوله كثير أنه لا يوصي من مال قليل روي هذا عن علي وابن عباس وعائشة وقوله لا يرثني إلا ابنة لي أي لا يرثني من الأولاد وإلا فإن سعدا كان من بني زهرة وهم عصبته وكان هذا قبل أن يولد له الذكور وإلا فإنه ذكر الواقدي أنه ولد لسعد بعد ذلك أربعة بنين وقيل أكثر من عشرة ومن البنات اثنتا عشرة بنتا وقوله أفأتصدق يحتمل أنه استأذنه في تنجيز ذلك في الحال أو أراد بعد الموت إلا أنه في رواية بلفظ أوصي وهي نص في الثاني فيحمل الأول عليه وقوله بشطر مالي أراد به النصف وقوله "والثلث كثير" يروى بالمثلثة وبالموحدة على أنه شك من الراوي وقع ذلك في البخاري ومثله وقع في النسائي وأكثر الروايات بالمثلثة ووصف الثلث بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه وفي فائدة وصفه بذلك احتمالان الأول بيان أن الأولى الاقتصار عليه من غير زيادة وهذا هو المتبادر وفهمه ابن عباس فقال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية والثاني بيان أن التصدق بالثلث وهو الأكمل أي كثير أجره ويكون من الوصف بحال المتعلق وفي الحديث دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث وعلى هذا استقر الإجماع وإنما اختلفوا هل يستحب الثلث أو أقل فذهب ابن عباس والشافعي وجماعة إلى أن المستحب ما دون الثلث لقوله "والثلث كثير" قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس وأوصى عمر بالربع والخمس أحب إلي وذهب آخرون إلى أن المستحب الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة على حسناتكم" وسيأتي قريبا أنه حديث ضعيف والحديث ورد فيمن له وارث فأما من لا وارث له فذهب مالك إلى أنه مثل من له وارث فلا يستحب له الزيادة على الثلث وأجازت الهادوية والحنفية له الوصية بالمال كله وهو قول ابن مسعود فلو أجاز الوارث الوصية بأكثر من الثلث نفذت لإسقاطهم حقهم وإلى هذا ذهب الجمهور وخالفت الظاهرية و المزني وسيأتي في حديث ابن عباس إلا أن يشاء الورثة وأنه حسن يعمل به نعم فلو رجع الورثة عن الإجازة فذهب جماعة إلى أنه لا رجوع لهم في حياة الموصي ولا بعد وفاته وقيل إن رجعوا بعد وفاته فلا يصح لأن الحق قد انقطع بالموت بخلاف حال الحياة فإنه يتجدد لهم الحق وسبب الخلاف الاختلاف في المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم إنك أن تذر إلى آخره هل يفهم منه علة المنع من الوصية بأكثر من الثلث وأن السبب في ذلك رعاية حق الوارث وأنه إذا انتفى ذلك انتفى الحكم بالمنع و أن العلة لا تتعدى الحكم ويجعل المسلمون بمنزلة

(3/105)


الورثة كما هو أحد قولي الشافعي والأظهر أن العلة متعدية وأنه ينتفي الحكم في حق من ليس له وارث معين
3- وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا جاء مبينا أنه سعد بن عبادة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن أمي افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسر اللام نفسها أخذت فلتة ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال: "نعم" متفق عليه واللفظ لمسلم في الحديث دليل على أن الصدقة من الولد تلحق الميت ولا يعارضه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} لثبوت حديث إن أولادكم من كسبكم ونحوه فولده من سعيه وثبوت "أو ولد صالح يدعو له" وقد قدمنا الكلام في ذلك في آخر كتاب الجنائز
4- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنه أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وزاد في آخره "إلا أن يشاء الورثة" وإسناده حسن وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي وعن أنس عند ابن ماجه وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني وعن جابر عنده أيضا وقال الصواب إرساله وعن علي عند ابن أبي شيبة ولا يخلو إسناد كل واحد منها عن مقال لكن مجموعها ينهض على العمل به بل جزم الشافعي في الأم أن هذا المتن متواتر فإنه قال إنه نقل كافة عن كافة وهو أقوى من نقل واحد قلت الأقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه ولما قال الشافعي وإن نازع في تواتره الفخر الرازي ولا يضر ذلك بثبوته فإنه متلقى بالقبول من الأمة كما عرف وقد ترجم له البخاري فقال باب لا وصية لوارث وكأنه لم يثبت على شرطه فلم يخرجه ولكنه أخرج بعده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا في تفسير الآية وله حكم المرفوع والحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى -كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- الآية قالوا ونسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز قلنا نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع وقوله إلا أن يشاء الورثة دل على أنها تصح وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة وتقدم الكلام في إجازة الورثة ما زاد على الثلث هل ينفذ بها أو لا وأن الظاهرية ذهبت إلى أنه لا أثر لإجازتهم والظاهر معهم لأنه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله "إلا أن يشاء الورثة" وأطلق لما منع عن الوصية بالزائد على الثلث وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك قال إنه

(3/106)


يؤخذ القيد من التعليل بقوله إنك أن تذر الخ فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة فإن أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة هذا في الوصية للوارث واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشيء من ماله فأجازه الأوزاعي وجماعة مطلقا وقال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها إقرارا واحتج الأول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال إن التهمة في حق المحتضر بعيدة وبأنه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار بالمال وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله قلت وهذا القول أقوى دليلا واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم قال لأنه يتهم في أنه يزيد لابنته وينقص ابن العم وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال قلت والأحسن ما قيل عن بعض المالكية واختاره الروياني من الشافعية أن مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا وهي تعرف بقرائن الأحوال وغيرها وعن بعض الفقهاء أنه لا يصح إقراره إلا للزوجة بمهرها
5- (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم" رواه الدارقطني وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء وابن ماجه من حديث أبي هريرة وكلها ضعيفة لكن قد يقوي بعضها بعضا والله أعلم) وذلك لأن في إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان وإن كان لهم في رواية إسماعيل تفصيل معروف والحديث دليل على شرعية الوصية بالثلث وأنه لا يمنع منه الميت وظاهره الإطلاق في حق من له مال كثير ومن قل ماله وسواء كانت لوارث أو غيره ولكن يقيده ما سلف من الأحاديث التي هي أصح منه فلا تنفذ للوارث وإليه ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم والمؤيد بالله وروى عن زيد بن علي وذهبت الهادوية إلى نفوذها للوارث وادعى فيه إجماع أهل البيت ولا يصح هذا واعلم أن قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يقتضي ظاهره أنه يخرج الدين والوصية من تركة الميت على سواء فتشارك الوصية الدين إذا استغرق المال وقد اتفق العلماء على أنه يقدم إخراج الدين على الوصية لما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث علي عليه السلام من رواية الحارث الأعور عنه قال قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين وعلقه البخاري وإسناده ضعيف لكن قال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه وقد أورد له شاهدا ولم يختلف العلماء أن الدين يقدم على الوصية فإن قيل فإذا كان الأمر هكذا فلم قدمت الوصية على الدين في الآية قلت أجاب السهيلي بأنها لما كانت الوصية تقع على وجه البر والصلة والدين يقع بتعدي الميت بحسب الأغلب بدأ بالوصية لكونها أفضل وأجاب غيره بأنها

(3/107)


إنما قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين وكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين فقدمت الوصية لذلك ولأنها حظ الفقير والمسكين غالباً والدين حظ الغريم يطلبه بقوة وله مقال ولأن الوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين فإنه مطلوب منه ذكر أو لم يذكر أو لأن الوصية ممكنة من كل أحد تتعلق بذمته إماندباً أو وجوبا فيشترك فيها جميع المخاطبين وتقع بالمال وبالعمل وقل ما يخلو عن ذلك بخلاف الدين وما يكثر وقوعه أهم بأن يذكر أولا مما يقل وقوعه

(3/108)


باب الوديعة
الوديعة: هي العين التي يضعها مالكه أو نائبه عند آخر ليحفظها وهي مندوبة إذا وثق من نفسه بالأمانة لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله صلى الله عليه وسلم "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" أخرجه مسلم وقد تكون واجبة إذا لم يكن من يصلح لها غيره وخاف الهلاك عليها إن لم يقبلها
1- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة فليس عليه ضمان" أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف وذلك أن في رواته المثنى بن الصباح وهو متروك وأخرجه الدارقطني بلفظ "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" وفي إسناده ضعيفان قال الدارقطني وإنما يوري هذا عن شريح غير مرفوع وفسر المغل في رواية الدارقطني بالخائن وقيل هو المستغل وفي الباب آثار عن أبي بكر و علي و ابن مسعود و جابر أن الوديعة أمانة وفي بعضها مقال ويغني عن ذلك الإجماع فإنه وقد على أنه ليس على الوديع ضمان إلا ما يروى عن الحسن البصري أنه إذا اشترط الضمان فإنه يضمن وقد تؤول بأنه مع التفريط والوديعة قد تكون باللفظ كاستودعتك ونحوه من الألفاظ الدالة على الاستحفاظ ويكفي القبول لفظا وقد تكون بغير لفظ كأن يضع في حانوته وهو حاضر ولم يمنعه من ذلك أو في المسجد وهو غير مصل وأما إذا كان في الصلاة فلا لأنه لا يمكنه إظهار الكراهة وفي باب الوديعة تفاصيل في الفروع كثيرة قوله وباب قسم الصدقات بين الأصناف الثمانية تقدم في آخر الزكاة وهو أليق بالاتصال به وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقب الجهاد إن شاء الله وهو أولى بأن يلي الجهاد لأنه من توابعه وإنما ذكر المصنف هذا لأنها جرت عادة كتب فروع الشافعية على جعل هذين البابين قبيل كتاب النكاح والمصنف خالفهم فألحقهما بما هو أليق بهما

(3/108)