المتواري على أبواب البخاري

 (21 -] كتاب الْمَنَاسِك [)

(79 - (1) بَاب فِي الْحَج من أهلّ فِي زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كإهلال النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] )
قَالَه ابْن عمر عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
فِيهِ جَابر: أَمر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عليا - رَضِي الله عَنهُ - أَن يقوم على إِحْرَامه، وَذكر قَول سراقَة.
وَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : بِمَا أَهلَلْت يَا عَليّ؟ قَالَ: بِمَا أهل بِهِ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . قَالَ فأهد وامكث حَرَامًا، كَمَا أَنْت.
وَفِيه مَرْوَان الأضفر: عَن أنس قَالَ: قدم عَليّ على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، من الْيمن. فَقَالَ لَهُ: بِمَ أَهلَلْت؟ فَقَالَ: بِمَا أهل بِهِ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَقَالَ: لَوْلَا أَن معي الْهدى لأحللت.
وَفِيه أَبُو مُوسَى: بَعَثَنِي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى قومِي بِالْيمن، فَجئْت وَهُوَ بالبطحاء. فَقَالَ بِمَ أَهلَلْت؟ فَقَالَ: أَهلَلْت كإهلال النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . قَالَ: هَل مَعَك من هدى؟ قلت: لَا. قَالَ: فَأمرنِي فطفت بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة. ثمَّ أَمرنِي فأحللت، فَأتيت امْرَأَة من قومِي، فمشطتني وغسلت رَأْسِي. فَقدم عمر فَقَالَ: إِن نَأْخُذ بِكِتَاب الله فَهُوَ يَأْمر بالتمام. قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الحجّ وَالْعمْرَة لله}

(1/135)


] الْبَقَرَة: 196 [وَإِن نَأْخُذ بِسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فإنّه لم يحلّ حَتَّى نحر الْهَدْي.
قلت: رَضِي الله عَنْك! كأنّ البُخَارِيّ لما لم ير إِحْرَام التَّقْلِيد وَلَا الْإِحْرَام الْمُطلق، ثمَّ تعين بعد ذَلِك، أَشَارَ فِي التَّرْجَمَة بقوله: " بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، كإهلاله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " إِلَى أَن هَذَا خَاص بذلك الزَّمن، فَلَيْسَ لأحد أَن يحرم الْآن بِمَا أحرم بِهِ فلَان، بل لابد أَن يعين الْعِبَادَة الَّتِي نَوَاهَا. ودعت الْحَاجة إِلَى الْإِطْلَاق، وَالْحوالَة على إِحْرَامه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لِأَن عليا وَأَبا مُوسَى لم يكن عِنْدهمَا أصل يرجعان إِلَيْهِ فِي كَيْفيَّة الْإِحْرَام، فأحالاه على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَأما الْآن فقد استقرّت الْأَحْكَام وَعرفت كيفيات الْإِحْرَام. وَمذهب مَالك على الصَّحِيح جَوَاز ذَلِك. وَأَنه لَيْسَ خاصّاً بذلك الزَّمَان. وَالله أعلم.
(80 - (2) بَاب قَول الله عز وَجل: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا واجنبني وبنيّ أَن نعْبد الْأَصْنَام} [إِبْرَاهِيم: 37] الْآيَات وَقَوله عز وَجل: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما للنَّاس} [الْمَائِدَة: 97] الْآيَة.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يخّرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة ".

(1/136)


وَفِيه عَائِشَة: كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاء قبل أَن يفْرض رَمَضَان، وَكَانَ يَوْمًا تستر فِيهِ الْكَعْبَة، فَلَمَّا فرض الله رَمَضَان، قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : من شَاءَ فليصمه وَمن شَاءَ فليتركه.
وَفِيه أَبُو سعيد: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ليحجّن الْبَيْت، وليعتمرنّ بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج.
وَرُوِيَ شُعْبَة عَن قَتَادَة: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يحجّ الْبَيْت. وَالْأول أَكثر.
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِنَّمَا أَدخل خبر ذِي السويقتين تَحت التَّرْجَمَة بِالْآيَةِ، ليبين أَن الْأَمر الْمَذْكُور مَخْصُوص بالزمن الَّذِي شَاءَ الله فِيهِ الْأمان. وَإِذا شَاءَ رَفعه عِنْد خُرُوج ذِي السويقتين ثمّ إِذا شَاءَ أَعَادَهُ بعد. وَالله أعلم.

(1/137)


(81 - (3) بَاب كسْوَة الْكَعْبَة)
فِيهِ عمر: إِنَّه جلس على الْكُرْسِيّ فِي الْكَعْبَة. وَقَالَ: لقد ههمت أَن لَا أدع فِيهَا صفراء وَلَا بَيْضَاء إلاّ قسمته. قلت: إِن صاحبيك لم يفعلا. قَالَ: هما المرءان أقتدي بهما.
قلت: رَضِي الله عَنْك! يحْتَمل أَن يكون مَقْصُوده بالترجمة، التَّنْبِيه على أَن كسْوَة الْكَعْبَة مَشْرُوع ومأثور، فيحتج لذَلِك بِأَنَّهَا لم تزل تقصد بِالْمَالِ يوضع فِيهَا على معنى الزِّينَة وَالْجمال، إعظاماً لحرمتها فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، فالكسوة من هَذَا الْقَبِيل.
وَيحْتَمل أَن يُرِيد التَّنْبِيه على حكم الْكسْوَة، وَهل يجوز التَّصَرُّف فِيمَا عتق من الْكسْوَة بِالْقِسْمَةِ، كَمَا يصنعونه، أم لَا؟ فنبّه على أَنه مَوضِع اجْتِهَاد. وَأَن مقتضي رأى عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يقسم فِي الْمصَالح. ويعارض رَأْيه ترك النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - لقسمتها. فَذَلِك فِي مَحل الِاجْتِهَاد وتعارض الْأَمَانَات.
وَالظَّاهِر جَوَاز قسْمَة الْكسْوَة العتيقة، إِذْ بَقَاؤُهَا تَعْرِيض لإتلافها، بِخِلَاف النَّقْدَيْنِ وَلَا جمال فِي كسْوَة مطوية عتيقة. وَيُؤْخَذ من قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن صرف المَال فِي الْمصَالح، كالفقراء وَالْمَسَاكِين، أكد من صرفه فِي كسْوَة الْكَعْبَة، لَكِن الْكسْوَة فِي هَذِه الْأَزْمِنَة أهم. إِذْ الْأُمُور المتقادمة تتأكد حرمتهَا فِي النُّفُوس، وَقد صَار ترك الْكسْوَة فِي الْعرف غضاً من الْإِسْلَام،

(1/138)


وإضعافاً لقلوب الْمُسلمين، فترجحت على الصَّدَقَة بِمثل قيمتهَا. وَالله أعلم.
(82 - (4) بَاب إغلاق الْبَيْت، ويصليّ فِي أَي نواحي الْبَيْت شَاءَ.)
فِيهِ ابْن عمر: دخل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْبَيْت هُوَ، وَأُسَامَة بن زيد، وبلال، وَعُثْمَان بن طَلْحَة، فأغلقوا عَلَيْهِم الْبَاب، فَلَمَّا فتحُوا كنت أوّل من ولج، فَلَقِيت بِلَالًا، فَسَأَلته هَل صلّى فِيهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ؟ قَالَ: نعم! بَين العمودين اليمانيين.
] قلت [: لَيْسَ على معنى التَّحْدِيد وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاق، ووجهاته مُتَسَاوِيَة من بَاطِنه، كَمَا هِيَ مُتَسَاوِيَة من ظَاهره. أَيْنَمَا صلى إِلَيْهَا، فَهِيَ قبْلَة. وَالله أعلم.
(83 - (5) بَاب من كبر فِي نواحي الْكَعْبَة)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: إِن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما قدم أَبى أَن يدْخل الْبَيْت، وَفِيه

(1/139)


الْآلهَة. فَأمر بهَا، فأُخرجت، فأَخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، فِي أَيْدِيهِمَا الأزلام. فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : قَاتلهم الله {أما وَالله قد علمُوا أَنَّهُمَا لم يستقسما بهَا قطّ. فَدخل الْبَيْت، فَكبر فِي نواحيه، وَلم يصلّ فِيهِ.
قلت: رَضِي الله عَنْك} سَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، وَأثبت فِيهِ التَّكْبِير فِي نواحي الْكَعْبَة، وَلم يثبت بِهِ مُعَارضَة الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِي الصَّلَاة، لِأَن هَذَا يَنْفِي الصَّلَاة، وَذَلِكَ أثبتها، والمثبت أولى. وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْضا أثبت التَّكْبِير فِي نَوَاحِيهَا، وَسكت عَنهُ الحَدِيث الآخر، فَلَا يُعَارض الثُّبُوت السُّكُوت. فالجمع بَينهَا أَن يكبر فِي نَوَاحِيهَا، ويصلّي فِي أَيهَا شَاءَ. وَالله الْمُوفق.
(84 - (6) بَاب من لم يسْتَلم إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليمانيين)
فِيهِ] جَابر بن زيد [: أَبُو الشعْثَاء قَالَ: وَمن يَتَّقِي شَيْئا من الْبَيْت؟ وَكَانَ مُعَاوِيَة يسْتَلم الْأَركان. فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يسْتَلم هَذَانِ الركنان فَقَالَ: لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا. وَكَانَ ابْن الزبير يسْتَلم الْأَركان.
وَفِيه ابْن عمر: لم أر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يسْتَلم من الْبَيْت إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليمانيين.
قلت: رَضِي الله عَنْك! رجح البُخَارِيّ اخْتِصَاص اليمانيين بالاستلام، فَلهَذَا

(1/140)


ترْجم على اختصاصهما، وسَاق الْقَوْلَيْنِ المتعارضين عَن الصَّحَابَة فِي التَّعْمِيم والاختصاص. فنبّه بالترجمة على أَن الِاخْتِصَاص مرجّح لِأَن مُسْتَنده السّنة فِي ترك مَا عداهما. ومستند التَّعْمِيم الرَّأْي، وَقِيَاس بَعْضهَا على بعض فِي التَّعْظِيم، وَهُوَ معنى قَول مُعَاوِيَة: " لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا ". وَهَذَا يُقَال بِمُوجبِه وَلَيْسَ ترك الاستلام هجراناً وَكَيف يهجرها، وَهُوَ يطوف بهَا؟ فالحجة مَعَ ابْن عمر أظهر. وَالله أعلم.
(85 - (7) بَاب إِذا وقف فِي الطّواف)
وَقَالَ عَطاء فِي من يطوف فتقام الصَّلَاة، أَو يدْفع عَن مَكَانَهُ: إِذا سلّم يرجع إِلَى حَيْثُ قطع عَلَيْهِ. فيبني. وَيذكر نَحوه عَن ابْن عمر. وَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر: طَاف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَصلى لسبوعه رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ نَافِع: كَانَ ابْن عمر يصلّي لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، قلت لِلزهْرِيِّ: إِن عَطاء يَقُول: تُجزئه الْمَكْتُوبَة من رَكْعَتي الطّواف. قَالَ: السّنة أفضل، لم يطف النَّبِي

(1/141)


[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سبوعاً قطّ إِلَّا صلّى رَكْعَتَيْنِ.
فِيهِ عَمْرو: وَسَأَلنَا ابْن عمر، أيقع الرجل على امْرَأَته فِي الْعمرَة، قبل أَن يطوف بَين الصَّفَا والمروة؟ قَالَ: قدم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا، ثمَّ صلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ. فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة. وَقَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} [الْأَحْزَاب: 21] .
وَسَأَلت جَابِرا فَقَالَ: لَا يقرب امْرَأَته حَتَّى يطوف بَين الصَّفَا والمروة. وَترْجم لَهُ " بَاب من صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام ".
قلت: رَضِي الله عَنْك! ذكر طواف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سبوعاً، ثمَّ صلَاته رَكْعَتَيْنِ لسبوعه. وَإِن تِلْكَ عَادَته فِي كل أُسْبُوع طافه أَن يُصَلِّي لَهُ رَكْعَتَيْنِ. سَاق هَذَا فِي تَرْجَمَة " الْوُقُوف فِي الطّواف "، تَنْبِيها على أَن الْوُقُوف غير مَشْرُوع، لِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ يصل طَوَافه بِصَلَاتِهِ. وَالْوُقُوف لَا يسمّى طَوافا. فَإِذا كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يفرق بَين الصَّلَاة وَالطّواف بِالْوُقُوفِ، وهما نَوْعَانِ فَكيف يفرق بَين أَجزَاء الطّواف بِالْوُقُوفِ؟ فَافْهَم ذَلِك.

(1/142)


(86 - (8) بَاب فتل القلائد للبدن وَالْبَقر)
فِيهِ حَفْصَة: قلت: يَا رَسُول الله {مَا شَأْن النَّاس حلّوا، وَلم تحلّ أَنْت؟ قَالَ: إِنِّي لبدّت رَأْسِي، وقلّدت هَدْيِي. فَلَا أحلّ حَتَّى أحلّ من الحجّ.
وَفِيه عَائِشَة: كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يهدي من الْمَدِينَة، فأفتل قلائد هَدْيه، ثمَّ لَا يجْتَنب مَا يجْتَنب الْمحرم.
قلت: رَضِي الله عَنْك} ذكر فِي التَّرْجَمَة الْبدن وَالْبَقر، والْحَدِيث مُطلق فِي الْهدى. وَلَكِن قد صَحَّ أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد أهداهما جَمِيعًا. وَورد أَنَّهُمَا ذبح الْبَقر عَن نِسَائِهِ فِي حجَّة الْوَدَاع. وكل مَا يذبح فِي الْحَج هدى. وَقد قيل: إِنَّه ذبح عَنْهُن الْبَقر هَديا لتمتع من تمتّع مِنْهُنَّ.

(1/143)


(87 - (9) بَاب الذّبْح قبل الْهدى)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لمن حلق قبل أَن يذبح: لَا حرج، لَا حرج.
وَقَالَ رجل للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : زرت قبل أَن أرمي، قَالَ: لَا حرج.
وَقَالَ: رميت بعد مَا أمسيت. قَالَ: لَا حرج.
قَالَ: حلقت قبل أَن أنحر، قَالَ: لَا حرج.
وَفِيه أَبُو مُوسَى: قَالَ: قدمت على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَهُوَ بالبطحاء. فَقَالَ: أحججت؟ قلت: نعم: - الحَدِيث إِلَى قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: - وَإِن نَأْخُذ بِسنة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يحل حَتَّى بلغ الْهدى مَحَله.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مَقْصُود البُخَارِيّ التَّنْبِيه على أَن التَّرْتِيب الْمَشْرُوع تَقْدِيم الذّبْح على الْحلق. وَلِهَذَا ترْجم لَهُ. وسَاق هَذِه الْأَحَادِيث. وَمن مضمونها أَنه قَالَ لمن حلق قبل أَن يذبح: " لَا حرج " وَعبارَة نفي الْحَرج إِنَّمَا يكون حَيْثُ يتَوَقَّع الْحَرج، وَلِهَذَا سَأَلَ السَّائِل. دلّ على أَن التَّرْتِيب الَّذِي لَا يتخيّل فِيهِ الْحَرج، وَلَا يشكل على أحد، وَلَا يسْأَل عَنهُ عَادَة سائلٌ، هُوَ الذّبْح قبل

(1/144)


الْحلق. وَهَذَا اسْتِدْلَال بِالْمَفْهُومِ.
أما قَوْله: " فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لم يحل حَتَّى بلغ الْهدى مَحَله ". فاستدلال بمنطوق، أَي لم يحلق حَتَّى ذبح.
(88 - (10) بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خطب النَّاس يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم حرَام. قَالَ: فَأَي بلد هَذَا؟ قَالُوا: بلد حرَام. قَالَ: فَأَي شهر هَذَا؟ قَالُوا: شهر حرَام. قَالَ: فَإِن دماءكم، وَأَمْوَالكُمْ، وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام، كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا، فِي بلدكم هَذَا، فِي شهركم هَذَا، فَأَعَادَهَا مرَارًا. ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ: هَل بلغت. مرَّتَيْنِ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوصيته إِلَى أمته. فليلغ الشَّاهِد الْغَائِب، لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض.
وَقَالَ جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس سَمِعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يخْطب بِعَرَفَات.
وَفِيه أَبُو بكرَة. قَالَ: خَطَبنَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم النَّحْر، فَذكر مثله سَوَاء.

(1/145)


وَفِيه ابْن عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بمنى: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ الحَدِيث.
وَقَالَ هِشَام بن الْغَازِي: أَخْبرنِي نَافِع عَن ابْن عمر: وقف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم النَّحْر بَين الجمرات، فِي الْحجَّة الَّتِي حجّ بِهَذَا. وَقَالَ: هَذَا يَوْم النَّحْر الْأَكْبَر. فَطَفِقَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وودّع النَّاس. فَقَالُوا: هَذِه حجَّة الْوَدَاع.
قلت: رَضِي الله عَنْك! الْأَحَادِيث كلهَا مُطَابقَة للتَّرْجَمَة، إِلَّا حَدِيث جَابر عَن ابْن عَبَّاس، سَمِعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يخْطب بِعَرَفَات. فَإِن التَّرْجَمَة إِنَّمَا وَقعت على الْخطْبَة أَيَّام منى، فَمَا سَاقهَا - وَالله أعلم - إِلَّا ليردّ على من زعم أَن يَوْم النَّحْر لَا خطْبَة فِيهِ للْحَاج. وَإِن الَّذِي ذكره النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من قبيل الْوَصَايَا العامّة، لَا على أَنه خطبةٌ وشعارٌ من شَعَائِر الْحَج. كَمَا ذهب الطَّحَاوِيّ وَابْن الْقصار إِلَيْهِ. فردّ البُخَارِيّ على من أنكر كَونهَا خطْبَة بِأَن الرَّاوِي سَمَّاهَا خطْبَة، كَمَا سمّى التَّذْكِرَة يَوْم عَرَفَة خطْبَة. وَقد اتَّفقُوا على خطْبَة عَرَفَة، فَألْحق الْمُخْتَلف فِيهِ بالمتفق عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أنكر الطَّحَاوِيّ كَونه خطْبَة، وَكَونهَا من شعار الْحَج، لِأَنَّهُ لم يذكر فِي يَوْم النَّحْر إِلَّا تَحْرِيم الدِّمَاء، وَالْأَمْوَال، والأعراض. وَهَذَا أَجْنَبِي عَن الْحَج. وَهُوَ وهم من الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نبّه على عظم الْيَوْم، وبيّن أَنه يَوْم النَّحْر الْأَكْبَر. وَهَذَا من مهمات الحجّ. وَفِيه إِشْعَار أَن الْمَنَاسِك الَّتِي فِيهِ من الْمُهِمَّات كالرمي والإفاضة، وَغير ذَلِك. وَفِيه يتّم الْحَج.

(1/146)


(22 - فَضَائِل الْمَدِينَة)
(89 - (1) بَاب مَا جَاءَ فِي حرم الْمَدِينَة.)

فِيهِ أنس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : الْمَدِينَة حرم من كَذَا إِلَى كَذَا، لَا يقطع شَجَرهَا، وَلَا يحدث فِيهَا حدث. من أحدثه فَعَلَيهِ لعنة الله، وَالْمَلَائِكَة، وَالنَّاس أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ أنس: قدم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْمَدِينَة، وَأمر بِبِنَاء الْمَسْجِد. فَقَالَ: يَا بني النجار {ثامنوني بحائطكم هَذَا قَالُوا: لَا نطلب ثمنه، إِلَّا إِلَى الله. فَأمر بقبور الْمُشْركين فنبشت، ثمَّ بالخرب فسوّيت، وبالنخل فَقطع، فصفوا النّخل قبْلَة الْمَسْجِد.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : حرّم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة على لساني. وأتى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بني حَارِثَة. فَقَالَ: أَرَاكُم يَا بني حَارِثَة} قد خَرجْتُمْ من الْحرم، ثمَّ الْتفت فَقَالَ: بل أَنْتُم فِيهِ.
وَفِيه عَليّ: مَا عندنَا إِلَّا كتاب الله، وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، الْمَدِينَة حرم مَا بَين عير إِلَى ... ". من أحدث فِيهَا حَدثا، أَو آوى مُحدثا،

(1/147)


فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة، وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك! الَّذِي وَقع فِي الْأُمَّهَات مَا بَين عير إِلَى - وَسكت فِي النِّهَايَة -. وَقد نقل من طَرِيق آخر مَا بَين عير إِلَى ثَوْر. وَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ أسقطها عمدا، لِأَن أهل الْمَدِينَة يُنكرُونَ أَن يكون بِالْمَدِينَةِ جبل يُسمى ثوراً. وَإِنَّمَا هُوَ بِمَكَّة. فَلَمَّا تحقق عِنْد البُخَارِيّ أَنه وهم، أسْقطه. وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث. وَهُوَ مُفِيد إِذْ الْبدَاءَة يتَعَلَّق بهَا حكم فَلَا يتْرك لإشكال سنح فِي حكم النِّهَايَة.