سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب الطلاق
كتاب الطلاق
...
كتاب الطلاق
هو لغة: حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك وفلان طلق اليدين بالخير أي كثير البذل والإرسال لهما بذلك وفي الشرع حل عقدة التزويج قال إمام الحرمين هو لفظ جاهلي ورد الإسلام بتقريره
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح أبو حاتم إرساله وكذا الدارقطني والبيهقي رجحا الإرسال الحديث فيه دليل على أن في الحلال أشياء مبغوضة إلى الله تعالى وأن أبغضها الطلاق فيكون مجازا عن كونه لا ثواب فيه ولا قربة في فعله ومثل بعض العلماء المبغوض من الحلال بالصلاة المكتوبة في غير المسجد لغير عذر والحديث دليل على أنه يحسن تجنب إيقاع الطلاق ما وجد عنه مندوحة وقد قسم بعض العلماء

(3/168)


الطلاق إلى الأحكام الخمسة فالحرام الطلاق البدعي والمكروه الواقع بغير سبب مع استقامة الحال وهذا هو القسم المبغوض مع حله
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" متفق عليه في قوله "مره فليراجعها" دليل على أن الآمر لابن عمر بالمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم فإن عمر مأمور بالتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابنه بأنه مأمور بالمراجعة فهو نظير قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} فإنه صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يأمرنا بإقامة الصلاة فنحن مأمورون من الله تعالى وابن عمر كذلك مأمور من النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتوهم أن هذه المسألة من باب مسألة هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء وإنما تلك المسألة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" الحديث لا مثل هذه وإذا عرفت أنه مأمور منه صلى الله عليه وسلم بالمراجعة فهل الأمر للوجوب فتجب الرجعة أم لا ذهب إلى الأول مالك وهو رواية عن أحمد وصحح صاحب الهداية من الحنفية وجوبها وهو قول داود ودليلهم الأمر بها قالوا فإذا امتنع الرجل منها أدبه الحاكم فإن أصر على الامتناع ارتجع الحاكم عنه وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة فقط قالوا لأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب وأجيب بأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة وفي قوله حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر دليل على أنه لا يطلق إلا في الطهر الثاني دون الأول وقد ذهب إلى تحريم الطلاق فيه مالك وهو الأصح عند الشافعية وذهب أبو حنيفة إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مندوب وكذا عن أحمد مستدلين بقوله وفي رواية لمسلم أي عن ابن عمر "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" فأطلق الطهر ولأن التحريم إنما كان لأجل الحيض فإذا زال زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما جاز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدمه طلاق في حيضة ولا يخفى قرب ما قالوه وفي قوله قبل أن يمس دليل على أنه إذا طلق في الطهر بعد المس فإنه طلاق بدعي محرم وبه صرح الجمهور وقال بعض المالكية إنه يجبر على الرجعة فيه كما إذا طلق وهي حائض وفي قوله ثم تطهر وقوله طاهرا خلاف للفقهاء هل المراد به انقطاع الدم أو لا بد من الغسل فعن أحمد روايتان والراجح أنه لا بد من اعتبار الغسل لما مر في رواية النسائي فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن شاء أن يمسكها أمسكها وهو مفسر لقوله طاهرا وقوله ثم تطهر وقوله فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء أي أذن في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3/169)


وفي رواية مسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية وفي الحديث دليل على أن الأقراء الأطهار للأمر بطلاقها في الطهر وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي وقت ابتداء عدتهن وفي قوله أو حاملا دليل على أن طلاق الحامل سني وإليه ذهب الجمهور وإذا عرفت أن الطلاق البدعي منهي عنه محرم فقد اختلف فيه هل يقع ويعتد به أم لا يقع فقال الجمهور يقع مستدلين بقوله في هذا الحديث وفي أخرى أي في رواية أخرى للبخاري وحسبت تطليقة وهو بضم الحاء المهملة ومبني للمجهول من الحساب والمراد جعلها واحدة من الثلاث التطليقات التي يملكها الزوج ولكنه لم يصرح بالفاعل هنا فإن كان الفاعل ابن عمر فلا حجة فيه وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحجة إلا أنه قد صرح بالفاعل في غير هذه الرواية كما في مسند ابن وهب بلفظ وزاد ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي واحدة وأخرجه الدارقطني من حديث ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي واحدة وقد ورد أن الحاسب لها هو النبي صلى الله عليه وسلم من طرق يقوي بعضها بعضا وفي رواية لمسلم قال ابن عمر أي لما سأله سائل أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أراجعها ثم أمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم أمهلها حتى تطهر ثم أطلقها قبل أن أمسها" وأما أنت طلقتها ثلاثا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك دل على تحريم الطلاق في الحيض وقد يدل قوله: أمرني أن أراجعها على وقوع الطلاق إذ الرجعة فرع الوقوع وفيه بحث وخالفه فيه طاوس والخوارج والروافض وحكاه في البحر عن الباقر والصادق والناصر قالوا لا يقع شيء ونصر هذا القول ابن حزم ورجحه ابن تيمية وابن القيم واستدلوا بقوله وفي رواية أخرى أي لمسلم عن ابن عمر قال عبد الله بن عمر فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك ومثله في رواية أبي داود فردها علي ولم يرها شيئا وإسناده على شرط الصحيح إلا أنه قال ابن عبد البر في قوله ولم يرها شيئا منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ولو صح لكان معناها والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة وقال الخطابي: قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا ويحتمل أن معناه لم يرها شيئا تحرم معه المراجعة أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له ونقل البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعا غيره من أهل التثبت قال وحمل

(3/170)


قوله ولم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ بل يؤمر صاحبه ألا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه إنه لم يصنع شيئا أي لم يصنع شيئا صوابا وقد أطال ابن القيم الكلام على نصرة عدم الوقوع ولكن بعد ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم حسبها تطليقة تطيح كل عبارة ويضيع كل صنيع وقد كنا نفتي بعدم الوقوع وكتبنا فيه رسالة وتوقفنا مدة ثم رأينا وقوعه.
تنبيه ثم إنه قوي عند ما كنت أفتي به أولا من عدم الوقوع لأدلة قوية سقتها في رسالة سميناها الدليل الشرعي في عدم وقوع الطلاق البدعي ومن الأدلة أنه مسمى ومنسوب إلى البدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة لا تدخل في نفوذ حكم شرعي ولا يقع بها بل هي باطلة ولأن الرواة لحديث ابن عمر اتفقوا على أن المسند مرفوع في هذا الحديث غير مذكور فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب تلك التطليقة على ابن عمر ولا قال له قد وقعت ولا رواه ابن عمر مرفوعا بل في صحيح مسلم ما دل على أن وقوعها إنما هو رأي لابن عمر وأنه سئل عن ذلك فقال وما لي لا أعتد بها وإن كنت قد عجزت واستحمقت وهذا يدل على أنه لا يعلم في ذلك نصا نبويا لأنه لو كان عنده لم يترك روايته ويتعلق بهذه العلة العليلة فإن العجز والحمق لا مدخل لهما في صحة الطلاق ولو كان عنده نص نبوي لقال وما لي لا أعتد بها وقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتد بها وقد صرح الإمام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير بأنه قد اتفق الرواة على عدم رفع الوقوع في الرواية إليه صلى الله عليه وسلم وقد ساق السيد محمد ست عشر حجة على عدم وقوع الطلاق البدعي ولخصناها في رسالتنا المذكورة وبعد هذا تعرف رجوعنا عما هنا فليلحق هذا في نسخ سبل السلام وأما الاستدلال على الوقوع بقوله فليراجعها ولا رجعة إلا بعد طلاق فهو غير ناهض لأن الرجعة المقيدة ببعد الطلاق عرف شرعي متأخر إذ هي لغة أعم من ذلك ودل الحديث على تحريم الطلاق في الحيض وبأن الرجعة يستقل بها الزوج من دون رضا المرأة والولي لأنه جعل ذلك إليه ولقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وبأن الحامل لا تحيض لقوله طاهرا أو حاملا فدل على أنها لا تحيض لإطلاق الطلاق فيه وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له أثر في تطويل العدة لم يعتبر لأن عدتها بوضع الحمل وأن الأقراء في العدة هي الأطهار قال الغزالي: ويستثنى من تحريم طلاق الحائض طلاق المخالعة لأن النبي صلى الله وآله وسلم لم يستفصل حال امرأة ثابت هل هي طاهرة أو حائض مع أمره له بالطلاق والشافعي يذهب إلى أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
3- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" بفتح الهمزة أي مهملة "فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم" رواه مسلم الحديث ثابت من طرق عن ابن عباس وقد استشكل أنه

(3/171)


كيف يصح من عمر مخالفة ما كان في عصره صلى الله عليه وسلم ثم في عصر أبي بكر ثم في أول أيامه وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك وأجيب عنه بستة أجوبة: الأول أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك اهـ إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى أن أنكره عمر قلت إن ثبتت رواية النسخ فذاك وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه وما في بعض ألفاظه عند مسلم أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم
ثانيها أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي في شرح مسلم وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتض القطع ببطلانه اهـ قلت وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر الأمة ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديث أبي ركانة وإن كان فيه كلام وسيأتي.
الثالث أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق أنت طالق أنت طالق وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد لا تأسيس طلاق آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوى الباطلة رأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر قوله ولا يصدق في دعوى ضميره وهذا الجواب ارتضاه القرطبي قال النووي هو أصح الأجوبة قلت ولا يخفى أنه تقرير لكون نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف ما في ضمير الإنسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الأمر فيحكم بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة أنه كان ذلك بأية عبارة وقعت.
الرابع أن معنى قوله كان طلاق الثلاث واحدة أن الطلاق الذي يوقع في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي توقعونه ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة فيكون قوله فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث وهذا الجواب يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف ويكون معناه الإخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي أخرجه عنه قال معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة قلت وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبي ركانة وغيره يدفعه وينبو

(3/172)


عنه قول عمر فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن مضى في ذلك العصر حتى رأى إمضاءه وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه لم يمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة واحدة نادرا في ذلك العصر
الخامس: أن قول ابن عباس كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو موقوف عليه وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل وكانوا يفعلون له حكم الرفع.
السادس: أنه أريد بقوله طلاق الثلاث واحدة هو لفظ البتة إذا قال أنت طالق البتة وكما سيأتي في حديث ركانة فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة قيل وأشار إلى هذا البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن عباس كان طلاق البتة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر إلى آخره قلت ولا يخفى بعد هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة في غاية الندور فلا يحمل عليه ما وقع كيف وقول عمر قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة يدل أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة والأقرب أن هذا رأي من عمر ترجح له كما منع من متعة الحج وغيرها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه خالف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عصر النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم إن أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.
4- وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه ابن أبي رافع الأنصاري الأشهلي ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث عنه أحاديث قال البخاري له صحبة وقال أبو حاتم لا نعرف له صحبة وذكره مسلم في التابعين وكان من العلماء مات سنة ست وتسعين وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله رواه النسائي ورواته موثقون الحديث دليل على أن جمع الثلاث التطليقات بدعة واختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية و أبو حنيفة ومالك إلى أنه بدعة وذهب الشافعي وحمد والإمام يحيى إلى أنه ليس ببدعة ولا مكروه واستدل الأولون بغضبه صلى الله عليه وسلم وبقوله أيلعب بكتاب الله وبما أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره ضربا وكأنه أخذ تحريمه من قوله صلى الله عليه وسلم أيلعب بكتاب الله
واستدل آخرون بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وبقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وبما يأتي في حديث اللعان أنه طلقها الزوج ثلاثا بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه وأجيب بأن الآيتين مطلقتان والحديث صريح بتحريم الثلاث فتقيد به

(3/173)


الآيتان وبأن طلاق الملاعن لزوجته ليس طلاقا في محله لأنها بانت بمجرد اللعان كما يأتي واعلم أن حديث محمود لم يكن فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى عليه الثلاث أو جعلها واحدة وإنما ذكره المصنف إخبارا بأنها قد وقعت التطليقات الثلاث في عصره
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال طلق أبو ركانة بضم الراء وبعد الألف نون أم ركانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "راجع امرأتك" قال إني طلقتها ثلاثا قال: "قد علمت راجعها" رواه أبو داود ولفظ أحمد أي عن ابن عباس طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها واحدة وفي سندهما أي حديث أبي داود وحديث أحمد ابن إسحاق أي محمد صاحب السيرة وفيه مقال وقد حققنا في ثمرات النظر في علم أهل الأثر وفي إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد عدم صحة القدح بما يجرح روايته وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه أن ركانة طلق امرأته سهيمة بالسين المهملة مضمومة تصغير سهمة البتة فقال والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو يعلى وصححه وطرقه كلها من رواية محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وقد عمل العلماء بمثل هذا الإسناد في عدة من الأحكام مثل حديث أنه صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول تقدم وقد صححه أبو داود لأنه أخرجه أيضا من طريق أخرى وهي التي أشار إليها المصنف بقوله أحسن منه وهي أنه أخرجه من حديث نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة الحديث وصححه أيضا ابن حبان والحاكم وفيه خلاف بين العلماء بين مصحح ومضعف والحديث دليل على أن إرسال الثلاث التطليقات في مجلس واحد يكون طلقة واحدة وقد اختلف العلماء في المسألة على أربعة أقوال الأول أنه لا يقع بها شيء لأنها طلاق بدعة وتقدم ذكرهم وأدلتهم الثاني أنه يقع به الثلاث وإليه ذهب عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن علي والفقهاء الأربعة وجمهور السلف والخلف واستدلوا بآيات الطلاق وأنها لم تفرق بين واحدة ولا ثلاث وأجيب بما سلف أنها مطلقات تحتمل التقييد بالأحاديث واستدلوا بما في الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها وأجيب بأن هذا التقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لأن النهي إنما هو فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له إمساكها ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان أو بتفريق الحاكم فلا يدل على المطلوب واستدلوا بما في المتفق عليه أيضا في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا وأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك قال: "ليس لها نفقة وعليها العدة" وأجيب بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على المطلوب قالوا عدم استفصاله صلى الله عليه وسلم هل كان في مجلس أو مجالس دال على

(3/174)


أنه لا فرق في ذلك ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم إرسال الثلاث كما تقدم وقولنا غالبا لئلا يقال قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة لأنا نقول نعم لكن نادرا ومثل هذا ما استدلوا به من حديث عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق الآخر فسئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتحل للأول قال: "لا حتى يذوق عسيلتها" أخرجه البخاري والجواب عنه هو ما سلف ولهم أدلة من السنة فيها ضعف فلا تقوم بها حجة فلا نعظم بها حجم الكتاب وكذلك ما استدلوا به من فتاوى الصحابة أقوال أفراد لا تقوم بها حجة القول الثالث إنها تقع بها واحدة رجعية وهو مروي عن علي وابن عباس وذهب إليه الهادي والقاسم والصادق والباقر ونصره أبو العباس ابن تيمة وتبعه ابن القيم تلميذه على نصره واستدلوا بما مر من حديثي ابن عباس وهما صريحان في المطلوب وبأن أدلة غيره من الأقوال غير ناهضة أما الأول والثاني فلما عرفت ويأتي ما في غيرهما القول الرابع أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث على المدخول بها وتقع على غير المدخول بها واحدة وهو قول جماعة من أصحاب ابن عباس وإليه ذهب إسحاق بن راهويه واستدلوا بما وقع في رواية أبي داود أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وبالقياس فإنه إذا قال أنت طالق بانت منه بذلك فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلا للطلاق فكان لغوا وأجيب بما مر من ثبوت ذلك في حق المدخولة وغيرها فمفهوم حديث أبي داود لا يقاوم عموم أحاديث ابن عباس واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول أنت طالق ثلاثا أو يكرر هذا اللفظ ثلاثا وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم يستند إلى دليل واضح وقد أطال الباحثون في الفروع في هذه المسألة الأقوال وقد أطبق أهل المذاهب الأربعة على وقوع الثلاث متابعة لإمضاء عمر لها واشتد نكيرهم على من خالف ذلك وصارت هذه المسألة عندهم علما للرافضة والمخالفين وعوقب بسبب الفتيا بها شيخ الإسلام ابن تيمية وطيف بتلميذه الحافظ ابن القيم على جمل بسبب الفتوى بعدم وقوع الثلاث ولا يخفى أن هذه محض عصبية شديدة في مسألة فرعية قد اختلف فيها سلف الأمة وخلفها فلا نكير على من ذهب إلى قول من الأقوال المختلف فيها كما هو معروف وها هنا يتميز المنصف من غيره من فحول النظار والأتقياء من الرجال.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم وفي رواية عن أبي هريرة لابن عدي من وجه آخر ضعيف الطلاق والعتاق والنكاح وقد بين معناها قوله

(3/175)


7-وللحارث بن أبي أسامة من حديث عبادة بن الصامت رفعه لا يجوز اللعب في ثلاث الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن وسنده ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وفيه انقطاع أيضا والأحاديث دلت على وقوع الطلاق من الهازل وأنه لا يحتاج إلى النية في الصريح وإليه ذهب الهادوية والحنفية والشافعية وذهب أحمد والناصر والصادق والباقر إلى أنه لا بد من النية لعموم حديث الأعمال بالنيات وأجيب بأنه عام خصه ما ذكر من الأحاديث ويأتي الكلام في العتق
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم" متفق عليه ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ عما توسوس به صدورها بدل ما حدثت به أنفسها وزاد في آخره وما استكرهوا عليه قال المصنف وأظن الزيادة هذه مدرجة كأنها دخلت على هشام بن عمار من حديث في حديث والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس وهو قول الجمهور وروي عن ابن سيرين والزهري ورواية عن مالك بأنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق وقواه ابن العربي بأن من اعتقد الكفر بقلبه ومن أصر على المعصية أ ثم وكذلك من قذف مسلما بقلبه وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان ويجاب عنه بأن الحديث المذكور أخبر عن الله تعالى بأنه لا يؤاخذ الأمة بحديث نفسها وأنه تعالى قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} وحديث النفس يخرج عن الوسع نعم الاسترسال مع النفس في باطل أحاديثها يصير العبد عازما على الفعل فيخاف منه الوقوع فيما يحرم فهو الذي ينبغي أن يسارع بقطعه إذا خطر وأما احتجاج ابن العربي بالكفر والرياء فلا يخفى أنهما من أعمال القلب فهما مخصوصان من الحديث على أن الاعتقاد وقصد الرياء قد خرجا عن حديث النفس وأما المصر على المعصية فالإثم على عمل المعصية المتقدم على الإصرار فإنه دال على أنه لم يتب عنها واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته وهو قول الجمهور وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك وسيأتي
9- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه والحاكم وقال أبو حاتم لا يثبت وقال النووي في الروضة في تعليق الطلاق إنه حديث حسن وكذا قال في أواخر الأربعين له اهـ وللحديث أسانيد وقال ابن أبي حاتم إنه سأل أباه عن أسانيده فقال هذه أحاديث منكرة كلها موضوعة وقال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فأنكره جدا وقال ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقل الخلال عن أحمد أنه قال من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة والحديث دليل على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية إذا صدرت عن خطإ

(3/176)


أو نسيان أو إكراه وأما ابتناء الأحكام والآثار الشرعية عليها ففي ذلك خلاف بين العلماء فاختلفوا في طلاق الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط أخرجه ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء وهو قول الجمهور أنه لا يكون طلاقا للحديث وكذا ذهب الجماهير أنه لا يقع طلاق الخاطىء وعن الحنفية يقع واختلف في طلاق المكره فعند الجماهير لا يقع ويروى عن النخعي وبه قالت الحنفية إنه يقع واستدل الجمهور بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} وقال عطاء الشرك أعظم من الطلاق وقرر الشافعي الاستدلال بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإ كراه وأسقط عنه أحكام الكفر كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى
10- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال إذا حرم الرجل امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة رواه البخاري ولمسلم عن ابن عباس إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها الحديث موقوف وفيه دليل على أن تحريم الزوجة لا يكون طلاقا وإن كان يلزم فيه كفارة يمين كما دلت له رواية مسلم فمراده ليس بشيء ليس بطلاق لا أنه لا حكم له أصلا وقد أخرج عنه البخاري هذا الحديث بلفظ إذا حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها فدل على أنه المراد بقوله ليس بشيء أنه ليس بطلاق ويحتمل أنه أراد لا يلزم فيه شيء وتكون رواية أنه يمين رواية أخرى فيكون له قولان في المسألة والمسألة اختلف فيها السلف من الصحابة والتابعين والخلف من الأئمة المجتهدين حتى بلغت الأقوال إلى ثلاثة عشر قولا أصولا وتفرعت إلى عشرين مذهبا الأول أنه لغو لا حكم له في شيء من الأشياء وهو قول جماعة من السلف وقول الظاهرية والحجة على ذلك أن التحريم والتحليل إلى الله تعالى كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} - وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} قالوا ولأنه لا فرق بين تحليل الحرام وتحريم الحلال فلما كان الأول باطلا فليكن الثاني باطلا عند قوله هي حرام إن أراد به الإنشاء فإنشاء التحريم ليس إليه وإن أراد به الإخبار فهو كذب قالوا ونظرنا إلى ما سوى هذا القول يعني من الأقوال التي هي في المسألة فوجدناها أقوالا مضطربة لا برهان عليها من الله فيتعين القول بهذا وهذا القول يدل عليه حديث ابن عباس وتلاوته لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإنه دال على أنه لا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه فإن الله تعالى أنكر على رسوله تحريم ما أحل الله له وظاهره أنه لا تلزم الكفارة وأما قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فإنها كفارة حلفه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي

(3/177)


المشهور قال أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها عليه حراما فقالت يا رسول الله كيف تحرم الحلال فحلف بالله لا يصيبها فنزلت هذا أحد القولين فيما حرمه صلى الله عليه وسلم وسيأتي القول الآخر في تحريم إيلائه صلى الله عليه وسلم والحديث وإن كان مرسلا فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} وهذا أصح طرق سبب النزول والمرسل عن زيد قد شهد له هذا فالكفارة لليمين لا لمجرد التحريم وقد فهم هذا زيد بن أسلم فقال بعد روايته القصة يقول الرجل لامرأته أنت علي حرام لغو وإنما يلزمه كفارة يمين إن حلف وحينئذ فالأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلغاء التحريم والتكفير إن حلف وهذا القول أقرب الأقوال المذكورة وأرجحها عندي فلم أسرد شيئا منها.
11- وعن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت أعوذ بالله منك قال: "لها لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" رواه البخاري اختلف في اسم ابنة الجون المذكورة اختلافا كثيرا ونفع تعيينها قليل فلا نشتغل بنقله أخرج ابن سعد من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أزوجك أجمل أيم في العرب كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك قال نعم قال فابعث من يحملها إليك فبعث معه أبا أسيد الساعدي قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت بها معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته الحديث قال ابن أبي عون وكان ذلك في ربيع الأول سنة سبع ثم أخرج ذلك من طريقين وفي تمام القصة قيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده وخدعت لما رئي من جمالها وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت قال إنهن صواحب يوسف وكيدهن والحديث دليل على أن قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك طلاق لأنه لم يرو أنه زاد غير ذلك فيكون كناية طلاق إذا أريد به الطلاق كان طلاقا قال البيهقي زاد ابن أبي ذئب عن الزهري الحقي بأهلك جعلها تطليقة ويدل على أنه كناية طلاق أنه قد جاء في قصة كعب بن مالك أنه لما قيل له اعتزل امرأتك قال الحقي بأهلك فكوني عندهم ولم يرد الطلاق فلم تطلق وإلى هذا ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم وقالت الظاهرية لا يقع الطلاق الفراشي بأهلك قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد عقد بابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها إذ الروايات قد اختلفت في قصتها ويدل على أنه لم يكن عقد بها ما في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هبي لي نفسك" قالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى ليضع يده

(3/178)


عليها لتسكن فقالت أعوذ بالله منك قالوا فطلب الهبة دال على أنه لم يكن عقد بها ويبعد ما قالوه قوله ليضع يده ورواية فلما دخل عليها فإن ذلك إنما يكون مع الزوجة وأما قوله "هبي لي نفسك" فإنه قال تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها ويؤيده ما سلف من رواية أنها رغبت فيك وقد روي اتفاقه مع أبيها على مقدار صداقها وهذه وإن لم تكن صرائح في العقد بها إلا أنه أقرب الاحتمالين
12- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك" رواه أبو يعلى وصححه الحاكم وقال أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه لقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر انتهى وهو معلول بما قاله الدارقطني الصحيح مرسل ليس فيه جابر قال يحيى بن معين لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا طلاق قبل نكاح" وقال ابن عبد البر روي من وجوه إلا إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة انتهى ولكنه يشهد له قوله
13- وأخرج ابن ماجه عن المسور بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو فراء ابن مخرمة بفتح الميم فخاء معجمة ساكنة مثله وإسناده حسن لكنه معلول أيضا لأنه اختلف فيه على الزهري قال علي بن الحسين بن واقد عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن المسور وقال حماد بن خالد عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن أبي بكر وعن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وعمران بن حصين وغيرهم ذكرها البيهقي في الخلافيات وقال البيهقي أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال الترمذي هو أحسن شيء روي في هذا الباب ولفظه عند أصحاب السنن "ليس على رجل طلاق فيما لا يملك" الحديث قال البيهقي قال البخاري أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ويأتي وحديث الزهري عن عائشة وعن علي ومداره على جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي وجويبر متروك عند قال البيهقي ورواه ابن ماجه بإسناد حسن والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية فإن كان تنجيزا فإجماع وإن كان تعليقا بالنكاح كأن يقول إن نكحت فلانة فهي طالق ففيه ثلاث أقوال الأول أنه لا يقع مطلقا وهو قول الهادوية والشافعية وأحمد وداود وآخرين ورواه البخاري عن اثنين وعشرين صحابيا ودليل هذا القول حديث الباب وإن كان فيه مقال من قبل الإسناد فهو متأيد بكثرة الطرق وما أحسن ما قال ابن عباس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن وبأنه إذا قال المطلق إن تزوجت فلانة هي طالق مطلق لأجنبية فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية والمتجدد هو نكاحها فهو كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعا وذهب أبو حنيفة وهو أحد قولي المؤيد بالله إلى أنه يصح التطليق مطلقا وذهب مالك وآخرون إلى التفصيل فقالوا إن

(3/179)


خص بأن يقول كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق أو قال في وقت كذا وقع الطلاق وإن عمم وقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يقع شيء وقال في نهاية المجتهد سبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما على الطلاق بالزمان أو ليس من شرطه فمن قال هو من شرطه قال لا يتعلق الطلاق بالأجنبية ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال يقع قلت دعوى الشرطية تحتاج إلى دليل ومن لم يدعها فالأصل معه ثم قال وأما الفرق بين التخصيص والتعميم فاستحسان مبني على المصلحة وذلك إذا وقع فيه التعميم فلو قلنا بوقوعه امتنع منه التزويج فلم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال فكان من باب النذر بالمعصية وأما إذا خصص فلا يمتنع منه ذلك اهـ قلت سبق الجواب عن هذا بعدم الدليل على الشرطية هذا والخلاف في العتق مثل الخلاف في الطلاق فيصح عند أبي حنيفة وأصحابه وعند أحمد في أصح قوليه وعليه أصحابه ومنهم ابن القيم فإنه فرق بين الطلاق والعتاق فأبطله في الأول وقال به في الثاني مستدلا على الثاني بأن العتق له قوة وسراية فإنه يسري إلى ملك الغير ولأنه يصح أن يجعل الملك سببا للعتق كما لو اشترى عبدا ليعتقه عن كفارة أو نذر أو اشتراه بشرط العتق ولأن العتق من باب القرب والطاعات وهو يصح النذر بها وإن لم يكن حال النذر به مملوكا كقولك لئن آتاني الله من فضله لأصدقن بكذا وكذا ذكره في الهدي النبوي قلت ولا يخفى ما فيه فإن السراية إلى ملك الغير تفرعت من إعتاقه لما يملكه من الشقص فحكم الشارع بالسراية لعدم تبعض العتق وأما قوله ولأنه يصح أن يجعل الملك سببا للعتق كما لو اشترى عبدا ليعتقه فيجاب عنه بأنه لا يعتق هذا الذي اشتراه إلا بإعتاقه كما قال ليعتقه وهذا عتق لما يملكه وأما قوله إنه يصح النذر ومثله بقوله لئن آتاني الله من فضله فهذه فيها خلاف ودليل المخالف أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" كما يفيده قوله
14- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه تقدم الكلام في ذلك مستوفى
15- وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم" أي ليس يجري أصالة لا أنه رفع بعد وضع والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة لا قلم الثواب فلا ينافيه صحة إسلام الصبي المميز كما ثبت في غلام اليهودي الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم فقال: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" وكذلك ثبت أن امرأة رفعت إليه صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت ألهذا حج فقال: "نعم ولك أجر" ونحو هذا كثير في الأحاديث "عن ثلاثة عن النائم حتى

(3/180)


يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان الحديث فيه كلام كثير لأئمة الحديث وفيه دليل على أن الثلاثة لا يتعلق بهم تكليف وهو في النائم المستغرق إجماع والصغير الذي لا تمييز له وفيه خلاف إذا عقل وميز والحديث جعل غاية رفع القلم عنه إلى أن يكبر فقيل إلى أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة وهذا لأحمد وقيل إذا بلغ اثنتي عشرة سنة وقيل إذا ناهز الاحتلام وقيل إذا بلغ والبلوغ يكون في حق الذكر مع إنزال المني إجماعا وفي حق الأنثى عند الهادوية وبلوغ خمس عشرة سنة وإنبات الشعر الأسود المتجعد في العانة بعد تسع سنين عند الهادوية وكذلك الإمناء في حال اليقظة إذا كان لشهوة وفي الكل خلاف معروف وأما المجنون فالمراد به زائل العقل فيدخل فيه السكران والطفل كما يدخل المجنون وقد اختلف في طلاق السكران على قولين الأول أنه لا يقع وإليه ذهب عثمان وجابر وزيد و عمر بن عبد العزيز وجماعة من السلف وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر لهذا الحديث ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول بأنه غير مكلف لانعقاد الإجماع على أن من شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف أو بأنه كان يلزم أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها غير عالم بأنها خمر ولا يقوله المخالف الثاني وقوع طلاق السكران ويروى عن علي وابن عباس وجماعة من الصحابة وعن الهادي وأبي حنيفة والشافعي ومالك واحتج لهم بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فإنه نهي لهم عن قربانها حال السكر والنهي يقتضي أنهم مكلفون حال سكرهم والمكلف يصح منه الإنشاءات وبأن إيقاع الطلاق عقوبه له وبأن ترتيب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر وبأن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا إذا شرب سكر وإذا سكر هذي فإذا هذي افترى وحد المفتري ثمانون وبأنه أخرج سعيد بن منصور عنه صلى الله عليه وسلم "لا قيلولة في الطلاق" وأجيب بأن الآية خطاب لهم حال صحوهم ونهي لهم قبل سكرهم أن يقربوا الصلاة حالة أنهم لا يعلمون ما يقولون فهي دليل لنا كما سلف وبأن جعل الطلاق عقوبة يحتاج إلى دليل على المعاقبة للسكران بفراق أهله فإن الله لم يجعل عقوبته إلا الحد وبأن ترتيب الطلاق على التطليق محل النزاع وقد قال أحمد والبتي إنه لا يلزمه عقد ولا بيع ولا غيره على أنه يلزمهم القول بترتيب الطلاق على التطليق صحة طلاق المجنون والنائم والسكران غير العاصي بسكره والصبي وبأن ما نقل عن الصحابة بأنهم قالوا إذا شرب إلى آخره فقال ابن حزم إنه خبر مكذوب باطل متناقض فإن فيه إيجاب الحد على من هذى والهاذي لا حد عليه وبأن حديث "لا قيلولة في طلاق" خبر غير صحيح وإن صح فالمراد طلاق المكلف العاقل دون من لا يعقل ولهم أدلة غير هذه لا تنهض على المدعي

(3/181)