سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي كتاب الرجعة
كتاب الرجعة
...
كتاب الرجعة
1- عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن
الرجل يطلق ثم يراجع ولا يشهد فقال أشهد على
طلاقها وعلى رجعتها رواه أبو داود هكذا موقوفا
وسنده صحيح وأخرجه البيهقي بلفظ أن عمران بن
حصين سئل عمن راجع امرأته ولم يشهد فقال راجع
في غير سنة فليشهد الآن وزاد الطبراني في
رواية ويستغفر الله دل الحديث على شرعية
الرجعة والأصل فيها قوله تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}
الآية وقد أجمع العلماء على أن الزوج يملك
رجعة زوجته في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة
من غير اعتبار رضاها ورضا وليها إذا كان
الطلاق بعد المسيس وكان الحكم بصحة الرجعة
مجمعا عليه لا إذا كان مختلفا فيه والحديث دل
على ما دلت عليه آية سورة الطلاق وهي قوله:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} بعد
ذكره الطلاق وظاهر الأمر وجوب الإشهاد وبه قال
الشافعي في القديم وكأنه استقر مذهبه على عدم
وجوبه فإنه قال المرزعي في تيسير البيان وقد
اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز
وأما الرجعة فيحتمل أنها تكون في معنى الطلاق
لأنها قرينته فلا يجب فيها الإشهاد لأنها حق
للزوج ولا يجب عليه الإشهاد على قبضه ويحتمل
أن يجب الإشهاد وهو ظاهر الخطاب انتهى والحديث
يحتمل أنه قاله عمران اجتهادا إذ للاجتهاد فيه
مسرح إلا أن قوله راجع في غير سنة قد يقال إن
السنة إذا أطلقت في لسان الصحابي يراد بها سنة
النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعا إلا
أنه لا يدل على الإيجاب لتردد كونه من سنته
صلى الله عليه وسلم بين الإيجاب والندب
والإشهاد على الرجعة ظاهر إذا كانت بالقول
الصريح واتفقوا على الرجعة بالقول واختلف إذا
كانت الرجعة بالفعل فقال الشافعي والإمام يحيى
إن الفعل محرم فلا تحل به ولأنه تعالى ذكر
الإشهاد ولا إشهاد إلا على القول وأجيب بأنه
لا إ ثم عليه لأنه تعالى قال: {إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ} وهي زوجة والإشهاد غير واجب
كما سلف وقال الجمهور يصح بالفعل واختلفوا هل
من شرط الفعل النية فقال مالك لا يصح بالفعل
إلا مع النية كأنه يقول لعموم الأعمال بالنيات
وقال الجمهور يصح لأنها زوجة شرعا داخلة تحت
قوله إلا على أزواجهم ولا يشترط النية في لمس
الزوجة وتقبيلها وغيرهما إجماعا واختلف هل يجب
عليه إعلامها بأنه قد راجعها لئلا تتزوج غيره
فذهب الجمهور من العلماء أنه يجب عليه وقيل لا
يجب وتفرع من الخلاف لو تزوجت قبل علمها بأنه
راجعها فقال الأولون النكاح باطل وهي لزوجها
الذي ارتجعها واستدلوا بإجماع العلماء على أن
الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة وبأنهم
أجمعوا أن الزوج الأول أحق بها قبل أن تزوج
وعن مالك أنها للثاني دخل بها أو لم يدخل
واستدل بما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب
عن ابن المسيب أنه قال مضت السنة في الذي يطلق
امرأته ثم يراجعها ثم يكتمها رجعتها فتحل
فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء
ولكنها لمن تزوجها إلا أنه قيل إنه لم يرو هذا
إلا عن ابن شهاب فقط وهو
(3/182)
الزهري فيكون
من قوله وليس بحجة ويشهد لكلام الجمهور حديث
الترمذي عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه
وسلم قال: "أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول
منهما" فإنه صادق على هذه الصورة
واعلم أنه قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} في ذلك إن أرادا إصلاحا
أي أحق بردهن في العدة بشرط أن يريد الزوج
بردها الإصلاح وهو حسن العشرة والقيام بحقوق
الزوجية فإن أراد بالرجعة غير ذلك كمن يراجع
زوجته ليطلقها كما يفعله العامة فإنه يطلق ثم
ينتقل من موضعه فيراجع ثم يطلق إرادة لبينونة
المرأة فهذا المراجعة لم يرد بها إصلاحا ولا
إقامة حدود الله فهي باطلة إذ الآية ظاهرة في
أنه لا تباح له المراجعة ويكون أحق برد امرأته
إلا بشرط إرادة الإصلاح وأي إرادة إصلاح في
مراجعتها ليطلقها ومن قال إن قوله إن أرادوا
إصلاحا ليس بشرط للرجعة فإنه قول مخالف لظاهر
الآية بلا دليل
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما طلق
امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر
"مره فليراجعها" متفق عليه تقدم الكلام عليه
بما يكفي من غير زيادة
(3/183)
باب الإيلاء والظهار والكفارة
الإيلاء لغة: الحلف وشرعا الامتناع باليمين من
وطء الزوجة والظهار بكسر الظاء مشتق من الظهر
لقول القائل أنت علي كظهر أمي والكفارة وهي من
التكفير التغطية
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "آلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل
الحرام حلالا وجعل لليمين كفارة" رواه الترمذي
ورواته ثقات ورجح الترمذي إرساله على وصله
الحديث دليل على جواز حلف الرجل من زوجته وليس
فيه تصريح بالإيلاء المصطلح عليه في عرف الشرع
وهو الحلف من وطء الزوجة اعلم أنها اختلفت
الروايات في سبب إيلائه صلى الله عليه وسلم
وفي الشيء الذي حرمه على روايات أحدها أنه
بسبب إفشاء حفصة للحديث الذي أسره إليها
واختلف في الحديث الذي أسره إليها أخرجه
البخاري عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل
وأجمل في رواية البخاري هذه وفسره في رواية
أخرجها الشيخان لمارية وأنه أسره إلى حفصة
فأخبرت به عائشة للعسل وقيل بل أسر إلى حفصة
أن أباها يلي أمر الأمة بعد أبي بكر وقال لا
تخبري عائشة بتحريمي مارية وثانيها السبب في
إيلائه أنه فرق هدية جاءت له بين نسائه فلم
ترض زينب بنت جحش بنصيبها فزادها مرة أخرى فلم
ترض فقالت عائشة لقد أقمت وجهك ترد عليك
الهدية فقال: "لأنتن أهون علي الله من أن
يغمني لا أدخل عليكن شهرا" أخرجه ابن سعد عن
عمرة عن عائشة ومن طريق الزهري عن عمرة عن
عائشة نحوه وقال ذبح ذبحا ثالثها أنه بسبب
طلبهن النفقة أخرجه مسلم من حديث جابر فهذه
أسباب ثلاثة إما لإفشاء بعض نسائه السر وهي
حفصة والسر أحد ثلاثة إما
(3/183)
تحريمه مارية
أو العسل أو بتحريج صدره من قبل ما فرقه بينهن
من الهدية أو تضييقهن في طلب النفقة قال
المصنف واللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه
وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه أن يكون مجموع هذه
الأشياء سببا لاعتزالهن وقولها وحرم أي حرم
مارية أو العسل وليس فيه دليل على أن التحريم
للجماع حتى يكون من باب الإيلاء الشرعي فلا
يوجه لجزم ابن بطال وغيره أنه صلى الله عليه
وسلم امتنع من جماع نسائه ذلك الشهر إن أخذه
من هذا الحديث ولا مستند له غيره فإنه قال
المصنف لم أقف على نقل صريح في ذلك فإنه لا
يلزم من عدم دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن
عليه في المكان الذي اعتزل فيه إلا إن كان
المكان المذكور في المسجد فيتم استلزام عدم
الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد
العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال إذا مضت
أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق ولا يقع عليه
الطلاق حتى يطلق أخرجه البخاري الحديث
كالتفسير لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ} وقد اختلف العلماء في مسائل من
الإيلاء الأولى في اليمين فإنهم اختلفوا فيها
فقال الجمهور ينعقد الإيلاء بكل يمين على
الامتناع من الوطء سواء حلف بالله أو بغيره
وقالت الهادوية أنه لا ينعقد إلا بالحلف بالله
قالوا لأنه لا يكون يمينا إلا ما كان بالله
تعالى فلا تشمل الآية ما كان بغيره قلت وهو
الحق الثانية في الأمر الذي تعلق به الإيلاء
وهو ترك الجماع صريحا أو كناية أو ترك الكلام
عند البعض والجمهور على أنه لا بد فيه من
التصريح بالامتناع من الوطء لا مجرد الامتناع
عن الزوجة ولا كلام أن الأصل في الإيلاء قوله
تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
الآية فإنها نزلت لإبطال ما كان عليه الجاهلية
من إطالة مدة الإيلاء فإنه كان الرجل يولي من
امرأته سنة وسنتين فأبطل الله تعالى ذلك وأنظر
المولي أربعة أشهر فإما أن يفيء أو يطلق
الثالثة اختلفوا في مدة الإيلاء فعند الجمهور
والحنفية أنه لا بد أن يكون أكثر من أربعة
أشهر وقال الحسن وآخرون ينعقد بقليل الزمان
وكثيره لقوله تعالى- يؤلون من نسائهم- ورد
بأنه لا دليل في الآية إذ قد قدر الله المدة
فيها بقوله تعالى: {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
فالأربعة قد جعلها الله مدة الإمهال وهي كأجل
الدين لأنه تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا} بفاء
التعقيب وهو بعد الأربعة فلو كان المدة أربعة
أو أقل لكانت قد انقضت فلا يطالب بعدها
والتعقيب للمدة لا للإيلاء لبعده والرابعة أن
مضي المدة لا يكون طلاقا عند الجمهور وقال أبو
حنيفة بل إذا مضت الأربعة الأشهر طلقت المرأة
قالوا والدليل على أنه لا يكون بمضيها طلاقا
أنه تعالى خير في الآية بين الفيئة والعزم على
الطلاق فيكونان في وقت واحد وهو بعد مضي
الأربعة فلو كان الطلاق يقع بمضي الأربعة
والفيئة بعدها لم يكن تخيير لأن حق المخير
فيهما أن يقع أحدهما في الوقت الذي يصح فيه
الآخر كالكفارة لأنه تعالى أضاف عزم الطلاق
إلى الرجل وليس مضي المدة من فعل الرجل ولحديث
ابن عمر هذا الذي نحن في سياقه وإن كان موقوفا
فهو مقو للأدلة الخامسة الفيئة هي الرجوع ثم
اختلفوا بماذا تكون فقيل تكون
(3/184)
بالوطء على
القادر والمعذور يبين عذره بقوله لو قدرت لفئت
لأنه الذي يقدر عليه لقوله تعالى: {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}
وقيل بقوله رجعت عن يميني وهذا للهادوية كأنهم
يقولون المراد رجوعه عن يمينه لا إيقاع ما حلف
عليه وقيل تكون في حق المعذور بالنية لأنها
توبة يكفي فيها العزم ورد بأنها توبة عن حق
مخلوق فلا بد من إفهامه الرجوع عن الأمر الذي
عزم عليه السادسة اختلفوا هل تجب الكفارة على
من فاء فقال الجمهور تجب لأنها يمين قد حنث
فيها فتجب الكفارة لحديث "من حلف على يمين
فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت
الذي هو خير" وقيل لا تجب لقوله تعالى:
{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} وأجيب بأن الغفران يختص بالذنب لا
بالكفارة ويدل للمسألة الخامسة قوله
3- وعن سليمان بن يسار بفتح المثناة فسين
مهملة مخففة بعد الألف راء هو أبو أيوب سليمان
بن يسار مولى ميمونة زوج رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو أخو عطاء بن يسار كان سليمان من
فقهاء المدينة وكبار التابعين ثقة فاضلا ورعا
حجة هو أحد الفقهاء السبعة روى عن ابن عباس
وأبي هريرة وأم سلمة مات سنة سبع ومائة وهو
ابن ثلاث وسبعين سنة قال أدركت بضعة عشر رجلا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم
يقفون المولي رواه الشافعي وفي الإرشاد لابن
كثير أنه قال الشافعي بعد رواية الحديث وأقل
ذلك ثلاثة عشر اه يريد أقل ما يطلق عليه لفظ
بضعة عشر وقوله يقفون بمعنى يقفونه أربعة أشهر
كما أخرجه إسماعيل هو ابن أبي إدريس عن سليمان
أيضا قال أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت
الأربعة فإطلاق رواية الكتاب محمولة على هذه
الرواية المقيدة وقد أخرج الدارقطني من طريق
سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال سألت اثنى
عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي فقالوا ليس
عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء
وإلا طلق وأخرج إسماعيل المذكور من حديث ابن
عمر أنه قال إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق
ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق وأخرج
الإسماعيلي أثر ابن عمر بلفظ أنه كان يقول
أيما رجل آلى من امرأته فإذا مضت أربعة أشهر
يوقف حتى يطلق أو يفيء ولا يقع عليها طلاق إذا
مضت حتى يوقف وفي الباب آثار كثيرة عن السلف
كلها قاضية بأنه لا بد بعد مضي الأربعة الأشهر
من إيقاف المولي ومعنى إيقافه هو أن يطالب إما
بالفيء وإما بالطلاق ولا يقع الطلاق بمجرد مضي
المدة وإلى هذا ذهب الجماهير وعليه دل ظاهر
الآية إذ قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
يدل قوله {سَمِيعٌ} على أن الطلاق يقع بقول
يتعلق به السمع ولو كان يقع بمضي المدة لكفى
قوله {عَلِيمٌ} لما عرف من بلاغة القرآن وأن
فواصل الآيات تشير إلى ما دلت عليه الجملة
السابقة فإذا وقع الطلاق فإنه يكون رجعيا عند
الجمهور وهو الظاهر ولغيرهم تفاصيل لا يقوم
عليها دليل
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان إيلاء
الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله أربعة أشهر
فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء أخرجه
البيهقي وأخرجه
(3/185)
الطبراني أيضا
عنه وقال الشافعي كانت العرب في الجاهلية تحلف
بثلاثة أشياء وفي لفظ كانوا يطلقون الطلاق
والظهار والإيلاء فنقل تعالى الإيلاء والظهار
عما كان عليه الجاهلية من إيقاع الفرقة على
الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع
وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه والحديث دليل
على أن أقل ما ينعقد به الإيلاء أربعة أشهر
5- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا ظاهر من
امرأته ثم وقع عليها فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال إني وقعت عليها قبل أن أكفر قال:
"فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به" رواه
الأربعة وصححه الترمذي ورجح النسائي إرساله
ورواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه
كفر ولا تعد هذا من باب الظهار والحديث لا يضر
إرساله كما قررناه من أن إتيانه من طريق مرسلة
وطريق موصولة لا يكون علة بل يزيده قوة
والظهار مشتق من الظهر لأنه قول الرجل لامرأته
أنت علي كظهر أمي فأخذ اسمه من لفظه وكنوا
بالظهر عما يستهجن ذكره وأضافه إلى الأم لأنها
أم المحرمات وقد أجمع العلماء على تحريم
الظهار وإ ثم فاعله كما قال تعالى:
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
الْقَوْلِ وَزُوراً} وأما حكمه بعد إيقاعه
فيأتي وقد اتفق العلماء على أنه يقع بتشبيه
الزوجة بظهر الأم ثم اختلفوا فيه في مسائل:
الأولى إذا شبهها بعضو منها غيره فذهب الأكثر
إلى أنه يكون ظهارا أيضا وقيل يكون ظهارا إذا
شبهها بعضو يحرم النظر إليه وقد عرفت أن النص
لم يرد إلا في الظهر الثانية أنهم اختلفوا
أيضا فيما إذا شبهها بغير الأم من المحارم
فقالت الهادوية لا يكون ظهارا لأن النص ورد في
الأم وذهب آخرون منهم مالك والشافعي وأبو
حنيفة إلى أنه يكون ظهارا ولو شبهها بمحرم من
الرضاع ودليلهم القياس فإن العلة التحريم
المؤبد وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأم
وقال مالك وأحمد إنه ينعقد وإن لم يكن المشبه
به مؤبد التحريم كالأجنبية بل قال أحمد حتى في
البهيمة ولا يخفى أن النص لم يرد إلا في الأم
وما ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة
المعنى ولا ينتهض دليلا على الحكم الثالثة
أنهم اختلفوا أيضا هل ينعقد الظهار من الكافر
فقيل نعم لعموم الخطاب في الآية وقيل لا ينعقد
منه لأن من لوازمه الكفارة وهي لا تصح من
الكافر ومن قال ينعقد منه قال يكفر بالعتق أو
الإطعام لا بالصوم لتعذره في حقه وأجيب بأن
العتق والإطعام إذا فعلا لأجل الكفارة كانا
قربة ولا قربة لكافر الرابعة أنهم اختلفوا
أيضا في الظهار من الأمة المملوكة فذهبت
الهادوية والحنفية والشافعية أنه لا يصح
الظهار منها لأن قوله تعالى: {مِنْ
نِسَائِهِمْ} لا يتناول المملوكة في عرف اللغة
للاتفاق في الإيلاء على أنها غير داخلة في
عموم النساء وقياسا على الطلاق وذهب مالك
وغيره إلى أنه يصح من الأمة لعموم لفظ النساء
إلا أنه اختلف القائلون بصحته منها في الكفارة
فقيل لا تجب إلا نصف الكفارة فكأنه قاس ذلك
على الطلاق عنده الخامسة الحديث دليل على أنه
يحرم وطء الزوجة التي ظاهر منها قبل التكفير
وهو مجمع عليه لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا} فلو وطىء لم يسقط التكفير ولا
يتضاعف
(3/186)
لقوله صلى الله
عليه وسلم: "حتى تفعل ما أمرك الله" قال الصلت
بن دينار سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر
يجامع قبل التكفير فقالوا كفارة واحدة وهو قول
الفقهاء الأربعة وعن ابن عمر أن عليه كفارتين
إحداهما للظهار الذي اقترن به العود والثانية
للوطء المحرم كالوطء في رمضان نهارا ولا يخفى
ضعفه وعن الزهري وابن جبير أنها تسقط الكفارة
لأنه فات وقتها فإنه قبل المسيس وقد فات وأجيب
بأن فوات وقت الأداء لا يسقط الثابت في الذمة
كالصلاة وغيرها من العبادات واختلف في تحريم
المقدمات فقيل حكمها حكم المسيس في التحريم
لأنه شبهها بمن يحرم في حقها الوطء ومقدماته
وهذا قول الأكثر وعن الأقل لا تحرم المقدمات
لأن المسيس هو الوطء وحده فلا يشمل المقدمات
إلا مجازا ولا يصح أن يرادا إلا أنه جمع بين
الحقيقة والمجاز وعن الأوزاعي يحل له
الاستمتاع بما فوق الإزار
6- وعن سلمة بن صخر هو البياضي بفتح الموحدة
وتخفيف المثناة التحتية وضاد معجمة أنصاري
خزرجي كان أحد البكائين روى عنه سليمان بن
يسار وابن المسيب قال البخاري لا يصح حديثه
يعني هذا الذي في الظهار قال دخل رمضان فخفت
أن أصيب امرأتي وفي الإرشاد قال إني كنت امرءا
أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فظاهرت منها
فانكشف لي شيء منها ليلة فوقعت عليها فقال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم "حرر رقبة" فقلت
ما أملك إلا رقبتي قال: "فصم شهرين متتابعين"
قلت وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال:
"أطعم فرقا من تمر ستين مسكينا" أخرجه أحمد
والأربعة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة وابن
الجارود وقد أعله عبد الحق بالانقطاع بين
سليمان بن يسار وسلمة لأن سليمان لم يدرك سلمة
حكى ذلك الترمذي عن البخاري وفي الحديث مسائل
الأولى أنه دل على ما دلت عليه الآية من ترتيب
خصال الكفارة والترتيب إجماع بين العلماء
الثانية أنها أطلقت الرقبة في الآية وفي
الحديث أيضا ولم تقيد بالإيمان كما قيدت به في
آية القتل فاختلف العلماء في ذلك فذهب زيد بن
علي وأبو حنيفة وغيرهما إلى عدم التقييد وأنها
تجزئ رقبة ذمية وقالوا لا تقيد بما في آية
القتل لاختلاف السبب وقد أشار الزمخشري إلى
عدم اعتبار القياس لعدم الاشتراك في العلة فإن
المناسبة أنه لما أخرج رقبة مؤمنة من صفة
الحياة إلى الموت كان كفارته إدخال رقبة مؤمنة
في حياة الحرية وإخراج عن الرقية فإن الرق
يقتضي سلب التصرف عن المملوك فأشبه الموت الذي
يقتضي سلب التصرف عن الميت فكان في إعتاقه
إثبات التصرف فأشبه الإحياء الذي يقتضي إثبات
التصرف للحي وذهبت الهادوية ومالك والشافعي
إلى أنه لا يجزىء إعتاق رقبة كافرة وقالوا
تقيد آية الظهار كما قيدت آية القتل وإن اختلف
السبب قالوا وقد أيدت ذلك السنة فإنه لما جاءه
صلى الله عليه وسلم السائل يستفتيه في عتق
رقبة
(3/187)
كانت عليه سأل
صلى الله عليه وسلم الجارية " أين الله؟"
فقالت في السماء فقال: "من أنا؟" فقالت أنت
رسول الله قال: "فأعتقها فإنها مؤمنة" أخرجه
البخاري وغيره قالوا فسؤاله صلى الله عليه
وسلم لها عن الإيمان وعدم سؤاله عن صفة
الكفارة وسببها دال على اعتبار الإيمان في كل
رقبة تعتق عن سبب لأنه قد تقرر أن ترك
الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم
في المقال كما قد تقرر قلت الشافعي قائل بهذه
القاعدة فإن قال بها من معه من المخالفين كان
الدليل على التقييد هو السنة لا الكتاب أنهم
قرروا في الأصول أنه لا يحمل على المقيد إلا
مع اتحاد السبب ولكنه وقع في حديث أبي هريرة
عند أبي داود ما لفظه فقال يا رسول الله إن
علي رقبة مؤمنة الحديث إلى آخره قال عز الدين
الذهبي هذا الحديث صحيح وحينئذ فلا دليل في
الحديث على ما ذكر فإنه صلى الله عليه وسلم لم
يسألها عن الإيمان إلا لأن السائل قال عليه
رقبة مؤمنة الثالثة اختلف العلماء في الرقبة
المعيبة بأي عيب فقالت الهادوية وداود تجزئ
المعيبة لتناول اسم الرقبة لها وذهب آخرون إلى
عدم إجزاء المعيبة قياسا على الهدايا والضحايا
بجامع التقرب إلى الله وفصل الشافعي فقال إن
كانت كاملة المنفعة كالأعور أجزأت وإن نقصت
منافعه لم تجز إذا كان ذلك ينقصها نقصانا
ظاهرا كالأقطع والأعمى إذ العتق تمليك المنفعة
وقد نقصت وللحنفية تفاصيل في العيب يطول
تعدادها ويعز قيام الأدلة عليها الرابعة أن
قوله صلى الله عليه وسلم: "فصم شهرين
متتابعين" دال على وجوب التتابع وعليه دلت
الآية وشرطت أن تكون قبل المسيس فلو مس فيهما
استأنف وهو إجماع إذا وطئها نهارا متعمدا وكذا
ليلا عند الهادوية و أبي حنيفة وآخرين ولو
ناسيا للآية وذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه
لا يضر ويجوز لأن علة النهي إفساد الصوم ولا
إفساد بوطء الليل وأجيب بأن الآية عامة
واختلفوا إذا وطىء نهارا ناسيا فعند الشافعي
وأبي يوسف لا يضر لأنه لم يفسد الصوم وقالت
الهادوية وأبو حنيفة بل يستأنف كما إذا وطىء
عامدا لعموم الآية قالوا وليست العلة إفساد
الصوم بل دل عموم الدليل للأحوال كلها على
أنها لا تتم الكفارة إلا بوقوعها قبل المسيس
الخامسة اختلفوا أيضا فيما إذا عرض له في
أثناء صيامه عذر مأيوس ثم زال هل يبني على
صومه أو يستأنف فقالت الهادوية و مالك وأحمد
إنه يبني على صومه لأنه فرقه بغير اختياره
وقال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي بل
يستأنف لاختياره التفريق وأجيب بأن العذر صيره
كغير المختار وأما إذا كان العذر مرجوا فقيل
يبني أيضا وقيل لا يبني لأن رجاء زوال العذر
صيره كالمختار وأجيب بأنه مع العذر لا اختيار
له السادسة أن ترتيب قوله صلى الله عليه وسلم
فصم على قول السائل ما أملك إلا رقبتي يقضي
بما قضت به الآية من أنه لا ينتقل إلى الصوم
إلا لعدم وجدان الرقبة فإن وجد الرقبة إلا أنه
يحتاجها لخدمته للعجز فإنه لا يصح منه الصوم
فإن قيل إنه قد صح التيمم لواجد الماء إذا كان
يحتاج إليه فهلا قستم هذا عليه قلت لا قياس
لأن التيمم قد شرع مع العذر الفراش الاحتياج
إلى الماء كان لعذر فإن قيل فهل يجعل الشبق
إلى الجماع عذرا يكون له معه العدول إلى
الإطعام ويعد صاحب
(3/188)
الشبق غير
مستطيع للصوم قلت هو ظاهر حديث سلمة وقوله في
الاعتذار عن التكفير بالصيام وهل أصبت الذي
أصبت إلا من الصيام وإقراره صلى الله عليه
وسلم على عذره وقوله أطعم يدل على أنه عذر
يعدل معه إلى الإطعام السابعة أن النص القرآني
والنبوي صريح في إطعام ستين مسكينا كأنه جعل
عن كل يوم من الشهرين إطعام مسكين واختلف
العلماء هل لا بد من إطعام ستين مسكينا أو
يكفي إطعام مسكين واحد ستين يوما فذهبت
الهادوية ومالك وأحمد والشافعي إلى الأول
لظاهر الآية وذهبت الحنفية وهو أحد قولي زيد
بن علي والناصر إلى الثاني وأنه يكفي إطعام
واحد ستين يوما أو أكثر من واحد بقدر إطعام
ستين مسكينا قالوا لأنه في اليوم الثاني مستحق
كقبل الدفع إليه وأجيب بأن ظاهر الآية تغاير
المساكين بالذات ويروى عن أحمد ثلاثة أقوال
كالقولين هذين والثالث إن وجد غير المسكين لم
يجز الصرف إليه وإلا أجزأ إعادة الصرف إليه
الثامنة اختلف في قدر الإطعام لكل مسكين فذهبت
الهادوية والحنفية إلى أن الواجب ستون صاعا من
تمر أو ذرة أو شعير أو نصف صاع من بر وذهب
الشافعي إلى أن الواجب لكل مسكين مد والمد ربع
الصاع واستدل بقوله في حديث الباب "أطعم عرقا
من تمر ستين مسكينا" والعرق مكتل يأخذ خمسة
عشر صاعا من تمر ولأنه أكثر الروايات في حديث
سلمة هذا واستدل الأولون بأنه ورد في رواية
عبد الرزاق اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل
له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين
مسكينا قالوا والوسق ستون صاعا وفي رواية لأبي
داود والترمذي فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا
وجاء في تفسير العرق أنه ستون صاعا وفي رواية
لأبي داود أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا قال
أبو داود وهذا أصح الحديثين ولما اختلف في
تفسير العرق على ثلاثة أقوال واضطربت الروايات
فيه جنح الشافعي إلى الترجيح بالكثرة وأكثر
الروايات خمسة عشر صاعا وقال الخطابي في معالم
السنن العرق السقيفة التي من الخوص فيتخذ منها
المكاتل قال وجاء تفسيره أنه ستون صاعا وفي
رواية لأبي داود يسع ثلاثين صاعا وفي رواية
سلمة يسع خمسة عشر صاعا فذكر أن العرق يختلف
في السعة والضيق قال فذهب الشافعي إلى رواية
الخمسة عشر صاعا قلت يؤيد قوله أن الأصل براءة
الذمة عن الزائد وهو وجه الترجيح التاسعة في
الحديث دليل على أن الكفارة لا تسقط جميع
أنواعها بالعجز وفيه خلاف فذهب الشافعي وأحد
الروايتين عن أحمد إلى عدم سقوطها بالعجز لما
في حديث أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة
قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت إلى أن قال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق رقبة
قالت لا يجد قال يصوم شهرين متتابعين قالت إنه
شيخ كبير ما به من صيام قال يطعم ستين مسكينا
قالت ماعنده شيء يتصدق به قال فإني سأعينه
بعرق الحديث فلو كان يسقط عنه بالعجز لأبانه
صلى الله عليه وسلم ولم يعنه من عنده وذهب
أحمد في رواية وطائفة إلى سقوطها بالعجز كما
تسقط الواجبات بالعجز عنها وعن أبدالها وقيل
إنها تسقط كفارة الوطء في رمضان بالعجز عنها
لا غيرها من الكفارات قالوا لأن النبي صلى
الله عليه وسلم
(3/189)
أمر المجامع في
نهار رمضان أن يأكل الكفارة هو وعياله والرجل
لا يكون مصرفا لكفارته وقال الأولون إنما حلت
له لأنه إذا عجز وكفر عنه الغير جاز أن يصرفها
إليه وهو مذهب أحمد في كفارة الوطء في رمضان
وله في غيرها من الكفارات قولان وهو نظير ما
قالته الهادوية من أنه يجوز للإمام إذا قبض
الزكاة من شخص أن يردها إليه العاشرة قال
الخطابي دل الحديث على أن الظهار المقيد
كالظهار المطلق وهو إذا ظاهر من امرأته إلى
مدة ثم أصابها قبل انقضاء تلك المدة واختلفوا
فيه إذا بر ولم يحنث فقال مالك وابن أبي ليلى
إذا قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إلى الليل
لزمته الكفارة وإن لم يقربها وقال أكثر أهل
العلم لا شيء عليه إذا لم يقربها وجعل الشافعي
في الظهار المؤقت قولين أحدهما أنه ليس بظهار
فائدة: قد يتوهم أن سبب نزول آية الظهار حديث
سلمة هذا لاتفاق الحكمين في الآية والحديث
وليس كذلك بل سبب نزولها قصة أوس بن الصامت
ذكره ابن كثير في الإرشاد من حديث خويلة بنت
ثعلبة قالت في والله في أوس أنزل الله سورة
المجادلة قالت كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد
ساء خلقه وقد ضجر قالت فدخل علي يوما فراجعته
بشيء فغضب فقال أنت علي كظهر أمي قالت ثم خرج
والحاصل في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو
يريدني عن نفسي قالت قلت كلا والذي نفس خويلة
بيده لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت فحكم الله
ورسوله فيهما الحديث رواه الإمام أحمد وأبو
داود وإسناده مشهور وأخذ منه أنه إذا قصد بلفظ
الظهار الطلاق لم يقع الطلاق وكان ظهارا وإلى
هذا ذهب أحمد والشافعي وغيرهما قال الشافعي
ولو ظاهر يريد به طلاقا كان ظهارا ولو طلق
يريد ظهارا كان طلاقا وقال أحمد إذا قال أنت
علي كظهر أمي وعنى به الطلاق كان ظهارا ولا
تطلق وعلله ابن القيم بأن الظهار كان طلاقا في
الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الأمر
المنسوخ وأيضا فأوس إنما نوى به الطلاق لما
كان عليه فأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق
وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز في جعله
كناية في الحكم الذي أبطل الله شرعه وقضاء
الله أحق وحكمه أوجب
(3/190)
باب اللعان
هو مأخوذ من اللعن لأنه يقول الزوج في الخامسة
لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويقال فيه
اللعان والالتعان والملاعنة واختلف في وجوبه
على الزوج فقال في الشفاء للأمير الحسين يجب
إذا كان ثمة ولد وعلم أنه لم يقربها وفي
المذهب والانتصار أنه مع غلبة الظن بالزنا في
المرأة أو العلم يجوز ولا يجب ومع عدم الظن
يحرم
1- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال سأل فلان هو
عويمر العجلاني كما في أكثر الروايات فقال يا
رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على
فاحشة كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن
سكت سكت على مثل ذلك أي على أمر عظيم فلم يجبه
فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه
قد ابتليت به فأنزل الله الآيات
(3/190)
في سورة النور
والأكثر في الروايات أن سبب نزول الآيات قصة
هلال بن أمية وزوجته وكانت متقدمة على قصة
عويمر وإنما تلاها صلى الله عليه وسلم لأن
حكمها عام للأمة فتلاهن عليه ووعظه وذكره عطف
تفسير إذ الوعظ هو التذكير وأخبره أن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة الموعود به في
قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال لا والذي بعثك
الفراش ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها كذلك
قالت لا والذي بعثك الفراش إنه لكاذب فبدأ
بالرجل فشهد أربع شهادات بالله ثم ثنى بالمرأة
ثم فرق بينهما رواه مسلم في الحديث مسائل
الأولى قوله فلم يجبه ووقع عند أبي داود فكره
صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها قال
الخطابي: يريد المسألة عما لا حاجة بالسائل
إليه وقال الشافعي كانت المسائل فيما لم ينزل
فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة لئلا ينزل في
ذلك ما يوقعهم في مشقة وتعنت كما قال تعالى:
{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وفي الحديث
الصحيح أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم
فحرم من أجل مسألته وقال الخطابي قد وجدنا
المسألة في كتاب الله على وجهين أحدهما ما
كانت على وجه التبيين والتعليم فيما يلزم
الحاجة إليه من أمر الدين والآخر ما كان على
الطريق التعنت والتكلف فأباح النوع الأول وأمر
به وأجاب عنه فقال :{فَاسْأَلوا أَهْلَ
الذِّكْرِ} وقال: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وأجابه
تعالى في الآيات {يَسْأَلونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ} وغيرها وقال في النوع الآخر
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ
مِنْ ذِكْرَاهَا} فكل ما كان من السؤال على
هذا الوجه فهو مكروه وإذا وقع السكوت عن جواب
فإنما هو زجر وردع للسائل فإذا وقع الجواب فهو
عقوبة وتغليظ الثانية في قوله فبدأ بالرجل ما
يدل على أنه يبدأ به وهو قياس الحكم الشرعي
لأنه المدعي فيقدم وبه وقعت البداءة في الآية
وقد وقع الإجماع على أن تقديمه سنة واختلف هل
تجب البداءة به أم لا فذهب الجماهير إلى
وجوبها لقوله صلى الله عليه وسلم لهلال البينة
وإلا حد في ظهرك فكانت البداية به لدفع الحد
عن الرجل فلو بدأ بالمرأة كان دافعا لأمر لم
يثبت وذهب أبو حنيفة إلى أنها تصح البداءة
بالمرأة لأن الآية لم تدل على لزوم البداءة
بالرجل لأن العطف فيها بالواو وهي لا تقتضي
الترتيب وأجيب عنه بأنها وإن لم تقتض الترتيب
فإنه تعالى لا يبدأ إلا بما هو الأحق في
البداءة والأقدم في العناية وبين فعله صلى
الله عليه وسلم ذلك فهو مثل قوله نبدأ بما بدأ
الله به في وجوب البداءة بالصفا الثالثة قوله
ثم فرق بينهما دال على أن الفرقة بينهما لا
تقع إلا بتفريق الحاكم لا بنفس اللعان وإلى
هذا ذهب كثير مستدلين بهذا اللفظ في الحديث
وأنه ثبت في الصحيح بأن الرجل طلقها ثلاثا بعد
تمام اللعان تركها النبي صلى الله عليه وسلم
على ذلك ولو كانت الفرقة تقع بنفس اللعان لبين
صلى الله عليه وسلم أن طلاقه في غير محله وقال
الجمهور بل الفرقة تقع بنفس اللعان وإنما
اختلفوا هل تحصل الفرقة بتمام لعانه وإن لم
تلتعن هي فقال الشافعي تحصل به وقال أحمد لا
تحصل إلا بتمام
(3/191)
لعانهما وهو
المشهور عند المالكية وبه قالت الظاهرية
واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم من قوله صلى
الله عليه وسلم ذلكم التفريق بين كل متلاعنين
وقال ابن العربي أخبر صلى الله عليه وسلم
بقوله ذلكم عن قوله لا سبيل لك عليها قال وكذا
حكم كل متلاعنين فإن كان الفراق لا يكون إلا
بحكم فقد نفذ الحكم فيه من الحاكم الأعظم صلى
الله عليه وسلم بقوله ذلكم التفريق بين كل
متلاعنين قالوا وقوله فرق بينهما معناه إظهار
ذلك وبيان حكم الشرع فيه لا أنه أنشأ الفرقة
بينهما قالوا فأما طلاقه إياها فلم يكن عن
أمره صلى الله عليه وسلم وبأنه لم يزد التحريم
الواقع باللعان إلا تأكيدا فلا يحتاج إلى
إنكاره وبأنه لو كان لا فرقة إلا بالطلاق لجاز
له الزواج بها بعد أن تنكح زوجا غيره وقد أخرج
أبو داود عن ابن عباس الحديث وفيه وقد وقضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا بيت لها
عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير
طلاق ولا متوفى عنها وأخرج أبو داود من حديث
سهل بن سعد في حديث المتلاعنين قال مضت السنة
بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا
يجتمعان أبدا وأخرجه البيهقي بلفظ "فرق رسول
الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال لا
يجتمعان أبدا" وعن علي وابن مسعود قالا مضت
السنة بين المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا وعن
عمر يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا الرابعة
اختلف العلماء في فرقة اللعان هل هي فسخ أو
طلاق بائن فذهبت الهادوية والشافعي وأحمد
وغيرهم إلى أنها فسخ مستدلين بأنها توجب
تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع إذ لا
يجتمعان أبدا ولأن اللعان ليس صريحا في الطلاق
ولا كناية فيه وذهب أبو حنيفة إلى أنها طلاق
بائن مستدلا بأنها لا تكون إلا من زوجة فهي من
أحكام النكاح المختصة فهي طلاق إذ هو من أحاكم
النكاح المختصة بخلاف الفسخ فإنه قد يكون من
أحكام غيره النكاح كالفسخ بالعيب وأجيب بأنه
لا يلزم من اختصاصه بالنكاح أن يكون طلاقا كما
أنه لا يلزم فيه نفقة ولا غيرها الخامسة وهي
فرع للرابعة اختلفوا لو أكذب نفسه بعد اللعان
هل تحل له الزوجة فقال أبو حنيفة تحل له لزوال
المانع وهو قول سعيد بن المسيب فإنه قال فإن
أكذب نفسه فإنه خاطب من الخطاب وقال ابن جبير
ترد إليه ما دامت في العدة وقال الشافعي وأحمد
لا تحل له أبدا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
سبيل لك عليها" قلت قد يجاب عنه بأنه صلى الله
عليه وسلم قاله لمن التعن ولم يكذب نفسه
السادسة في حديث لعان هلال بن أمية أنه قذف
امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن
سحماء الحديث عند أبي داود وغيره قال الخطابي
فيه من الفقه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل
بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد
فيصير في التقدير ذكره المقذوف به تبعا ولا
يعتبر حكمه وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم
لهلال بن أمية: "البينة أو حد في ظهرك" فلما
تلاعنا لم يتعرض لهلال بالحد ولا يروى في شيء
من الأخبار أن شريك بن سحماء عفا عنه فعلم أن
الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان
وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة
الضرر عن نفسه فلم يحمل نفسه على القصد له
بالقذف وإدخال الضرر عليه قلت ولا يخفى أنه لا
ضرورة في تعيين من قذفها به قال
(3/192)
وقال الشافعي
إنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في
اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له وقال أبو حنيفة
الحد لازم له وللرجل مطالبته به وقال مالك يحد
للرجل ويلاعن للزوجة انتهى قلت ولا دليل في
حديث هلال على سقوط الحد بالقذف لأنه حق
للمقذوف ولم يرد أنه طالب به حتى يقول له صلى
الله عليه وسلم قد سقط باللعان أو يحد القاذف
فيتبين الحكم والأصل ثبوت الحد على القاذف
واللعان إنما شرع لدفع الحد عن الزوج والزوجة
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: "حسابكما
على الله" بينه بقوله أحدكما كاذب فإذا كان
أحدهما كاذبا فالله هو المتولي لجزائه لاسبيل
لك عليها هو إبانة للفرقة بينهما كما سلف قال
يا رسول الله مالي يريد به الصداق الذي سلمه
إليها قال: "إن كنت صدقت عليها فهو بما
استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك
أبعد لك منها" متفق عليه الحديث أفاد ما سلف
من الفراق بينهما وأن أحدهما كاذب في نفس
الأمر وحسابه على الله وأن لا يرجع بشيء مما
سلمه من الصداق لأنه إن كان صادقا في القذف
فقد استحقت المال بما استحل منها وإن كان
كاذبا فقد استحقته أيضا بذلك ورجوعه إليه أبعد
لأنه هضمها بالكذب عليها فكيف يرتجع ما أعطاها
3- وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت به
أبيض سبطا" بفتح السين المهملة وكسر الباء
الموحدة بعدها طاء مهملة وهو الكامل الخلق من
الرجال "فهو لزوجها وإن جاءت به أكحل" بفتح
الهمزة وسكون الكاف هو الذي منابت أجفانه كلها
سود كأن فيها كحلا وهي خلقة جعدا بفتح الجيم
وسكون العين المهملة فدال مهملة وهو من الرجال
القصير "فهو للذي رماها به" متفق عليه ولهما
في أخرى فجاءت به على النعت المكروه وفي
الأحاديث ثبتت له عدة صفات وفي رواية لهما
وللنسائي أنه قال صلى الله عليه وسلم بعد سرد
صفات مافي بطنها "اللهم بين" فوضعت شبيها
بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها وفي الحديث
دليل على أنه يصح اللعان للمرأة الحامل ولا
يؤخر إلى أن تضع وإليه ذهب الجمهور لهذا
الحديث وقالت الهادوية وأبو يوسف ومحمد ويروى
عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا لعان لنفي الحمل
لجواز أن يكون ريحا فلا يكون للعان حينئذ معنى
قلت وهذا رأي في مقابلة النص وكأنهم يريدون
أنه لا لعان بمجرد ظن الحمل من الأجنبي لا
لوجدانه معها الذي هو صورة النص وفي الحديث
دليل على أنه ينتفي الولد باللعان وإن لم يذكر
النفي في اليمين وإلى هذا ذهب أهل الظاهر وعند
بعض المالكية وبعض أصحاب أحمد أنه لا يصح
اللعان على الحمل إلا بشرط ذكر الزوج لنفي
الولد دون المرأة وإنه يصح نفي الولد وهو حمل
ويؤخر اللعان إلى ما بعد الوضع ولا دليل
عليهما بل الحق قول الظاهرية فإنه لم يقع في
اللعان عنده صلى الله
(3/193)
عليه وسلم نفي
الولد ولم نره في حديث هلال ولا عويمر ولم يكن
اللعان إلا منهما في عصره صلى الله عليه وسلم
وأما لعان الحامل فقد ثبت في هذه الأحاديث وقد
أخرج مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى
الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته وانتفى
من ولده ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة وفي
حديث سهل وكانت حاملا فأنكر حملها وذكر أنه
انتفى من ولده ولكنه لا يدل على اشتراط نفي
الولد لأنه فعله الرجل من تلقاء نفسه وقال أبو
حنيفة لا يصح نفي الحمل واللعان عليه فإن
لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه ولم يمكن من
نفيه أصلا لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين
وهذه قد بانت بلعانهما في حال حملها ويجاب بأن
هذا رأي في مقابلة النص الثابت في حديث الباب
وفي حديث ابن عمر هذا وإن كان البخاري قد بين
أن قوله فيه وكانت حاملا من كلام الزهري لكن
حديث الباب صحيح صريح وفي الحديث دليل على
العمل بالقيافة وكان مقتضاها إلحاق الولد
بالزوج إن جاءت به على صفته لأنه للفراش لكنه
بين صلى الله عليه وسلم المانع عن الحكم
بالقيافة نفيا وإثباتا بقوله لولا الأيمان
لكان لي ولها شأن
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يضع يده عند
الخامسة على فيه وقال إنها الموجبة" رواه أبو
داود والنسائي ورجاله ثقات فيه دلالة على أنه
يشرع من الحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن
يكون كاذبا فإنه صلى الله عليه وسلم منع
بالقول بالتذكير والوعظ كما سلف ثم منع هاهنا
بالفعل ولم يرو أنه أمر بوضع يد أحد على فم
المرأة وإن أوهمه كلام الرافعي وقوله إنها
الموجبة أي للفرقة ولعذاب الكاذب وفيه دليل
على أن اللعنة الخامسة واجبة وأما كيفية
التحليف فأخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن
عباس في تحليف هلال بن أمية أنه قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "احلف بالذي لا إله
إلا هو إني لصادق" يقول ذلك أربع مرات الحديث
بطوله قال الحاكم صحيح على شرط البخاري
5- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة
المتلاعنين قال أي الرجل لما فرغا من تلاعنهما
كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها
ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه
وسلم متفق عليه تقدم الكلام على تحقيق المقام
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن
امرأتي لا ترد يد لامس قال غربها بالغين
المعجمة والراء وباء موحدة قال في النهاية أي
"أبعدها" يريد الطلاق قال أخاف أن تتبعها نفسي
قال: "فاستمتع" بها رواه أبو داود والترمذي
والبزار ورجاله ثقات وأطلق عليه النووي الصحة
لكنه نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال لا يثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء
وليس له أصل فتمسك بهذا ابن الجوزي وعده في
الموضوعات مع أنه أورده بإسناد صحيح وأخرجه
النسائي من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ طلقها
قال لا أصبر عنها
(3/194)
قال فأمسكها
اختلف العلماء في تفسير قوله لا ترد يد لامس
على قولين الأول أن معناه الفجور وأنها لا
تمنع من يريد منها الفاحشة وهذا قول أبي عبيد
والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي
واستدل به الرافعي على أنه لا يجب تطليق من
فسقت بالزنا إذا كان الرجل لا يقدر على
مفارقتها والثاني أنها تبذر بمال زوجها ولا
تمنع أحدا طلب منها شيئا منه وهذا قول أحمد
والأصمعي ونقله عن علماء الإسلام وأنكر ابن
الجوزي على من ذهب إلى الأول قال في النهاية
وهو أشبه بالحديث لأن المعنى الأول يشكل على
ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ} وإن كان في معنى الآية وجوه
كثيرة قلت الوجه الأول في غاية من البعد بل لا
يصح للآية ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر
الرجل أن يكون ديوثا فحمله على هذا لا يصح
والثاني بعيد لأن التبذير إن كان بمالها
فمنعها ممكن وإن كان من مال الزوج فكذلك ولا
يوجب أمره بطلاقها على أنه لم يتعارف في اللغة
أن يقال فلان لا يرد يد لامس كناية عن الجود
فالأقرب المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها
نفور وحشمة عن الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة
وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع
البعد من الفاحشة ولو أراد به أنها لا تمنع
نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفا لها
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية
المتلاعنين: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس
منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله
جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه" أي
يعلم أنه ولده "احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس
الأولين والآخرين" أخرجه أبو داود والنسائي
وابن ماجه وصححه ابن حبان وقد تفرد به عبد
الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة
ولا يعرف عبد الله إلا بهذا الحديث ففي تصحيحه
نظر وصححه أيضا الدارقطني مع اعترافه بتفرد
عبد الله وفي الباب عن ابن عمر عند البزار
وفيه إبراهيم بن يزيد الجوزي ضعيف وأخرج أحمد
من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه أخرجه عبد الله
بن أحمد في زوائد المسند عن أبيه عن وكيع وقال
تفرد به وكيع ومعنى الحديث واضح
8- وعن عمر رضي الله عنه قال من أقر بولده
طرفة عين فليس له أن ينفيه أخرجه البيهقي وهو
حسن موقوف فيه دليل على أنه لا يصح النفي
للولد بعد الإقرار به وهو مجمع عليه واختلف
فيما إذا سكت بعد علمه به ولم ينفه فقال
المؤيد إنه يلزمه وإن لم يعلم أن له النفي لأن
ذلك حق يبطل بالسكوت وذلك كالشفيع إذا أبطل
شفعته قبل علمه باستحقاقها وذهب أبو طالب إلى
أن له النفي متى علم إذ لا يثبت التخيير من
دون علم فإن سكت عند العلم لزم ولم يمكن من
النفي بعد ذلك ولا يعتبر عنده فور ولا تراخ بل
السكوت كالإقرار وقال الإمام يحيى والشافعي بل
يكون نفيه على الفور قال وحد الفور ما لم يعد
تراخيا عرفا كما لو اشتغل بإسراج دابته أو لبس
ثيابه أو نحو ذلك لم يعد تراخيا ولهم في
المسألة تقادير ليس عليها دليل إلا الرأي
وفروع على غير أصل أصيل
(3/195)
9- وعن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال عبد الغني إن
اسمه ضمضم بن قتادة قال يا رسول الله إن
امرأتي ولدت غلاما أسود قال: "هل لك من إبل
قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها
من أورق" بالراء والقاف بزنة أحمر وهو الذي في
لونه سواد ليس بحالك "قال نعم قال فأنى ذلك
قال لعله نزعه" بالنون فزاي وعين مهملة أي
جذبه إليه "عرق قال فلعل ابنك هذا نزعه عرق"
متفق عليه وفي رواية لمسلم أي عن أبي هريرة
وهو أي الرجل يعرض بأن ينفيه وقال في آخره ولم
يرخص له في الانتفاء منه قال الخطابي هذا
القول من الرجل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي
الولد فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن
الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون
دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد
من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد وفي
هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما
من حيث الشبه واحد ثم قال وفيه دليل على أن
الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب في القذف
الصريح وقال المهلب التعريض إذا كان على جهة
السؤال لا حد فيه وإنما يجب الحد في التعريض
إذا كان على المواجهة والمشاتمة وقال ابن
المنير يفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن
الأجنبي يقصد الأذية المحضة والزوج قد يعذر
بالنسبة إلى صيانة النسب وقال القرطبي لا خلاف
أنه لا يجوز نفي الولد باختلاف الألوان
المتقاربة كالسمرة والأدمة ولا في البياض
والسواد إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة
الاستبراء قال في الشرح كأنه أراد في مذهبه
وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل وهو إن
لم ينضم إليه قرينة زنا لم يجز النفي وإن
اتهمها بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز
النفي على الصحيح وعند الحنابلة يجوز النفي مع
القرينة مطلقا والخلاف إنما هو عند عدمها
والحديث يحتمله لأنه لم يذكر أن معه قرينة
الزنا وإنما هو مجرد مخالفة اللون
(3/196)
باب العدة والإحداد
بكسر العين المهملة اسم لمدة تتربص بها المرأة
عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها إما
بالولادة أو الأقراء أو الأشهر والإحداد
بالحاء المهملة بعدها دالان مهملتان بينهما
ألف وهو لغة المنع وشرعا ترك الطيب والزينة
للمعتدة عن وفاة
1- عن المسور بكسر الميم وسكون السين المهملة
فواو مفتوحة فراء ابن مخرمة بفتح الميم وسكون
الخاء المعجمة وفتح الراء تقدمت ترجمته أن
سبيعة بضم السين المهملة فباء موحدة فمثناة
تحتية تصغير سبع وتاء التأنيث الأسلمية نفست
بضم النون وكسر الفاء بعد وفاة زوجها هو سعيد
بن خولة توفي بمكة بعد حجة الوداع بليال وقع
في تقديرها خلاف كبير لا حاجة إلى ذكره ويأتي
بعضه قريبا فجاءت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فاستأذنته
(3/196)
أن تنكح فأذن
لها فنكحت رواه البخاري وأصله في الصحيحين وفي
لفظ للبخاري أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين
ليلة وفي لفظ لمسلم أي عن المسور قال الزهري
ولا أرى بأسا أن تزوج وهي في دمها أي دم
نفاسها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر
الحديث دليل على أن الحامل المتوفى عنها زوجها
تنقضي عدتها بوضع الحمل وإن لم يمض عليها
أربعة أشهر وعشر ويجوز بعده أن تنكح وفي
المسألة خلاف فهذا الذي أفاده الحديث قول
جماهير العلماء من الصحابة وغيرهم لهذا الحديث
ولعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
والآية وإن كان ما قبلها في المطلقات لكن ذلك
لا يخص عمومها وأيد بقاء عمومها على أصله ما
أخرجه عبد الله بن أحمد في رواية المسند
والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبي بن
كعب قال قلت يا رسول الله-: {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} هي المطلقة ثلاثا أم المتوفى
عنها قال هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها
وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والدارقطني عن أبي من وجه آخر قال لما نزلت
هذه الآية قلت يا رسول الله هذه الآية مشتركة
أم مبهمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أية آية قلت وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال نعم
وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه عدة روايات
دالة على قوله بهذا وأخرج عنه ابن مردويه قال
نسخت سورة النساء القصري كل عدة -: {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} أجل كل حامل مطلقة أو متوفى عنها
زوجها أن تضع حملها وأخرج ابن مردويه عن أبي
سعيد الخدري قال نزلت سورة النساء القصري بعد
التي في البقرة بسبع سنين وأخرج الشيخان وأبو
داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير
وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن قال وكنت أنا وابن عباس وأبو هريرة رضي
الله عنهم فجاء رجل فقال أفتني في امرأة ولدت
بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة أحلت قال ابن
عباس تعتد آخر الأجلين قلت أنا: {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} قال ابن عباس ذلك في الطلاق قال
أبو سلمة أرأيت لو أن امرأة جرت حملها سنة فما
عدتها قال ابن عباس آخر الأجلين قال أبو هريرة
أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة فأرسل ابن عباس
غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها أمضت في ذلك
سنة فقالت قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى
فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه عبد بن
حميد من حديث أبي سلمة وفيه أنهم أرسلوا إلى
عائشة فسألوها فقالت ولدت سبيعة مثل ما مضى
إلا أنها قالت بعد وفاة زوجها بليال وفي الباب
عدة روايات عن السلف دالة على أن الآية باقية
على عمومها في جميع العدد وأن عموم آية البقرة
منسوخ بهذه الآية الكريمة ومع تأخر نزولها كما
صرحت به الروايات ينبغي أن يكون التخصيص أو
النسخ متفقا عليه وذهبت الهادوية وغيرهم ويروى
عن علي أنها تعتد بآخر الأجلين إما وضع الحمل
إن تأخر عن الأربعة الأشهر والعشر أو بالمدة
المذكورة إن تأخرت عن وضع الحمل مستدلين بقوله
تعالى" {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
(3/197)
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً ً- قالوا فالآية الكريمة فيها عموم
وخصوص من وجه وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ} كذلك فجمع بين الدليلين بالعمل
بهما
والخروج من العهدة بيقين بخلاف ما إذا عمل
بأحدهما وأجيب عنه بأن حديث سبيعةنص في الحكم
مبين بأن آية النساء القصرى شاملة للمتوفى
عنها زوجها وأيد حديثها ما سمعته من الأحاديث
والآثار وأما الرواية عن علي رضي الله عنه
فقال الشعبي ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان
يقول عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين هذا
وكلام الزهري صريح أنه يعقد بها وإن كانت لم
تطهر من دم نفاسها وإن حرم وطؤها لأجل علة
أخرى هي بقاء الدم وقال النووي في شرح مسلم:
قال العلماء من أصحابنا وغيرهم سواء كان الحمل
ولدا أو أكثر كامل الخلقة أو ناقصها أو علقة
أو مضغة فإنها تنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه
صورة خلقة آدمي سواء كانت صورة خفية تختص
النساء بمعرفتها أو صورة جلية يعرفها كل أحد
وتوقف ابن دقيق العيد فيه من أجل أن الغالب في
إطلاق وضع الحمل هو الحمل التام المتخلق وأما
خروج المضغة والعلقة فهو نادر والحمل على
الغالب أقوى قال المصنف ولهذا نقل عن الشافعي
قول بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس
فيها صورة بينة ولا خفية وظاهر الحديث والآية
الإطلاق فيما يتحقق كونه حملا وأما ما لا
يتحقق كونه حملا فلا لجواز أنه قطعة لحم
والعدة لازمة بيقين فلا تنقضي بمشكوك فيه --
2- وعن عائشة رضي الله عنها قالت "أمرت" مغير
الصيغة والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم
"بريرة أن تعتد بثلاث حيض" رواه ابن ماجه
ورواته ثقات لكنه معلول وقد ورد ما يؤيده وهو
دليل على أن العدة تعتبر بالمرأة عند من يجعل
عدة المملوكة دون عدة الحرة لا بالزوج على
القول الأظهر من أن زوج بريرة كان عبدا
3- وعن الشعبي هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن
عبد الله الشعبي الهمذاني الكوفي تابعي جليل
القدر فقيه كبير قال ابن عيينة كان ابن عباس
في زمانه والشعبي في زمانه مر ابن عمر بالشعبي
وهو يحدث بالمغازي فقال شهدت القوم وهو أعلم
بها مني وقال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب
بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري
بالبصرة ومكحول بالشام ولد الشعبي في خلافة
عمر كما في الكاشف للذهبي وقيل لست خلت من
خلافه عثمان ومات سنة أربع ومائة وله اثنتان
وستون سنة عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله
عليه وسلم في المطلقة ثلاثا "ليس لها سكنى ولا
نفقة" رواه مسلم الحديث دليل على أن المطلقة
ثلاثا ليس لها نفقة ولا سكنى وفي المسألة خلاف
ذهب إلى ما أفاده الحديث ابن عباس و الحسن
وعطاء والشعبي وأحمد في إحدى الروايات القاسم
والإمامية و إسحاق وأصحابه و داود وكافة أهل
الحديث مستدلين بهذا الحديث وذهب عمر بن
الخطاب وعمر بن عبد العزيز والحنفية و الثوري
وغيرهم إلى أنها تجب لها النفقة وسكنى مستدلين
على الأول بقوله تعالى: {فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
وهذا في الحامل وبالإجماع في الرجعية على أنها
تجب لها النفقة وعلى الثاني بقوله تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}
(3/198)
وذهب الهادي
وآخرون إلى وجوب النفقة دون السكنى مستدلين
بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}
ولأنها حبست بسببه كالرجعية ولا يجب لها
السكنى لأن قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}
يدل على أن ذلك حيث فيكون الزوج وهو يقتضي
الاختلاط ولا يكون ذلك إلا في حق الرجعية
قالوا وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه بمطاعن
يضعف معها الاحتجاج به وحاصلها أربعة مطاعن
الأول كون الراوي امرأة ولم تقترن بشاهدين
عدلين يتابعانها على حديثها الثاني أن الرواية
تخالف ظاهر القرآن الثالث أن خروجها من المنزل
لم يكن لأجل أنه لا حق لها في السكنى بل
لإيذائها أهل زوجها بلسانها الرابع معارضة
روايه برواية عمر وأجيب بأن كون الراوي قادح
فكم من سنن ثبتت عن النساء يعلم ذلك من عرف
السير وأسانيد الصحابة وأما قول عمر لا نترك
كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري
أحفظت أم نسيت فهذا تردد منه في حفظها وإلا
فإنه قد قبل عن عائشة وحفصة عدة أخبار وتردده
في حفظها عذر له في عدم العمل بالحديث ولا
يكون شكه حجة على غيره وأما قوله إنه مخالف
للقرآن وهو قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فإن الجمع ممكن بحمل
الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام وأما
رواية عمر فأرادوا بها قوله وسنة نبينا وقد
عرف من علوم الحديث أن قول الصحابي من السنة
كذا يكون مرفوعا فالجواب أنه قد أنكر أحمد بن
حنبل الزيادة من قول عمر وجعل يقسم ويقول وأين
في كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة
ثلاثا وقال هذا لا يصح عن عمر قال ذلك
الدارقطني وأما حديث عمر سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة فإنه من
رواية إبراهيم النخعي عن عمر وإبراهيم لم
يسمعه من عمر فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر
بسنين وأما القول بأن خروج فاطمة من بيت زوجها
كان لإيذائها لأهل بيته بلسانها فكلام أجنبي
عما يفيده الحديث الذي روت ولو كانت تستحق
السكنى لما أسقطه صلى الله عليه وسلم لبذاءة
لسانها ولوعظها وكفها عن إذاية أهل زوجها ولا
يخفى ضعف هذه المطاعن في رد الحديث فالحق ما
أفاده الحديث وقد أطال ابن القيم في ذلك في
الهدي النبوي ناصرا للعمل بحديث فاطمة
4- وعن أم عطية رضي الله عنها اسمها نسيبة بضم
النون وفتح المهملة صحابية لها أحاديث في كتب
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تحد" بضم حرف المضارعة وكسر الحاء المهملة
ويجوز ضم الدال على أن لا نافية وجزمها على
أنها نهي "امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج
أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا
ثوب عصب" بفتح العين المهملة وسكون الصاد
المهملة فباء موحدة في النهاية أنها برود
يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينشر
فيبقى موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه
الصبغ "ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت
نبذة
(3/199)
بضم النون
وسكون الباء الموحدة فذال معجمة أي قطعة من
قسط بضم القاف وسكون السين المهملة في النهاية
أنه ضرب من الطيب وقيل العود أو أظفار يأتي
تفسيره متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولأبي داود
والنسائي من الزيادة ولا تختضب وللنسائي ولا
تمتشط الحديث فيه مسائل الأولى: تحريم إحداد
المرأة فوق ثلاثة أيام على أي ميت من أب أو
غيره وجوازه ثلاثا عليه وعلى الزوج فقط أربعة
أشهر وعشرا إلا أنه أخرج أبو داود في المراسيل
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن تحد على
أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة أيام فلو
صح كان مخصصا للأب من عموم النهي في حديث أم
عطية إلا أنه مرسل لا يقوى على التخصيص
الثانية: في قوله امرأة إخراج للصغيرة بمفهومه
فلا يجب عليها الإحداد على الزوج فلا تنهى عن
الإحداد على غيره أكثر من ثلاثة وإليه ذهب
الحنفية و الهادي وذهب الجمهور إلى أنها داخلة
في العموم
وأن ذكر المرأة خرج مخرج الغالب والتكليف على
وليها في منعها من الطيب وغيره ولأن العدة
واجبة على الصغيرة كالكبيرة ولا تحل خطبتها
الثالثة: في قوله على ميت دليل على أنه لا
إحداد على المطلقة فإن كان رجعياً فإجماع وإن
كان بائنا فذهب الجمهور إلى أنه لا إحداد
عليها وهو قول الهادي والشافعي ومالك ورواية
عن أحمد لظاهر قوله على ميت وإن كان مفهوما
فإنه يؤيده أن الإحداد شرع لقطع ما يدعو إلى
الجماع وكان هذا في حق المتوفى عنها لتعذر
رجوعها إلى الزوج وأما المطلقة بائنا فإنه يصح
أن تعود مع زوجها بعقد إذا لم تكن مثلثة أي
مطلقة ثلاثا وذهب آخرون منهم علي وزيد بن علي
وأبو حنيفة وأصحابه إلى وجوب الإحداد على
المطلقة بائنا قياسا على المتوفى عنها لأنهما
اشتركتا في العدة واختلفتا في سببها ولأن
العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه والقول الأول
أظهر دليلا الرابعة أنه لا دلالة في الحديث
على وجوب الإحداد وإنما دل على حله على الزوج
الميت وذهب إلى وجوبه أكثر العلماء لما أخرجه
أبو داود من حديث أم سلمة أنها قالت دخل علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو
سلمة وقد جعلت علي صبرا الحديث سيأتي ورواه
النسائي قال ابن كثير: وفي سنده غرابة قال
ولكن رواه الشافعي عن مالك أنه بلغه عن أم
سلمة فذكره وهو مما يتقوى به الحديث ويدل على
أن له أصلا ولما أخرجه عنها أيضا أحمد وأبو
داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر
من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب
ولا تكتحل قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد لكن
رواه البيهقي موقوفا عليها وذهب الحسن والشعبي
أن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان
وتمتشطان وتتطيبان وتتقلدان وتنتعلان وتصبغان
ما شاءتا واستدلا بما أخرجه أحمد وصححه ابن
حبان من حديث أسماء بنت عميس قالت "دخل علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من
قتل جعفر بن أبي طالب فقال لا تحدي بعد يومك"
هذا لفظ أحمد وله ألفاظ كلها دالة على أمره
صلى الله عليه وسلم لها بعدم الإحداد بعد ثلاث
وهذا ناسخ لأحاديث أم سلمة في الإحداد لأنه
بعدها
(3/200)
فإن أم سلمة
أمرت بالإحداد بعد موت زوجها وموته متقدم على
قتل جعفر وقد أجاب الجمهور عن حديث أسماء
بأجوبة سبعة كلها تكلف لا حاجة إلى سردها
المسألة الخامسة في قوله أربعة أشهر وعشرا قيل
الحكمة في التقدير بهذه المدة أن الولد تتكامل
خلقته وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين
يوما وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة
فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط وذكر
العشر مؤنثا باعتبار الليالي والمراد مع
أيامها عند الجمهور فلا تحل حتى تدخل الليلة
الحادية عشرة المسألة السادسة في قوله ثوبا
مصبوغا دليل على النهي عن كل مصبوغ بأي لون
إلا ما استثناه في الحديث وقال ابن عبد البر
أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس
الثياب المعصفرة ولا المصبوغة إلا ما صبغ
بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ
للزينة بل هو من لباس الحزن واختلف في الحرير
فذهبت الشافعية في الأصح إلى المنع لها منه
مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ قالوا لأنه أبيح
للنساء للتزين به والحادة ممنوعة من التزين
وقال ابن حزم إنها تجتنب الثياب المصبوغة فقط
ويحل لها أن تلبس ما شاءت من حرير أبيض أو
أصفر من لونه الذي لم يصبغ ويباح لها أن تلبس
المنسوج بالذهب والحلي كله من الذهب والفضة
والجوهر والياقوت وهذا جمود منه على لفظ النص
الوارد في حديث أم عطية وأما حديث أم سلمة
الذي فيه النهي عن لبسها الثياب المعصفرة ولا
الممشقة ولا الحلي فقال إنه لم يصح لأنه من
رواية إبراهيم بن طهمان ورد عليه بأنه من
الحفاظ الأثبات الثقات وقد صحح حديثه جماعة من
الأئمة كابن المبارك وأحمد وأبي حاتم وابن حزم
أدار التحريم على ما ثبت عنده بالنص وغيره من
الأئمة أداره على التعليل بالزينة فبقي كلامهم
أن ثوب العصب إذا كان فيه زينة منعت منه
ويخصصون الحديث بالمعنى المناسب للمنع وتقدم
تفسير ثوب العصب عن النهاية وللعلماء في
تفسيره أقوال أخر المسألة السابعة في قوله ولا
تكتحل دليل على منعها من الاكتحال وهو قول
الجمهور وقال ابن حزم ولا تكتحل ولو ذهبت
عيناها لا ليلا ولا نهارا ودليله حديث الباب
وحديث أم سلمة المتفق عليه أن امرأة توفي عنها
زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه بل
قال لا مرتين أو ثلاثا وذهب الجمهور مالك
وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجوز
الاكتحال بالإثمد للتداوي مستدلين بحديث أم
سلمة الذي أخرجه أبو داود أنها قالت في كحل
الجلاء لما سألتها امرأة أن زوجها توفي وكانت
تشتكي عينها فأرسلت إلى أم سلمة فسألتها عن
كحل الجلاء فقالت أم سلمة لا يكتحل منه إلا من
أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل
وتمسحينه بالنهار ثم قالت أم سلمة دخل علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو
سلمة وذكرت حديث الصبر قال ابن عبد البر وهذا
عندي وإن كان مخالفا لحديثها الآخر الناهي عن
الكحل مع الخوف على العين إلا أنه يمكن الجمع
بأنه صلى الله عليه وسلم عرف من الحالة التي
نهاها أن حاجتها إلى الكحل غير ضرورية
والإباحة في الليل لدفع الضرر بذلك قلت ولا
يخفى أن فتوى أم سلمة قياس منها للكحل
(3/201)
على الصبر
والقياس مع النص الثابت والنهي المتكرر لا
يعمل به عند من قال بوجوب الإحداد
5- وعن أم سلمة قالت جعلت على عيني صبرا بعد
أن توفي أبو سلمة فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "إنه يشب الوجه" بفتح حرف المضارعة
"فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار ولا
تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قلت بأي
شيء أمتشط قال بالسدر" رواه أبو داود والنسائي
وإسناده حسن فيه دليل على تحريم الطيب وهو عام
لكل طيب وقد ورد في لفظ "لا تمس طيبا" ولكنه
قد استثنى فيما سلف حال طهرها من حيضها وأذن
لها في القسط والأظفار وقال البخاري القسط
والكست مثل الكافور والقافور يجوز في كل منهما
القاف والكاف قال النووي القسط والأظفار نوعان
معروفان من البخور
6- وعنها أي أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول
الله ابنتي مات عنها زوجها وقد اشتكت عينها
أفنكحلها بضم الحاء قال: "لا" متفق عليه تقدم
الكلام في الكحل وظاهر الحديث أنها لا تكحلها
للتداوي فمن قال إنه تمنع الحادة من الكحل
بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل
بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه
لا زينة فيه بل يصح العين يرد عليه لفظ الحديث
فإنها سألت عن كحل تداوي به العين لا عن كحل
الإثمد بخصوصه إلا أن يدعى أن الكحل إذا أطلق
لا يتبادر إلا إليه
7- وعن جابر قال طلقت خالتي فأرادت أن تجذ
نخلها بالجيم والذال المعجمة هو القطع
المستأصل كما في القاموس وفي النهاية بالدال
المهملة صرام النخل وهو قطع ثمرها فزجرها رجل
أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال
"بلى جذي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي
معروفا" رواه مسلم في باب جواز خروج المعتدة
البائن كما بوبه النووي وأخرجه أبو داود
والنسائي بزيادة طلقت خالتي ثلاثا والحديث
دليل على جواز خروج المعتدة من طلاق بائن من
منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك ولا يجوز
لغير حاجة وقد ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء
وقالوا يجوز الخروج للحاجة والعذر ليلا ونهارا
كالخوف وخشية انهدام المنزل ويجوز إخراجها إذا
تأذت بالجيران أو تأذوا بها أذى شديدا لقوله
تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ
وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وفسر الفاحشة
بالبذاءة على الأحماء وغيرهم وذهبت طائفة منهم
إلى جواز خروجها نهارا مطلقا دون الليل للحديث
المذكور وقياسا على عدة الوفاة ولا يخفى أن
الحديث المذكور علل فيه جواز الخروج برجاء أن
تصدق أو تفعل معروفا وهذا عذر في الخروج وأما
لغير عذر فلا يدل عليه إلا أن يقال إنما هذا
رجاء فعل ذلك وقد يرجى في كل خروج في الغالب
وفيه دليل على استحباب الصدقة من التمر عند
جذاذه واستحباب التعريض لصاحبه بفعل الخير
والتذكير بالمعروف
(3/202)
8- وعن فريعة
بضم الفاء وفتح الراء وسكون المثناة التحتية
وعين مهملة أخت أبي سعيد الخدري شهدت بيعة
الرضوان ولها رواية بنت مالك أن زوجها خرج في
طلب أعبد له فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم
يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة فقال: "نعم"
فلما كنت في الحجرة ناداني فقال: "امكثي في
بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت فاعتددت فيه
أربعة أشهر وعشرا قالت فقضى به بعد ذلك عثمان
أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي والذهلي
بضم الذال المعجمة وابن حبان والحاكم وغيرهم
أخرجوه كلهم من حديث سعد بن إسحاق بن كعب عن
عمته زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة وقال
ابن عبد البر هذا حديث معروف مشهور عند علماء
الحجاز والعراق وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم
بجهالة حال زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور
العدالة وتعقب بأن زينب هذه من التابعيات وهي
امرأة أبي سعيد روى عنها سعد بن إسحاق وذكرها
ابن حبان في كتاب الثقات وقد روى عنها سليمان
بن محمد بن كعب بن عجرة فهي امرأة تابعية تحت
صحابي ثم روى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف
وسعد بن إسحاق وثقه ابن معين والنسائي
والدارقطني وروى عنه حماد بن زيد وسفيان
الثوري وابن جريج ومالك وغيرهم والحديث دليل
على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي
نوت فيه العدة ولا تخرج منه إلى غيره وإلى هذا
ذهب جماعة من السلف والخلف وفي ذلك عدة روايات
وآثار عن الصحابة ومن بعدهم وقال بهذا أحمد
والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وقال ابن عبد
البر وبه يقول جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز
والشام ومصر والعراق وقضى به عمر بمحضر من
المهاجرين والأنصار والدليل حديث الفريعة ولم
يطعن فيه أحد ولا في رواته إلا ما عرفت وقد
دفع ويجب لها السكنى في مال زوجها لقوله
تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والآية وإن كان قد
نسخ فيها استمرار النفقة والكسوة حولا فالسكنى
باق حكمها مدة العدة وقد قرر الشافعي
الاستدلال بالآية بما فيه تطويل وذهبت طائفة
من السلف والخلف إلى أنه لا سكنى للمتوفى عنها
روى عبد الرزاق عن عروة عن عائشة أنها كانت
تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها وأخرج
أيضا عن ابن عباس أنه قال إنما قال الله تعتد
أربعة أشهر وعشرا ولم يقل تعتد في بيتها فتعتد
حيث شاءت ومثله أخرجه عن جابر بن عبد الله
ومثله عن جماعة من الصحابة وإليه ذهب الهادي
فقال لا تجب السكنى ويجب أن لا تبيت إلا في
منزلها ودليلهم ما ذكره ابن عباس من أنه تعالى
ذكر مدة العدة ولم يذكر السكنى والجواب أنه
ثبت بالسنة وهو حديث الفريعة وبالكتاب أيضا
كما تقدم إلا أن حديث الفريعة صرحت فيه أن
البيت ليس لزوجها فيؤخذ منه أنها لا تخرج من
البيت الذي مات وهي فيه سواء كان له أو لا وقد
أطال في الهدي النبوي الكلام على ما يتفرع من
إثبات السكنى وهل تجب على الورثة من رأس
التركة أو لا وهل تخرج من منزلها للضرورة أو
لا وذكر خلافا كثيرا بين العلماء في ذلك ليس
للتطويل بنقله كثير فائدة إذ ليس على شيء من
تلك الفروع دليل ناهض
(3/203)
9- وعن فاطمة
بنت قيس قالت قلت يا رسول الله إن زوجي طلقني
ثلاثا وأخاف أن يقتحم مغير الصيغة علي أي يهجم
علي أحد بغير شعور فأمرها فتحولت رواه مسلم
تقدم الكلام على حديث فاطمة وحكم ما أفاده ولا
وجه لإعادة المصنف له
10- وعن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا
سنة نبينا عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها
أربعة أشهر وعشر رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وصححه الحاكم وأعله الدارقطني بالانقطاع
وذلك لأنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن
العاص ولم يسمع منه قال الدارقطني وقال ابن
المنذر ضعفه أحمد وأبو عبيد وقال محمد بن موسى
سألت أبا عبد الله عنه فقال لا يصح وقال
الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو
بن العاص هذا ثم قال أي سنة للنبي صلى الله
عليه وسلم في هذا وقال أربعة أشهر وعشرا إنما
هي عدة الحرة عن النكاح وإنما هذه أمة خرجت عن
الرق إلى الحرية وقال المنذري في إسناد حديث
عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق وقد ضعفه
غير واحد وله علة ثالثة هي الاضطراب لأنه روي
على ثلاثة وجوه وقال أحمد حديث منكر وقد روى
خلاس عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو ولكن
خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه كان ابن معين
لا يعبأ بحديثه وقال أحمد في روايته عن علي
يقال إنها كتاب وقال البيهقي رواية خلاس عن
علي ضعفية عند أهل العلم والمسألة فيها خلاف
ذهب إلى ما أفاده حديث عمرو الأوزاعي والناصر
والظاهرية وآخرون وذهب مالك والشافعي وأحمد
وجماعة إلى أن عدتها حيضة لأنها ليست زوجة ولا
مطلقة فليس إلا استبراء رحمها وذلك بحيضة
تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها وذلك مما لا
خلاف فيه وقال مالك فإن كانت ممن لا تحيض
اعتدت بثلاثة أشهر ولها السكنى وقال أبو حنيفة
عدتها ثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وذلك
لأن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست
بزوجة فتعتد عدة الوفاة ولا بأمة فتعتد عدة
الأمة فوجب أن يستبرأ رحمها بعدة الحرائر قلنا
إذا كان المراد الاستبراء كفت حيضة إذ بها
يتحقق وقال قوم عدتها نصف عدة الحرة تشبيها
لها بالأمة المزوجة عند من يرى ذلك وسيأتي
وقالت الهادوية عدتها حيضتان تشبيها بعدة
البائع والمشتري فإنهم يوجبون على البائع
الاستبراء بحيضة وعلى المشتري كذلك والجامع
زوال الملك قال في نهاية المجتهد سبب الخلاف
أنها مسكوت عنها أي في الكتاب والسنة وهي
مترددة الشبه بين الأمة والحرة فأما من شبهها
بالزوجة الأمة فضعيف وأضعف منه من شبهها بعدة
الحرة المطلقة اه قلت وقد عرفت ما في حديث
عمرو من المقال فالأقرب قول أحمد و الشافعي
أنها تعتد بحيضة وهو قول ابن عمر وعروة بن
الزبيرو القاسم بن محمد والشعبي والزهري لأن
الأصل البراءة من الحكم وعدم حبسها عن الأزواج
واستبراء الرحم يحصل بحيضة وعن عائشة رضي الله
عنها قالت إنما الأقراء الأطهار أخرجه مالك في
قصة بسند صحيح وعن عائشة رضي الله عنها قالت
إنما الأقراء الأطهار أخرجه مالك في قصة بسند
صحيح والقصة هي ما أفاده سياق الحديث قال
الشافعي أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن
عائشة أنها قالت وقد جادلها في ذلك ناس وقالوا
إن الله يقول {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
(3/204)
فقالت عائشة
صدقتم وهل تدرون ما الأقراء الأقراء الأطهار
قال الشافعي أخبرنا مالك عن ابن شهاب ما أدركت
أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا يريد الذي
قالت عائشة انتهى واعلم أن هذه مسألة اختلف
فيها سلف الأمة وخلفها مع الاتفاق أن القرء
بفتح القاف وضمها يطلق لغة على الحيض والطهر
وأنه لا خلاف أن المراد في قوله تعالى:
{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
أحدهما لا مجموعهما إلا أنهم اختلفوا في الأحد
المراد منهما فيها فذهب كثير من الصحابة
وفقهاء المدينة و الشافعي وأحمد في إحدى
الروايتين وهو قول مالك وقال هو الأمر الذي
أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن المراد
بالأقراء في الآية الكريمة الأطهار مستدلين
بحديث عائشة هذا وقال الشافعي إنه يدل لذلك
الكتاب واللسان أي اللغة أما الكتاب فقوله
تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد
قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "ثم
تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء الله طلق فتلك
العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" وفي
حديث ابن عمر لما طلق امرأته حائضا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طهرت فليطلق أو
يمسك" وتلا صلى الله عليه وسلم {إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} لقبل عدتهن أو في قبل
عدتهن قال الشافعي أنا شككت فأخبر صلى الله
عليه وسلم أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ
فطلقوهن لقبل عدتهن وهو أن يطلقها طاهرا
وحينئذ تستقبل عدتها فلو طلقت حائضا لم تكن
مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض وأما اللسان فهو
أن القرء اسم معناه الحبس تقول العرب هو يقرىء
الماء في حوضه وفي سقائه وتقول يقرىء الطعام
في شدقه يعني يحبس الطعام فيه وتقول إذا حبس
الشيء أقرأه أي خبأه وقال الأعشى
أفي كل يوم أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها
عزيم عزائكا
مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من
قروء نسائكا
فالقرء في البيت بمعنى الطهر لأنه ضيع أطهارهن
في غزاته وآثرها عليهن أي آثر الغزو على
القعود فضاعت قروء نسائه بلا جماع فدل على
أنها الأطهار وذهب جماعة من السلف كالخلفاء
الأربعة وابن مسعود وطائفة كثيرة من الصحابة
والتابعين إلى أنها الحيض وبه قال أئمة الحديث
وإليه رجع أحمد ونقل عنه أنه قال كنت أقول
إنها الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض
وهو قول الحنفية وغيرهم واستدلوا بأنه لم
يستعمل القرء في لسان الشارع إلا في الحيض
كقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق
الله في أرحامهن} وهذا هو الحيض والحمل لأن
المخلوق في الرحم هو أحدهما وبهذا فسره السلف
والخلف وقوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة
أيام أقرائك" ولم يقل أحد أن المراد به الطهر
ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد
وأبو داود في سبايا أوطاس "لا توطأ حامل حتى
تضع ذات حمل حتى تحيض حيضة" وسيأتي وأجاب
الأولون عن الآية بأن الآية أفادت تحريم كتمان
ما خلق الله في أرحامهن وهو الحيض أو الحبل أو
كلاهما ولا ريب أن الحيض داخل في ذلك ولكن
تحريم كتمانه لا يدل على أن القرء المذكور في
الآية هو الحيض فإنها
(3/205)
إذا كانت
الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة
أو الثالثة فكتمان الحيض يلزم منه عدم معرفة
انقضاء الطهر الذي تتم به العدة فتكون دلالة
الآية على أن الأقراء الأطهار أظهر وعن الحديث
الأول بأن الأصح أن لفظه كما قال الشافعي
أخبرنا مالك عن نافع بن سليمان بن يسار عن أم
سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لتنتظر عداد الليالي والأيام التي كانت
تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم
لتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتصل" وهذه رواية نافع
ونافع أحفظ من سليمان بن يسار الراوي لذلك
اللفظ هذا حاصل ما نقل عن الشافعي من رده
للحديث الأول وعن الحديث الثاني بأنه لا شك أن
الاستبراء ورد بحيضة وهو النص عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور الأمة
والفرق بين الاستبراء والعدة أن العدة وجبت
قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه وهو الطهر
وبأنها تتكرر فيعلم فيها البراءة بواسطة الحيض
بخلاف الاستبراء
واعلم أنه قد أكثر الاستدلال المتنازعون في
المسألة من الطرفين كل يستدل على ما ذهب إليه
وغاية ما أفادت الأدلة أنه أطلق القرء على
الحيض وأطلق على الطهر وهو في الآية محتمل كما
عرفت فإن كان مشتركا كما قاله جماعة فلا بد من
قرينة معينة لأحد معنييه وإن كان في أحدهما
حقيقة وفي الآخر مجازا فالأصل الحقيقة ولكنهم
مختلفون هل هو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر
أو العكس قال الأكثرون بالأول وقال الأقلون
بالثاني فالأولون يحملونه في الآية على الحيض
لأنه الحقيقة والأقلون على الطهر ولا ينهض
دليل على تعيين أحد القولين لأن غاية الموجود
في اللغة الاستعمال في المعنيين وللمجاز
علامات من التبادر وصحة النفي ونحو ذلك ولا
ظهور لها هنا وقد أطال ابن القيم الاستدلال
على أنه الحيض واستوفى المقال قال السيد رحمه
الله ولم يقهرنا دليله إلى تعيين ما قاله ومن
أدلة القول بأن الأقراء الحيض قوله
12- وعن ابن عمر رضي الله عنه طلاق الأمة
المزوجة تطليقتان وعدتها حيضتان رواه
الدارقطني موقوفا على ابن عمر وأخرجه مرفوعا
وضعفه لأنه من رواية عطية العوفي وقد ضعفه غير
واحد من الأئمة وأخرجه أبو داود والترمذي وابن
ماجه من حديث عائشة بلفظ طلاق الأمة طلقتان
وقرؤها حيضتان وهو ضعيف لأنه من حديث مظاهر بن
مسلم قال فيه أبو حاتم منكر الحديث وقال ابن
معين لا يعرف وصححه الحاكم وخالفوه فاتفقوا
على ضعفه لما عرفته فلا يتم به الاستدلال
للمسألة الأولى واستدل به هنا على أن الأمة
تخالف الحرة فتبين على الزوج بطلقتين وتكون
عدتها قرأين واختلف العلماء في المسألة على
أربعة أقوال أقواها ما ذهب إليه الظاهرية من
أن طلاق العبد والحر سواء لعموم النصوص
الواردة في الطلاق من غير فرق بين حر وعبد
وأدلة التفرقة كلها غير ناهضة وقد سردها في
الشرح فلا حاجة بالإطالة بذكرها مع عدم نهوض
دليل قول منها ثمنا وأما عدتها فاختلف أيضا
فيها فذهبت الظاهرية إلى أنها كعدة الحرة قال
أبو محمد بن حزم لأن الله علمنا العدد في
الكتاب فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} {وَالَّذِينَ
(3/206)
يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقال: {وَاللَّائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا
الإماء أن عليهن العدد
المذكورات وما فرق عز وجل بين حرة ولا أمة في
ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وتعقب
استدلاله بالآيات بأنها كلها في الزوجات
الحرائر فإن قوله فلا جناح عليهما فيما افتدت
به في حق الحرائر فإن افتداء الأمة إلى سيدها
لا إليها وكذا قوله: {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فجعل ذلك إلى
الزوجين والمراد به العقد والمراد به العقد
وفي الأمة ذلك يختص بسيدها وكذا قوله:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} والأمة لا فعل لها في نفسها
قلت لكنها إذا لم تدخل في هذه الآيات ولا تثبت
فيها سنة صحيحة ولا إجماع ولا قياس ناهض هنا
فماذا يكون حكمها في عدتها فالأقرب أنها زوجة
شرعا قطعا فإن الشارع قسم لنا من أحل لنا
وطأها إلى زوجة أو ما ملكت اليمين في قوله:
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وهذه التي هي محل
النزاع ليست ملك يمين قطعا فهي زوجة فتشملها
الآيات وخروجها عن حكم الحرائر فيما ذكر من
الافتداء والعقد والفعل بالمعروف في نفسها لا
ينافي دخولها في حكم العدة لأن هذه أحكام أخر
تعلق الحق فيها بالسيد كما يتعلق في الحرة
الصغيرة بالولي فالراجح أنها كالحرة تطليقا
وعدة
13- وعن رويفع تصغير رافع بن ثابت رضي الله
عنه من بني مالك بن النجار عداده في المصريين
توفي سنة ست وأربعين عن النبي صلى الله عليه
وسلم "لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر
أن يسقي ماءه زرع غيره" أخرجه أبو داود
والترمذي وصححه ابن حبان وحسنه البزار فيه
دليل على تحريم وطء الحامل من غير الواطىء
وذلك كالأمة المشتراة إذا كانت حاملا من غيره
والمسبية وظاهره أن ذلك إذا كان الحمل متحققا
أما إذا كان غير متحقق وملكت الأمة بسبي أو
شراء أو غيره فسيأتي أنه لا يجوز وطؤها حتى
تستبرأ بحيضة وقد اختلف العلماء في الزانية
غير الحامل هل تجب عليها العدة أو تستبرأ
بحيضة فذهب الأقل إلى وجوب العدة عليها وذهب
الأكثر إلى عدم وجوبها والدليل غير ناهض مع
الفريقين فإن الأكثر استدلوا بقوله صلى الله
عليه وسلم "الولد للفراش" ولا دليل فيه إلا
على عدم لحوق ولد الزنا بالزاني والقائل بوجوب
العدة استدل بعموم الأدلة ولا يخفى أن الزانية
غير داخلة فيها فإنها في الزوجات نعم تدخل في
دليل الاستبراء وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى
تحيض حيضة" قال المصنف في التلخيص إنما استدلت
الحنابلة بحديث رويفع على فساد نكاح الحامل من
الزنا واحتج به الحنفية على امتناع وطئها قال
وأجاب الأصحاب عنه بأنه ورد في السبي لا في
مطلق النساء وتعقب بأن العبرة بعموم اللفظ
14- وعن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود
تربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر
(3/207)
وعشرا أخرجه
مالك والشافعي وله طرق أخرى وفيه قصة أخرجها
عبد الرزاق بسنده في الفقيد الذي فقد قال دخلت
الشعب فاستهوتني الجن فمكثت أربع سنين فأتت
امرأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن
تربص أربع سنين من حين رفعت أمرها إليه ثم دعا
وليه أي ولي الفقيد فطلقها ثم أمرها أن تعتد
أربعة أشهر وعشرا ثم جئت بعد ما تزوجت فخيرني
عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقتها ورواه ابن
أبي شيبة عن عمر ورواه البيهقي وقصة المفقود
أخرجها البيهقي وفيها أنه قال لعمر لما رجع
إني خرجت لصلاة العشاء فسبتني الجن فلبثت فيهم
زمانا طويلا فغزاهم جن مؤمنون أو قال مسلمون
فقاتلوهم وظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا
فسبوني فيما سبوا منهم فقالوا نراك رجلا مسلما
لا يحل لنا سباؤك فخيروني بين المقام وبين
القفول فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي
فأما الليل فلا يحدثوني وأما النهار فإعصار
ريح اتبعها فقال له عمر فما كان طعامك فيهم
قال الفول وما لا يذكر اسم الله عليه قال فما
كان شرابك قال الجدف قال قتادة والجدف ما لا
يخمر من الشراب وفيه دليل على أن مذهب عمر أن
امرأة المفقود بعد مضي أربعة سنين من يوم رفعت
أمرها إلى الحاكم تبين من زوجها كما يفيد ظاهر
رواية الكتاب وإن كانت رواية ابن أبي شيبة
دالة على أنه يأمر الحاكم ولي الفقيد بطلاق
امرأته وقد ذهب إلى هذا مالك وأحمد وإسحاق وهو
أحد قولي الشافعي وجماعة من الصحابة بدليل فعل
عمر وذهب أبو يوسف ومحمد ورواية عن أبي حنيفة
وأحد قولي الشافعي إلى أنها لا تخرج عن
الزوجية حتى يصح لها موته أو طلاقه أو ردته
ولا بد من تيقن ذلك قالوا لأن عقدها ثابت
بيقين فلا يرتفع إلا بيقين وعليه يدل ما رواه
الشافعي عن علي موقوفا امرأة المفقود امرأة
ابتليت فلتصبر حتى يأتيها يقين موته قال
البيهقي هو عن علي مطولا مشهور ومثله أخرجه
عنه عبد الرزاق قالت الهادوية فإن لم يحصل
اليقين بموته ولا طلاقه تربصت العمر الطبيعي
مائه وعشرين سنة وقيل مائة وخمسين إلى مائتين
وهذا كما قال بعض المحققين قضية فلسفية طبيعة
يتبرأ الإسلام منها إذ الأعمار قسم من الخالق
الجبار والقول بأنها العادة غير صحيح كما
يعرفه كل مميز بل هو أندر النادر بل معترك
المنايا كما أخبر به الصادق بين الستين
والسبعين وقال الإمام يحيى ولا وجه للتربص لكن
إن ترك لها الغائب ما يقوم بها فهو كالحاضر إذ
لم يفتها إلا الوطء وهو حق له لا لها وإلا
فسخها الحاكم عند مطالبتها من دون المفقود
لقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}
والحديث "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" والحاكم
وضع لرفع المضارة في الإيلاء والظهار وهذا
أبلغ والفسخ مشروع بالعيب ونحوه قلت وهذا أحسن
الأقوال وما سلف عن علي وعمر أقوال موقوفة وفي
الإرشاد لابن كثير عن الشافعي بسنده إلى أبي
الزناد قال سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا
يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما قلت
سنة قال سنة قال الشافعي الذي يشبه أن قول
سعيد سنة أن لا يكون سنة النبي صلى الله عليه
وسلم وقد طول الكلام في هذا
(3/208)
في حواشي ضوء
النهار واخترنا الفسخ بالغيبة أو بعدم قدرة
الزوج على الإنفاق نعم لو ثبت قوله
15- وعن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم امرأة المفقود امرأته حتى
يأتيها البيان أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف
لكان مقويا لتلك الآثار إلا أنه ضعفه أبو حاتم
والبيهقي وابن القطان وعبد الحق وغيرهم
16- وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "لا يبيتن" من البيتوتة
وهي بقاء الليل "رجل عند امرأة إلا أن يكون
ناكحا أو ذا محرم" أخرجه مسلم وفي لفظ لمسلم
أيضا زيادة عند امرأة ثيب قيل إنما خص الثيب
لأنها التي يدخل عليها غالبا وأما البكر فهي
متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة
ولأنه يعلم بالأولى أنه إذا نهى عن الدخول على
الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها
فبالأولى البكر والمراد من قوله ناكحا أي
متزوجا بها وفي الحديث دليل على أنها تحرم
الخلوة بالأجنبية وأنه يباح له الخلوة بالمحرم
وهذان الحكمان مجمع عليهما وقد ضبط العلماء
المحرم بأنه كل من حرم عليه نكاحها على
التأبيد بسبب مباح يحرمها فقوله على التأبيد
احتراز عن أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن
وقوله بسبب مباح احتراز عن أم الموطوءة بشبهة
وبنتها فإنها حرام على التأبيد لكن لا بسبب
مباح فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا
محرم ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة لأنه
ليس فعل مكلف وقوله يحرمها احتراز عن الملاعنة
فأنها محرمة على التأبيد لا لحرمتها بل تغليظا
عليها ومفهوم قوله لا يبيتن أنه يجوز له
البقاء عند الأجنبية في النهار خلوة أو غيرها
لكن قوله
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال "لا يخلون رجل بامرأة إلا
مع ذي محرم" أخرجه البخاري دل على تحريم خلوته
بها ليلا أو نهارا وهو دليل لما دل عليه
الحديث الذي قبله وزيادة وأفاد جواز خلوة
الرجل بالأجنبية مع محرمها وتسميتها خلوة
تسامح فالاستثناء منقطع
18- وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس اسم واد في
أخذها هوازن وهو موضع حرب حنين وقيل وادي
اوطاس غير وادي حنين "لا توطأ حامل حتى تضع
ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" أخرجه أبو
داود وصححه الحاكم وله شاهد عن ابن عباس بلفظ
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ
حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض في الدارقطني
إلا أنه من رواية شريك القاضي وفيه كلام قاله
ابن كثير في الإرشاد والحديث دليل على أنه يجب
على الثاني استبراء المسبية إذا أراد وطأها
بحيضة إن كانت غير حامل ليتحقق براءة رحمها
وبوضع الحمل إن كانت حاملا وقيس على غير
المسبية المشتراة والمتملكة بأي وجه من وجوه
التملك بجامع ابتداء التملك وظاهر قوله "ولا
غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" عموم البكر والثيب
فالثيب لما ذكر والبكر أخذا بالعموم وقياسا
على العدة فإنها تجب على الصغيرة
(3/209)
مع العلم
ببراءة الرحم وإلى هذا ذهب الأكثرون وذهب
آخرون إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم
يعلم براءة رحمها أما من علم براءة رحمها فلا
استبراء عليها وهذا رواه عبد الرزاق عن ابن
عمر قال إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن
شاء ورواه البخاري في الصحيح عنه وأخرج في
الصحيح مثله عن علي رضي الله عنه من حديث
بريدة ويؤيد هذا القول مفهوم ما أخرجه أحمد من
حديث رويفع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا ينكح ثيبا من السبايا حتى تحيض وإلى هذا
ذهب مالك على تفصيل أفاده قول المازري من
المالكية في تحقيق مذهبه حيث قال إن القول
الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا
يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن
كونها حاملا أو شك في حملها أو تردد فيه
فالاستبراء لازم فيها وكل من غلب على الظن
براءة رحمها لكنه يجوز حصوله فالمذهب على
قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه وأطال بما
خلاصته أن مأخذ مالك في الاستبراء إنما هو
العلم بالبراءة فحيث لا تعلم ولا تظن البراءة
وجب الاستبراء وحيث تعلم أو تظن البراءة فلا
استبراء وبهذا قال ابن تيمية وتلميذه ابن
القيم والأحاديث الواردة في الباب تشير إلى أن
العلة الحمل أو تجويزه وقد عرفت أن النص ورد
في السبايا وقيس عليه انتقال الملك بالشراء أو
غيره وذهب داود الظاهري إلى أنه لا يجب
الاستبراء في غير السبايا لأنه لا يقول
بالقياس فوقف على محل النص ولأن الشراء ونحوه
عنده كالتزويج
واعلم أن ظاهر أحاديث السبايا جواز وطئهن وإن
لم يدخلن في الإسلام فإنه صلى الله عليه وسلم
لم يذكر في حل الوطء إلا الاستبراء بحيضة أو
بوضع الحمل ولو كان الإسلام شرطا لبينه وإلا
لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز
والذي قضى به إطلاق الأحاديث وعمل الصحابة في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز الوطء
للمسبية من دون إسلام وقد ذهب إلى هذا طاوس
وغيره
واعلم أن الحديث دل بمفهومه على جواز
الاستمتاع قبل الاستبراء بدون الجماع وعليه دل
فعل ابن عمر أنه قال وقعت في سهمي جارية يوم
جلولاء كأن عنقها إبريق فضة قال فما ملكت نفسي
أن جعلت أقبلها والناس ينظرون أخرجه البخاري
19- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر
الحجر" متفق عليه من حديثه أي أبي هريرة قال
ابن عبد البر إنه جاء عن بضع وعشرين نفسا من
الصحابة والحديث دليل على ثبوت نسب الولد
بالفراش من الأب واختلف العلماء في معنى
الفراش فذهب الجمهور إلى أنه اسم للمرأة وقد
يعبر به عن حالة الافتراش وذهب أبو حنيفة إلى
أنه اسم للزوج ثم اختلفوا بماذا يثبت فعند
الجمهور إنما يثبت للحرة بإمكان الوطء في نكاح
صحيح أو فاسد وهو مذهب الهادوية و الشافعي
وأحمد وعند أبي حنيفة أنه يثبت بنفس العقد وإن
علم أنه لم يجتمع بها بل ولو طلقها عقيبه في
المجلس وذهب ابن تيمية إلى أنه لا بد من معرفة
الدخول المحقق واختاره تلميذه ابن القيم قال
وهل يعد أهل اللغة وأهل العرف المرأة فراشا
قبل البناء بها وكيف تأتي
(3/210)
الشريعة بإلحاق
نسب من لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع
بها لمجرد إمكان ذلك وهذا الإمكان قد يقطع
بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا
بدخول محقق قال في المنار هذا هو المتيقن ومن
أين لنا الحكم بالدخول بمجرد الامكان فإن
غايته أنه مشكوك فيه ونحن متعبدون في جميع
الأحكام بعلم أو ظن والممكن أعم من المظنون
والعجب من تطبيق الجمهور بالحكم مع الشك فظهر
لك قوة كلام ابن تيمية وهو رواية عن أحمد هذا
في ثبوت فراش الحرة وأما ثبوت فراش الأمة
فظاهر الحديث شموله له وأنه يثبت الفراش للأمة
بالوطء إذا كانت مملوكة للوطىء أو في شبهة ملك
إذا اعترف السيد أو ثبت بوجه والحديث وارد في
الأمة ولفظه في رواية عائشة قالت اختصم سعد بن
أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد يا
رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد
إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة
هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من
وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: "هو لك يا
عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر
واحتجبي منه يا سودة" فأثبت النبي صلى الله
عليه وسلم الولد لفراش زمعة للوليدة المذكورة
فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة وهذا قول
الجمهور وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخعي
وأحمد وإسحاق وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه
لا يثبت الفراش للأمة إلا بدعوى الولد ولا
يكفي الإقرار بالوطء فإن لم يدعه فلا نسب له
وكان ملكا لمالك الأمة وإذا ثبت فراشها بدعوى
أول ولد منها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد
وإن لم يدع المالك ذلك قالوا وذلك للفرق بين
الحرة والأمة فإن الحرة تراد للاستفراش والوطء
بخلاف ملك اليمين فإن ذلك تابع وأغلب المنافع
غيره وأجيب بأن الكلام في الأمة التي اتخذت
للوطء فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها فإذا
عرف الوطء كانت فراشا ولا يحتاج إلى استلحاق
والحديث دال لذلك فإنه لما قال عبد بن زمعة
ولد على فراش أبي ألحقه النبي صلى الله عليه
وسلم بزمعة صاحب الفراش ولم ينظر إلى الشبه
البين الذي فيه المخالفة للملحوق به وتأولت
الحنفية والهادوية حديث أبي هريرة بتأويلات
كثيرة وزعموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحق
الغلام المتنازع فيه بنسب زمعة واستدلوا بأنه
صلى الله عليه وسلم أمر سودة بنت زمعة
بالاحتجاب منه وأجيب بأنه أمرها بالاحتجاب منه
على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات
المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة وذلك لما
رآه صلى الله عليه وسلم في الولد من الشبه
بعتبة بن أبي وقاص وللمالكية هنا مسلك آخر
فقالوا الحديث دل على مشروعية حكم بين حكمين
وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطي
أحكاما فإن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة والشبه
يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين
حكمين فروعي الفراش في إثبات النسب وروعي
الشبه البين بعتبة في أمر سودة بالاحتجاب
قالوا وهذا أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار
بين أصلين
(3/211)
فألحق بأحدهما
فقط فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه فإذا
ألحق بكل واحد منهما من وجه كان أولى من إلغاء
أحدهما من كل وجه فيكون هذا الحكم وهو إثبات
النسب بالنظر إلى ما يجب للمدعي من أحكام
البنوة ثابتا وبالنظر إلى ما يتعلق بالغير من
النظر إلى المحارم غير ثابت قالوا ولا يمتنع
ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة
والأوزاعي وغيرهم إلى أنه لا يحل أن يتزوج
بنته من الزنا وإن كان لها حكم الأجنبية وقد
اعترض هذا ابن دقيق العيد بما ليس بناهض وفي
الحديث دليل على أن لغير الأب أن يستلحق الولد
فإن عبد بن زمعة استلحق أخاه بإقراره بأن
الفراش لأبيه وظاهر الرواية أن ذلك يصح وإن لم
يصدقه الورثة فإن سودة لم يذكر منها تصديق ولا
إنكار إلا أن يقال إن سكوتها قائم مقام
الإقرار وفي المسألة قولان الأول أنه إذا كان
المستلحق غير الأب ولا وارث غيره وذلك كأن
يستلحق الجد ولا وارث سواه صح إقراره وثبت نسب
المقر به وكذلك إن كان المستلحق بعض الورثة
وصدقه الباقون والأصل في ذلك أن من حاز المال
ثبت النسب بإقراره واحدا كان أو جماعة وهذا
مذهب أحمد والشافعي لأن الورثة قاموا مقام
الميت وحلوا محله الثاني للهادوية أنه لا يصح
الاستلحاق من غير الأب وإنما المقر به يشارك
المقر في الإرث دون النسب ولكن قوله صلى الله
عليه وسلم لعبد "هو أخوك" كما أخرجه البخاري
دليل ثبوت النسب في ذلك ثم اختلف القائلون
بلحوق النسب بإقرار غير الأب هل هو إقرار
خلافة ونيابة عن الميت فلا يشترط عدالة
المستلحق بل ولا إسلامه أو هو إقرار شهادة
فتعتبر فيه أهلية الشهادة فقالت الشافعية و
أحمد إنه إقرار خلافة ونيابة وقال المالكية
إنه إقرار شهادة واستدل الهادوية والحنفية
بالحديث على عدم ثبوت النسب بالقيافة لقوله
الولد للفراش قالوا ومثل هذا التركيب يفيد
الحصر ولأنه لو ثبت بالقيافة لكانت قد حصلت
بما رآه من شبه المدعى بعتبة ولم يحكم به له
بل حكم به لغيره وذهب الشافعي وغيره إلى ثبوته
بالقيافة إلا أنه إنما يثبت بها فيما حصل من
وطأين محرمين كالمشتري والبائع يطآن الجارية
في طهر قبل استبراء واستدلوا بما أخرجه
الشيخان من استبشاره صلى الله عليه وسلم بقول
مجزز المدلجي وقد رأى قدمي أسامة بن زيد وزيد
"إن هذه الأقدام بعضها من بعض" فاستبشر صلى
الله عليه وسلم بقوله وقرره على قيافته وسيأتي
الكلام فيه في آخر باب الدعاوى وبما ثبت من
قوله صلى الله عليه وسلم في قصة اللعان "إن
جاءت به على صفة كذا فهو لفلان أو على صفة كذا
فهو لفلان" فإنه دليل الإلحاق بالقيافة ولكن
منعته الأيمان عن الإلحاق فدل على أن القيافة
مقتض لكنه عارض العمل بها المانع وبأنه صلى
الله عليه وسلم قال لأم سليم لما قالت أو
تحتلم المرأة فمن أين يكون الشبه ولأنه أمر
سودة بالاحتجاب كما سلف لما رأى من الشبه
وبأنه قال للذي ذكر له أن امرأته أتت بولد على
غير لونه لعله نزعه عرق فإنه ملاحظة للشبه
ولكنه لا حكم للقيافة مع ثبوت الفراش في ثبوت
النسب وقد أجاب النفات للقيافة بأجوبة لا تخلو
عن تكلف والحكم الشرعي يثبته الدليل الظاهر
والتكلف لرد الظواهر من الأدلة محاماة عن
المذهب ليس من شأن المتبع لما جاء عن الله وعن
رسوله
(3/212)
صلى الله عليه
وسلم وأما الحصر في حديث "الولد للفراش" فنعم
هو لا يكون الولد إلا للفراش مع ثبوته والكلام
مع انتفائه ولأنه قد يكون حصراً وهو غالب ما
يأتي من الحصر فإن الحصر الحقيقي قليل فلا
يقال قد رجعتم إلى ما ذممتم من التأويل وأما
قوله "وللعاهر" أي الزاني "الحجر" فالمراد له
الخيبة والحرمان وقيل له الرمي بالحجارة إلا
أنه لا يخفى أنه يقصر الحديث على الزاني
المحصن والحديث عام
(3/213)
باب الرضاع
بكسر الراء وفتحها ومثله الرضاعة
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم المصة والمصتان"
أخرجه مسلم المصة الواحدة من المص وهو أخذ
اليسير من الشيء كما في الضياء وفي القاموس
مصصته بالكسر أمصه ومصصته أمصه كخصصته أخصه
شربته شربا رفيقا والحديث دل على أن مص الصبي
للثدي مرة أو مرتين لا يصير به رضيعا وفي
المسألة أقوال الأول: أن الثلاث فصاعدا تحرم
وإلى هذا ذهب داود وأتباعه وجماعة من العلماء
لمفهوم حديث مسلم هذا وحديث الآخر بلفظ "لا
تحرم الإملاجة والإملاجتان" فأفاد بمفهومه
تحريم ما فوق الاثنتين القول الثاني: لجماعة
من السلف والخلف وهو أن قليل الرضاع وكثيره
يحرم وهذا يروى عن علي وابن عباس وآخرين من
السلف وهو مذهب الهادوية والحنفية و مالك
قالوا وحده ما وصل الجوف بنفسه وقد ادعى
الإجماع على أنه يحرم من الرضاع ما يفطر
الصائم واستدلوا بأنه تعالى علق التحريم باسم
الرضاع فحيث وجد اسمه وجد حكمه وورد الحديث
موافقا للآية فقال صلى الله عليه وسلم: "يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب" ولحديث عقبة
الآتي وقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد
زعمت أنها أرضعتكما" ولم يستفصل عن عدد
الرضعات فهذه أدلتهم ولكنها اضطربت أقوالهم في
ضبط الرضعة وحقيقتها اضطرابا كثيرا ولم يرجع
إلى دليل ويجاب عما ذكروه من التعليق باسم
الرضاع أنه مجمل بينه الشارع بالعدد وضبطه به
وبعد البيان لا يقال إنه ترك الاستفصال القول
الثالث: أنها لا تحرم إلا خمس رضعات وهو قول
ابن مسعود وابن الزبير والشافعي ورواية عن
أحمد واستدلوا بما يأتي من حديث عائشة وهو نص
في الخمس وبأن سهلة بنت سهيل أرضعت سالما خمس
رضعات ويأتي أيضا وهذا إن عارضه مفهوم حديث
المصة والمصتان فإن الحكم في هذا منطوق وهو
أقوى من المفهوم فهو مقدم عليه وعائشة وإن روت
أن ذلك كان قرآنا فإن له حكم خبر الآحاد في
العمل به كما عرف في الأصول وقد عضده حديث سهل
فإن فيه أنها أرضعت سالما خمس رضعات لتحرم
عليه وإن كان فعل صحابية فإنه دال أنه قد كان
متقررا عندهم أنه لا يحرم إلا الخمس الرضعات
ويأتي تحقيقه وأما حقيقة الرضعة فهي المرة من
الرضاع كالضربة من الضرب والجلسة من الجلوس
فمتى التقم الصبي الثدي وامتص منه ثم ترك ذلك
باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة والقطع
لعارض كنفس
(3/213)
أو استراحة
يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود من قريب لا
يخرجها عن كونها رضعة واحدة كما أن الآكل إذا
قطع أكله بذلك ثم عاد عن قريب كان ذلك أكلة
واحدة وهذا مذهب الشافعي في تحقيق الرضعة
الواحدة وهو موافق للغة فإذا حصلت خمس رضعات
على هذه الصفة حرمت
2- وعنها أي عائشة قالت قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن فإنما
الرضاعة من المجاعة" متفق عليه في الحديث قصة
وهو أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة
وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك
فقالت إنه أخي فقال "انظرن من إخوانكن فإنما
الرضاعة من المجاعة"
قال المصنف: لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي
القعيس وقوله انظرن أمر بالتحقق في أمر
الرضاعة هل هو رضاع صحيح بشرطه من وقوعه في
زمن الرضاع ومقدار الإرضاع فإن الحكم الذي
ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع
المشترط وقال أبو عبيد معناه أنه الذي إذا جاع
كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث
يكون الغذاء بغير الرضاع وهو تعليل لإمعان
التحقق في شأن الرضاع وبأن الرضاع الذي تثبت
به الحرمة وتحل به الخلوة هو حيث يكون الرضيع
طفلا يسد اللبن جوعه لأن معدته كمال يكفيها
اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير جزءا من المرضعة
فيشترك في الحرمة مع أولادها فمعناه لا رضاعة
معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من
المجاعة فهو في معنى حديث ابن مسعود الآتي "لا
رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم" وحديث أم
سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء"
أخرجه الترمذي وصححه واستدل به على أن التغذي
بلبن المرضعة محرم سواء كان شربا أو وجورا أو
سعوطا أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي وهو قول
الجمهور وقالت الهادوية والحنفية لا تحرم
الحقنة وكأنهم يقولون أنها لا تدخل تحت اسم
الرضاع قلت إذا لوحظ المعنى من الرضاع دخل كل
ما ذكروا وإن لوحظ مسمى الرضاع فلا يشمل إلا
التقام الثدي ومص اللبن منه كما تقوله
الظاهرية فإنهم قالوا لا يحرم إلا ذلك ولما
حصر في الحديث الرضاعة على ما كان من المجاعة
كما قد عرفت وقد ورد
3- وعنها أي عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل
فقالت يا رسول الله إن سالما مولى أبي حذيفة
معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال فقال:
"أرضعيه تحرمي عليه" رواه مسلم وفي سنن أبي
داود "فأرضعيه خمسة رضعات" فكان بمنزلة ولدها
من الرضاعة معارضا لذلك وكأنه ذكره المصنف
كالمشير إلى أنه قد خصص هذا الحكم بحديث سهلة
فإنه دال على أن رضاع الكبير يحرم مع أنه ليس
داخلا تحت الرضاعة من المجاعة وبيان القصة أن
أبا حذيفة كان قد تبنى سالما وزوجه وكان سالم
مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية كان من له أب
معروف نسب إلى أبيه ومن لا أب له معروف كان
مولى وأخا في الدين فعند ذلك جاءت سهلة تذكر
ما نصه الحديث في الكتاب
(3/214)
وقد اختلف
السلف في هذا الحكم فذهبت عائشة رضي الله عنها
إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغا
عاقلا قال عروة إن عائشة أم المؤمنين أخذت
بهذا الحديث فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات
أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال
رواه مالك ويروى عن علي وعروة وهو قول الليث
بن سعد وأبي محمد بن حزم ونسبه في البحر إلى
عائشة وداود الظاهري وحجتهم حديث سهلة هذا وهو
حديث صحيح لا شك في صحته ويدل له أيضا قوله
تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ} فإنه مقيد بوقت وذهب الجمهور من
الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه لا يحرم
من الرضاع إلا ما كان في الصغر وإنما اختلفوا
في تحديد الصغر فالجمهور قالوا مهما كان في
الحولين فإن رضاعه يحرم ولا يحرم ما كان
بعدهما مستدلين بقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ} وقال جماعة الرضاع المحرم ما
كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان وقال
الأوزاعي إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم
رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئا وإن
تمادى رضاعه ولم يفطم فيما يرضع وهو في
الحولين حرم وما كان بعدهما لا يحرم وإن تمادى
إرضاعه وفي المسألة أقوال أخر عارية عن
الاستدلال فلا نطيل بها المقال واستدل الجمهور
بحديث "إنما الرضاعة من المجاعة" وتقدم فإنه
لا يصدق ذلك إلا على من يشبعه اللبن ويكون
غذاءه لا غيره فلا يدخل الكبير سيما وقد ورد
بصيغة الحصر وأجابوا عن حديث سالم بأنه خاص
بقصة سهلة فلا يتعدى حكمه إلى غيرها كما يدل
له قوله أم سلمة أم المؤمنين لعائشة رضي الله
عنهما لا نرى هذا إلا خاصا بسالم ولا ندري
لعله رخصة لسالم أو أنه منسوخ وأجاب القائلون
بتحريم رضاع الكبير بأن الآية وحديث إنما
الرضاعة من المجاعة واردان لبيان الرضاعة
الموجبة للنفقة للمرضعة ملكا يجبر عليها
الأبوان رضيا أم كرها كما يرشد إليه آخر الآية
وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
وعائشة هي الراوية لحديث إنما الرضاعة من
المجاعة وهي التي قالت برضاع الكبير وأنه يحرم
فدل على أنها فهمت ما ذكرناه في معنى الآية
والحديث وأما قول أم سلمة إنه خاص بسالم فذلك
تظنن منها وقد أجابت عليها عائشة فقالت أما لك
في رسول الله أسوة حسنة فسكتت أم سلمة ولو كان
خاصا لبينه صلى الله عليه وسلم كما بين اختصاص
أبي بردة بالتضحية بالجذعة من المعز والقول
بالنسخ يدفعه أن قصة سهل متأخرة عن نزول آية
الحولين فإنها قالت سهلة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم كيف أرضعه وهو رجل كبير فإن هذا
السؤال منها استنكار لرضاع الكبير دال على أن
التحليل بعد اعتقاد التحريم قلت ولا يخفى أن
الرضاعة لغة إنما تصدق على من كان في سن الصغر
وعلى اللغة وردت آية الحولين وحديث "إنما
الرضاعة من المجاعة" والقول بأن الآية لبيان
الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافي أيضا أنها
لبيان زمان الرضاعة بل جعله الله تعالى زمان
من أراد تمام الرضاعة وليس بعد التمام ما يدخل
في حكم ماحكم الشارع بأنه قد تم والأحسن في
الجمع بين حديث سهلة وما عارضه كلام ابن تيمية
فإنه قال إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا
دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى
عن
(3/215)
دخوله على
المرأة وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة
أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة
أثر رضاعه وأما من عداه فلا بد من الصغر انتهى
فإنه جمع بين الأحاديث حسن وإعمال لها من غير
مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما
اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث
4- وعنها أي عن عائشة رضي الله عنها أن أفلح
بفتح الهمزة ففاء آخره حاء مهملة مولى لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وقيل مولى لأم سلمة
أخا أبي القعيس بقاف مضمومة وعين وسين مهملتين
بينهما مثناة تحتية جاء يستأذن عليها بعد
الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت
فأمرني أن آذن له علي وقال إنه عمك متفق عليه
اسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري وقيل
اسمه الجعد فعلى الأول يكون أخوه وافق اسمه
اسم أبيه قال ابن عبد البر لا أعلم لأبي
القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث والحديث دليل
على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة
وأقاربه كالمرضعة وذلك لأن سبب اللبن هو ماء
الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما
كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد
الولد به لتعلقه بولده لذلك قال ابن عباس في
هذا الحكم اللقاح واحد أخرجه عنه ابن أبي شيبة
فإن الوطء يدر اللبن فللرجل منه نصيب وإلى هذا
ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل
المذاهب والحديث دليل واضح لمن ذهبوا إليه وفي
رواية أبي داود زيادة تصريح حيث قالت دخل علي
أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك
قلت من أين قال أرضعتك امرأة أخي قلت إنما
أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل الحديث وخالف
في ذلك ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج
وعائشة وجماعة من التابعين و ابن المنذر وداود
وأتباعه فقالوا لا يثبت حكم الرضاع للرجل لأن
الرضاع إنما هو للمرأة التي اللبن منها قالوا
ويدل عليه قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وأجيب بأن الآية
ليس فيها ما يعارض الحديث فإذ ذكر الأمهات لا
يدل على أن ما عداهن ليس كذلك ثم إن دل
بمفهومه فهو مفهوم لقب مطرح كما عرف في الأصول
وقد استدلوا بفتوى جماعة من الصحابة بهذا
المذهب ولا يخفى أنه لا حجة في ذلك وقد أطال
بعض المتأخرين البحث في المسألة وسبقه ابن
القيم في الهدي واستحسنه ابن تيمية والواضح ما
ذهب إليه الجمهور
5- وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "كان
فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن
ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن" رواه
مسلم يقرأ بضم حرف المضارعة تريد أن النسخ
بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى إنه توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرأ خمس
رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه
النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك
رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أنه لا يتلى وهذا من
نسخ التلاوة دون الحكم وهو أحد أنواع النسخ
فإنه ثلاثة أقسام نسخ التلاوة والحكم مثل عشر
رضعات يحرمن والثاني: نسخ التلاوة دون الحكم
(3/216)
كخمس رضعات
وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما والثالث:
نسخ الحكم دون التلاوة وهو كثير نحو قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} الآية وقد تقدم تحقيق
القول في حكم هذا الحديث وأن العمل على ما
أفاده هو أرجح الأقوال والقول بأن حديث عائشة
هذا ليس بقرآن لأنه لا يثبت بخبر الآحاد ولا
هو حديث لأنها لم تروه حديثا مردود بأنها وإن
لم تثبت قرآنيته ويجري عليه حكم ألفاظ القرآن
فقد روته عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم
الحديث في العمل به وقد عمل بمثل ذلك العلماء
فعمل به الشافعي وأحمد في هذا الموضع وعمل به
الهادوية والحنفية في قراءة ابن مسعود في صيام
الكفارة ثلاثة أيام متتابعات وعمل مالك في فرض
الأخ من الأم بقراءة أبي وله أخ وأخت من أم
والناس كلهم احتجوا بهذه القراءة والعمل بحديث
الباب هذا لا عذر عنه ولذا اخترنا العمل به
فيما سلف
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم أريد بضم الهمزة مبني للمجهول
على ابنة حمزة أي قيل له لو تزوجتها فقال:
"إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" متفق عليه
اختلف في اسم ابنة حمزة على سبعة أقوال ليس
فيها ما يجزم به وإنما كانت ابنة أخيه صلى
الله عليه وسلم لأنه رضع من ثويبة أمة أبي لهب
وقد كانت أرضعت عمه حمزة وأحكام الرضاع هي
حرمة التناكح وجواز النظر والخلوة والمسافرة
لا غير ذلك من التوارث ووجوب الإنفاق والعتق
بالملك وغيره من أحكام النسب وقوله صلى الله
عليه وسلم "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"
يراد به تشبيهه في التحريم ثم التحريم ونحوه
بالنظر إلى المرضع فإن أقاربه أقارب للرضيع
وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا علاقة
بينهم وبين المرضع فلا يثبت لهم شيء من
الأحكام
7- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع
إلا ما فتق" بالفاء فمثناة فوقية فقاف
"الأمعاء" جمع المعا بكسر الميم وفتحها "وكان
قبل الفطام" رواه الترمذي وصححه هو والحاكم
والمراد ما سلك فيها من الفتق بمعنى الشق
والمراد ما وصل إليه فلا يحرم القليل الذي لا
ينفذ إليها ويحتمل أن المراد ما وصلها وغذاها
واكتفت به عن غيره فيكون دليلا على عدم تحريم
رضاع الكبير ويدل على أن المراد هذا قوله في
الحديث وكان قبل الفطام فإنه يراد به قبل
الحولين كما ورد في هذا الحديث الآخر إن ابني
إبراهيم مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة
وتقدم الكلام في الأمرين ويدل لهذا الأخير
قوله
8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع
إلا في الحولين رواه الدارقطني وابن عدي
مرفوعا وموقوفا ورجحا الموقوف لأنه تفرد برفعه
الهيثم بن جميل عن ابن عيينة قاله الدارقطني
وقال وكان ثقة حافظا ورواه سعيد بن منصور عن
ابن عيينة فوقفه قلت وهذا ليس بعلة كما قررناه
مرارا وقال ابن عدي إن الهيثم كان يغلط وقال
البيهقي الصحيح إنه موقوف وروى البيهقي
التحديد بالحولين عن عمر وابن مسعود
(3/217)
والحديث دال
على اعتبار الحولين وأنه لا يسمى الرضاع رضاعا
إلا في الحولين وقد تقدم أنه الذي دلت عليه
الآية والقول بأنها إنما دلت على حكم الواجب
من النفقة ونحوها لا على مدة الرضاع تقدم دفعه
ويدل لهذا الحكم قوله
9- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما
أنشز" بشين معجمة فزاي أي شد " وقوي العظم
وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود فإن ذلك إنما
يكون لمن هو في سن الحولين ينمو باللبن ويقوى
به عظمه وينبت عليه لحمه
10- وعن عقبة بن الحارث وهو أبو سروعة عقبة بن
الحارث بن عامر القرشي النوفلي أسلم يوم الفتح
يعد في أهل مكة أنه تزوج أم يحيي بنت أبي إهاب
بكسر الهمزة فجاءت امرأة قال المصنف لم أعرف
اسمها فقالت قد أرضعتكما فسأل النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: "كيف وقد قيل" ففارقها عقبة
فنكحت زوجا غيره أخرجه البخاري الحديث دليل
على أنه شهادة المرضعة وحدها تقبل وبوب على
ذلك البخاري وإليه ذهب ابن عباس وجماعة من
السلف و أحمد بن حنبل وقال أبو عبيد يجب على
الرجل المفارقة ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك
وقال مالك إنه لا يقبل في الرضاع إلا امرأتان
وذهب الهادوية والحنفية إلى أن الرضاع كغيره
لا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا
تكفي شهادة المرضعة لأنها تقرر فعلها وقال
الشافعي تقبل شهادة المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط
أن لا تعرض بطلب أجرة قالوا وهذا الحديث محمول
على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه وأجيب
بأن هذا خلاف الظاهر سيما وقد تكرر سؤاله
للنبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وأجابه
بقوله "كيف وقد قيل" وفي بعض ألفاظه "دعها"
وفي رواية الدارقطني "لا خير لك فيها" ولو كان
من باب الاحتياط لأمره بالطلاق مع أنه في جميع
الروايات لم يذكر الطلاق فيكون هذا الحكم
مخصوصا من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد
وقد اعتبرتم ذلك في عورات النساء فقلتم يكتفى
بشهادة أمرأة واحدة والعلة عندهم فيه أنه قلما
يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى
اعتباره فكذا هنا
11- وعن زياد السهمي قال: "نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقاء" خفيفة
العقل أخرجه أبو داود وهو مرسل وليس لزياد
البغوي ووجه النهي أن للرضاع تأثيرا في الطباع
فيختار من لا حماقة فيها ونحوها
(3/218)
باب النفقات
جمع نفقة والمراد بها الشيء الذي يبذله
الإنسان فيما يحتاجه هو أو غيره من الطعام
والشراب وغيرهما
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت هند بنت
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت
عام الفتح في مكة بعد إسلام زوجها قتل أبوها
عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد
(3/218)
ابن عتبة يوم
بدر فشق عليها ذلك فلما قتل حمزة فرحت بذلك
وعمدت إلى بطنه فشقته وأخذت كبده فلاكتها ثم
لفظتها توفيت في المحرم سنة أربع عشرة وقيل
غير ذلك امرأة أبي سفيان أبو سفيان بن حرب
اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس من رؤساء
قريش أسلم عام الفتح قبل إسلام زوجته حين
أخذته جند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم
الفتح وأجاره العباس ثم غدا به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأسلم وكانت وفاته في
خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا
سفيان رجل شحيح الشح البخل مع حرص فهو أخص من
البخل والبخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء
لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا
ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من
جناح فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك
ويكفي بنيك" متفق عليه الحديث فيه دليل على
جواز ذكر الإنسان بما يكره إذا كان على وجه
الاشتكاء والفتيا وهذا أحد المواضع التي
أجازوا فيها الغيبة ودل على وجوب نفقة الزوجة
والأولاد على الزوج وظاهره وإن كان الولد
كبيرا لعموم اللفظ وعدم الاستفصال فإن أتى ما
يخصصه من حديث آخر وإلا فالعموم قاض بذلك وفيه
دليل على أن الواجب الكفاية من غير تقدير
للنفقة وإلى هذا ذهب جماهير العلماء منهم
الهادي والشافعي وعليه دل قوله تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفي قول
للشافعي إنها مقدرة بالأمداد فعلى الموسر كل
يوم مدان والمتوسط مد ونصف والمعسر مد وعن
الهادي كل يوم مدان وفي كل شهر درهمان وعن أبي
يعلى الواجب من الخبز رطلان كل يوم في حق
المعسر والموسر وإنما يختلفان في صفته وجودته
لأن الموسر والمعسر مستويان في قدر المأكول
وإنما يختلفان في الجودة وغيرها قال النووي
وهذا الحديث حجة على من اعتبر التقدير قال
المصنف تعقبا له ليس صريحا في الرد عليهم ولكن
التقدير بما ذكر محتاج إلى دليل فإن ثبت حملت
الكفاية في ذلك الحديث على ذلك المقدار وفي
قولها إلا ما أخذت من ماله دليل على أن للأم
ولاية في الإنفاق على أولادها مع تمرد الأب
وعلى أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له أن
يأخذه لأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على
الأخذ في ذلك ولم يذكر لها أنه حرام وقد سألته
هل عليها جناح فأجاب بالإباحة في المستقبل
وأقرها على الأخذ في الماضي وقد ورد في بعض
ألفاظه في البخاري "لا حرج عليك أن تطعميهم
بالمعروف" وقوله "خذي ما يكفيك وولدك" يحتمل
أنه فتيا منه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه
حكم وفيه دليل على الحكم على الغائب من دون
نصب وكيل عنه وعليه بوب البخاري باب القضاء
على الغائب وذكر هذا الحديث لكنه قال النووي
شرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد
أو متعززا لا يقدر عليه أو متعذرا ولم يكن أبو
سفيان فيه شيء من هذه بل كان حاضرا إلا أنه قد
أخرج الحاكم في تفسير الممتحنة في المستدرك
أنه صلى الله عليه وسلم لما اشترط في البيعة
على النساء ولا يسرقن قالت هند لا أبايعك على
السرقة
(3/219)
إني أسرق من
زوجي فكف حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها
منه فقال أما الرطب فنعم وأما اليابس فلا وهذا
المذكور يدل على أنه قضى على حاضر إلا إنه
خلاف ما بوب له البخاري والحاصل أن القصة
مترددة بين كونه فتيا وبين كونه حكما وكونه
فتيا أقرب لأنه لم يطالبها ببينة ولا استحلفها
وقد قيل إنه حكم بعلمه بصدقها فلم يطلب منها
بينة ولا يمينا فهو حجة لمن يقول إنه يحكم
الحاكم بعلمه إلا أنه مع الاحتمال لا ينهض
دليلا على معين من صور الاحتمال إنما يتم به
الاستدلال على وجوب النفقة على الزوج للزوجة
وأولاده وعلى أن لها الأخذ من ماله إن لم يقم
بكفايتها وهو الحكم الذي أراده المصنف من
إيراد الحديث هذا هنا في باب النفقات
2- وعن طارق المحاربي هو طارق بن عبد الله
المحاربي بضم المميم وحاء مهملة روى عنه جامع
بن شداد وربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر
العين المهملة وتشديد المثناة التحتية ابن
حراش بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء والشين
المعجمة قال قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس
ويقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك
وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك" رواه
النسائي وصححه ابن حبان والدارقطني الحديث
كالتفسير لحديث اليد العليا خير من اليد
السفلى وفسر في النهاية بالمعطية أو المنفقة
واليد السفلى بالمانعة أو السائلة وقوله ابدأ
بمن تعول دليل على وجوب الإنفاق على القريب
وقد فصله بذكر الأم قبل الأب إلى آخر ما ذكره
فدل هذا الترتيب على أن الأم أحق من الأب
بالبر قال القاضي عياض وهو مذهب الجمهور ويدل
له ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة فذكر
الأم ثلاث مرات ثم ذكر الأب معطوفا بثم فمن لا
يجد إلا كفاية لأحد أبويه خص بها الأم
للأحاديث هذه وقد نبه القرآن على زيادة حق
الأم في قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} وفي قوله وأختك
وأخاك ثم أدناك إلى آخره دليل على وجوب
الإنفاق للقريب المعسر فإنه تفصيل لقوله وابدأ
بمن تعول فجعل الأخ من عياله وإلى هذا ذهب عمر
وابن أبي ليلى وأحمد والهادي ولكنه اشترط في
البحر أن يكون القريب وارثا مستدلا بقوله
تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
واللام للجنس وعند الشافعي أن النفقة تجب
لفقير غير مكتسب زمنا أو صغيرا أو مجنونا
لعجزه عن كفاية نفسه قالوا فإن لم يكن فيه
إحدى هذه الصفات الثلاث فأقوال أحسنها تجب
لأنه يقبح أن يكلف التكسب مع اتساع مال قريبه
والثاني المنع للقدرة على الكسب فإنه نازل
منزلة المال الثالث أنه يجب نفقة الأصل على
الفرع دون العكس لأنه ليس من المصاحبة
بالمعروف أن يكلف أصله التكسب مع علو السن
وعند الحنفية يلزم التكسب لقريب محرم فقير
عاجز عن الكسب بقدر الإرث هكذا في كتب
الفريقين وفي البحر نقل عنهم ما يخالف هذا
وهذه أقوال لم يسفر فيها وجه الاستدلال وفي
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}
ما يشعر بأن للقريب حقا على قريبه والحقوق
متفاوته فمع حاجته للنفقة تجب ومع عدمها فحقه
الإحسان بغيرها من البر والإكرام
(3/220)
والحديث
كالمبين لذوي القربى ودرجاتهم فيجب الإنفاق
للمعسر على الترتيب في الحديث ولم يذكر فيه
الولد والزوجة لأنهما قد علما من دليل آخر وهو
الحديث الأول والتقييد بكونه وارثا محل توقف
واعلم أن للعلماء خلافا في سقوط نفقة الماضي
فقيل تسقط للزوجة والأقارب وقيل لا تسقط وقيل
تسقط نفقة القريب دون الزوجة وعللوا هذا
التفصيل بأن نفقة القريب إنما شرعت للمواساة
لا لأجل إحياء النفس وهذا قد انتفى بالنظر إلى
الماضي وأما نفقة الزوجة فهي واجبة لأجل
المواساة ولذا تجب مع غنى الزوجة ولإجماع
الصحابة على عدم سقوطها فإن تم الإجماع فلا
التفات إلى خلاف من خالف بعده وقد قال صلى
الله عليه وسلم ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف فمهما كانت زوجة مطيعة فهذا الحق
الذي لها ثابت وأخرج الشافعي بإسناد جيد عن
عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد
في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأمروهم
بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة
ما حبسوا وصححه الحافظ أبو حاتم الرازي ذكره
ابن كثير في الإرشاد
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك والمملوكة
على السيد طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا
ما يطيق" رواه مسلم الحديث دليل على ما هو
مجمع عليه من وجوب نفقة المملوك وكسوته وظاهره
مطلق الطعام والكسوة فلا يجبان من عين ما
يأكله السيد ويلبسه وحديث مسلم بالأمر
بإطعامهم مما يطعم وكسوتهم مما يلبس محمول على
الندب ولولا ما قيل من الإجماع على هذا لاحتمل
أن هذا يقيد مطلق حديث الكتاب ودل على أنه لا
يكلفه السيد من الأعمال إلا ما يطيقه وهذا
مجمع عليه أيضا
4- وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه معاوية
بن حيدة قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها
إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت" الحديث وتقدم في
عشرة النساء بتمامه ونسبه إلى أحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه وأنه علق البخاري بعضه
وصححه ابن حبان والحاكم وتقدم الكلام عليه
5- وعن جابر في حديث الحج بطوله قال في ذكر
النساء "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"
أخرجه مسلم وهو دليل على وجوب النفقة والكسوة
للزوجة كما دلت له الآية وهو مجمع عليه وقد
تقدم تحقيقه وقوله بالمعروف إعلام بأنه لا يجب
إلا ما تعورف من إنفاق كل على قدر حاله كما
قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا
آتَاهَا} ثم الواجب لها طعام مصنوع لأنه الذي
يصدق عليه أنه نفقة ولا تجب القيمة إلا برضا
من يجب عليه الإنفاق وقد طول ذلك ابن القيم في
الهدي النبوي واختاره وهو الحق فإنه قال ما
لفظه وأما فرض
(3/221)
الدراهم فلا
أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابه
البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه
أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة
الإسلام والله تعالى أوجب نفقة الأقارب
والزوجات والرقيق بالمعروف وليس من المعروف
فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه الشرع أن
يكسوهم مما يلبس ويطعمهم مما يأكل وليست
الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض
عما لم يستقر ولم يملك فإن نفقة الأقارب
والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت مستقرة
لم تصح المعاوضة عنها بغير رضا الزوج والقريب
فإن الدراهم تجعل عوضا عن الواجب الأصلي وهو
إما البر عند الشافعي أو المقتات عند الجمهور
فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير
رضا ولا إجبار الشرع له على ذلك فهذا مخالف
لقواعد الشرع ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن
إن اتفق المنفق والمنفق عليه جاز باتفاقهما
على أن في اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة
لها نزاعا معروفا في مذهب الشافعي وغيره
6- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى
بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" رواه النسائي
وهو عند مسلم بلفظ أن يحبس عمن يملك قوته
الحديث دليل على وجوب النفقة على الإنسان لمن
يقوته فإنه لا يكون آثما إلا على تركه لما يجب
عليه وقد بولغ هنا في إثمه بأن جعل ذلك الإثم
كافيا في هلاكه عن كل إثم سواه والذين يقوتهم
ويملك قوتهم هم الذي يجب عليه الإنفاق عليهم
وهم أهله وأولاده وعبيده على ما سلف تفصيله
ولفظ مسلم خاص بقوت المماليك ولفظ النسائي عام
7- وعن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها
زوجها قال لا نفقة لها أخرجه البيهقي ورجاله
ثقات لكن قال المحفوظ وقفه وثبت نفي النفقة في
حديث فاطمة بنت قيس كما تقدم رواه مسلم وتقدم
أنه في حق المطلقة بائنا وأنه لا نفقة لها
وتقدم الكلام فيه والكلام هنا في نفقة المتوفى
عنها زوجها وهذه المسألة فيها خلاف ذهب جماعة
من العلماء إلى أنها لا تجب النفقة للمتوفى
عنها سواء كانت حاملا أو حائلا أما الأولى
فلهذا النص وأما الثانية فبطريق الأولى وإلى
هذا ذهبت الشافعية والحنفية والمؤيد لهذا
الحديث ولأن الأصل براءة الذمة ووجوب التربص
أربعة أشهر وعشرا لا يوجب النفقة وذهب آخرون
منهم الهادي إلى وجوب النفقة لها مستدلين
بقوله متاعا إلى الحول قالوا ونسخ المدة من
الآية لا يوجب نسخ النفقة ولأنها محبوسة بسببه
فتجب نفقتها وأجيب بأنها كانت تجب النفقة
بالوصية كما دل لها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ
مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} فنسخت الوصية
بالمتاع إما بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً} وإما بآية المواريث وإما بقوله صلى
الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"
(3/222)
وأما قوله
تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإنها واردة في
المطلقات فلا تتناول المتوفى عنها وفي سنن أبي
داود من حديث ابن عباس أنها نسخت آية
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى
الحول بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع
والثمن ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة
أشهر وعشرا وأما ذكر المصنف حديث فاطمة بنت
قيس فكأنه يريد أن البائن والمتوفى عنها
حكمهما واحد بجامع البينونة والحل للغير
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " اليد العليا خير
من اليد السفلى" تقدم تفسيرهما "ويبدأ" أي في
البر والإحسان أحدكم "بمن يعول تقول المرأة
أطعمني أو طلقني" رواه الدارقطني وإسناده حسن
أخرجه من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة
إلا أن في حفظ عاصم شيئا وأخرجه البخاري
موقوفا على أبي هريرة وفي رواية الإسماعيلي
قالوا يا أبا هريرة شيء تقوله عن رأيك أو عن
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا من
كيسي إشارة إلى أنه من استنباطه هكذا قاله
الناظرون في الأحاديث والذي يظهر بل ويتعين أن
أبا هريرة لما قال لهم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم قالوا هذا شيء تقوله عن رأيك أو
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله
من كيسي جواب المتهكم بهم لا مخبرا أنه لم يكن
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يصح حمل
قوله من كيس أبي هريرة على أنه أراد به
الحقيقة وقد قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فينسب استنباطه إلى قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهل هذا إلا كذب منه على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحاشا أبا هريرة من
ذلك فهو من رواة حديث "من كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار" فالقرائن واضحة أنه
لم يرد أبو هريرة إلا التهكم بالسائل ولذا
قلنا إنه يتعين أن هذا مراده والذي أتى به
المصنف من الرواية بعض حديثه على أنه فسر قوله
من كيس أبي هريرة أي من حفظه وعبر عنه بالكيس
إشارة إلى ما في صحيح البخاري وغيره من أنه
بسط ثوبه أو نمرة كانت عليه فأملاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديثا كثيرا ثم لفه فلم
ينس منه شيئا كأنه يقول ذلك الثوب صار كيسا
وأشرنا لك إلى أنه لم يأت المصنف بحديث أبي
هريرة تاما وتمامه في البخاري ويقول العبد
أطعمني واستعملني وفي رواية الإسماعيلي ويقول
خادمك أطعمني وإلا بعني ويقول الابن إلى من
تدعني والكل دليل على وجوب الإنفاق على من ذكر
من الزوجة والمملوك والولد وقد تقدم ذلك ودل
على أنه يجب نفقة العبد وإلا وجب بيعه وإيجاب
نفقة الولد على أبيه وإن كان كبيرا قال ابن
المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا
مال له ولا كسب فأوجب طائفة النفقة لجميع
الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا أو
ذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن
الآباء وذهب الجمهور إلى أن الواجب الإنفاق
عليه إلى أن يبلغ الذكر وتتزوج الأنثى ثم لا
نفقة على الأب إلا إذا كانوا زمنى فإن كانت
لهم أموال فلا وجوب على الأب واستدل به على أن
للزوجة إذا أعسر زوجها بنفقتها طلب الفراق
ويدل له قوله
(3/223)
9- وعن سعيد بن
المسيب رضي الله عنه في الرجل لا يجد ما ينفق
على أهله قال يفرق بينهما أخرجه سعيد بن منصور
عن سفيان عن أبي الزناد عنه رضي الله عنه قال
قلت لسعيد بن المسيب سنة فقال سنة وهذا مرسل
قوي ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من أنه لا
يرسل إلا عن ثقة قال الشافعي والذي يشبه أن
يكون قول سعيد سنة سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأما قول ابن حزم لعله أراد سنة عمر
فإنه خلاف الظاهر وكيف يقول له السائل سنة
ويريد سؤاله عن سنة عمر هذا مما لا ينبغي حمل
الكلام عليه وهل سأل السائل إلا عن سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال جماعة إنه
إذا قال الراوي من السنة كذا فإنه يحتمل أن
يريد سنة الخلفاء وأما بعد سؤال الراوي فلا
يريد السائل إلا سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا يجيب المجيب إلا عنها لا عن سنة غيره
لأنه إنما سأل عما هو حجة وهو سنته صلى الله
عليه وسلم وقد أخرج الدارقطني والبيهقي من
حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على
امرأته قال يفرق بينهما وأما دعوى المصنف إنه
وهم الدارقطني وتبعه البيهقي على الوهم فهو
غير صحيح وقد حققناه في حواشي ضوء النهار
وسيأتي كتاب عمر إلى أمراء الأجناد في أنهم
يأخذون على من عندهم من الأجناد أن ينفقوا أو
يطلقوا وقد اختلف العلماء في هذا الحكم وهو
فسخ الزوجية عند إعسار الزوج على أقوال الأول
ثبوت الفسخ وهو مذهب علي وعمر وأبي هريرة
وجماعة من التابعين ومن الفقهاء مالك والشافعي
وأحمد وبه قال أهل الظاهر مستدلين بما ذكر
وبحديث لا ضرر ولا ضرار تقدم تخريجه وبأن
النفقة في مقابل الاستمتاع بدليل أن الناشز لا
نفقة لها عند الجمهور فإذا لم تجب النفقة سقط
الاستمتاع فوجب الخيار للزوجة وبأنهم قد
أوجبوا على السيد بيع مملوكه إذا عجز عن
إنفاقه فإيجاب فراق الزوجة أولى لأن كسبها ليس
مستحقا للزوج كاستحقاق السيد لكسب عبده وبأنه
قد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على الفسخ
بالعنة والضرر الواقع من العجز عن النفقة أعظم
من الضرر الواقع بكون الزوج عنينا وبأنه تعالى
قال: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} وقال:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} وأي إمساك بمعروف وأي ضرر أشد من
تركها بغير نفقة والثاني ما ذهب إليه الهادوية
والحنفية وهو قول للشافعي أنه لا فسخ بالإعسار
من النفقة مستدلين بقوله تعالى: {وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا مَا آتَاهَا} قالوا وإذا لم يكلفه الله
النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه
ولا يأثم بتركه فلا يكون سببا للتفريق بينه
وبين سكنه وبأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى
الله عليه وسلم لما طلب أزواجه منه النفقة قام
أبو بكر وعمر إلى عائشة وحفصة فوجا أعناقهما
وكلاهما يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما ليس عنده الحديث قالوا فهذا أبو بكر
وعمر يضربان بنتيهما بحضرته صلى الله عليه
وسلم لما سألتاه النفقة التي لا يجدها فلو كان
الفسخ لهما وهما طالبتان للحق لم يقر النبي
صلى الله عليه وسلم الشيخين على ما فعلا ولبين
(3/224)
أن لهما أن
تطالبا مع الإعسار حتى تثبت على تقدير ذلك
المطالب بالفسخ ولأنه كان في الصحابة المعسر
بلا ريب ولم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أحدا منهم بأن للزوجة الفسخ ولا فسخ أحد قالوا
ولأنها لو مرضت الزوجة وطال مرضها حتى تعذر
على الزوج جماعها لوجبت نفقتها ولم يمكن من
الفسخ وكذلك الزوج فدل أن الإنفاق ليس في
مقابلة الاستمتاع كما قلتم وأما حديث أبي
هريرة فقد بين أنه من كيسه وحديثه الآخر لعله
مثله وحديث سعيد مرسل وأجيب بأن الآية إنما
دلت على سقوط الوجوب عن الزوج وبه نقول وأما
الفسخ فهو حق للمرأة تطالب به وبأن قصة أزواجه
صلى الله عليه وسلم وضرب أبي بكر وعمر إلى آخر
ما ذكرتم هي كالآية دلت على عدم الوجوب عليه
صلى الله عليه وسلم وليس فيه أنهن سألن الطلاق
أو الفسخ ومعلوم أنهن لا يسمحن بفراقه فإن
الله تعالى قد خيرهن فاخترن رسول الله صلى
الله عليه وسلم والدار الآخرة فلا دليل فى
القصة وأما إقراره لأبي بكر وعمر على ضربهما
فلما علم من أن للآباء تأديب الأبناء إذا أتوا
ما لا ينبغي ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا
يفرط فيما يجب عليه من الإنفاق فلعلهن طلبن
زيادة على ذلك فتخرج القصة عن محل النزاع
بالكلية وأما المعسرون من الصحابة فلم يعلم أن
امرأة طلبت الفسخ أو الطلاق لإعسار الزوج
بالنفقة ومنعها عن ذلك حتى تكون حجة بل كان
نساء الصحابة كرجالهن يصبرن على ضنك العيش
وتعسره كما قال مالك إن نساء الصحابة كن يردن
الآخرة وما عند الله تعالى ولم يكن مرادهن
الدنيا فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن وأما نساء
اليوم فإنما يتزوجن رجاء الدنيا من الأزواج
والنفقة والكسوة وأما حديث ابن المسيب فقد
عرفت أنه من مراسيله وأئمة العلم يختارون
العمل بها كما سلف فهو موافق لحديث أبي هريرة
المرفوع الذي عاضده مرسل سعيد ولو فرض سقوط
حديث أبي هريرة ففيما ذكرناه غنية عنه
والقول الثالث: أنه يحبس الزوج إذا أعسر
بالنفقة حتى يجد ما ينفق وهو قول العنبري
وقالت الهادوية: يحبس للتكسب والقولان مشكلان
لأن الواجب إنما هو الغداء في وقته والعشاء في
وقته فهو واجب في وقته فالحبس إن كان في خلال
وجوب الواجب فهو مانع عنه فيعود على الغرض
المراد بالنقض وإن كان قبله فلا وجوب فكيف
يحبس لغير واجب وإن كان بعده صار كالدين ولا
يحبس له مع ظهور الإعسار اتفاقا وفي هذه
المسألة قال محمد بن داود لامرأة سألته عن
إعسار زوجها فقال ذهب ناس إلى أنه يكلف السعي
والاكتساب وذهب قوم إلى أنها تؤمر المرأة
بالصبر والاحتساب فلم تفهم منه الجواب فأعادت
السؤال وهو يجيبها ثم قال يا هذه قد أجبتك
ولست قاضيا فأقضي ولا سلطانا فأمضي ولا زوجا
فأرضي وظاهر كلامه الوقف في هذه المسألة فيكون
قولا رابعا
القول الخامس: أن الزوجة إذا كانت موسرة
وزوجها معسر كلفت الإنفاق على زوجها ولا ترجع
عليه إذا أيسر لقوله تعالى: {وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وهو قول أبي محمد
بن حزم ورد بأن الآية سياقها في نفقة المولود
الصغير ولعله لا يرى التخصيص بالسياق القول
السادس لابن القيم وهو أن المرأة إذا تزوجت
عالمة بإعساره أو كان موسرا ثم أصابته جائحة
فإنه
(3/225)
لا فسخ لها
وإلا كان لها الفسخ وكأنه جعل علمها رضا
بعسرته ولكن حيث كان موسرا ثم تزوجه ثم أعسر
للجائحة لا يظهر وجه عدم ثبوت الفسخ لها وإذا
عرفت هذه الأقوال عرفت أن أقواها دليلا
وأكثرها قائلا هو القول الأول وقد اختلف
القائلون بالفسخ في تأجيله بالنفقة فقال مالك
يؤجل شهرا وقال الشافعي ثلاثة أيام وقال حماد
سنة وقيل شهرا أو شهرين قلت ولا دليل على
التعيين بل ما يحصل به التضرر الذي يعلم ومن
قال إنه يجب عليه التطليق قال ترافعه الزوجة
إلى الحاكم لينفق أو يطلق وعلى القول بأنه فسخ
ترافعه إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي
وقيل ترافعه إلى الحاكم ليجبره على الطلاق أو
يفسخ عليه أو يأذن لها في الفسخ فإن فسخ أو
أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له وإن
أيسر في العدة فإن طلق كان طلاقا رجعيا له فيه
الرجعة
10- وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء
الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم أن يأخذوهم
بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة
ما حبسوا أخرجه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن
تقدم تحقيق وجه هذا الرأي من عمر وأنه دليل
على أن النفقة عنده لا تسقط بالمطل في حق
الزوجة وعلى أنه يجب أحد الأمرين على الأزواج
الإنفاق أو الطلاق
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله عندي دينار قال: "أنفقه على نفسك"
قال: عندي آخر قال :"أنفقه على ولدك" قال:
عندي آخر قال: "أنفقه على أهلك" قال عندي آخر
قال: "أنفقه على خادمك" قال عندي آخر قال
:"أنت أعلم" أخرجه الشافعي وأبو داود واللفظ
له وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على
الولد وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم
الزوجة على الولد من غير تردد وقال المصنف قال
ابن حزم اختلف على يحيى القطان والثوري فقدم
يحيى الزوجة على الولد وقدم سفيان الولد على
الزوجة فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر بل
يكونان سواء لأنه قد صح أنه صلى الله عليه
وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثا فيحتمل أن يكون
في إعادته قدم الولد مرة ومرة قدم الزوجة
فصارا سواء قلت هذا حمل بعيد فليس تكريره صلى
الله عليه وسلم لما يقوله ثلاثا بمطرد بل عدم
التكرير غالب وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه ومثل
هذا الحديث جواب سؤال لا يجري فيه التكرير
لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب عند
رواية جابر التي لا تردد فيها تقوي رواية
تقديم الأهل والحديث قد تقدم وفيه حث على
إنفاق الإنسان ما عنده وأنه لا يدخر لأنه قال
له في الآخر بعد كفايته وكفاية من يجب عليه
أنت أعلم ولم يقل ادخر لحاجتك وإن كانت هذه
العبارة تحتمل ذلك
12- وعن بهز بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاي
ابن حكيم عن أبيه حكيم عن جده معاوية بن حيدة
القشيري صحابي تقدم ضبطه قال قلت يا رسول الله
من أبر؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك"
قلت ثم من؟ قال "أمك" قلت ثم من؟
(3/226)
قال "أباك ثم
الأقرب فالأقرب" أخرجه أبو داود والترمذي
وحسنه وأخرجه الحاكم وتقدم الكلام عليه وأنه
يقتضي تقديم الأم بالبر وأحقيتها به على الأب
(3/227)
باب الحضانة
بكسر الحاء المهملة مصدر من حضن الصبي حضنا
وحضانة جعله في حضنه أو رباه فاحتضنه والحضن
بكسر الحاء هو ما دون الإبط إلى الكشح والصدر
أو العضدان وما بينهما وجانب الشيء أو ناحيته
كما في القاموس وفي الشرع حفظ من لا يستقل
بأمره وتربيته ووقايته عما يهلكه أو يضره
1- عن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة ووقع
بضمها في نسخة وهو غلط أن امرأة قالت يا رسول
الله إن ابني هذا كانت بطني له وعاء بكسر
الواو والمد وقد يضم ويقال الإعاء الظرف كما
في القاموس وثديي له سقاء هو ككساء جلد السخلة
إذا أجذع يكون للماء واللبن كما فيه أيضا
وحجري بحاء مهملة مثلثة فجيم فراء حضن الإنسان
له حواء بحاء مهملة بزنة كساء أيضا اسم المكان
الذي يحوي الشيء أي يضمه ويجمعه وإن أباه
طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي"
رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم الحديث دليل
على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا أراد الأب
انتزاعه منها وقد ذكرت هذه المرأة صفات اختصت
بها تقتضي استحقاقها وأولويتها بحضانة ولدها
وأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك وحكم لها
ففيه تنبيه على المعنى المقتضي للحكم وأن
العلل والمعاني المعتبرة في إثبات الأحكام
مستقرة في الفطر السليمة والحكم الذي دل عليه
الحديث لا خلاف فيه وقضى به أبو بكر ثم عمر
وقال ابن عباس ريحها وفراشها وحرها خير له منك
حتى يشب ويختار لنفسه أخرجه عبد الرزاق في قصة
ودل الحديث على أن الأم إذا نكحت سقط حقها من
الحضانة وإليه ذهب الجماهير قال ابن المنذر
أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم
وذهب الحسن وابن حزم إلى عدم سقوط الحضانة
بالنكاح واستدل بأن أنس بن مالك كان عند
والدته وهي مزوجة وكذا أم سلمة تزوجت بالنبي
صلى الله عليه وسلم وبقي ولدها في كفالتها
وكذا ابنة حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه
وسلم لخالتها وهي مزوجة قال وحديث ابن عمرو
المذكور فيه مقال فإنه صحيفة يريد لأنه قد قيل
إن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيفة
وأجيب عنه بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة
وعملوا به البخاري وأحمد وابن المديني
والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم فلا يلتفت
إلى القدح فيه وأما ما احتج به فإنه لا يتم
دليلا إلا مع طلب من تنتقل إليه الحضانة
ومنازعته وأما مع عدم طلبه فلا نزاع في أن
للأم المزوجة أن تقوم بولدها ولم يذكر في
القصص المذكورة أنه حصل نزاع في ذلك فلا دليل
فيما ذكره على ما ادعاه
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة قالت
يا رسول الله إن زوجي يريد
(3/227)
أن يذهب بابني
وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة بكسر العين
المهملة واحدة حبات العنب فجاء زوجها فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام هذا أبوك
وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه
فانطلقت به" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي
وصححه ابن القطان والحديث دليل على أن الصبي
بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب
واختلف العلماء في ذلك فذهب جماعة قليلة إلى
أنه يخير الصبي عملا بهذا الحديث وهو قول
إسحاق بن راهويه وحد التخيير من السبع السنين
وذهبت الهادوية والحنفية إلى عدم التخيير
وقالوا الأم أولى به إلى أن يستغني بنفسه فإذا
استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والأم أولى
بالأنثى ووافقهم مالك في عدم التخيير لكنه قال
إن الأم أحق بالولد ذكرا كان أو أنثى قيل حتى
يبلغ وفي المسألة تفاصيل بلا دليل واستدل نفاة
التخيير بعموم حديث أنت أحق به ما لم تنكحي
قالوا ولو كان الاختيار إلى الصغير ما كانت
أحق به وأجيب بأنه إن كان عاما في الأزمنة أو
مطلقا فيها فحديث التخيير يخصصه أو يفيده وهذا
جمع بين الدليلين فإن لم يختر الصبي أحد أبويه
فقيل يكون للأم بلا قرعة لأن الحضانة حق لها
وإنما ينقل عنها باختياره فإذا لم يخير بقي
على الأصل وقيل وهو الأقوى دليلا أنه يقرع
بينهما إذ قد جاء في القرعة حديث أبي هريرة
بلفظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم استهما
فقال الرجل من يحول بيني وبين ولدي فقال صلى
الله عليه وسلم اختر أيهما شئت فاختار أمه
فذهبت به أخرجه البيهقي وظاهره تقديم القرعة
على الاختيار لكن قدم الإختيار عليها لعمل
الخلفاء الراشدين به إلا أنه قال في الهدي
النبوي إن التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا
حصلت به مصلحة الولد فلو كانت الأم أصون من
الأب وأغير منه قدمت عليه ولا التفات إلى قرعة
ولا اختيار الصبي في هذه الحالة فإنه ضعيف
العقل يؤثر البطالة واللعب فإذا اختار من
يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره وكان
عنده من هو أنفع له ولا تحتمل الشريعة غير هذا
والنبي صلى الله عليه وسلم قال مروهم بالصلاة
لسبع واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في
المضاجع والله يقول:{قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} فإذا كانت الأم تتركه
في المكتب أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب
ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنها أحق
به ولا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس انتهى وهذا
كلام حسن
3- وعن رافع بن سنان رضي الله عنه أنه أسلم و
أبت امرأته أن تسلم فأقعد النبي صلى الله عليه
وسلم الأم في ناحية والأب في ناحية وأقعد
الصبي بينهما فمال إلى أمه فقال اللهم اهده
فمال إلى أبيه فأخذه أخرجه أبو داود والنسائي
وصححه الحاكم إلا أنه قال ابن المنذر لا يثبته
أهل النقل وفي إسناده مقال وذلك لأنه من رواية
عبد الحميد بن جعفر بن رافع ضعفه الثوري ويحيى
بن معين واختلف في هذا الصبي فقيل إنه أنثى
وقيل ذكر والحديث ليس فيه تخيير الصبي والظاهر
أنه لم يبلغ سن التخيير فإنه إنما أقعده صلى
الله عليه وسلم بينهما ودعا أن يهديه الله
فاختار أباه لأجل الدعوة النبوية فليس من أدلة
التخيير
(3/228)
وفي الحديث
دليل على ثبوت حق الحضانة الأم الكافرة وإن
كان الولد مسلما إذ لو لم يكن لها حق لم يقعده
النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وإلى هذا ذهب
أهل الرأي و الثوري وذهب الجمهور إلى أنه لا
حق لها مع كفرها قالوا لان الحاضن يكون حريصا
على تربية الطفل على دينه ولأن الله تعالى قطع
الموالاة بين الكافرين والمسلمين وجعل
المؤمنين بعضهم أولى ببعض وقال ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا والحضانة ولاية
لا بد فيها من مراعاة مصلحة المولى عليه كما
عرفت قريبا وحديث رافع قد عرفت عدم انتهاضه
وعلى القول بصحته فهو منسوخ بالآيات القرآنية
هذه وكيف تثبت الحضانة للأم الكافرة مثلا وقد
اشترط الجمهور وهم الهادوية وأصحاب أحمد و
الشافعي عدالة الحاضنة وأنه لا حق للفاسقة
فيها وإن كان شرطا في غاية من البعد ولو كان
شرطا في الحاضنة لضاع أطفال العالم ومعلوم أنه
لم ينزل منذ بعث الله رسوله صلى الله عليه
وسلم إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم
يربونهم لا يتعرض لهم أحد من أهل الدنيا مع
أنهم الأكثرون ولا يعلم إنه انتزع طفل من
أبويه أو أحدهما لفسقه فهذا الشرط باطل لعدم
العمل به نعم يشترط كون الحاضن عاقلا بالغا
فلا حضانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل إذ هؤلاء
يحتاجون لمن يحضنهم ويكفيهم وأما اشتراط حرية
الحاضن فقالت به الهادوية وأصحاب الأئمة
الثلاثة وقالوا لأن المملوك لا ولاية له على
نفسه فلا يتولى غيره والحضانة ولاية وقال مالك
في حر له ولد من أمته إن الأم أحق به ما لم
تبع فتنتقل فيكون الأب أحق به واستدل بعموم
حديث "لا توله والدة عن ولدها" وحديث "من فرق
بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته
يوم القيامة" أخرج الأول البيهقي من حديث أبي
بكر وحسنة السيوطي وأخرج الثاني أحمد والترمذي
والحاكم من حديث أبي أيوب وصححه الحاكم قال
ومنافعها وإن كانت مملوكة للسيد فحق الحضانة
مستثنى وإن استغرق وقتا من ذلك كالأوقات التي
تستثنى للمملوك في حاجة نفسه وعبادة ربه
4- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة لخالتها
وقال "الخالة بمنزلة الأم" أخرجه البخاري
وأخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه فقال
والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة والحديث
دليل على ثبوت الحضانة للخالة وأنها كالأم
ومقتضاه أن الخالة أولى من الأب ومن أم الأم
ولكن خص ذلك الإجماع وظاهره أن حضانة المرأة
المزوجة أولى من الرجال فإن عصبة المذكورة من
الرجال موجودون طالبون للحضانة كما دلت له
القصة واختصام علي رضي الله عنه وجعفر وزيد بن
حارثة وقد سبقت وأنه قضى بها للخالة وقال
الخالة بمنزلة الأم وقد وردت رواية في القصة
أنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لجعفر فاستشكل
القضاء بها لجعفر فإنه ليس محرما وهو وعلي رضي
الله عنهما سواء في القرابة لها وجوابه أنه
صلى الله عليه وسلم قضى بها لزوجة جعفر وهي
خالتها فإنها كانت تحت جعفر لكن لما كان
المنازع جعفرا
(3/229)
وقال في محل
الخصومة بنت عمي وخالتها تحتي أي زوجتي قضى
بها لجعفر لما كان هو المطالب ظاهرا وقال
الخالة بمنزلة الأم إبانة بأن القضاء للخالة
فمعنى قوله قضى بها لجعفر قضى بها لزوجة جعفر
وإنما أوقع القضاء عليه لأنه المطالب فلا
إشكال في هذا إلا أنه استشكل ثانيا بأن الخالة
مزوجة ولا حق لها في الحضانة لحديث أنت أحق به
ما لم تنكحي والجواب عنه أن الحق في المزوجة
للزوج وإنما تسقط حضانتها لأنها تشتغل بالقيام
بحقه وخدمته فإذا رضي الزوج بأنها تحضن من لها
حق في حضانته وأحب بقاء الطفل في حجره لم يسقط
حق المرأة من الحضانة وهذه القصة دليل الحكم
وهذا مذهب الحسن والإمام يحيى وابن حزم وابن
جرير ولأن النكاح للمرأة إنما يسقط حضانة الأم
وحدها حيث كان المنازع لها الأب وأما غيرها
فلا يسقط حقها من الحضانة بالتزويج أو الأم
والمنازع لا غير الأب يؤيده ما عرف من أن
المرأة المطلقة يشتد بغضها للزوج المطلق ومن
يتعلق به فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها
منه قصدا لإغاظته وتبالغ في التحبب عند الزوج
الثاني بتوفير حقه وبهذا يجتمع شمل الأحاديث
والقول بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لجعفر
وأنه دال على أن للعصبة حقا في الحضانة بعيد
لأنه وعليا رضي الله عنهما سواء في ذلك لأن
قوله صلى الله عليه وسلم الخالة أم صريح أن
ذلك علة القضاء ومعناه أن الأم لا تنازع في
حضانة ولدها فلا حق لغيرها
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم"
مفعول مقدم "خادمه" فاعل "بطعامه فليجلسه معه
فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين"
متفق عليه واللفظ للبخاري الخادم يطلق على
الذكر والأنثى أعم من أن يكون مملوكا أو حرا
وظاهر الأمر الإيجاب وأنه يناوله من الطعام ما
ذكر مخيرا وفيه بيان أن الحديث الذي فيه الأمر
بأن يطعمه مما يطعم ليس المراد به مؤاكلته ولا
أن يشبعه من عين ما يأكل بل يشركه فيه بأدنى
شيء من لقمة أو لقمتين قال ابن المنذر عن جميع
أهل العلم إن الواجب إطعام الخادم من غالب
القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلدة وكذلك
الإدام والكسوة وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس
من ذلك وإن كان الأفضل المشاركة وتمام الحديث
فإنه ولي حره وعلاجه فدل على أن ذلك يتعلق
بالخادم الذي له عناية في تحصيل الطعام فيندرج
في ذلك الحامل للطعام لوجود المعنى فيه وهو
تعلق نفسه به
6- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة " قال
المصنف" لم أقف على اسمها وفي رواية أنها
حميرية وفي رواية من بني اسرائيل "في هرة" هي
أنثى السنور والهر الذكر "سجنتها حتى ماتت
فدخلت النار فيها لا هي أطعمتها وسقتها " إذ
هي حبستها "ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"
بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وشينين
معجمتين بينهما ألف
(3/230)
والمراد هوام
الأرض متفق عليه والحديث دليل على تحريم قتل
الهرة لأنه لا عذاب إلا على فعل محرم ويحتمل
أن المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذابا
بسبب ذلك وقال النووي إنها كانت مسلمة إنما
دخلت النار بهذه المعصية وقال أبو نعيم في
تاريخ أصبهان كانت كافرة ورواه البيهقي في
البعث والنشور عن عائشة فاستحقت العذاب بكفرها
وظلمها وقال الدميري في شرح المنهاج: إن الأصح
أن الهرة يجوز قتلها حال عدوها دون هذه الحال
وجوز القاضي قتلها في حال سكونها إلحاقا لها
بالخمس الفواسق وفي الحديث دليل على جواز
اتخاذ الهرة وربطها إذا لم يهمل إطعامها قلت
ويدل على أنه لا يجب إطعام الهرة بل الواجب
تخليتها تبطش بنفسها
(3/231)
|