المتواري على أبواب البخاري

(23 - كتاب الْجِهَاد)
(90 - (1) بَاب الدُّعَاء بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَة للرِّجَال وَالنِّسَاء)
وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: ارزقني شَهَادَة فِي بلد رَسُولك.
فِيهِ أنس: كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يدْخل على أم حرَام فتطعمه، وَكَانَت تَحت عبَادَة

(1/148)


ابْن الصَّامِت، فَدخل عَلَيْهَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فأطعمته، وَجعلت تفلي رَأسه، فَنَامَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يضْحك. قلت: مَا يضحكك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نَاس من أمتِي عرضوا عَليّ غزَاة فِي سَبِيل الله يركبون ثبج هَذَا الْبَحْر، ملوكاً على الأسرة، أَو مثل الْمُلُوك - شكّ إِسْحَاق - قَالَت: فَقلت: يَا رَسُول الله {ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم. فَدَعَا لَهَا] رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [ثمَّ وضع رَأسه، ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يضْحك فَقَالَ مثل مقَالَته الأولى، فَقَالَت: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم. قَالَ: أَنْت من الأوّلين، فركبت الْبَحْر فِي زمن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، فصرعت عَن دابتها حِين خرجت، فَهَلَكت.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مدخله فِي الْفِقْه إِن الدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ حَاصله أَن يَدْعُو الله أَن يُمكن مِنْهُ كَافِرًا يَعْصِي الله، فيقلته. وَقد اسْتشْكل أَجزَاء الدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ على الْقَوَاعِد إِذْ مقتضاها أَن لَا يتَمَنَّى مَعْصِيّة الله لَا لَهُ وَلَا لغيره. وَوجه تَخْرِيجه على الْقَوَاعِد أَن الدُّعَاء قصدا إِنَّمَا هُوَ نيل الدرجَة الرفيعة المعدّة للشهداء. وَأما قتل الْكَافِر فَلَيْسَ بمقصود الدَّاعِي. وَإِنَّمَا هُوَ من ضرورات الْوُجُود، لِأَن الله تَعَالَى أجْرى حكمه أَن لَا ينَال تِلْكَ الدرجَة إِلَّا شهيدٌ. فَلهَذَا أَدخل البُخَارِيّ هَذِه التَّرْجَمَة، وعضدها بالأحاديث - رَحمَه الله تَعَالَى -.

(1/149)


(91 - (2) بَاب قَول الله تَعَالَى: {قل هَل تربصون بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحسنيين} [التَّوْبَة: 52] وَالْحَرب سِجَال.
فِيهِ ابْن عَبَّاس: إِن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ، أَن هِرقل قَالَ لَهُ: سَأَلتك كَيفَ كَانَ قتالكم إِيَّاه؟ فَزَعَمت أَن الْحَرْب سِجَال ودول. وَكَذَلِكَ الرُّسُل تبتلي، ثمَّ تكون لَهُم الْعَاقِبَة.
قلت: رَضِي الله عَنْك! اسْتشْكل الشَّارِح التَّرْجَمَة بِالْآيَةِ، ومطابقتها لحَدِيث هِرقل، من حَيْثُ أَنه ظن أَن الْمُطَابقَة فِي قَوْله: " الْحَرْب بَيْننَا وَبَينه سِجَال " مَعَ قَول هِرقل: " وَكَذَلِكَ الرُّسُل ". وَالتَّحْقِيق أَن البُخَارِيّ مَا سَاق الحَدِيث إِلَّا لقَوْله: " وَكَذَلِكَ الرُّسُل تبتلي، ثمَّ تكون لَهُم الْعَاقِبَة ".
فَبِهَذَا يتَحَقَّق أَنهم على إِحْدَى الحسنيين: إِن انتصروا فَلهم العاجلة، وَإِن انتصر عدّوهم، فللرسل الْعَاقِبَة. وَالْعَاقبَة خير من العاجلة، وَأحسن. فَفِي تَمام حَدِيث هِرقل تظهر الْمُطَابقَة. وَالله أعلم.

(1/150)


(92 - (3) بَاب الْعَمَل الصَّالح قبل الْقِتَال)
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: إِنَّمَا تقاتلون بأعمالكم، وَقَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله} [الصَّفّ: 2 - 3] الْآيَة.
وَفِيه الْبَراء: أَتَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على رجل مقنع بالحديد، قَالَ: يَا رَسُول الله {أقَاتل وَأسلم. قَالَ أسلم ثمَّ قَاتل، فَأسلم ثمَّ قَاتل فَقتل.
قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : عمل قليلٌ وأجرٌ كثيرٌ.
قلت: رَضِي الله عَنْك} الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين] الحَدِيث [ظَاهر إِلَّا قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفّ: 2] لَكِن وَجهه على الْجُمْلَة أَن الله تَعَالَى عَاتب من قَالَ أَنه يفعل الْخَيْر، وَلم يَفْعَله. ثمَّ أعقب ذَلِك بقوله: {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا} [الصَّفّ: 4] . فَأثْنى على من وفى وَثَبت، ثمَّ قَاتل. وَالله أعلم. وَفِي الْآيَة بِالْمَفْهُومِ الثَّنَاء على من قَالَ وَفعل، فَقَوله الْمُتَقَدّم، وتأهبه للْجِهَاد عملٌ صالحٌ قدمّه على الْجِهَاد.

(1/151)


(93 - (4) بَاب من اغبرّت قدماه فِي سَبِيل الله. وَقَوله تَعَالَى: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب} [التَّوْبَة: 120] .
فِيهِ أَبُو عبس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مَا اغبّرت قدما عبدٍ فِي سَبِيل الله، فتمسّه النَّار.
قلت: رَضِي الله عَنْك! الْمُطَابقَة بَين الْآيَة والترجمة فِي آخر الْآيَة عِنْد قَوْله: {وَلَا يطؤن موطئاً يغِيظ الْكفَّار} [التَّوْبَة: 120] . فأثابهم الله بخطواتهم وَإِن لم يلْقوا قتالاً.
(94 - (5) بَاب الْغسْل بعد الْحَرْب وَالْغُبَار)

فِيهِ عَائِشَة: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما رَجَعَ يَوْم الخَنْدَق اغْتسل، فَأَتَاهُ جِبْرِيل وَقد عصب رَأسه الْغُبَار. فَقَالَ: وضعت السِّلَاح، فوَاللَّه مَا وَضعته. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : فَأَيْنَ؟ قَالَ: هَاهُنَا. وأوما إِلَى بني قُرَيْظَة، فَخرج إِلَيْهِم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .

(1/152)


قلت: رَضِي الله عَنْك {إِنَّمَا بوّب عَلَيْهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم كَرَاهِيَة غسل الْغُبَار، لِأَنَّهُ من حميد الْآثَار كَمَا كره بَعضهم مسح مَاء الْوضُوء بالمنديل، فبيّن جَوَازه بِالْعَمَلِ الْمَذْكُور.
(95 - (6) بَاب الْجنَّة تَحت بارقة السيوف)
وَقَالَ الْمُغيرَة: أخبرنَا نَبينَا عَن رِسَالَة رَبنَا: إنّه من قتل منا صَار إِلَى الْجنَّة. وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجنَّة وقتلاهم فِي النَّار؟ قَالَ: بلَى.
فِيهِ ابْن أبي أوفى: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : وَاعْلَمُوا أَن الْجنَّة تَحت ظلال السيوف.
قلت: رَضِي الله عَنْك} لم يترجم على الحَدِيث بِلَفْظِهِ، فإمَّا أَن يكون لفظ التَّرْجَمَة فِي حَدِيث آخر لم يُوَافق شَرطه فنبّه عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة، أَو نبّه على معنى " تَحت ظلال السيوف "، وَأَن السيوف لما كَانَت لَهَا بارقة وشعاع، كَانَ أَيْضا لَهَا ظلّ بحسبها. وَالله أعلم.

(1/153)


(96 - (7) بَاب الشَّهَادَة سبعٌ سوى الْقَتْل)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الشُّهَدَاء خَمْسَة: المطعون، والمبطون، وَالْغَرق، وَصَاحب الْهدم، والشهيد فِي سَبِيل الله.
وَفِيه أنس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : الطَّاعُون شَهَادَة لكل مُسلم.
قلت: رَضِي الله عَنْك! أشكل على الشَّارِح مُطَابقَة التَّرْجَمَة لحَدِيث: " الشُّهَدَاء خَمْسَة ". فَقَالَ: هَذَا دَلِيل أَن البُخَارِيّ مَاتَ وَلم يهذب كِتَابه. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يدْخل فِي التَّرْجَمَة حَدِيث مَالك - رَحمَه الله -.
وَفِيه: " أَن الشُّهَدَاء سَبْعَة سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله " فأعجلته الْمنية.
وَيحْتَمل عِنْدِي أَن يكون البُخَارِيّ أَرَادَ التنّبيه على أَن الشَّهَادَة لَا تَنْحَصِر فِي الْقَتْل، بل لَهَا أَسبَاب أخر. وَتلك الْأَسْبَاب أَيْضا اخْتلفت الْأَحَادِيث فِي عَددهَا. فَفِي بَعْضهَا خَمْسَة، وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْد البُخَارِيّ، وَوَافَقَ شَرطه. وَفِي بَعْضهَا سَبْعَة. وَلم يُوَافق شَرط البُخَارِيّ، فنبه عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة، إِيذَانًا بِأَن الْوَارِد فِي عَددهَا من الْخَمْسَة أَو السَّبْعَة. لَيْسَ على معنى التَّحْدِيد الَّذِي لَا يزِيد وَلَا ينقص. بل هُوَ إِخْبَار عَن خُصُوص فِيمَا ذكر الله. وَالله أعلم بحصرها.

(1/154)


(97 - (8) بَاب إِضْمَار الْخَيل للسبق.)

فِيهِ ابْن عمر: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سَابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضمر. وَكَانَ أمدها من الثَّنية إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق. وَإِن ابْن عمر كَانَ سَابق بهَا.
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِن قيل: كَيفَ ترْجم على إِضْمَار الْخَيل للسبق، وَذكر الْمُسَابقَة للخيل الَّتِي لم تضمر؟ .
قيل: إِنَّمَا كَانَ البُخَارِيّ يترجم على الشَّيْء من الْجِهَة الْعَامَّة، فقد يكون ثَابتا، وَقد يكون منفياً. فَمَعْنَى قَوْله: " بَاب إِضْمَار الْخَيل للسبق " أَي هَل هُوَ شَرط أم لَا؟ فبيّن أَنه لَيْسَ بِشَرْط، لِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سَابق بهَا مضمرة وَغير مضمرة. وَهَذَا أقعد بمقاصد البُخَارِيّ من قَول الشَّارِح: " إِنَّمَا ذكر طرفا من الحَدِيث ليدل على تَمَامه، وَقد سبق إِتْمَامه "، لِأَن للقائل أَن يَقُول: إِذا لم يكن بدّ من الِاخْتِصَاص، فَذكر الطّرف المطابق للتَّرْجَمَة أولى فِي الْبَيَان، لَا سِيمَا والطرف المطابق هُوَ أول الحَدِيث. إِذْ أوّله: عَن ابْن عمر، سَابق النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين الْخَيل الَّتِي أضمرت من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع. ثمَّ ذكر الْخَيل الَّتِي لم تضمر، كَمَا سَاقه فِي هَذِه التَّرْجَمَة، فَحَمله على تأويلنا لَا معترض عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(1/155)


(98 - (9) بَاب غَزْو النِّسَاء، وقتالهن مَعَ الرِّجَال)
فِيهِ أنس: لما كَانَ يَوْم أحد، انهزم النَّاس عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَقَد رَأَيْت عَائِشَة وَأم سليم، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان وَقَالَ غَيره: تنقلان الْقرب _ على متونهما، ثمَّ يفرغانه فِي أَفْوَاه الْقَوْم.
قلت: رَضِي الله عَنْك! بوب على غزوهن وقتالهن، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنَّهُنَّ قاتلن. فإمَّا أَن يُرِيد أَن إعانتهن للغزاة غَزْو، وَإِمَّا أَن يُرِيد إنَّهُنَّ مَا ثبتن للمداوة وليسقي الْجَرْحى فِي حَالَة الْهَزِيمَة، وَإِلَّا هن يدافعن عَن أَنْفسهنَّ. هَذَا هُوَ الْغَالِب. فأضاف إلَيْهِنَّ الْقِتَال لذَلِك. وَالله أعلم.
(99 - (10) بَاب الْخُرُوج آخر الشَّهْر)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: انْطلق النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى الْمَدِينَة لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَقدم مَكَّة لأَرْبَع لَيَال خلون من ذِي الْحجَّة وَفِيه عَائِشَة: خرجنَا مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لخمس لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَلَا

(1/156)


يرى إِلَّا الْحَج. وَذكر الحَدِيث. قلت: رَضِي الله عَنْك! فِيهِ السّفر فِي غير يَوْم الْخَمِيس فَتَأَمّله. وَيتَعَيَّن أَن يكون هَا هُنَا يَوْم السبت فتدبره وموقع التَّرْجَمَة من الْفِقْه الرَّد على من يزْعم من الْقَائِلين بتأثير الْكَوَاكِب أَن الْحَرَكَة آخر الشَّهْر فِي محاق الْقَمَر مذمومة.
(100 - (11) بَاب التوديع)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: " بعثنَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي بعث. وَقَالَ: إِن لَقِيتُم فلَانا " وَفُلَانًا " فحرقوهما بالنَّار. فأتيناه نودعه حِين أردنَا الْخُرُوج. فَقَالَ: إِنِّي كنت قد أَمرتكُم أَن تحرقوا فلَانا وَفُلَانًا " بالنَّار. وَإِن النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِن أخذتموهما، فاقتلوهما ".

(1/157)


] قلت [فِيهِ أَن الْمُسَافِر يودع الْمُقِيم. وَفِيه النّسخ قبل الْفِعْل.
(101 - (12) بَاب السّمع وَالطَّاعَة للْإِمَام مَا لم يَأْمر بِمَعْصِيَة)
فِيهِ ابْن عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] السّمع وَالطَّاعَة حق، مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة.
قلت: رَضِي الله عَنْك! فِيهِ أَن الْمَنْفِيّ محمولّ فِيهِ، وَفِي أَمْثَاله، على الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، لَا على الْحَقِيقَة الوجودية، لِأَن قَوْله: " فَلَا سمع وَلَا طَاعَة " يُقَابل قَوْله: " السّمع وَالطَّاعَة حق " فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة شرعيين.
(102 - (13) بَاب يُقَاتل من وَرَاء الإِمَام ويتقى بِهِ)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ ".

(1/158)


وَبِهَذَا الْإِسْنَاد: " من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله. وَمن عَصَانِي فقد عصى الله. وَمن يطع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي. وَمن يعْص الْأَمِير فقد عَصَانِي. فَإِنَّمَا الإِمَام جنَّة يُقَاتل من وَرَائه، ويتقى بِهِ فَإِن أَمر بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَعدل، فَإِن لَهُ بذلك أجرا. وَإِن قَالَ بِغَيْرِهِ، فَإِن عَلَيْهِ مِنْهُ ".
قلت: رَضِي الله عَنْك! وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لقَوْله: " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ " إِن معنى قَوْله: يُقَاتل من وَرَائه أَي من أَمَامه، فَأطلق الوراء على الْأَمَام، لأَنهم، وَإِن تقدّموه فِي الصُّورَة، فهم أَتْبَاعه فِي الْحَقِيقَة. وَالنَّبِيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقدم عَلَيْهِ غَيره بِصُورَة الزَّمَان، لَكِن الْمُتَقَدّم عَلَيْهِ مَأْخُوذ عَلَيْهِ الْعَهْد، أَن يُؤمن بِهِ وينصره، كآحاد أمته وَأَتْبَاعه. وَلذَلِك ينزل عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - مَأْمُوما. وَإِمَام الْقَوْم مِنْهُم. فهم فِي الصُّورَة أَمَامه. وَفِي الْحَقِيقَة أَتْبَاعه وَخَلفه.
(103 - (14) بَاب الْبيعَة فِي الْحَرْب أَن لَا يفرّوا)
وَقَالَ بَعضهم: على الْمَوْت، لقَوْله عزّ وجلّ: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ} [الْفَتْح: 18] .
فِيهِ ابْن عمر رَجعْنَا من الْعَام الْمقبل، فَمَا اجْتمع منا اثْنَان على الشَّجَرَة الَّتِي بَايعنَا تحتهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . كَانَت رَحْمَة من الله فسألنا نَافِعًا: على أَي شَيْء

(1/159)


بايعهم رَسُول الله على الْمَوْت؟ قَالَ: لَا، على الصَّبْر.
وَفِيه عبد الله بن زيد: لما كَانَ زمن الْحرَّة أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: ابْن حَنْظَلَة يُبَايع النَّاس على الْمَوْت. قَالَ: لَا أبايع على هَذَا، بعد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَفِيه سَلمَة: بَايَعت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ عدلت إِلَى ظلّ شَجَرَة. فَلَمَّا خف النَّاس. قَالَ: يَا ابْن الْأَكْوَع {أَلا تبَايع؟ قلت: قد بَايَعت يَا رَسُول الله} قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعته الثَّانِيَة.
فَقلت: يَا أَبَا مُسلم {أَي شَيْء كُنْتُم تُبَايِعُونَ يؤمئذ؟ قَالَ: على الْمَوْت.
وَفِيه أنس: كَانَت الْأَنْصَار يَوْم الخَنْدَق تَقول:
(نَحن الَّذين بَايعُوا مُحَمَّدًا ... على الْجِهَاد مَا بَقينَا أبدا)

فأجابهم فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة ... فَأكْرم الأنصارى والمهاجرة)

وَفِيه مجاشع بن مَسْعُود: أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، أَنا وَأخي. فَقلت: بَايعنَا على الْهِجْرَة} قَالَ: مَضَت الْهِجْرَة لأَهْلهَا. فَقلت: علام تبايعنا؟ فَقَالَ: على الْإِسْلَام وَالْجهَاد.

(1/160)


قلت: رَضِي الله عَنْك! وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لِلْآيَةِ قَوْله أثناءها: {فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم} مَبْنِيا على قَوْله: {فَعلم مَا فِي قُلُوبهم} والسكينة السُّكُوت والطمأنينة فِي موقف الْحَرْب. دلّ ذَلِك على أَنهم أضمروا فِي قُلُوبهم الثُّبُوت، وَأَن لَا يفرّوا فأعانهم على ذَلِك، وَأنزل السكينَة عَلَيْهِم. وَإِنَّمَا أضمروا أَن لَا يفّروا وَفَاء بالعهد.
(104 - (15) بَاب الجعائل والحملان فِي السَّبِيل)
وَقَالَ مُجَاهِد قلت لِابْنِ عمر: أُرِيد الْغَزْو قَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أعينك بطَائفَة من مَالِي. قلت: قد أوسع الله سُبْحَانَهُ علىّ. قَالَ: إِن غناك لَك. وَإِنِّي أحب أَن يكون من مَالِي فِي هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ عمر: إِن نَاسا يَأْخُذُونَ من هَذَا المَال، ليجاهدوا. ثمَّ لَا يجاهدون، فَمن فعل فَنحْن أَحَق بِمَالِه حَتَّى نَأْخُذ مِنْهُ مَا أَخذ. وَقَالَ طاؤوس وَمُجاهد: إِذا دفع لَك شَيْئا تخرجه فِي سَبِيل الله فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت وَضعه عِنْد أهلك.
فِيهِ عمر: حملت على فرس فِي سَبِيل الله، فرأيته يُبَاع. فَسَأَلت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أشتريه؟ قَالَ لَا تشتر، لَا تعد فِي صدقتك.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَوْلَا أَن أشقّ على أمتِي مَا تخلفت عَن

(1/161)


سَرِيَّة. وَلَكِن لَا أجد حمولة، وَلَا أجد مَا أحملهم عَلَيْهِ. ويشقّ عليّ أَن يتخلفوا. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك {فِيهِ أَن كل من أَخذ مَالا من بَيت المَال على عمل، إِذا أهمل الْعَمَل ردّ مَا أَخذ بِالْقضَاءِ. وَكَذَلِكَ الْأَخْذ مِنْهُ على عمل لَا يتأهل لَهُ. وَلَا يلْتَفت إِلَى تخيلّ أَن الأَصْل فِي مَال بَيت المَال الْإِبَاحَة للْمُسلمين، لأَنا نقُول: الْأَخْذ مِنْهُ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِن الْآخِذ مُسلم، فَلهُ نصيب كَاف على وَجه. وَالْآخر: الْآخِذ على عمل فَإِنَّمَا يسْتَحق بوفائه.
(105 - (16) بَاب الْأَجِير)
وَقَالَ الْحسن وَابْن سِيرِين: يقسم للْأَجِير من الْمغنم. وَأخذ عَطِيَّة بن قيس فرسا على النّصْف، فَبلغ سهم الْفرس أَربع مائَة دِينَار، فَأخذ مِائَتَيْنِ، وَأعْطى صَاحبه مِائَتَيْنِ.
فِيهِ يعلي: قَالَ غزوت مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] غَزْوَة تَبُوك، فَحملت على بكر فاستأجرت أَجِيرا، فقاتل رجلا، فعضّ أَحدهمَا الآخر، فَانْتزع يَده من فِيهِ، فَنزع ثنيتّه. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مَقْصُود التَّرْجَمَة جَوَاز الْأُجْرَة على الْغَزْو، والإسهام للْأَجِير أَجْنَبِي عَنْهَا. وَالله أعلم.

(1/162)


(106 - (17) بَاب قَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر وَقَول الله عزّ وجلّ: {سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب بِمَا اشركوا بِاللَّه} [آل عمرَان: 151] .
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: بعثت بجوامع الْكَلم، ونصرت بِالرُّعْبِ، وَبينا أَنا نَائِم أُوتيت بمفاتيح خَزَائِن الأَرْض، فَوضعت فِي يَدي. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَقد ذهب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَأَنْتُم تنتثلونها.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: إِن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ، أَن هِرقل لما قَرَأَ كتاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كثر عِنْده الصخب، وَارْتَفَعت الْأَصْوَات، فخرجنا. فَقلت لِأَصْحَابِي: لقد أَمر امْر ابْن أبي كَبْشَة. إِنَّه يخافه ملك بني الْأَصْفَر.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مَوضِع التَّرْجَمَة من خبر أبي سُفْيَان قَوْله: " يخافه ملك بني الْأَصْفَر ".
(107 - (18) بَاب من أَخذ بالركاب وَنَحْوه)

فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كل سلامي من النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَة كلّ يَوْم

(1/163)


تطلع فِيهِ الشَّمْس. تعدل بَين اثْنَيْنِ صَدَقَة، وَتعين الرجل على دَابَّته فَيحمل عَلَيْهَا، أَو يرفع عَلَيْهَا مَتَاعه صَدَقَة. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك {مَوضِع التَّرْجَمَة: " وَتعين الرجل على دابتّه فَيحمل عَلَيْهَا " فيندرج تَحْتَهُ الْأَخْذ بالركاب، لَا من جِهَة عُمُوم صِيغَة الْفِعْل فَإِنَّهُ مُطلق. وَلَكِن بِالْمَعْنَى المساوق.
(108 - (19) بَاب السّفر بالمصاحف إِلَى أَرض الْعَدو)
وَكَذَلِكَ يرْوى عَن مُحَمَّد بن بشر، عَن عبيد الله، عَن نَافِع عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَقد تَابعه ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَقد سَافر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَصْحَابه فِي أَرض الْعَدو، وهم يعلمُونَ الْقُرْآن. فِيهِ ابْن عمر: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ.
قلت: رَضِي الله عَنْك} الِاسْتِدْلَال بسفر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَصْحَابه، وهم يعلّمون الْقُرْآن، على التَّرْجَمَة ضعيفٌ، لِأَنَّهَا وَاقعَة عين فلعلهم علموه تلقينا، وَهُوَ الْغَالِب حينئذٍ. وَالله أعلم.

(1/164)


(109 - (20) بَاب يكْتب للْمُسَافِر مَا كَانَ يعْمل فِي الْإِقَامَة)
فِيهِ أَبُو بردة: إِنَّه اصطحب وَيزِيد بن أبي كَبْشَة فِي سفر، فَكَانَ يزِيد يَصُوم فِي السّفر فَقَالَ أَبُو بردة: سَمِعت أَبَا مُوسَى مرَارًا، يَقُول: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِذا مرض العَبْد أَو سَافر، كتب لَهُ مثل مَا كَانَ يعْمل مُقيما صَحِيحا.
قلت: رَضِي الله عَنْك! حمله بَعضهم على النَّوَافِل، وَحجر وَاسِعًا. بل تدخل فِيهِ الْفَرَائِض الَّتِي شَأْنه أَن يعْمل بهَا وَهُوَ صَحِيح. إِذا عجز عَن جُمْلَتهَا، أَو عَن بَعْضهَا بِالْمرضِ كتب لَهُ أجر مَا عجز عَنهُ فعلا، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ عزماً أَن لَو كَانَ صَحِيحا، حَتَّى صَلَاة الْجَالِس فِي الْفَرْض لمرضه يكْتب لَهُ عَنْهَا أجر صَلَاة الْقيام. وَالله أعلم. وَظَاهر التَّرْجَمَة أَنه نزّله على إِطْلَاقه.

(1/165)


(110 - (21) بَاب السّير بِاللَّيْلِ وَحده)
فِيهِ جَابر: ندب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النَّاس يَوْم الخَنْدَق، فَانْتدبَ الزبير ثَلَاثًا. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِن لكل نَبِي حواريّاً، وحواريّ الزبير. قَالَ سُفْيَان. الْحوَاري النَّاصِر.
وَفِيه ابْن عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لَو يعلم النَّاس مَا فِي الْوحدَة مَا أعلم، مَا سَار رَاكب بلَيْل وَحده.
قلت: رَضِي الله عَنْك! سير الزبير ليتجسس للْمُسلمين فالوحدة فِيهِ مَطْلُوبَة، بِخِلَافِهَا فِي السّفر.
(111 - (22) بَاب الْجِهَاد بِإِذن الْأَبَوَيْنِ)
فِيهِ عبد الله بن عمر: وَجَاء رجل إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فاستأذنه فِي الْجِهَاد. فَقَالَ: أَحَي والداك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ففيهما فَجَاهد.

(1/166)


قلت: رَضِي الله عَنْك {وَجه التَّرْجَمَة أَنه أثبت لَهما حق يقدّم على الْجِهَاد. وَالْقَاعِدَة أَن ذَا الْحق إِذْ أسقط حقّه سقط.
(112 - (23) بَاب الأساري فِي السلَاسِل)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل.
قلت: رَضِي الله عَنْك} إِن كَانَ المُرَاد حَقِيقَة وضع السلَاسِل فِي الْأَعْنَاق، فالترجمة مُطَابقَة. وَإِن كَانَ المُرَاد الْمجَاز عَن الْإِكْرَاه، فَلَيْسَتْ مُطَابقَة.
(113 - (24) بَاب فضل من أسلم من أهل الْكِتَابَيْنِ)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ: الرجل تكون لَهُ الْأمة فيعلمها، وَيحسن تعليمها، ويؤدبها فَيحسن أدبها، ثمَّ يعتقها فيتزوجها. وَمُؤمن أهل الْكتاب الَّذِي كَانَ مُؤمنا ثمَّ آمن بِالنَّبِيِّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَالْعَبْد يُؤَدِّي حق الله، وَينْصَح لسَيِّده.

(1/167)


ثمَّ قَالَ الشّعبِيّ: أعطيتكها بِغَيْر ثمن، وَقد كَانَ الرجل يرحل فِي أَهْون مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة.
قلت: رَضِي الله عَنْك {إِن قيل مُؤمن أهل الْكتاب لَا بُد أَن يكون مُؤمنا بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للْعهد الْمُتَقَدّم والميثاق، فَإِذا بعث [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فإيمانه الأول يسْتَمر. فَكيف يعدد حَتَّى يَتَعَدَّد أجره.
قلت: رَضِي الله عَنْك} إيمَانه الأل بِأَن الْمَوْصُوف كَذَا رَسُول. ثَانِيًا أَن مُحَمَّدًا [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] هُوَ الْمَوْصُوف، وهما معلومان متباينان.
(114 - (25) بَاب أهل الدَّار يبيتُونَ، فيصاب الْولدَان والذرارى نياماً لَيْلًا)
فِيهِ الصعب: مر نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بالأبواء، أَو بودان. وَسُئِلَ عَن أهل الدَّار يبيتُونَ من الْمُشْركين، فيصاب من نِسَائِهِم وذراريهم. قَالَ: هم مِنْهُم. وسمعته يَقُول: لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ.
قلت: رَضِي الله عَنْك! الْعجب لزيادته فِي التَّرْجَمَة " نياماً " وَمَا هُوَ فِي الحَدِيث، إِلَّا ضمنا، لِأَن الْغَالِب أَنهم إِذا وَقع بهم فِي اللَّيْل، لم يخلوا من نَائِم،

(1/168)


وَمَا الْحَاجة إِلَى كَونهم نياماً وأيقاظاً، وهم سَوَاء إِلَى أَن قَتلهمْ نياماً أَدخل فِي الغيلة؟ فنبّه على جَوَازهَا فِي مثل هَذَا.
(115 - (26) بَاب إِذا حرق الْمُشرك الْمُسلم هَل يحرق؟)

فِيهِ أنس: إِن رهطاً من عكل ثَمَانِيَة، قدمُوا على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فاجتووا الْمَدِينَة، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله ابغنا رسلًا فَقَالَ: مَا أَجِدكُم إِلَّا أَن تلحقوا بالذود. فَانْطَلقُوا فَشَرِبُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا، حَتَّى صحوا، وَقتلُوا الرَّاعِي - إِلَى قَوْله فَقطع أَيْديهم وأرجلهم، ثمَّ أَمر بمسامير فأحميت وكحلهم بهَا - الحَدِيث.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قرصت نملة نَبيا فَأمر بقرية النَّمْل فأحرقت. فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ، أَن قرصتك نملة أحرقت أمة من الْأُمَم تسبّح.
قلت: رَضِي الله عَنْك! كَأَنَّهُ جمع بَين حَدِيث: " لَا تعذبوا بِعَذَاب الله "، وَبَين هَذَا، فَحمل الأوّل على غير سَبَب. وَحمل الثَّانِي على مُقَابلَة السَّيئَة بِمِثْلِهَا من الْجِهَة الْعَامَّة، وَإِن لم تكن من نوعها الْخَاص. وَإِلَّا فَمَا فِي الحَدِيث أَن الرَّهْط

(1/169)


فعلوا بالرعاء ذَلِك. وَهُوَ أحسن من تَقْدِير ابْن بطال عَلَيْهِ أَنه اسْتِدْلَال أولويّ لأَنهم إِذا سملوا وَلم يَفْعَلُوا، فَأولى لَهُم إِذا فعلوا.
(116 - (27) بَاب حرق الدّور والنخيل)
فِيهِ جرير قَالَ: قَالَ لي النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَلا تريحني من ذى الخلصة. - وَكَانَ بَيْتا فِي خثعم، يسمىّ كعبة اليمانية - قَالَ: فَانْطَلَقت فِي خمسين وَمِائَة فَارس من أحمس، وَكَانُوا أَصْحَاب خيل وَكنت لَا أثبت على الْخَيل، فَضرب فِي صَدْرِي] حَتَّى رَأَيْت أثر أَصَابِعه فِي صَدْرِي [وَقَالَ اللَّهُمَّ ثبّته، واجعله هادياً مهدياً! فَانْطَلق إِلَيْهَا فَكَسرهَا وحرقها. وَبعث إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِخَبَرِهِ، فَقَالَ رَسُول جرير: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، مَا جئْتُك حَتَّى تركتهَا كَأَنَّهَا جمل أجوف أَو أجرب. قَالَ: فَبَارك فِي خيل أحمس ورجالها خمس مرّات.
وَفِيه ابْن عمر: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حرّق نخل بني النَّضِير.

(1/170)


قلت: رَضِي الله عَنْك {التَّرْجَمَة أعمّ إِذْ المحرق بَيت الصَّنَم فَلم تحرق بيُوت السُّكْنَى.
(117 - (28) بَاب قتل الْمُشرك النَّائِم)
فِيهِ الْبَراء: بعث النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رهطاً من الْأَنْصَار إِلَى أبي رَافع ليقتلوه، فَانْطَلق رجل مِنْهُم فَدخل حصنهمْ، قَالَ: فَدخلت فِي مربط دوابّ لَهُم. فَخَرجُوا يطلبونه فَخرجت فِيمَن خرج أريهم أَنى أَن أطلبه مَعَهم، فوجدوا الْحمار، فَدَخَلُوا وَدخلت. وَأَغْلقُوا بَاب الْحصن فوضعوا المفاتيح فِي كوَّة حَيْثُ أَرَاهَا. فَلَمَّا نَامُوا أخذت المفاتيح ففتحت بَاب الْحصن. ثمَّ دخلت عَلَيْهِ فَقلت: يَا أَبَا رَافع} فَأَجَابَنِي فتعمدت الصَّوْت فضربته، فصاح فَخرجت ثمَّ رجعت كَأَنِّي مغيث. فَقلت: يَا أَبَا رَافع! وغيّرت صوتي. فَقَالَ: مَالك، لأمك الويل. فَقلت: مَا شَأْنك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي من دخل علىّ فضربني؟ قَالَ: فَوضعت سَيفي فِي بَطْنه ثمَّ تحاملت عَلَيْهِ حَتَّى قرع الْعظم. ثمَّ خرجت، وَأَنا دهش. فَأتيت سلما لَهُم، لأنزل مِنْهُ فَوَقَعت. فوثئت رجْلي فَخرجت إِلَى أَصْحَابِي فَقلت لَهُم: مَا أَنا ببارح حَتَّى أسمع الواعية فَمَا بَرحت حَتَّى سَمِعت نعاء أبي رَافع تَاجر أهل الْحجاز فَقُمْت وَمَا بِي قلبة حَتَّى أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأَخْبَرنَاهُ.

(1/171)


وَقَالَ الْبَراء: إِن عبد الله بن عتِيك دخل عَلَيْهِ بَيته وَهُوَ نَائِم.
قلت: رَضِي الله عَنْك {يَعْنِي بالنائم المضطجع، لَا خلاف الْيَقظَان، وَإِلَّا فَلَا مُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث.
(118 - (29 بَاب الْكَذِب فِي الْحَرْب)
فِيهِ جَابر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من لكعب بن الْأَشْرَف؟ فَإِنَّهُ قد آذَى الله وَرَسُوله؟ قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: أَتُحِبُّ أَن أَقتلهُ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم} قَالَ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِن هَذَا - يَعْنِي مُحَمَّدًا النَّبِي - قد عنّانا وَسَأَلنَا الصَّدَقَة. قَالَ: وَأَيْضًا وَالله] لتملّنه [قَالَ: فَإنَّا قد اتبعناه ونكره أَن ندعه حَتَّى نَنْظُر إِلَى مَا يصير أمره قَالَ: لم يزل يكلمهُ حَتَّى استمكن فَقتله.

(1/172)


قلت: رَضِي الله عَنْك {. التَّرْجَمَة غير مخلصة إِذْ يُمكن جعله تعريضاً. فَإِن قَوْله: " عنّانا أَي كلفنا. والأوامر والنواهي تكاليف. " وَسَأَلنَا الصَّدَقَة " أَي طلبَهَا منا بِأَمْر الله سُبْحَانَهُ. " ونكره أَن ندعه حَتَّى نَنْظُر مَا يصير أمره " مَعْنَاهُ: نكره الْعُدُول عَنهُ مُدَّة بَقَائِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَمَا فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْكَذِب الصَّرِيح، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ فِي المعاريض مندوحة.
(119 - (30) بَاب من لَا يثبت على الْخَيل.)

فِيهِ جرير: مَا حجبني النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُنْذُ أسلمت وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسم فِي وَجْهي وَلَقَد شَكَوْت إِلَيْهِ إِنِّي لَا أثبت على الْخَيل، فَضرب فِي صَدْرِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثبته واجعله هادياً مهدياً ".
قلت: رَضِي الله عَنْك} وَجه دُخُول التَّرْجَمَة فِي الْأَحْكَام أَن الحَدِيث يدلّ على فَضِيلَة ركُوب الْخَيل والثبوت عَلَيْهَا. وَلَوْلَا ذَلِك لما دَعَا بِهِ.
(120 - (31) بَاب من رأى العدّو فَنَادَى بِصَوْتِهِ:] يَا صَبَاحَاه [حَتَّى يسمع النَّاس.)
فِيهِ سَلمَة: خرجت من الْمَدِينَة ذَاهِبًا نَحْو الغابة حَتَّى إِذْ كنت بثنية الغابة

(1/173)


لَقِيَنِي غُلَام لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقلت: وَيحك مَالك؟ فَقَالَ: أخذت لقاح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . قلت: من أَخذهَا؟ قَالَ: غطفان وفزارة. فصرخت ثَلَاث صرخات أسمعت مَا بَين لابتيها] يَا صَاحِبَاه يَا صَاحِبَاه [، ثمَّ اندفعت حَتَّى ألقاهم وَقد أخذوها، فَجعلت أرميهم وَأَقُول: " أَنا ابْن الْأَكْوَع وَالْيَوْم يَوْم الرضع فاستنقذتها مِنْهُم قبل أَن يشْربُوا، فَأَقْبَلت] بهَا أسوقها [. فلقيني النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقلت: يَا رَسُول الله {إِن الْقَوْم عطاش وَإِنِّي أعجلتهم أَن يشْربُوا سقيهم فَابْعَثْ فِي إثرهم. فَقَالَ: يَا ابْن الْأَكْوَع ملكت فَأَسْجِحْ، إِن الْقَوْم يقرونَ فِي قَومهمْ.
قلت: رَضِي الله عَنْك} موضعهَا من الْفِقْه أَن هَذِه الدعْوَة لَيست من دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة المنهى عَنْهَا: إِمَّا لِأَنَّهَا استغاثة على الْكفَّار. وَإِمَّا لِأَنَّهَا استغاثة عَامَّة لَا تنتدب فِيهَا قَبيلَة مَخْصُوصَة.
(121 - (32) بَاب من قَالَ: أَنا ابْن فلَان)
وَقَالَ سَلمَة: خذوها، وَأَنا ابْن الْأَكْوَع.
فِيهِ الْبَراء: أمّا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يول يَوْم حنين. كَانَ أَبُو سُفْيَان

(1/174)


آخِذا بعنان بغلته، فلمّا غشيه الْمُشْركُونَ نزل، فَجعل يَقُول: أَنا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا كذب، أَنا ابْن عبد الْمطلب. فَمَا رئى فِي النَّاس يَوْمئِذٍ أَشد مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قلت: رَضِي الله عَنْك {موضعهَا من الْفِقْه أَنَّهَا خَارِجَة عَن الافتخار المنهى عَنهُ لاقْتِضَاء الْحَال. ذَلِك خلاف إنكارها على الْقَائِل: " أَنا فَجعل يَقُول: أَنا أَنا ".
(122 - (33) بَاب إِذا نزل العدّو على حكم رجل)
فِيهِ أَبُو سعيد: لما نزلت بَنو قُرَيْظَة على حكم سعد] هُوَ [ابْن معَاذ بعث النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَكَانَ قَرِيبا مِنْهُ - فجَاء على حمَار، فَلَمَّا دنا قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : قومُوا إِلَى سيدكم، فجَاء فَجَلَسَ إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالُوا: إِن هَؤُلَاءِ قد نزلُوا على حكمك. فَقَالَ فإنى أحكم أَن تقتل الْمُقَاتلَة، وَأَن تسبي الذريّة. قَالَ لقد حكمت فيهم بِحكم الْملك.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مَوضِع التَّرْجَمَة من الْفِقْه لُزُوم حكم الْمُحكم برضى الْخَصْمَيْنِ، وَإِن لم ينْتَصب عُمُوما.
(123 - (34) بَاب الْحَرْبِيّ إِذا دخل دَار الْإِسْلَام بِغَيْر أَمَان)
فِيهِ سَلمَة: أَتَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عين من الْمُشْركين، وَهُوَ فِي سفر، فَجَلَسَ عِنْد

(1/175)


أَصْحَابه فَتحدث ثمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : اطلبوه واقتلوه، فَقتلته فنفلني سلبه.
قلت: رَضِي الله عَنْك {التَّرْجَمَة أعمّ لِأَن الجاسوس حكمه غير حكم الْحَرْبِيّ الْمُطلق الدَّاخِل بِغَيْر أَمَان.
(124 - (35) بَاب التجمل للوفود)
فِيهِ ابْن عمر: وجد عمر حلَّة من استبرق تبَاع فِي السُّوق. فَقَالَ: يَا رَسُول الله ابتع هَذِه الْحلَّة فتجمل بهَا للوفد والعيد. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : إِنَّمَا هَذِه لِبَاس من لَا خلاق لَهُ. فَلبث مَا شَاءَ الله، ثمَّ أرسل إِلَيْهِ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بجبّة ديباج فَأقبل بهَا عمر إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: يَا رَسُول الله} قلت إِنَّمَا هَذِه لِبَاس من لَا خلاق لَهُ. ثمَّ أرْسلت إلىّ بِهَذِهِ. قَالَ. تبيعها أَو تصيب بعض حَاجَتك.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مَوضِع التَّرْجَمَة أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا أنكر عَلَيْهِ طلبه للتجمل وَإِنَّمَا الْمُنكر التجمل بِهَذِهِ الْأَصْنَاف المنهى عَنْهَا.

(1/176)


(125 - (36) بَاب كَيفَ يعرض الْإِسْلَام على الصَّبِي؟)

وَذكر حَدِيث ابْن عمر: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أقبل فِي رَهْط قبل ابْن صياد حَتَّى وجده يلْعَب مَعَ الغلمان. وَذكر الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك {فَائِدَة صِحَة الْعرض عَلَيْهِ اعْتِبَار إِسْلَامه وكفره. وَهل هُوَ اعْتِبَار مُطلق أَو مُقَيّد مُخْتَلف فِيهِ؟
(126 - (37) بَاب إِذا أسلم قوم فِي دَار الْحَرْب، وَلَهُم مَال وأرضون فَهِيَ لَهُم)
فِيهِ أَبُو أُسَامَة: قلت يَا رَسُول الله أَيْن تنزل غَدا فِي حجَّته؟ قَالَ: وَهل ترك لنا عقيل منزلا؟ ثمّ قَالَ: نَحن نازلون غَدا بخيف بني كنَانَة المحصب حَيْثُ تقاسمت قُرَيْش على الْكفْر. وَذَلِكَ أَن بني كنَانَة حالفت قُريْشًا على بني هَاشم، أَن لَا يبايعوهم وَلَا يؤووهم. قَالَ الزُّهْرِيّ: والخيف، الْوَادي.
وَفِيه عمر: إِنَّه اسْتعْمل مولى لَهُ يدعى هنياً على الْحمى. فَقَالَ: يَا هنى} اضمم جناحك عَن الْمُسلمين، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنَّهَا مستجابة. وَأدْخل

(1/177)


رب الصريمة وَالْغنيمَة وإياي وَنعم ابْن عَوْف وَابْن عَفَّان، فَإِنَّهُمَا إِن تهْلك ماشيتهما يرجعا إِلَى نخل وَزرع. وَإِن رب الصريمة وَالْغنيمَة إِن تهْلك ماشيتهما يأتني ببنيه فَيَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ أفأتركهم أَنا، لَا أبالك. فالماء والكلأ أيسر على من الذَّهَب وَالْوَرق. وأيم الله إِنَّهُم ليروني إِنِّي قد ظلمتهم إِنَّهَا لبلادهم قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام. وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا المَال الَّذِي أحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله، مَا حميت عَلَيْهِم من بِلَادهمْ شبْرًا.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مُطَابقَة التَّرْجَمَة للْحَدِيث الأول على وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سُئِلَ هَل ينزل بداره بِمَكَّة؟ وَهُوَ مُبين فِي بعض الحَدِيث وَقَوله: " وَهل ترك لنا عقيل منزلا "؟ بَين لِأَنَّهُ إِذا ملك مَا استولى عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة من ملك النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَكيف لَا يملك مَا لم يزل لَهُ ملكا أَصَالَة؟ وَإِمَّا أَن يكون سُئِلَ هَل يتْرك من منَازِل مَكَّة شَيْئا، لِأَنَّهَا فتحت عنْوَة؟ فبيّن أَنه منّ على أَهلهَا بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ فتستقر أملاكهم عَلَيْهَا كَمَا كَانَت. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَأهل مَكَّة مَا أَسْلمُوا على أملاكهم، وَلَكِن منّ عَلَيْهِم ثمَّ أَسْلمُوا فَإِذا ملكوا وهم كفار بالمنّ، فَملك من أسلم قبل الِاسْتِيلَاء أولى.
وَأما حَدِيث عمر فِي الْمَدِينَة فمطابق للتَّرْجَمَة مُطَابقَة مبينَة، غير أَن عبد الرَّحْمَن وَعُثْمَان لم يَكُونَا من أهل الْمَدِينَة، وَلَا دخلا فِي قَوْله: " قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام ". فَالْكَلَام عَائِد على أهل الْمَدِينَة لَا عَلَيْهِمَا. وَالله أعلم.

(1/178)


(127 - (38) بَاب كِتَابَة الإِمَام النَّاس)
فِيهِ حُذَيْفَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : اكتبوا لي من تلفّظ بِالْإِسْلَامِ من النَّاس. فكتبنا لَهُ ألفا وَخَمْسمِائة رجل فَقُلْنَا لَهُ: نَخَاف وَنحن ألف وَخَمْسمِائة رجل؟ فَلَقَد رَأَيْتنَا ابتلينا حَتَّى إِن الرجل ليُصَلِّي وَحده وَهُوَ خَائِف. رَوَاهُ سُفْيَان عَن الْأَعْمَش.
وروى أَبُو حَمْزَة عَن الْأَعْمَش: خَمْسمِائَة وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَة: مَا بَين سِتّمائَة إِلَى سَبْعمِائة.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي كتبت غَزْوَة كَذَا وَكَذَا، وامرأتي حَاجَة. قَالَ ارْجع فحجّ مَعَ امْرَأَتك.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مَوضِع التَّرْجَمَة من الْفِقْه أَن لَا يتخيل أَن كِتَابَته النَّاس إحصاء لعددهم وَقد تكون ذَرِيعَة لارْتِفَاع الْبركَة مِنْهُم، كَمَا ورد فِي الدَّعْوَات على الْكفَّار: اللَّهُمَّ أحصهم عددا " أَي ارْفَعْ الْبركَة مِنْهُم ". فَإِنَّمَا خرج هَذَا من هَذَا النَّحْو لِأَن الْكِتَابَة لمصْلحَة دينية. والمؤاخذة الَّتِي وَقعت، لَيست من نَاحيَة الْكِتَابَة وَلَكِن من إعجابهم بكثرتهم، فأدبوا بالخوف الْمَذْكُور فِي الحَدِيث. ثمَّ إِن التَّرْجَمَة تطابق الْكِتَابَة الأولى وَأما هَذِه الثَّانِيَة فكتابة خَاصَّة لقوم بأعيانهم.

(1/179)


(128 - (39) بَاب إِن الله يُؤَيّد الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: شَهِدنَا مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ لرجل مِمَّن يَدعِي الْإِسْلَام: هَذَا من أهل النَّار. فقاتل الرجل قتالاً شَدِيدا، فأصابته جِرَاحَة فَلم يصبر فَقتل نَفسه فَقَالَ: أشهد أَنِّي عبد الله وَرَسُوله {وَأمر بِلَالًا يُنَادي فِي النَّاس، أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة، وَأَن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مَوضِع التَّرْجَمَة من الْفِقْه أَن لَا يتخيل فِي الإِمَام وَالسُّلْطَان الْفَاجِر إِذا حمى حوزة الْإِسْلَام أَنه مطرح النَّفْع فِي الدّين لفجوره، فَيخرج عَلَيْهِ ويخلع، لِأَن الله قد يُؤَيّد دينه بِهِ، فَيجب الصَّبْر عَلَيْهِ والسمع وَالطَّاعَة لَهُ، فِي غير الْمعْصِيَة. وَالله أعلم. وَمن هَذَا الْوَجْه اسْتِحْسَان الدُّعَاء للسلاطين بالتأييد والنصر، وَغير ذَلِك من الْخَيْر، من حَيْثُ تأييدهم للدّين، لَا من حَيْثُ أَحْوَالهم الْخَارِجَة.

(1/180)


(129 - (40) بَاب من تكلم بِالْفَارِسِيَّةِ والرطانة وَقَوله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم} [الرّوم: 22] .
فِيهِ جَابر: قلت: يَا رَسُول الله ذبحنا بَهِيمَة لنا، وطحنت صَاعا من شعير، فتعال أَنْت وَنَفر. فصاح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : يَا أهل الخَنْدَق! إِن جَابِرا قد صنع سؤراً فحىّ هلا بكم.
وَفِيه أم خَالِد: أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَعَ أبي وعلىّ قَمِيص أصفر. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " سنه سنه ".
قَالَ ابْن الْمُبَارك: وَهِي بالحبشية: حَسَنَة. قَالَت: فَذَهَبت أَلعَب بِخَاتم النُّبُوَّة. فزبرني أبي. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : أبلى وأخلقي ثَلَاث مَرَّات] قَالَ عبد الله [فَبَقيت حَتَّى ذكر.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: أَن الْحسن بن على أَخذ تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة، فَجَعلهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]] بِالْفَارِسِيَّةِ [: كخ كخ. أما تعرف أَنا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة.
(السؤر: الْوَلِيمَة بِالْفَارِسِيَّةِ) .

(1/181)


قلت: رَضِي الله عَنْك {مَوضِع التَّرْجَمَة فِي الحَدِيث مُطَابق إِلَّا قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ". وَوجه مناسبته فِي الْجُمْلَة أَنه خاطبه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِمَا يفهم مِمَّا لَا يتَكَلَّم بِهِ الرجل. فَهُوَ كمخاطبته العجمي بِمَا يفهمهُ من لغته.
(130 _ (41) بَاب مَا يكره من ذبح الْإِبِل وَالْغنم فِي الْغَنَائِم)
نَافِع: كُنَّا مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِذِي الحليفة، فَأصَاب النَّاس جوعٌ، وأصبنا وَكَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي أخريات النَّاس - فعجلوا فنصبوا الْقُدُور، فَأمر بالقدور فأكفيت ثمَّ قسم، فَعدل عشرَة عشرَة من الْغنم بِبَعِير،، وَفِي الْقَوْم خيل يسيرَة، فطلبوه فأعياهم فَأَهوى إِلَيْهِ رجل بِسَهْم. فَقَالَ: هَذِه الْبَهَائِم لَهَا أوابد كأوابد الْوَحْش.
قلت: رَضِي الله عَنْك} وَجه الْمُطَابقَة انه أكفأ الْقُدُور، لِأَن الذّبْح كَانَ تعدّيا على حق الْغَيْر. وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمَذْبُوح تعدّيا سَرقَة أَو غصبا ميتَة وَله انتصر البُخَارِيّ. وَالله أعلم.

(1/182)


(131 - (42) بَاب إِذا اضْطر الرجل إِلَى النّظر فِي شُعُور أهل الذِّمَّة وَالْمُؤْمِنَات إِذا عصين الله، وتجريدهن.)
فِيهِ أَبُو عبد الرَّحْمَن: وَكَانَ عثمانياً، قَالَ لِابْنِ عَطِيَّة، وَكَانَ علوياً: إِنِّي لَا أعلم مَا الَّذِي جرأ صَاحبك على الدِّمَاء، سمعته يَقُول: بَعَثَنِي النَّبِي وَالزُّبَيْر فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَة خَاخ تَجِدُونَ بهَا امْرَأَة أَعْطَاهَا حَاطِب كتابا، فأتينا الرَّوْضَة فَقُلْنَا: الْكتاب؟ فَقَالَت: لم يُعْطِنِي. فَقُلْنَا: لتخرجنّ أَو لنجرّدنك، فأخرجت من حجزَتهَا. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك {مَا فِي الحَدِيث دَلِيل على أَنَّهَا كَانَت مُؤمنَة وَلَا ذِمِّيَّة وَلَكِن لما اسْتَوَى حكمهَا فِي حُرْمَة الْفَاحِشَة وَالنَّظَر لغير الْحَاجة، شملها الدَّلِيل.