سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب النكاح
كتاب النكاح
...
كتاب النكاح
النكاح لغة: الضم والتداخل ويستعمل في الوطء وفي العقد قيل مجاز من إطلاق اسم المسبب على السبب وقيل إنه حقيقة فيهما وهو مراد من قال إنه مشترك فيهما وكثر استعماله في العقد فقيل إنه فيه حقيقة شرعية ولم يرد في الكتاب العزيز إلا في العقد
1- عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة بالباء الموحدة والهمزة والمد فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" بكسر الواو والجيم والمد متفق عليه وقع الخطاب منه للشباب لأنهم مظنة الشهوة للنساء واختلف العلماء في المراد بالباءة والأصح أن المراد بها الجماع فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنته فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر مائه كما يقطع الوجاء ووقع في رواية ابن حبان مدرجا تفسير الوجاء بأنه الإخصاء وقيل الوجاء رض الخصيتين والإخصاء سلبهما والمراد أن الصوم كالوجاء والأمر بالتزوج يقتضي وجوبه مع القدرة على تحصيل مؤنته وإلى الوجوب ذهب داود وهو رواية عن أحمد وقال ابن حزم وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد أن يتزوج أو يتسرى فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم وقال إنه قول جماعة من السلف وذهب الجمهور إلى أن الأمر للندب مستدلين بأنه تعالى خير بين التزوج والتسري بقوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والتسري لا يجب إجماعا فكذا النكاح لأنه لا تخيير بين واجب وغير واجب إلا أن دعوى الإجماع غير صحيحة لخلاف داود وابن حزم وذكر ابن دقيق العيد أن من الفقهاء من قال بالوجوب على من خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر عليه التسري وكذا حكاه القرطبي فيجب على من لا يقدر على ترك الزنا إلا به ثم ذكر من يحرم عليه ويكره ويندب له ويباح فيحرم على من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع قدرته عليه وتوقانه إليه ويكره في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع ويندب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة لقوله صلى الله عليه وسلم "فإني مكاثر بكم الأمم" ولظواهر الحث على النكاح والأمر به وقوله " فعليه بالصوم" إغراء بلزوم الصوم وضمير عليه يعود إلى من فهو مخاطب في المعنى وإنما جعل الصوم وجاء لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس إنكسار عن الشهوة ولسر جعله الله تعالى في الصوم فلا ينفع تقليل الطعام وحده من دون صوم واستدل به الخطابي على جواز التداوي لقطع الشهوة بالأدوية وحكاه البغوي في شرح السنة ولكن ينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة ولا يقطعها

(3/109)


بالأصالة لأنه قد يقوى على وجدان مؤن النكاح بل قد وعد الله من يستعف أن يغنيه من فضله لأنه جعل الإغناء غاية للاستعفاف ولأنهم اتفقوا على منع الجب والإخصاء فيلحق بذلك ما في معناه وفيه الحث على تحصيل ما يغض به البصر ويحصن الفرج وفيه أنه لا يتكلف للنكاح بغير الممكن كالاستدانة واستدل به العراقي على أن التشريك في العبادة لا يضر بخلاف الرياء لكنه يقال إن كان المشرك عبادة كالمشرك فيه فإنه لا يضر فإنه يحصل بالصوم تحصين الفرج وغض البصر وأما تشريك المباح كما لو دخل إلى الصلاة لترك خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر يحتمل القياس على ما ذكر ويحتمل عدم صحة القياس نعم إن دخل في الصلاة لترك الخوض في الباطل أو الغيبة وسماعها كان مقصدا صحيحا واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه لو كان مباحا لأرشد إليه لأنه أسهل وقد أباح الاستمناء بعض الحنابلة وبعض الحنفية
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه وقال: "لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس" مني متفق عليه هذا اللفظ لمسلم وللحديث سبب وهو أنه قال أنس جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم" الحديث وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال الطبري في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلا وملبسا قال القاضي عياض هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من ذهب إلى ما قاله الطبري ومنهم من عكس واستدل بقوله تعالى: ل {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قال والحق أن الآية في الكفار وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين والأولى التوسط في الأمور وعدم الإفراط في ملازمة الطيبات فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحظور كما أن من منع من الراوي ذلك أحيانا قد يفضي به إلى التنطع وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى: {قٌُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك النفل يفضي إلى البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخيار الأمور

(3/110)


أوسطها وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن رغب عن سنتي" عن طريقتي "فليس مني" أي ليس من أهل الحنيفية السهلة بل الذي يتعين عليه أن يفطر ليقوى على الصوم وينام ليقوى على القيام وينكح النساء ليعف نظره وفرجه وقيل إن أراد من خالف هديه صلى الله عليه وسلم وطريقته أن الذي أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه صلى الله عليه وسلم فمعنى ليس مني أي ليس من أهل ملتي لأن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر
3- وعنه أي عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" رواه أحمد وصححه ابن حبان وله شاهد عند أبي داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار التبتل الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى عبادة الله وأصل البتل القطع ومنه قيل لمريم البتول وفاطمة عليها السلام البتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة والمرأة الولود كثيرة الولادة ويعرف ذلك في البكر بحال قرابتها والودود المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها والمكاثرة المفاخرة وفيه جوازها في الدار الآخرة ووجه ذلك أن من أمته أكثر فثوابه أكثر لأن له مثل أجر من تبعه
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح المرأة لأربع" أي الذي يرغب في نكاحها ويدعو إليها خصال أربع "لمالها وحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه بين الشيخين مع بقية السبعة الذين تقدم ذكرهم في خطبة الكتاب الحديث إخبار أن الذي يدعو الرجال إلى التزوج أحد هذه الأربع وآخرها عندهم ذات الدين فأمرهم صلى الله عليه وسلم أنهم إذا وجدوا ذات الدين فلا يعدلوا عنها وقد ورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها فأخرج ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن ولا لمالهن فلعله يطغيهن وانكحوهن للدين ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل" وورد في صفة خير النساء ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إن نظر وتطيعه إن أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" والحسب هو الفعل الجميل للرجل وآبائه وقد فسر الحسب بالمال في الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سمرة مرفوعا "الحسب المال والكرم التقوى" إلا أنه لا يراد به المال في حديث الباب لذكره بجنبه فالمراد فيه المعنى الأول ودل الحديث على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم ولا سيما الزوجة فهي أولى من يعتبر دينه لأنها ضجيعته وأم أولاده وأمينته على ماله ومنزله وعلى

(3/111)


نفسها وقوله تربت يداك أي التصقت بالتراب من الفقر وهذه الكلمة خارجة مخرج ما يعتاده الناس في المخاطبات لا أنه صلى الله عليه وسلم قصد بها الدعاء
5- وعنه أي أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفىّ بالراء وتشديد الفاء فألف مقصورة إنسانا إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان الرفاء الموافقة وحسن المعاشرة وهو من رفأ الثوب وقيل من رفوت الرجل إذا سكنت ما به من روع فالمراد إذا دعا صلى الله عليه وسلم للمتزوج بالموافقة بينه وبين أهله وحسن العشرة بينهما قال ذلك وقد أخرج بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال كنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قولوا الحديث وأخرج مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال له تزوجت قال نعم قال بارك الله فيك وزاد الدارمي وبارك عليك وفيه أن الدعاء للمتزوج سنة وأما المتزوج فيسن له أن يفعل ويدعو بما أفاده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادما أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه
6- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة زاد فيه ابن كثير في الإرشاد في النكاح وغيره "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي والحاكم والآيات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى {رَقِيباً} والثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى أخرها والثالثة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} إلى قوله: {عَظِيماً} كذا في الشرح وفي الإرشاد لابن كثير عد الآيات في نفس الحديث وقوله في الحاجة عام لكل حاجة ومنها النكاح وقد صرح به في رواية كما ذكرناه وأخرج البيهقي أنه قال شعبة قلت لأبي إسحاق هذه خطبة النكاح وغيرها قال في كل حاجة وفيه دلالة على سنية ذلك في النكاح وغيره ويخطب بها العاقد بنفسه حال العقد وهي من السنن المهجورة وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ووافقهم من الشافعية أبو عوانة وترجم في صحيحه باب وجوب الخطبة عند العقد ويأتي في شرح الحديث التاسع ما يدل على عدم الوجوب
7- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا

(3/112)


خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل" وتمامه قال جابر: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وصححه الحاكم وله شاهد عند الترمذي والنسائي عن المغيرة ولفظه أنه قال له وقد خطب امرأة "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" وعند ابن ماجه وابن حبان من حديث محمد بن سلمة ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج امرأة أي أراد ذلك " أنظرت إليها" قال لا قال: "اذهب فانظر إليها" دلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء والنظر إلى الوجه والكفين لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده والكفين على خصوبة البدن أو عدمها وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم وقال داود ينظر إلى جميع بدنها والحديث مطلق فينظر إلى ما يحصل له إليه ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها علي إليه لينظرها ولا يشترط رضا المرأة بذلك النظر بل له أن يفعل ذلك على غفلتها كما فعله جابر قال أصحاب الشافعي ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلافه بعد الخطبة وإذا لم يمكنه النظر إليها استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها فقد روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم إلى امرأة فقال انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه كلام وفي رواية شمي عوارضها وهي الأإطعام التي في عرض الفم وهي ما بين الثنايا والأضراس واحدها عارض والمراد اختبار رائحة النكهة وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة فإنها تنظر إلى خاطبها فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها كذا قيل ولم يرد به حديث والأصل تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلا بدليل كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خطبتها
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" تقدم أنها بكسر الخاء "حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له" متفق عليه واللفظ للبخاري النهي أصله التحريم إلا لدليل يصرفه عنه وادعى النووي الإجماع على أنه له وقال الخطابي النهي للتأديب وليس للتحريم وظاهره أنه منهي عنه سواء أجيب الخاطب أم لا وقدمنا في البيع أنه لا يحرم إلا بعد الإجابة والدليل حديث فاطمة بنت قيس وتقدم والإجماع قائم بعد الإجابة والإجابة من المرأة المكلفة في الكفء ومن ولي الصغيرة الكفء وأما غير الكفء فلا بد من إذن الولي على القول بأن له المنع وهذا في الإجابة الصريحة وأما إذا كانت غير صريحة فالأصح عدم التحريم وكذلك إذا لم يحصل رد ولا إجابة ونص الشافعي أن سكوت البكر رضا

(3/113)


بالخاطب فهو إجابة وأما العقد مع تحريم الخطبة فقال الجمهور يصح وقال داود يفسخ النكاح قبل الدخول وبعده وقوله "أو يأذن له" دل على أنه يجوز له الخطبة بعد الإذن وجوازها للمأذون له بالنص ولغيره بالإلحاق لأن إذنه قد دل على إضرابه فتجوز خطبتها لكل من يريد نكاحها وتقدم الكلام على قوله أخيه وأنه أفاد التحريم على خطبة المسلم لا على خطبة الكافر وتقدم الخلاف فيه وأما إذا كان الخاطب فاسقا فهل يجوز للعفيف الخطبة على خطبته قال الأمير الحسين في الشفاء إنه يجوز الخطبة على خطبة الفاسق ونقل عن ابن القاسم صاحب مالك ورجحه ابن العربي وهو قريب فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة فيكون كفء لها فتكون خطبته كلا خطبة ولم يعتبر الجمهور بذلك إذا صدرت عنها علامة القبول
9- وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جاءت امرأة قال المصنف في الفتح لم أقف على اسمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: جئت أهب لك نفسي أي أمر نفسي لأن الحر لا تملك رقبته "فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه" في النهاية ومنه الحديث "فصعد في النظر وصوبه" أي نظر أعلاي وأسفلي وتأملني وهو من أدلة جواز النظر إلى من يريد زواجها وقال المصنف إنه تحرر عنده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره "ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه" فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من الصحابة قال المصنف لم أقف على اسمه فقال يا رسول الله: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: "فهل عندك من شيء" فقال: لا والله يا رسول الله قال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا" فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتما" أي ولو نظرت خاتما "من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد أي موجود فخاتم مبتدأ حذف خبره ولكن هذا إزاري قال سهل بن سعد الراوي ماله رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك إن لبسته" أي كله "لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته" أي كله "لم يكن عليك منه شيء" ولعله بهذا الجواب بين له أن قسمة الرداء لا تنفعه ولا تنفع المرأة فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي به فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن" قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك" قال نعم قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي رواية قال انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن وفي رواية للبخاري "أملكناكها بما معك من القرآن" ولأبي داود عن أبي هريرة قال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تحفظ؟"

(3/114)


قال سورة البقرة والتي تليها قال: "قم فعلمها عشرين" آية دل الحديث على مسائل عديدة وقد تتبعها ابن التين وقال هذه إحدى وعشرين فائدة بوب البخاري على أكثرها قلت ولنأت بأنفسها وأوضحها الأولى جواز عرض المرأة نفسها على رجل من أهل الصلاح وجواز النظر من الرجل وإن لم يكن خاطبا لإرادة التزوج يريد أنه ليس جواز النظر الموطأ للخاطب بل يجوز لمن تخطبه المرأة فإن نظره صلى الله عليه وسلم إليها دليل أنه أراد زواجها بعد عرضها عليه نفسها وكأنها لم تعجبه فأضرب عنها والثانية ولاية الإمام على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت إلا أن في بعض ألفاظ الحديث أنها فوضت أمرها إليه وذلك توكيل وأنه يعقد للمرأة من غير سؤال عن وليها هل هو موجود أو لا حاضر أو لا وسؤالها هل هي في عصمة رجل أو عدمه قال الخطابي وإلى هذا ذهب جماعة حملا على ظاهر الحال وعند الهادوية أنها تحلف الغريبة احتياطا الثالثة: أن الهبة لا تثبت إلا بالقبول الرابعة: أنه لا بد من الصداق في النكاح وأنه يصح أن يكون شيئا يسيرا فإن قوله "ولو خاتما من حديد" مبالغة في تقليله فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو من إليه ولاية العقد مما فيه منفعة وضابطه أن كل ما يصلح أن يكون قيمة أو ثمنا لشيء يصح أن يكون مهرا ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له ولا يحل به النكاح وقال ابن حزم يصح بكل ما يسمى شيئا ولو حبة من شعير لقوله صلى الله عليه وسلم "هل تجد شيئا" وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم "ولو خاتما من حديد" مبالغة في التقليل وله قيمة وبأن قوله في الحديث "من استطاع منكم الباءة ومن لم يستطع" دل على أنه شيء لا يستطيعه كل واحد وحبة الشعير مستطاعة لكل أحد وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} وقوله تعالى: {نْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} دال على اعتبار المالية في الصداق حتى قال بعضهم أقله خمسون وقيل أربعون وقيل خمسة دراهم وإن كانت هذه التقادير لا دليل على اعتبارها بخصوصها والحق أنه يصح بما يكون له قيمة وإن تحقرت والأحاديث والآيات يحتمل أنها خرجت مخرج الغالب وأنه لا يقع الرضا هنا من الزوجة إلا بكونه مالا له صورة ولا يطيق كل أحد تحصيله الخامسة أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فلو عقد بغير ذكر صداق صح العقد ووجب لها مهر المثل بالدخول وأنه يستحب تعجيل المهر السادسة أنه يجوز الحلف وإن لم يكن عليه اليمين وأنه يجوز الحلف على ما يظنه لأنه صلى الله عليه وسلم قال له بعد يمينه اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فدل أن يمينه كانت على ظنه ولو كانت لا تكون إلا على العلم لم يكن للأمر بذهابه إلى أهله فائدة السابعة أنه لا يجوز للرجل أن يخرج من ملكه ما لا بد له منه كالذي يستر عورته أو يسد خلته من الطعام والشراب لأنه صلى الله عليه وسلم علل منعه عن قسمة ثوبه بقوله "إن لبسته لم يكن عليك منه شيء" الثامنة اختبار مدعي الإعسار فإنه صلى الله عليه وسلم لم يصدقه في أول دعواه الإعسار حتى ظهر له قرائن صدقه وهو دليل على أنه لا يسمع اليمين من مدعي الإعسار حتى تظهر قرائن إعساره التاسعة أنها لا تجب الخطبة للعقد لأنها لم تذكر

(3/115)


في شيء من طرق الحديث وتقدم أن الظاهرية تقول بوجوبها وهذا يرد قولهم وأنه يصح أن يكون الصداق منفعة كالتعليم فإنه منفعة ويقاس عليه غيره ويدل عليه قصة موسى مع شعيب وقد ذهب إلى جواز كونه منفعة الهادوية وخالفت الحنفية وتكلفوا لتأويل الحديث وادعوا أن التزوج بغير مهر من خواصه صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الأصل العاشرة قوله بما معك من القرآن يحتمل كما قاله القاضي عياض وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو قدرا معينا منه ويكون ذلك صداقا ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة فعلمها من القرآن وفي بعضها تعيين عشر من الآيات ويحتمل أن الباء للتعليل وأنه زوجه بها بغير صداق إكراما له لكونه حافظا لبعض من القرآن ويؤيد هذا الاحتمال قصة أم سليم مع أبي سليم وذلك أنه خطبها فقالت والله ما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهرك ولا أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها أخرجه النسائي وصححه عن ابن عباس وترجم له النسائي باب التزويج على الإسلام وترجم على حديث سهل هذا بقوله باب التزويج على سورة البقرة وهذا ترجيح منه للاحتمال الثاني والاحتمال الأول أظهر كما قاله القاضي لثبوت رواية فعلمها من القرآن الحادية عشرة أن النكاح ينعقد بلفظ التمليك وهو مذهب الهادوية والحنفية ولا يخفى أنها قد اختلفت الألفاظ في الحديث فروي بالتمليك وبالتزويج وبالإمكان قال ابن دقيق العيد هذه لفظة واحدة في قصة واحدة اختلفت مع اتحاد مخرج الحديث والظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم لفظ واحد فالمرجع في هذا إلى الترجيح وقد نقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى قد زوجتكها وأنهم أكثر وأحفظ وأطال المصنف في الفتح الكلام على هذه الثلاثة الألفاظ ثم قال فرواية التزويج والإنكاح أرجح وأما قول ابن التين إنه اجتمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها وهم فيه فقد قال المصنف إن ذلك مبالغة منه وقال البغوي الذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في لفظ العقود إذ قلما يختلف فيه لفظ المتعاقدين وقد ذهبت الهادوية والحنفية والمشهور عن المالكية إلى جواز العقد بكل لفظ يفيد معناه إذا قرن به الصداق أو قصد به النكاح كالتمليك ونحوه ولا يصح بلفظ العارية والإجارة والوصية
10- وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عامر تابعي سمع أباه وغيره مات سنة أربع وعشرين ومائة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا النكاح" رواه أحمد وصححه الحاكم وفي الباب عن عائشة "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال" أي الدف أخرجه الترمذي وفي رواته عيسى بن ميمون ضعيف كما قاله الترمذي وأخرجه ابن ماجه والبيهقي وفي إسناده خالد بن إياس منكر الحديث قال أحمد وأخرج الترمذي أيضا من حديث عائشة وقال حسن غريب "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف وليولم أحدكم ولو بشاة فإذا خطب أحدكم امرأة

(3/116)


وقد خضب بالسواد فليعلمها لا يغرها" دلت الأحاديث على الأمر بإعلان النكاح والإعلان خلاف الإسرار وعلى الأمر بضرب الغربال وفسره بالدف والأحاديث فيه واسعة وإن كان في كل منها مقال إلا أنها يعضد بعضها بعضا ويدل على شرعية ضرب الدف لأنه أبلغ في الإعلان من عدمه وظاهر الأمر الوجوب ولعله لا قائل به فيكون مسنونا ولكن بشرط أن لا يصحبه محرم من التغني بصوت رخيم من امرأة أجنبية بشعر فيه مدح القدود والخدود بل ينظر الأسلوب العربي الذي كان في عصره صلى الله عليه وسلم فهو المأمور به وأما ما أحدثه الناس من بعد ذلك المأمور به ولا كلام في أنه في هذه الأعصار يقترن بمحرمات كثيرة فيحرم لذلك لا لنفسه
11- وعن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان وأعله بإرساله قال ابن كثير قد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث إسرائيل وأبو عوانة وشريح القاضي وقيس بن الربيع ويونس بن أبي إسحاق وزهير بن معاوية كلهم عن أبي إسحاق كذلك قال الترمذي ورواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق مرسلا قال والأول عندي أصح هكذا صححه عبد الرحمن بن مهدي فيما حكاه ابن خزيمة عن أبي المثنى عنه وقال علي بن المديني حديث إسرائيل في النكاح صحيح وكذا صححه البيهقي وغير واحد من الحفاظ قال ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن جابر مرفوعا قال الحافظ الضياء بإسناد رجاله كلهم ثقات قلت ويأتي حديث أبي هريرة لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها وحديث عائشة إن النكاح من غير ولي باطل قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش قال وفي الباب عن علي وابن عباس ثم سرد ثلاثين صحابيا والحديث دل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي لأن الأصل في النفي نفي الصحة لا الكمال والولي هو الأقرب إلى المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها واختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح فالجمهور على اشتراطه وأنها لا تزوج المرأة نفسها وحكى عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وعليه دلت الأحاديث وقال مالك يشترط في حق الشريفة لا الوضيعة فلها أن تزوج نفسها وذهبت الحنفية إلى أنه لا يشترط مطلقا محتجين بالقياس على البيع فإنها تستقل ببيع سلعتها وهو قياس فاسد الاعتبار إذ هو قياس مع نص ويأتي الكلام في ذلك مستوفى في شرح حديث أبي هريرة لا تزوج المرأة المرأة الحديث وقالت الظاهرية يعتبر الولي في حق البكر لحديث "الثيب أولى بنفسها" وسيأتي ويأتي أن المراد منه اعتبار رضاها جمعا بينه وبين أحاديث اعتبار الولي وقال أبو ثور للمرأة أن تنكح نفسها بإذن وليها لمفهوم الحديث الآتي
12- وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها

(3/117)


المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم قال ابن كثير وصححه يحيى بن معين وغيره من الحفاظ قال أبو ثور فقوله "بغير إذن وليها" يفهم منه أنه إذا أذن لها جاز لها أن تعقد لنفسها وأجيب بأنه مفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق باشتراطه واعلم أن الحنفية طعنوا في هذا الحديث بأنه رواه سليمان بن موسى عن الزهري وسئل الزهري عنه والذي روى هذا القدح هو إسماعيل بن علية القاضي عن ابن جريج الراوي عن سليمان أنه سأل الزهري عنه أي عن الحديث فلم يعرفه وأجيب عنه بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه لا سيما وقد أثنى الزهري على سليمان بن موسى وقد طال كلام العلماء على هذا الحديث واستوفاه البيهقي في السنن الكبرى وقد عاضدته أحاديث اعتبار الولي وغيرها مما يأتي في شرح حديث أبي هريرة وفي الحديث دليل على اعتبار إذن الولي في النكاح بعقده لها أو عقد وكيله وظاهره أن المرأة تستحق المهر بالدخول وإن كان النكاح باطلا لقوله فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها وفيه دليل على أنه إذا اختل ركن من أركان النكاح فهو باطل مع العلم والجهل وأن النكاح يسمى باطلا وصحيحا ولا واسطة وقد أثبت الواسطة الهادوية وجعلوها العقد الفاسد قالوا وهو ما خالف مذهب الزوجين أو أحدهما جاهلين ولم تكن المخالفة في أمر مجمع عليه وترتب عليه أحكام مبينة في الفروع والضمير في قوله فإن اشتجروا عائد إلى الأولياء الدال عليهم ذكر الولي والسياق والمراد بالاشتجار منع الأولياء من العقد عليها وهذا هو العضل وبه تنتقل الولاية إلى السلطان إن عضل الأقرب وقيل بل تنتقل إلى الأبعد وانتقالها إلى السلطان مبني على منع الأقرب الأبعد وهو محتمل ودل على أن السلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو لمنعه ومثلهما غيبة الولي ويؤيد حديث الباب ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا "لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له" وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة فقد أخرجه سفيان في جامعة ومن طريقة الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن ابن عباس بلفظ " لا نكاح إلا بولي مرشد أو سلطان" ثم المراد بالسلطان من إليه الأمر جائرا كان أو عادلا لعموم الأحاديث القاضية بالأمر لطاعة السلطان جائرا أو عادلا وقيل بل المراد به العادل المتولي لمصالح العباد لا سلاطين الجور فإنهم ليسوا بأهل لذلك 13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح" مغير الصيغة مجزوما ومرفوعا ومثله الذي بعده "الأيم" التي فارقت زوجها بطلاق أو موت "حتى تستأمر" من الاستئمار طلب الأمر " ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال :" أن تسكت" متفق عليه فيه أنه لا بد من طلب الأمر من الثيب وأمرها فلا يعقد عليها حتى يطلب الولي الأمر منها بالإذن

(3/118)


بالعقد والمراد من ذلك اعتبار رضاها وهو معنى أحقيتها بنفسها من وليها في الأحاديث وقوله البكر أراد بها البكر البالغة وعبر هنا بالاستئذان وعبر في الثيب بالاستئمار إشارة إلى الفرق بينهما وأنه يتأكد مشاورة الثيب ويحتاج الولي إلى صريح القول بالإذن منها في العقد عليها والإذن من البكر دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر فإنه صريح في القول وإنما اكتفي منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح وقد ورد في رواية عائشة قالت يا رسول الله إن البكر تستحي قال: "رضاها صماتها" أخرجه الشيخان ولكن قال ابن المنذر يستحب أن يعلم أن سكوتها رضا وقال ابن شعبان يقال لها ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي فأما إذا لم تنطق ولكنها بكت عند ذلك فقيل لا يكون سكوتها رضا مع ذلك وقيل لا أثر لبكائها في المنع إلا أن يقترن بصياح ونحوه وقيل يعتبر الدمع هل هو حار فهو يدل على المنع أو بارد فهو يدل على الرضا والحديث عام للأولياء من الأب وغيره في أنه لا بد من إذن البكر البالغة وإليه ذهب الهادوية والحنفية وآخرون عملا بعموم الحديث هنا وبالخاص الذي أخرجه مسلم بلفظ والبكر يستأذنها أبوها ويأتي ذكر الخلاف في ذلك واستيفاء الكلام عليه في شرح الحديث الآتي
14- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" رواه مسلم وفي لفظ أي من رواية ابن عباس "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان تقدم الكلام على أن المراد بأحقية الثيب بنفسها اعتبار رضاها كما تقدم على استئمار البكر وقوله "ليس للولي مع الثيب أمر" أي إن لم ترض لما سلف من الدليل على اعتبار رضاها وعلى أن العقد إلى الولي وأما قوله "واليتمية تستأمر" فاليتيمة في الشرع الصغيرة التي لا أب لها وهو دليل للناصر والشافعي في أنه لا يزوج الصغيرة إلا الأب لأنه صلى الله عليه وسلم قال تستأمر اليتيمة ولا استئمار إلا بعد البلوغ إذ لا فائدة لاستئمار الصغيرة وذهب الحنفية إلى أنه يجوز أن يزوجها الأولياء مستدلين بظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية وما ذكر في سبب نزولها في أن يكون في حجر الولي ليس له رغبة في نكاحها وإنما يرغب في مالها فيتزوجها لذلك فنهوا وليس بصريح في أنه ينكحها صغيرة لاحتمال أنه يمنعها الأزواج حتى تبلغ ثم يتزوجها قالوا ولها بعد البلوغ الخيار قياسا على الأمة فإنها تخير إذا أعتقت وهي مزوجة والجامع حدوث ملك التصرف ولا يخفى ضعف هذا القول وما يتفرع من جواز الفسخ وضعف القياس ولهذا قال أبو يوسف لا خيار لها مع قوله بجواز تزويج غير الأب لها كأنه لم يقل بالخيار لضعف القياس فالأرجح ما ذهب إليه الشافعي
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم

(3/119)


"لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها" رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات فيه دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها فلا عبرة لها في النكاح إيجابا ولا قبولا فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة وهو قول الجمهور وذهب أبو حنيفة إلى تزويج العاقلة البالغة نفسها وابنتها الصغيرة وتتوكل عن الغير لكن لو وضعت نفسها عند غير كفء فلأوليائها الاعتراض وقال مالك تزوج الدنية نفسها دون الشريفة كما تقدم واستدل الجمهور بالحديث بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى وسبب نزولها في معقل بن يسار زوج أخته فطلقها زوجها طلقة رجعية وتركها حتى انقضت عدتها ورام رجعتها فحلف أن لا يزوجها قال ففيه نزلت هذه الآية رواه البخاري زاد أبو داود فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها وبسبب نزول الآية يعرف ضعف قول الرازي إن الضمير للأزواج وضعف قول صاحب نهاية المجتهد إنه ليس في الآية إلا نهيهم عن العضل ولا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا بل قد يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم اه ويقال عليه قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه وسلم وبادر من نزلت فيه إلى التكفير عن يمينه والعقد ولو كان لا سبيل للأولياء لأبان الله تعالى غاية البيان بل كرر تعالى كون الأمر إلى الأولياء في عدة آيات ولم يأت حرف واحد أن للمرأة إنكاح نفسها ودلت أيضا أن نسبة النكاح إليهن في الآيات مثل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ومراد به الإنكاح بعقد الولي إذ لو فهم صلى الله عليه وسلم أنها تنكح نفسها لأمرها بعد نزول الآية بذلك ولأبان لأخيها أنه لا ولاية له ولم يبح له الحنث في يمينه والتكفير ويدل لاشتراط الولي ما أخرجه البخاري وأبو داود من حديث عروة عن عائشة أنها أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ثم قالت في آخره فلما بعث محمد الفراش هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم فهذا دال على أنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك النكاح المعتبر فيه الولي وزاده تأكيدا بما قد سمعت من الأحاديث ويدل على نكاحه صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وقولها إنه ليس أحد من أوليائها حاضرا ولم يقل صلى الله عليه وسلم أنكحي أنت نفسك مع أنه مقام البيان ويدل له قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} فإنه خطاب للأولياء بأن لا ينكحوا المسلمات المشركين ولو فرض أنه يجوز لها إنكاح نفسها لما كانت الآية دالة على تحريم ذلك عليهن لأن القائل بأنها تنكح نفسها يقول بأنه ينكحها وليها أيضا فيلزم أن الآية لم تف بالدلالة على تحريم إنكاح المشركين للمسلمات لأنها إنما دلت على نهي الأولياء من إنكاح المشركين لا على نهي المسلمات أن ينكحن أنفسهن منهم وقد علم تحريم نكاح المشركين المسلمات فالأمر للأولياء دال على أنه ليس للمرأة ولاية

(3/120)


في النكاح ولقد تكلم صاحب نهاية المجتهد على الآية بكلام في غاية السقوط فقال الآية مترددة بين أن تكون خطابا للأولياء أو لأولي الأمر ثم قال فإن قيل هو عام والعام يشمل أولي الأمر والأولياء قلنا هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع والمنع بالشرع فيستوي فيه الأولياء وغيرهم وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة بالإذن ولو قلنا إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا مراتبهم والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة اه والجواب أن الأظهر أن الآية خطاب لكافة المؤمنين المكلفين الذين خوطبوا بصدرها أعني قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} والمراد لا ينكحهن من إليه الإنكاح وهم الأولياء أو خطاب للأولياء ومنهم الأمراء عند فقدهم أو عضلهم لما عرفت من قوله "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها" فبطل قوله إنه متردد بين خطاب الأولياء وأولي الأمر وقوله قلنا هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع بالشرع قلنا نعم قوله والمنع بالشرع يستوي فيه الأولياء وغيرهم قلنا هذا كلام في غاية السقوط فإن المنع بالشرع هنا للأولياء الذين يتولون العقد إما جوازا كما تقوله الحنفية أو شرطا كما يقوله غيرهم فالأجنبي بمعزل عن المنع لأنه لا ولاية له على بنات زيد مثلا فما معنى نهيه عن شيء ليس من تكليفه فهذا تكليف يخص الأولياء فهو كمنع الغني من السؤال ومنع النساء عن التبرج فالتكاليف الشرعية منها ما يخص الذكور ومنها ما يخص الإناث ومنها ما يخص بعضا من الفريقين أو فردا منهما ومنها ما يعم الفريقين وإن أراد أنه يجب على الأجنبي الإنكار على من يزوج مسلمة بمشرك فخروج من البحث وقوله ولو قلنا إنه خطاب للأولياء لكان مجملا لا يصح به عمل جوابه أنه ليس بمجمل إذ الأولياء معروفون في زمان من أنزلت عليهم الآية وقد كان معروفا عندهم ألا ترى إلى قول عائشة يخطب الرجل إلى الرجل وليته فإنه دال على أن الأولياء معروفون وكذلك قول أم سلمة له صلى الله عليه وسلم ليس أحد من أوليائي حاضرا وإنما ذكرنا هذا لأنه نقل الشارح رحمه الله كلام النهاية وهو طويل وجنح إلى رأي الحنفية واستقواه الشارح ولم يقو في نظري ما قاله فأحببت أن أنبه على بعض ما فيه ولولا محبة الاختصار لنقلته بطوله وأبنت ما فيه ومن الأدلة على اعتبار الولي قوله صلى الله عليه وسلم الثيب أحق بنفسها من وليها فإنه أثبت حقا للولي كما يفيده لفظ أحق وأحقيته هي الولاية وأحقيتها رضاها فإنه لا يصح عقده بها إلا بعده فحقها بنفسها آكد من حقه لتوقف حقه على إذنها
16- وعن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" فسره بقوله أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق متفق عليه قال الشافعي لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك حكاه عنه البيهقي في المعرفة وقال الخطيب إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع وقد بين ذلك

(3/121)


ابن مهدي والقعنبي ويدل على أنه من كلام مالك أنه أخرجه الدارقطني من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ وأما البخاري فصرح في كتاب الحيل أن تفسير الشغار من قول نافع قال القرطبي تفسير الشغار بما ذكر صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال اه وإذ قد ثبت النهي عنه فقد اختلف الفقهاء هل هو باطل أو غير باطل فذهبت الهادوية والشافعي ومالك إلى أنه باطل للنهي عنه وهو يقتضي البطلان وللفقهاء خلاف في علة النهي لا نطول به فكلها أقوال تخمينية ويظهر من قوله في الحديث لا صداق بينهما أنه علة النهي وذهبت الحنفية وطائفة إلى أن النكاح صحيح ويلغو ما ذكر فيه عملا بعموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ويجاب بأنه خصه النهي
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعل بالإرسال وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولا وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولا وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله فالحكم لمن وصله قال المصنف الطعن في الحديث لا معنى له لأنه له طرقا يقوي بعضها بعضا اه وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه " ولا تنكح البكر حتى تستأذن" وهذا الحديث أفاد ما أفاده فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح وغيره من الأولياء بالأولى وإلى عدم جواز إجبار الأب ذهبت الهادوية والحنفية لما ذكر ولحديث مسلم والبكر يستأذنها أبوها وإن قال البيهقي زيادة الأب في الحديث غير محفوظة فقد رده المصنف بأنها زيادة عدل يعني فيعمل بها وذهب أحمد وإسحاق والشافعي إلى أن للأب إجبار بنته البكر البالغة على النكاح عملا بمفهوم الثيب أحق بنفسها كما تقدم فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها ويرد بأنه مفهوم لا يقاوم المنطوق وبأنه لو أخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من الأولياء وأن لا يخص الأب بجواز الإجبار وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي إن حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفء قال المصنف جواب البيهقي هو المعتمد لأنها واقعة عين فلا يثبت الحكم بها تعميما قلت كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه فلو كان كما قال لذكرته المرأة بل قالت إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير لأنها المذكورة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم إذا كنت كارهة فأنت بالخيار وقول المصنف إنها واقعة عين غير صحيح بل حكم عام لعموم علته فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم وقد أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت إن أبي زوجني من ابن أخيه

(3/122)


يرفع بي خسيسته وأنا كارهة قالت اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء" والظاهر أنها بكر ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس وقد زوجها أبوها كفؤا ابن أخيه وإن كانت ثيبا فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء ولفظ النساء عام للثيب والبكر وقد قالت هذا عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزويج للكراهة لأن السياق في ذلك فلا يقال هو عام لكل شيء
18- وعن الحسن هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن مولى زيد بن ثابت ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بالمدينة وقدم البصرة بعد مقتل عثمان وقيل إنه لقي عليا بالمدينة وأما بالبصرة فلم تصح رؤيته إياه وكان إمام وقته علما وزهدا وورعا مات في رجب سنة عشرة ومائة عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي تقدم ذكر الخلاف في سماع الحسن من سمرة ورواه الشافعي وأحمد والنسائي من طريق قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال الترمذي الحسن عن سمرة في هذا أصح قال ابن المديني لم يسمع الحسن عن عقبة شيئا والحديث دليل على أن المرأة إذا عقد لها وليان لرجلين وكان العقد مترتبا أنها للأول منهما سواء دخل بها الثاني أو لا أما إذا دخل بها عالما فإجماع أنه زنا وأنها للأول وكذلك إن دخل بها جاهلا إلا أنه لا حد عليه للجهل فإن وقع العقدان في وقت واحد بطلا وكذا إذا علم ثم التبس فإنهما يبطلان إلا أنها إذا أقرت الزوجة أو دخل بها أحد الزوجين برضاها فإن ذلك يقرر العقد الذي أقرت بسبقه إذا لحق عليها فإقرارها صحيح وكذا الدخول برضاها فإنه قرينة السبق لوجوب الحمل على السلامة
19- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه وأهله فهو عاهر" أي زان رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وكذلك صححه ابن حبان ورواه من حديث ابن عمر موقوفا وأنه وجد عبدا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما وأبطل عقده وضربه الحد والحديث دليل على أن نكاح العبد بغير إذن مالكه باطل وحكمه حكم الزنا عند الجمهور إلا أنه يسقط عنه الحد إذا كان جاهلا للتحريم ويلحق به النسب وذهب داود إلى أن نكاح العبد بغير إذن مالكه صحيح لأن النكاح عنده فرض عين فهو كسائر فروض العين لا يفتقر إلى إذن السيد وكأنه لم يثبت لديه الحديث وقال الإمام يحيى إن العقد الباطل لا يكون له حكم

(3/123)


الزنا هنا ولو كان عالما بالتحريم لأن العقد شبهة يدرأ بها الحد وهل ينفذ عقده بالإجازة من سيده فقال الناصر والشافعي لا ينفذه بالإجازة لأنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم عاهرا وأجيب بأن المراد إذا لم تحصل الإجازة إلا أن الشافعي لا يقول بالعقد الموقوف أصلا والمراد بالعاهر أنه كالعاهر وأنه ليس بزان حقيقة
20- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع" بلفظ المضارع المبني للمجهول و لا نافية فهو مرفوع ومعناه النهي وقد ورد في إحدى روايات الصحيح بلفظ "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" متفق عليه فيه دليل على تحريم الجمع بين من ذكر قال الشافعي يحرم الجمع بين من ذكر وهو قول من لقيته من المفتين لا خلاف بينهم في ذلك ومثله قال الترمذي وقال ابن المنذر لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج ونقل الإجماع أيضا ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي ولا يخفى أن هذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية قيل ويلزم الحنفية أن يجوزوا الجمع بين من ذكر لأن أصولهم تقديم عموم الكتاب على أخبار الآحاد إلا أنه أجاب صاحب الهداية بأنه حديث مشهور والمشهور له حكم القطعي سيما مع الإجماع من الأمة وعدم الإعتداد بالمخالف
21- وعن عثمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح" بفتح حرف المضارعة من نكح "المحرم ولا ينكح" بضمه "من أنكح" رواه مسلم وفي رواية له أي لمسلم عثمان "ولا يخطب" أي لنفسه أو لغيره زاد ابن حبان "ولا يخطب عليه" وتقدم ذلك في كتاب الحج إلا قوله ولا يخطب عليه والمراد أنه لا يخطب أحد منه وليته
22- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم متفق عليه الحديث قد أكثر الناس فيه الكلام لمخالفة ابن عباس لغيره قال ابن عبد البر اختلفت الآثار في هذا الحكم لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال جاءت من طرق شتى وحديث ابن عباس صحيح الإسناد لكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم إلى الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد انتهى وقال الأثرم قلت لأحمد إن أبا ثور يقول بأي شيء يدفع حديث ابن عباس أي مع صحته قال الله المستعان ابن المسيب يقول وهم ابن عباس وميمونة تقول تزوجني وهو حلال انتهى يريد بقول ميمونة ما رواه عنها مسلم وهو
23- ولمسلم عن ميمونة نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال

(3/124)


وعضد حديثها حديث عثمان وقد تؤول حديث ابن عباس بأن معنى وهو محرم أي داخل في الحرم أو في الأشهر الحرم جزم بهذا التأويل ابن حبان في صحيحه وهو تأويل بعيد لا تساعد عليه الأحاديث وقد تقدم الكلام في هذا في الحج
24- وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" متفق عليه أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق والحديث دليل على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يتعين الوفاء بها وسواء كان الشرط عرضا أو مالا حيث كان الشرط للمرأة لأن استحلال البضع إنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضاه لغيرها وللعلماء في المسألة أقوال قال الخطابي الشروط في النكاح مختلف فيها فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم هذا الحديث ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كطلاق أختها لما ورد من النهي عنه ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا ينقلها من منزلها إلى منزله وأما ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق فقيل هو للمرأة مطلقا وهو قول الهادوية وعطاء وجماعة وقيل هو لمن شرطه وقيل يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء وقال مالك إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر أو خارجا عنه فهو لمن وهب له ودليله ما أخرجه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه بلفظ "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته" وأخرج نحوه الترمذي من حديث عروة عن عائشة ثم قال والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم عمر قال إذا تزوج الرجل المرأة بشرط أن لا يخرجها لزم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق إلا أنه قد تعقب بأن نقله عن الشافعي غريب والمعروف عن الشافعية أن المراد من الشروط هي التي لا تنافي النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراط حسن العشرة والإنفاق والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونفقة وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه وأن لا تتصرف في متاعه ونحو ذلك قلت هذه الشروط إن أرادوا أنه يحمل عليها الحديث فقد قللوا فائدته لأن هذه أمور لازمة للعقد لا تفتقر إلى شرط وإن أرادوا غير ذلك فما هو نعم لو شرطت ما ينافي العقد كأن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها فلا يجب الوفاء به قال الترمذي قال علي رضي الله عنه سبق شرط الله شرطها فالمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها فأما شرطها أن لا يخرجها من منزلها فهذا شرط غير منهي عنه فيتعين الوفاء به
25- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها" رواه مسلم اعلم أن حقيقة المتعة كما في كتب الإمامية هي النكاح المؤقت بأمد معلوم أو مجهول وغايته إلى خمسة وأربعين يوم ويرتفع النكاح بانقضاء المؤقت في المنقطعة الحيض وبحيضتين في الحائض وبأربعة أشهر

(3/125)


وعشر في المتوفى عنها زوجها وحكمه ألا يثبت لها المهر غير المشروط ولا تثبت لها نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر ولا يثبت به نسب إلا أن يشترط وتحرم المصاهرة بسببه هذا كلامهم وحديث سلمة هذا أفاد أنه صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة ثم نهى عنها واستمر النهي ونسخت الرخصة وإلى نسخها ذهب الجماهير من السلف والخلف وقد روي نسخها بعد الترخيص في ستة مواطن الأول: في خيبر الثاني: في عمرة القضاء الثالث: عام الفتح الرابع: عام أوطاس الخامس: غزوة تبوك السادس: في حجة الوداع فهذه التي وردت إلا أن في ثبوت بعضها خلافا قال النووي الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا وإلى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة وذهب إلى بقاء الرخصة جماعة من الصحابة وروي رجوعهم وقولهم بالنسخ ومن أولئك ابن عباس روي عنه بقاء الرخصة ثم رجع عنه إلى القول بالتحريم قال البخاري بين علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ وأخرج ابن ماجه عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة وقال ابن عمر نهانا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا مسافحين إسناده قوي والقول بأن إباحتها قطعي ونسخها غير صحيح لأن الراوين لإباحتها رووا نسخها وذلك إما قطعي في الطرفين أو ظني في الطرفين كذا في الشرح وفي نهاية المجتهد أنها تواترت الأخبار بالتحريم إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم انتهى وقد بسطنا القول في تحريمها في حواشي ضوء النهار
26- وعن علي رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر" متفق عليه لفظه في البخاري "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن الحمر الأهلية زمن خيبر" بالخاء المعجمة أوله والراء آخره وقد وهم من رواه عام حنين بمهملة أوله ونون آخره أخرجه النسائي والدارقطني ونبه على أنه وهم ثم الظاهر أن الظرف في رواية البخاري متعلق بالأمرين معا المتعة ولحوم الحمر الأهلية وحكى البيهقي عن الحميدي أنه كان يقول سفيان بن عيينة في خيبر يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة قال البيهقي وهو محتمل ذلك ولكن أكثر الروايات يفيد تعلقه بهما وفي رواية حصول من طريق معمر بسنده أنه بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية إلا أنه قال السهيلي إنه لا يعرف عن أهل السير ورواة الآثار أنه نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر قال والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير وقد ذكر ابن عبد البر أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر وقال

(3/126)


أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح والحامل لهؤلاء على ما سمعت ثبوت الرخصة بعد زمن خيبر ولا تقوم لعلي الحجة على ابن عباس إلا إذا وقع النهي أخيرا إلا أنه يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا رضي الله عنه لم تبلغه فيها يوم الفتح لوقوع النهي عن قرب ويمكن أن عليا عرف بالرخصة يوم الفتح ولكن فهم توقيت الترخيص وهو أيام شدة الحاجة مع العزوبة وبعد مضي ذلك فهي باقية على أصل التحريم المتقدم فتقوم له الحجة على ابن عباس وأما قول ابن القيم إن المسلمين لم يكونوا يستمتعون بالكتابيات يريد فيقوى أن النهي لم يقع عام خيبر إذ لم يقع هناك نكاح متعة فقد يجاب عنه بأنه قد يكون هناك مشركات غير كتابيات فإن أهل خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فلعله كان هناك من نساء الأوس والخزرج من يستمتعون منهن
27- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وفي الباب عن علي أخرجه الأربعة إلا النسائي بكذا حديث ابن مسعود ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري وقال الترمذي حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعثمان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين وأما حديث علي رضي الله عنه ففي إسناده مجالد وهو ضعيف وصححه ابن السكن وأعله الترمذي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر ولفظه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟" قالوا بلى يا رسول الله قال " فهو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" والحديث دليل على تحريم التحليل لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل المحرم وكل محرم منهي عنه والنهي يقتضي فساد العقد واللعن وإن كان ذلك للفاعل لكنه علق بوصف يصح أن يكون علة الحكم وذكروا للتحليل صورا منها أن يقول له في العقد إذا أحللتها فلا نكاح وهذا مثل نكاح المتعة لأجل التوقيت ومنها أن يقول في العقد إذا أحللتها طلقتها ومنها أن يكون مضمرا عند العقد بأن يتواطأ على التحليل ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود وظاهر شمول اللعن فساد العقد لجميع الصور وفي بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا يشتغل بها
28- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود" إلا مثله رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات الحديث دليل على أنه يحرم على المرأة أن تزوج بمن ظهر زناه ولعل الوصف بالمجلود بناء على الأغلب في حق من ظهر منه الزنا وكذلك يحرم عليه أن يتزوج بالزانية التي ظهر زناها وهذا الحديث موافق قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلا أنه حمل الحديث والآية

(3/127)


الأكثر من العلماء على أن معنى لا ينكح لا يرغب الزاني المجلود إلا في مثله والزانية لا ترغب في في نكاح غير العاهر هكذا تأولوهما والذي يدل عليه الحديث والآية النهي عن ذلك لا الإخبار عن مجرد الرغبة وأنه يحرم نكاح الزاني العفيفة والعفيف الزانية ولا أصرح من قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي كاملي الإيمان الذين هم ليسوا بزناة
وإلا فإن الزاني لا يخرج من مسمى الإيمان عند الأكثر
29- وعن عائشة رضي الله عنها قالت طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها" مصغر عسل وأنث لأن العسل مؤنث وقيل إنه يذكر ويؤنث ما ذاق الأول متفق عليه واللفظ لمسلم اختلف في المراد فقيل إنزال المني وأن التحليل لا يكون إلا بذلك وذهب إليه الحسن وقال الجمهور ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب الحشفة من الرجل في فرج المرأة ويكفي منه ما يوجب الحد ويوجب الصداق وقال الأزهري الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع التي تحصل بتغييب الحشفة قال أبو عبيدة العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلا والحديث محتمل وأما قول سعيد بن المسيب إنه يحصل التحليل بالعقد الصحيح فقال ابن المنذر لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا الخوارج ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن وأما رواية ذلك عن سعيد بن جبير فلا يوجد مسندا عنه في كتاب إنما نقله أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وتبعه عبد الوهاب المالكي في شرح الرسالة وقد حكى ابن الجوزي مثل قول ابن المسيب عن داود

(3/128)


باب الكفاءة والخيار
الكفاءة المساواة أو المماثلة والكفاءة في الدين معتبرة فلا يحل تزوج مسلمة بكافر إجماعا
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض إلا حائكا أو حجاما" رواه الحاكم وفي إسناده راو لم يسم واستنكره أبو حاتم وله شاهد عند البزار عن معاذ بن جبل بسند منقطع وسأل ابن أبي حاتم عن هذا الحديث أباه فقال هذا كذب لا أصل له وقال في موضع آخر باطل ورواه ابن عبد البر في التمهيد قال الدارقطني في العلل لا يصح وحدث به هشام بن عبيد الراوي فزاد فيه بعد أو حجاما أو دباغا فاجتمع عليه الدباغون وهموا به قال ابن عبد البر هذا منكر موضوع وله طرق كلها واهية والحديث دليل على أن العرب سواء في الكفاءة بعضهم لبعض وأن الموالي ليسوا أكفاء لهم وقد اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافا كثيرا والذي يقوى هو ما ذهب إليه زيد بن علي ومالك ويروى عن عمر وابن مسعود و ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وهو أحد قولي الناصر أن المعتبر الدين لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(3/128)


ولحديث الناس "كلهم ولد آدم" وتمامه "وآدم من تراب" أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة وليس فيه لفظ "كلهم والناس كإطعام المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" أخرجه ابن لال بلفظ قريب من لفظ حديث سهل بن سعد وأشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث قال باب الأكفاء في الدين وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً}
فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم بابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وسالم مولى لامرأة من الأنصار وقد تقدم حديث فعليك بذات الدين وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية" بضم المهملة وكسرها "يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله" ثم قرأ الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله" فجعل صلى الله عليه وسلم الالتفات إلى الأنساب من عبية فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكما شرعيا وفي الحديث أربع من أمور الجاهلية لا يتركها الناس ثم ذكر منها الفخر بالأنساب أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس وفي الأحاديث شيء كثير في ذم الالتفات إلى الترفع بها وقد أمر صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند الحجام وقال إنما هو امرؤ من المسلمين فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم وهو الاتفاق في وصف الإسلام وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع ولا إله إلا الله كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم اللهم إنا نبرأ إليك من شرط ولده الهوى ورباه الكبرياء ولقد منعت الفاطميات في جهة اليمن ما أحل الله لهن من النكاح لقول بعض أهل مذهب الهادوية إنه يحرم نكاح الفاطمية إلا من فاطمي من غير دليل ذكروه وليس مذهبا لإمام المذهب الهادي عليه السلام بل زوج بناته من الطبريين وإنما نشأ هذا القول من بعده في أيام الإمام أحمد بن سليمان وتبعهم بيت رياستها فقالوا بلسان الحال تحرم شرائفهم على الفاطميين إلا من مثلهم وكل ذلك من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير بل ثبت خلاف ما قالوه عن سيد البشر كما دل له
2- وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "انكحي أسامة" رواه مسلم وفاطمة قرشية فهرية أخت الضحاك بن قيس وهي من المهاجرات الأول كانت ذات جمال وفضل وكمال جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه فأخبرته أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد" الحديث فأمرها بنكاح أسامة مولاه ابن مولاه وهي قرشية وقدمه على أكفائها ممن ذكر ولا أعلم أنه

(3/129)


طلب من أحد أوليائها إسقاط حقه وكأن المصنف رحمه الله أورد هذا الحديث بعد بيان ضعف الحديث الأول للإشارة إلى أنه لا عبرة في الكفاءة بغير الدين كما أورد لذلك قوله
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني بياضة انكحوا أبا هند" اسمه يسار وهو الذي حجم النبي صلى الله عليه وسلم وكان مولى لبني بياضة وأنكحوا إليه وكان حجاما رواه أبو داود والحاكم بسند جيد فهو من أدلة عدم اعتبار كفاءة الأنساب وقد صح أن بلالا نكح هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي
4- وعن عائشة رضي الله عنها قالت خيرت بريرة على زوجها حين عتقت متفق عليه في ولمسلم عنها رضي الله عنها أن زوجها كان عبدا وفي رواية عنها كان حرا والأول أثبت لأنه جزم البخاري أنه كان عبد الله ولذا قال وصح عن ابن عباس رضي الله عنه عند البخاري أنه كان عبدا ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئا ورأوه فهو أصح وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ إن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تعتد وفي البخاري عن ابن عباس ذاك مغيث عبد بني فلان يعني زوج بريرة وفي أخرى عند البخاري كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث قال الدارقطني لم تختلف الرواية عن عروة عن عائشة أنه كان عبدا وكذا قال جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة قال النووي: يؤيد قول من قال كان عبدا قول عائشة كان عبدا فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا فصح رجحان كونه عبدا قوة وكثرة وحفظا والحديث دليل على ثبوت الخيار للمعتقة بعد عتقها في زوجها إذا كان عبدا وهو إجماع واختلف إذا كان حرا فقيل لايثبت لها الخيار وهو قول الجمهور قالوا: لأن العلة في ثبوت الخيار إذا كان عبدا هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار وذهبت الهادوية والشعبي وآخرون إلى أنه يثبت لها الخيار وإن كان حرا احتجوا بأنه قد ورد في رواية أن زوج بريرة كان حرا ورده الأولون بأنها رواية مرجوحة لا يعمل بها قالوا ولأنها عند تزويجها لم يكن لها اختيار فإن سيدها يزوجها وإن كرهت فإذا أعتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك قال ابن القيم في تخييرها ثلاثة مآخذ وذكر مأخذين وضعفهما ثم ذكر الثالث وهو أرجحها وتحقيقه أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين الأمرين البقاء تحت الزوج أو الفسخ منه وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة ملكت نفسك فاختاري قلت وهو من تعليق الحكم وهو الاختيار على ملكها لنفسها فهو إشارة إلى علة التخيير وهذا يقتضي ثبوت الخيار إن كانت تحت حر وهل يقع الفسخ بلفظ الاختيار

(3/130)


قيل: نعم كما يدل له قوله في الحديث خيرت وقيل لا بد من لفظ الفسخ ثم إذا اختارت نفسها لم يكن للزوج الرجعة عليها وإنما يراجعها بعقد جديد إن رضيت به ولا يزال لها الخيار بعد علمها ما لم يطأها لما أخرجه أحمد عنه صلى الله عليه وسلم "إذا عتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن تشأ فارقته وإن وطئها فلا خيار لها" وأخرجه الدارقطني بلفظ "إن قاربك فلا خيار لك" فدل أن الوطء مانع من الخيار وإليه ذهب الحنابلة
واعلم أن هذا الحديث جليل قد ذكره العلماء في مواضع من كتبهم في الزكاة وفي العتق وفي البيع وفي النكاح وذكره البخاري في البيع وأطال المصنف في عدة ما استخرج منه من الفوائد حتى بلغت مائة واثنتين وعشرين فائدة فنذكر ما له تعلق بالباب الذي نحن بصدده منها جواز بيع أحد الزوجين الرقيقين دون الآخر وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقا وأن عتقها لا يكون طلاقا ولا فسخا وأن للرقيق أن يسعى في فكاك رقبته من الرق وأن الكفارة معتبرة في الحرية قلت قد أشار في الحديث إلى سبب تخييرها وهو ملكها نفسها كما عرفت فلا يتم هذا وأن اعتبارها يسقط برضا المرأة التي لا ولي لها ومما ذكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكك المدينة يتحدر دمعه لفرط محبته لها قالوا فيؤخذ منه أن الحب يذهب الحياء وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه فيعذر أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد عند سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يغتفر منهم ما لا يحصل عن اختيار كالرقص ونحوه قلت لا يخفى أن زوج بريرة بكى من فراق محبه فمحب الله يبكي شوقا إلى لقائه وخوفا من سخطه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي عند سماع القرآن وكذلك أصحابه ومن تبعهم بإحسان وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه فأعجب لهذا المأخذ الذي أخذوه من الحديث وذكره المصنف في الفتح عند سرد قيه غير ما ذكرناه وأبلغ فوائده إلى العدد الذي وصفناه وفي بعضها خفاء وتكلف لا يليق بمثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
5- وعن الضحاك تابعي معروف روى عن أبيه ابن فيروز بفتح الفاء وسكون المثناة الراء وسكون الواو آخره زاي هو أبو عبد الله الديلمي ويقال الحميري لنزوله حمير وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء كان ممن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قتل العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في سنة إحدى عشرة وأتى حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض مرض موته وكان بين ظهوره وقتله أربعة أشهر عن أبيه رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلق أيتهما شئت" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي وأعله البخاري بأنه رواه الضحاك عن أبيه ورواه عنه أبو وهب الجيشاني بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية والشين المعجمة فنون قال البخاري لا نعرف سماع بعضهم من بعض والحديث دليل على اعتبار أنكحة الكفار وإن خالفت نكاح الإسلام

(3/131)


وأنها لا تخرج المرأة من الزوج إلا بطلاق بعد الإسلام وأنه يبقى بعد الإسلام بلا تجديد عقد وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وداود وعند الهادوية والحنفية أنه لا يقر منه إلا ما وافق الإسلام وتأولوا هذا الحديث بأن المراد بالطلاق الاعتزال وإمساك الأخت الأخرى عنده بعقد جديد ولا يخفى أنه تأويل متعسف وكيف يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل في الإسلام ولم يعرف الأحكام بمثل هذا وكذلك تأولوا مثل هذا قوله
6- وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر أن غيلان بن سلمة هو ممن أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر وهو من أعيان ثقيف ومات في خلافة عمر أسلم وله عشر نسوة فأسلمن معه "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن أربعا" رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وأعله البخاري وأبو زرعة قال الترمذي قال البخاري هذا الحديث غير محفوظ وأطال المصنف في التلخيص الكلام على الحديث وأخصر منه وأحسن إفادة كلام ابن كثير في الإرشاد قال عقب سياقه له رواه الإمامان أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه وهذا الإسناد رجاله على شرط الشيخين إلا أن الترمذي يقول سمعت البخاري يقول هذا محفوظ ذ البحديث غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال حدثت عن محمد بن شعيب الثقفي أن غيلان فذكره قال البخاري وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك الحديث قال ابن كثير: قلت قد أجمع الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند فليس ما ذكره البخاري قادحا وساق رواية النسائي له برجال ثقات إلا أنه يرد على ابن كثير ما نقله الأثرم عن أحمد أنه قال هذا الحديث غير صحيح والعمل عليه وهو دليل على ما دل عليه حديث الضحاك ومن تأول ذلك تأول هذا
فائدة سبقت إشارة إلى قصة تطليق رجل من ثقيف نساءه وذلك أنه اختار أربعا فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فلما بلغ ذلك عمر قال: إني لأظن الشيطان مما يسترق سمع بموتك فقذفه في نفسك وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلا وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فليرجم كما رجم قبر أبي رغال الحديث ووقع في الوسيط ابن غيلان وهو وهم بل هو غيلان وأشد منه وهما ما وقع في مختصر ابن الحاجب ابن عيلان بالعين المهملة وفي سنن أبي داود أن قيس بن الحرث أسلم وعنده ثمان نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعا" فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر من ستين سنة ففارقتها وعاش نوفل بن معاوية مائة وعشرين سنة ستين في الإسلام

(3/132)


وستين في الجاهلية وفي كلام عمر ما يدل على إبطال الحيلة لمنع التوريث وأن الشيطان قد يقذف في قلب العبد ما يسترقه من السمع من أحواله وأنه يرجم القبر عقوبة للعاصي وإهانة وتحذيرا عن مثل ما فعله
7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحا" رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه أحمد والحاكم قال الترمذي حسن وليس بإسناده بأس وفي لفظ حصول كان إسلامها قبل إسلامه بست سنين وعنى بإسلامها هجرتها وإلا فهي أسلمت مع سائر بناته صلى الله عليه وسلم وهن أسلمن منذ بعثه الله وكانت هجرتها بعد وقعة بدر بقليل ووقعة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية من هجرته صلى الله عليه وسلم وحرمت المسلمات على الكفار في الحديبية سنة ست من ذي القعدة منها فيكون مكثها بعد ذلك نحوا من سنتين ولهذا ورد في رواية أبي داود ردها عليه بعد سنتين وهكذا قرر ذلك أبو بكر البيهقي قال الترمذي لا يعرف وجه هذا الحديث يشير إلى أنه كيف ردها عليه بعد ست سنين أو ثلاث أو سنتين وهو مشكل لاستبعاد أن تبقى عدتها هذه المدة ولم يذهب أحد إلى تقرير المسلمة تحت الكافر إذا تأخر إسلامه عن إسلامها نقل الإجماع في ذلك ابن عبد البر وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر جوزه ورد بالإجماع وتعقب بثبوت الخلاف فيه عن علي والنخعي أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وبه أفتى حماد شيخ أبي حنيفة فروى عن علي أنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما هو أملك لبضعها ما دامت في دار هجرتها وفي رواية هو أولى بها ما لم تخرج من مصرها وفي رواية عن الزهري أنه إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان وقال الجمهور إن أسلمت الحربية وزوجها حربي وهي مدخول بها فإن أسلم وهي في العدة فالنكاح باق وإن أسلم بعد انقضاء عدتها وقعت الفرقة بينهما وهذا الذي ادعى عليه الإجماع في البحر وادعاه ابن عبد البر كما عرفت وتأول الجمهور حديث زينب بأن عدتها لم تكن قد انقضت وذلك بعد نزول آية التحريم لبقاء المسلمة تحت الكافر وهو مقدار سنتين وأشهر لأن الحيض قد يتأخر مع بعض النساء فردها صلى الله عليه وسلم لما كانت العدة غير منقضية وقيل المراد بقوله بالنكاح الأول أنه لم يحدث زيادة شرط ولا مهر ورد هذا ابن القيم وقال لا نعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لكانت فرقة بائنة لا رجعية فلا أثر للعدة في بقاء النكاح وإنما أثرها في منع نكاحها للغير فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة ولكن الذي دل عليه

(3/133)


حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت وإن أحبت انتظرته فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح ولا يعلم أحد جدد بعد الإسلام نكاحه البتة بل كان الواقع أحد الأمرين إما افتراقهما ونكاحها غيره وإما بقاؤهما عليه وإن تأخر إسلامه وأما تنجيز الفرقة ومراعاة العدة فلا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحد منهما مع كثرة من أسلم في عهده وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه قال ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ثم سرد قضايا توكد ما ذهب إليه وهو أقرب الأقوال في المسألة
8- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد" قال الترمذي حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب قال الحافظ ابن كثير في الإرشاد قال الإمام أحمد هذا حديث ضعيف وحجاج لم يسمعه من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبد الله العرزمي والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا قال والصحيح حديث ابن عباس يعني المتقدم وهكذا قال البخاري والترمذي والدارقطني والبيهقي وحكاه عن حفاظ الحديث وأما ابن عبد البر فإنه جنح إلى ترجيح رواية عمرو بن شعيب وجمع بينه وبين حديث ابن عباس فحمل قوله في حديث ابن عباس بالنكاح الأول أي بشروطه ومعنى لم يحدث شيئا أي لم يزد على ذلك شيئا وقد أشرنا إليه آنفا قال وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد ومهر جديد والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل انتهى قلت يرد تأويل حديث ابن عباس تصريح ابن عباس في رواية فلم يحدث شهادة ولا صداقا رواه ابن كثير في الإرشاد ونسبه إلى إخراج الإمام أحمد له وأما قول الترمذي والعمل على حديث عمرو بن شعيب فإنه يريد عمل أهل العراق ولا يخفى أن عملهم بالحديث الضعيف وهجر القوي لا يقوى الضعيف بل يضعف ما ذهبوا إليه من العمل
9- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "أسلمت امرأة فتزوجت فجاء زوجها فقال يا رسول الله إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم الحديث دليل على أنه إذا أسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقد نكاحه وإن تزوجت فهو تزوج باطل تنتزع من الزوج الآخر وقوله وعلمت بإسلامي يحتمل أنه أسلم بعد انقضاء عدتها أو قبلها وأنها ترد إليه على كل حال وأن علمها بإسلامه قبل تزوجها بغيره يبطل نكاحها مطلقا سواء انقضت عدتها أم لا فهو من الأدلة لكلام ابن القيم

(3/134)


الذي قدمناه لأن تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال هل علمت بعد انقضاء العدة أو لا دليل على أنه لا حكم للعدة إلا أنه على كلام ابن القيم الذي قدمناه أنها بعد انقضاء عدتها تزوج من شاءت لا تتم هذه القضية إلا على تقدير تزوجها في العدة كذا قاله الشارح رحمه الله ولا يخفى أنه مشكل لأنه إن كان عقد الآخر بعد انقضاء عدتها من الأول فنكاحها صحيح وإن كان قبل انقضاء عدتها فهو باطل إلا أن يقال إنه أسلم وهي في العدة وإذا أسلم وهي فيها فالنكاح باق بينهما فتزوجها بعد إسلامه باطل لأنها باقية في عقد نكاحها فهذا أقرب
10- وعن زيد بن كعب بن عجرة عن أبيه قال : "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية من بني غفار" بكسر الغين المعجمة ففاء خفيفة فراء بعد الألف قبيلة معروفة "فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها" بفتح الكاف فشين معجمة فحاء مهملة هو ما بين الخاصرتين إلى الضلع كما في القاموس "بياضا فقال البسي ثيابك والحقي بأهلك وأمر لها بالصداق" رواه الحاكم وفي إسناده جميل بن زيد وهو مجهول واختلف عليه في شيخه اختلافا كثيرا اختلف في الحديث عن جميل فقيل عنه كما قال المصنف وقيل عن ابن عمر وقيل عن كعب بن عجرة وقيل عن كعب بن زيد والحديث فيه دليل على أن البرص منفر ولا يدل الحديث على أنه يفسخ به النكاح صريحا لاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم "الحقي بأهلك" أنه قصد به الطلاق إلا أنه قد روى هذا الحديث ابن كثير بلفظ "أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخلت عليه رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها وقال دلستم علي" فهو دليل على الفسخ وهذا الحديث ذكره ابن كثير في باب الخيار في النكاح والرد بالعيب وقد اختلف العلماء في فسخ النكاح بالعيوب فذهب أكثر الأمة إلى ثبوته وإن اختلفوا في التفاصيل فروي عن علي وعمر أنها لا ترد النساء إلا من أربع من الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج وإسناده منقطع وروى البيهقي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنه أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء والرجل يشارك المرأة في ذلك ويرد بالجب والعنة على خلاف في العنة وفي أنواع من المنفرات خلاف واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من الشروط في البيع قال: ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتملت عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة وقال: وأما الاقتصار على عيبين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساويها فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما من أعظم المنفرات والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا قال وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له أخبرها أنك عقيم فماذا تقول في العيوب الذي هذا عندها كمال لا نقص انتهى

(3/135)


وذهب داود وابن حزم إلى أنه لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة وكأنه لما لم يثبت الحديث به ولا يقولون بالقياس لم يقولوا بالفسخ
11- وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما رجل تزوح امرأة فدخل بها فوجدها برصاء أو مجنونة أو مجذومة فلها الصداق بمسيسه إياها وهو له على من غره منها أخرجه سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة ورجاله ثقات تقدم الكلام في الفسخ بالعيب وقوله وهو أي المهر له أي للزوج على من غره منها أي يرجع عليه وإليه ذهب الهادي ومالك وأصحاب الشافعي وذلك لأنه غرم لحقه بسببه إلا أنهم اشترطوا علمه بالعيب فإذا كان جاهلا فلا غرم عليه وقول عمر على من غره دال على ذلك إذ لا غرر منه إلا مع العلم وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا رجوع إلا أن الشافعي قال بها في الجديد قال ابن كثير في الإرشاد وقد حكى الشافعي في القديم عن عمر وعلي وابن عباس في المغرور يرجع بالمهر على من غره ويعتضد بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" ثم قال الشافعي في الجديد: وإنما تركنا ذلك لحديث "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها" قال فجعل لها الصداق في النكاح الباطل وهي التي غرته فلأن يجعل لها الصداق بلا رجوع على الغار في النكاح الصحيح الذي الزوج فيه مخير بطريق الأولى انتهى وقد يقال هذا مطلق مقيد بحديث الباب
12- وروى سعيد أيضا يعني ابن منصور عن علي رضي الله عنه نحوه وزاد أو بها قرن بفتح القاف وسكون الراء هو العفلة بفتح العين المهملة وفتح الفاء واللام وهي تخرج في قبل النساء وحيا الناقة كالأدرة في الرجال فزوجها بالخيار فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها
13- ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا أي وأخرج سعيد بن منصور من طريق ابن المسيب قال قضى عمر أن العنين أن يؤجل سنة ورجاله ثقات بالمهملة فنون فمثناة تحتية فنون بزنة سكين هو من لا يأتي النساء عجزا لعدم انتشار ذكره ولا يريدهن والاسم العنانة والتعنين والعنينة بالكسر ويشدد والعنة بالضم الاسم أيضا من عنن عن امرأته حكم عليه القاضي بذلك أو منع بالسحر وهذا الأثر دال على أنها عيب يفسخ بها النكاح بعد تحققها واختلفوا في ذلك والقائلون بالفسخ اختلفوا أيضا في إمهاله ليحصل التحقيق فقيل يمهل سنة وهو مروي عن عمر وابن مسعود وروي عثمان أنه لم يؤجله وعن الحارث بن عبد الله يؤجل عشرة أشهر وذهب أحمد والهادي وجماعة إلى أنه لا فسخ في ذلك واستدلوا بأن الأصل عدم الفسخ وهذا أثر لا حجة فيه وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يخير امرأة رفاعة وقد شكت منه ذلك وهو في موضع التعليم وقد أجاب في البحر بقوله قلنا لعل زوجها أنكر والظاهر معه قلت لا يخفى أن امرأة رفاعة لم تشك من رفاعة فإنه كان قد

(3/136)


طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاءت تشكو إليه صلى الله عليه وسلم وقالت إنما معه مثل هدبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" وفي رواية الموطأ أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين" الحديث وبهذا يعرف عدم صحة الاستدلال بقصة رفاعة فإنها لم تطلب الفسخ بل فهم منها صلى الله عليه وسلم أنها تريد أن يراجعها رفاعة فأخبرها أن عبد الرحمن حيث لم يذق عسيلتها ولا ذاقت عسيلته لا يحلها لرفاعة وكيف يحمل حديثها على طلبها الفسخ وقد أخرج مالك في الموطأ أن عبد الرحمن لم يستطع أن يمسها فطلقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابها بأنها لا تحل له وأما قصة أبي ركانة وهي "أنه نكح امرأة من مزينة فجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلا كما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه أترون فلانا يعني ولدا له يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد طلقها ففعل" الحديث أخرجه أبو داود عن ابن عباس والظاهر أنه لم يثبت عنده صلى الله عليه وسلم ما ادعته المرأة من العنة لأنها خلاف الأصل ولأنه صلى الله عليه وسلم تعرف أولاده بالقيافة وسأله عنها أصحابه صلى الله عليه وسلم فدل أنه لم يثبت له أنه عنين فأمره بالطلاق إرشادا إلى أنه ينبغي له فراقها حيث طلبت ذلك منه لا أنه يجب عليه
فائدة: قال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع فقال الأكثرون إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وقال أبو ثور إن ترك جماعها لعلة أجل لها سنة وإن كان لغير علة فلا تأجيل وقال عياض اتفق كافة العلماء أن للمرأة حقا في الجماع فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما ويضرب للعنين سنة لاختبار زوال ما به انتهى قلت ولم يستدلوا على مقدار الأجل بالسنة بدليل ناهض إنما يذكر الفقهاء أنه لأجل أن تمر به الفصول الأربعة فيتبين حينئذ حاله

(3/137)


باب عشرة النساء
بكسر العين وسكون الشين المعجمة أي عشرة الرجال أي الأزواج النساء أي الزوجات 1-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون

(3/137)


من أتى امرأة في دبرها" رواه أبو داود والنسائي واللفظ له ورجاله ثقات لكن أعل بالإرسال روي هذا الحديث بلفظه من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمر وخزيمة وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر والبراء وعقبة بن عامر وأنس وأبو ذر وفي طرقه جميعها كلام ولكنه مع كثرة الطرق واختلاف الرواة يشد بعض طرقه بعضا ويدل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن وإلى هذا ذهبت الأمة إلا القليل للحديث هذا ولأن الأصل تحريم المباشرة إلا ما أحله الله ولم يحل تعالى إلا القبل كما دل له قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فأباح موضع الحرث والمطلوب من الحرث نبات الزرع فكذلك النساء الغرض من إتيانهن هو طلب النسل لا قضاء الشهوة وهو لا يكون إلا في القبل فيحرم ما عدا موضع الحرث ولا يقاس عليه غيرة لعدم المشابهة في كونه محلا للزرع وأما حل الاستمتاع فيما عدا الفرج فمأخوذ من دليل آخر وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج وذهبت الإمامية إلى جواز إتيان الزوجة والأمة بل المملوك في الدبر وروي عن الشافعي أنه قال لم يصح في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال ولكن قال الربيع والله الذي لا إله إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب ويقال إنه كان يقول بحله في القديم وفي الهدي النبوي عن الشافعي أنه قال لا أرخص فيه بل أنهى عنه وقال إن من نقل عن الأئمة إباحته فقد غلط عليهم أفحش الغلط وأقبحه وإنما الذي أباحوه أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج فيطأ من الدبر لا في الدبر فاشتبه على السامع انتهى ويروى جواز ذلك عن مالك وأنكره أصحابه وقد أطال الشارح القول في المسألة بما لا حاجة إلى استيفائه هنا وقرر آخرا تحريم ذلك ومن أدلة تحريمه قوله
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وأعل بالوقف على ابن عباس ولكن المسألة لا مسرح للاجتهاد فيها سيما ذكر هذا النوع من الوعيد فإنه لا يدرك بالاجتهاد فله حكم الرفع
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع" بكسر الضاء المعجمة وفتح اللام وإسكانها واحد الأضلاع "وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا" أي اقبلوا الوصية فيهن والمعنى أني أوصيكم بهن خيرا أو المعنى يوصي بعضكم بعضا فيهن خيرا متفق عليه واللفظ للبخاري ولمسلم

(3/138)


"فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج" هو بكسر أوله على الأرجح "وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها" الحديث دليل على عظم حق الجار وأن من آذى الجار فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر وهذا إن كان يلزم منه كفر من آذى جاره إلا أنه محمول على المبالغة لأن من حق الإيمان ذلك فلا ينبغي لمؤمن الاتصاف به وقد عد أذى الجار من الكبائر فالمراد من كان يؤمن إيمانا كاملا وقد وصى الله على الجار في القرآن وحد الجار إلى أربعين دارا كما أخرج الطبراني أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني نزلت في محل بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم إلي دارا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرا وعمر وعليا رضي الله عنهم يأتون في المسجد فيصيحون على أن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة بيت من جيرانه وهذا فيه زيادة على الأول والأذية للمؤمن مطلقاً محرمة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولكنه في حق الجار أشد تحريما فلا يغتفر منه شيء وهو كل ما يعد في العرف أذى حتى ورد في الحديث أنه لا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له من مرقته ولا يحجز عنه الريح إلا بإذنه وإن اشترى فاكهة أهدى إليه منها وحقوق الجار مستوفاة في الإحياء للغزالي وقوله واستوصوا تقدم بيان معناه وعلله بقوله فإنهن خلقن من ضلع يريد خلقن خلقا فيه اعوجاج لأنهن خلقن من أصل معوج والمراد أن حواء أصلها خلقت من ضلع آدم كما قال تعالى: {خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بعد قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس "إن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم" وقوله: "وإن أعوج ما في الضلع" إخبار بأنها خلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن وضمير قوله تقيمه وكسرته للضلع وهو يذكر ويؤنث وكذا جاء في لفظ البخاري تقيمها وكسرتها ويحتمل أنه للمرأة ورواية مسلم صريحة في ذلك حيث قال وكسرها طلاقها والحديث فيه الأمر بالوصية بالنساء والاحتمال لهن والصبر على عوج أخلاقهن وأنه لا سبيل إلى إصلاح أخلاقهن بل لا بد من العوج فيها وأنه من أصل الخلقة وتقدم ضبط العوج هنا وقد قال أهل اللغة العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبههما وبالكسر ما كان في بساط أو معاش أو دين ويقال فلان في دينه عوج بالكسر
4- وعن جابر رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال صلى الله عليه وسلم: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلا" يعني عشاء "لكي تمتشط الشعثة" بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة فمثناة

(3/139)


"وتستحد" بسين وحاء مهملتين "المغيبة" بضم الميم وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية ساكنة فموحدة مفتوحة التي غاب عنها زوجها متفق عليه فيه دليل على أنه يحسن التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذكر من تحسين هيئات من غاب عنهن أزواجهن من الامتشاط وإزالة الشعر بالموسى مثلا من المحلات التي يحسن إزالته منها وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة فينفر الزوج عنهن والمراد إذا سافر سفرا يطيل فيه الغيبة كما دل له قوله وفي رواية البخاري أي عن جابر "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا" قال أهل اللغة الطروق المجيء بالليل من سفر وغيره على غفلة ويقال لكل آت بالليل طارق ولا يقال في النهار إلا مجازا وقوله ليلا ظاهره تقييد النهي بالليل وأنه لا كراهة في دخوله إلى أهله نهارا من غير شعورهم واختلف في علة التفرقة بين الليل والنهار فعلل البخاري في ترجمة الباب بقوله باب لا يطرق الرجل أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يتخونهم أو يتلمس عثراتهم فعلى هذا التعليل يكون الليل جزء العلة لأن الريبة تغلب في الليل وتندر في النهار وإن كانت العلة ما صرح به وهو قوله لكي تمتشط إلى آخره فهو حاصل في الليل والنهار قيل ويحتمل أن يكون معتبرا على كلا التقديرين فإن الغرض منه التنظيف والتزيين هوتحصيل لكمال الغرض من قضاء الشهوة وذلك في الأغلب يكون في الليل فالقادم في النهار يتأنى ليحصل لزوجته التنظيف والتزيين لوقت المباشرة وهو الليل بخلاف القادم في الليل وكذلك ما يخشى منه من العثور على وجود أجنبي وهو في الأغلب يكون في الليل وقد أخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلا فطرق رجلان كلاهما فوجد يريد كل واحد منهما مع امرأته ما يكره" وأخرج أبو عوانة في صحيحه من حديث جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلا فأشار إليها بالسيف فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا " وفي الحديث الحث على البعد عن تتبع عورات الأهل والحث على ما يجلب التودد والتحاب بين الزوجين وعدم التعرض لما يوجب سوء الظن بالأهل وبغيرهم أولى وفيه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة لزوجها محبوب للشرع وأنه ليس من تغيير خلق الله المنهي عنه
5- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته" من أفضى الرجل إلى المرأة جامعها أو خلا بها جامع أو لا كما في القاموس "وتفضي إليه ثم ينشر سرها" أي وتنشر سره أخرجه مسلم إلا أنه بلفظ "إن من أشر الناس" قال القاضي عياض: وأهل النحو يقولون لا يجوز أشر وأخير وإنما يقال هو خير منه وشر منه قال وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعا وهي حجة في جوازهما جميعا وأنهما لغتان والحديث دليل على تحريم إفشاء الرجل ما يقع بينه وبين امرأته من أمور الوقاع

(3/140)


ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" فإن دعت إليه حاجة أو ترتبت عليه
فائدة بأن كان ينكر إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعله أنا" وهذه وقال لأبي طلحة "أعرستم الليلة" وقال لجابر: "الكيس الكيس" كذلك المرأة لا يجوز لها إفشاء سره وقد ورد به النص أيضا
6- وعن حكيم بن معاوية أي ابن حيدة بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة فدال مهملة ومعاوية صحابي روى عنه ابنه حكيم وروى عن حكيم ابنه بهز بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاي عن أبيه رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما حق زوج أحدنا هكذا بعدم التاء هي اللغة الفصيحة وجاء زوجة بالتاء عليه قال: "تطعمها إذا اكلت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعلق البخاري بعضه حيث قال: باب هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن ويذكر عن معاوية بن حيدة رفعه ولا تهجر إلا في البيت والأول أصح وصححه ابن حبان والحاكم دل الحديث على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وأن النفقة بقدر سعته لا يكلف فوق وسعه لقوله "إذا اكلت" كذا قيل وفي أخذه من هذا اللفظ خفاء فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون زوجته ولعله مقيد بما زاد على قدر سد خلته لحديث "ابدأ بنفسك" ومثله القول في الكسوة وفي الحديث دليل على جواز الضرب تأديبا إلا أنه منهي عن ضرب الوجه للزوجة وغيرها وقوله "لا تقبح" أي لا تسمعها ما تكره وتقول قبحك الله ونحوه من الكلام الجافي ومعنى قوله "لا تهجر إلا في البيت" أنه إذا أراد هجرها في المضجع تأديبا لها كما قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فلا يهجرها إلا في البيت ولا يتحول إلى دار أخرى أو يحولها إليها إلا أن رواية البخاري التي ذكرناها دلت أنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه في غير بيوتهن وخرج إلى مشربة له وقد قال البخاري إن هذا أصح من حديث معاوية هذا وقد يقال دل فعله على جواز هجرهن في غير البيوت وحديث معاوية على هجرهن في البيوت ويكون مفهوم الحصر غير مراد واختلف في تفسير الهجر فالجمهور فسروه بترك الدخول عليهن والإقامة عندهن على ظاهر الآية وهو من الهجران بمعنى البعد وقيل يضاجعها ويوليها ظهره وقيل يترك جماعها وقيل يجامعها ولا يكلمها وقيل من الهجر الإغلاظ في القول وقيل من الهجار وهو الحبل الذي يربط به البعير أي أوثقوهن في البيوت قاله الطبري واستدل له ووهاه ابن العربي
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري سمعت جابرا يقول كانت اليهود تقول إذا

(3/141)


جامعها من ورائها أي في قبلها كما فسرته الرواية الأولى جاء الولد أحول فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
واختلف الروايات في سبب نزولها على ثلاثة أقوال: الأول: ما ذكره المصنف من رواية الشيخين أنه في إتيان المرأة من ورائها في قبلها وأخرج هذا المعنى جماعة من المحدثين عن جابر وغيره واجتمع فيه ستة وثلاثون طريقا صرح في بعضها أنه لا يحل إلا في القبل وفي أكثرها الرد على اليهود
الثاني: أنها نزلت في حل إتيان دبر الزوجة أخرجه جماعة عن ابن عمر من اثني عشر طريقا الثالث: أنها نزلت في حل العزل عن الزوجة أخرجه أئمة من أهل الحديث عن ابن عباس وعن ابن عمر وعن ابن المسيب ولا يخفى أن ما في الصحيحين مقدم على غيره فالراجح هو القول الأول وابن عمر قد اختلفت عنه الرواية والقول بأنه أريد بها العزل لا يناسبه لفظ الآية هذا وقد روي عن ابن الحنفية أن معنى قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} فهو بيان للفظ أنى وأنه معنى إذا فلا يدل على شيء مما ذكر أنه سبب النزول على أن إتيان الزوجة موكول إلى مشيئة الزوج
8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لن يضره الشيطان أبدا" متفق عليه هذا لفظ مسلم والحديث دليل على أنه يكون القول قبل المباشرة عند الإرادة وهذه الرواية تفسر رواية "لو أن أحدكم يقول حين يأتي أهله" أخرجها البخاري بأن المراد حين يريد وضمير جنبنا للرجل وامرأته وفي رواية الطبراني "جنبني وجنب ما رزقتني" بالإفراد وقوله "لم يضره الشيطان أبدا" أي لم يسلط عليه قال القاضي عياض: نفي الضرر على جهة العموم في جميع أنواع الضرر غير مراد وإن كان الظاهر العموم في جميع الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد وذلك لما ثبت في الحديث من أن كل ابن آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا مريم وابنها فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه قلت هذا من المقاضي مبني على عموم الضرر الديني والدنيوي وقيل ليس المراد إلا الديني وأنه يكون من جملة العباد الذي قال تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ويؤيد هذا أنه أخرج عبد الرزاق عن الحسن وفيه فكان يرجى إن حملت به أن يكون ولدا صالحا وهو مرسل ولكنه لا يقال من قبل الرأي
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أنه لايضره في دينه ولكن يلزم منه العصمة وليست إلا للأنبياء وقد أجيب بأن العصمة في حق الأنبياء على جهة الوجوب وفي حق من دعي لأجله بهذا الدعاء على جهة الجواز فلا يبعد أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدا وإن لم يكن ذلك واجبا له وقيل

(3/142)


م يضره لم يفتنه في دينه إلى الكفر وليس المراد عصمته عن المعصية وقيل لم يضره مشاركة الشيطان لأبيه في جماع أمه ويؤيده ما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه قيل ولعل هذا أقرب الأجوبة قلت إلا أنه لم يذكر من أخرجه عن مجاهد ثم هو مرسل ثم الحديث سيق لفائدة تحصل للولد ولا تحصل على هذا ولعله يقول إن عدم مشاركة الشيطان لأبيه في جماع أمه فائدته عائدة على الولد أيضا وفي الحديث استحباب التسمية وبيان بركتها في كل حال وأن يعتصم بالله وذكره من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء وفيه أن الشيطان لا يفارق ابن آدم في حال من الأحوال إلا إذا ذكر الله
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح أي وترجع عن العصيان" ففي بعض ألفاظ البخاري "حتى ترجع" متفق عليه واللفظ للبخاري ولمسلم "كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها" في الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها أي إذا دعاها للجماع لأن قوله إلى فراشه كناية عن الجماع كما في قوله الولد للفراش ودليل الوجوب لعن الملائكة لها إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله ولا يكون إلا عقوبة ولا عقوبة إلا على ترك واجب وقوله حتى تصبح دليل على وجوب الإجابة في الليل ولا مفهوم له لأنه خرج ذكره مخرج الغالب وإلا فإنه يجب عليها إجابته نهارا وقد أخرج غير مقيد بالليل ابن خزيمة وابن حبان مرفوعا ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع والسكران حتى يصحو والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى وإن كان هذا في سخطه مطلقا ولو لعدم طاعتها في غير الجماع وليس فيه لعن إلا أن فيه وعيدا شديدا يدخل فيه عدم طاعتها له في جماعها من ليل أو نهار وزاد البخاري في روايته في بدء الخلق فبات غضبان عليها أي زوجها وقيل هذه الزيادة يتجه وقوع اللعن عليها لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنها لا تستحق اللعن وفي قوله "لعنتها الملائكة" دلالة على أن منع من عليه الحق عمن هو له وقد طلبه يوجب سخط الله تعالى على المانع سواء كان الحق في بدن أو مال قيل ويدل على أنه يجوز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه قبل أن يواقع المعصية فإذا واقعها دعي له بالتوبة والمغفرة
قال المصنف في الفتح بعد نقله لهذا عن المهلب: ليس هذا التقييد مستفادا من الحديث بل من أدلة أخرى والحق أن منع اللعن أراد به معناه اللغوي وهو الإبعاد من الرحمة وهذا لا يليق أن يدعى

(3/143)


به على المسلم بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية والذي أجازه أراد معناه العرفي وهو مطلق السب ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر ولعن الملائكة لا يلزم منه جواز اللعن منا فإن التكليف مختلف انتهى كلامه قلت قول المهلب إنه يلعن قبل وقوع المعصية للإرهاب كلام مردود فإنه لا يجوز لعنه قبل إيقاعه لها أصلا لأن سبب اللعن وقوعها منه فقبل وقوع السبب لا وجه لإيقاع المسبب ثم إنه رتب في الحديث لعن الملائكة على إباء المرأة عن الإجابة وأحاديث لعن شارب الخمر رتب فيها اللعن على وصف كونه شاربا وقول الحافظ بأنه إن أريد معناه العرفي جاز لا يخفى أنه غير مراد للشارع إلا المعنى اللغوي والتحقيق أن الله تعالى أخبرنا أن الملائكة تلعن من ذكر وبأنه تعالى لعن شارب الخمر ولم يأمرنا بلعنه فإن ورد الأمر بلعنه وجب علينا الامتثال ولعنه ما لم تعلم توبته وندب لنا الدعاء له بالتوفيق للتوبة والاستغفار وقد أخبر الله تعالى أن الملائكة تلعن من ذكر ومعلوم أنه عن أمر الله وأخبر أنهم يستغفرون لمن في الأرض وهو عام يشتمل من يلعنونهم من أهل إلى الايمان وهم المرادون في آلاية إذ المراد من عصاة أهل الأيمان لأنهم المحتاجون إلى الاستغفار لا أنها مقيدة بقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ا} الآية كما قيل لأن التائب مغفور له وإنما دعاؤهم له بالمغفرة تعبد وزيادة تنويه بشأن التائبين وأما شمول عمومها للكفار فمعلوم أنه غير مراد وبهذا يعرف أن الملائكة قاموا بالأمرين كما أشرنا إليه وفي الحديث رعاية الله لعبده ولعن من عصاه في قضاء شهوته منه وأية رعاية أعظم من رعاية الملك الكبير للعبد الحقير فليكن لنعم مولاه ذاكرا ولأياديه شاكرا ومن معاصيه محاذرا ولهذه النكتة الشريفة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مذاكرا
10- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة" بالصاد المهملة "والمستوصلة والواشمة" بالشين المعجمة "والمستوشمة" متفق عليه الواصلة هي المرأة التي تصل شعرها بشعر غيرها سواء فعلته لنفسها أو لغيرها والمستوصلة التي تطلب فعل ذلك وزاد في الشرح ويفعل بها ولا يدل عليه اللفظ والواشمة فاعلة الوشم وهو أن تغرز إبرة ونحوها في ظهر كفها أو شفتها أو نحوهما من بدنها حتى يسيل الدم تحشو ذلك الموضع بالكحل والنورة فيخضر والمستوشمة الطالبة لذلك والحديث دليل على تحريم الأربعة الأشياء المذكورة في الحديث فالوصل محرم للمرأة مطلقا بشعر محرم أو غيره آدمي أو غيره سواء كانت المرأة ذات زينة أو لا مزوجة أو غير مزوجة وللهادوية و الشافعيه خلاف وتفاصيل لا ينهض عليها دليل بل الأحاديث قاضية بالتحريم مطلقا لوصل الشعر واستيصاله كما هي قاضية بتحريم الوشم وسؤاله ودل اللعن أن هذه المعاصي من الكبائر هذا وقد علل الوشم في بعض الأحاديث بأنه تغيير لخلق الله ولا يقال إن الخضاب بالحناء ونحوه تشمله العلة وإن شملته فهو مخصوص بالإجماع وبأنه قد وقع في عصره صلى الله عليه وسلم بل أمر بتغيير بياض أصابع المرأة بالخضاب كما في قصة هند فأما وصل الشعر بالحرير ونحوه من الخرق
فقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة فقال: مالك

(3/144)


والطبري وكثيرون أو قال الأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء سواء وصلته بصوف أو حرير أو خرق واحتجوا بحديث مسلم عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا" وقال الليث بن سعد: النهي مختص بالوصل بالشعر ولا بأس بوصله بصوف أو خرق وغير ذلك وقال: بعضهم يجوز بكل شيء وهو مروي عن عائشة ولا يصح عنها قال القاضي: وأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا لمعنى مقصود من الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين انتهى ومراده من المعنى المناسب هو ما في ذلك من الخداع للزوج فما كان لونه مغايرا للون الشعر فلا خداع فيه
11- وعن جذامة بنت وهب رضي الله عنها بضم الجيم وذال معجمة ويروى بالدال المهملة قيل وهو تصحيف هي أخت عكاشة بن محصن من أمه هاجرت مع قومها وكانت تحت أنيس بن قتادة مصغر أنس قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة" بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية "فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا" ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" رواه مسلم اشتمل الحديث على مسألتين الأولى الغيلة تقدم ضبطها ويقال لها الغيل بفتح الغين مع فتح المثناة التحية والغيال بكسر الغين المراد بها مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع كما قاله مالك والأصمعي وغيرهما وقيل: هي أن ترضع المرأة وهي حامل والأطباء يقولون إن ذلك داء والعرب تكرهه وتتقيه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم وبين عدم الضرر الذي زعمه العرب والأطباء بأن فارس والروم تفعل ذلك ولا ضرر يحدث مع الأولاد وقوله فإذا هم يغيلون من أغال يغيل والمسألة الثانية العزل وهو بفتح العين المهملة وسكون الزاي وهو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج وهو يفعل لأحد أمرين أما في حق الأمة فلئلا تحمل كراهة لمجيء الولد من الأمة لأنه مع ذلك يتعذر بيعها وأما في حق الحرة فكراهة ضرر الرضيع إن كان أو لئلا تحمل المرأة وقوله في جواب سؤالهم عنه ذلك الوأد الخفي دال على تحريمه لأن الوأد دفن البنت حية وبالتحريم جزم ابن حزم محتجا بحديث الكتاب هذا وقال الجمهور يجوز عن الحرة بإذنها وعن الأمة السرية بغير إذنها ولهم خلاف في الأمة المزوجة بحر قالوا وحديث الكتاب معارض بحديثين الأول عن جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل فقالت اليهود: تلك الموءودة الصغرى فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال "كذبت اليهود ولو أراد الله خلقه لم تستطع رده" أخرجه النسائي والترمذي وصححه والثاني أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة نحوه قال الطحاوي والجمع بين الأحاديث بحمل النهي في حديث جذامة على التنزيه ورجح ابن حزم حديث جذامة وأن النهي فيه للتحريم بأن حديث غيرها مرجح لأصل الإباحة وحديثها مانع فمن

(3/145)


ادعى أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ذلك الوأد الخفي على الصراحة بالتحريم لأن التحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل وأما علة النهي عن العزل فالأحاديث دالة على أن وجهه أنه معاندة للقدر وهو دال على عدم التفرقة بين الحرة والأمة
فائدة معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه على الخلاف في العزل ومن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى ويلحق بهذا تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله وقد أفتى بعض الشافعية بالمنع وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا
12- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: "كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له والنسائي والطحاوي ورجاله ثقات الحديث قد عارض حديث النهي وتسميته صلى الله عليه وسلم العزل الوأد الخفي وفي هذا كذب اليهود في تسميته الموءودة الصغرى وقد جمع بينهما بأن حديث النهي حمل على التنزيه وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي وقوله لو أراد أن يخلقه إلى آخره معناه أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه ولا ينفعكم الحرص على ذلك فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله وقد أخرج أحمد والبزار من حديث أنس وصححه ابن حبان أن رجلا سأل عن العزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا" وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود
13- وعن جابر رضي الله عنه قال "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" متفق عليه إلا أن قوله لو كان شيء ينهى عنه إلى آخره لم يذكره البخاري وإنما رواه مسلم من كلام سفيان أحد رواته وظاهره أنه قاله استنباطا قال المصنف في الفتح تتبعت المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة انتهى وقد وقع لصاحب العمدة مثل ما وقع للمصنف هنا فجعل الزيادة من الحديث وشرحها ابن دقيق العيد واستغرب استدلال جابر بتقرير الله لهم ولمسلم أي عن جابر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه فدل تقريره صلى الله عليه وسلم لهم على جوازه قيل إنه أراد جابر بالقرآن ما يقرأ أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحي إليه فكأنه يقول فعلنا في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه قيل فيزول استغراب ابن دقيق العيد إلا أنه لا بد من علم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم فعلوه والحديث دليل على جواز العزل ولا ينافيه كراهة التنزيه كما دل له أحاديث النهي

(3/146)


14- وعن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد" أخرجاه واللفظ لمسلم تقدم الكلام عليه في باب الغسل واستدل به على أنه لم يكن القسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم عليه واجبا وقال ابن العربي: إنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب وكأنه أخذه من حديث عائشة الذي أخرجه البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن" فقولها فيدنو يحتمل أنه للوقاع إلا أن في بعض رواياته من غير وقاع فهو لا يتم مأخذا لابن العربي وقد أخرج البخاري من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة" ولا يتم أن يراد بالليلة بعد المغرب كما قاله لأنه لا يتسع ذلك الوقت سيما مع الانتظار لصلاة العشاء لفعل ذلك كذا قيل وهو مجرد استبعاد وإلا فالظاهر اتساعه لذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء أو لأنه أعطى قوة في ذلك لم يعطها غيره والحديث دليل أنه كان لا يجب القسم عليه لنسائه وهو ظاهر قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية وذهب إليه جماعة من أهل العلم والجمهور يقولون يجب عليه القسم وتأولوا هذا الحديث بأنه كان يفعل ذلك برضا صاحبة النوبة وبأنه يحتمل فعله عند استيفاء القسم ثم يستأنف القسمة وبأنه يحتمل أنه فعل ذلك قبل وجوب القسم وقوله وله يومئذ تسع نسوة وفي رواية البخاري وهن إحدى عشرة ويجمع بين الروايتين بأن يحمل قول من قال تسع نظرا إلى الزوجات التي اجتمعن عنده ولم يجتمع عنده أكثر من تسع وأنه مات عن تسع كما قال أنس أخرجه الضياء عنه في المختارة ومن قال إحدى عشرة أدخل مارية القبطية وريحانة فيهن ويطلق عليهما لفظ نسائه تغليبا وفي الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان أكمل الرجال في الرجولية حيث كان له هذه القوة وقد أخرج البخاري أنه كان له قوة ثلاثين رجلا وفي رواية الإسماعيلي قوة أربعين ومثله لأبي نعيم في صفة الجنة وزاد من رجال أهل الجنة وقد أخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم إن الرجل في الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة

(3/147)


باب الصداق
الصداق بفتح الصاد المهملة وكسرها مأخوذ من الصدق لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة وفيه سبع لغات وله ثمانية أسماء يجمعها قوله صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقر علائق وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء كما قال صاحب المستعذب على المذهب
1- عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" متفق عليه هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب من سبط هارون بن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق وقتل يوم خيبر ووقعت صفية في السبي فاصطفاها

(3/147)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها وماتت سنة خمسين وقيل غير ذلك والحديث دليل على صحة جعل العتق صداقا أي عبارة وقعت تفيد ذلك وللفقهاء عدة عبارات في كيفية العبارة في هذا المعنى وذهب إلى صحة جعل العتق مهرا الهادوية و أحمد وإسحاق وغيرهم واستدلوا بهذا الحديث وذهب الأكثر إلى عدم صحة جعل العتق مهرا وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها ويرد هذا التأويل أنه في مسلم بلفظ "ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها" وفيه أنه قال عبد العزيز راويه قال ثابت لأنس بعد أن روى هذا الحديث ما أصدقها قال نفسها وأعتقها فإنه ظاهر أنه جعل نفس العتق صداقا وأما قول من قال إن هذا شيء فهمه أنس فعبر به ويجوز أن فهمه غير صحيح فجوابه أنه أعرف باللفظ وأفهم له وقد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم جعل العتق صداقا فهو راو لفعله صلى الله عليه وسلم وحسن الظن به لثقته يوجب قبول روايته للأفعال كما يجب قبولها للأقوال وإلا لزم رد الأقوال والأفعال إذ لم ينقل الصحابة اللفظ النبوي إلا في شيء قليل وأكثر ما يروونه بالمعنى كما هو معروف ورواية المعنى عمدتها فهمه وقوله إنه لم يرفعه أنس بل قاله تظننا خلاف ظاهر لفظه فإنه قال جعل يريد النبي صلى الله عليه وسلم صداقها عتقها وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية قالت "أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي" وهو صريح فيما رواه أنس وأنه لم يقل ذلك تظننا كما قيل وإنما خالف الجمهور الحديث وتأولوه قالوا لأنه خالف القياس لوجهين أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال وإما بعده وذلك غير لازم لها والثاني أنا إن جعلنا العتق صداقا فإما يتقرر العتق حالة الرق وهو محال أيضا لتناقضهما أو حالة الحرية فليزم سبقها على العقد فيلزم وجود العتق حال فرض عدمه وهو محال لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا وأجيب أولا أنه بعد صحة القصة لا يبالى بهذه المناسبات وثانيا بعد تسليم ما قالوه فالجواب عن الأول يكون بعد العتق وإذا امتنعت من العقد لزمها السعاية بقيمتها ولا محذور في ذلك وعن الثاني بأن العتق منفعة يصح المعاوضة عنها والمنفعة إذا كانت كذلك صح العقد عليها مثل سكنى الدار وخدمة الزوج ونحو ذلك وأما قول من قال إن ثواب العتق عظيم فلا ينبغي أن يفوت بجعله صداقا وكان يمكن جعل المهر غيره فجوابه أنه صلى الله عليه وسلم يفعل المفضول لبيان التشريع ويكون ثوابه أكثر من ثواب الأفضل فهو في حقه أفضل وأما جعل حديث عائشة في قصة جويرية مؤيدا لحديث صفية ولفظه "أنه صلى الله عليه وسلم قال لجويرية لما جاءت تستعينه في كتابتها هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت قد فعلت" أخرجه أبو داود فلا يخفى أنه ليس فيه تعرض للمهر ولا غيره فليس مما نحن فيه

(3/148)


2- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه بالمدينة في قول من مشاهير التابعين وأعلامهم يقال إن اسمه كنيته وهو كثير الحديث واسع الرواية سمع عن جماعة من الصحابة وأخذ عنه جماعة مات سنة أربع وسبعين وقيل أربع ومائة وهو في سبعين سنة قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية ونشا بفتح النون وشين معجمة مشددة وقالت أتدري ما النش قال قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه رواه مسلم المراد في الحديث أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وكان كلام عائشة هذا بناء على الأغلب وإلا فإن صداق صفية عتقها قيل ومثلها جويرية وخديجة لم يكن صداقها هذا المقدار وأم حبيبة أصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم وأربعة آلاف دينار إلا إنه كان تبرعا منه إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عن أمره صلى الله عليه وسلم وقد استحب الشافعية جعل المهر خمسمائة درهم تأسيا وأما أقل المهر الذي يصح به العقد فقد قدمناه أما أكثره فلا حد له إجماعا قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} والقنطار قيل إنه ألف ومائتا أوقية ذهبا وقيل ملء مسك ثور ذهبا وقيل سبعون ألف مثقال وقيل مائة رطل ذهبا وقد كان أراد عمر قصر أكثره على قدر مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورد الزيادة إلى بيت المال وتكلم به في الخطبة فردت عليه امرأة محتجة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فرجع وقال كلكم أفقه من عمر
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنها هي سيدة نساء العالمين تزوجها علي رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان وبنى عليها في ذي الحجة ولدت له الحسن والحسين والمحسن وزينب ورقية وأم كلثوم وماتت بالمدينة بعد موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وقد بسطنا ترجمتها في الروضة الندية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا قال ما عندي شيء قال فأين درعك الحطمية" بضم الحاء المهملة وفتح الطاء نسبة إلى حطمة من محارب بطن من عبد آلاف كانوا يعملون الدروع رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم فيه دليل على أنه ينبغي تقديم شيء للزوجة قبل الدخول بها جبرا لخاطرها وهو المعروف عند الناس كافة ولم يذكر في الرواية هل أعطاها درعه المذكور أو غيرها وقد وردت روايات في تعيين ما أعطى علي فاطمة رضي الله عنهما إلا أنها غير مسندة
4- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء" بكسر الحاء المهملة فموحدة فهمزة ممدودة العطية للغير أو للزوجة زائد على مهرها "أو عدة" بكسر العين المهملة ما وعد

(3/149)


به الزوج وإن لم يحضر "قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي الحديث دليل على أن ما سماه الزوج قبل العقد فهو للزوجة وإن كان تسميته لغيرها من أب وأخ كذلك ما كان عند العقد وفي المسألة خلاف فذهب إلى ما أفاده الحديث الهادي ومالك وعمر بن عبد العزيز والثوري وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الشرط لازم لمن ذكر من أخ أو أب والنكاح صحيح وذهب الشافعي إلى أن تسمية المهر تكون فاسدة ولها صداق المثل وذهب مالك إلى أنه إن كان الشرط عند العقد فهو لابنته وإن كان بعد النكاح فهو له قال في نهاية المجتهد وسبب اختلافهم تشبيه النكاح في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل ببيع السلعة وشرط لنفسه حباء قال لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال يجوز وأما تفريق مالك فلأنه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك اشترط لنفسه نقصانا على صداق مثلها ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق انتهى وإنما علل ذلك بما سمعت ولم يذكر الحديث لأن فيه مقالا هذا وأما ما يعطي الزوج في العرف مما هو للإتلاف كالطعام ونحوه فإن شرط في العقد كان مهرا وما سلم قبل العقد كان إباحة فيصح الرجوع فيه مع بقائه إذا كان في العادة يسلم للتلف وإن كان يسلم للبقاء رجع في قيمته بعد تلفه إلا أن يتمنعوا من تزويجه رجع بقيمته في الطرفين جميعا وإذا ماتت الزوجة أو امتنع هو من التزويج كان له الرجوع فيما بقي وفيما سلم للبقاء وفيما تلف قبل الوقت الذي يعتاد التلف فيه لا فيما عدا ذلك وفيما سلمه بعد العقد هبة أو هدية على حسب الحال أو رشوة إن لم تسلم إلا به وأن كان الطعام الذي يفعل في وليمة العرس مما ساقه الزوج إلى ولي الزوجة وكان مشروطا مع العقد لصغيره وفعل ذلك جاز التناول منه لمن يعتاد لمثله كالقرابة وغيرهم لأن الزوج إنما شرطه وسلمه ليفعل ذلك لا ليبقى ملكا للزوج والعرف معتبر في هذا
5- وعن علقمة أي ابن قيس أبي شبل بن مالك من بني بكر بن النخع روى عن عمر وابن مسعود وهو تابعي جليل اشتهر بحديث ابن مسعود وصحبته وهو عم الأسود النخعي مات سنة إحدى وستين عن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها مثل صداق نسائها لا وكس بفتح الواو وسكون الكاف وسين مهملة هو النقص أي لا ينقص من مهر نسائها ولا شطط بفتح الشين وبالطاء المهملة وهو الجور أي لا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف ابن إطعام بكسر السين المهملة فنون فألف فنون الأشجعي بفتح الهمزة وشين معجمة ساكنة ومعقل هو أبو محمد شهد فتح مكة ونزل الكوفة

(3/150)


وحديثه في أهل الكوفة وقتل يوم الحرة صبرا فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع" بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الواو فعين مهملة "بنت واشق" بواو مفتوحة فألف فشين معجمة فقاف "امرأة منا" بكسر الميم فنون مشددة فألف مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وحسنه جماعة منهم ابن مهدي وابن حزم وقال لا مغمز فيه لصحة إسناده ومثله قال البيهقي في الخلافيات: وقال الشافعي لا أحفظه من وجه يثبت مثله وقال لو ثبت حديث بروع لقلت به وقال في الأم إن كان يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول الأمور ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبر ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له ولم أحفظه عنه من وجه يثبت مثله مرة يقال عن معقل بن إطعام ومرة عن معقل بن يسار ومرة عن بعض أشجع ولا يسمى هذا تضعيف الشافعي بالاضطراب وضعفه الواقدي بأنه حديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة فما عرفه أهل المدينة وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه رده بأن معقل بن إطعام أعرابي بوال على عقبيه وأجيب بأن الاضطراب غير قادح لأنه متردد بين صحابي وصحابي وهذا لا يطعن به في الرواية وعن قوله إنه يروى عن بعض أشجع فلا يضر أيضا لأنه قد فسر ذلك البعض بمعقل فقد تبين أن ذلك البعض صحابي وأما عدم معرفة علماء المدينة له فلا يقدح بها مع عدالة الراوي وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال في البدر المنير لم يصح عنه وقد روى الحاكم من حديث حرملة بن يحيى أنه قال سمعت الشافعي يقول إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به قال الحاكم قلت صح فقل به وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل ثم قال وأنسبها إسنادا حديث قتادة إلا أنه لم يحفظ اسم الصحابي قلت لا يضر جهالة اسمه على رأي المحدثين وما قال المصنف من أن لحديث بروع شاهدا من حديث عقبة بن عامر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة رجلا فدخل بها ولم يفرض لها صداقا فحضرته الوفاة فقال أشهدكم أن سهمي بخيبر لها" أخرجه أبو داود والحاكم فلا يخفى أن لا شهادة له على ذلك لأن هذا في امرأة دخل بها زوجها نعم فيه شاهد أنه يصح النكاح بغير تسمية والحديث دليل على أن المرأة تستحق كمال المهر بالموت وإن لم يسم لها الزوج ولا دخل بها وتستحق مهر مثلها وفي المسألة قولان الأول العمل بالحديث وأنها تستحق المهر كما ذكر وقول ابن مسعود اجتهاد موافق الدليل وقول أبي حنيفة وأحمد وآخرين والدليل الحديث وما طعن به فيه قد سمعت دفعه والثاني لا تستحق إلا الميراث لعلي وابن عباس وابن عمر والهادي ومالك وأحد قولي الشافعي قالوا لأن الصداق عوض فإذا لم يستوف الزوج المعوض عنه لم يلزم قياسا على ثمن المبيع قالوا والحديث فيه تلك المطاعن قلنا المطاعن قد دفعت فنهض الحديث للاستدلال فهو أولى من القياس
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى في صداق امرأة سويقا" هو دقيق القمح المقلو أو الذرة أو الشعير أو غيرها

(3/151)


أو تمرا فقد استحل" أخرجه أبو داود وأشار إلى ترجيح وقفه وقال المصنف في التلخيص فيه موسى بن مسلم بن رومان وهو ضعيف وروي موقوفا وهو أقوى انتهى فكان عليه أن يشير إلى أن فيه ضعفا على عادته وأخرجه الشافعي بلاغا والحديث دليل على أنه يصح كون المهر من غير الدراهم والدنانير وأنه يجزي مطلق السويق والتمر وظاهره وإن قل وتقدمت أقاويل العلماء في قدر أقل المهر في شرح حديث الواهبة نفسها
7- وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة هو أبي محمد عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي بفتح العين وسكون النون وبالزاي في نسبه خلاف كثير قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أربع سنين أو خمس مات عبد الله المذكور سنة خمس وثمانين وقيل سنة تسعين عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين" أخرجه الترمذي وصححه وخولف أي الترمذي في ذلك أي في التصحيح لفظ الحديث أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضيت من نفسك ومالك بنعلين" قالت نعم فأجازه والحديث دليل على صحة جعل المهر أي شيء له ثمن وقد سلف أن كل ما صح جعله ثمنا صح جعله مهرا وفيه مأخذ لما ورد في غيره من أنها لا تتصرف المرأة في مالها إلا برأي زوجها
8- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: زَوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا امرأة بخاتم من حديد" أخرجه الحاكم قد تقدم حديث سهل في الواهبة نفسها بطوله وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر من خطبها أن يلتمس ولو خاتما من حديد فلم يجده فزوجه إياها على تعليمها شيئا من القرآن فإن كان هذا هو ذلك الحديث فلم يتم جعل المهر خاتما من حديد كما عرفت وإن أريد غيره فيحتمل وهو بعيد لقول المصنف وهو طرف من الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح وعلى تقدير أنه أريد ذلك الحديث فتأويله أنه صلى الله عليه وسلم أذن في جعل الصداق خاتما من حديد وإن لم يتم العقد عليه
9- وعن علي رضي الله عنه قال لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم أخرجه الدارقطني موقوفا وفي سنده مقال أي موقوف على علي رضي الله عنه وقد روي من حديث جابر مرفوعا ولم يصح والحديث معارض للأحاديث المتقدمة المرفوعة الدالة على صحة أي شيء يصح جعله مهرا كما عرفت والمقال الذي في الحديث هو أن فيه مبشر بن عبيد قال أحمد كان يضع الحديث
10- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" أي أسهله على الرجل أخرجه أبو داود وصححه الحاكم فيه دلالة على استحباب تخفيف المهر وأن غير الأيسر على خلاف ذلك وإن كان جائزا كما أشارت إليه الآية الكريم في قوله- وآتيتم إحداهن قنطارا-وتقدم أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقالت امرأة ليس ذلك إليك يا عمر إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} من ذهب قال عمر امرأة خاصمت عمر فخصمته أخرجه عبد الرزاق وقوله في الرواية

(3/152)


من ذهب هي قراءة ابن مسعود وله طرق بألفاظ مختلفة وتحتمل أن الخيرية بركة المرأة ففي الحديث أبركهن مؤنة
11- وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرة بنت الجون بفتح الجيم وسكون الواو فنون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه تعني لما تزوجها فقال: "لقد عذت بمعاذ" بفتح الميم ما يستعاذ به فطلقها "وأمر أسامة يمتعها بثلاثة أثواب" أخرجه ابن ماجه وفي إسناده راو متروك وأصل القصة في الصحيح من حديث أبي أسيد الساعدي وقد سماها في الحديث عمرة ووقع مع ذلك اختلاف في اسمها ونسبها كثير لكنه لا يتعلق به حكم شرعي واختلف في سبب تعوذها منه ففي رواية أخرجها ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عليها وكانت من أجمل النساء فداخل نساءه صلى الله عليه وسلم غيرة فقيل لها إنما تحظى المرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول إذا دخلت عليه أعوذ بالله منك وفي رواية أخرجها ابن سعد أيضا بإسناد البخاري إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت مشطتاها وخضبتاها وقالت لها إحداهما إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك وقيل في سببه غير ذلك والحديث دليل على شرعية المتعة للمطلقة قبل الدخول واتفق الأكثر على وجوبها في حق من لم يسم لها صداقا إلا عن الليث ومالك وقد قال تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وظاهر الأمر الوجوب وأخرج البيهقي في سننه عن ابن عباس قال المس النكاح والفريضة الصداق ومتعوهن قال هو على الزوج يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها قبل أن يدخل بها فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره الحديث وقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة نعم هذه المرأة التي متعها صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه لم يسم لها صداقا فمتعها كما قضت به الآية ويحتمل أنه كان سمى لها فمتعها إحسانا منه وفضلا وأما تمتيع من لم يسم الزوج لها مهرا ودخل بها ثم فارقها فقد اختلف في ذلك فذهب علي وعمر والشافعي إلى وجوبها أيضا بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجب إلا مهر المثل لا غير قالوا وعموم الآية مخصوص بمن لم يكن قد دخل بها والذي خصه الآية الأخرى التي أوجب فيها المتعة لأنه شرط فيها عدم المس وهذا قد مس وأما قوله تعالى: {فََتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} فإنه يحتمل نفقة العدة ولا دليل مع الاحتمال هذا وقد سبقت إشارة إلى أن الليث لا يقول بوجوب المتعة مطلقا واستدل له بأنها لو كانت واجبة لكانت مقدرة ودفع بأن نفقة القريب واجبة ولا تقدير لها

(3/153)


باب الوليمة
الوليمة: مشتقة من الولم بفتح الواو وسكون اللام وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان

(3/153)


قاله الأزهري وغيره والفعل منها أولم تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث ووليمة العرس ما يتخذ عند الدخول وما يتخذ عند الإملاك
1- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: "ما هذا؟" قال يا رسول الله: إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب قال: "بارك الله لك أولم ولو بشاة" متفق عليه واللفظ لمسلم جاء في الروايات بيان الصفرة بأنها ردغ من زعفران وهو بفتح الراء ودال مهملة وغين معجمة أثر الزعفران فإن قلت قد علم النهي عن التزعفر فكيف لم ينكره صلى الله عليه وسلم قلت هذا مخصص للنهي بجوازه للعروس وقيل يحتمل أنها كانت في ثيابه دون بدنه بناء على جوازه في الثوب وقد منع جوازه فيه أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما والقول بجوازه في الثياب مروي عن مالك وعلماء المدينة واستدل لهم بمفهوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة كحديث أبي موسى مرفوعا "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من الخلوق" وأجيب بأن ذلك مفهوم لا يقاوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة وبأن قصة عبد الرحمن كانت قبل النهي في أول الهجرة وبأنه يحتمل أن الصفرة التي رآها صلى الله عليه وسلم كانت من جهة امرأته علقت به فكان ذلك غير مقصود له ورجح هذا النووي وعزاه للمحققين وبنى عليه البيضاوي وقوله على وزن نواة من ذهب قيل المراد واحدة نوى التمر قيل كان يومئذ ربع دينار ورد بأن نوى التمر يختلف فكيف يجعل معيارا لما يوزن وقيل إن النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء ويؤيده أن في رواية البيهقي وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم وفي رواية عند البيهقي عن قتادة قومت ثلاثة دراهم وثلثا وإسناده ضعيف لكن جزم به أحمد وقيل في قدرها غير ذلك وعن بعض المالكية أن النواة عند أهل المدينة ربع دينار والحديث دليل أنه يدعى للعروس بالبركة وقد نال عبد الرحمن بركة الدعوة النبوية حتى قال فلقد رأيتني لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة رواه البخاري عنه في آخر هذه الرواية وفي قوله "أولم ولو بشاة" دليل على وجوب الوليمة في العرس وإليه ذهب الظاهرية قيل وهو نص الشافعي في الأم ويدل له ما أخرجه أحمد من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال لما خطب علي فاطمة لا بد من وليمة وسنده لا بأس به وهو يدل على لزوم الوليمة وهو في معنى الوجوب وما أخرجه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعا "الوليمة حق وسنة فمن دعي ولم يجب فقد عصى" والظاهر من الحق الوجوب وقال أحمد الوليمة سنة وقال الجمهور مندوبة وقال ابن بطال لا أعلم أحدا أوجبها وكأنه لم يعرف الخلاف واستدل على الندبية بما قال الشافعي لا أعلم أمربذلك غير عبد الرحمن ولا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة رواه عنه البيهقي

(3/154)


فجعل ذلك مستندا إلى كون الوليمة غير واجبة ولا يخفى ما فيه واختلف العلماء في وقت الوليمة هل هي عند العقد أو عقبه أو عند الدخول وهي أقوال في مذهب المالكية ومنهم من قال عند العقد وبعد الدخول وصرح الماوردي من الشافعية بأنها عند الدخول قال السبكي والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول وكأنه يشير إلى قصة زواج زينب بنت جحش لقول أنس أصبح يعني النبي صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب فدعا القوم وقد ترجم عليه البيهقي باب وقت الوليمة وأما مقدارها فظاهر الحديث أن الشاة أقل مايجزئ إلا أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على أم سلمة وغيرها بأقل من شاة وأولم على زينب بشاة وقال أنس لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها إلا أنه أولم على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها بمكة عام القضية وطلب من أهل مكة أن يحضروا فامتنعوا بأكثر من وليمته على زينب وكأن أنسا يريد أنه وقع في وليمة زينب بالشاة من البركة في الطعام ما لم يقع في غيرها فإنه أشبع الناس خبزا ولحما فكان المراد لم يشبع أحدا خبزا ولحما في وليمة من ولائمه صلى الله عليه وسلم أكثر مما وقع في وليمة زينب
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها" متفق عليه ولمسلم أي عن ابن عمر مرفوعا "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" الحديث الأول دال على وجوب الإجابة إلى الوليمة والثاني دال على وجوبها إلى كل دعوة ولا تعارض بين الروايتين وإن كانا عن راو واحد وقد أخذت الظاهرية وبعض الشافعية بظاهره فقالوا تجب الإجابة إلى الدعوة مطلقا وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين ومنهم من فرق بين وليمة العرس وغيرها فنقل ابن عبد البر وعياض والنووي الاتفاق على وجوب إجابة وليمة العرس وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك وعن البعض فرض كفاية وفي كلام الشافعي ما يدل على وجوب الإجابة في وليمة العرس وعدم الرخصة في غيرها فإنه قال إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة فلا أرخص لأحد في تركها ولو تركها لم يتبين أنه عاص كما تبين لي في وليمة العرس وفي البحر للمهدي حكاية إجماع العترة على عدم وجوب الإجابة في الولائم كلها هذا وعلى القول بالوجوب فقد قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام وقد يسوغ ترك الإجابة لأعذار منها أن يكون في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا يليق لمجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل أو يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فراش حرير أو ستر لجدار البيت أو صورة في البيت أو يعتذر إلى الداعي فيتركه أو كانت في الثالث كما يأتي فهذه الأعذار ونحوها في تركها على القول بالوجوب وعلى القول بالندب بالأولى وهذا مأخوذ مما علم من الشريعة ومن قضايا وقعت للصحابة كما في البخاري أن أبا أيوب دعاه ابن عمر فرأى في البيت

(3/155)


سترا على الجدار فقال ابن عمر غلبنا عليه النساء فقال من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك والله لا أطعم لك طعاما فرجع أخرجه البخاري تعليقا ووصله أحمد ومسدد في مسنده وأخرج الطبراني عن سالم بن عبد الله بن عمر قال عرست في عهد أبي فأذنا الناس فكان أبو أيوب فيمن أذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال يا عبد الله أتسترون الجدر فقال أبي واستحى غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب فقال من خشيت أن تغلبه النساء فذكروه وفي رواية فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول حتى أقبل أبو أيوب وفيه فقال عبد الله أقسمت عليك لترجعن فقال وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ثم انصرف وأخرج أحمد في كتاب الزهد أن رجلا دعا ابن عمر إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور فقال ابن عمر يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليهتك كل رجل ما يليه والحديث وما قبله دليل على تحريم ستر الجدران وقد أخرج أبو داود وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا لا تستروا الجدر بالثياب وفيه ضعف وله شاهد وأخرج البيهقي وغيره من حديث سلمان موقوفا أنه أنكر ستر البيت فقال محموم بيتكم أو تحولت الكعبة ثم قال لا أدخله حتى يهتك والمسألة فيها خلاف جزم جماعة بالتحريم لستر الجدار وجمهور الشافعية على أنه مكروه وقد أخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين وجذب الستر حتى هتكه في قصة معروفة وقد كنا كتبنا في هذا رسالة جواب سؤال في مدة قديمة وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمران بن حصين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين وأخرج النسائي من حديث جابر مرفوعا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر" وإسناده جيد وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن جابر وفيه ضعف وأخرجه أحمد من حديث عمر وبالجملة الدعوة مقتضية للإجابة وحصول المنكر مانع عنها فتعارض المانع والمقتضي والحكم للمانع
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها وهم الفقراء" كما يدل له حديث ابن عباس عند الطبراني "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الشبعان ويمنع عنها الجيعان" اهـ فلو شملت الدعوة الفريقين زالت الشرية عنها ويدعى إليها من يأباها يعني الأغنياء ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله أخرجه مسلم المراد من الوليمة وليمة العرس لما تقدم قريبا من أنها إذا أطلقت من غير تقييد انصرفت إلى وليمة العرس وشرية طعامها قد بين وجهه قوله يدعى إليها من يأباها فإنها جملة مستأنفة بيان لوجه شرية الطعام والحديث دليل على أنه يجب على من يدعى الإجابة ولو كانت إلى شر طعام وأنه يعصي الله ورسوله من لم يجب وتقدم الكلام على ذلك
وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي

(3/156)


أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم" أخرجه مسلم فيه دليل على أنه يجب على من كان صائما أن لا يعتذر بالصوم ثم إنه قد اختلف في المراد من الصلاة فقال الجمهور المراد فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة وقيل المراد بالصلاة المعروفة أي يشتغل بالصلاة ليحصل فضلها وينال بركتها أهل الطعام والحاضرون وظاهره أنه لا يلزمه الإفطار ليجيب فإن كان صومه فرضا فلا خلاف أنه يحرم عليه الإفطار وإن كان نفلا جاز له وظاهر قوله فليطعم وجوب الأكل وقد اختلف العلماء في ذلك والأصح عند الشافعية أنه لا يجب الأكل في طعام الوليمة ولا غيرها وقيل يجب لظاهر الأمر وأقله لقمة ولا تجب الزيادة وقال من لم يوجب الأكل الأمر للندب والقرينة الصارفة إليه قوله
5- وله أي لمسلم من حديث جابر رضي الله عنه نحوه وقال "فإن شاء طعم وإن شاء ترك" فإنه خيره والتخيير دليل على عدم الوجوب للأكل ولذلك أورده المصنف عقيب حديث أبي هريرة
6- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام أول يوم حق" أي واجب أو مندوب "وطعام يوم الثاني سنة وطعام يوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي واستغربه وقال لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير قال المصنف كالراد على الترمذي ما لفظه ورجاله رجال الصحيح إلا أنه قال المصنف إن زيادا مختلف فيه وشيخه عطاء بن السائب اختلط وسماعه منه بعد اختلاطه انتهى قلت وحينئذ فلا يصح قوله إن رجاله رجال الصحيح ثم قال وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال والحديث دليل على شرعية الضيافة في الوليمة يومين ففي أول يوم واجبة كما يفيده لفظ حق لأنه الثابت اللازم وتقدم الكلام في ذلك وفي اليوم الثاني سنة أي طريقة مستمرة يعتاد الناس فعلها لا يدخل صاحبها الرياء والتسميع وفي اليوم الثالث رياء وسمعة فيكون فعلها حراما والإجابة إليها كذلك وعليه أكثر العلماء قال النووي إذا أولم ثلاثا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة وفي اليوم الثاني لا تجب مطلقا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول وذهب جماعة إلى أنه لا تكره في الثالث لغير المدعو في اليوم الأول والثاني لأنه إذا كان المدعوون كثيرين ويشق جمعهم في يوم واحد فدعا في كل يوم فريقا لم يكن في ذلك رياء ولا سمعة وهذا قريب وجنح البخاري إلى أنه لا بأس بالضيافة ولو إلى سبعة أيام حيث قال باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ولا يومين وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام وفي رواية ثمانية أيام وإليها

(3/157)


أشار البخاري بقوله أو نحوه وفي قوله ولم يوقت ما يدل على عدم صحة حديث الباب عنده قال القاضي عياض استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعا فأخذت المالكية بما دل عليه كلام البخاري
7- وعن صفية بنت شيبة أي ابن عثمان بن أبي طلحة الحجبي من بني عبد الدار قيل إنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنها لم تره وجزم ابن سعد بأنها تابعية قالت: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير" أخرجه البخاري
قال المصنف: لم أقف على تعيين اسمها يعني بعض نسائه المذكورة هنا قال وفي الباب أحاديث تدل على أنها أم سلمة وقيل: إنها وليمة علي بفاطمة رضي الله عنها وأراد ببعض نسائه من تنسب إليه من النساء في الجملة وإن كان خلاف المتبادر إلا أنه يدل له ما أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت: "لقد أولم علي بفاطمة فما كان وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته رهن درعه عند يهودي بشطر شعير" ولعله المراد بمدين من شعير لأن المدين نصف صاع فكأنه قال شطر صاع فينطبق على القصة التي في الباب ويكون نسبة الوليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجازية إما لكونه الذي وفى اليهودي من شعيره أو لغير ذلك قلت ولا يخفى أنه تكلف ولا مانع أن يولم صلى الله عليه وسلم بمدين ويولم علي أيضا بمدين والمذكور في الباب وليمته صلى الله عليه وسلم
8- وعن أنس رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى" مغير الصيغة "عليه بصفية" أي يبنى عليه خباء جديد بسبب صفية أو بمصاحبتها "ودعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبر ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط" وفي القاموس الأقط ككتف وإبل شيء يتخذ من المخيض الغنمي والسمن ومجموع هذه الأشياء يسمى حيسا متفق عليه واللفظ للبخاري فيه إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة والبناء بالمرأة في السفر وإيثار الجديدة بثلاثة أيام وإن كانوا في السفر
9- وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابا" زاد في التلخيص فإن أقربهما إليك بابا أقربهما إليك جوارا فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق رواه أبو داود وسنده ضعيف ولكن رجال إسناده موثقون ولا يدرى ما وجه ضعف سنده فإنه رواه أبو داود عن هناد بن السري عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل هؤلاء وثقهم الأئمة إلا أبا خالد الدالاني فإنهم اختلفوا فيه فوثقه أبو حاتم وقال أحمد وابن معين لا بأس به وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال ابن عدي حديثه لين وقال شريك كان مرجئا والحديث على سياق المصنف ظاهره الوقف وفيه دليل على أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة الأسبق فإن استويا قدم الجار والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابا فإن استويا أقرع بينهم

(3/158)


10- وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكل متكئا" رواه البخاري الاتكاء مأخوذ من الوكاء والتاء بدل الواو والوكاء هو ما يشد به الكيس أو غيره فكأنه أوكأ مقعدته ويشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته ومعناه الاستواء على وطاء متمكنا قال الخطابي: المتكىء هنا هو المتمكن في جلوسه من التربع وشبهه المعتمد على الوطاء تحته قال ومن استوى قاعدا على وطاء فهو متكىء والعامة لا تعرف المتكىء إلا من مال على أحد شقيه ومعنى الحديث إذا أكلت لا أقعد متكئا كفعل من يريد الاستكثار من الأكل ولكن آكل بلغة فيكون قعودي مستوفزا ومن حمل الاتكاء على الميل على أحد الشقين تأول ذلك على مذهب أهل رآه بأن ذلك فيه ضرر فإنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به
11- وعن عمر بن أبي سلمة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" متفق عليه
الحديث دليل على وجوب التسمية للأمر بها وقيل إنها مستحبة في الأكل ويقاس عليه الشرب قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه عليها فإن تركها لأي سبب نسيان أو غيره في أول الطعام فليقل في أثنائه بسم الله أوله وآخره لحديث أبي داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي حسن صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي أن يذكر الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره" وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين فإن سمى واحد فقط فقد حصل بتسميته السنة قاله الشافعي ويستدل بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه فإن ذكره واحد من الآكلين صدق عليه أنه ذكر اسم الله عليه وفي الحديث دليل على وجوب الأكل باليمين للأمر به أيضا ويزيده تأكيدا أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وفعل الشيطان يحرم على الإنسان ويزيده تأكيدا أن رجلا أكل عنده صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كل بيمينك" فقال: لا أستطيع قال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" فما رفعها إلى فيه أخرجه مسلم ولا يدعو صلى الله عليه وسلم إلا على من ترك الواجب وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل أيضا ولا ينافي أن الدعاء عليه للأمرين معا وفي قوله "وكل مما يليك" دليل أنه يجب الأكل مما يليه وأنه ينبغي حسن العشرة للجليس وأن لا يحصل من الإنسان ما يسوء جليسه مما فيه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذر جليسه ذلك لا سيما في الثريد والأمراق ونحوها إلا في مثل الفاكهة فإنه قد أخرج الترمذي وغيره من حديث عكراش بن ذؤيب قال أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر وهو بفتح الواو وفتح الذال المعجمة فراء جمع وذرة قطعة من اللحم لا عظم فيها فخبطت بيدي في نواحيها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال

(3/159)


يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد فهذا يدل على التفرقة بين الأطعمة والفواكه بل يدل على أنه إذا تعدد لون المأكول من طعام أو غيره فله أن يأكل من أي جانب وكذلك إذا لم يبق تحت يد الآكل شيء فله أن يتبع ذلك ولو من سائر الجوانب فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس "أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة أي جوانبها فلم أزل أتتبع الدباء من يومئذ" وفي الحديث قال أنس فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه وهو دليل على تطلبه له من جميع القصعة لمحبته له هذا ومما نهي عنه الأكل من وسط القصعة كما يدل له الحديث الآتي وهو قوله
12- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة من ثريد فقال: "كلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها فإن البركة تنزل في وسطها" رواه الأربعة وهذا لفظ النسائي وسنده صحيح دل على النهي عن الأكل من وسط القصعة وعلله بأنه تنزل البركة في وسطها وكأنه إذا أكل منه لم تنزل البركة على الطعام والنهي يقتضي التحريم وسواء كان الآكل وحده أو مع جماعة
13- وعن أبي هريرة قال: "ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه" متفق عليه فيه إخبار بعدم عيبه صلى الله عليه وسلم للطعام وذمه له فلا يقول هو مالح أو حامض أو نحو ذلك وحاصله أنه دل على عدم عنايته صلى الله عليه وسلم بالأكل بل ما اشتهاه أكله وما لم يشتهه تركه وليس في تركه ذلك دليل على أنه يحرم عيب الطعام
14- وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال" رواه مسلم تقدم أنه من أدلة تحريم الأكل بالشمال وإن ذهب الجماهير إلى كراهته لاغير وقد ورد في الشرب كذلك أيضا وهو دليل على أن الشيطان يأكل أكلا حقيقيا
15 وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ثلاثا" متفق عليه وقد أخرج الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثا أي في أثناء الشراب لا أنه في إناء الشراب وورد تعليل ذلك في رواية مسلم أنه أروى أي أقمع للعطش وأبرأ أي أكثر برأ لما فيه من الهضم ومن سلامته من التأثير في برد المعدة وأمرأ أي أكثر مراءة لما فيه من السهولة وقيل العلة خشية تقذيره على غيره لأنه قد يخرج شيء من الفم فيتصل بالماء فيقذره على غيره
16- ولأبي داود عن ابن عباس أي مرفوعا وزاد على ما ذكر وينفخ

(3/160)


فيه وصححه الترمذي فيه دلالة على تحريم النفخ في الإناء وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب" فقال رجل القذاة أراها في الإناء فقال: "أهرقها قال فإني لا أروى من نفس واحد قال فأبن القدح عن فيك ثم تنفس في الشرب ثلاث مرات" ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا واحدا" أي شربا واحدا "كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنت رفعتم" وأفاد أن المرتين سنة أيضا نعم وقد ورد النهي عن الشرب من فم السقاء فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء وأخرجا من حديث أبي سعيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية" زاد في رواية واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه وقد عارضه حديث كبشة قالت "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما" فقمت إلى فيها فقطعته أي أخذته شفاء نتبرك به ونستشفى به أخرجه الترمذي وقال حسن غريب صحيح وأخرجه ابن ماجه وجمع بينهما بأن النهي إنما هو في السقاء الكبير والقربة هي الصغيرة أو أن النهي للتنزيه لئلا يتخذه الناس عادة دون الندرة وعلة النهي أنها قد تكون فيه دابة فتخرج إلى في الشارب فيبتلعها مع الماء كما ورد أنه شرب رجل من في السقاء فخرجت منه حية وكذلك ثبت النهي عن الشرب قائما فأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقيء" أي يتقيأ وفي رواية عن أنس زجر عن الشرب قائما قال قتادة قلنا فالأكل قال أشد وأخبث ولكنه عارضه ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس قال "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم" وفي لفظ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم" وفي صحيح البخاري أن عليا رضي الله عنه شرب قائما وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني وجمع بينهما بأن النهي للتنزيه فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لجواز ذلك فهو واجب في حقه صلى الله عليه وسلم لبيان التشريع وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا في صور كثيرة وأما التقيؤ لمن شرب قائما فإنه يستحب للحديث الصحيح الوارد بذلك وظاهر حديث التقيؤ أنه يستحب مطلقا لعامد وناس ونحوهما وقال القاضي عياض إنه من شرب ناسيا فلا خلاف بين العلماء أنه ليس عليه أن يتقيأ نعم ومن آداب الشرب أنه إذا كان عند الشارب جلساء وأراد أن يعمم الجلساء أن يبدأ بمن عن يمينه كما أخرج الشيخان من حديث أنس "أنه أعطى صلى الله عليه وسلم القدح فشرب وعن يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر أعط أبا بكر يا رسول الله فأعطى الأعرابي الذي عن يمينه ثم قال الأيمن فالأيمن" وأخرجا من حديث سهل بن سعد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم هو عبد الله بن عباس والأشياخ عن يساره فقال: "يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ" فقال

(3/161)


ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا يا رسول الله "فأعطاه إياه" ومن مكروهات الشرب أن لا تشرب من ثلمة القدح لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح"

(3/162)


باب القسم بين الزوجات
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي" بفتح القاف "فيما أملك" وهو المبيت مع كل واحدة في نوبتها "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال الترمذي يعني الحب والمودة رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم ولكن رجح الترمذي إرساله قال أبو زرعة لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله لكن صححه ابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة موصولا والذي رواه مرسلا هو حماد بن يزيد عن أيوب عن أبي قلابة عن عائشة قال الترمذي والجواب أصح قلت بعد تصحيح ابن حبان الوصل فقد تعاضد الموصل والمرسل دل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه وتقدمت الإشارة إلى أنه هل كان واجبا عليه أم لا قيل وكان القسم عليه صلى الله عليه غير واجب لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية قال بعض المفسرين إنه أباح الله له أن يترك التسوية والقسم بين أزواجه حتى إنه ليؤخر من شاء منهن عن نوبتها ويطأ من يشاء غير نوبتها وأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم بناء على أن الضمير في منهن للزوجات وإذا ثبت أنه لا يجب القسم عليه صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقسم بينهن من حسن عشرته وكمال حسن خلقه وتأليف قلوب نسائه والحديث يدل على أن المحبة وميل القلب مقدور للعبد بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد ويدل له ولكن الله ألف بينهم بعد قوله لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بينهم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل" رواه أحمد والأربعة وسنده صحيح الحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات ويحرم عليه الميل إلى إحداهن وقد قال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} والمراد الميل في القسم والإنفاق لا في المحبة لما عرفت من أنها مما لا يملكه العبد ومفهوم قوله كل الميل جواز الميل اليسير ولكن إطلاق الحديث ينفي ذلك ويحتمل تقييد الحديث بمفهوم الآية
3- وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم" متفق عليه واللفظ للبخاري يريد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع

(3/162)


ولذا قال أبو قلابة راويه عن أنس ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد فيكون رواية بالمعنى إذ معنى من السنة هو الرفع إلا إنه رأى المحافظة على قول أنس أولى وذلك لأن كونه مرفوعا إنما هو بطريق اجتهادي محتمل والرفع نص وليس للراوي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو غير محتمل كذا قاله ابن دقيق العيد وبالجملة إنهم لا يعنون بالسنة إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال سالم وهل يعنون يريد الصحابة بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والحديث قد أخرجه أئمة من المحدثين عن أنس مرفوعا من طرق مختلفة عن أبي قلابة والحديث دليل على إيثار الجديدة لمن كانت عنده زوجة وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق المرأة بسبب الزفاف سواء أكانت عنده زوجة أم لا واختاره النووي لكن الحديث دل على أنه فيمن كانت عنده زوجة وقد ذهب إلى التفرقة بين البكر والثيب بما ذكر الجمهور فظاهر الحديث أنه واجب وأنه حق للزوجة الجديدة وفي الكل خلاف لم يقم عليه دليل يقاوم الأحاديث والمراد بالإيثار في البقاء عندها ما كان متعارفا حال الخطاب والظاهر أن الإيثار يكون بالمبيت والقيلولة لا استغراق ساعات الليل والنهار عندها كما قاله جماعة حتى قال ابن دقيق العيد إنه أفرط بعض الفقهاء حتى جعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة وتجب الموالاة في السبع والثلاث فلو فرق وجب الاستئناف ولا فرق بين الحرة والأمة فلو تزوج أخرى في مدة السبع أو الثلاث فالظاهر أنه يتم ذلك لأنه قد صار مستحقا لها
4- وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال: "إنه ليس بك على أهلك" يريد نفسه "هوان إن شئت سبعت لك" أي أتممت عندك سبعا "وإن سبعت لك سبعت لنسائي" رواه مسلم وزاد في رواية "دخل عليها فلما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت زدت لك وحاسبتك للبكر سبع وللثيب ثلاث" دل ما تقدم على استحقاق البكر والثيب ما ذكر من العدد ودلت الأحاديث على أنه إذا تعدى الزوج المدة المقدرة برضا المرأة سقط حقها من الإيثار ووجب عليها القضاء لذلك وأما إذا كان بغير رضاها فحقها ثابت وهو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم "إن شئت" ومعنى قوله "ليس بك على أهلك هوان" أن لا يلحقك منا هوان ولا نضيع مما تستحقينه شيئا بل تأخذينه كاملا ثم أعلمها أن إليها الاختيار بين ثلاث بلا قضاء وبين سبع ويقضي نساءه وفيه حسن ملاطفة الأهل وإبانة ما يجب لهم وما لا يجب والتخيير لهم فيما هو لهم وعن عائشة أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه
5- وعن عائشة رضي الله عنها أن سودة بنت زمعة بفتح الزاي والميم وعين مهملة وكان صلى الله عليه وسلم تزوج سودة بمكة بعد موت خديجة وتوفيت بالمدينة سنة أربع وخمسين وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه زاد البخاري وليلتها وزاد أيضا في آخره تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود وذكر فيه سبب الهبة بسند رجاله رجال مسلم أن

(3/163)


سودة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك ففيها وأشباهها نزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الآية وأخرج ابن سعد برجال ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها يعني سودة فقعدت على طريقه وقالت والذي بعثك الفراش ما لي في الرجال حاجة ولكني أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني بوجدة وجدتها علي قال لا قالت فأنشدك الله لما راجعتني فراجعها قالت فإني جعلت يومي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث دليل على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها ويعتبر رضا الزوج لأن له حقا في الزوجة فليس لها أن تسقط حقه إلا برضاه واختلف الفقهاء إذا وهبت نوبتها للزوج فقال الأكثر تصح ويخص بها الزوج من أراد وهذا هو الظاهر وقيل ليس له ذلك بل تصير كالمعدومة وقيل إن قالت له خص بها من شئت جاز لا إذا أطلقت له قالوا ويصح الرجوع للمرأة فيما وهبت من نوبتها لأن الحق يتجدد
6- وعن عروة قال قالت عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه ثمنا وكان قل يوم إلا وهو يطرق علينا جميعا فيدنو من كل واحدة مسيس" وفي رواية "بغير وقاع" فهو المراد هنا "حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له وصححه الحاكم فيه دليل على أنه يجوز للرجل الدخول على من لم يكن في يومها من نسائه والتأنيس لها واللمس والتقبيل وفيه بيان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وأنه كان خير الناس لأهله وفي هذا رد لما قاله ابن العربي وقد أشرنا إليه سابقا أنه كان له صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار لا يجب عليه القسم فيها وهي بعد العصر قال المصنف لم أجد لما قاله دليلا وقد عين الساعة التي يدور فيها الحديث الآتي وهو قوله
7- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دار على نسائه ثم يدنوا منهن" أي دنو لمس وتقبيل من دون وقاع كما عرفت
8- وعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة" متفق عليه وفي رواية وكان أول ما بدىء به من مرضه في بيت ميمونة أخرجها البخاري في آخر كتاب المغازي وقوله "فأذن له أزواجه "ووقع عند أحمد عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن فإن شئتن أذنتن لي فأذن له" ووقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين وقالت إنه يشق عليه الاختلاف ويمكن أنه استأذن صلى الله عليه وسلم واستأذنت له فاطمة رضي الله عنها فيجتمع الحديثان ووقع في رواية أنه دخل بيت عائشة يوم الاثنين ومات يوم الاثنين الذي يليه والحديث دليل على أن المرأة إذا أذنت كان

(3/164)


مسقطا لحقها من النوبة وأنه لا تكفي القرعة إذا مرض كما تكفي إذا سافر كما دل له قوله
9- وعنها أي عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه" متفق عليه وأخرجه ابن سعد وزاد فيه عنها فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية دل الحديث على القرعة بين الزوجات لمن أراد سفرا وأراد إخراج إحداهن معه وهذا فعل لا يدل على الوجوب وذهب الشافعي إلى وجوبه وذهبت الهادوية إلى أن له السفر بمن شاء وأنه لا تلزمه القرعة قالوا لأنه لا يجب عليه القسم في السفر وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان من مكارم أخلاقه ولطف شمائله وحسن معاملته فإن سافر بزوجة فلا يجب القضاء لغير من سافر بها وقال أبو حنيفة يجب القضاء سواء كان سفره بقرعة أو بغيرها وقال الشافعي إن كان بقرعة لم يجب القضاء وإن كان بغيرها وجب عليه القضاء ولا دليل على الوجوب مطلقا ولا مفصلا والاستدلال بأن القسم واجب وأنه لا يسقط الواجب بالسفر جوابه أن السفر أسقط هذا الواجب بدليل أن له أن يسافر ولا يخرج منهن أحدا فإنه لا يجب عليه بعد عوده قضاء أيام سفره لهن اتفاقا والإقراع لا يدل الحديث على وجوبه لما عرفت أنه فعل وفي الحديث دليل على اعتبار القرعة بين الشركاء ونحوهم والمشهور عن المالكية والحنفية عدم اعتبار القرعة قال القاضي عياض هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الحظ والقمار وحكي عن الحنفية إجازتها اه واحتج من منع من القرعة بأن بعض النساء قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع فيها في السفر لأضر بحال الزوج وكذا قد يكون بعض النساء أقوم برعاية مصالح بيت الرجل في الحضر فلو خرجت القرعة عليها بالسفر لأضر بحال الزوج من رعاية مصالح بيت الرجل في الحضر قال القرطبي تختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا يخص واحدة فيكون ترجيحا بلا مرجح قيل هذا تخصيص لعموم الحديث بالمعنى الذي شرع لأجل الحكم والجري على ظاهره كما ذهب إليه الشافعي أقوم
10- وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه هو ابن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى صحابي مشهور وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وعداده في أهل المدينة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد" بالنصب على المصدرية رواه البخاري وتمامه فيه "ثم يجامعها " وفي رواية "ولعله أن يضاجعها" وفي الحديث دليل على جواز ضرب المرأة ضربا خفيفا لقوله جلد العبد ولقوله في رواية أبي داود "لاتضرب ظعينتك ضربك أمتك" وفي لفظ للنسائي "كما تضرب العبد أو الأمة" وفي رواية للبخاري "ضرب الفحل أو العبد" فإنها دالة على جواز الضرب إلا أنه لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك وقد قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ودل على جواز ضرب غير الزوجات فيما ذكر ضربا شديدا وقوله "ثم يجامعها" دال على أن علة النهي أن ذلك لا يستحسنه العقلاء في مجرى العادات لأن الجماع والمضاجعه أنما تليق مع ميل نفس

(3/165)


والرغبة في العشرة والمجلود غالبا ينفر عمن جلده بخلاف التأديب المستحسن فأنه لا ينفر الطباع ولاريب أن عدم الضرب والاغتفار والسماحة أشرف من ذلك كما هو أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج النسائي من حديث عائشة "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادما قط ولا ضرب بيده قط إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم الله فينتقم لله"

(3/166)


باب الخلع
بضم المعجمة وسكون اللام هو فراق الزوجة على مال مأخوذ من خلع الثوب لأن المرأة لباس الرجل مجازا وضم المصدر تفرقة بين المعنى الحقيقي والمجازي والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس سماها البخاري جميلة ذكره عن عكرمة مرسلا وأخرج البيهقي مرسلا أن اسمها زينب بنت عبد الله بن أبي بن سلول ذلك أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس هو خزرجي أنصاري شهد أحدا وما بعدها وهو من أعيان الصحابة كان خطيبا للأنصار ولرسول لله صلى الله عليه وسلم وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ما أعيب روى بالمثناة الفوقية مضمومة ومكسورة من العتب وبالمثناة التحتية ساكنة من العيب وهو أوفق بالمراد عليه في خلق ضم اللام ويجوز سكونها ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" فقالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري وفي رواية له وأمره بطلاقها ولأبي داود والترمذي أي من حديث ابن عباس وحسنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة قولها أكره الكفر في الإسلام أي أكره من الإقامة عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر والمراد ما يضاد الإسلام من النشوز وبغض الزوج وغير ذلك أطلقت على ما ينافي خلق الإسلام الكفر مبالغة ويحتمل غير ذلك وقوله حديقته أي بستانه ففي الرواية أنه كان تزوجها على حديقة نخل الحديث فيه دليل على شرعية الخلع وصحته وأنه يحل أخذ العوض من المرأة واختلف العلماء هل يشترط في صحته أن تكون المرأة ناشزة أم لا فذهب إلى الأول الهادي والظاهرية واختاره ابن المنذر مستدلين بقصة ثابت هذه فإن طلب الطلاق نشوز وبقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وذهب أبو حنيفة والشافعي والمؤيد وأكثر أهل العلم إلى الثاني

(3/166)


وقالوا يصح الخلع مع التراضي بين الزوجين وإن كانت الحال مستقيمة بينهما ويحل العوض لقوله تعالى: {فََإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية ولم تفرق ولحديث إلا بطيبة من نفسه وقالوا إنه ليس في حديث ثابت هذا دليل على الاشتراط والآية يحتمل أن الخوف فيها وهو الظن والحسبان يكون في المستقبل فيدل على جوازه وإن كان الحال مستقيما بينهما وهما مقيمان لحدود الله في الحال ويحتمل أن يراد أن يعلما ألا يقيما حدود الله ولا يكون العلم إلا لتحققه في الحال كذا قيل وقد يقال إن العلم لا ينافي أن يكون النشوز مستقبلا والمراد إني أعلم في الحال أني لا أحتمل معه إقامة حدود الله في الاستقبال وحينئذ فلا دليل على اشتراط النشوز في الآية على التقديرين ودل الحديث على أن يأخذ الزوج منها ما أعطاه من غير زيادة واختلف هل تجوز الزيادة أم لا فذهب الشافعي ومالك إلى أنها تحل الزيادة إذا كان النشوز من المرأة قال مالك لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر منه لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها وقال مالك لم أر أحدا ممن يقتدي به منع ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق وأما الرواية التي فيها أنه قال صلى الله عليه وسلم أما الزيادة فلا فلم يثبت رفعها وذهب عطاء وطاوس وأحمد وإسحاق والهادوية وآخرون إلى أنها لا تجوز الزيادة لحديث الباب ولما ورد من رواية أما الزيادة فلا فإنه قد أخرجها في آخر حديث الباب البيهقي وابن ماجه عن ابن جريج عن عطاء مرسلا ومثله عند الدارقطني وأنها قالت لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" قالت وزيادة قال النبي صلى الله عليه وسلم "أما الزيادة فلا" الحديث ورجاله ثقات إلا أنه مرسل وأجاب من قال بجواز الزيادة أنه لا دلالة في حديث الباب على الزيادة نفيا ولا إثباتا وحديث أما الزيادة فلا تقدم الجواب عنه بأنه لم يثبت رفعها وأنه مرسل وإن ثبت رفعها فلعله خرج مخرج المشورة عليها والرأي وأنه لا يلزمها لا أنه خرج مخرج الإخبار عن تحريمها على الزوج وأما أمره صلى الله عليه وسلم بتطليقه لها فإنه أمر إرشاد لا إيجاب كذا قيل والظاهر بقاؤه على أصله من الإيجاب ويدل له قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن المراد يجب عليه أحد الأمرين وهنا قد تعذر الإمساك بمعروف لطلبها للفراق فيتعين عليه التسريح بإحسان عند الظاهر إنه يقع الخلع بلفظ الطلاق وأن المواطأة على رد المهر لأجل الطلاق يصير بها الطلاق خلعا واختلفوا إذا كان بلفظ الخلع فذهبت الهادوية وجمهور العلماء إلى أنه طلاق وحجتهم أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقا ولو كان فسخا لما جاز على غير الصداق كالإقالة وهو يجوز عند الجمهور بما قل أو كثر فدل أنه طلاق وذهب ابن عباس وآخرون إلى أنه فسخ وهو مشهور مذهب أحمد ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بحيضة قال الخطابي في هذا أقوى دليل لمن قال إن الخلع فسخ وليس بطلاق إذا لو كان طلاقا لم يكتف بحيضة للعدة واستدل القائل بأنه فسخ أنه تعالى ذكر في كتابه الطلاق قال {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} عند ذكر الافتداء ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً

(3/167)


غَيْرَهُ} فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا من بعد زوج هو الطلاق الرابع وهذا الاستدلال مروي عن ابن عباس فإنه سأله رجل طلق امرأته طلقتين ثم اختلعها قال نعم ينكحها فإن الخلع ليس بطلاق ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء ثم قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} - ثم قرأ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وقد قررنا أنه ليس بطلاق في منحة الغفار حاشية ضوء النهاء ووضحنا هناك الأدلة وبسطناها عند من قال إنه طلاق يقول إنه طلاق بائن لأنه لو كان للزوج الرجعة لم يكن للافتداء بها فائدة وللفقهاء أبحاث طويلة وفروع كثيرة في الكتب الفقهية فيما يتعلق بالخلع ومقصودنا شرح ما دل عليه الحديث على أنه قد زدنا على ذلك ما يحتاج إليه
2- وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجه أن ثابت بن قيس كان دميما وأن امرأته قالت لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه وفي رواية عن ابن عباس أن امرأة ثابت أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها الحديث فصرح الحديث بسبب طلبها الخلع
3- ولأحمد من حديث سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة فمثلثة ساكنة وكان ذلك أول خلع في الإسلام أنه أول خلع وقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقيل إنه وقع في الجاهلية وهو أن عامر بن الظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء ثم موحدة زوج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث فلما دخلت عليه نفرت منه فشكا إلى أبيها فقال لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك وقد خلعتها منك بما أعطيتها زعم بعض العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب

(3/168)